في هذا الجزء أبحاث قيّمة ودروس دينيّة راقية لا منتدح لأيّ دينيّ ارتاد مهيع الحق ،

وابتغى لاحب الحقيقة عن عرفانها والخوض فيها ، والبحث عنها بضميرٍ حُرّ

غير جانِحٍ إلى العصبيّة العمياء والعاطفة الحمقاء ..

والله وليّ التوفيق


أدب أمير المؤمنين عليه‌السلام

أدب الشيعة ، أدب الأميني

قال مولانا أمير المؤمنين لحجر بن عدي وعمرو بن الحَمِق :

«كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين ، تشتمون وتبرءون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا ، ومن أعمالهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، ولو قلتم مكان لعنكم إيّاهم وبراءتكم منهم : اللهمّ احقن دماءهم ودماءنا ، واصلح ذات بينهم وبيننا ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يَعرف الحقّ منهم من جهله ، ويرعوي عن الغيّ والعدوان منهم من لهج به ، لكان أحبّ إليّ وخيراً لكم».

فقالا : يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ، ونتأدّب بأدبك (١).

وقال الأميني مثل ما قالا ، وهو مقال الشيعة جمعاء.

والسلام على من اتّبع الهدى

__________________

(١) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم ص ١١٥ [ص ١٠٣]. (المؤلف)


بسم الله الرحمن الرحيم

سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ ، الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ يَتلُونَهُ حَقَّ تِلَاوتِهِ أُولئِكَ يُؤمِنوُنَ بِهِ ، وَإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيعلَموُنَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، الَّذِينَ آتَينَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ ، مَا فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ، وَإنَّ فَرِيقَاً مِنْهُمْ لَيكتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعلَموُن ، إذ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالَّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤلَاءِ دِينُهُمْ ، كَبُرَتْ كلِمَةً تَخرُجُ مِنْ أَفوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقوُنَ ، قُلْ إيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَإِنّا لَمّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنّا بِهِ ، مَا كَانَ حَدِيثَاً يُفتَرَى وَلَكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ ، فَهدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذنِهِ ، فَمَاذا بَعدَ الحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ ، وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شاءَ فَليُؤمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَليَكْفُرْ.

قُلِ الحَمدُ للهِ وَسلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِين اصطَفى.



أبو طالب في الذكر الحكيم

لقد أغرق القوم نزعاً في الوقيعة والتحامل على بطل الإسلام والمسلم الأوّل بعد ولده البارّ ، وناصر دين الله الوحيد ، فلم يقنعهم ما اختلقوه من الأقاصيص حتى عمدوا إلى كتاب الله فحرّفوا الكلم عن مواضعه ، فافتعلوا في آيات ثلاث أقاويل نأت عن الصدق ، وبعدت عن الحقيقة بُعد المشرقين ، وهي عمدة ما استند إليه القوم في عدم تسليم إيمان أبي طالب ، فإليك البيان :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١).

أخرج الطبري وغيره من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمّن سمع ابن عبّاس أنّه قال : إنّها نزلت في أبي طالب ، ينهى عن أذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤذى ، وينأى أن يدخل في الإسلام (٢).

وقال القرطبي : هو عامّ في جميع الكفّار ، أي ينهون عن اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينأون عنه ، عن ابن عبّاس والحسن. وقيل : هو خاصّ بأبي طالب ينهى الكفّار عن أذاية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتباعد عن الإيمان به ، عن ابن عبّاس أيضاً. روى أهل السير قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي ، فلمّا دخل في الصلاة

__________________

(١) الأنعام : ٢٦.

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ١٠٥ [١ / ١٢٣] ، تفسير الطبري : ٧ / ١١٠ [مج ٥ / ج ٧ / ١٧٣] ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٢٧ ، الكشّاف : ١ / ٤٤٨ [٢ / ١٤] ، تفسير ابن جزي : ٢ / ٦ ، تفسير الخازن : ٢ / ١٠. (المؤلف)


قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطّخ به وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانفتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته ، ثمّ أتى أبا طالب عمّه فقال : «يا عمّ ألا ترى إلى ما فُعل بي؟» فقال أبو طالب : من فَعل هذا بك؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عبد الله بن الزبعرى» ، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم ، فلمّا رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ، فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل لجلّلته بسيفي. فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا بنيّ من الفاعل بك هذا؟ فقال : «عبد الله بن الزبعرى». فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول ، فنزلت هذه الآية : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ). فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عم نزلت فيك آية. قال : وما هي؟ قال تمنع قريشاً أن تؤذيني ، وتأبى أن تؤمن بي. فقال أبو طالب :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أُوسَّد في التراب دفينا

إلى آخر الأبيات التي أسلفناها (٧ / ٣٣٤ ، ٣٥٢). فقالوا : يا رسول الله هل تنفع نصرة أبي طالب (١)؟ قال : نعم دفع عنه بذاك الغلّ ، ولم يقرن مع الشياطين ، ولم يدخل في جبّ الحيّات والعقارب ، إنّما عذابه في نعلين من نار [في رجليه] (٢) يغلي منهما دماغه في رأسه ، وذلك أهون أهل النار عذاباً (٣).

قال الأميني : نزول هذه الآية في أبي طالب باطل لا يصحّ من شتّى النواحي :

١ ـ إرسال حديثه بمن بين حبيب بن أبي ثابت وابن عبّاس ، وكم وكم غير ثقة في أُناس رووا عن ابن عبّاس ، ولعلّ هذا المجهول أحدهم.

٢ ـ إنّ حبيب بن أبي ثابت انفرد به ولم يروه أحد غيره ولا يمكن المتابعة

__________________

(١) في المصدر : هل تنفع أبا طالب نصرته؟

(٢) الزيادة من المصدر.

(٣) تفسير القرطبي : ٦ / ٤٠٦ [٦ / ٢٦١]. (المؤلف)


على ما يرويه ، ولو فرضناه ثقة في نفسه بعد قول ابن حبّان (١) : إنّه كان مدلّساً. وقول العقيلي (٢) : غمزه ابن عون وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وقول القطّان : له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. وقول الآجري عن أبي داود : ليس لحبيب عن عاصم بن ضمرة شيء يصحّ ، وقول ابن خزيمة : كان مدلّساً (٣).

ونحن لا نناقش في السند بمكان سفيان الثوري ، ولا نؤاخذه بقول من قال : إنّه يدلّس ويكتب عن الكذّابين (٤).

٣ ـ إنّ الثابت عن ابن عبّاس بعدّة طرق مسندة يضادّ هذه المزعمة ، ففيما رواه الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عليّ بن أبي طلحة وطريق العوفي عنه أنّها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به ، وينأون عنه يتباعدون عنه (٥).

وقد تأكّد ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد من طريق وكيع عن سالم عن ابن الحنفية ، ومن طريق الحسين بن الفرج عن أبي معاذ ، ومن طريق بشر عن قتادة.

وأخرج عبد الرزّاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة والسدي والضحّاك ، ومن طريق أبي نجيح عن مجاهد ، ومن طريق يونس عن ابن زيد قالوا : ينهون عن القرآن وعن النبيّ ، وينأون عنه يتباعدون عنه (٦).

__________________

(١) الثقات : ٤ / ١٣٧.

(٢) الضعفاء الكبير : ١ / ٢٦٣ رقم ٣٢٢.

(٣) تهذيب التهذيب : ٢ / ١٧٩ [٢ / ١٥٦]. (المؤلف)

(٤) ميزان الاعتدال : ١ / ٣٩٦ [٢ / ١٦٩ رقم ٣٣٢٢]. (المؤلف)

(٥) تفسير الطبري : ٧ / ١٠٩ [مج ٥ / ج ٧ / ١٧٢] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٨ [٣ / ٢٦٠ ـ ٢٦١]. (المؤلف)

(٦) تفسير الطبري : ٧ / ١٠٩ [مج ٥ / ج ٧ / ١٧٢] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٨ ، ٩ [٣ / ٢٦٠ ، ٢٦١] ، تفسير الآلوسي : ٧ / ١٢٦. (المؤلف)


وليس في هذه الروايات أيّ ذكر لأبي طالب ، وإنّما المراد فيها الكفار الذين كانوا ينهون عن اتّباع رسول الله أو القرآن ، وينأون عنه بالتباعد والمناكرة ، وأنت جدّ عليم بأنّ ذلك كلّه خلاف ما ثبت من سيرة شيخ الأبطح الذي آواه ونصره وذبّ عنه ودعا إليه إلى آخر نفس لفظه.

٤ ـ إنّ المستفاد من سياق الآية الكريمة أنّه تعالى يريد ذمّ أُناس أحياء ينهون عن اتّباع نبيّه ويتباعدون عنه ، وإنّ ذلك سيرتهم السيّئة التي كاشفوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم متلبّسون بها عند نزول الآية ، كما هو صريح ما أسلفناه من رواية القرطبي وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أبا طالب بنزول الآية.

لكن نظراً إلى ما يأتي عن الصحيحين فيما زعموه من أنّ قوله تعالى في سورة القصص : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). نزلت في أبي طالب بعد وفاته. لا يتمّ نزول آية ينهون عنه وينأون النازلة في أُناس أحياء في أبي طالب ، فإنّ سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوث عنها نزلت جملة واحدة (١) بعد سورة القصص بخمس سور كما في الإتقان (٢) (١ / ١٧) فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى ، وقد توفّي قبل نزول الآية ببرهة طويلة؟

٥ ـ إنّ سياق الآيات الكريمة هكذا : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد وابن المنذر والطبراني [في المعجم الكبير : ١٢ / ١٦٦ ح ١٢٩٣٠] وابن مردويه والنحّاس من طريق ابن عبّاس والطبراني وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمر ، راجع تفسير القرطبي : ٦ / ٣٨٢ ، ٣٨٣ [٦ / ٢٤٦] ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٢٢ ، الدرّ المنثور : ٣ / ٢ [٣ / ٢٤٥] ، تفسير الشوكاني : ٣ / ٩١ ، ٩٢ [٢ / ٩٦ ، ٩٧]. (المؤلف)

(٢) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٤ ، ٢٧.


وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١).

وهو كما ترى صريح بأنّ المراد بالآيات كفّار جاءوا النبيّ فجادلوه وقذفوا كتابه المبين بأنّه من أساطير الأوّلين ، وهؤلاء الذين نهوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن كتابه الكريم ، ونأوا وباعدوا عنه ، فأين هذه كلّها عن أبي طالب ، الذي لم يفعل كلّ ذلك طيلة حياته ، وكان إذا جاءه فلكلاءته والذبّ عنه بمثل قوله :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسَّد في التراب دفينا

وإن لهج بذكره نوّه برسالته عنه بمثل قوله :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً

رسولاً كموسى خطّ في أوّل الكتب

وإن قال عن كتابه هتف بقوله :

أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب

على نبيٍّ كموسى أو كذي النونِ

وقد عرف ذلك المفسّرون فلم يقيموا للقول بنزولها في أبي طالب وزناً ، فمنهم من عزاه إلى القيل ، وجعل آخرون خلافه أظهر ، ورأى غير واحد خلافه أشبه ، وإليك جملة من نصوصهم :

قال الطبري في تفسيره (٢) (٧ / ١٠٩) : المراد المشركون المكذّبون بآيات الله ينهون الناس عن اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقبول منه وينأون عنه ويتباعدون عنه. ثمّ رواه من الطرق التي أسلفناها عن ابن الحنفية وابن عباس والسدي وقتادة وأبي معاذ ، ثمّ ذكر قولاً آخر بأنّ المراد ينهون عن القرآن أن يسمع له ويعمل بما فيه ، وعدّ ممّن قال به قتادة ومجاهد وابن زيد ، ومرجع هذا إلى القول الأوّل ، ثمّ ذكر القول بنزولها في

__________________

(١) الأنعام : ٢٥ ، ٢٦.

(٢) جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ١٧١ ـ ١٧٤.


أبي طالب وروى حديث حبيب بن أبي ثابت عمّن سمع ابن عبّاس وأردفه بقوله في (ص ١١٠):

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : تأويل وهم ينهون عنه عن اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سواهم من الناس وينأون عن اتّباعه ، وذلك أنّ الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادين به والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإعراض عمّا جاءهم به من تنزيل الله ووحيه ، فالواجب أن يكون قوله (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) خبراً عنهم ، إذ لم يأتنا ما يدلّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم ، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ على صحّة ما قلنا من أنّ ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يكون خبراً عن خاصّ منهم ، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية : وإن يرَ هؤلاء المشركون يا محمد كلّ آية لا يؤمنوا [بها] (١) حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون إن هذا الذي جئتنا به إلاّ أحاديث الأوّلين وأخبارهم ، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك ، فيبعدون منك ومن اتّباعك ، وإن يهلكون إلاّ أنفسهم. انتهى.

وذكر الرازي في تفسيره (٢) (٤ / ٢٨) قولين : نزولها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن اتّباع النبيّ والإقرار برسالته. ونزولها في أبي طالب خاصّة ، فقال : والقول الأوّل أشبه لوجهين :

الأوّل : أنّ جميع الآيات المتقدّمة على هذه الآية تقتضي ذمّ طريقتهم فكذلك قوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ). ينبغي أن يكون محمولاً على أمر مذموم ، فلو حملناه على أنّ أبا طالب كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النظم.

والثاني : أنّه تعالى قال بعد ذلك (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ) يعني به ما تقدّم

__________________

(١) من المصدر.

(٢) التفسير الكبير : ١٢ / ١٨٩.


ذكره ، ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وهم ينهون عنه النبي عن أذيّته ، لأنّ ذلك حسن لا يوجب الهلاك.

فإن قيل : إنّ قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ) يرجع إلى قوله : (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) لا إلى قوله (يَنْهَوْنَ عَنْهُ). لأنّ المراد بذلك أنّهم يبعدون عنه بمفارقة دينه وترك الموافقة له وذلك ذمّ فلا يصحّ ما رجحتم به هذا القول قلنا : إنّ ظاهر قوله : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ) يرجع إلى كلّ ما تقدّم ذكره لأنّه بمنزلة أن يقال : إنّ فلاناً يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضرّ بذلك إلاّ نفسه ، فلا يكون هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر. انتهى.

وذكر ابن كثير في تفسيره (٢ / ١٢٧) القول الأوّل نقلاً عن ابن الحنفيّة وقتادة ومجاهد والضحّاك وغير واحد ، فقال : وهذا القول أظهر والله أعلم ، وهو اختيار ابن جرير.

وذكر النسفي في تفسيره (١) بهامش تفسير الخازن (٢ / ١٠) القول الأوّل ثمّ قال : وقيل : عني به أبو طالب : والأوّل أشبه.

وذكر الزمخشري في الكشّاف (٢) (١ / ٤٤٨) والشوكاني في تفسيره (٣) (٢ / ١٠٣) وغيرهما القول الأوّل وعزوا القول الثاني إلى القيل ، وجاء الآلوسي (٤) وفصّل في القول الأوّل ثمّ ذكر الثاني وأردفه بقوله : وردّه الإمام. ثمّ ذكر محصّل قول الرازي.

وليت القرطبي لمّا جاءنا يخبط في عشواء وبين شفتيه رواية التقطها كحاطب ليل دلّنا على مصدر هذا الذي نسجه ، ممّن أخذه؟ وإلى من ينتهي إسناده؟ ومن ذا

__________________

(١) تفسير النسفي : ٢ / ٨.

(٢) الكشّاف : ٢ / ١٤.

(٣) فتح القدير : ٢ / ١٠٨.

(٤) روح المعاني : ٧ / ١٢٦ ـ ١٢٧.


الذي صافقه على روايتها من الحفّاظ؟ وأيّ مؤلّف دوّنه قبله ، ومن الذي يقول : إنّ ما ذكره من الشعر قاله أبو طالب يوم ابن الزبعرى؟ ومن الذي يروي نزول الآية يوم ذلك؟ وأيّ ربط وتناسب بين الآية وإخطارها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي طالب وبين شعره ذاك؟ وهل روى قوله في هذا النسيج : يا عم نزلت فيك آية. غيره من أئمّة الحديث ممّن هو قبله أو بعده؟ وهل وجد القرطبي للجزء الأخير من روايته مصدراً غير تفسيره؟ وهل أطلّ على جبّ الحيّات والعقارب فوجده خالياً من أبي طالب؟ وهل شدّ الأغلال وفكّها هو ليعرف أنّ شيخ الأبطح لا يغلّ بها؟ أم أنّ مدركه في ذلك الحديث النبويّ؟ حبّذا لو صدقت الأحلام ، وعلى كلّ فهو محجوج بكلّ ما ذكرناه من الوجوه.

الآية الثانية والثالثة :

١ ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١).

٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٢).

أخرج البخاري في الصحيح في كتاب التفسير في القصص (٣) (٧ / ١٨٤) ، قال : حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أُميّة بن المغيرة فقال : أي عم قل : لا اله إلاّ الله ، كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُميّة : أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ فلم يزل

__________________

(١) البراءة : ١١٣.

(٢) القصص : ٥٦.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ١٧٨٨ ح ٤٤٩٤.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما تكلّم (١) على ملّة عبد المطّلب وأبى أن يقول : لا إله إلاّ الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك. فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وفي مرسلة الطبري (٢) : فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية. ونزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).

وأخرجه مسلم في صحيحه (٣) من طريق سعيد بن المسيّب ، وتبع الشيخين جلّ المفسّرين لحسن ظنّهم بهما وبالصحيحين.

مواقع النظر في هذه الرواية :

١ ـ إنّ سعيداً الذي انفرد بنقل هذه الرواية كان ممّن ينصب العداء لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فلا يحتجّ بما يقوله أو يتقوّله فيه وفي أبيه وفي آله وذويه ، فإنّ الوقيعة فيهم أشهى مأكلة له ، قال ابن أبي الحديد في الشرح (٤) (١ / ٣٧٠) : وكان سعيد بن المسيّب منحرفاً عنه عليه‌السلام ، وجبهه عمر بن عليّ عليه‌السلام في وجهه بكلام شديد ، روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبي داود الهمداني قال : شهدت سعيد بن المسيّب وأقبل عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال له سعيد : يا ابن أخي ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يفعل أخوتك وبنو أعمامك؟ فقال عمر : يا ابن المسيّب أكلّما دخلت المسجد أجيء ، فأشهدك؟ فقال سعيد : ما أحبّ أن تغضب

__________________

(١) في المصدر : آخر ما كلّمهم.

(٢) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤١.

(٣) صحيح مسلم : ١ / ٨٢ ح ٣٩ كتاب الإيمان.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٤ / ١٠١ الأصل ٥٦.


سمعت أباك يقول : إنّ لي من الله مقاماً لهو خير لبني عبد المطّلب ممّا على الأرض من شيء. فقال عمر : وأنا سمعت أبي يقول : ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا إلاّ يتكلّم بها. فقال سعيد : يا ابن أخي جعلتني منافقاً؟ قال : هو ما أقول لك. ثمّ انصرف.

وأخرج الواقدي من أنّ سعيد بن المسيّب مرّ بجنازة السجّاد عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ولم يصلّ عليها ، فقيل له : ألا تصلي على هذا الرجل الصالح من أهل البيت الصالحين؟فقال : صلاة ركعتين أحب إليّ من الصلاة على الرجل الصالح!

ويعرّفك سعيد بن المسيّب ومبلغه من الحيطة في دين الله ما ذكره ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢١٤) عن قتادة قال : قلت لسعيد : أنصلّي خلف الحجّاج؟ قال : إنّا لنصلّي خلف من هو شرّ منه.

٢ ـ إنّ ظاهر رواية البخاري كغيرها تعاقب نزول الآيتين عند وفاة أبي طالب عليه‌السلام ، كما أنّ صريح ما ورد في كلّ واحدة من الآيتين نزولها عند ذاك ، ولا يصحّ ذلك لأنّ الآية الثانية منهما مكيّة والأولى مدنيّة نزلت بعد الفتح بالاتّفاق وهي في سورة براءة المدنيّة التي هي آخر ما نزل من القرآن (١) فبين نزول الآيتين ما يقرب من عشر سنين أو يربو عليها.

٣ ـ إنّ آية الاستغفار نزلت بالمدينة بعد موت أبي طالب بعدّة سنين تربو

__________________

(١) صحيح البخاري : ٧ / ٦٧ في آخر سورة النساء [٤ / ١٦٨١ ح ٤٣٢٩] ، الكشّاف : ٢ / ٤٩ [٢ / ٣١٥] ، تفسير القرطبي : ٨ / ٢٧٣ [٨ / ١٧٣] ، الإتقان : ١ / ١٧ [١ / ٢٧] ، تفسير الشوكاني : ٣ / ٣١٦ [٢ / ٣٣١] ، نقلاً عن ابن أبي شيبة [في مصنّفه : ١٠ / ٥٤٠ ح ١٢٦٢] والبخاري والنسائي [في السنن الكبرى : ٦ / ٣٥٣ ح ١١٢١٢] وابن الضريس وابن المنذر والنحّاس وأبي الشيخ وابن مردويه عن طريق البراء بن عازب. (المؤلف)


على ثمانية أعوام ، فهل كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلال هذه المدّة يستغفر لأبي طالب عليه‌السلام أخذاً بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك؟ وكيف كان يستغفر له؟ وكان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون ممنوعين عن موادّة المشركين والمنافقين وموالاتهم والاستغفار لهم ـ الذي هو من أظهر مصاديق الموادّة والتحابب ـ منذ دهر طويل بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) الآية.

هذه آية (٢٢) من سورة المجادلة المدنيّة النازلة قبل سورة براءة التي فيها آية الاستغفار بسبع سور كما في الإتقان (١) (١ / ١٧) ، وأخرج : (٢) ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، وابن كثير كما في تفسيره (٤ / ٣٢٩) ، وتفسير الشوكاني (٥ / ١٨٩) ، وتفسير الآلوسي (٢٨ / ٣٧) أنّ هذه الآية نزلت يوم بدر وكانت في السنة الثانية من الهجرة الشريفة ، أو نزلت على ما في بعض التفاسير في أُحد وكانت في السنة الثالثة باتّفاق الجمهور كما قاله الحلبي في السيرة (٣) ، فعلى هذه كلّها نزلت هذه الآية قبل آية الاستغفار بعدّة سنين.

وبقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً).

هذه الآية (١٤٤) من سورة النساء وهي مكيّة على قول النحّاس وعلقمة وغيرهما ممّن قالوا : إنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ). حيث وقع إنّما هو مكّي (٤) ، وإن

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.

(٢) المعجم الكبير : ١ / ١٥٤ ح ٣٦٠ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٢٩٦ ح ٥١٥٢ ، حلية الأولياء : ١ / ١٠١ رقم ١٠ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٩ / ٢٧ ، فتح القدير : ٥ / ١٩٤.

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٢١٦.

(٤) تفسير القرطبي : ٥ / ١ [٥ / ٣].


أخذنا بما صحّحه القرطبي في تفسيره (٥ / ١) وذهب إليه الآخرون من أنّها مدنيّة أخذاً بما في صحيح البخاري (١) من حديث عائشة : ما نزلت سورة النساء إلاّ وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها نزلت في أوليات الهجرة الشريفة بالمدينة ، وعلى أيٍّ من التقديرين نزلت قبل سورة آية الاستغفار ـ البراءة ـ بإحدى وعشرين سورة كما في الإتقان (٢) (١ / ١٧).

وبقوله سبحانه : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ).

هذه الآية (١٣٩) من سورة النساء وقد عرفت أنّها نزلت قبل براءة.

وبقوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

هذه الآية (٢٨) من آل عمران ، نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في أوائل الهجرة الشريفة يوم وفد نجران كما في سيرة ابن هشام (٣) (٢ / ٢٠٧) ، وأخذاً بما رواه القرطبي وغيره (٤) نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت يوم الأحزاب كانت في الخمس من الهجرة ، وعلى أيّ من التقديرين وغيرهما نزلت آل عمران قبل براءة ـ سورة آية الاستغفار ـ بأربع وعشرين سورة كما في الإتقان (٥) (١ / ١٧).

وبقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٧ / ٣٠٠ [٤ / ١٩١٠ ح ٤٧٠٧] في كتاب التفسير باب تأليف القرآن ، وذكره القرطبي في تفسيره : ٥ / ١. (المؤلف)

(٢) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.

(٣) السيرة النبوية : ٢ / ٢٢٥.

(٤) تفسير القرطبي : ٤ / ٥٨ [٤ / ٣٨] ، تفسير الخازن : ١ / ٢٣٥ [١ / ٢٢٧]. (المؤلف)

(٥) الإتقان في علوم القرآن : ١ / ٢٧.


وهي الآية السادسة من المنافقين نزلت عام غزوة بني المصطلق سنة ست ، وهو المشهور عند أصحاب المغازي والسير كما قاله ابن كثير (١) ، ونزلت قبل براءة بثماني سور كما في الإتقان (١ / ١٧).

وبقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وبقوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وهذه وما قبلها الآيتان (٢٣ و ٨٠) من سورة التوبة نزلتا قبل آية الاستغفار.

أترى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع هذه الآيات النازلة قبل آية الاستغفار كان يستغفر لعمّه طيلة سنين وقد مات كافراً ـ العياذ بالله ـ وهو ينظر إليه من كثب؟ لاها الله ، حاشا نبيّ العظمة.

ولعلّ لهذه كلّها استبعد الحسين بن الفضل نزولها في أبي طالب وقال : هذا بعيد لأنّ السورة من آخر ما نزل من القرآن ، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، وذكره القرطبي وأقرّه في تفسيره (٢) (٨ / ٢٧٣).

٤ ـ إنّ هناك روايات تضادّ هذه الرواية في مورد نزول آية الاستغفار من سورة براءة ، منها :

صحيحة أخرجها (٣) : الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٢٧ [١٨ / ٨٣] ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٦٩. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٨ / ١٧٣.

(٣) مسند أبي داود الطيالسي : ص ٢٠ ح ١٣١ ، المصنّف في الأحاديث والآثار : ١٠ / ٥٢٢ ح ١٠١٩٠ ، مسند أحمد : ١ / ٢١٠ ح ١٠٨٨ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٦٢ ح ٣١٠١ ، السنن الكبرى : ١ / ٦٥٥ ح ٢١٦٣ ، مسند أبي يعلى : ١ / ٢٨٠ ح ٣٣٥ ، جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٣ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٥ ح ٣٢٨٩ ، شعب الإيمان : ٧ / ٤١ ح ٩٣٧٨.


والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة عن عليّ قال : «سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أوَلم يستغفر إبراهيم؟ فذكرت ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١)».

يظهر من هذه الرواية أنّ عدم جواز الاستغفار للمشركين كان أمراً معهوداً قبل نزول الآية ولذلك ردع عنه مولانا أمير المؤمنين الرجل ، وقوله عليه‌السلام هذا لا يلائم استغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه على تقدير عدم إسلامه ، وترى الرجل ما استند في تبرير عمله إلى استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه علماً بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستغفر لمشرك قطّ.

قال السيّد زيني دحلان في أسنى المطالب (٢) (ص ١٨) : هذه الرواية صحيحة وقد وجدنا لها شاهداً برواية صحيحة من حديث ابن عبّاس قال : كانوا يستغفرون لآبائهم حتى نزلت هذه الآية ، فلمّا نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثمّ أنزل الله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ) الآية يعني استغفر له ما دام حيّا فلمّا مات أمسك عن الاستغفار له ، قال : وهذا شاهد صحيح فحيث كانت هذه الرواية أصحّ كان العمل بها أرجح ، فالأرجح أنّها نزلت في استغفار أُناس لآبائهم المشركين لا في أبي طالب. انتهى.

ومنها : ما أخرجه (٣) ـ في سبب نزول آية الاستغفار ـ مسلم في صحيحه ،

__________________

(١) التوبة : ١١٣ ، ١١٤.

(٢) أسنى المطالب : ص ٤٥.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٣٦٥ ح ١٠٦ كتاب الجنائز ، مسند أحمد : ٣ / ١٨٦ ح ٩٣٩٥ ، سنن أبي داود : ٣ / ٢١٨ ح ٣٢٣٤ ، السنن الكبرى : ١ / ٦٥٤ ح ٢١٦١ ، سنن أبن ماجة : ١ / ٥٠١ ح ١٥٧٢.


وأحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، والنسائي ، وابن ماجة عن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : استأذنت ربّي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنّها تذكرة الآخرة (١).

وأخرج : الطبري ، والحاكم (٢) ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي (٣) عن ابن مسعود وبريدة ، والطبراني (٤) ، وابن مردويه ، والطبري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أقبل من غزوة تبوك اعتمر فجاء قبر أُمّه فاستأذن ربّه أن يستغفر لها ، ودعا الله تعالى أن يأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن فنزلت الآية (٥).

وأخرج الطبري في تفسيره (٦) (١١ / ٣١) عن عطيّة : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة وقف على قبر أمّه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلى قوله : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وروى الزمخشري في الكشّاف (٧) (٢ / ٤٩) حديث نزول الآية في أبي طالب ، ثمّ ذكر هذا الحديث في سبب نزولها وأردفها بقوله : وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل بالمدينة.

__________________

(١) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٧ / ١٥١ [١٠ / ٣١٤ ح ٤٦٧٥]. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩٢.

(٣) دلائل النبوة : ١ / ١٨٩.

(٤) المعجم الكبير : ١١ / ٢٩٦ ح ١٢٠٤٩.

(٥) تفسير الطبري : ١١ / ٣١ [مج ٧ / ج ١١ / ٤٢] ، إرشاد الساري : ٧ / ٢٧٠ [١٠ / ٣١٤ ح ٤٦٧٥] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٢٨٣ [٤ / ٣٠٢]. (المؤلف)

(٦) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٢.

(٧) الكشّاف : ٢ / ٣١٥.


وقال القسطلاني في إرشاد الساري (١) (٧ / ٢٧٠): قد ثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى قبر أُمّه لمّا اعتمر فاستأذن ربّه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية. رواه الحاكم (٢) وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، والطبراني (٣) عن ابن عبّاس ، وفي ذلك دلالة على تأخّر نزول الآية عن وفاة أبي طالب والأصل عدم تكرار النزول.

قال الأميني : هلاّ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم إلى يوم تبوك بعد تلكم الآيات النازلة التي أسلفناها في (ص ١٠ ـ ١٢) ، أنّه غير مسوغ له وللمؤمنين الاستغفار للمشركين والشفاعة لهم ، فجاء يستأذن ربّه أن يستغفر لأُمّه ويشفع لها؟ أو كان يحسب أنّ لأُمّه حساباً آخر دون سائر البشر؟ أو أنّ الرواية مختلقة تمسّ كرامة النبيّ الأقدس ، وتدنّس ذيل قداسة أُمّه الطاهرة عن الشرك.

ومنها : ما أخرجه الطبري في تفسيره (٤) (١١ / ٣١) عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الرحم ، ويفكّ العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : [بلى] (٥) والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِ) ، ثمّ عذر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) إلى قوله : (تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وأخرج الطبري من طريق عطيّة العوفي عن ابن عبّاس قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يستغفر لأبيه فنهاه الله عن ذلك بقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

__________________

(١) إرشاد الساري : ١٠ / ٥٦٠ ـ ٥٦١ ح ٤٧٧٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩٢.

(٣) المعجم الكبير : ١١ / ٢٩٦ ح ١٢٠٤٩.

(٤) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٣.

(٥) من المصدر.


يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. قال : فإنّ إبراهيم قد استغفر لأبيه ، فنزلت (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ) الآية : الدرّ المنثور (١) (٣ / ٢٨٣).

وفي هاتين الروايتين نصّ على أن نزول الآية الكريمة في أبيه وآباء رجال من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في عمّه ولا في أُمّه.

ومنها : ما جاء به الطبري في تفسيره (٢) (١١ / ٣٣) قال : قال آخرون : الاستغفار في هذا الموضع بمعنى الصلاة. ثمّ أخرج من طريق المثنّى عن عطاء بن أبي رباح قال : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشيّة حبلى من الزنا ، لأنّي لم أسمع الله يحجب الصلاة إلاّ عن المشركين يقول الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية.

وهذا التفسير إن صحّ فهو مخالف لجميع ما تقدّم من الروايات الدالّة على أنّ المراد من الآية هو طلب المغفرة كما هو الظاهر المتفاهم من اللفظ.

ونفس هذا الاضطراب والمناقضة بين هذه المنقولات وبين ما جاء به البخاري ممّا يفتّ في عضد الجميع ، وينهك من اعتباره ، فلا يحتجّ بمثله ولا سيّما في مثل المقام من تكفير مسلم بارّ ، وتبعيد المتفاني دون الدين عنه.

٥ ـ إنّ المستفاد من رواية البخاري نزول آية الاستغفار عند موت أبي طالب كما هو ظاهر ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن الحسن ، قال : لمّا مات أبو طالب قال النبي : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ إبراهيم استغفر لأبيه وهو مشرك وأنا أستغفر لعمّي حتى أبلغ ، فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية. يعني به أبا طالب ، فاشتدّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما كانَ اسْتِغْفارُ

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٣٠٢.

(٢) جامع البيان : مج ٧ / ج ١١ / ٤٤.


إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الدرّ المنثور (١) (٣ / ٢٨٣). وإن ناقضها ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن عليّ قال : أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال : اذهب فغسّله وكفّنه وواره غفر الله له ورحمه. ففعلت وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً ولا يخرج من بيته حتى نزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية (٢).

ولعلّه ظاهر ما أخرجه ابن سعد وأبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمر قال : لمّا مات أبو طالب قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحمك الله وغفر لك ، لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله ، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). الدرّ المنثور (٣ / ٢٨٣).

لكن الأُمّة أصفقت على أنّ نزول سورة البراءة التي تضمّنت الآية الكريمة آخر ما نزل من القرآن كما مرّ في (ص ١٠) وكان ذلك بعد الفتح ، وهي هي التي بعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ليتلوها على أهل مكّة ثمّ استرجعه بوحي من الله سبحانه وقيّض لها مولانا أمير المؤمنين فقال : «لا يبلّغها عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي» (٣) وقد جاء في صحيحة مرّت من عدّة طرق في (ص ١٣) من أنّ آية الاستغفار نزلت بعد ما أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك وكانت في سنة تسع فأين من هذه كلّها نزولها عند وفاة أبي طالب أو بعدها بأيّام؟ وأنّى يصحّ ما جاء به البخاري ومن يشاكله في رواية البواطيل.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٣٠١.

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ١٠٥ [١ / ١٢٣] ، الدرّ المنثور : ٣ / ٢٨٢ [٤ / ٣٠١] نقلاً عن ابني سعد وعساكر [مختصر تاريخ مدينة دمشق : ٢٩ / ٣٢]. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء السادس من كتابنا هذا : ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠. (المؤلف)


٦ ـ إنّ سياق الآية الكريمة ـ آية الاستغفار ـ سياق نفي لا نهي فلا نصّ فيها على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغفر فنُهي عنه ، وإنّما يلتئم مع استغفاره لعلمه بإيمان عمّه ، وبما أنّ في الحضور من كان لا يعرف ذلك من ظاهر حال أبي طالب الذي كان يماشي به قريشاً ، فقالوا في ذلك أو اتّخذوه مدركاً لجواز الاستغفار للمشركين ، كما ربما احتجّوا بفعل إبراهيم عليه‌السلام ، فأنزل الله سبحانه الآية وما بعدها من قوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ). الآية. تنزيهاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعذيراً لإبراهيم عليه‌السلام ، وإيعازاً إلى أنّ من استغفر له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن مشركاً كما حسبوه ، وأنّ مرتبة النبوّة تأبى عن الاستغفار للمشركين ، فنفس صدوره منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برهنة كافية على أنّ أبا طالب لم يكن مشركاً ، وقد عرفت ذلك أفذاذ من الأُمّة فلم يحتجّوا بعمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستغفارهم لآبائهم المشركين ، وإنّما اقتصروا في الاحتجاج بعمل إبراهيم عليه‌السلام كما مرّ في صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال : أوَ لم يستغفر إبراهيم؟». الحديث. راجع صفحة (١٢) من هذا الجزء.

ولو كان يعرف هذا الرجل أبا طالب مشركاً لكان الاستدلال لتبرير عمله باستغفار نبيّ الإسلام له ـ ولم يكن يخفى على أيّ أحد ـ أولى من استغفار إبراهيم لأبيه لكنّه اقتصر على ما استدلّ به.

٧ ـ إنّا على تقدير التسليم لرواية البخاري وغضّ الطرف عمّا سبق عن العبّاس من أنّ أبا طالب لهج بالشهادتين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحمد لله الذي هداك يا عمّ وما مرّ عن مولانا أمير المؤمنين من أنّه ما مات حتى أعطى رسول الله من نفسه الرضا ، وما مرّ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ الخير أرجو من ربّي لأبي طالب». وما مرّ من وصيّة أبي طالب عند الوفاة لقريش وبني عبد المطّلب بإطاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّباعه والتسليم لأمره وأنّ فيه الرشد والفلاح ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمين في قريش والصدّيق في العرب. إلى تلكم النصوص الجمّة في نثره ونظمه ، فبعد غضّ الطرف عن هذه كلّها


لا نسلّم أنّ أبا طالب عليه‌السلام أبى عن الإيمان في ساعته الأخيرة لقوله : على ملّة عبد المطّلب. ونحن لا نرتاب في أنّ عبد المطّلب سلام الله عليه كان على المبدأ الحقّ ، وعلى دين الله الذي ارتضاه للناس ربّ العالمين يومئذٍ ، وكان معترفاً بالمبدأ والمعاد ، عارفاً بأمر الرسالة ، اللائح على أساريره نورها ، الساكن في صلبه صاحبها ، وللشهرستاني حول سيّدنا عبد المطّلب كلمة ذكرنا جملة منها في الجزء السابع (ص ٣٤٦ و ٣٥٣) فراجع الملل والنحل (١) والكتب التي ألّفها السيوطي (٢) في آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تعرف جليّة الحال ، فقول أبي طالب عليه‌السلام : على ملّة عبد المطّلب. صريح في أنّه معتنق تلكم المبادئ كلّها ، أضف إلى ذلك نصوصه المتواصلة طيلة حياته على صحّة الدعوة المحمديّة.

٨ ـ نظرة في الثانية من الآيتين ، ولعلّك عرفت بطلان دلالتها على ما ارتأوه من كفر شيخ الأباطح ـ سلام الله عليه ـ من بعض ما ذكرناه من الوجوه ، فهلمّ معي لننظر فيها خاصّة وفيما جاء فيها بمفردها ، فنقول :

أوّلاً : إنّ هذه الآية متوسّطة بين آيٍ تصف المؤمنين ، وأخرى يذكر سبحانه فيها الذين لم يؤمنوا حذار أن يتخطّفوا من مكة المعظّمة ، فمقتضى سياق الآيات أنّه سبحانه لم يرد بهذه الآية إلاّ بيان أنّ الذين اهتدوا من المذكورين قبلها لم تستند هدايتهم إلى دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وإنّما الاستناد الحقيقي إلى مشيئته وإرادته سبحانه على وجه لا ينتهي إلى الإلجاء بنحو من التوفيق ، كما أنّ استناد الإضلال إليه سبحانه بنحو من الخذلان ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيطاً في تبليغ الدعوة (فَإِنْ تَوَلَّوْا

__________________

(١) الملل والنحل : ٢ / ٢٤٩.

(٢) منها : مسالك الحنفا في والدَي المصطفى ، الدرج المنيفة في الآباء الشريفة ، المقامة السندسية في النسبة المصطفوية ، التعظيم والمنّة في أنّ أبوي رسول الله في الجنّة ، نشر العلمين في إحياء الأبوين ، السبل الجليّة في الآباء العليّة. (المؤلف)


فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١). وفي الذكر الحكيم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢) ، كما أنّ إبليس اللعين يزيّن للعاصي عمله (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٣) ، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) (٤) ، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) (٥) (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٦) وقد جاء فيما أخرجه العقيلي (٧) وابن عدي (٨) وابن مردويه والديلمي (٩) وابن عساكر وابن النجّار عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت داعياً ومبلّغاً وليس إليّ من الهدى شيء ، وخلق إبليس مزيّناً وليس إليه من الضلالة شيء» (١٠).

فهذه الآية الكريمة كبقيّة ما جاء في الذكر الحكيم من إسناد كلّ مِن الهداية والضلال إليه سبحانه كقوله تعالى :

١ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) البقرة : ٢٧٢.

٢ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) النحل : ٣٧.

__________________

(١) النور : ٥٤.

(٢) النمل : ٩١ ، ٩٢.

(٣) لقمان : ٢١.

(٤) العنكبوت : ٣٨ ، النمل : ٢٤.

(٥) المجادلة : ١٩.

(٦) محمد : ٢٥.

(٧) الضعفاء الكبير : ٢ / ٩ رقم ٤١٠.

(٨) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٣٩ رقم ٥٩٧.

(٩) الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ١١ ح ٢٠٩٤.

(١٠) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ، الجامع الصغير للسيوطي [١ / ٤٨٧ ح ٣١٥٣]. (المؤلف)


٣ ـ (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الزخرف : ٤٠.

٤ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) النمل : ٨١.

٥ ـ (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) النساء : ٨٨.

٦ ـ (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) يونس : ٤٣.

٧ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الكهف : ١٧.

٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) الرعد : ٢٧.

٩ ـ (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إبراهيم : ٤.

١٠ ـ (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) النحل : ٩٣.

إلى آيات كثيرة ممّا يدلّ على استناد الهداية والضلال إلى الله تعالى على وجه لا ينافي اختيار العبد فيهما ، ولذلك أُسندا إليه وإلى مشيئته أيضاً في آي أخرى كقوله تعالى :

١ ـ (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يونس : ١٠٨.

٢ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف : ٢٩.

٣ ـ (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) التكوير : ٢٧ ، ٢٨.

٤ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) الإسراء : ١٥.

٥ ـ (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) النمل : ٩٢.

٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) البقرة : ١٦.


٧ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) الأعراف : ٣٠.

٨ ـ (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) القصص : ٨٥.

٩ ـ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) الإسراء : ٧.

١٠ ـ (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) آل عمران : ٢٠.

إلى آيات أخرى ، ولا مناقضة بين هذين الفريقين من الآي الكريمة بما قدّمناه وبما ثبت من صحّة إسناد الفعل إلى الباعث تارة وإلى المباشر المختار أخرى.

فآيتنا هذه صاحبة البحث والعنوان من الفريق الأوّل ، وقد سيق بيانها بعد آيات المؤمنين لإفادة ما أُريدت إفادته من لداتها ، ولبيان أنّ هؤلاء المذكورين من المهتدين هم على شاكلة غيرهم في إسناد هدايتهم إليه سبحانه ، فلا صلة لها بأيّ إنسان خاصّ أبي طالب أو غيره ، وإن ماشينا القوم على وجود الصلة بينها وبين أبي طالب عليه‌السلام فإنّها بمعونة سابقتها على إيمانه أدلّ. هكذا ينبغي أن تفسّر هذه الآية غير مكترث لما جاء حولها من التافهات ممّا سبق ويأتي.

وثانياً : إنّ ما رُوي فيها بمفردها كلّها مراسيل ، فإنّ منها : ما رواه عبد بن حميد ومسلم (١) والترمذي (٢) وغيرهم عن أبي هريرة رضى الله عنه عنه قال : لمّا حضرت وفاة أبي طالب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّاه قل : لا اله إلاّ الله ، أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ، فقال : لو لا أن تعيّرني قريش يقولون : ما حمله عليها إلاّ جزعه من الموت لأقررت بها عينك فأنزل الله عليه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية (٣).

كيف يرويه أبو هريرة وكان يوم وفاة أبي طالب شحّاذاً من متكفّفي دوس

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٨٤ ح ٤٢ كتاب الإيمان.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٣١٨ ح ٣١٨٨.

(٣) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٨]. (المؤلف)


باليمن الكفرة ، يسأل الناس إلحافاً ، ويكتنفه البؤس من جوانبه ، وما ألمّ بالإسلام إلاّ عام خيبر سنة سبع من الهجرة الشريفة باتّفاق من الجمهور؟ فأين كان هو من وفاة أبي طالب ، وما دار هنالك من الحديث؟ فإن صدق في روايته فهو راوٍ عمّن لم ينوّه باسمه ، وإن كان تدليس أبي هريرة قد اطّرد في موارد كثيرة ، روى أشياء ادّعى فيها المشاهدة أو دلّ عليها السياق لكنه لم يشاهد شيئاً منها ، ومن أراد الوقوف على هذه وغيرها من أمر أبي هريرة فليراجع كتاب أبو هريرة لسيّدنا المصلح الشريف الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي حيّاه الله وبيّاه فقد جمع ذلك فأوعى.

ومنها : ما أخرجه ابن مردويه وغيره من طريق أبي سهل السريّ بن سهل بالإسناد عن عبد القدوس ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : نزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية ، في أبي طالب ألحّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسلم فأبى ، فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي). الحديث (١).

أبو سهل السريّ أحد الكذّابين وضّاع كان يسرق الحديث كما مرّ في سلسلة الكذّابين (٥ / ٢٣١) ، وعبد القدوس أبو سعيد الدمشقي أحد الكذّابين كما أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٢٣٨).

وظاهر هذه الرواية كسابقتها هو المشاهدة ، والأثبت على ما قاله ابن حجر في الإصابة (٢ / ٣٣١) : أنّ ابن عبّاس ولد قبل الهجرة بثلاث. فهو عند وفاة عمّه أبي طالب كان يرضع ثدي أُمّه فلا يسعه الحضور في ذلك المشهد.

وإن صدقت الرواية عنه ـ وأنّى تصدق؟ ـ فإنّ ابن عبّاس أسند ما يقوله إلى من لا نعرفه ، ولعلّ رواة السوء حذفوه لضعفه ، كما حذف غير واحد من المؤلّفين أبا سهل السريّ وعبد القدوس ونظراءهما من أسانيد هذه الأفائك ستراً على عللها.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩].


والقول الفصل : إنّ حبر الأُمّة لم يلهج بتلكم الخزاية ، وإن لهج بشيء من أمر ذلك المشهد عن أحد فأولى له أن يقول ما قاله أبوه من أنّه سمع أبا طالب يشهد بالشهادتين عند وفاته (١). أو يفوه بما أسلفناه عن ابن عمّه الأقدس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، أو يروي ما جاء عن ابن عمّه الطاهر أمير المؤمنين (٣) ، أليس ابن عبّاس راوي ما ثبت عنه من قول أبي طالب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ في (٧ / ٣٥٥) : قم يا سيّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربّك فإنّك الصادق المصدّق؟

ومنها : ما أخرجه أبو سهل السري الكذّاب المذكور من طريق عبد القدوس الكذّاب أيضاً ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : الآية. نزلت في أبي طالب عند موته ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رأسه وهو يقول : يا عم قل لا إله إلاّ الله أشفع لك بها يوم القيامة ، قال أبو طالب : لا تعيّرني نساء قريش بعدي أنّي جزعت عند موتي ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الحديث (٤).

لعلّ ابن عمر لا يدّعي في روايته الحضور في ذلك المحضر. وليس له أن يدّعي ذلك لأنّه كان وقتئذ ابن سبع سنين تقريباً ، فإنّ مولده كان بعد البعثة بثلاث (٥) ، ومن طبع الحال أنّ من هو بهذا السنّ لا يُطلق سراحه إلى ذلك المنتدى الرهيب ، والمسجّى فيه سيّد الأباطح ويلي أمره نبيّ العظمة ، ويحضره مشيخة قريش ، فلا بدّ من أنّه سمع من يقول ذلك ممّن حضر واطّلع ، ولا يخلو أن يكون ذلك إمّا ولد المتوفّى وهو مولانا أمير المؤمنين والثابت عنه ما مرّ في الجزء السابع ، أو عن بقيّة أولاده من طالب وجعفر

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في صفحة : ٣٧٠ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في صفحة ٣٧٣ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٣) راجع ما سبق في صفحة ٣٧٩ من الجزء السابع. (المؤلف)

(٤) الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩]. (المؤلف)

(٥) الإصابة : ٢ / ٣٤٧ [رقم ٤٨٣٤]. (المؤلف)


وعقيل ولم ينبسوا في هذا الأمر ببنت شفة ، أو عن أخيه العبّاس وقد صحّ عنه ما أسلفناه في الجزء السابع ، أو عن ابن أخيه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد عرفت قوله فيه فيما مرّ ، فممّن أخذ ابن عمر؟ ولما ذا حذف اسمه؟ ولما شرّك أبا جهل مع أبي طالب في إحدى روايتيه ، ولم يقل به أحد غيره؟ وهل في الرواة من تقوّل عليه كلّ ذلك؟ فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

واعطف على هذه ما عزوه إلى مجاهد وقتادة في شأن نزول الآية (١) ، فإنّ مستند أقوالهما إمّا هذه الروايات أو أنّهما سمعاها من أُناس مجهولين ، فمراسيل كهذه لا يحتجّ بها على أمر خطير مثل تكفير أبي طالب بعد ثبوت إيمانه بما صَدَع به الصادع الكريم وتفانيه دونه والذبّ عنه بالبرهنة القاطعة.

ومن التفسير بالرأي والدعوى المجرّدة ما عن قتادة ومن يشاكله مرسلاً من تبعيض الآية بين أبي طالب والعبّاس ، فجعل صدرها لأبي طالب وذيلها للعبّاس (٢) الذي أسلم بعد نزول الآية بعدّة سنين كما هو المتسالم عليه عنه الجمهور.

وأنت تعرف بعد هذه كلّها قيمة قول الزجّاج : أجمع المسلمون على أنّها نزلت في أبي طالب. وما عقّبه به القرطبي من قوله : والصواب أن يقال : أجمع جلّ المفسّرين على أنّها نزلت في شأن أبي طالب (٣).

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) (٤)

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٢٤ [٣ / ١٥٣]. (المؤلف)

(٢) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٩٩ [١٣ / ١٩٨] ، الدرّ المنثور : ٥ / ١٣٣ [٦ / ٤٢٩]. (المؤلف)

(٣) تفسير القرطبي : ١٣ / ٢٩٩ [١٣ / ١٩٨]. (المؤلف)

(٤) النساء : ٥٠.


حديث الضحضاح

إلى هنا انتهى كلّ ما للقوم من نَبل تقلّه كنانة الأحقاد ، أو ذخيرة في علبة الضغائن رموا بها أبا طالب ، وقد أتينا عليها فجعلناها هباءً منثوراً ، ولم يبق لهم إلاّ رواية الضحضاح ، وما لأعداء أبي طالب حولها من مُكاء وتصدية ، وهي على ما يلي :

أخرج البخاري ومسلم من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث قال : حدّثنا العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : قلت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أغنيت عن عمّك فإنّه كان يحوطك ويغضب لك. قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل.

وفي لفظ آخر : قلت : يا رسول الله إنّ أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال : نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.

ومن حديث الليث حدّثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكر أبو طالب عنده فقال : لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وفي صحيح البخاري من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن الهاد نحوه ، غير أنّ فيه تغلي منه أمّ دماغه.

راجع (١) : صحيح البخاري في أبواب المناقب باب قصّة أبي طالب (٦ / ٣٣ ، ٣٤) ، وفي كتاب الأدب باب كنية المشرك (٩ / ٩٢) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٤٠٨ ح ٣٦٧٠ ، ص ١٤٠٩ ح ٣٦٧٢ و ٥ / ٢٢٩٣ ح ٥٨٥٥ ، ص ٢٤٠٠ ـ ٢٤٠١ ح ٦١٩٦ ، صحيح مسلم : ١ / ٢٤٧ ح ٣٥٧ كتاب الإيمان ، الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٤ ، مسند أحمد : ١ / ٣٣٩ ح ١٧٦٦ ، ص ٣٤٠ ح ١٧٧١ ، عيون الأثر : ١ / ١٧٢ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٥٤.


طبقات ابن سعد (١ / ١٠٦) طبعة مصر ، مسند أحمد (١ / ٢٠٦ ، ٢٠٧) ، عيون الأثر (١ / ١٣٢) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ١٢٥).

قال الأميني : نحن لا تروقنا المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري وما مرّ فيه (ص ٤) من أنّه كان يدلّس عن الضعفاء ويكتب عن الكذّابين. ولا لمكان عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الذي طال عمره وساء حفظه ، قال أبو حاتم (١) : ليس بحافظ تغيّر حفظه ، وقال أحمد (٢) : ضعيف ، وقال ابن معين (٣) مخلط ، وقال ابن خراش : كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن أحمد أنّه ضعّفه جدّا (٤).

ولا لمكان عبد العزيز الدراوردي ، قال أحمد بن حنبل : إذا حدّث من حفظه يهم ليس هو بشيء ، وإذا حدّث من كتابه فنعم ، وإذا حدّث جاء ببواطيل ، وقال أبو حاتم (٥) : لا يحتجّ به ، وقال أبو زرعة : سيِّئ الحفظ (٦).

كما أنّا لا نناقش بتضارب متون الرواية بأنّ قوله : لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، يعطي أنّ الضحضاح مؤجّل له إلى يوم القيامة بنحو من الرجاء المدلول عليه لقوله : لعلّه. وإنّ قوله : وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح. هو واضح في تعجيل الضحضاح له وثبوت الشفاعة قبل صدور الكلام.

لكن لنا هاهنا كلمة واحدة وهي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناط شفاعته لأبي طالب عند وفاته بالشهادة بكلمة الإخلاص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عم قل لا إله إلاّ الله كلمة

__________________

(١) الجرح والتعديل : ٥ / ٣٦١ رقم ١٧٠٠.

(٢) العلل ومعرفة الرجال : ١ / ٢٤٩ رقم ٣٣٩.

(٣) التاريخ : ٢ / ٣٧٣.

(٤) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٥١ [٢ / ٦٦٠ رقم ٥٢٣٥]. (المؤلف)

(٥) الجرح والتعديل : ٥ / ٣٩٥ رقم ١٨٣٣.

(٦) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٢٨ [٢ / ٦٣٣ رقم ٥١٢٥]. (المؤلف)


استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة (١) ، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أناطها بها في مطلق الشفاعة ، وجاء ذلك في أخبار كثيرة جمع جملة منها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (٢) (٤ / ١٥٠ ـ ١٥٨) منها في حديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : قيل لي : «سل فإنّ كلّ نبيّ قد سأل فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاّ الله» فقال : رواه أحمد (٣) بإسناد صحيح.

ومنها : عن أبي ذرّ الغفاري مرفوعاً في حديث : «أُعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمّتي من لا يشرك بالله شيئاً» : فقال : رواه البزّار وإسناده جيّد إلاّ أنّ فيه انقطاعاً.

ومنها : عن عوف بن مالك الأشجعي في حديث : «إنّ شفاعتي لكلّ مسلم» فقال : رواه الطبراني (٤) بأسانيد أحدها جيّد ، وابن حبّان في صحيحه (٥) وفي لفظه :

«الشفاعة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً».

ومنها : عن أنس في حديث : أوحى الله إلى جبريل عليه‌السلام أن اذهب إلى محمد فقل له : ارفع رأسك سل تُعط واشفع تُشفّع ـ إلى قوله ـ : أدخل من أُمّتك من خلق الله من شهد أن لا إله إلاّ الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك.

فقال المنذري (٦) : رواه أحمد (٧) ورواته محتجّ بهم في الصحيح.

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٢ / ٣٣٦ [٢ / ٣٦٦ ح ٣٢٩١ ، وكذا في تلخيصه] صححه هو والذهبي في التلخيص ، تاريخ أبي الفداء : ١ / ١٢٠ ، المواهب اللدنيّة : ١ / ٧١ [١ / ٢٦٢] ، كشف الغمّة للشعراني : ٢ / ١٤٤ ، كنز العمّال : ٧ / ١٢٨ [١٤ / ٣٧ ح ٣٧٨٧٤] ، شرح المواهب للزرقاني : ١ / ٢٩١. (المؤلف)

(٢) الترغيب والترهيب : ٤ / ٤٣٢ ـ ٤٣٧ ح ٩١ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٦ ، ٩٨.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤٤٤ ح ٧٠٢٨.

(٤) المعجم الكبير : ١٨ / ٥٩ ح ١٠٧.

(٥) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ١٤ / ٣٧٦ ح ٦٤٦٣.

(٦) الترغيب والترهيب : ٤ / ٤٣٦ ، ح ٩٦.

(٧) مسند أحمد : ٣ / ٥٦١ ح ١١٧٤٣.


ومنها : عن أبي هريرة مرفوعاً في حديث : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصاً ، وأنّ محمداً رسول الله ، يصدّق لسانه قلبه وقلبه لسانه». رواه أحمد (١) وابن حبّان في صحيحه (٢).

ومنها : ما مرّ في (ص ١٣) من طريق أبي هريرة وابن عبّاس من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا ربّه واستأذنه أن يستغفر لأُمّه ويأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن.

وقال السهيلي في الروض الأُنف (٣) (١ / ١١٣) : وفي الصحيح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أستأذنت ربّي في زيارة قبر أمّي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. وفي مسند البزّار من حديث بريدة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد أن يستغفر لأُمّه ضرب جبريل عليه‌السلام في صدره وقال له : لا تستغفر لمن كان مشركاً ، فرجع وهو حزين (٤).

فالمنفيّ في صورة انتفاء الشهادة جنس الشفاعة بمعنى عدمها كلّية لعدم أهليّة الكافر لها حتى في بعض مراتب العذاب ، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفيّة ، كما أنّها نفيت كذلك في كتاب الله العزيز بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) فاطر : ٣٦.

وبقوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) النحل : ٨٥.

وبقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) البقرة : ١٦٢ ، آل عمران : ٨٨.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣٢٣ ح ١٠٣٣٥.

(٢) الإحسان في تقريب ابن حبّان : ١٤ / ٣٨٤ ح ٦٤٦٦.

(٣) الروض الأُنف : ٢ / ١٨٥.

(٤) نحن لا نقيم لمثل هذه الرواية وزناً ولا كرامة ، غير أنّ خضوع القوم لها يلجئنا إلى الحجاج بها. (المؤلف)


وبقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ* قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) غافر : ٤٩ ، ٥٠.

وبقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) البقرة : ٨٦.

وبقوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) الأنعام : ٧٠.

وبقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إلى قوله تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ). المدّثّر : ٣٨ ـ ٤٨.

وبقوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) غافر : ١٨.

وبقوله تعالى (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً* لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) مريم : ٨٦ ، ٨٧.

الاستثناء في الآية الشريفة منقطع ، والعهد : شهادة أن لا اله إلاّ الله والقيام بحقّها. أي لا يشفع إلاّ للمؤمن.

راجع (١) : تفسير القرطبي (١١ / ١٥٤) ، تفسير البيضاوي (٢ / ٤٨) ، تفسير ابن كثير (٣ / ١٣٨) ، تفسير الخازن (٣ / ٢٤٣).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١١ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، تفسير البيضاوي : ٢ / ٤٠ ، تفسير الخازن : ٣ / ٢٣٢.


فرواية الضحضاح على تقدير أنّ أبا طالب عليه‌السلام مات مشركاً ـ العياذ بالله ـ وما فيها من الشفاعة لتخفيف العذاب عنه بجعله في الضحضاح منافية لكلّ ما ذكرناه من الآيات والأحاديث ، فحديث يخالف الكتاب والسنّة الثابتة يضرب به عرض الحائط ، وقد جاء في الصحيح مرفوعاً : «تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردّوه» (١) (٢).

ولا يغرّنّك إخراج البخاري لها ، فإنّ كتابه المعبّر عنه بالصحيح هو علبة السفاسف وعيبة السقطات ، وسنوقفك على جليّة الحال في البحث عنه إن شاء الله تعالى.

نختم البحث هاهنا عن إيمان سيّدنا أبي طالب ـ سلام الله عليه ـ بقصيدة شيخ الفقه والفلسفة والأخلاق شيخنا الأكبر آية الله الشيخ محمد الحسين الأصبهاني النجفي (٣) قال :

نورُ الهدى في قلبِ عمِّ المصطفى

في غايةِ الظهور في عين الخفا

في سرِّه حقيقةُ الإيمانِ

سرٌّ تعالى شأَنُه عن شانِ

إيمانُه يمثِّلُ الواجبَ في

مقامِ غيبِ الذاتِ والكنزِ الخفي

إيمانه المكنون سام اسمه

إلاّ المطهّرون لا يمسّه

إيمانه بالغيب غيب ذاته

له التجلّي التامُ في آياته

آياتُه عند أُولي الأبصارِ

أجلى من الشمسِ ضحى النهارِ

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه. (المؤلف)

(٢) سنن الدارقطني : ٤ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ح ١٧ ـ ٢٠ ، المعجم الكبير للطبراني : ٢ / ٩٧ ح ١٤٢٩ ، مجمع الزوائد : ١ / ١٧٠ ، كنز العمال : ١ / ١٧٩ و ١٩٦ ح ٩٠٧ و ٩٩٢ ـ ٩٩٤ بألفاظ مختلفة.

(٣) أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر تأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. (المؤلف)


وهو كفيلُ خاتمِ النبوّه

وعنه قد حامى بكلِّ قوّه

ناصرُه الوحيدُ في زمانِه

وركنُه الشديدُ في أوانِه

عميدُ أهلِه زعيمُ أُسرتِه

وكهفُه الحصينُ يومَ عسرتِه

حجابهُ العزيزُ عن أعدائِه

وحرزُه الحريزُ في ضرّائِه

فما أجلّ شرفاً وجاها

من حرزِ ياسينَ وكهفِ طه

قام بنصرةِ النبيّ السامي

حتى استوت قواعدُ الإسلامِ

جاهد عنه أعظمَ الجهادِ

حتى علا أمرُ النبيِّ الهادي

حماه عن أذى قريشِ الكفره

بصولةٍ ذلّت لها الجبابره

صابرَ كلَّ محنةٍ وكربه

والشِّعبُ من تلك الكروبِ شُعبه

أكرم به من ناصرٍ وحامي

وكافلٍ لسيّدِ الأَنامِ

كفاه فخراً شرفُ الكفاله

لصاحبِ الدعوةِ والرساله

لسانُه البليغُ في ثنائِه

أمضى من السيفِ على أعدائه

له من المنظومِ والمنثورِ

ما جعل العالم ملء النورِ

ينبئ عن إيمانِه بقلبِه

وأنَّه على هدىً من ربِّه

وأشرقت أُمُّ القرى بنوره

وكلُّ نورٍ هو نورُ طورِه

وكيف لا وهو أبو الأنوارِ

ومطلعُ الشموسِ والأقمارِ

مبدأ كلِّ نيّرٍ وشارقِ

وكيف وهو مشرقُ المشارق

بل هو بيضاءُ سماءِ المجدِ

مليكُ عرشهِ أباً عن جدِّ

له السموّ كابراً عن كابرِ

فهو تراثُه من الأكابرِ

أزكى فروعِ دوحةِ الخليلِ

فيا له من شرفٍ أصيلِ

بل شرفُ الأشراف من عدنانِ

ملاذُها في نوبِ الزمانِ

له من السموِّ ما يسمو على

ذرى الصراحِ والسماوات العلى

وكيف لا وهو كفيل المصطفى

أبو الميامينِ الهداةِ الخلفا


ووالدُ الوصيِّ والطيّارِ

وهو لعمري منتهى الفخارِ

بضوئِهِ أضاءتِ البطحاءُ

لا بل به أضاءتِ السماءُ

والنيِّر الأعظمُ في سمائه

مثلُ السها في النور من سيمائه

كيف ومن غرّته تجلّى

لأهله نورُ العليِّ الأعلى

ساد الورى بمكةَ المكرّمه

فحاز بالسؤددِ كلَّ مكرمه

بل هو فخرُ البلدِ الحرامِ

بل شرفُ المشاعرِ العظامِ

وقبلةُ الآمال والأماني

بل مستجارُ كعبةِ الإيمانِ

وفي حمى سؤددِه وهيبتِه

تمَّ لداع الحقِّ أمرُ دعوتهِ

ما تمّتِ الدعوةُ للمختارِ

لولاه فهو أصلُ دينِ الباري

كيف وظلُ اللهِ في الأنامِ

في ظلّهِ دعا إلى الإسلامِ

وانتشر الإسلامُ في حماهُ

مكرمةٌ ما نالها سواهُ

رايتُه علت بعالي همّتِه

كفاه هذا في علوِّ رتبتِه

مفاخرٌ يعلو بها الفخارُ

مآثرٌ تحلو بها الآثارُ

ذاك أبو طالبٍ المنعوتُ

من قَصُرتْ عن شأنِه النعوتُ

يجلُّ عن أيِّ مديحٍ قدرُهُ

لكنَّه يُحيي القلوبَ ذكرُهُ

القصيدة ومن قصيدة للعلاّمة الحجّة شيخنا الشيخ عبد الحسين صادق العاملي قدس‌سره قوله :

لولاه ما شُدَّ أزرُ المسلمين ولا

عين الحنيفة سالت في مجاريها

آوى وحامى وساوى قيدَ طاقتِهِ

عن خيرِ حاضرِها طرّا وباديها

ما كان ذاك الحفاظُ المرُّ أطّةَ أر

حامٍ وضربَ عروقٍ فار غاليها (١)

__________________

(١) أطيط الإبل : حنينها.


بل للإلهِ كما فاهت روائعُه ال

ـعصماءُ في كلِّ شطرٍ من قوافيها

ضاقت بما رحبت أُمُّ القرى برسو

لِ اللهِ من بعدِه واسودّ ضاحيها

فانصاع يدعو له بالخيرِ مبتهلاً

بدعوةٍ ليس بالمجبوهِ داعيها

لو لم تكن نفسُ عمِّ المصطفى طهُرتْ

ما فاه فوه بما فيه يُنجّيها

عاماً قضى عمُّه فيه وزوجتُه

قضاهُ بالحزنِ يبكيه ويبكيها

أَعظِمْ بإيمانِ مبكيِّ المصطفى سنةً

أيّامُها البيضُ أدجى من لياليها

من صلبهِ انبثَّتِ الأنوارُ قاطبةً

فالمرتضى بدؤها والذخرُ تاليها

هذا أبو طالب شيخ الأباطح وهذه نبذة من آيات إيمانه الخالص. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) (١) (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) (٢) (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣).

__________________

(١) الحديد : ٢٧.

(٢) المدّثر : ٣١.

(٣) الحشر : ١٠.


عود إلى بدء

أحاديث الغلوّ في فضائل أبي بكر

ـ ٢٩ ـ

ملَك يردّ على شاتم الخليفة

أخرج يوسف بن أبي يوسف في الآثار (ص ٢٠٨) عن أبيه يعقوب بن إبراهيم القاضي عن أبي حنيفة قال : بلغني أنّ رجلاً شتم أبا بكر فحلم أبو بكر رضى الله عنه والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعد ، ثمّ إنّ أبا بكر ردّ عليه ، فقام النبيّ ، فقال أبو بكر : شتمني فلم تقم وقمت حين رددت عليه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ملَكاً كان يردّ عنك فلمّا رددت أنت ذهب فقمت.

وأخرجه أحمد في مسنده (١) (٢ / ٤٣٦) من طريق أبي هريرة : إنّ رجلاً شتم أبا بكر والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس ، فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعجب ويتبسّم ، فلمّا أكثر ردّ عليه بعض قوله ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال : يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلمّا رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ، قال : إنّه كان معك ملك يردّ عنك ، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان.

قال الأميني : لم نعرف طريق بلاغ الحديث أبا حنيفة حتى نقف على مبلغه من

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١٧٧ ح ٩٣٤١.


الصحّة ، ولعلّ أبا يوسف القاضي بمفرده يكفيه وهناً نظراً إلى بعض ما قيل فيه كقول الفلاس : صدوق كثير الخطأ.

وقول أبي حفص : صدوق كثير الغلط.

وقول البخاري (١) : تركوه.

وقول يحيى بن آدم : شهد أبو يوسف عند شريك فردّه وقال : لا أقبل من يزعم أنّ الصلاة ليست من الإيمان.

وقول ابن عديّ (٢) : يروي عن الضعفاء.

وقول ابن المبارك بسند صحيح : إنّه وهّاه ، وقوله لرجل : إن كنت صلّيت خلف أبي يوسف صلوات تحفظها فأعدها. وقوله : لأن أخرّ من السماء إلى الأرض فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبّ إليّ من أن أروي عن ذلك. وقال رجل لابن المبارك : أيّهما أصدق أبو يوسف أو محمد؟ قال:لا تقل أيّهما أصدق. قل : أيّهما أكذب!

وقول عبد الله بن إدريس : كان أبو يوسف فاسقاً من الفاسقين.

وقول وكيع لرجل قال : أبو يوسف يقول كذا وكذا : أما تتّقي الله ، بأبي يوسف تحتجّ عند الله عزّ وجلّ؟

وقول أبي نعيم الفضل بن دكين : سمعت أبا حنيفة يقول لأبي يوسف : ويْحَكُم كم تكذبون عليّ في هذه الكتب ما لم أقل!

وقول يحيى بن معين : لا يكتب حديثه. وقوله : كان ثقة إلاّ أنّه كان ربّما غلط.

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٨ / ٣٩٧ رقم ٣٤٦٣.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٧ / ١٤٤ رقم ٢٠٥٥.


وقول يزيد بن هارون : لا تحلّ الرواية عنه كان يُعطي أموال اليتامى مضاربة ويجعل الربح لنفسه.

وقول ابن أبي كثير مولى بني الحارث [بن كعب] أو النظام لمّا دفن أبو يوسف :

سقى جدثاً به يعقوبُ أمسى

من الوسميِّ منبجسٌ ركامُ

تلطّف في القياسِ لنا فأضحتْ

حلالاً بعد حرمتِها المدامُ

ولولا أنّ مدّتَهُ تقضّت

وعاجله بميتتِهِ الحِمامُ

لأعمل في القياسِ الفكرَ حتى

تحلَّ لنا الخريدةُ والغلامُ (١)

وأمّا طريق أحمد ففيه سعيد بن أبي سعيد المدني وقد اختلط قبل موته بأربع سنين كما في تهذيب التهذيب (٢) (٤ / ٣٩ ، ٤٠) ، ومتن الرواية يشهد على صدورها منه في أيّام اختلاطه.

وممّا لا ريب فيه إساءة الأدب من كلا المتسابَّين بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفع أصواتهما بطبع من حال التشاتم ، فإنّه لا يؤتى به همساً والله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) الآية وقد نزلت في أبي بكر وعمر لمّا تماريا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما مرّ حديثه في الجزء السابع (ص ٢٢٣).

وما ذا على أبي بكر لو بقي متحلّماً مراعياً لأدب حضرة النبيّ إلى آخر مجلسه؟ كما فعله أوّلاً لذلك ـ أو أنّ ما فعله أوّلاً كان منه رمية من غير رامٍ؟ ـ فلا ينقلب إلى الإساءة وإزعاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قام عنه.

__________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي : ١٤ / ٢٥٧ [رقم ٧٥٥٨] ، ميزان الاعتدال [٤ / ٤٤٧ رقم ٩٧٩٤] ، لسان الميزان : ٦ / ٣٠٠ [٦ / ٣٦٨ رقم ٩٣١٩]. (المؤلف)

(٢) تهذيب التهذيب : ٤ / ٣٤.


وماذا عليه لو قام معه فيقطع مادّة البغضاء؟ وما ذا عليه لو سكت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يُسىء الأدب بالاعتراض والنقد على قيامه؟

وما ذا عليه لو أبقى الملَك وهو يحسبه مظلوماً فيسبّ الرجل ردّا عليه؟ لكنّه رآه مكافئ الظالم فتركه.

وعجبي ممّا في لفظ أحمد من قول النبيّ لأبي بكر : فلمّا رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان. إلى آخره. كيف كان ذلك المحفل خلواً من الشيطان إلى أن ردّ عليه أبو بكر والرجل كان يشتم أبا بكر ويُكثر ، ولمّا ردّ عليه وقع الشيطان؟ فكأنّ ردّ أبي بكر كان من همزات الشيطان دون سبّ الرجل إيّاه ، وكأنّ النبيّ الأعظم لم تكن له مندوحة عن سماع شتم الرجل أبا بكر ، أو لم تكن فيه مغضبة دون ردّ أبي بكر إيّاه؟ إنّ هذا لشيء عجاب!

ثمّ هل في عالم الملكوت من يقابل البذاءة بمثلها؟ أو أنّ هناك عالم القداسة لا يطرقه الفحش والسباب المقذع لقبحهما الذاتي؟ وهل لله سبحانه ملائكة قيّضهم لذلك العمل القبيح؟ وهل هذا التقييض مخصوص بأبي بكر فحسب؟ أو أنّه يكون لكلّ متسابّين من المؤمنين إذا سكت أحدهما؟ وهل قُيّضت الملائكة للردّ على من هجا رسول الله من المشركين؟ أنا لم أقف على أثر في هذه كلّها ، وليست المسألة عقليّة فتعضدها البرهنة ، مع قطع النظر عن استهجان العقل السليم لذلك ، والمتيقّن أنّ جزاء الشاتم إن كان ظالماً مُرجَأ إلى يوم الجزاء ، وأمّا ردّه بقول لا يسمعه الظالم فيتأدّب ويرتدع ، ولا المظلوم فيشفي غليله ، ولا أيّ أحد فيكون فضيحة لمرتكب القبيح فعساه يترك شنعته ، فمن التافهات (١) ، نعم ؛ أخرج الخطيب في تاريخه (٥ / ٢٨٠)

__________________

(١) من التافهات : متعلق بخبر لمبتدأ محذوف إذ التقدير : فهو من التافهات ، والجملة الاسمية خبر للمبتدإ في قوله وأما ردّه.


من طريق سهل بن صقين عن أبي هريرة مرفوعاً : إنّ لله تعالى في السماء سبعين ألف ملَك يلعنون من شتم أبا بكر وعمر.

غير أنّ الخطيب نفسه أردفه بقوله : سهل يضع. راجع ما أسلفناه في الجزء الخامس صفحة (٣٢٨).

ـ ٣٠ ـ

خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل الخليفة

أخرج البخاري (١) في المناقب باب قول النبيّ : سدّوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر (٥ / ٢٤٢) وباب الهجرة (٦ / ٤٤) من طريق أبي سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وقال : إنّ الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله قال : فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عبد خيّر فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المخيّر ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متّخذاً خليلاً غير ربّي لاتّخذت أبا بكر ، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته ، لا يبقين في المسجد باب إلاّ سُدّ إلاّ باب أبي بكر.

وزاد في لفظ ابن عساكر (٢) : فعلمنا أنّه مستخلفه. وفي لفظ الرازي في تفسيره (٣) (٢ / ٣٤٧) : ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.

قال الأميني : راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا صفحة (٢٠٢ ـ ٢١٥) تزدد

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٧ ح ٣٤٥٤ ، ص ١٤١٧ ح ٣٦٩١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ٢٤٦ رقم ٣٣٩٨.

(٣) التفسير الكبير : ٧ / ٤٦.


وثوقاً بما تضمّنته هذه الرواية من أُكذوبة حديث الأبواب وسدّها ، وما لابن تيميّة هنالك من مكاء وتصدية.

وأمّا بقيّة الحديث فممّا فيه قول أبي سعيد : وكان أبو بكر أعلمنا. لم يخصّ هذا العلم بأبي بكر وإنّما تحمّله كلّ من سمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعى أقواله في حجّة الوداع الذي كان يقول فيها : «يوشك أن أُدعى فأجيب».

إلى ما يقارب ذلك ممّا هو مذكور في الجزء الأوّل. وهب أنّ العلم بذلك كان مقصوراً على الخليفة لكنّه أيّ علم هذا يباهى به؟ أهو حلّ عويصة من الفقه؟ أو بيان مشكلة من الفلسفة؟ أو شرح غوامض من علوم الدين؟ أو كشف مخبّأ من أسرار الكون؟ لم يكن في هذا العلم شيء من ذلك كلّه وإنّما هو على فرض الصحّة تنبّه منه إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد نفسه ، ولعلّه سمعه قبل ذلك فتذكّره عندئذٍ ، وقد أسلفناه في الجزء السابع عند البحث عن أعلميّة الرجل بما لا مزيد عليه. فراجع.

أمّا قوله : إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. فأيّ منٍّ لأيّ أحد في صحبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنفاق ماله في دعوته؟ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (١) ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٢) ، وكانت لرسول الله المنّة على البشر عامّة بالدعوة والهداية والتهذيب ، وإن صاحَبه أحد وناصَره فلنفسه نظر ولها نصح ، (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤).

__________________

(١) فصّلت : ٤٦.

(٢) الإسراء : ٧.

(٣) الحجرات : ١٧.

(٤) آل عمران : ١٦٤.


على أنّ منّة المال لأبي بكر سالبة بانتفاء الموضوع وسنوقفك على جليّة الحال ، وقصّة الخلّة في ذيل الرواية أوقفناك عليها في الجزء الثالث وأنّها موضوعة ، ويعارضها موضوع آخر أخرجه الحافظ السكري من طريق أبيّ بن كعب أنّه قال : إنّ أحدث الناس عهدي (١) بنبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته بخمس ليال ، دخلت عليه وهو يقلّب يديه وهو يقول : إنّه لم يكن نبيّ إلاّ وقد اتّخذ من أُمّته خليلاً وإنّ خليلي من أُمّتي أبو بكر بن أبي قحافة ، ألا وإنّ الله قد اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً (٢).

وموضوع آخر أخرجه الطبراني (٣) من طريق أبي أمامة : إنّ الله اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً وإنّ خليلي أبو بكر. كنز العمّال (٤) (٦ / ١٣٨).

وموضوع آخر أخرجه أبو نعيم من طريق أبي هريرة : لكلّ نبي خليل في أُمّته وإنّ خليلي أبو بكر. كنز العمّال (٥) (٦ / ١٤٠).

هكذا تعارض سلسلة الموضوعات بعضها بعضاً لجهل كلّ من واضعيها بما أتى به الآخر. ولكلّ مُنّته (٦) وسعة باعه في نسج الأكاذيب : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٧).

وقبل هذه كلّها ما في رجال سند الرواية من الآفة لمكان إسماعيل بن عبد الله أبي عبد الله بن أبي أويس ابن أُخت مالك ونسيبه والراوي عنه.

__________________

(١) كذا في الرياض النضرة ، وفي إرشاد الساري : إنّ أحدث عهدي بنبيّكم قبل موته بخمس.

(٢) الرياض النضرة للمحبّ الطبري : ١ / ٨٣ [١ / ١١٠] ، إرشاد الساري للقسطلاني : ٦ / ٨٣ [٨ / ١٦٩]. (المؤلف)

(٣) المعجم الكبير : ٨ / ٢٠١ ح ٧٨١٦.

(٤) كنز العمّال : ١١ / ٥٤٨ ح ٣٢٥٧٢.

(٥) كنز العمّال : ١١ / ٥٥٣ ح ٣٢٥٩٨.

(٦) المُنّة : القوّة.

(٧) البقرة : ١٤٤.


قال ابن أبي خيثمة : صدوق ضعيف العقل ليس بذلك ، يعني أنّه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤدّيه أو يقرأ من غير كتابه.

وقال معاوية بن صالح : هو وأبوه ضعيفان.

وقال ابن معين (١) : هو وأبوه يسرقان الحديث. وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى بن معين : مخلّط يكذب ليس بشيء.

وقال النسائي (٢) : ضعيف. وقال في موضع آخر : غير ثقة. وقال اللالكائي : بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدّي إلى تركه ، ولعلّه بانَ له ما لم يبِن لغيره لأنّ كلام هؤلاء كلّهم يؤول إلى أنّه ضعيف.

وقال ابن عدي (٣) : روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد.

قال الأميني : هذه الرواية التي رواها عن خاله من تلك الغرائب.

وذكره الدولابي في الضعفاء وقال : سمعت النصر بن سلمة المروزي يقول : ابن أبي أويس كذّاب كان يحدّث عن مالك بمسائل ابن وهب.

وقال العقيلي في الضعفاء (٤) عن يحيى بن معين أنّه قال : ابن أبي أويس لا يسوى فلسين (٥) وقال الدارقطني : لا أختاره في الصحيح.

وذكره الإسماعيلي في المدخل فقال : كان ينسب في الخفّة والطيش إلى ما أكره ذكره.

__________________

(١) معرفة الرجال : ١ / ٦٥ رقم ١٢١.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٥١ رقم ٤٤.

(٣) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ٣٢٣ رقم ١٥١.

(٤) الضعفاء الكبير : ١ / ٨٧ رقم ١٠٠.

(٥) في الضعفاء الكبير : يسوى فلساً ، وفي تهذيب التهذيب : يسوى فلسين.


وقال بعضهم : جانبناه للسنّة.

وقال ابن حزم في المحلّى : قال أبو الفتح الأزدي : حدّثني سيف بن محمد ، أنّ ابن أبي أويس كان يضع الحديث.

وأخرج النسائي من طريق سلمة بن شبيب أنّه قال : سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول : ربّما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم (١).

أليس من الجزاف وقول الزور ، قول النووي في مقدّمة شرح صحيح مسلم (٢) : اتّفق العلماء رحمهم‌الله على أنّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان : البخاري ومسلم؟ أكتاب هذا حديثه وهذه ترجمة رجال إسناده وهو أخف ما فيه من الطامّات يصلح أن يكون أصحّ الكتب بعد القرآن؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، ولو كان هذا شأن الأصحّ المتّفق عليه فما قيمة غيره في سوق الاعتبار؟!

ـ ٣١ ـ

ثناء أمير المؤمنين عليه‌السلام على الخليفة

أخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة (٣) (١ / ٩٧) من طريق الحسن قال : قال عليّ عليه‌السلام : لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قدّم أبا بكر في الصلاة ، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لديننا فقدّمنا أبا بكر.

وأخرجه مرسلاً أيضاً المحبّ الطبري في الرياض النضرة (٤) (١ / ١٥٠) فقال :

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ١ / ٣١٢ [١ / ٢٧٢].

(٢) شرح صحيح مسلم : ١ / ١٤.

(٣) صفة الصفوة : ١ / ٢٥٧ رقم ٢.

(٤) الرياض النضرة : ١ / ١٨٨.


وعنه (١) قال : قال عليّ : قدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر يصلّي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائباً ولا مريضاً ، ولو أراد أن يقدّمني لقدّمني ، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لديننا.

وعن قيس بن عبادة ، قال : قال لي عليّ بن أبي طالب : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرض ليالي وأيّاماً ينادي بالصلاة فيقول : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس ، فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام ، وقوام الدين ، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لديننا فبايعنا.

قال الأميني : ما أجرأ الحفّاظ على رواية هذه الأكاذيب الفاحشة ، وإغراء بسطاء الأُمّة المسكينة بالجهل ، والتمويه على الحقائق بأمثال هذه الأفائك! وهم مهرة الفنّ ، ولا يعزب عن أيّ أحد منهم عرفان ما في تلكم المختلقات من الغمز والاعتلال.

نعم ؛ وكم وكم يجد الباحث في طيّات أجزاء كتابنا هذا ممّا يكذّب هذه الأفيكة من التاريخ المتسالم عليه ، والحديث الصحيح ، والنصوص الصريحة من كلمات مولانا أمير المؤمنين ؛ وشتّان بينه وبين كلمات الحفّاظ والمؤرّخين حول تخلّف عليّ عليه‌السلام عن بيعة أبي بكر ؛ مثل قول القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم في شرح حديث منه ، قوله : كان لعليّ من الناس جهة حياة فاطمة. قال : جهة أي جاه واحترام ، كان الناس يحترمون عليّا في حياتها كرامةً لها كأنّها بضعة من رسول الله وهو مباشر لها ، فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر. انصرف الناس عن ذلك الاحترام ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرّق جماعتهم.

نعم ؛ أكثر الوضّاعون في الكذب على سيّد العترة أمير المؤمنين وبان ذلك في الملأ حتى قال عامر بن شراحيل (٢) : أكثر من كُذِب عليه من الأُمّة الإسلاميّة هو

__________________

(١) أي : عن الحسن.

(٢) هو المعروف بالشعبي ، ونصُّ قوله : ما كُذب على أحد في هذه الأُمة ما كذب على عليّ رضى الله عنه.


أمير المؤمنين عليه‌السلام (١). وإليك نماذج ممّا يُعزى إليه وهو سلام الله عليه بريء منه ، أضفها إلى أحاديث الغلوّ في فضائل أبي بكر.

ـ ٣٢ ـ

عن عليّ : أوّل من يدخل من الأُمّة الجنّة أبو بكر وعمر ، وإنّي لموقوف مع معاوية للحساب.

ـ ٣٣ ـ

عن عليّ مرفوعاً : يا عليّ لا تكتب جوازاً لمن سبّ أبا بكر وعمر فإنّهماسيّدا كهول أهل الجنّة بعد النبيّين. ويأتي بلفظ آخر.

ـ ٣٤ ـ

عن عليّ مرفوعاً : الخليفة بعدي أبو بكر وعمر ثمّ يقع الاختلاف.

ـ ٣٥ ـ

عن عليّ مرفوعاً : يا عليّ سألت الله ثلاثاً أن يقدّمك فأبى عَلَيَّ إلاّ أن يقدّم أبا بكر.

ـ ٣٦ ـ

عن عليّ : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أسرّ إليّ أنّ أبا بكر سيتولّى بعده ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ أنا.

ـ ٣٧ ـ

عن عليّ : إنّ الله فتح هذه الخلافة على يدي أبي بكر وثنّاه عمر وثلّثه عثمان وختمها بي بخاتمة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ للذهبي : ١ / ٧٧ [١ / ٨٢ رقم ٧٦]. (المؤلف)


ـ ٣٨ ـ

عن عليّ : ما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدنيا حتى عهد إليّ أنّ أبا بكر يلي الأمر بعده ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ إليّ فلا يُجتمع عليَّ.

ـ ٣٩ ـ

عن عليّ مرفوعاً : أتاني جبرئيل فقلت : من يهاجر معي؟ قال : أبو بكر ، ويلي أمر أُمّتك من بعدك وهو أفضل أُمّتك من بعدك.

ـ ٤٠ ـ

عن عليّ مرفوعاً : أعزّ أصحابي إليّ ، وخيرهم عندي ، وأكرمهم على الله ، وأفضلهم في الدنيا والآخرة : أبو بكر الصدّيق. الحديث بطوله.

ـ ٤١ ـ

عن عليّ : إنّا نرى أبا بكر أحقّ الناس بها بعد رسول الله ، إنّه لصاحب الغار ، وثاني اثنين ، وإنّا لنعلم بشرفه وكبره. الحديث.

ـ ٤٢ ـ

عن عليّ مرفوعاً : يا عليّ إنّ الله أمرني أن اتّخذ أبا بكر وزيراً ، وعمر مشيراً ، وعثمان سنداً ، وإيّاك ظهيراً ، أنتم أربعة فقد أخذ الله ميثاقكم في أمّ الكتاب ، لا يحبّكم إلاّ مؤمن ولا يبغضكم إلاّ فاجر ، أنتم خلائف نبوّتي ، وعقدة ذمّتي ، وحجّتي على أمّتي لا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، ولا تعافوا.

ـ ٤٣ ـ

قيل لعليّ : يا أمير المؤمنين من خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : أبو بكر. قيل : ثمّ من؟ قال عمر. قيل : ثمّ من؟ قال : ثمّ عثمان. قيل : ثمّ من؟ قال : أنا.


ـ ٤٤ ـ

خطب عليّ خطبة وقال في آخرها : واعلموا أنّ خير الناس بعد نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر الصدّيق ، ثمّ عمر الفاروق ، ثمّ عثمان ذو النورين ، ثمّ أنا. وقد رميت بها في رقابكم وراء ظهوركم فلا حجّة لكم عليّ.

ـ ٤٥ ـ

سئل عليّ عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : أخبرنا عن أبي بكر بن أبي قحافة قال : ذاك امرؤ سمّاه الله الصدّيق على لسان جبريل عليه‌السلام وعلى لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا.

ـ ٤٦ ـ

عن عليّ : إنّه كان يحلف بالله إنّ الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء : الصدّيق.

ـ ٤٧ ـ

عن عليّ : أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ، وأوّل من صلّى إلى القبلة عليّ ابن أبي طالب.

ـ ٤٨ ـ

عن عبد الرحمن (١) بن أبي الزناد عن أبيه قال : أقبل رجل فتخلّص الناس حتى وقف على عليّ بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدّموا

__________________

(١) قال ابن معين [في معرفة الرجال : ١ / ٧٣ رقم ١٨٣] : ليس ممّن يحتجّ به أصحاب الحديث ، ليس بشيء. وعن ابن المديني : كان عند أصحابنا ضعيفاً. وكان عبد الرحمن يخطّ على حديثه ، وضعّفه الساجي وابن شيبة ، وقال النسائي [في كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٦٠ رقم ٣٨٧] : لا يحتجّ بحديثه. تهذيب التهذيب : ٦ / ١٧١ [٦ / ١٥٧]. (المؤلف)


أبا بكر وأنت أورى منقبة ، وأقدم إسلاماً ، وأسبق سابقة؟ قال : إن كنت قرشيّا فأحسبك من عائذة ، قال نعم. قال : لو لا أنّ المؤمن عائذ الله لقتلتك. ويحك إنّ أبا بكر سبقني لأربع لم أوتهنّ ولم أعتض منهنّ : سبقني إلى الإمامة. أو : تقدّم الإمامة. وتقدّم الهجرة ، وإلى الغار ، وإفشاء الإسلام. الحديث بطوله وفي آخره : ثمّ قال : لا أجد أحداً يفضّلني على أبي بكر إلاّ جلدته جلد المفتري.

ـ ٤٩ ـ

عن عليّ : جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : من يهاجر معي؟ فقال : أبو بكر ، وهو الصدّيق. مرّ بلفظ آخر.

ـ ٥٠ ـ

جاء أبو بكر وعليّ يزوران النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته بستة أيّام فقال عليّ لأبي بكر : تقدّم يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو بكر ؛ ما كنت لأتقدّم رجلاً سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عليّ منّي كمنزلتي من ربّي. فقال عليّ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما منكم من أحد إلاّ وقد كذّبني غير أبي بكر ، وما منكم من أحد يصبح إلاّ على بابه ـ على باب قلبه ـ ظلمة إلاّ باب أبي بكر. فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوله؟ قال : نعم. فأخذ أبو بكر بيد عليّ ودخلا جميعاً.

ـ ٥١ ـ

عن عليّ مرفوعاً : ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيّين والمرسلين أفضل من أبي بكر.

ـ ٥٢ ـ

عن عليّ : دخلنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلنا : يا رسول الله ألا تستخلف؟


فقال : إن يعلم الله فيكم خيراً استعمل عليكم خيركم. فعلم الله فينا خيراً فاستعمل علينا أبا بكر.

ـ ٥٣ ـ

عن عليّ قال : أفضلنا أبو بكر.

ـ ٥٤ ـ

عن عليّ مرفوعاً : ينادي منادٍ يوم القيامة : أين السابقون الأوّلون؟ فيقال : من؟ فيقول : أين أبو بكر الصدّيق؟ فيتجلّى الله لأبي بكر خاصّة وللناس عامّة.

ـ ٥٥ ـ

عن عليّ مرفوعاً : الخير ثلاثمائة وسبعون خصلة ، إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه واحدةً منهنّ فدخل بها الجنّة ، قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله هل فيّ شيء منها؟ قال : نعم جمع من كلّ.

ـ ٥٦ ـ

عن عليّ مرفوعاً : يا أبا بكر إنّ الله أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق آدم إلى أن بعثني ، وإنّ الله أعطاك ثواب من آمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة.

ـ ٥٧ ـ

التقى أبو بكر الصدّيق وعليّ بن أبي طالب ، فتبسّم أبو بكر في وجه عليّ فقال له عليّ : مالك تبسّمت؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له عليّ بن أبي طالب الجواز. فضحك عليّ وقال : ألا أُبشّرك يا أبا بكر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تكتب الجواز إلاّ لمن أحبّ أبا بكر.


ـ ٥٨ ـ

عن عليّ مرفوعاً : نازلت ربّي فيك ثلاثاً فأبى إلاّ أبا بكر.

ـ ٥٩ ـ

عن عليّ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في الإمارة ، ولكنّه شيء رأيناه من قبل أنفسنا ، فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمن قبل أنفسنا. ثمّ استخلف أبو بكر فأقام واستقام ، ثمّ استخلف عمر فأقام واستقام ، حتى ضرب الدين بجرانه.

ـ ٦٠ ـ

قال أبو بكر لعليّ بن أبي طالب : قد علمت أنّي كنت في هذا الأمر قبلك؟ قال : صدقت يا خليفة رسول الله ، فمدّ يده فبايعه.

ـ ٦١ ـ

قال أبو بكر بعد ما بويع له وبايع له عليّ وأصحابه فأقام ثلاثاً يقول : أيّها الناس قد أقلتكم بيعتكم ، هل من كاره؟ قال : فيقوم عليّ في أوائل الناس يقول : لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدّمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن ذا الذي يؤخّرك؟

وفي لفظ : ولولا أنّا رأيناك أهلاً ما بايعناك.

وفي لفظ سويد بن غفلة : لمّا بايع الناس أبا بكر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس اذكر بالله أيّما رجل ندم على بيعتي لمّا قام على رجليه ، قال : فقام إليه عليّ بن أبي طالب ومعه السيف ، فدنا منه حتى وضع رجلاً على عتبة المنبر والأخرى على الحصى ، وقال والله لا نقيلك. الحديث.

ـ ٦٢ ـ

عن عليّ مرفوعاً : خير أُمّتي بعدي أبو بكر وعمر.


ـ ٦٣ ـ

عن عليّ : إنّه دخل على أبي بكر وهو مسجّى فقال : ما أحد لقي الله بصحيفة أحبّ إليّ من هذا المسجّى.

ـ ٦٤ ـ

عن عليّ : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرفنا أنّ أفضلنا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرفنا أنّ أفضلنا بعد أبي بكر عمر رضي الله تعالى عنهما.

ـ ٦٥ ـ

عن عليّ : مرفوعاً : يا عليّ هذان سيّدا كهول أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين إلاّ النبيّين والمرسلين ، لا تخبرهما يا عليّ. قال : فما أخبرتهما حتى ماتا.

ـ ٦٦ ـ

عن عليّ مرفوعاً : أوّل من يحاسب يوم القيمة أبو بكر. يأتي بطوله.

هذه غياهب الإفك والإحن ، وأغشية التمويه والدجل ، ظلمات بعضها فوق بعض ، أو قل : هي أساطير الأوّلين التي اكتتبوها ، أحاديث الغلوّ وقصص الخرافة لفّقتها يد الأمانة الخائنة على السنّة النبويّة تقوّلاً على مولانا أمير المؤمنين ، لقد فصّلنا القول فيها طيّات أجزاء (١) كتابنا هذا ، (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (٢).

__________________

(١) تجد بسط المقال حول جلّها في الجزء الخامس : ص ٢٩٧ ـ ٣٧٥. (المؤلف)

(٢) المجادلة : ٢.


ـ ٦٧ ـ

ليلة الغار والخليفة فيها

أخرج أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء (١ / ٣٣) عن عبد الله بن محمد بن جعفر ، عن محمد بن العبّاس بن أيّوب ، عن أحمد بن محمد بن حبيب المؤدّب ، عن أبي معاوية ، عن هلال بن عبد الرحمن ، عن عطاء بن أبي ميمونة أبي معاذ ، عن أنس ابن مالك قال : لمّا كان ليلة الغار قال أبو بكر : يا رسول الله دعني فلأدخل قبلك ، فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبلك. قال : ادخل ، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه ، فكلّما رأى جحراً جاء بثوبه فشقّه ثمّ ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع ، قال : فبقي جحر فوضع عقبه عليه ، ثمّ أدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فلمّا أصبح قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين ثوبك يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع ، فرفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فقال : اللهمّ اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليه : إنّ الله قد استجاب لك.

وقال ابن هشام في السيرة (١) (٢ / ٩٨) : حدّثني بعض أهل العلم أنّ الحسن البصري قال : انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً ، فدخل أبو بكر رضى الله عنه قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة ، يقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

وذكره ابن كثير في تاريخه (٢) (٣ / ١٧٩) فقال : فيه انقطاع من طرفيه.

وفي مرسل المحبّ الطبري في الرياض (٣) (١ / ٦٥) : دخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه جحراً إلاّ أدخل إصبعه فيه حتى أتى على جحر كبير فأدخل رجله فيه إلى فخذه

__________________

(١) السيرة النبويّة : ٢ / ١٣٠.

(٢) البداية والنهاية : ٣ / ٢٢٠.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ٨٩.


ثمّ قال : أُدخل يا رسول الله فقد مهّدت لك الموضع تمهيداً.

وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى ، فلمّا أصبح قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا يا أبا بكر؟ وقد تورّم جسده فقال : يا رسول الله الأفعى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهلاّ أعلمتني؟ فقال أبو بكر : كرهت أن أفسد عليك ، فأمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على أبي بكر فاضمحلّ ما كان بجسده من الألم وكأنّه أُنشط من عقال.

وقال في مرسل آخر عن عمر (١) في (ص ٦٨) : كان في الغار خروق فيها حيّات وأفاعٍ ، فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فألقمه قدمه ، فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيّات والأفاعي ، وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له : يا أبا بكر لا تحزن إنّ الله معنا ، فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة لأبي بكر.

والذي صحّحه الحاكم في المستدرك (٢) من طريق عمر من الحديث قوله : فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الحجرة ، فدخل واستبرأ ثمّ قال : انزل يا رسول الله ، فنزل ، فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. فقال الحاكم : صحيح لو لا إرسال فيه.

وفي حديث زيّفه ابن كثير بالإرسال أيضاً : قال أبو بكر : كما أنت حتى أدخل يدي فأحسّه وأقصّه ، فإن كانت فيه دابّة أصابتني قبلك. قال نافع : فبلغني أنّه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوّفاً أن يخرج منه دابّة أو شيء يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي لفظ : لمّا دخل الغار سدّد تلك الأجحرة كلّها وبقي منها جحر واحد ،

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٩٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٧ ح ٤٢٦٨.


فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل ، تاريخ ابن كثير (١) (٣ / ١٨٠) فقال : في هذا السياق غرابة ونكارة.

وزاد عليه الحلبي في السيرة : قد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مالك يا أبا بكر؟ قال : لُدِغت فداك أبي وأُمّي ، فتفل رسول الله على محلّ اللدغة فذهب ما يجده.

وقال : زاد في رواية : وأنّه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال : من لدغة الحية ، فقال : هلاّ أخبرتني؟ قال : كرهت أن أوقظك ، فمسحه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذهب ما به من الورم والألم.

وقال : قال بعضهم : والسرّ في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصّص على رءوسهم تعظيماً للحيّة التي لدغت أبا بكر في الغار ، لأنّهم يزعمون أنّ ذلك على صورة تلك الحيّة.

السيرة الحلبيّة (٢) (٢ / ٣٩ ، ٤٠) ، السيرة النبويّة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (٣) (١ / ٣٤٢).

قال الأميني : للباحث حقّ النظر في هذه الرواية من عدّة نواحٍ :

أوّلاً : من حيث رجال السند ولا إسناد لها منذ يوم وضعت ، ولا تروى في كتب السلف والخلف إلاّ مرسلة إمّا من الطرفين كرواية ابن هشام ، وإمّا من طرف واحد كإسناد الحاكم وأبي نعيم ، ومن الغريب جدّا أنّ القضيّة مشتركة بين اثنين ليس إلاّ ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٣ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) السيرة الحلبية : ٢ / ٣٥.

(٣) السيرة النبويّة : ١ / ١٦٣.


وهما : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر ، وروايتها بطبع الحال تنحصر بهما غير أنّها لم تنقل عنهما ولم يوجد لهما ذكر في أيّ سند ، والدواعي في مثلها متوفّرة لأن يذكر مع الأبد ، وتتداولها الألسن ، إذ فيها من أعلام النبوّة ، وكرامة مع ذلك لأبي بكر.

وإسناد أبي نعيم المذكور لا يعوّل عليه لمكان عبد الله بن محمد بن جعفر ، قال ابن يونس : خلط في الآخر ، ووضع أحاديث على متون معروفة ، وزاد في نسخ مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه.

وقال الحاكم عن الدارقطني : كذّاب ألّف كتاب سنن الشافعي وفيها نحو مائتي حديث لم يحدّث بها الشافعي.

وقال الدارقطني : وضع في نسخة عمرو بن الحارث أكثر من مائة حديث.

وقال عليّ بن رزيق : كان إذا حدّث يقول لأبي جعفر بن البرقي في حديث بعد حديث : كتبت هذا عن أحد؟ فكان يقول : نعم عن فلان وفلان. فاتّهمه الناس بأنّه يفتعل الأحاديث ، ويدّعيها ابن البرقي كعادته في الكذب. قال : وكان يصحّف أسماء الشيوخ (١).

على أنّ عبد الله بن محمد توفي سنة (٣١٥) كما في لسان الميزان فلا تتمّ رواية أبي نعيم عنه وهو من مواليد (٣٣٦).

وفيه : محمد بن العباس بن أيّوب الحافظ الشهير بابن الأخرم ، قال أبو نعيم نفسه : اختلط قبل موته بسنة ، كما في لسان الميزان (٢) (٥ / ٢١٦) ، ولمّا لم يُعلم تاريخ صدور الرواية منه أهو قبل الاختلاط أم بعده؟ ـ إن لم تعدّ الرواية من بيّنات اختلاطه ـ سقطت عن الاعتبار كما هو الشأن في رواية كلّ من اختلط. عن :

__________________

(١) لسان الميزان : ٣ / ٣٤٥ [٣ / ٤٢٥ رقم ٤٧٧٢]. (المؤلف)

(٢) لسان الميزان : ٥ / ٢٤٤ رقم ٧٥٣٩.


أحمد بن محمد بن حبيب المؤدّب ، أحسبه السرخسي ، أخرج الخطيب في تاريخه (٥ / ١٤٠) حديثاً من طريقه فقال : رجاله كلهم ثقات معروفون بالثقة إلاّ المؤدّب. عن :

أبي معاوية محمد بن خازم ، مرجئ مدلّس رئيس المرجئة بالكوفة كما في تهذيب التهذيب (١) (٩ / ١٣٩). عن :

هلال بن عبد الرحمن ، قال العقيلي (٢) : منكر الحديث ، وقال بعد ما ذكر له أحاديث : كلّ هذه مناكير لا أُصول لها ولا يتابع عليها. وقال الذهبي (٣) : الضعف على أحاديثه لائح فليترك. لسان الميزان (٤) (٦ / ٢٠٢). عن :

عطاء بن أبي ميمونة ، ثقة صالح قدريّ لا يحتجّ بحديثه. راجع تهذيب التهذيب (٥) (٧ / ٢١٥).

ولمّا لم يصحّ شيء من أسانيد الرواية ومتونها لم يوعز إليها السيوطي في الخصائص الكبرى في باب ما وقع في الهجرة النبويّة من الآيات والمعجزات ، وقد ذكر فيه أحاديث ضعيفة مع النصّ على ضعفها ، فكأنّه عرف بأنّ ذكر هذه الرواية تمسّ كرامة المؤلّف وتحطّ مكانة تأليفه عن الأنظار ، وهكذا لم يذكرها أحد ممّن ألّف في أعلام النبوّة ومعاجز النبيّ الأعظم.

ثانياً : إنّ الأُصول القديمة في القرون الأولى لا يوجد فيها إلاّ أنّ أبا بكر دخل

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٩ / ١٢١.

(٢) الضعفاء الكبير : ٤ / ٣٥٠ رقم ١٩٥٦.

(٣) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣١٥ رقم ٩٢٧٣.

(٤) لسان الميزان : ٦ / ٢٤٣ رقم ٨٩٥٥.

(٥) تهذيب التهذيب : ٧ / ١٩٢.


الغار قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينظر أفيه سبع أو حيّة كما في سيرة ابن هشام (١) ، ولم يصحّ عند الحاكم من القصّة إلاّ هذا المقدار كما سمعت ، ولو صحّ شيء زائد على هذا لما فاتته روايته ولو مرسلة.

وزيدت في القرن الرابع قصّة الثوب وبقاء جحر واتّكاء أبي بكر عليه بعقبه ودعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له لاتّقائه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثوبه عن لدغ الحشرات المزعومة.

وجدّدت النغمات في قرن المحبّ الطبري المتخصّص الفنّان في رواية الموضوعات وجمع شتاتها ، فجاء في روايته ما سمعت ، غير أنّ ألفاظه مع وجازته مضطربة جدّا لا يلتئم شيء منها مع الآخر.

ثمّ جاء الحلبي فنوّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأسه في حجر أبي بكر ، وسقى وجه رسوله الكريم بدموع أبي بكر المتساقطة من الألم ، كلّ هذه لم يبرّد كبد الحلبي وما شفى غليله ، فوجّه قوارصه على الرافضة وألبس رءوسهم لباداً مقصّصاً على صورة تلك الحيّة الموهومة التي لم يُذعن رافضيّ قطّ بوجودها.

ثمّ لمّا أدخل أبو بكر رجله إلى فخذه في الجحر ونزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجده قاعداً لا يتحرّك ، ورام أن ينام ، ووضع رأسه الشريف في حجره ، هلاّ سأل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحبه عن حالته العجيبة وجلوسه المستغرب الذي لا يقوم عنه؟ وهل يمكن له أن يستر على صاحبه كلّ ما فعل وهو معه ينظر إليه من كَثب؟

وأيّ لديغ هذا؟! وأيّ تصبّر وتجلّد؟! وأيّ منظر مهول؟! رجل الرجل في الجحر إلى فخذه ولا ثوب عليه ، ورأس النبيّ العظيم في حجره ، والأفاعي والحيّات تلدغه وتلسعه من هنا وهنا ، لا اللديغ يتململ تململ السليم ، حتى يحرّك رجله أو عقبه فتجد تلكم الحشرات مسرحاً فتبعد عنه ، ولا يئنّ ولا يحنّ ولا تُسمع له زفرة ،

__________________

(١) السيرة النبوية : ٢ / ١٣٠.


وإنّ الدموع تتحادر حتى يستيقظ النبيّ الذي تنام عينه ولا ينام قلبه (١) فينجي صاحبه الذي اختاره لصحبته من لسعة الحيّات والأفاعي.

وهل من العدل والعقل والمنطق أن يحفظ الله نبيّه عن كلّ هاتيك النوازل؟ ويري له في الدرء عنه آية بعد آية في سويعات ؛ من ستره عن أعين مشركي قريش لمّا مرّ بهم من بين أيديهم ، وإنباته شجرةً في وجهه تستره بها ، وإيقاعه حمامتين وحشيّتين بفم الغار ، ونسج العناكيب باب الغار بأمر منه تعالى شأنه (٢) ، ويدع صاحبه الذي اتّخذه بأمره ، وتفانى في حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرّض نفسه للمهالك دونه بدخوله الغار قبله ، فلم يدفع عنه لدغ الحيّات والأفاعي ، ولا يرحمه في تلك الحالة التي تكسر القلوب ، وتشجي الأفئدة ، وينظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول له : لا تحزن إنّ الله معنا. والمسكين يبكي وتسيل دموعه.

وهلاّ كان يعلم أبو بكر أنّ الله الذي أمر نبيّه بالهجرة وأدخله الغار يكلؤه عن لدغ الحيات والأفاعي بقدرته كما أعمى عنه عيون البشر الضاري ، وقصّر عن النيل منه مخالب تلك الفئة الجاهلة؟

وهلاّ كان يؤمن بأنّ صاحبه المفدّى لو اطّلع على حاله لينجيه بمسحة مسيحيّة أو بدعوة مستجابة ، فكلّ ما حُكي عنه لما ذا؟

نعم ؛ أعمى الحبّ مختلق الرواية وأصمّه فجاء بالتافهات غلوّا في الفضائل.

__________________

(١) أخرج الشيخان في الصحيحين [صحيح البخاري : ١ / ٣٨٥ ح ١٠٩٦ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٧٤ ح ١٢٥ كتاب صلاة المسافرين] مرفوعاً : «إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» ، وأخرجا أيضاً [صحيح البخاري : ٣ / ١٣٠٨ ح ٣٣٧٧ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٩٧ ح ١٨٦ بلفظ : أن النبيّ ٦ تنام عيناه ولا ينام قلبه] مرفوعاً : «إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم». (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٣ [١ / ٢٢٩] ، الخصائص الكبرى : ١ / ١٨٥ ، ١٨٦ [١ / ٣٠٦]. المؤلف)


ـ ٦٨ ـ

الشيطان لا يتمثّل بأبي بكرِ

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه (٨ / ٣٣٤) عن محمد بن الحسين قطيط أبي الفتح الشيباني الذي ترجمه في تاريخه ولم يذكره بثقة. عن :

٢ ـ خلف بن عامر الضرير ، قال الذهبي في ميزانه (١) : فيه جهالة ، قال ابن الجوزي (٢) : روى حديثاً منكراً ـ يعني هذا الحديث ـ (٣). عن :

٣ ـ محمد بن إسحاق بن مهران أبي بكر الشافعي قال الخطيب في تاريخه (١ / ٢٥٨) : حديثه كثير المناكير. وحسبك في عرفان حاله حديثه الذي أخرجه الخطيب في ترجمته مرفوعاً : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنّه أمين مأمون. فراوٍ يكون هذا حديثه لا يرتاب في كذبه ووضعه. عن :

٤ ـ أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ذكره ياقوت في المعجم (٣ / ٢٢٨) وقال : قالوا : كان ضعيفاً فيما يرويه. قال ابن عدي الحافظ (٤) : يحدّث عن الأصمعي والقرقساني بمناكير ، وقال أبو أحمد الحافظ : لا يتابع على جلّ حديثه.

وحكى ابن حجر في تهذيب التهذيب (٥) (١ / ٦٠) كلمة ابن عديّ وأبي أحمد وزاد عليها : قال الحاكم أبو عبد الله : سكت مشايخنا عن الرواية عنه ، وقال ابن حبّان (٦)

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٦٦١ رقم ٢٥٤١.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ١ / ٢٥٥ رقم ١١١٨.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ٤٠٣ [٢ / ٤٩٢ رقم ٣١٧٧]. (المؤلف)

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ١٨٨ رقم ٢٦.

(٥) تهذيب التهذيب : ١ / ٥٢.

(٦) الثقات : ٨ / ٤٣.


ربّما خالف ، وقال الذهبي (١) : ليس بعمدة.

وقال السيوطي في بغية الوعاة (٢) (٥ / ١٤٤) : قال ابن عيسى (٣) : يحدّث بمناكير.

عن رجال ثقات عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي ، ومن رأى أبا بكر الصدّيق في المنام فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثّل به.

قال الأميني : لم يدع القوم خاصّة للأنبياء أماثل البشر إلاّ وقد أشركوا بهم فيها أُناساً ليسوا أمثالهم في العصمة والقداسة والنفسيّات الكريمة والملكات الفاضلة ، أخرج الشيخان (٤) حديث «من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي» ورواه الحفّاظ من طرق صحيحة لا مغمز لها ، ونصّ السيوطي كما في شرح المناوي (٥) على تواتره ، ورآه أئمّة الفنّ من خاصّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن فضائله التي تخصّ به ، وفصّلوا القول في بيان أسراره ، وعدّه السيوطي من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخصائص الكبرى (٦) (٢ / ٢٥٨) تحت عنوان ـ باب ومن خصائصه أنّ رؤيته في المنام حقّ ـ ولم أجد أحداً من شرّاح الحديث سلفاً وخلفاً يوعز إلى هذه الموضوعة التي جاء بها الخطيب في القرن الخامس ، فكأنّ الكلّ ضربوا عنها صفحاً وعرفوا أنّها مكذوبة مختلقة ، غير أنّ الخطيب راقه أن يرويها ويسكت عمّا في إسنادها من العلل شأنه في فضائل غير العترة الطاهرة ، وأعجب منه أنّ ابن حجر ذكرها في لسان

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٦٢ رقم ٥٢٤٠.

(٢) بغية الوعاة : ١ / ٣٣٣ رقم ٦٣٢.

(٣) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف ، وفي الطبعة المحققة : عدي ، بدلاً من : عيسى ، وأشار محقّقها في الهامش إلى أن : عيسى ، تصحيف.

(٤) صحيح البخاري : ٦ / ٢٥٦٨ ح ٦٥٩٣ ، صحيح مسلم : ٤ / ٤٥١ ح ١٠ كتاب الرؤيا.

(٥) فيض القدير : ٦ / ١٣٢ ح ٨٦٨٨.

(٦) الخصائص الكبرى : ٢ / ٤٥٢.


الميزان (١) (٢ / ٤٠٣) في ترجمة خلف بن عامر فقال : روى عن محمد بن إسحاق بن مهران بسند صحيح. وهو الذي ترجم ثلاثة من رجال السند بما سمعت. هكذا تخطّ يد الغلوّ في الفضائل الجانية على ودائع العلم والدين (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).

ـ ٦٩ ـ

أبو بكر لم يسؤ النبيّ قطّ

أخرج الخلعي وابن مندة وغيرهما من طريق سهل بن مالك قال : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّ أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك (٣).

قال ابن منده : غريب لا نعرفه إلاّ من وجه خالد بن عمرو الأموي. وقال ابن حجر بعد نقله : قلت : خالد بن عمرو متروك واهي الحديث. إلى أن قال نقلاً عن أبي عمر : ومدار حديثه (٤) على خالد بن عمرو وهو متروك ، وإسناد حديثه مجهولون ضعفاء يدور على سهل بن يوسف أو مالك بن يوسف (٥).

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (٦) (٣ / ١٠٩) في ترجمة خالد بن عمرو : قال أحمد (٧) : منكر الحديث ، ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل ، وعن يحيى بن

__________________

(١) لسان الميزان : ٢ / ٤٩٢ رقم ٣١٧٧.

(٢) البقرة : ٧٩.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ١٢٧ [١ / ١٦٠] ، الإصابة : ٢ / ٩٠ [رقم ٣٥٥٢]. (المؤلف)

(٤) يعني حديث سهل. (المؤلف)

(٥) الإصابة ٢ / ٩٠ [رقم ٣٥٥٢]. (المؤلف)

(٦) تهذيب التهذيب : ٣ / ٩٤.

(٧) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٢٥٤ رقم ٥١٢٢.


معين (١) قال : ليس حديثه بشيء ، كان كذّاباً يكذب ، حدّث عن شعبة أحاديث موضوعة. وقال البخاري (٢) والساجي وأبو زرعة : منكر الحديث. وقال أبو حاتم (٣) : متروك الحديث ضعيف. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي (٤) : ليس بثقة. وقال صالح بن محمد البغدادي : كان يضع الحديث. وقال ابن حبّان (٥) : كان يتفرّد عن الثقات بالموضوعات لا يحلّ الاحتجاج بخبره. وقال ابن عدي (٦) : روى عن الليث وغيره أحاديث مناكير وأورد له أحاديث من روايته عن الليث عن يزيد. ثمّ قال : وهذه الأحاديث كلّها باطلة ، وعندي أنّه وضعها على الليث ، ونسخة الليث عن يزيد عندنا ليس فيها من هذا شيء.

وله غير ما ذكرت وعامّتها أو كلّها موضوعة ، وهو بيّن الأمر من الضعفاء. وعن أحمد بن حنبل أنّه قال : أحاديثه موضوعة. إلى آخره.

قال الأميني : اقرأ ثمّ انظر إلى أمانة الحافظ المحبّ الطبري يروي هذه الأكذوبة محذوفة الإسناد مرسِلاً إيّاها إرسال المسلّم ويعدّها من فضائل أبي بكر ، وتبعه في جنايته هذه غير واحد من المؤلّفين ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٧) (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٨).

__________________

(١) التاريخ : ٣ / ٥١٨ رقم ٢٥٣٦ ، معرفة الرجال : ١ / ٦٠ رقم ٨٥.

(٢) التاريخ الكبير : ٣ / ١٦٤ رقم ٥٦٣.

(٣) الجرح والتعديل : ٣ / ٣٤٣ رقم ١٥٥١.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٩٥ رقم ١٧٤.

(٥) كتاب المجروحين : ١ / ٢٨٣.

(٦) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٣١ رقم ٥٩٣.

(٧) الكهف : ١٠٤.

(٨) المجادلة : ١٨.


ـ ٧٠ ـ

الآيات النازلة في أبي بكر

قال العبيدي المالكي في عمدة التحقيق (١) (ص ١٣٤) عن الشيخ زين العابدين البكري : لمّا قرأت عليه قصيدة جدّه محمد البكري ومنها :

لئن كان مدح الأوّلين صحائفاً

فإنّا لآيات الكتاب فواتحُ

قال : المراد بأوّل الكتاب : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) فالألف أبو بكر ، واللام لله ، والميم محمد.

وذكر البغوي (٢) أنّ المراد من قوله تعالى (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) (٣) هو أبو بكر.

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) (٤) أنّه الصدّيق. قال الشيخ محمد زين العابدين : كان للصدّيق ثلاثمائة كرسي وستون كرسيّا على كلّ كرسي حلّة بألف دينار.

قال الأميني : هاهنا نُنهي البحث عن فضائل أبي بكر ، ولا يسعنا الولوج في الكلام حول الآيات التي تقوّل القوم نزولها فيه ، وقد حرّفوا آياً كثيرة ، وقالوا في كتاب الله ما سوّلت لهم الميول والشهوات ، وراقهم الغلوّ في الفضائل لدة ما سمعت من المخازي ، كما لا نفيض القول في الغلوّ الفاحش فيه بالقريض مثل قول الشاعر العلاّمة

__________________

(١) عمدة التحقيق : ص ٢٢٨.

(٢) تفسير البغوي : ٣ / ٤٩٢.

(٣) لقمان : ١٥.

(٤) النور : ٢٢.


الملاّ حسن أفندي البزّار الموصلي في ديوانه (ص ٤٢):

إنَّ قدرَ الصدِّيقِ جلَّ فأضحى

كلُّ مدحٍ مقصّراً عن عُلاهُ

ليت شعري ما قيمةُ الشعرِ فيمن

جاء في محكمِ الكتاب ثناهُ

كلُّ من في الوجود يبغي رضا

الله تعالى واللهُ يبغي رضاهُ

وقوله في مدحه أيضاً :

إنَّ ذكرَ الصدِّيقِ ما دارَ إلاّ

ملأَ الكونَ هيبةً ووقارا

صاحبُ الغار كان للسيّدِ

المختارِ واللهِ صاحباً مختارا

تاهَ في ذكره الوجودُ فلو لا

هيبةٌ منه أوقرته لطارا

نعم ؛ لنا حقّ النظر في ثروة أبي بكر التي منحوه إياها ، فكانت من جرّائها له المنن على رسول الله وعلى الدين والمسلمين ، تلك الثروة الطائلة التي هيأت له ألف ألف أوقية ـ كما جاء فيما أخرجه النسائي (١) عن عائشة قالت : فخرت بمال أبي في الجاهليّة وكان ألف ألف أوقية (٢) ـ ونضّدت له ثلاثمائة وستّين كرسيّا في داره ، وأسدلت على كلّ كرسي حلّة بألف دينار ، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري ، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمّل من لوازم وآثار ، وأثاث ورياش ، ومناضد وأواني وفرش ، لا تقصر عنها في القيمة ، وما يلزم من خدم وحشم ، وقصور شاهقة ، وغرف مشيّدة ، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواشي وضيعة وعقار ، إلى غيرها من توابع الجاه والمال.

أنا لا أدري أيّ باحة كانت تقلّ ذلك كلّه؟ ولم يفز بمثلها يومئذٍ أحد من ملوك الدنيا ، وهل كانت الكراسي المذكورة منضّدة في غرفة واحدة؟ فما أكبرها من غرفة!

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٤١ [٣ / ٣٧٥ رقم ٦٨٢٣] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٢٥ [٨ / ٢٩١]. (المؤلف)

(٢) الأوقية : أربعون درهماً. (المؤلف)


تضاهي ميادين القتال ، ومفازات البراري ، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها! وأيّ يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي ، ولِمَ لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليومِ ركزاً؟ أكان في أفواه الجالسين عليها أوكية عن نقل شيء من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد العظيم المتكرّر في كلّ أسبوع ، وعلى الأقلّ في كلّ شهر. وأقلّ منه في كلّ سنة ، ولا أقلّ من انعقاده في العمر مرّة ، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره ، ولا يستسهل المؤرّخ تركه ، لكنّك بالرغم من ذلك كلّه لا تجد عنه إلاّ همساً يتخافت به العبيدي بعد لأي من عمر الدهر.

ومن أيّ حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذٍ يوم فاقة لقريش ، وكانوا كما وصفتهم الصدِّيقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه : «كنتم تشربون الطَّرَق (١) وتقتاتون الورق ، أذلّة خاشعين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله» (٢).

ولعلّ في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوّة (٣) (ص ١٤٦) من طريق مالك بن أنس أنّه بلغه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسألهما فقال : ما أخرجكما؟ فقالا : أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيّهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل. الحديث.

ثمّ متى أدركت عائشة العهد الجاهلي وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس

__________________

(١) الطرق بفتح المهملة : الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب [٨ / ١٥١] (المؤلف)

(٢) بلاغات النساء : ص ١٣ [ص ٢٤] ، أعلام النساء : ٣ / ١٢٠٨ [٤ / ١١٧]. (المؤلف)

(٣) أعلام النبوة : ص ٢٢٠ باب ٢٠.


سنين (١)؟ وهل كانت تفخر في دور الإسلام بثروة بائدة في الجاهليّة وصاحبها جائع في الحال الحاضر؟

ولست أدري ما الذي قضى على تلكم الآلاف المؤلّفة؟ وما الذي أفناها وأبادها وأفقر صاحبها؟ حتى أصبح ولا يملك شيئاً ، أو كان لا يملك يوم هجرته إلاّ أربعة أو خمسة أو ستة آلاف من الدراهم ـ إن كان ملكها ـ ولو كان أنفق أيّ أحد عشر معشار ذلك المال لدوّخ العالم صيته ، وكان يومئذٍ يُعدّ في الرعيل الأوّل من أجواد الدنيا ولم يوجد في صحيفة التاريخ ذكر من تلكم الآلاف والكراسي والحلل ، هب أنّ الذهبي قال في حديث عائشة : ألف الثانية باطلة قطعاً فإنّ ذلك لا يتهيّأ لسلطان العصر.

وأقرّ ابن حجر تعقيبه في تهذيب التهذيب (٢) ، فأين قصّة ألف أوقية الصحيحة في صحائف التاريخ؟

وإن صحّت الأحلام ، وصُدّقت هذه القصص الوهميّة ، وكان لأبي بكر ذلك المال الطائل الخيالي لما افتقر أبو قحافة والده لأن يكون أجير عبد الله بن جدعان للنداء على طعامه ، ولم يكن يقتني بتلك الخسّة لماظة من العيش كما قاله الكلبي في المثالب ، وأشار إليه أُميّة بن الصلت في قصيدة يمدح بها ابن جدعان بقوله :

له داعٍ بمكة مشمعلٌ

وآخر فوق دارته ينادي (٣)

__________________

(١) الإصابة : ٤ / ٣٥٩ [رقم ٧٠٤] ، ويستفاد ذلك من صحيح البخاري في باب زواج عائشة [٣ / ١٤١٥ ح ٣٦٨٣] ، وتاريخ ابن عساكر : ١ / ٣٠٤ [٣ / ١٩٧] ، والاستيعاب [القسم الرابع / ١٨٨٢ رقم ٤٠٢٩]. (المؤلف)

(٢) ميزان الاعتدال للذهبي : ٢ / ٣٤١ [٣ / ٣٧٥ رقم ٦٨٢٣] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٢٥ [٨ / ٢٩١]. (المؤلف)

(٣) اشمعلّ الرجل : ارتفع وشرف.


إلى رُدُحٍ من الشيزى عليها (١)

لبابُ البُرِّ يُلبَكُ بالشهادِ (٢)

قال الكلبي : المشمعل هو : سفيان بن عبد الأسد. وآخر : أبو قحافة ، وفي تعليق مسامرة الأوائل (ص ٨٨) يقال : إنّ الداعي هو أبو قحافة والد الصدّيق.

بل يحقّ على صاحب ألف ألف أوقية ، وثلاثمائة وستّين كرسيّا محلّىً بالديباج أن ينادي على الطعام في دور ضيافته عشرة مثل أبي قحافة ، فضلاً عن أن يكون أجير أُناس آخرين بدراهم زهيدة ، أو بشبع من الطوى.

وإن كان لأبي بكر عندئذٍ ما حسبوه من الثروة أو شطر منها لما احتاج إلى أن يبتاع للهجرة مع صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلتين بثمانمائة درهم (٣) ثمّ قدّم إحداهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يقبلها إلاّ بالثمن ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لا أركب بعيراً ليس لي ، قال أبو بكر : فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي. قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال : كذا وكذا قال : قد أخذتها بذلك (٤).

ولم يكن ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاها إلاّ لضعف حال أبي بكر من ناحية المال ، أو أنّه لم يرقه أن يكون لأحد عليه منّة حتى لا يُفتعل عليه بعد ملاوة من الدهر بقول من افتعل عليه : إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. كما مرّ في (ص ٣٣) من هذا الجزء.

__________________

(١) الردُح : جمع رداح وهي القصعة. الشيزى : خشب أسود تصنع منه القصاع.

(٢) مثالب الكلبي ، الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني : ٨ / ٤ [٨ / ٣٤٢] ، مسامرة الأوائل : ص ٨٨. (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٢ [١ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٧٧ ، ١٧٨ [٣ / ٢١٨ ، ٢٢٠]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٦ / ٤٧ [٣ / ١٤١٩ ح ٣٦٩٢] ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٤٥ [٢ / ٣٧٦] ، سيرة ابن هشام : ٣ / ٩٨ ، ١٠٠ [٢ / ١٣١] ، طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٣ [١ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٨٤ ، ١٨٨ [٣ / ٢٢٥ ، ٢٣١]. (المؤلف)


على أنّ للنظر في رواية الراحلتين مجالاً واسعاً بما رواه ابن الصبّاغ في الفصول المهمّة (١) والحلبي في السيرة (٢) (٢ / ٤٤) من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر أن تأتي عليّا وتخبره بموضعهما ، وتقول له يستأجر لهما دليلاً ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضيّ ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة ، فجاءت أسماء إلى عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ فأخبرته بذلك ، فاستأجر لهما رجلاً يقال له الأُريقط بن عبد الله الليثي ، وأرسل معه بثلاث من الإبل ، فجاء بهنّ إلى أسفل الجبل ليلاً ، فلمّا سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه.

وفيه صراحة بأنّه لم تكن هناك راحلتان لأبي بكر معبّأتان لركوبهما ، وإنّما جيء بالرواحل مستأجرة ، وقد جمع الحلبي بين هذا وبين حديث الراحلتين بأنّ المراد باستئجار عليّ رضى الله عنه إعطاؤه الأجرة. وهذا الجمع يأباه لفظ الحديثين كما ترى.

ولقد روي كما يأتي أنّ الذي استصحبه أبو بكر من المال ـ يوم هاجر من المدينة ـ وهو كلّ ما يملكه أربعة أو خمسة أو ستّة آلاف درهم ، فأين هذا من الألف ألف أُوقية؟ والكراسي المذكورة وحللها المقوّمة بثلاثمائة وستين ألف دينار وما يتبعها؟ وأيّ نسبة بين صاحب تلك الثروة وبين ما لا يملك إلاّ هذه الدراهم المعدودة؟

وأيّ نسبة بينها وبين أيّامه وأيّام أبيه بمكة وبين ما كان يحترف به في المدينة من بيع الأبراد والأقمشة على عنقه وعلى ساعده ، حرفةً ضئيلة يدور بها في الأزقّة والأسواق من دون أن يستقرّ في متجر أو حانوت.

أخرج ابن سعد من طريق عطاء قال : لمّا استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها فلقيه عمر بن الخطّاب وأبو عبيدة الجرّاح ، فقالا

__________________

(١) الفصول المهمّة : ص ٤٨.

(٢) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٤٠.


له : أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال : السوق. قالا : تصنع ما ذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال : فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له : انطلق حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كلّ يوم شطر شاة وماكسوه في الرأس والبطن.

وروى من طريق عمير بن إسحاق : إنّ رجلاً رأى على عنق أبي بكر الصدّيق عباءة فقال : ما هذا؟ هاتها أكفيكها. فقال : إليك عنّي لا تغرّني أنت وابن الخطّاب من عيالي.

وفي لفظ آخر لابن سعد أيضاً : إنّ أبا بكر لمّا استخلف راح إلى السوق يحمل أبراداً له وقال : لا تغرّوني من عيالي.

وفي لفظ الحلبي : لمّا بويع أبو بكر بالخلافة أصبح رضى الله عنه على ساعده قماش وهو ذاهب إلى السوق ، فقال له عمر : أين تريد؟ إلى آخره (١).

ثمّ متى كان إنفاقه لثروته الطائلة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي مناجحه ومصالحه ، حتى كان به أمنّ الناس عليه بماله؟ وكيف أنفق ولم يره أحدّ ولا رواه أيّ ابن أُنثى؟ ولِمَ لم يذكر التاريخ مورداً من موارد نفقاته؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ردّه إيّاها وأخذه ثمنها ، كما حفظ لكلّ من أنفق شيئاً في مهمّات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغزواته ومصالح الإسلام والمسلمين.

ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتاجه في شخصيّاته وما يتعلّق بها بمكة قبل الهجرة ، فإنّ عمّه أبا طالب سلام الله عليه كان متكفّلاً لذلك كلّه قبل زواجه بخديجة ، وبعده كان مال خديجة تحت يده وهي في طوعه ، وإنّما وقعت الحاجة بعد الهجرة لتوسّع نطاق الإسلام ، وتمطّط أمره فكان يحتاج إلى تجهيز الجيوش وقيادة العساكر ، وهؤلاء

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٣ / ١٣٠ ، ١٣١ [٣ / ١٨٤ ، ١٨٥] ، صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٩٧ [١ / ٢٥٧] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٣٨٨ [٣ / ٣٥٩]. (المؤلف)


رجال بني سالم بن عوف ، ورجال بني بياضة ، ورجال بني ساعدة وفي مقدّمهم سعد ابن عبادة ، ورجال بني الحرث بن الخزرج ، ورجال بني عديّ أخوال رسول الله الأكرمين ، كلّ منهم رفع عقيرته يوم دخوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة بقوله : هلمّ إلينا إلى العَدد والعُدّة والمنعة (١)

ولم يكن عند أبي بكر يومئذٍ من المال غير ما جاء به من مكّة أربعة أو خمسة أو ستّة آلاف درهم ـ إن كان جاء به وأنّى لك بإثباته؟ ـ وما عساها أن تجدي نفعاً لو أنفقها كلّها؟ وما هي وما قيمتها تجاه ذلك السلطان العظيم؟ لكنّا مع غضّ النظر عن ذلك نسائل أيضاً مدّعي الإنفاق أنّه متى أنفقها؟ وفي أيّ مصرف أدرّها؟ وفي أيّ أمر بذلها؟ ولأيّ حاجة سمح بها؟ ولِمَ خفي ذلك على خلق الله من أولئك الصحابة؟ ولما ذا عزب عن المؤرّخين؟ فلم يسطروها في صحائف التاريخ ولا ذكروها في فضائل الخليفة ، وهل قام عمود الإسلام وتمّ أمره بهذه الدريهمات المجهول مصرفها؟ وعاد أبو بكر أمنّ الناس على رسول الله بماله؟

والعجب كلّ العجب أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام كانت له أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سرّا ، وبدرهم جهراً ، فأنزل الله فيه القرآن فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢) سورة البقرة (٢٧٤).

__________________

(١) أسلفنا حديثه في الجزء السابع : ص ٢٦٩. (المؤلف)

(٢) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني [في المعجم الكبير : ١١ / ٨٠ ح ١١١٦٤] وابن عساكر [ترجمة الإمام علي بن أبي طالب : رقم ٩١٨ ، ٩١٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٨ / ٩] وابن جرير. راجع تفسير القرطبي : ٣ / ٣٤٧ [٣ / ٢٢٥] ، تفسير البيضاوي : ١ / ١٨٥ [١ / ١٤١] ، تفسير الزمخشري : ١ / ٢٨٦ [١ / ٣١٩] ، تفسير الرازي : ٢ / ٣٦٩ [٧ / ٨٣] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٣٢٦ ، تفسير الدرّ المنثور : ١ / ٣٦٣ [٢ / ١٠٠ ـ ١٠١] ، تفسير الخازن : ١ / ٢٠٨ [١ / ٢٠١] ، تفسير الشوكاني : ١ / ٢٦٥ [١ / ٢٩٤] ، تفسير الآلوسي : ٣ / ٤٨. (المؤلف)


وهو سلام الله عليه تصدّق بخاتمه للسائل فذكره تعالى في كتابه العزيز بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) سورة المائدة (٥٥).

وأطعم هو وأهله مسكيناً ويتيماً وأسيراً فأنزل الله فيهم قوله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) سورة هل أتى. وقد أسلفنا تفصيل أمرهم هذا في الجزء الثالث (ص ١٠٦ ـ ١١١).

وأمّا أبو بكر فينفق جميع ماله في سبيل الله ويراه النبيّ الأعظم أمنّ الناس عليه في صحبته وماله ، ولم يوجد له مع ذلك كلّه ذكر في الكتاب العزيز ، هذا لما ذا؟ أنت تدري.

والأعجب : أنّ أبا بكر غدا أمنّ الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنفاق أربعة أو خمسة أو ستّة آلاف درهماً ـ إن كانت له ـ ولم يكن عثمان كذلك وقد أنفق أضعاف ما أنفقه أبو بكر ، وبعث إلى رسول الله في غزوة بعشرة آلاف دينار كما جاء في مكذوبة أبي يعلى (٢) فوضعها بين يديه فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّبها ويدعو له بقوله : غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة (٣) ، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها!

وإنّي أرى الأنجح للمدّعي أن يسحب كلامه ويقول : لا أعلم بشيء من ذلك ولا أُثبت شيئاً منه ، وإنّما اختلقه الغلوّ في الفضائل.

ولعلّ الباحث يقف على ما أخرجه الحافظان الحاكم وأبو نعيم ، أو على ما جاء

__________________

(١) راجع ما مرّ في ٢ / ٤٧ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٣. (المؤلف)

(٢) أخرجه بإسناد واهٍ وذكره ابن كثير في تاريخه : ٧ / ٢١٢ [٧ / ٢٣٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٣) هذه الجملة توهن متن الرواية ، وتعرب عن أنّها مكذوبة على رسول الله. (المؤلف)


به البيضاوي والزمخشري ، فيقع ذلك منه موقعاً حسناً ويطالبني المخرج منه ، فإليك البيان :

أمّا الأخيران فقد ذكر البيضاوي في تفسيره (١) (١ / ١٨٥) ، والزمخشري في الكشاف (٢) (١ / ٢٨٦) أنّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية. نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسرّ ، وعشرة بالعلانية.

هذه المرسلة التي لم أعرف قائلها من الصحابة والتابعين ، ولم أقف على عزوها إلى أحد من السلف في كتب القوم إلاّ سعيد بن المسيّب المعروف بانحرافه عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، اختلقتها يد الوضع تجاه ما أخرجه الحفّاظ من نزولها في عليّ أمير المؤمنين ، ومنحت فيها لأبي بكر أربعين ألف دينار لتقريب نزول الآية فيمن أنفق كمّية كبيرة كهذه إلى فهم بسطاء الأمّة دون مُنفق أربعة دراهم ، ذاهلاً عمّا هو المتسالم عليه عند القوم من أخذ أبي بكر يوم هجرته إلى المدينة أربعة أو خمسة أو ستّة آلاف درهم ، وهي جميع ما كان يملكه. والآية المذكورة في سورة البقرة ، وقد أصفقت أئمّة الحديث والتفسير على نزولها بالمدينة في أُوليات الهجرة (٣) ، قال ابن كثير في تفسيره : هكذا قال غير واحد من الأئمّة والعلماء والمفسّرين ، ولا خلاف فيه.

فأنّى لأبي بكر عند نزول الآية الأربعون ألف دينار؟ تصدّق بها أم لم يتصدّق ، ولم يكن يملك إلاّ دريهمات إن صحّ حديثها أيضاً ، وستعرف أنّه لا يصحّ.

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ١ / ١٤١.

(٢) الكشّاف : ١ / ٣١٩.

(٣) تفسير القرطبي : ١ / ١٣٢ [١ / ١٠٧] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٣٥ ، تفسير الخازن : ١ / ٩١ [١ / ١٩] تفسير الشوكاني ١ / ٦١ [١ / ٢٧]. (المؤلف)


وتعقّب السيوطي (١) هذه المرسلة بقوله : خبر أنّ الآية نزلت فيه لم أقف عليه. وكأنّ من ادّعى ذلك فهمه ممّا أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : لمّا قُبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال : أيّها الناس إنّ بعض الطمع فقر ، وإنّ بعض اليأس غنى ، وإنّكم تجمعون مالا تأكلون ، وتؤمّلون ما لا تدركون ، واعلموا أنّ بعضاً من الشحّ شعبة من النفاق ، فأنفقوا خيراً لأنفسكم ، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ الآية الكريمة ، وأنت تعلم أنّها لا دلالة فيها على المدّعى (٢). انتهى.

وجاء مختلق آخر (٣) فروى عن سعيد بن المسيّب مرسلاً من الطرفين أنّ الآية المذكورة نزلت في عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة يوم غزوة تبوك.

وذكره الرازي في تفسيره (٤) (٢ / ٣٤٧) فقال : إنّ التي نزلت في عثمان لإنفاقه جيش العسرة هي قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) الآية.

وقد أعمى الحبّ بصائر القوم ، فحرّفوا الكلم عن مواضعه ، وقالوا في كتاب الله ما زيّن لهم الشيطان ، خفي على المغفّلين أنّ الآيتين من سورة البقرة آية (٢٦٢ و ٢٧٤) ، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة المشرّفة كما قاله المفسّرون (٥) ، وقد نزلت قبل

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٢ / ١٠١.

(٢) راجع تفسير الآلوسي : ٣ / ٤٨. (المؤلف)

(٣) راجع تفسير الشوكاني : ١ / ٢٦٥ [١ / ٢٩٤] ، تفسير الآلوسي : ٣ / ٤٨. (المؤلف)

(٤) التفسير الكبير : ٧ / ٤٥.

(٥) راجع تفسير القرطبي : ١ / ١٣٢ [١ / ١٠٧] ، تفسير الخازن : ١ / ١٩ ، تفسير الشوكاني : ١ / ١٦ [١ / ٢٧]. (المؤلف)


غزوة تبوك وجيشها ـ جيش العسرة الواقعة في شهر رجب سنة تسع ـ بعدّة سنين ، فلا يصحّ نزول أيّ من الآيتين في عثمان.

وأمّا ما أخرجه الحافظان :

١ ـ فأخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ٣٣) عن محمد بن أحمد بن محمد الورّاق ، عن إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي ، عن سلمة بن حفص السعدي ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كانت يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مال أبي بكر ويد أبي بكر واحدة حين حجّا.

رجال السند :

(١) محمد بن أحمد الورّاق. كذّبه أبو بكر بن إسحاق قاله الحاكم. لسان الميزان (١) (٥ / ٥١).

(٢) إبراهيم بن عبد الله المخرمي. قال الدارقطني : ليس بثقة حدّث عن الثقات بأحاديث باطلة. لسان الميزان (٢) (١ / ٧٢).

(٣) سلمة بن حفص السعدي ، شيخ كوفيّ. قال ابن حبّان (٣) : كان يضع الحديث. فذكر له حديثاً منكراً. وقال : لا يحلّ الاحتجاج به ولا الرواية عنه. وروى عنه حديثاً فقال : لا أصل له. لسان الميزان (٤) (٣ / ٦٧).

__________________

(١) لسان الميزان : ٥ / ٦٠ رقم ٦٩٥٧.

(٢) لسان الميزان : ١ / ٦٥ رقم ١٩٤.

(٣) كتاب المجروحين : ١ / ٣٣٩.

(٤) لسان الميزان : ٣ / ٨١ رقم ٣٨٣٢.


٢ ـ أخرج الحاكم في المستدرك (١) (٣ / ٥) من طريق أحمد بن عبد الجّبار عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد [بن عبد الله بن الزبير] ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لمّا توجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة ألف أو ستّة ألف (٢) درهم ، فأتاني جدّي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال : إنّ هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه ، فقلت : كلاّ يا أبتِ قد ترك لنا خيراً كثيراً ، فعمدت إلى أحجار فجعلتهنّ في كوّة البيت ، وكان أبو بكر يجعل أمواله فيها وغطّيت على الأحجار بثوب ، ثمّ جئت فأخذت بيده فوضعتها على الثوب فقال : أمّا إذا ترك هذا فنعم. قالت : وو الله ما ترك قليلاً ولا كثيراً.

رجال السند :

(١) أحمد بن عبد الجبّار أبو عمر الكوفي. قال ابن أبي حاتم (٣) : كتبت عنه وأمسكت عن الرواية عنه لكثرة كلام الناس فيه ، وقال مطين : كان يكذب. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقويّ عندهم تركه ابن عقدة. وقال ابن عدي (٤) : رأيت أهل العراق مجمعين على ضعفه ، وكان ابن عقدة لا يحدّث عنه. وكان أحمد يلعب بالحمام الهدّى (٥).

(٢) محمد بن إسحاق. أسلفنا في الجزء السابع صفحة (٣١٩) كلمات الحفّاظ فيه وأنّه كذّاب دجّال مدلّس لا يحتجّ به.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦ ح ٤٢٦٧.

(٢) كذا في الموضعين والصحيح : آلاف ، كما في جميع المصادر. (المؤلف)

(٣) الجرح والتعديل : ٢ / ٦٢ رقم ٩٩.

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ١٩١ رقم ٣٠.

(٥) تاريخ الخطيب : ٤ / ٢٦٣ [رقم ٢٠٠٤] ، تهذيب التهذيب : ١ / ٥١ [١ / ٤٤]. (المؤلف)


(٣) أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٣٢) من طريق هشام بن سعد ، عن زيد بن أرقم ، عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يقول : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نتصدّق ووافق ذلك مال عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ، قال : فجئت بنصف مالي قال : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أبقيت لأهلك؟ قال : فقلت : مثله ، وأتى أبو بكر بكلّ ما عنده. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أبقيت لأهلك؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله. قلت : لا أُسابقك إلى شيء أبداً.

ورواه من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر.

كفى الإسناد ضعفاً هشام بن سعد أبو عباد المدني. كان يحيى بن سعد لا يروي عنه.

وعن أحمد (١) قال : ليس هو محكم الحديث. وقال حرب : لم يرضه أحمد. وقال ابن معين (٢) : ضعيف ، ليس بذاك القوي ، ليس بشيء حديثه مختلط. وقال أبو حاتم (٣) : يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي (٤) : ضعيف. وقال مرّة : ليس بالقويّ. وقال ابن سعد (٥) : كثير الحديث يستضعف وكان متشيّعاً. وقال ابن المديني : صالح وليس بالقويّ. وقال الخليلي : أنكر الحفّاظ حديثه في المواقع. وذكره ابن سفيان في الضعفاء (٦).

وأمّا عبد الله بن عمر العمري فقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد : كان يزيد في الأسانيد ويخالف ، وكان رجلاً صالحاً. وقال ابن المديني : ضعيف. وعن يحيى ابن سعيد : لا يحدّث عنه. وقال صالح جزرة : ليّن مختلط الحديث. وقال

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٥٠٧ رقم ٣٣٤٣.

(٢) التاريخ : ٣ / ١٩٥ رقم ٨٩٣ ، معرفة الرجال : ١ / ٧٠ رقم ١٥٨.

(٣) الجرح والتعديل : ٩ / ٦١ رقم ٢٤١.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٤٢ رقم ٦٤٠.

(٥) الطبقات الكبرى ـ القسم المتمم ـ : ص ٤٤٥ رقم ٣٧٤.

(٦) تهذيب التهذيب : ١١ / ٤٠ [١١ / ٣٧]. (المؤلف)


النسائي (١) : ضعيف الحديث. وقال ابن سعد (٢) : كثير الحديث. وقال أبو حاتم (٣) : يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال ابن حبّان (٤) : كان ممّن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحقّ الترك. وقال البخاري (٥) : كان يحيى بن سعيد يضعّفه. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقويّ عندهم. وقال ابن شيبة : يزيد في الأسانيد كثيراً (٦).

وأمّا زيد بن أرقم فالصحيح : زيد بن أسلم مولى عمر ففي النسخة تصحيف.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا)

(وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٧)

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٦ رقم ٣٤١.

(٢) الطبقات الكبرى ـ القسم المتمم ـ : ص ٣٦٧ رقم ٢٨٨.

(٣) الجرح والتعديل : ٥ / ١٠٩ رقم ٤٩٩.

(٤) كتاب المجروحين : ٢ / ٦.

(٥) التاريخ الكبير : ٥ / ١٤٥ رقم ٤٤١.

(٦) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٢٧ [٥ / ٢٨٥]. (المؤلف)

(٧) القصص : ٥١ ، ٥٥.


الغلوّ في فضائل عمر

قدّمنا في الجزء السادس من نفسيّات الخليفة الثاني وملكاته من فقهه وعلمه وخطواته الواسعة في شتّى النواحي ما يوقفك على أنّ كلّ ما نسرد هاهنا من ولائد الغلوّ في الفضائل ، وقد التمط (١)

بحياته الروحيّة ، من أوّل يومه إلى أن تسنّم عرش الخلافة بإدلاء من الخليفة الأوّل إليه ، حصوله على لماظة من العيش يقتات بها.

كان ردحاً من الزمن يرعى الإبل في وادي ضجنان (٢) يُرعب ويُتعب إذا عمل ، ويُضرب إذا قصر (٣).

وآونة كان يحتطب ويحمل فوق رأسه حزمة من الحطب مع أبيه الخطّاب وما منهما إلاّ في نمرة (٤) لا تبلغ رسغيه (٥).

__________________

(١) الالتماط بالشيء : الذهاب به.

(٢) جبل بناحية مكّة. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : ٢ / ٤٢٨ [القسم الثالث / ١١٥٧ رقم ١٨٧٨] ، الرياض النضرة : ٢ / ٥٠ [٢ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥] ، تاريخ أبي الفدا : ١ / ١٦٥ ، الخلفاء للنجّار : ص ١١٣ ، وأوعز إلى حديثه ابن منظور في لسان العرب : ١٧ / ١١٢ [٨ / ٢٤] ، والزبيدي في تاج العروس : ٩ / ٢٦٣. (المؤلف)

(٤) النمرة في القاموس [ص ٦٢٧] : بردة من صوف تلبسها الأعراب. وفي الفائق للزمخشري [٤ / ٢٧] : بردة تلبسها الإماء فيها تخطيط. (المؤلف)

(٥) الرسغ : مفصل ما بين الساعد والكف ، والساق والقدم. (المؤلف)


وكان مدّة يقف في سوق عكاظ وبيده عصا ترعُّ الصبيان (١) به ، وكان يوم ذاك يُسمّى عميراً (٢).

وكان برهة من أيّام إسلامه يمتهن بالبرطشة (٣) ، وكان مبرطشاً يلهيه عن أخذ الكتاب والسنّة الصفق بالأسواق (٤).

وكان دهراً يبيع الخيط والقرظة بالبقيع (٥).

أنا لا أدري في أيّ من أيّامه هذه حصل على جدارة لما يخبرنا به ابن الجوزي في سيرة عمر (٦) (ص ٦) : من أنّه كانت السفارة ـ في الجاهليّة ـ إلى عمر بن الخطّاب إن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً؟ وزاد عليه أبو عمر في الاستيعاب (٧) قوله : وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافراً ومفاخراً (٨).

أوَكانت قريش كلّهم من هذه الطبقة الواطئة؟ فكانوا يبعثون للسفارة والمفاخرة غلاماً هذا شأنه؟ وفيهم الصناديد والعظماء والرؤساء وذوو العارضة ورجال الكلام.

__________________

(١) كذا في الإصابة ، والرعُّ : السكون ومعنى : تُرعّ الصبيان به ، تُسكّت الصبيان به. وفي الاستيعاب : ترعى الضأن.

(٢) الاستيعاب [القسم الرابع / ١٨٣١ رقم ٣٣٢٠] هامش الإصابة : ٤ / ٢٩١ ، الإصابة : ٤ / ٢٩٠ [رقم ٣٦١] ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٤١٣ [٢ / ٢٧٢] وفيه تحريف نلفت إليه الأنظار. (المؤلف)

(٣) المبرطش : الذي يكتري للناس الإبل والحمير ويأخذ على ذلك جُعْلاً.

(٤) مرّ تفصيله في الجزء السادس : ص ١٤٦ ، ٢٨٧ ، ٣٠٢ الطبعة الأولى [٢٢٣ ، ٤٢٩ ، ٤٣٣]. (المؤلف)

(٥) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس : ص ٣٠٣. (المؤلف)

(٦) سيرة عمر : ص ٩ باب ٥.

(٧) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٤٥ رقم ١٨٧٨.

(٨) وذكر ابن عساكر ما رواه أبو عمر وابن الجوزي في تاريخه : ٦ / ٤٣٢ [المنتظم : ٢٤ / ١١٨ رقم ٢٨٨٣]. (المؤلف)


أم كانوا لا يبالون بمن يرسلونه؟ ـ والرسول دليل عقل المرسل ـ لم يكن هذا ولا ذاك ولكن الحبّ يُعمي ويصمّ ، وإنّك تجد من نظائر هذه شيئاً كثيراً ، وإليك جملة منه مضافاً على ما مرّ في الجزء الخامس ممّا وضعته يد الغلوّ في فضائله :

ـ ١ ـ

كلمات في علم عمر

[١ ـ] ورد في علمه عن ابن مسعود : لو وضع علم أحياء العرب في كفّة ميزان ووضع علم عمر في كفّة لرجح علم عمر ، ولقد كانوا يرون أنّه ذهب بتسعة أعشار العلم.

وفي لفظ المحبّ الطبري : لو وُضع علم عمر في كفّة وعلم أهل الأرض في كفّة لرجح علم عمر.

مستدرك الحاكم (٣ / ٨٦) ، الاستيعاب (٢ / ٤٣٠) ، الرياض النضرة (٢ / ٨) ، أعلام الموقّعين لابن القيّم (ص ٦) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٨) ، عمدة القاري (٥ / ٤١٠) (١).

٢ ـ وقال حذيفة : كان علم الناس كلّهم قد درس في حجر عمر مع علم عمر. الاستيعاب (٢) (٢ / ٤٢٠) ، أعلام الموقّعين (ص ٦) (٣).

٣ ـ وقال مسروق : شاممت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستّة : إلى علي ، وعبد الله ، وعمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأُبيّ. ثم شاممت

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٩٢ ح ٤٤٩٧ ، الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٤٩ ـ ١١٥٠ رقم ١٨٧٨ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٤ ، أعلام الموقّعين : ١ / ١٦ ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٤٠.

(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٤٩ رقم ١٨٧٨. وفيه : كان علم الناس كلّهم قد درس في علم عمر.

(٣) وفيه : كأن علم الناس مع علم عمر دُسّ في جحر.


الستّة فوجدت علمهم انتهى إلى عليّ وعبد الله. أعلام الموقّعين (١) (ص ٦).

٤ ـ وقال الشعبي : إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر. أعلام الموقّعين (ص ٦).

٥ ـ وقال ابن المسيّب : ما أعلم أحداً بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم من عمر بن الخطّاب. أعلام الموقّعين (٢) (ص ٧).

٦ ـ وقال بعض التابعين : دفعت إلى عمر ، فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. أعلام الموقّعين (٣) (ص ٧).

٧ ـ وقال خلد الأسدي : صحبت عمر فما رأيت أحداً أفقه في دين الله ولا أعلم بكتاب الله ولا أحسن مدارسة منه. الرياض النضرة (٤) (٢ / ٨).

هاهنا لا نطيل القول وإنّما نحيلك إلى الجزء السادس من هذا الكتاب من صفحة (٨٣ ـ ٣٢٥) فإنّ هنالك ما يغني الباحث عن الإسهاب في المقام ، وأنت أيّها المخبت إلى هذه الأقاويل هل علمت شيئاً ممّا قدّمناه؟ ودريت فذلكة ذلك البحث الضافي أو لا؟

فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ

وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ

وأنت جدّ عليم بأنّ هذه التقوّلات لا تلائم ما حفظه التاريخ من نوادر الأثر في علم عمر ، والحريّ هو الأخذ بما مرّ من أقواله نفسه في علمه (٦ / ٣٢٨) وبها تتضح جليّة الحال ، والإنسان على نفسه بصيرة.

__________________

(١) أعلام الموقّعين : ١ / ١٦.

(٢) أعلام الموقّعين : ١ / ٢٠.

(٣) أعلام الموقّعين : ١ / ٢٠.

(٤) الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٤.


ـ ٢ ـ

عمر أقرأ الصحابة وأفقههم

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : أُمرت أن أقرأ القرآن على عمر ، ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأُصول (١) (ص ٥٨).

وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : كان عمر أتقانا للربّ ، وأقرأنا الكتاب الله. أخرجه الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٨٦).

وذكر المحبّ الطبري نقلاً عن عليّ بن حرب الطائي من طريق ابن مسعود أنّه قال لزيد بن وهب : إقرأ بما أقرأكه عمر ، إنّ عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله (٣).

هذه مراسيل مقطوعة عن الإسناد ، وأنصف الحاكم إذ سكت عن إسناد ما أخرجه أو أنّه لم يقف عليه فيصحّحه ، وسكت عنه الذهبي للعلّة نفسها ، وأحسب أنّ بطلان هذه الروايات في غنىً عن إبطال إسنادها ، فإنّ العناية الالهية لو شملت الخليفة بحيث أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقراءة القرآن عليه ، لا بدّ وأن تشمله بالتمكّن من تلقيّه وضبطه وحفظه وفقهه والوقوف على مغازيه والعمل به ، وأن يكون أقرأ كما في رواية الحاكم ، أو أعلم وأفقه كما في رواية الطائي ، إذن فما تلكم الجهود المتعبة في تعلّم سورة البقرة فحسب طيلة اثنتي عشرة سنة؟ كما مرّ في الجزء السادس (ص ١٩٦).

وما هاتيك الأحكام الشاذّة عن موارد من القرآن الكريم؟ :

__________________

(١) نوادر الأصول : ١ / ١٤٢ الأصل ٤٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٩٢ ح ٤٤٩٨.

(٣) الرياض النضرة : ٢ / ٨ [٢ / ٢٧٤]. (المؤلف)


١ ـ كحكمه للجنب الفاقد للماء بترك الصلاة ، ذاهلاً عن قوله تعالى في سورة النساء (٤٣) ، وفي سورة المائدة (٦).

٢ ـ وحكمه على امرأة ولدت لستة أشهر بالرجم ، ونصب عينه الآية الكريمة (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢).

٣ ـ ونهيه عن المغالاة في مهور النساء وبين يديه قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) (٣).

٤ ـ وجهله بمعنى الأبّ وهو يتلو : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٤).

٥ ـ وحسبانه أنّ الحجر الأسعد لا يضرّ ولا ينفع جهلاً بمغزى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) (٥) الآية.

٦ ـ ونهيه عن الطيّبات في الحياة الدنيا تمسّكاً بقوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (٦) ذاهلاً عمّا قبله ، غير ملتفت إلى الآية الأخرى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (٧) الآية.

٧ ـ وجهله بمعاريض الكلم المتّخذة من الكتاب.

٨ ـ وأمره برجم الزانية المضطرّة ، وفي الذكر الحكيم : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا

__________________

(١) الأحقاف : ١٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) النساء : ٢٠.

(٤) النازعات : ٣٣.

(٥) الأعراف : ١٧٢.

(٦) الأحقاف : ٢٠.

(٧) الأعراف : ٣٢.


عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١).

٩ ـ وتجسّسه عن صوت ارتاب به ، فتسلّق الحائط ودخل البيت ولم يسلّم ، غير مكترث لآيات ثلاث : (وَلا تَجَسَّسُوا) (٢) (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (٣) (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا) (٤).

١٠ ـ وجهله بالكلالة ، وبمسمع منه آية الصيف.

١١ ـ وقوله بتعذيب الميت ببكاء الحيّ كأنّه لم يقرأ قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٥).

١٢ ـ وقوله الشاذّ في الطلاق قصوراً منه عن فهم قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (٦).

١٣ ـ ونهيه عن متعة الحجّ وهو يتلو قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٧).

١٤ ـ وتحريمه متعة النساء ذهولاً منه عن قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (٨) الآية.

تجد تفاصيل هذه الجمل في نوادر الأثر من الجزء السادس من كتابنا هذا ، وهناك موارد كثيرة من القرآن ، لم يهتدِ إليها ، وتجد جملة منها في طيّات أجزاء كتابنا هذا.

__________________

(١) البقرة : ١٧٣.

(٢) الحجرات : ١٢.

(٣) البقرة : ١٨٩.

(٤) النور : ٦١.

(٥) الأنعام : ١٦٤.

(٦) البقرة : ٢٢٩.

(٧) البقرة : ١٩٦.

(٨) النساء : ٢٤.


فهل من السائغ في شريعة الحجى أن يكون الأقرأ والأعلم والأفقه بهذه المثابة من الابتعاد عن الآي الشريفة ، ومراميها الكريمة؟ ولو كان كما زعموه فما قوله في خطبته الصحيحة الثابتة له بإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت؟ راجع (٦ / ١٩١).

ـ ٣ ـ

الشيطان يخاف ويفرّ من عمر

١ ـ عن بريدة : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إنّي كنت نذرت إن ردّك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلاّ فلا. فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت استها ثمّ قعدت عليها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إنّي كنت جالساً وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، فلمّا دخلت أنت يا عمر ألقت الدفّ!

وفي لفظ أحمد : إنّ الشيطان ليفرَق منك يا عمر.

وعن جابر قال : دخل أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يُضرب بالدفّ عنده ، فقعد ولم يزجر لما رأى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء عمر رضى الله عنه فلمّا سمع رسول الله صوته كفّ عن ذلك ، فلمّا خرجا قالت عائشة رضى الله عنها : يا رسول الله كان حلالاً فلمّا دخل عمر صار حراماً؟ فقال عليه‌السلام : يا عائشة ليس كلّ الناس مُرخىً عليه.


أخرجه (١) : أحمد في مسنده (٥ / ٣٥٣) ، والترمذي في جامعه (٢ / ٢٩٣) فقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص ٥٨) من طريق بريدة ، و (ص ١٣٨) من حديث جابر ، فقال في الموضع الأوّل : فلا يظنّ ذو عقل أنّ عمر في هذا أفضل من أبي بكر ، وأبو بكر شبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع الأمرين والدرجتين ، فله درجة النبوّة لا يلحقه أحد ، وأبو بكر له درجة الرحمة ، وعمر له درجة الحقّ.

ورواه البيهقي في سننه (١٠ / ٧٧) ، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح (ص ٥٥٠) ، وابن الأثير في أُسد الغابة (٤ / ٦٤) ، والشوكاني في نيل الأوطار (٨ / ٢٧١).

٢ ـ عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا حبشيّة تزفن ـ أي ترقص ـ والصبيان حولها ، فقال : يا عائشة تعالي فانظري ، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه ، فقال لي : أما شبعت؟ أما شبعت؟ فجعلت أقول : لا لأنظر منزلتي عنده ، إذ طلع عمر فارفضّ الناس عنها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأنظر شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر ، قالت : فرجعتُ.

أخرجه (٢) : الترمذي في صحيحه (٢ / ٢٩٤) فقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، والبغوي في مصابيح السنّة (٢ / ٢٧١) ، والخطيب العمري التبريزي في مشكاة المصابيح (ص ٥٥٠) ، والمحبّ الطبري في الرياض (٢ / ٢٠٨).

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٨٥ ح ٢٢٤٨٠ ، سنن الترمذي : ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩٠ ، مشكاة المصابيح : ٣ / ٣٤٣ ح ٦٠٤٨ ، نوادر الأصول : ١ / ١٤٣ ـ ١٤٤ الأصل ٤٣ ، ص ٢٩٨ الأصل ١٠٠ ، أُسد الغابة : ٤ / ١٦١ رقم ٣٨٢٤ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٩.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩١ ، مصابيح السنة : ٤ / ١٥٩ ح ٤٧٣٧ ، مشكاة المصابيح : ٣ / ٣٤٣ ح ٦٠٤٩ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٥٥.


٣ ـ أخرج أحمد في مسنده (١) (٢ / ٢٠٨) من حديث أبي هريرة قال : بينا الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحرابهم ، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهم يا عمر.

وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده (ص ٢٠٤) من حديث عائشة قال : كانت الحبشة يدخلون المسجد ، فجعلوا يلعبون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسترني وأنا أنظر إليهم جارية حديثة السن ، فجاء عمر فنهاهنّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهنّ يا عمر. ثمّ قال : هنّ بنات أرفدة.

٤ ـ روى أبو نصر الطوسي في اللمع (٢) (ص ٢٧٤) : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل بيت عائشة ، فوجد فيه جاريتين تغنّيان وتضربان بالدفّ فلم ينههما عن ذلك ، وقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه حين غضب : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهما يا عمر ؛ فإنّ لكلّ قوم عيداً.

قال الأميني : لا حاجة لنا إلى البحث عن إسناد هذه الروايات فإنّ في متونها من الخزاية ما فيه غنى عن ذلك. فدع الترمذي يستحسن إسناد ما رواه ويصحّحه ، ودع الحفّاظ يملؤون عياب علمهم بعيوب مثلها ، ودع شاعر النيل يتّبع من لا خلاق له من الحفّاظ ويعدّها من فضائل عمر ، ويقول تحت عنوان : مثال من هيبته :

في الجاهليّةِ والإسلام هيبتهُ

تثني الخطوبَ فلا تعدو عواديها

في طيّ شدّتِهِ أسرارُ مرحمةٍ

للعالمين ولكن ليس يُفشيها

وبين جنبيه في أوفى صرامتِهِ

فؤادُ والدةٍ ترعى ذراريها

أغنت عن الصارمِ المصقولِ دِرَّتُه

فكم أخافتْ غويّ النفس عاتيها

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٥٩٤ ح ٨٠١٩.

(٢) اللمع : ص ٣٤٥ رقم ١٥٣.


كانت له كعصا موسى لصاحبها

لا ينزل البُطْلُ مجتازاً بواديها (١)

أخاف حتى الذراري في ملاعبها

وراع حتى الغواني في ملاهيها

أَرَيْتَ تلك التي لله قد نذرت

أُنشودةً لرسول الله تهديها (٢)

قالت نذرتُ لَئن عاد النبيّ لنا

من غزوه لعَلى دُفّي أُغنّيها

ويمّمت حضرةَ الهادي وقد ملأت

أنوارُ طلعتِه أرجاءَ واديها

واستأذنت ومشت بالدُّفّ واندفعتْ

تشجي بألحانِها ما شاء مشجيها (٣)

والمصطفى وأبو بكرٍ بجانبه

لا ينكران عليها من أغانيها

حتى إذا لاح عن بُعدٍ لها عمرٌ

خارت قواها وكاد الخوف يُرديها

وخبّأت دُفَّها في ثوبِها فَرَقاً

منه وودّت لو انّ الأرضَ تطويها

قد كان علمُ رسولِ الله يؤنسُها

فجاءَبطشُ أبي حفصٍ يخشّيها

فقال مهبطُ وحيِ اللهِ مبتسماً

وفي ابتسامته معنىً يواسيها

قد فرّ شيطانُها لمّا رأى عمراً

إنَّ الشياطينَ تخشى بأس مخزيها (٤)

لقد عزب عن المساكين أنّ ما تحرّوه من إثبات فضيلة للخليفة الثاني يجلب الفضائح إلى ساحة النبوّة ـ تقدّست عنها ـ فأيّ نبيّ هذا يروقه النظر إلى الراقصات والاستماع لأهازيجهنّ وشهود المعازف ، ولا يقنعه ذلك كلّه حتى يُطلع عليها حليلته عائشة ، والناس ينظر إليهما من كثَب ، وهو يقول لها : شبعتِ شبعتِ؟ وهي تقول : لا. لعرفان منزلتها عنده ولا تزعه أُبّهة النبوّة عن أن يقف مع الصبيان للتطلّع على مشاهد اللهو شأن الذنابى والأوباش وأهل الخلاعة والمجون ، وقد جاءت شريعته

__________________

(١) البُطْل : الباطل.

(٢) أريت : أي أرأيت.

(٣) تشجى : تثير الشعور وتشوق. (المؤلف)

(٤) هذه الأبيات من العمرية الشهيرة لشاعر النيل محمد حافظ إبراهيم [ديوان حافظ إبراهيم : ١ / ٩٤] ، وقد مرّ الإيعاز إليها في الجزء السابع : ص ٨٦ ، ٨٧. (المؤلف)


المقدّسة بتحريم كلّ ذلك بالكتاب والسنّة الشريفة.

[١ ـ] هذا قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١).

وقد جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من حديث أبي أُمامة : «لا تبيعوا القينات ، ولا تشروهنّ ولا تعلّموهنّ ولا خير في تجارة فيهنّ ، وثمنهنّ حرام» في مثل هذا أُنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي) الآية.

وفي لفظ الطبري والبغوي : «لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ ، وأثمانهنّ حرام» وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية.

أخرجه (٢) : سعيد بن منصور ، أحمد ، الترمذي ، ابن ماجة ، ابن جرير ، ابن المنذر ، ابن أبي حاتم ، ابن أبي شببة ، ابن مردويه ، الطبراني ، البيهقي ، ابن أبي الدنيا. وغيرهم. راجع تفسير الطبري (٢١ / ٣٩) ، تفسير القرطبي (١٤ / ٥١) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٣٤٧) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٤٤٢) ، تفسير الخازن (٣ / ٣٦) ، إرشاد الساري (٩ / ١٦٣) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٨) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٣) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٨).

وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه من طريق عائشة مرفوعاً : «إن الله تعالى

__________________

(١) لقمان : ٦.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٣٣٥ ح ٢١٦٦٥ ، ص ٣٥٤ ح ٢١٧٧٧ ، ص ٣٤٣ ح ٢١٧١٥ ، ص ٣٦٠ ح ٢١٨٠٤ ، سنن الترمذي : ٣ / ٥٧٩ ح ١٢٨٢ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٣٣ ح ٢١٦٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ٦ / ٣٠٩ ح ١١٧١ ، المعجم الكبير : ٨ / ١٨٠ ح ٧٧٤٩ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٦ / ١٤ ، جامع البيان : مج ١١ / ج ٢١ / ٦٠ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٦ ، تلبيس ابليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٣٨ ، إرشاد الساري : ١٣ / ٣٥٠ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٤ ، فتح القدير : ٤ / ٢٣٦ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٢.


حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» ثمّ قرأ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٨) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٨).

وعن ابن مسعود أنّه سُئل عن قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).

قال : هو والله الغناء. وفي لفظ : هو الغناء والله الذي لا إله إلاّ هو ، يردّدها ثلاث مرّات. وعن جابر في الآية قال : هو الغناء والاستماع له. ومعنى يشتري يستبدل ، كما في قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (١) أي استبدلوه منه واختاروه عليه ، وقال مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه. وقال قتادة : سماعه شراؤه.

وبالغناء فسّر لهو الحديث في الآية الشريفة وأنّها نزلت فيه : ابن عبّاس ، وعبد الله بن عمر ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومكحول ، وعمرو بن شعيب ، وميمون بن مهران ، وقتادة ، والنخعي ، وعطاء ، وعليّ بن بذيمة ، والحسن ، كما أخرجه : ابن أبي شيبة ، ابن أبي الدنيا ، ابن جرير ، ابن المنذر ، الحاكم ، البيهقي في شعب الإيمان (٢) ، ابن أبي حاتم ، ابن مردويه ، الفريابي ، ابن عساكر.

راجع (٣) : تفسير الطبري (٢١ / ٣٩ ، ٤١) ، سنن البيهقي (١٠ / ٢٢١ ، ٢٢٣ ، ٢٢٥) ، مستدرك الحاكم (٢ / ٤٤١) ، تفسير القرطبي (١٤ / ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣) ، نقد العلم والعلماء

__________________

(١) البقرة : ١٦.

(٢) شعب الإيمان : ٤ / ٢٧٨ ح ٥٠٩٦.

(٣) جامع البيان : مج ١١ / ج ٢١ / ٦١ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٤٤٥ ح ٣٥٤٢ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٦ ـ ٣٧ ، (نقد العلم والعماء) تلبيس إبليس : ص ٢٣١ ، إرشاد الساري : ١٣ / ٣٥٠ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٣٨ ، تفسير النسفي : ٣ / ٢٧٨ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٤ ، فتح القدير : ٤ / ٢٣٦ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٣.


لابن الجوزي (ص ٢٤٦) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٤٤١ ، ٤٤٢) ، إرشاد الساري للقسطلاني (٩ / ١٦٣) ، تفسير الخازن (٣ / ٤٦٠) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٣ / ٤٦٠) ، تفسير الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩ ، ١٦٠) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٨) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٧) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٣).

٢ ـ ينذر الله تعالى أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتاب العزيز بقوله : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (١) ، قال عكرمة عن ابن عبّاس ، إنّه قال : هو الغناء بلغة حِميَر. يُقال : سمّد لنا. أي غنّ لنا ، ويقال للقينة : اسمدينا. أي : ألهينا بالغناء.

أخرجه : سعيد بن منصور ، عبد بن حميد ، ابن جرير ، عبد الرزّاق ، الفريابي ، أبو عبيد ، ابن أبي الدنيا ، البزّار ، ابن المنذر ، ابن أبي حاتم ، البيهقي.

راجع (٢) : تفسير الطبري (٢٨ / ٤٨) ، تفسير القرطبي (١٧ / ١٢٢) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٤٦) ، نهاية ابن الأثير (٢ / ١٩٥) ، الفائق للزمخشري (١ / ٣٠٥) ، تفسير ابن كثير (٤ / ٢٦٠) ، تفسير الخازن (٤ / ٢١٢) ، الدرّ المنثور (٦ / ١٣٢) ، تاج العروس (٢ / ٣٨١) ، تفسير الشوكاني (٥ / ١١٥) ، تفسير الآلوسي (٢٧ / ٧٢) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٣).

٣ ـ وفي خطاب الله العزيز قوله تعالى لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (٣).

__________________

(١) النجم : ٦١.

(٢) جامع البيان : مج ١٣ / ج ٢٧ / ٨٢ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٧ / ٨٠ ، تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣١ ، النهاية لابن الأثير : : ٢ / ٣٩٨ ، الفائق للزمخشري : ٢ / ١٩٩ ، تفسير الخازن : ٤ / ٢٠١ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٦٦٧ ، فتح القدير : ٥ / ١١٨.

(٣) الإسراء : ٦٤.


قال ابن عبّاس ومجاهد : إنّه الغناء والمزامير واللهو (١). كما في تفسير الطبري (١٥ / ٨١) ، تفسير القرطبي (١٠ / ٢٨٨) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٤٧) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٤٩) ، تفسير الخازن (٣ / ١٧٨) ، تفسير النسفي (٣ / ١٧٨) ، تفسير ابن جزي الكلبي (٢ / ١٧٥) ، تفسير الشوكاني (٣ / ٢٣٣) ، تفسير الآلوسي (١٥ / ١١١).

الغناء والمعازف في السنّة

[١ ـ] قد جاء في السنّة الشريفة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلاّ بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت».

وفي لفظ ابن أبي الدنيا وابن مردويه : «ما رفع أحد صوته بغناء إلاّ بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك».

راجع (٢) : تفسير القرطبي (١٤ / ٥٣) ، تفسير الزمخشري (٢ / ٤١١) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٤٨) ، تفسير الخازن (٣ / ٤٦٠) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٣ / ٤٦٠) ، إرشاد الساري (٩ / ١٦٤) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٨) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٨).

٢ ـ عن عبد الرحمن بن عوف : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجوه ، وشقّ جيوب ، ورنّة شيطان».

__________________

(١) جامع البيان : مج ٩ / ج ١٥ / ١١٨ ، ١٠ / ١٨٧ ، الجامع لأحكام القرآن : تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٢ ، تفسير الخازن : ٣ / ١٧٠ ، تفسير النسفي : ٢ / ٣٢٠ ، فتح القدير : ٣ / ٢٤١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧ ، الكشّاف : ٣ / ٤٩٠ و ٤٩١ ، تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٢ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٣٨ ، تفسير النسفي : ٣ / ٢٧٨ ، إرشاد الساري : ١٣ / ٣٥١ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٦ ، فتح القدير : ٤ / ٢٣٦.


وفي لفظ الترمذي (١) وغيره (٢) من حديث أنس مرفوعاً : «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنّة شيطان عند نغمة ومرح ، ورنّة عند مصيبة ، لطم خدود ، وشقّ جيوب».

تفسير القرطبي (١٤ / ٥٣) ، نقد العلم والعلماء (ص ٢٤٨) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٦٠) ، كنز العمّال (٧ / ٣٣٣) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٩) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٨) (٣).

٣ ـ عن عمر بن الخطّاب مرفوعاً : «ثمن القينة سحت ، وغناؤها حرام ، والنظر إليها حرام ، وثمنها من ثمن الكلب وثمن الكلب سحت».

أخرجه (٤) الطبراني كما في إرشاد الساري للقسطلاني (٩ / ١٦٣) ونيل الأوطار للشوكاني (٨ / ٢٦٤).

٤ ـ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيّين» فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال : «قرّاء أهل الجنّة».

أخرجه (٥) : الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والقرطبي في تفسيره (١٤ / ٥٤)

٥ ـ مرفوعاً : «ليكوننّ في أُمّتي قوم يستحلّون الخزّ والخمر والمعازف» (٦).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٣ / ٣٢٨ ح ١٠٠٥.

(٢) أنظر : شرح معاني الآثار : ٤ / ٢٩٣ ح ٦٩٧٥ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٣ / ١٧٥ ح ٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧ ، تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٣ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٧ ، كنز العمّال : ١٥ / ٢١٩ ح ٤٠٦٦١ ، فتح القدير : ٤ / ٢٣٦ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٧.

(٤) المعجم الكبير : ١ / ٧٣ ح ٨٧ ، إرشاد الساري : ١٣ / ٣٥١ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٣.

(٥) نوادر الأصول : ١ / ٣٣٣ الأصل ١٢١ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧.

(٦) في حواشي الدمياطي : المعازف : الدفوف وغيرها ممّا يضرب به. ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب. نيل الأوطار : ٨ / ٢٦١ [٨ / ١٠٩]. (المؤلف)


أخرجه (١) : أحمد ، وابن ماجة ، وأبو نعيم ، وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها ، وصحّحه جماعة آخرون من الأئمّة ، كما قاله بعض الحفّاظ. قاله الآلوسي في تفسيره (٢١ / ٧٦) ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ / ٢٢١) فقال : أخرجه البخاري في الصحيح.

٦ ـ عن ابن عبّاس وأنس وأبي أمامة مرفوعاً : «ليكونن في هذه الأمّة خسف وقذف ومسخ ، وذلك إذا شربوا الخمور ، واتّخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف».

أخرجه (٢) : ابن أبي الدنيا ، وأحمد ، والطبراني ، كما في الدرّ المنثور (٢ / ٣٢٤) وتفسير الآلوسي (٢١ / ٧٦).

٧ ـ عن عبد الله بن عمر ـ عمرو ـ قال : إنّ قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٣) هي في التوراة : إنّ الله أنزل الحقّ ليذهب به الباطل ، ويبطل به اللعب ، والزفن ، والمزامير ، والكبارات يعني البرابط ، والزمارات يعني الدف ، والطنابير.

أخرجه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في سننه (١٠ / ٢٢٢) ، وراجع تفسير ابن كثير (٢ / ٩٦) ، والدرّ المنثور (٤) (٢ / ٣١٧).

٨ ـ عن أنس وأبي أمامة مرفوعاً : «بعثني الله رحمة وهدى للعالمين ؛ وبعثني بمحق المعازف والمزامير وأمر الجاهليّة» (٥). كتاب العلم لابن عبد البرّ (١ / ١٥٣) ، الدرّ

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٣٣ ح ٤٠٢٠ ، سنن أبي داود : ٤ / ٤٦ ح ٤٠٣٩ ، صحيح البخاري : ٥ / ٢١٢٣ ح ٥٢٦٨.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٣٤٧ ح ٦٤٨٥ ، المعجم الكبير : ٦ / ١٥٠ ح ٥٨١٠ ، الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٩.

(٣) المائدة : ٩٠.

(٤) الدرّ المنثور : ٣ / ١٦٣.

(٥) جامع بيان العلم : ص ١٨٣ ح ٩٣٧ ، الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٨.


المنثور (٢ / ٣٢٣) ، نيل الأوطار (١) (٨ / ٢٦٢).

٩ ـ عن عليّ مرفوعاً : «تمسخ طائفة من أُمّتي قردة ، وطائفة خنازير ، ويُخسف بطائفة ، ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنّهم شربوا الخمر ، ولبسوا الحرير ، واتّخذوا القيان ، وضربوا بالدفوف». الدرّ المنثور (٢) (٢ / ٣٢٤).

١٠ ـ عن أبى هريرة مرفوعاً : «يُمسخ قوم من هذه الأُمّة في آخر الزمان قردةً وخنازير» قالوا : يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله؟ قال : «بلى ويصومون ويصلّون ويحجّون» ، قالوا : فما بالهم؟ قال : «اتّخذوا المعازف والدفوف والقينات ، وباتوا على شربهم ولهوهم ، فأصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير».

وقريب من هذا حديث عبد الرحمن بن سابط ، والغازي بن ربيعة ، وصالح بن خالد ، وأنس بن مالك ، وأبو أمامة ، وعمران بن حصين.

أخرجها (٣) : ابن أبي الدنيا ، ابن أبي شيبة ، ابن عدي ، الحاكم ، البيهقي ، أبو داود ، ابن ماجة. راجع الدرّ المنثور (٢ / ٣٢٤).

١١ ـ عن أنس بن مالك مرفوعاً : «من جلس إلى قينة يسمع منها صُبّ في أذنه الآنك (٤) يوم القيامة» (٥). تفسير القرطبي (١٤ / ٥٣) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٤).

__________________

(١) نيل الأوطار : ٨ / ١١١.

(٢) الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٩.

(٣) المصنّف : ٧ / ١٠٧ ح ٣٨١٠ ، المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٦٠ ـ ٥٦١ ح ٨٥٧٢ ، السنن الكبرى : ٨ / ٢٩٥ ، سنن أبي داود : ٤ / ٤٦ ح ٤٠٣٩ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٣٣ ح ٤٠٢٠ ، الدرّ المنثور : ٣ / ١٧٩.

(٤) الآنك : الرصاص. (المؤلف)

(٥) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٣.


١٢ ـ عن عائشة مرفوعاً : «من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلّوا عليه». تفسير القرطبي (١) (١٤ / ٥٣).

١٣ ـ أخرج الترمذي (٢) من حديث عليّ مرفوعاً : «إذا فعلت أمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء ـ فذكر منها ـ : إذا اتّخذت القينات والمعازف». وفي لفظ أبي هريرة : «ظهرت القيان والمعازف» (٣).

نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٤٩) ، تفسير القرطبي (ص ١٤ / ٥٣) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٣).

١٤ ـ عن ابن المنكدر : بلغنا أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين عبادي الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أحلّوهم رياض المسك وأخبروهم أنّي قد أحللت عليهم رضواني. تفسير القرطبي (٤) (١٤ / ٥٣).

١٥ ـ عن ابن مسعود : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع رجلاً يتغنّى من الليل فقال : «لا ١٥ ـ صلاة له ، لا صلاة له ، لا صلاة له» نيل الأوطار (٥) (٨ / ٢٦٤).

١٦ ـ قال رسول الله عليه‌السلام يوم فتح مكّة : «إنّما بعثت بكسر الدفّ والمزمار» ، فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها. بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري لأبي محمد بن أبي جمرة الأزدي (٢ / ٧٤).

١٧ ـ في حديث من طريق معاوية : يا أيّها الناس إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن تسع

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٤٢٨ ح ٢٢١٠.

(٣) تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٢.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٧.

(٥) نيل الأوطار : ٨ / ١١٣.


وأنا أنهى عنهنّ. وعدّ منها : الغناء. تاريخ البخاري (٤ قسم ١ / ٢٣٤).

الغناء في المذاهب الأربعة

١ ـ حرّمه إمام الحنفيّة وعدّه وسماعه من الذنوب ، وهذا مذهب مشايخ أهل الكوفة : سفيان ، وحمّاد ، وإبراهيم ، والشعبي ، وعكرمة.

٢ ـ عن مالك إمام المالكية أنّه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى أحد جارية فوجدها مغنّية فله أن يردّها بالعيب. وهو مذهب سائر أهل المدينة إلاّ إبراهيم بن سعد وحده.

وسُئل مالك : ما ترخّص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال : إنّما يفعله عندنا الفسّاق. وسُئل مالك عن الغناء؟ فقال : قال الله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ) (١). أفحقّ هو؟

٣ ـ ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع ، وعن عبد الله ابن الإمام أحمد أنّه قال : سألت أبي عن الغناء. فقال : ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ، ثمّ ذكر قول مالك : إنّما يفعله عندنا الفسّاق.

٤ ـ وصرّح أصحاب الشافعي العارفون بمذهبه بتحريمه ، وأنكروا على من نسب إليه حلّه كالقاضي أبي الطيّب ، وله في ذم الغناء والمنع عنه كتاب مصنّف ، والطبري والشيخ أبي إسحاق في التنبيه.

وقال أبو الطيّب الطبري : أمّا سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإنّ أصحاب الشافعي لا يجوّزونه سواء كانت حرّة أو مملوكة. قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تردّ شهادته ، ثمّ غلّظ القول فيه

__________________

(١) يونس : ٣٢.


فقال : فهي دياثة. وإنّما جعل صاحبها سفيهاً لأنّه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهاً.

وقال ابن الصلاح : هذا السماع حرام بإجماع أهل الحلّ والعقد من المسلمين.

وقال الطبري : أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ، وإنّما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد ، وعبيد الله العنبري.

وسُئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال : أنهاك عنه وأكرهه لك. فقال السائل : أحرام هو؟ قال : أُنظر يا ابن أخي إذا ميّز الله تعالى الحقّ من الباطل في أيّهما يجعل سبحانه الغناء؟ وقال : لعن الله المغنّي والمغنّى له.

وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء : الغناء حرام كالميتة.

وفي كتاب التقريب : إنّ الغناء حرام فعله وسماعه.

وقال النحّاس : ممنوع بالكتاب والسنّة.

وقال القفّال : لا تقبل شهادة المغنّي والرقّاص.

راجع (١) : سنن البيهقي (١٠ / ٢٢٤) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٤٢ ـ ٢٤٦) ، تفسير القرطبي (١٤ / ٥١ ، ٥٢ ، ٥٥ ، ٥٦) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩) ، عمدة القاري للعيني (٥ / ١٦٠) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٨ ، ٦٩).

وفي مفتاح السعادة (٢) (١ / ٣٣٤) : وقد قيل : التلذّذ بالغناء وضرب الملاهي كفر.

قال الأميني : لعلّ القائل أخذ بما أخرجه أبو يعقوب النيسابوري من حديث

__________________

(١) تلبيس إبليس (نقد العلم العلماء) : ص ٢٢٨ ـ ٢٣١ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٦ ـ ٣٩ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٤ ـ ٥٠٧ ، عمدة القاري : ٦ / ٢٧١.

(٢) مفتاح السعادة : ١ / ٣٧٦.


أبي هريرة مرفوعاً : «استماع الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذّذ بها كفر». نيل الأوطار(١) (٨ / ٢٦٤).

وعن إبراهيم بن مسعود : الغناء باطل والباطل في النار. وعنه : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وعنه : إذا ركب الرجل الدابّة ولم يسمّ ردفه شيطان فقال : تغنّه. فإن كان لا يحسن قال : تمنّه (٢).

ومرّ ابن عمر رضى الله عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يغنّي ، قال : ألا لا سمع الله لكم. ومرّ بجارية صغيرة تغنّي فقال : لو ترك الشيطان أحداً لترك هذه.

وقال الضحّاك : الغناء منفدة للمال ، مسخطة للربّ ، مفسدة للقلب.

وقال يزيد بن الوليد الناقص : يا بني أُميّة إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء ، ويزيد في الشهوة ، ويهدم المروءة ، وأنّه لينوب عن الخمر ، ويفعل ما يفعل السكر ، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فجنّبوه النساء فإنّ الغناء داعية الزنا.

وفيما كتب عمر بن عبد العزيز إلى سهل مولاه : بلغني عن الثقات من حملة العلم أنّ حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما ، ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء العشب.

وقيل : الغناء جاسوس القلب ، وسارق المروءة والعقول ، يتغلغل في سويداء القلوب ، ويطّلع على سرائر الأفئدة ، ويدبّ إلى بيت التخييل ، فينشر ما غرز فيها الهوى والشهوة والسخافة والرعونة ، فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار ، وبهاء العقل ، وبهجة الإيمان ، ووقار العلم ، كلامه حكمة ، وسكوته عبرة ، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه ، وذهبت مروءته وبهاؤه ، فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ، ويبدي من أسراره ما كان يكتمه ، وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى

__________________

(١) نيل الأوطار : ٨ / ١١٣.

(٢) الهاء في تغنّه وتمنّه للسكت وليست ضميراً.


 كثرة الكلام والهذيان والاهتزار كأنّه جانّ وربّما صفق بيديه ، ودقّ الأرض برجليه ، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك.

راجع (١) : سنن البيهقي (١٠ / ٢٢٣) ، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي (ص ٢٥٠) ، تفسير الزمخشري (٢ / ٤١١) ، تفسير القرطبي (١٤ / ٥٢) ، إرشاد الساري (٩ / ١٦٤) ، الدرّ المنثور (٥ / ١٥٩ ، ١٦٠) ، كنز العمّال (٧ / ٣٣٣) ، تفسير الخازن (٣ / ٤٦) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٢٢٨) ، نيل الأوطار (٨ / ٢٦٤) ، تفسير الآلوسي (٢١ / ٦٧ ، ٦٨).

نظرة في الأحاديث المعنونة :

هذا شأن الغناء والملاهي ، وتلك ما يؤثر عن نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفمن المعقول إذاً أن تعزى إليه تلك المسامحة المزرية بعصمته ، المسقطة لمحلّه ، المسفّة به إلى هوّة الجهل؟ ثمّ يُحسب أنّ الذي تذمّر منهما وتجهّم أمام الباطل ودحضه هو عمر فحسب دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وما هذا الشيطان الذي كان يفرَقُ (٢)من عمر وما كان يخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

أيّ نبيّ هذا وهو يسمع الملاهي ، وترقص بين يديه الرقّاصة الأجنبيّة ، وتضرب بالدفّ وتغنّي ، أو يوقِف هو حليلته على تلك المواقف المخزية ، ثمّ يقول : «لست من ددٍ ولا الدد (٣) منّي. أو يقول : لست من ددٍ ولا ددٌ منّي. أو يقول : لست من الباطل ولا الباطل منّي» (٤)؟

__________________

(١) تلبيس إبليس (نقد العلم والعلماء) : ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، الكشّاف : ٣ / ٤٩١ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ٣٦ ـ ٣٩ ، إرشاد الساري : ١٣ / ٣٥١ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٥٠٦ ، كنز العمّال : ١٥ / ٢١٩ ح ٤٠٦٥٩ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٣٨ ، فتح القدير : ٤ / ٢٣٦ ، نيل الأوطار : ٨ / ١١٣ ـ ١١٩.

(٢) يفرَق : يخاف.

(٣) الدّد : اللهو واللعب.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب [الأدب المفرد : ص ٢١٦ ح ٨٠٦] ، والبيهقي [في سننه : ١٠ / ٢١٧] ، والخطيب ، وابن عساكر. راجع كنز العمّال : ٧ / ٣٣٣ [١٥ / ٢١٩ ح ٤٠٦٦٤] ، فيض القدير : ٥ / ٢٦٥ [ح ٧٢٤١]. (المؤلف)


أيّ عظيم هذا يرى في بيته غناء الجواري وضربهنّ بالدف ولا ينبس ببنت شفة غير أنّ عمر يغضبه ذلك ويقول : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ أليس هذا النبيّ هو الذي كان إذا سمع مزماراً يضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق؟

قال نافع : سمع عبد الله بن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أُذنيه ونأى عن الطريق وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئاً؟ فقلت : لا ، فرفع إصبعيه من أُذنيه وقال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا (١). أليس ابن عبّاس قال أخذاً بالسنّة الشريفة : الدّفُ حرام ، والمعازف حرام ، والكوبة حرام ، والمزمار حرام؟

ألا تعجب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحبشة تلعب في مسجده الشريف أشرف بقاع الدنيا وتزفن وتغنّي وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحليلته ينظران إليها ، وعمر ينهاهنّ ، ويقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهنّ يا عمر؟

أصحيح ما جاء عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله بعدّة طرق : «جنّبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشراءكم ، وبيعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم»؟

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع رجلاً ينشد ضالّة في المسجد فليقل : لا ردّها الله عليك. فإنّ المساجد لم تبن لهذا»؟ أخرجه (٢) مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي.

وما أخرجه (٣) مسلم والنسائي وابن ماجة عن بريدة : أنّ رجلاً نشد في

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٣٠٤ [٤ / ٢٨١ ح ٤٩٢٤] ، سنن البيهقي : ١٠ / ٢٢٢ ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢٠٦ ، ٢٨٤ [٢٦ / ١٦٩ رقم ٣٠٦٨ ، ٢٧ / ٣٥ رقم ٣١٥٣]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٣٩ ح ٧٩ كتاب المساجد ، سنن أبي داود : ١ / ١٢٨ ح ٤٧٣ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٥٢ ح ٧٦٧ ، سنن الترمذي : ٢ / ١٣٩ ح ٣٢٢.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٣٩ ح ٨٠ ، ص ٤٠ ح ٨١ كتاب المساجد ، السنن الكبرى : ١ / ٢٦٣ ح ٧٩٦ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٥٢ ح ٧٦٥.


المسجد الجمل ،فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وجدت ، إنّما بنيت المساجد لِما بنيت له»؟

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة»؟ أخرجه ابن حبّان في صحيحه (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتّخذوا المساجد طرقاً إلاّ لذكر أو صلاة» (٢)؟

وما ظنّك بنبيّ العصمة يحول المولى سبحانه بينه وبين ما يهمّه من سماع المعازف والمزامير قبل بعثته تشريفاً وتعظيماً لمكانته من القداسة ، ويخلّيه واسع السرب رخيّ البال بعد مبعثه الشريف يسمع غناء الأجنبيّات وهي تزفن (٣)؟ أخرج الحفّاظ بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما هممت بشيء ممّا كان في الجاهليّة يعملون به غير مرّتين ، كلّ ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد ، فإنّي قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها ما يسمر الشباب. فقال : ادخل. فخرجت أُريد ذلك حتى إذا جئت أوّل دار من دور مكّة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير ، فقلت : ما هذا؟ قالوا : فلان ابن فلان تزوّج فلانة ابنة فلان ، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أُذني فنمت فما أيقظني إلاّ مسّ الشمس ، قال : فجئت صاحبي فقال : ما فعلت؟ فقلت : ما صنعت شيئاً ، وأخبرته الخبر. قال : ثمّ قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، فقال : افعل ، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أُذني فو الله ما أيقظني إلاّ مسّ الشمس ، فرجعت إلى صاحبي

__________________

(١) الإحسان في صحيح ابن حبّان : ١٥ / ١٦٢ ح ٦٧٦١.

(٢) جمع هذه الأحاديث وأمثالها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب : ١ / ٨٩ ـ ٩٢ [١ / ١٩٦ ـ ٢٢٥]. (المؤلف)

(٣) الزّفن : الرقص.


فأخبرته الخبر ، ثمّ ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته (١).

قال الماوردي في أعلام النبوّة (٢) (١٤٠) : هذه أحوال عصمته قبل الرسالة ، وصدّه عن دنس الجهالة ، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم ، ومن الأدناس أسلم ، وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل ، ومن الأتقياء البررة إن أغفل ، ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة ، عليّ النظرة ، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص ، وطهّره من الأدناس ، فانتفت عنه تهم الظنون ، وسلم من ازدراء العيون ، ليكون الناس إلى إجابته أسرع ، وإلى الانقياد له أطوع. انتهى.

وإليّ نسائل ذلك الحكيم المتأوّل الذي مرّ كلامه (ص ٦٥) عن أنّه كيف خصّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة ، وأبا بكر بالرحمة ، وعمر بالحقّ ، وحسب أنّه فتح باباً مُرتجاً من المعضلات ، أو أتى بقرني حمار ، أيّ نبوّة تفارق الحقّ؟ وأيّ نبيّ هو أوضع من صاحب الحقّ؟ وأيّ حقٍّ اقتناه عمر لنفسه وعزب عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفانه؟

وهلمّ معي إلى طامّة أُخرى من الزركشي في الإجابة (٣) (ص ٦٧) ، الذي عدّ فيها من خصائص عائشة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتبع رضاها كلعبها باللعب ، ووقوفه في وجهها لتنظر إلى الحبشة يلعبون. فقال : واستنبط العلماء من ذلك أحكاماً كثيرة فما أعظم بركتها! انتهى.

__________________

(١) دلائل النبوّة لأبي نعيم : ١ / ٥٨ [١ / ٢٣٦ ح ١٢٨]. أعلام النبوّة للماوردي : ص ١٤٠ [ص ٢١١ باب ١٩]. تاريخ الطبري : ٢ / ١٩٦ [٢ / ٢٧٩] ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١٤ [١ / ٤٧١] ، عيون الأثر لابن سيّد الناس : ١ / ٤٤ [١ / ٦٥] ، تاريخ ابن كثير : ٢ / ٢٨٧ [٢ / ٣٥٠] ، الخصائص الكبرى : ١ / ٨٨ [١ / ١٤٩] ، السيرة الحلبية : ١ / ١٣٢ [١ / ١٢٢]. (المؤلف)

(٢) أعلام النبوّة : ص ٢١٢ باب ١٩.

(٣) الإجابة : ص ٦٣ باب ١.


أو هل يريد هذا الرجل إثبات مأثرة لعائشة؟ أو ذكر مَزلّة لبعلها؟ وهل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّبع رضاها في المشروع؟ أو كان اتّباعه أعمّ من ذلك؟ ـ معاذ الله ـ وهل من الممكن أن يتّبع رضاها حتى في نقض ما جاء به هو من الشريعة الالهيّة؟ وأيّ حكم يستنبط من مثل هذا المدرك الساقط؟ فمرحباً بالكاتب ، وزهٍ بالعلماء المستنبطين ، وكثّر الله أمثال هذه البركات ـ لاكثّرها.

ثمّ هل النذر يبيح المحظور؟ وفي الحديث الشريف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نذر في معصية ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (٢).

وقال عقبة بن عامر : إنّ أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة وأنّه ذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «مرها فلتركب ولتختمر» (٣).

وعن ابن عبّاس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ برجل بمكة وهو قائم في الشمس فقال : «ما هذا؟» قالوا : نذر أن يصوم ولا يستظلّ إلى الليل ولا يتكلّم ولا يزال

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ١٧ [٣ / ٤٦٢ ح ٨ كتاب النذر] ، سنن أبي داود : ٢ / ٨١ [٣ / ٢٢٨ ح ٣٢٧٤] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٢ [١ / ٦٨٦ ح ٢١٢٤] ، سنن النسائي : ٧ / ١٩ ، ٢٩ [٣ / ١٣٦ ح ٤٧٥٤]. (المؤلف)

(٢) صحيح البخاري : ٩ / ٢٤٥ ، ٢٤٦ [٦ / ٢٤٦٣ ح ٦٣١٨ ، ص ٢٤٦٤ ح ٦٣٢٢] ، صحيح الترمذي : ١ / ٢٨٨ [٤ / ٨٨ ح ١٥٢٦] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٣ [١ / ٦٨٧ ح ٢١٢٦] ، سنن أبي داود : ٢ / ٧٨ [٣ / ٢٣٣ ح ٣٢٨٩] ، سنن النسائي : ٧ / ١٧ [٣ / ١٣٤ ح ٤٧٤٩ ، ٤٧٥٠] ، سنن البيهقي : ١٠ / ٧٥. (المؤلف)

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٤ [١ / ٦٨٩ ح ٢١٣٤] ، سنن النسائي : ٧ / ٢٠ [٣ / ١٣٦ ح ٤٧٥٧] ، صحيح الترمذي : [٤ / ٩٤ ح ١٥٣٦] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٢٧٩ [٤ / ٣٣٥] ، سنن البيهقي : ١٠ / ٨٠. (المؤلف)


قائماً. قال : «ليتكلّم وليستظلّ وليجلس وليتمّ صومه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نذر إلاّ فيما يُبتغى به وجه الله تعالى» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «النذر نذران ، فمن كان نذره في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء ، ومن كان نذره في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه» (٣).

أوَليس من شرط انعقاد النذر على هذا الرجحان في متعلّقه وكونه ممّا يُبتغى به وجه الله ليكون مقرّباً إليه سبحانه زلفى ، فيصحّ للناذر أن يقول : لله عليّ كذا؟ فأيّ رجحان في ضرب المرأة الأجنبيّة الدفّ بين يدي الرجل الأجنبيّ وفي غنائها ورقصها أمامه؟ إلاّ أن يقول القائل : إنّ تلك الجارية أو مسجد النبيّ الأعظم أباحا تلكم المحظورات. أو الغلوّ في الفضائل ـ فضائل الخليفة ـ أباح أن تستساغ.

رأي عمر في الغناء

إن تعجب فعجب أنّ هذه المهازئ تشعر بكراهة عمر للغناء وقد عدّه العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (٤) (٥ / ١٦٠) نقلاً عن كتاب التمهيد لأبي عمر صاحب الاستيعاب ممّن ذهب إلى إباحته في عداد عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر ، ومعاوية ، وعمرو بن العاصي ، والنعمان بن بشير ، وحسّان بن ثابت.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٥ [١ / ٦٩٠ ح ٢١٣٦] ، صحيح البخاري : ٩ / ٢٤٧ [٦ / ٢٤٦٥ ح ٦٣٢٦] ، سنن أبي داود : ٢ / ٧٩ [٣ / ٢٣٥ ح ٣٣٠٠] ، سنن البيهقي : ١٠ / ٧٥. (المؤلف)

(٢) أخرجه أبو داود [في سننه : ٢ / ٢٥٨ ح ٢١٩٢] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٢٨١ [٤ / ٣٣٧] ، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى : ١٠ / ٧٥. (المؤلف)

(٣) أخرجه النسائي [في سننه : ٧ / ٢٩ طبعة دار الكتاب العربي] كما في التيسير : ٤ / ٢٨١ [٤ / ٣٣٨]. (المؤلف)

(٤) عمدة القاري : ٦ / ٢٧٢.


وقال الشوكاني في نيل الأوطار (١) (٨ / ٢٦٦) : قد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين ، فمن الصحابة : عمر. كما رواه ابن عبد البرّ (٢) وغيره ، ثمّ عدّ جمعاً منهم : عثمان ، عبد الرحمن بن عوف ، أبو عبيدة الجرّاح ، سعد بن أبي وقّاص ، عبد الله بن عمر.

وروى المبرّد والبيهقي في المعرفة كما في نيل الأوطار (٣) (٨ / ٢٧٢) عن عمر : أنّه إذا كان داخلاً في بيته ترنّم بالبيت والبيتين. واستدلال الشوكاني بهذا على إباحة الغناء في بعض المواقف يومي إلى أنّ المراد من الترنّم : التغنّي.

وقال ابن منظور في لسان العرب (٤) (١٩ / ٣٧٤) : قد رخّص عمر رضى الله عنه في غناء الأعراب.

ويُعرب عن جليّة الحال حديث خوات بن جبير الصحابي ، قال : خرجنا حجّاجاً مع عمر ، فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجرّاح وعبد الرحمن بن عوف ، فقال القوم : غنّنا من شعر ضرار ، فقال عمر : دعوا أبا عبد الله فليغنّ من بنيّات فؤاده (٥). فما زلت أُغنّيهم حتى كان السحر ، فقال عمر : ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا (٦).

وزاد ابن عساكر في تاريخه (٧) (٧ / ١٦٣) : فقال أبو عبيدة : هلمّ إلى رجل أرجو

__________________

(١) نيل الأوطار : ٨ / ١١٥.

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني / ٤٥٧ رقم ٦٨٦.

(٣) نيل الأوطار : ٨ / ١٢٠.

(٤) لسان العرب : ١٠ / ١٣٥.

(٥) يعني : من شعره.

(٦) سنن البيهقي : ١٠ / ٢٢٤ ، الاستيعاب : ١ / ١٧٠ [القسم الثاني / ٤٥٧ رقم ٦٨٦] ، الإصابة : ١ / ٤٥٧ [رقم ٢٢٩٨] ، كنز العمّال : ٧ / ٣٣٥ [١٥ / ٢٢٨ ح ٤٠٦٩٧]. (المؤلف)

(٧) تاريخ مدينة دمشق : ٢٥ / ٤٨٣ رقم ٣٠٥١.


أن لا يكون شرّا من عمر. قال : فتنحّيت أنا وأبو عبيدة فما زلنا كذلك حتى صلّينا الفجر.

وفي كنز العمّال (١) (٧ / ٣٣٦) : كلّم أصحاب النبيّ خوات بن جبير أن يغنّيهم فقال : حتى أستأذن عمر. فاستأذنه فأذن له ، فغنّى خوات ، فقال عمر : أحسن خوات ، أحسن خوات.

وفي حديث رباح بن المعترف : قال : إنّه كان مع عبد الرحمن بن عوف يوماً في سفر ، فرفع صوته رباح يغنّي غناء الركبان ، فقال له عبد الرحمن : ما هذا؟ قال : غير ما بأس نلهو ونقصّر عنّا السفر. فقال عبد الرحمن : إن كنتم لا بدّ فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطّاب ، ويقال : إنّه كان معهم في ذلك السفر عمر بن الخطّاب وكان يغنّيهم غناء النصب (٢). في تاج العروس (٣) : النصب ضرب من أغاني الأعراب.

وعن عثمان بن نائل عن أبيه قال : قلنا لرباح بن المعترف : غنّنا بغناء أهل بلدنا ، فقال : مع عمر؟ قلنا : نعم ، فإن نهاك فانته.

وذكر الزبير بن بكار : أنّ عمر مرّ به ورباح يغنّيهم غناء الركبان (٤) فقال : ما هذا؟ قال عبد الرحمن : غير ما بأس يقصّر عنّا السفر ، فقال : إذا كنتم فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطّاب. الإصابة (١ / ٥٠٢).

وعن السائب بن يزيد قال : بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق مكّة إذ

__________________

(١) كنز العمّال : ١٥ / ٢٢٩ ح ٤٠٧٠٠.

(٢) سنن البيهقي : ١٠ / ٢٢٤ ، الاستيعاب : ١ / ١٨٦ [القسم الثاني / ٤٨٦ رقم ٧٤٦]. (المؤلف)

(٣) تاج العروس : ١ / ٤٨٥.

(٤) قال ابن الأعرابي : كانت العرب تتغنّى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها ، فأحبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون هِجّيراهم [أي : عادتهم ودأبهم] بالقرآن مكان التغنّي بالركباني. لسان العرب : ١٩ / ٣٣٧ [١٠ / ١٣٥] ، تاج العروس : ١٠ / ٢٧٣. (المؤلف)


قال عبد الرحمن لرباح : غنّنا. فقال له عمر : إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطّاب. الإصابة (٢ / ٢٠٩).

وفي لفظ ابن عساكر في تاريخه (١) (٧ / ٣٥) : فقال عمر : ما هذا؟ فقال عبد الرحمن : ما بأس بهذا اللهو ونقصّر عنّا سفرنا. فقال عمر : إن كنت ... إلى آخره.

وعن العلاء بن زياد : أنّ عمر كان في مسير فتغنّى فقال : هلا زجرتموني إذا لغوت. كنز العمّال (٢) (٧ / ٣٣٥).

وعن الحارث بن عبد الله بن عباس : أنّه بينا هو يسير مع عمر في طريق مكّة في خلافته ومعه المهاجرون والأنصار فترنّم عمر ببيت ، فقال له رجل من أهل العراق ليس معه عراقيّ غيره : غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين ، فاستحيا عمر وضرب راحلته حتى انقطعت من الركب. أخرجه الشافعي والبيهقي كما في الكنز (٣) (٧ / ٣٣٦).

هذا عمر وهذا رأيه وهذه سيرته في الغناء ، فهل من المعقول أن يهابه المغنّون فيجفلون عمّا كانوا يقترفونه ، ويسمعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يتحرّج؟ ويرى أنّ الشيطان يفرق من عمر ، ولا يفرق منه؟ المستعاذ بك يا الله.

وقد تروى هذه المنقبة الموهومة لعثمان فيما أخرجه أحمد في مسنده (٤) (٤ / ٣٥٣) من طريق ابن أبي أوفى قال : استأذن أبو بكر رضى الله عنه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجارية تضرب بالدُّف فدخل ، ثمّ استأذن عمر رضى الله عنه فدخل ، ثمّ استأذن عثمان رضى الله عنه فأمسكت. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن عثمان رجل حيي.

وأخرجه في (ص ٣٥٤) بإسناد آخر بلفظ : كانت جارية تضرب بالدفّ عند

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٤٠٠ رقم ٢٩٣٢.

(٢) كنز العمّال : ١٥ / ٢٢٨ ح ٤٠٦٩٦.

(٣) كنز العمّال : ١٥ / ٢٢٨ ح ٤٠٦٩٨.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٤٧٠ ح ١٨٦٣٤ ، ص ٤٧١ ح ١٨٦٣٨.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء أبو بكر ثمّ جاء عمر ، ثمّ جاء عثمان فأمسكت ، فقال : إلى آخره. وسنوقفك على حياء عثمان حتى تعرف صحّة هذا الحديث أيضاً.

ثمّ لنتوجّه إلى شاعر النيل المشبّه دِرّة عمر بعصا موسى التي كانت معجزة قاهرة لنبيٍّ معصوم أبطل بها الباطل ، وأقام الحقّ ، فقال كما مرّ في (ص ٦٦):

أغنتْ عن الصارمِ المصقولِ درّتهُ

فكم أخافت غويَّ النفسِ عاتيها

كانت له كعصا موسى لصاحبِها

لا ينزلُ البُطْلُ مجتازاً بواديها

فنسأل الرجال عن وجه الشبه بين تلك العصا وبين هذه الدِرّة التي قيل فيها : لعلّ درّته لم يسلم من خفقتها إلاّ القلائل من كبار الصحابة ، وكانت الدرّة في يده على الدوام أنّى سار ، وكان الناس يهابونها أكثر ممّا تخيفهم السيوف ، وكان يقول : أصبحت أضرب الناس ليس فوقي أحد إلاّ ربّ العالمين (١) ، فقيل بعده : لدرّة عمر أهيب من سيف الحجّاج كما في محاضرة السكتواري (ص ١٦٩).

فما وجه الشبه بين عصا نبيّ معصوم وبين درّة إنسان لم يسلم منها إلاّ القلائل من كبار الصحابة؟ أهي تشبهها حين ضرب صاحبها النساء الباكيات على بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده وقال : «مه يا عمر»؟ (غ) (٦ / ١٥٩) (٢).

أم حين ضرب أمّ فروة بنت أبي قحافة حين بكت على أبيها؟ (غ) (٦ / ١٦١)

أم حين ضرب تميم الداري لإتيانه الصلاة بعد العصر وهي سنّة؟ (غ) (٦ / ١٨٣ ـ ١٨٤).

أم حين ضرب المنكدر وزيد الجهني وآخرين للصلاة بعد العصر؟ (غ) (٦ / ١٨٤).

__________________

(١) محاضرات الخضري : ٢ / ١٥ ، الخلفاء للنجّار : ص ١١٣ ، ٢٣٩. (المؤلف)

(٢) غ : رمز كتابنا هذا (الغدير) في جميع الأجزاء. (المؤلف)


أم حين ضرب في المجزرة كلّ من اشترى اللحم لأهله يومين متتابعين؟ (غ) (٦ / ٢٦٧).

أم حين ضرب رجلاً أتى بيت المقدس وإتيانه سنّة؟ (غ) (٦ / ٢٧٨).

أم حين ضرب الصائمين في رجب وصومه سنّة مؤكّدة؟ (غ) (٦ / ٢٨٢).

أم حين ضرب سائلاً عن آية من القرآن لا يعرف مغزاها؟ (غ) (٦ / ٢٩٠).

أم حين ضرب مسلماً أصاب كتاباً فيه العلم؟ (غ) (٦ / ٢٩٧).

أم حين ضرب مسلماً اقتنى كتاباً لدانيال؟ (غ) (٦ / ٢٩٨).

أم حين ضرب من كنّي بأبي عيسى؟ (غ) (٦ / ٣٠٨).

أم حين ضرب سيّد ربيعة من غير ذنب أتى به؟ (غ) (٦ / ١٥٧).

أم حين ضرب معاوية من دون أن يقترف إثماً؟ كما في تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ١٢٥).

أم حين ضرب أبا هريرة لابتياعه أفراساً من ماله؟ (غ) (٦ / ٢٧١).

أم حين ضرب من صام دهراً؟ (غ) (٦ / ٣٢٢).

إلى مواقف لا تحصى. فانظر إلى من تتوجّه قارصة الرجل في قوله : فكم أخافت غويّ النفس عاتيها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٣٤ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) البقرة : ٢٠٤.


ـ ٤ ـ

كرامات عمر الأربع

١ ـ لمّا فتح عمر مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أَشهُر العجم ، فقالوا له : أيّها الأمير إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلاّ بها. فقال لهم : وما ذاك؟ فقالوا له : إنّا إذا كانت ثلاث عشرة ليلة نحواً (١) من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، فأرضينا أباها وحملنا عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون ثمّ ألقيناها في النيل ، فقال لهم عمرو : إنّ هذا شيء لا يكون في الإسلام وإنّ الإسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى (٢) ، لا يجري قليلاً ولا كثيراً ، فكتب إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ، فكتب إليه عمر : أنّك قد أصبت بالذي فعلت ، إنّ الإسلام يهدم ما قبله ، وكتب إلى عمرو أنّي قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا إليك فألقها في النيل إذا وصل كتابي إليك ، فلمّا قدم كتاب عمر رضى الله عنه إلى عمرو بن العاص فإذا فيها مكتوب :

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر : أمّا بعد : فان كنت إنّما تجري من قبلك فلا تجرِ ، وإن كان الله الواحد القهّار هو مجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك.

وفي لفظ الواقدي : فان كنت مخلوقاً لا تملك ضراً ولا نفعاً وأنت تجري من قِبَل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك ، وإن كنت تجري بحول الله وقوّته فاجر كما كنت ، والسلام.

فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بشهر فقد تهيّأ أهل مصر للجلاء

__________________

(١) في البداية والنهاية : خلت.

(٢) أسماء الأشهر القبطية.


والخروج فإنّه لا تقوم مصلحتهم فيها إلاّ بالنيل ، فلمّا ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة ، فقطع الله تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم.

٢ ـ قال الرازي في تفسيره : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرّة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله. فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك.

٣ ـ في تفسير الرازي : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة : يا نار اسكني بإذن الله. فألقوها في النار فانطفأت في الحال.

٤ ـ في محاضرة الأوائل للسكتواري : أوّل زلزلة كانت في الإسلام سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر رضى الله عنه فضرب أمير المؤمنين رضى الله عنه برمحه قائلاً : يا أرض اسكني ، ألم أعدل عليك؟ فسكنت. فكان من جملة كرامته ، فظهرت له كرامات أربعة في العناصر الأربعة : تصرّف في عنصر التراب ، والماء في قصّة رسالته إلى نيل مصر ، وفي الهواء في قصّة سارية الجبل ، وفي النار في قصّة احتراق قرية رجل حين كلّفه أن يغيّر اسمه فأبى ، وكان اسمه يتعلّق بالنار كالشهاب والقبس والثاقب كما ذكر في تبصرة الأدلّة ودلائل النبوّة.

راجع (١) : فتوح الشام للواقدي (٢ / ٤٤) ، تفسير الرازي (٥ / ٤٧٨) ، سيرة عمر لابن الجوزي (ص ١٥٠) ، الرياض النضرة (٢ / ١٢) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٠٠) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٨٦) ، محاضرة الأوائل للسكتواري (ص ١٦٨) ، خزانة الأسرار (ص ١٣٢) تاريخ القرماني هامش الكامل (١ / ٢٠٣) ، الروض الفائق

__________________

(١) فتوح الشام : ٢ / ٦٩ ، التفسير الكبير : ٢١ / ٨٨ ، سيرة عمر : ص ١٥٥ ـ ١٥٧ باب ٥٥ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٨ ، البداية والنهاية : ٧ / ١١٤ حوادث سنة ١٩ ه‍ ، تاريخ الخلفاء : ص ١١٧ ـ ١١٩ ، خزانة الأسرار : ص ٩٣ ، أخبار الدول وآثار الأوَل : ١ / ٢٨٨ ، الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٢٨٢ ، نور الأبصار : ص ١٢٧ ـ ١٢٨.


(ص ٢٤٦) ، الفتوحات الاسلاميّة (٢ / ٤٣٧) ، نور الأبصار (ص ٦٢) ، جوهرة الكلام للقراغولي الحنفي (ص ٤٤).

قال الأميني : أمّا رواية النيل فراويها الوحيد هو عبد الله بن صالح المصري أحد الكذّابين الوضّاعين كما مرّ في الجزء الخامس (ص ٢٣٩) قال أحمد بن حنبل (١) : كان أوّل أمره متماسكاً ثمّ فسد بآخره ، وقال أحمد بن صالح : متّهم ليس بشيء ، وقال صالح جزرة : كان ابن معين يوثّقه وهو عندي يكذب في الحديث ، وقال النسائي (٢) : ليس بثقة ، وقال ابن المديني : لا أروي عنه شيئاً ، وقال ابن حبّان (٣) : كان في نفسه صدوقاً إنّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له [رجل سوء] (٤) فسمعت ابن خزيمة يقول : كان له جار كان بينه وبينه عداوة كان يضع الحديث على شيخ أبي (٥) صالح ويكتبه بخطّ يشبه خطّ عبد الله [بن صالح] (٦) ويرميه في داره بين كتبه فيتوهّم عبد الله أنّه خطّه فيحدّث به ، وقال ابن عدي (٧) : يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمّد.

قامت القيامة على عبد الله بهذا الخبر الذي قال عن جابر مرفوعاً : إنّ الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا فجعلهم خير أصحابي وأصحابي كلّهم خير. ثمّ ذكر أقوال الحفّاظ في بطلان هذا الحديث وأنّه موضوع. راجع ميزان الاعتدال (٨) (٢ / ٤٦).

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٢١٢ رقم ٤٩١٩.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٩ رقم ٣٥١.

(٣) كتاب المجروحين : ٢ / ٤٠.

(٤) من المصدر.

(٥) في المصدر : عبد الله بن صالح.

(٦) من المصدر.

(٧) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٢٠٨ رقم ١٠١٥.

(٨) ميزان الاعتدال : ٢ / ٤٤٢ رقم ٤٣٨٣.


فالرواية مكذوبة اختلقتها يد الغلوّ في الفضائل ، وإن كنّا لا نناقش في إمكان خضوع النيل لتلكم الكتابة ، فيكون معجزة للإسلام لمسيس حاجة القوم إلى مثلها لحداثة عهدهم بالإسلام.

وأمّا ما جاء به الرازي من حديث الزلزلة فلم يوجد في حوادث عهد عمر لا مسنداً ولا مرسلاً ، ولم يذكره قطّ مؤرّخ ضليع ، ولم يخرجه الحفّاظ حتى ينظر في إسناده. وقوله : وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك ، فكرامة مكذوبة يكذّبها التاريخ ، وقد وقعت الزلزلة بعد ذلك غير مرّة فقد وقعت زلزلة عظيمة بالحجاز سنة (٥١٥) فتضعضع بسببها الركن اليماني وتهدّم بعضه ، وتهدّم بها شيء من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكره ابن كثير في تاريخه (١) (١٢ / ١٨٨).

وحدثت بالمدينة زلزلة عظيمة ليلاً واستمرّت أيّاماً ، وكانت تزلزل كلّ يوم وليلة قدر عشر نوبات. وذلك سنة (٦٥٤) وقصّتها طويلة توجد في تاريخ ابن كثير (٢) (١٣ / ١٨٨ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢).

واعطف على ما قاله الرازي قول السكتواري من أنّها أوّل زلزلة كانت في الإسلام سنة عشرين من الهجرة. فقد وقعت سنة ستّ من الهجرة الشريفة كما في تاريخ الخميس (٣) (١ / ٥٦٥) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّ وجلّ يستعتبكم فأعتبوه.

وأمّا حديث قول عمر : يا سارية الجبل الجبل ، فقال السيّد محمد بن درويش الحوت في أسنى المطالب (٤) (ص ٢٦٥) : هو من كلام عمر قاله على المنبر حين كُشِف

__________________

(١) البداية والنهاية : ١٢ / ٢٣٣ حوادث سنة ٥١٥ ه‍.

(٢) البداية والنهاية : ١٣ / ٢٢٠ حوادث سنة ٦٥٤ ه‍.

(٣) تاريخ الخميس : ١ / ٥٠٢.

(٤) أسنى المطالب : ص ٥٥٣ ح ١٧٦٤.


له عن سارية (١) وهو بنهاوند من أرض فارس ، روى قصّته الواحدي والبيهقي بسند ضعيف وهم في المناقب يتوسّعون. انتهى.

كنّا نرى السيد ابن الحوت غير منصف في حكمه على الحديث بالضعف وأنّه كان حقّا عليه الحكم بالوضع إلى أن أوقفنا السير على تصحيح ابن بدران المتوفى (١٣٤٦) إيّاه فيما علّق عليه في تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤٦) بعد ذكر الحديث من طريق سيف بن عمر ، فوجدنا ابن الحوت عندئذٍ أنّه جاء بإحدى بنات طبق (٢) في حكمه ذلك ، ما أجرأ ابن بدران على هذا التمويه والدجل! أليست بين يديه أقوال أعلام قومه حول سيف بن عمر؟ أم ليسوا أولئك الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في كلّ إسناد؟ قال ابن حبّان (٣) : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال : قالوا : إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط ، وقال ابن عدي (٤) : بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن الدارقطني (٥) : متروك. وقال ابن معين (٦) : ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم (٧) : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي (٨) : ضعيف. وقال السيوطي : وضّاع ، وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيى عن

__________________

(١) اسم قائد الجيش.

(٢) بنات طبق : الدواهي. يقال للداهية إحدى بنات طبق ، وأصلها الحيّة. أي أنها استدارت حتى صارت مثل الطبق.

(٣) كتاب المجروحين : ١ / ٣٤٥.

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٤٣٥ رقم ٨٥١.

(٥) الضعفاء والمتروكون : ص ٢٤٣ رقم ٢٨٣.

(٦) التاريخ : ٣ / ٤٦٠ رقم ٢٢٦٢.

(٧) الجرح والتعديل : ٤ / ٢٧٨ رقم ١١٩٨.

(٨) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٢٣ رقم ٢٧١.


شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف.

راجع (١) : ميزان الاعتدال (١ / ٤٣٨) ، تهذيب التهذيب (٤ / ٢٩٥) ، اللآلئ المصنوعة (١ / ١٥٧ ، ١٩٩٠ ، ٤٢٩).

وأمّا احتراق القرية بإباء الرجل تغيير اسمه فخرافة يأباها الشرع والعقل والمنطق. إنّ ما تقدّم في الجزء السادس (ص ٣٠٨ ـ ٣١٥) من آراء الخليفة الخاصّة به في الأسماء والكنى ـ ومن جرّائها غيّر كنى رجال كنّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسماء آخرين سمّاهم بها هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجّة داحضة من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وغفر له ونحن لا ندري ما يفعل بنا ـ يستدعي ألاّ يُمتثل في أمثال ذلك لا أن يُعذّب الله قرية آمنة مطمئنّة لعدم امتثال صاحبها بما يقوله الخليفة دون أمر مباحٍ ، وهو من الظلم الفاحش لما احترق فيها من أبرياء وتلفت من أموال ، ولو وقفت بمطلع الأكمة من تلك القرية المضطرمة لبكيت على الرضّع والبهائم بكاء الثكلى ، نحاشي ربّنا الحكم العدل عن مثل ذلك ، ونحاشي أعلام الأمّة عن قبول هذه المخاريق المخزية. قاتل الله الحبّ ، ما ذا يفعل ويفتعل ويختلق!

ـ ٥ ـ

تسمية عمر بأمير المؤمنين

قال الواقدي : حدّثنا أبو حمزة (٢) يعقوب بن مجاهد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عمرو قال : قلت لعائشة : من سمّى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟ قالت : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أمير المؤمنين هو. ذكره ابن كثير في تاريخه (٣) (٧ / ١٣٧).

قال الأميني : كان أبو حزرة قاصّا يقصّ ، فَرَاقه أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٥٥ رقم ٣٦٣٧ ، تهذيب التهذيب : ٤ / ٢٥٩.

(٢) كذا في تاريخ ابن كثير والصحيح : أبو حزرة. بفتح المهملتين بينهما معجمة ساكنة. (المؤلف)

(٣) البداية والنهاية : ٧ / ١٥٤ حوادث سنة ٢٣ ه‍.


وعلى حليلته أمّ المؤمنين ، لإرضاء مستمعيه بافتعال منقبة لعمر ذاهلاً عن أنّ التاريخ يكذّبه ويكشف عن سوأته ولو بعد حين.

أخرج الحاكم من طريق ابن شهاب قال : إنّ عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة : لأيّ شيء كان يُكتب : من خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد أبي بكر رضى الله عنه ثمّ كان عمر يكتب أوّلاً : من خليفة أبي بكر؟ فمن أوّل من كتب : من أمير المؤمنين؟ فقال : حدّثتني الشفاء وكانت من المهاجرات الأوّل : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله ، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم ، فلمّا قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمّ دخلا المسجد فإذا هما بعمرو بن العاص فقالا : استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين ، فقال عمرو : أنتما والله أصبتما اسمه ، هو الأمير ونحن المؤمنون ، فوثب عمرو فدخل على أمير المؤمنين. فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص ، ربّي يعلم لتخرجنّ ممّا قلت. قال : إنّ لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمّ دخلا عليّ فقالا لي : استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين فهما والله أصابا اسمك ، نحن المؤمنون وأنت أميرنا ، قال : فمضى به الكتاب من يومئذٍ.

أخرجه الحاكم في المستدرك (١) وصحّحه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : صحيح. وقال السيوطي في شرح شواهد المغني (٢) (ص ٥٧) : روينا بسند صحيح أنّ لبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم هما اللذان سمّيا عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين حين قدما عليه من العراق. وذكر القصّة في تاريخ الخلفاء (٣) (ص ٩٤).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٨٧ ح ٤٤٨٠.

(٢) شرح شواهد المغني : ١ / ١٥٥ رقم ٥٩.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٢٩.


وأخرج الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٢٢) بالإسناد عن حسّان الكوفي قال : لمّا ولي عمر قيل : يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر رضى الله عنه : هذا أمر يطول ، كلّ ما جاء خليفة قالوا : يا خليفة خليفة خليفة رسول الله ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فسمّي أمير المؤمنين.

وقال ابن خلدون في مقدّمة تاريخه (٢) (ص ٢٢٧) : اتّفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به ، يقال : إنّ أوّل من دعا بذلك عبد الله بن جحش ، وقيل : عمرو بن العاصي ، والمغيرة بن شعبة ، وقيل : بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول : أين أمير المؤمنين؟ وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا : أصبت والله اسمه ، إنّه والله أمير المؤمنين حقّا ، فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس ، وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلاّ سائر دولة بني أُميّة. انتهى.

فصريح هذه النقول أنّ عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب لا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عن غيره ، ولذلك استغربه وقال : ربّي يعلم لتخرجنّ ممّا قلت. ولا كان عمرو بن العاصي يعلم ذلك ولذلك نسب الإصابة بالتسمية إلى الرجلين ونحت لها من عنده ما يبرّرها. ولا كانت عند الرجلين ـ اللذين صحّ كما مرّ أنّهما هما اللذان سمّياه ـ أثارة من علم بما جاء به ابن كثير وإنّما هو شيء جرى على لسانهما ، ثمّ أعطف نظرةً ثانية على كلمة ابن خلدون المقرّرة للخلاف في أوّل من سمّاه بأمير المؤمنين ولم يذكر فيه قولاً بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي سمّاه ، وصريح رواية الطبري أنّ عمر هو الذي رأى هذه التسمية.

نعم ؛ إنّ الذي سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين هو مولانا عليّ عليه‌السلام. أخرج

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٠٨.

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ١ / ٢٨٣ فصل ٣٢.


أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٦٣) بإسناده عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس اسكب لي وضوءاً». ثمّ قام فصلّى ركعتين. ثمّ قال : «يا أنس أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين» ، قال أنس : قلت : اللهمّ اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته إذ جاء عليّ ، فقال : «من هذا يا أنس؟» فقلت : عليّ ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ، ويمسح عرق عليّ بوجهه. قال عليّ : «يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل؟ قال : وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي ، وتُسمِعهم صوتي ، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي».

وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عبّاس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته فغدا عليه عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ بالغداة أن لا يسبقه إليه أحد ، فدخل فإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحن البيت ، فإذا رأسه في حجر دحيّة بن خليفة الكلبي فقال : «السلام عليك ، كيف أصبح رسول الله؟» قال : بخير يا أخا رسول الله ، فقال عليّ «جزاك الله عنّا خيراً أهل البيت» فقال له دحية : إنّي لأحبّك وإنّ لك عندي مدحةً أزفّها لك ، أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين إلى آخره. وفيه : فأخذ رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعه في حجره فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما هذه الهمهمة؟» فقال عليّ بما جرى ، فقال : «يا عليّ لم يكن دحيّة ولكن كان جبرائيل سمّاك باسم سمّاك الله به».

وأخرج الحافظ أبو العلا الحسن بن أحمد العطّار من طريق ابن عبّاس في حديث : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أمّ سلمة اشهدي واسمعي هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين». الحديث مرّ بتمامه في الجزء السادس (ص ٨٠).

وأخرج الطبراني في معجمه (١) من طريق عبد الله بن عليم الجهني مرفوعاً : «إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليّ في عليّ ثلاثة أشياء ليلة أسري بي : أنّه سيّد المؤمنين ،

__________________

(١) المعجم الصغير : ٢ / ٨٨.


وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين».

وتعضد هذه الأحاديث وتؤكّدها عدّة أحاديث ، منها ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء من طريق ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنزل الله آية فيها يا أيّها الذين آمنوا إلاّ وعليّ رأسها وأميرها».

وفي لفظ الطبراني (١) وابن أبي حاتم : «إلاّ وعليّ أميرها وشريفها» ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر عليّا إلاّ بخير (٢).

ومنها ما أخرجه الخطيب والحاكم وصحّحه من طريق جابر بن عبد الله ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد عليّ يقول : «هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» (٣).

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن عبّاس كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١١٥) ، ونور الأبصار (٤) (ص ٨٠) ، وأخرجه شيخ الإسلام الحمّوئي (٥) من طريق عبد الرحمن بن سهمان في فرائد السمطين ، وذكره ابن حجر في الصواعق (٦) نقلاً عن الحاكم وحرّفه وجعل مكان أمير البررة : إمام البررة. حيّا الله الأمانة.

__________________

(١) المعجم الكبير : ١١ / ٢١٠ ح ١١٦٨٧.

(٢) راجع حلية الأولياء : ١ / ٦٤ [رقم ٤] ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٠٦ [٣ / ١٥٨] ، كفاية الكنجي : ص ٥٤ [ص ١٤٠ باب ٣١] ، تذكرة السبط : ص ٨ [ص ١٣] ، درر السمطين لجمال الدين الزرندي [ص ٨٩] ، الصواعق لابن حجر : ص ٧٦ [ص ١٢٧] ، كنز العمّال : ٦ / ٢٩١ [١١ / ٦٠٤ ح ٣٢٩٢٠] ، تاريخ الخلفاء : ص ١١٥ [ص ١٦٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الخطيب البغدادي : ٢ / ٣٧٧ [رقم ٨٨٧] و ٤ / ٢١٩ [رقم ١٩١٥] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢٩ [٣ / ١٤٠ ح ٤٦٤٤]. (المؤلف)

(٤) نور الأبصار : ص ١٦٣.

(٥) فرائد السمطين : ١ / ١٥٧ ح ١١٩ باب ٣٢.

(٦) الصواعق المحرقة : ص ١٢٥.


ومنها ما أخرجه ابن عدي في كامله (١) من طريق عليّ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليّ يعسوب (٢) المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» ، وفي رواية : «يعسوب الظلمة» وفي رواية «يعسوب الكفّار» ذكره الدميري في حياة الحيوان (٣) (٢ / ٤١٢) ، وابن حجر في الصواعق (٤) (ص ٧٥) ، وقال الدميري : ومن هنا قيل لأمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه : أمير النحل.

ومنها قول عليّ : «أنا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكفّار» وفي لفظ : «المنافقين» ، وفي لفظ : «الفجّار» نهج البلاغة (٥) (٢ / ٢١١) ، تاج العروس (١ / ٣٨١).

هذه هي الحقيقة الراهنة لكن القوم نحتوا تجاهها بقضاء من الغلوّ في الفضائل ما عرفته من رواية القصّاص أبي حزرة.

ـ ٦ ـ

عمر لا يحبّ الباطل

أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء (٢ / ٤٦) من طريق الأسود بن سريع قال : أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : قد حمدت ربّي بمحامد ومِدَح وإيّاك. فقال : إنّ ربّك عزّ وجلّ يحبّ الحمد. فجعلت أنشده ، فاستأذن رجل طويل أصلع ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسكت ، فدخل فتكلّم ساعة ثمّ خرج فأنشدته ، ثمّ جاء فسكّتني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتكلّم ثمّ خرج ، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً فقلت : يا رسول الله من هذا الذي أسكتّني له؟ فقال : هذا عمر ، رجل لا يحب الباطل.

__________________

(١) الكامل في ضعفاء الرجال : ٥ / ٢٤٤ رقم ١٣٨٩.

(٢) اليعسوب : الأمير. الرئيس. (المؤلف)

(٣) حياة الحيوان : ٢ / ٤٤١.

(٤) الصواعق المحرقة : ص ١٢٥.

(٥) نهج البلاغة : ص ٥٣٠ رقم ٣١٦.


ومن طريق آخر عن الأسود التميمي قال : قدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت أنشده فدخل رجل أقنى (١) فقال لي : أمسك. فلمّا خرج قال : هات. فجعلت أنشده فلم ألبث أن عاد فقال لي : أمسك. فلمّا خرج قال : هات. فقلت : من هذا يا نبيّ الله الذي إذا دخل قلت : أمسك ، وإذا خرج قلت : هات؟ قال : هذا عمر بن الخطّاب ، وليس من الباطل في شيء.

ومن طريق آخر عن الأسود قال : كنت أنشده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أعرف أصحابه حتى جاء رجل بعيد ما بين المناكب أصلع ، فقيل : اسكت اسكت : قلت : وا ثكلاه ، من هذا الذي أسكت له عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقيل : عمر بن الخطّاب ، فعرفت والله بعد أنّه كان يهون عليه لو سمعني أن لا يكلّمني حتى يأخذ برجلي فيسحبني إلى البقيع.

قال الأميني : هل علمت رواة السوء بالذي تلوكه بين أشداقها؟ أم درت فتعمّدت؟ أم أنّ حبّ عمر والمغالاة في فضائله أعمياهم عن تبعات هذه القول الشائن (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢).

يقول القائل : إنّ ما أراد إنشاده محامد ومدح لله ولرسوله فيجيزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إنّ ربّك عزّ وجلّ يحبّ الحمد. فأيّ باطل في هذا حتى يبغضه عمر؟ ولو كان باطلاً لمنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل عمر ، وأيّ نبيّ هذا يتّقي رجلاً من أمّته ولا يتّقي الله؟ وكيف خشي الرجل أن يسحبه عمر برجله إلى البقيع ولم يخش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل به ذلك أو يأمر فيُفعل به؟ أو أنّ عمر ما كان يميّز بين الحقّ والباطل فيحسب أنّ كل ما ينشد من الباطل ، فيجاريه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مزعمته؟ فهل علم الراوي أو المؤلّف بهذه المفاسد ، أو لا؟

فإنّ كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبةُ أعظمُ

__________________

(١) قنى الأنف وأقنى : ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه. (المؤلف)

(٢) الحج : ٤٦.


ـ ٧ ـ

الملائكة تُكلّم عمر بن الخطّاب

أخرج البخاري في كتاب المناقب (١) باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر.

وأخرج في الصحيح (٢) بعد حديث الغار عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدّثون ، إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطّاب. أسلفنا ألفاظ هذه الرواية في الجزء الخامس (٤٢ ـ ٤٦) ، ومرّ هناك عن القسطلاني قوله : ليس قوله ـ فإن يكن ـ للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ؛ إذ المراد الاختصاص بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. إلى آخره.

قال الأميني : أنا لست أدري ما الغاية في حديث الملائكة مع عمر؟ أهي محض إيناسه باختلاف الملك إليه وتكليمه إيّاه؟ أم هي إقالة عثراته ، وتسديد خطاه ، وردّ أخطائه وتعليمه ما لم يعلم؟ حتى لا يكون خليفة المسلمين خلواً عن جواب مسألة ، صفراً عن حلّ معضلة ، ولا يفتي بخلاف الشريعة المطهّرة ، ولا يرمي القول على عواهنه ، إن كانت للمحادثة المزعومة غاية معقولة فهي هذه لا غيرها ، إذاً فراجع الجزء السادس وتتبّع الخطى ، وتروّ في الأخطاء ، واسمع مالا يعني ، وانظر إلى التافهات ، وعندنا أضعاف ما هنالك لعلّ بعض الأجزاء الآتية يتكفّل بعضها إن شاء الله تعالى ، فهل هذا الملَك طيلة صدور ما في نوادر الأثر في الجزء السادس منه كان في

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٤٩ ح ٣٤٨٦.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٢٧٩ ح ٣٢٨٢.


سنة عن أداء وظيفته؟ أو كان ما يصدر خافياً عليه؟ أو أنّ الاستبداد في الرأي كان يحول بينهما؟ أو أنّ الملك في حلّه وترحاله قد يتأخّر عن الأوبة إليه ، فيقع ما يقع في غيبته ، أو أنّ القصّة مفتعلة لا مقيل لها في مستوى الصحّة؟ وهذه أقوى الوجوه ولعلّه غير خاف على البخاري نفسه لكنّه ...

ـ ٨ ـ

قرطاس في كفن عمر

إنّ الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطّاب وهو مشغول ، ثمّ انتبه لهما فقام فقبّلهما ووهب لكلّ واحد منهما ألفاً ، فرجعا فأخبرا أباهما فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عمر نور الإسلام في الدنيا وسراج أهل الجنّة في الجنّة. فرجعا إلى عمر فحدّثاه فاستدعى دواة وقرطاساً وكتب : حدّثني سيّدا شباب أهل الجنّة عن أبيهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال كذا وكذا ، فأوصى أن يجعل في كفنه ففعل ذلك ، فأصبحوا وإذا القرطاس على القبر وفيه : صدق الحسن والحسين وصدق رسول الله!

قال الأميني : بلغ هذه القصّة الخياليّة من الخرافة حدّا ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات كما في تحذير الخواصّ للسيوطي (١) صفحة (٥٣) فقال : والعجب من هذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يصنّف مثل هذا وما كفاه حتى عرضه على أكابر الفقهاء فكتبوا عليه تصويب هذا التصنيف. انتهى.

قاتل الله الغلوّ في الفضائل فإنّه شوّه سمعة أكابر الفقهاء ، كما سوّد صحيفة التاريخ ، وقبّح وجه التأليف.

__________________

(١) تحذير الخواص : ص ٢٠٧.


ـ ٩ ـ

لسان عمر وقلبه

أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند (١) (٢ / ٤٠١) عن نوح بن ميمون ، عن عبد الله ابن عمر العمري ، عن جهم بن أبي الجهم ، عن مسور بن المخرمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه.

قال الأميني : أمّا قلب الرجل فلا صلة لنا به لأنّ ما فيه من السرائر لا يعلمه إلاّ الله ، نعم ربّما ينمّ عنه ما جرى على لسانه ، وإن شئت فسائل الإمام أحمد أكان الحقّ على لسان عمر لمّا جابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله الفظّ حين أراد الكتف والدواة ليكتب للمسلمين كتاباً لا يضلّون بعده؟ فحال بينه وبين ما أراده من هداية الأمّة. ومهما كانت الكلمة القارصة فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّه عنها في كلّ حين فلا يغلبه الوجع ، ولا يهجر من شدّة ما به ، ولا سيّما وهو في صدد تبليغ ما به من الهداية والصون عن الضلال (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٢). وانتظر لهذه الجملة بحثاً ضافياً إن شاء الله تعالى.

أم كان الحقّ على لسانه في المائة مورد التي أخطأ فيها جمعاء؟ وقد فصّلناها تفصيلاً في نوادر الأثر من الجزء السادس ، وقد اتّخذناها مقياساً لمعرفة حال هذه الرواية وأمثالها ممّا نسجته يد الغلوّ في الفضائل.

أضف إلى هذا ما في سنده من الضعف فإنّ فيه : نوح بن ميمون ، قال ابن حبّان (٣) : ربّما أخطأ (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١١٦ ح ٨٩٦٠.

(٢) النجم : ٣ و ٤.

(٣) الثقات : ٩ / ٢١١.

(٤) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٤٨٩ [١٠ / ٤٣٥]. (المؤلف)


وفيه : عبد الله بن عمر العمري. قال أبو زرعة عن أحمد إمام الحنابلة : إنّه كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال عليّ بن المديني : ضعيف. وقال يحيى بن سعيد : لا يحدّث عنه. وقال يعقوب بن شيبة : في حديثه اضطراب. وقال صالح جزرة : ليّن مختلط الحديث. وقال النسائي (١) : ضعيف الحديث. وقال ابن سعد (٢) : كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم (٣) : يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال ابن حبّان (٤) : كان ممّن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحقّ الترك. وقال البخاري في التاريخ (٥) : كان يحيى بن سعيد يضعّفه. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقويّ عندهم. وقال المروزي : ذكره أحمد (٦) فلم يرضه (٧).

وفيه : جهم بن أبي الجهم ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (٨) : لا يعرف.

ـ ١٠ ـ

رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علم عمر

أخرج البخاري في صحيحه (٩) (٥ / ٣٥٥) في مناقب عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : بينا أنا نائم شربت ـ يعني اللبن ـ حتى أنظر إلى الريّ يجري في ظفري أو في أظفاري ، ثمّ ناولت عمر. فقالوا : فما أوّلته؟ قال : العلم.

__________________

(١) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٤٦ رقم ٣٤١.

(٢) الطبقات الكبرى ـ القسم المتمّم ـ : ص ٣٦٧ رقم ٢٨٨.

(٣) الجرح والتعديل : ٥ / ١٠٩ رقم ٤٩٩.

(٤) كتاب المجروحين : ٢ / ٦.

(٥) التاريخ الكبير : ٥ / ١٤٥ رقم ٤٤١.

(٦) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٦٠٥ رقم ٣٨٧٧.

(٧) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٢٧ [٥ / ٢٨٧]. (المؤلف)

(٨) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٢٦ رقم ١٥٨٣.

(٩) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٤٦ ح ٣٤٧٨.


وأخرجه (١) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص ١١٩) ، والبغوي في المصابيح (٢ / ٢٧٠) ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب (٢ / ٤٢٩) ، والمحبّ الطبري في الرياض (٢ / ٨). وفي لفظهم :

بينا أنا نائم أُتِيتُ بقدح لبن فشربت حتى رأيت الريّ يخرج من أظفاري ثمّ أعطيت فضلي عمر. الحديث.

قال الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي الأندلسي في بهجة النفوس (٤ / ٢٤٤) عند شرحه الحديث : فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضله عليه‌السلام كيف كان قوّة علمه الذي لم يقدر أحد من الخلفاء يماثله فيه؟ فكيف بغيرهم من الصحابة؟ وكيف ممّن بعد الصحابة؟ إلى آخر ما جاء به من التافهات.

قال الأميني : إنّ طبع الحال يستدعي أن تكون هذه الرؤيا بعد إسلام عمر وبعد مضيّ سنين من البعثة ، وهل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة هذه المدّة خلواً من العلم؟ وهو في دور الرسالة ، أو كان في علمه إعواز أكمله هذا اللبن الساري ريّه في ظفره أو أظفاره؟ أو كان فيها إعلام بمبلغ علم عمر فحسب ، وكناية عن أنّه من مستقى الوحي؟ فهل تخفى على من هو هذا شأنه جليّة المسائل فضلاً عن معضلاتها؟ وهل يسعه أن يعتذر في الجهل بكتاب الله بقوله : ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟

وهلاّ تأثّرت نفس الرجل بالعلم لمّا شرب من منهل علم النبيّ العظيم؟ فما معنى قوله : كلّ الناس أفقه من عمر حتى ربّات الحجال؟ وأمثاله (٢) ، وما الوجه في أخطائه التي لا تحصى في الفتيا وغيرها؟ ممّا سبق ويأتي إن شاء الله تعالى.

ولقد تلطّف المولى سبحانه على الأمّة المرحومة أنّه ولي أمرها بعد شرب تلك

__________________

(١) نوادر الأصول : ١ / ٢٦٠ الأصل ٧٧ ، مصابيح السنّة : ٤ / ١٥٥ ح ٤٧٢٨ ، الاستيعاب : القسم الثالث / ١١٤٨ رقم ١٨٧٨ ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٧٤.

(٢) راجع ما مرّ في الجزء السادس : ص ٣٢٨. (المؤلف)


الكأس. وأنا لا أدري لو كان وليه قبل ذلك ما ذا كان يصدر من ولائد الجهل؟ وأيّ حدّ كانت تبلغ نوادر الأثر في علمه؟

وليت مصطنع هذه المهزأة اصطنعها على وجه ينطبق حكمها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الخليفة ، لكنّه لا ينطبق على أيّ منهما كما بينّاه ، غير أنّ وظيفة المائن أن يأتي بأساطيره على كلّ حال ، وإنّما العتب على البخاري الذي يعتبرها ويدرجها في الصحيح غلوّا منه في الفضائل ، وأشدّ منه وأعظم على أمثال ابن أبي جمرة الأزدي من الذين يموّهون الحقائق بزخرف القول على أغرار الأمّة ، ويحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم.

ـ ١١ ـ

عمر وفَرَق الشيطان منه

أخرج البخاري في صحيحه (١) في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده (٥ / ٨٩) ، وفي كتاب المناقب باب مناقب عمر (٥ / ٢٥٦) عن سعد بن أبي وقّاص قال : استأذن عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده نساء من قريش يُكلّمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهنّ ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنّك يا رسول الله ، قال : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر : فأنت يا رسول الله كنت أحقّ أن يهبنَ ، ثمّ قال ـ عمر ـ : أي عدوّات أنفسهنّ ، أتهبنَني ولا تهبْنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قلن : نعم ، أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطّ سالكاً فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك.

قال الأميني : ما أوقح هذا الراوي الذي ساق هذا الحديث في عداد الفضائل وهو بعدِّه عند سياق السفاسف أولى ، حسب أوّلاً أن النساء لم يكنَّ يهبنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١٩٩ ح ٣١٢٠ ، ص ١٣٤٧ ح ٣٤٨٠.


وهبن عمر ، فعلى هذا نسائله : أكنّ هذه النسوة نساءَه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ كما ذكره شرّاح الحديث (١) ستراً لعوار الرواية ، أم كنّ أجنبيّات عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وعلى الأوّل فلا وجه لهيبتهنّ إيّاه على الإسفار أو الإكثار أمامه ، فإنّ للحلائل مع أزواجهنّ شئوناً خاصّة ، فتسترهنّ عن عمر لكونه أجنبيّا عنهنّ لا هيبةً له.

وعلى الثاني وهو الذي يعطيه سياق الحديث كقوله : وعنده نساء من قريش. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي. إلى آخره. وقول عمر : فأنت يا رسول الله كنت. إلى آخره. وقوله : يا عدوّات أنفسهن إلى آخره. فكلّ هذه لا يلتئم مع كونهنّ نساءَه لتنكير النساء في الأوّل ، وظهور قوله : كنّ عندي في أنّ حضورهنّ لديه من ولائد الاتفاق لا أنّهنّ نساؤه الكائنات معه أطراف الليل وآناء النهار ، وقلنا أيضاً : إنّه لا وجه للهيبة مع كونهنّ أزواجه ، ولا هنّ على ذلك عدوّات أنفسهنّ ، فإنّ إبداء الزينة والجمال للزوجة عبادة لا معصية ، فجلوسهنّ وهنّ أجنبيّات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافرات على هذا الوجه إمّا لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحرّم السفور ، وإمّا لأنّه حرّمه ونسيه ، أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسامح في النهي عنه ، أو أنّه هابهنّ وإن لم يهبن ، وكان مع ذلك يروقه أن ينتهين عمّا هنّ عليه ، ولذلك استبشر لمّا بادرن الحجاب وأثنى على عمر ، ولازم هذا أن يكون عمر أفقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أثبت منه على المبدأ ، أو أخشن منه في ذات الله ، أو أقوى منه نفساً. أعوذ بالله من التقوّل بلا تعقّل.

وأمّا ما عُزي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً من قوله : والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطّ سالكاً فجّا إلاّ سلك فجّا غير فجّك ، فما بال الشيطان يهاب الخليفة فيسلك فجاً غير فجّه ولا تروعه عظمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاقوّة إيمانه؟ فيسلك في فجّه فلا يدعه أن ينهى عن المنكر ، ويحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرن به أمامه. بل الشيطان لعنه الله يعرض له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقطع عليه صلاته وإن رجع عنه خائباً ، كما أخرجه البخاري في

__________________

(١) راجع إرشاد الساري : ٥ / ٢٩٠ [٨ / ١٩٨ ح ٣٦٨٣]. (المؤلف)


صحيحه (١) (١ / ١٤٣) في كتاب الصلاة باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ومسلم في صحيحه (٢) (١ / ٢٠٤) باب جواز لعن الشيطان في الصلاة ، أخرجا بالإسناد عن أبي هريرة قال : صلّى رسول الله صلاة فقال : إنّ الشيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة عليّ ، فأمكنني الله منه فذعتُّه (٣). الحديث.

هب أنّ اللعين في هذه المرّة لم يصب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه تجرّأ على مقامه الأسمى ، وقد جاء في الصحيحين (٤) عن أبي هريرة : أنّ الشيطان إذا سمع الأذان للصلاة من أي مسلم كان أدبر هارباً وولّى فرقاً ، وله ضراط هلِعٍ جزِع.

كيف يجرؤ اللعين على رسول الله حتى في حال صلاته؟ ولم يتجرّأ قطّ على عمر لأنّه يسلك فجّا غير فجّه. وجاء فيما أخرجه (٥) أحمد والترمذي وابن حبّان عن بريدة : أنّ الشيطان لَيفرَقُ منك يا عمر (٦) ، وفيما أخرجه الطبراني (٧) وابن مندة وأبو نعيم ، عن سديسة مولاة حفصة ، عن حفصة بنت عمر مرفوعاً : إنّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلاّ خرّ لوجهه (٨).

إنّي وإن لا يروقني خدش العواطف بذكر مواقف الرجل التي لم يكن العامل الوحيد فيها إلاّ الشيطان ، غير أنّي لست أدري هل الشيطان كان يفرق ويفرّ منه ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٤٠٥ ح ١١٥٢.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٢٣ ح ٣٩ كتاب الصلاة.

(٣) فذعتّه : فخنقته. والذعت والدعت بالمهملة والمعجمة : الدفع العنيف. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ١ / ٧٨ كتاب الأذان : [١ / ٢٢٠ ح ٥٨٣]. صحيح مسلم : ١ / ١٥٣ [١ / ٣٦٩ ح ١٦] ، باب فضل الأذان. (المؤلف)

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٤٨٥ ح ٢٢٤٨٠ ، سنن الترمذي : ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩٠ ، الإحسان في صحيح ابن حبان : ١٥ / ٣١٥ ح ٦٨٩٢.

(٦) فيض القدير : ٢ / ٣٥٩ [ح ٢٠٣٧]. (المؤلف)

(٧) المعجم الكبير : ٢٤ / ٣٠٥ ح ٧٧٤.

(٨) الإصابة : ٤ / ٣٢٦ [رقم ٥٣٣] ، فيض القدير : ٢ / ٣٥٢ [ح ٢٠٢٦]. (المؤلف)


ويخرّ على وجهه ، ويسلك فجّا غير فجّه أيضاً منذ أسلم إلى سنة الفتح الثامنة من الهجرة النبويّة؟ إلى نزول آية (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ إلى يوم قول الرجل : انتهينا انتهينا؟ إلى يوم النادي في دار أبي طلحة الأنصاري (١)؟ فعلى الباحث الوقوف على ما أسلفناه في الجزء السادس (ص ٢٥١ ـ ٢٦١) وفي الجزء السابع (ص ٩٥ ـ ١٠٢).

ثمّ أين كانت تلك البسالة من رسول الله ـ الحاجزة بين الشيطان الرجيم وبين صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرض له وشدّ عليه ـ يوم كانت عنده نساء قريش فتخنقه وتردع النسوة؟

فبهذه كلّها تعلم مقدار هذه الرواية ومقيلها من الصدق ، ومبلغ صحيح البخاري من الاعتبار ، وتعرف ما يفعله الغلوّ في الفضائل والحبّ المعمي والمصمّ.

أضف إلى هذه المخاريق ما أسلفناه في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ممّا وضعته يد الغلوّ في فضائل عمر.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (٢).

__________________

(١) هو زيد بن سهل الأنصاري ، فتح نادياً لشرب الخمر في داره ، وكان يحضره جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب.

(٢) سورة طه : ٩٩ ، ١٠٠.


الغلوّ في فضائل عثمان

ابن عفان بن أبي العاص بن أميّة الخليفة الأموي

قبل الشروع في سرد الفضائل نوقفك على موادّ تعرّفك مبلغ الخليفة من العلم ، ومقداره من النفسيّات الفاضلة ، وموقفه من التقوى ، ومبوّأه من الإيمان ، حتى يكون نظرك في فضائله نظر عارف به وبها.

ـ ١ ـ

قضاؤه في امرأة ولدت لستّة أشهر

أخرج الحفّاظ عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منّا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستّة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان ، فأمر بها أن ترجم ، فبلغ ذلك عليّا رضى الله عنه فأتاه فقال : «ما تصنع؟ ليس ذلك عليها ، قال الله تبارك وتعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١). وقال : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢) فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً. والحمل ستّة أشهر». فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا. فأمر بها عثمان أن تردّ فوجدت قد رجمت ، وكان من قولها لأختها : يا أُخيّة لا تحزني فو الله ما كشف فَرجي أحد قطّ غيره ، قال : فشبّ الغلام بعد فاعترف

__________________

(١) الأحقاف : ١٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.


الرجل به وكان أشبه الناس به ، وقال : فرأيت الرجل بعد يتساقط عضواً عضواً على فراشه.

أخرجه (١) : مالك ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، وأبو عمر ، وابن كثير ، وابن الديبع ، والعيني ، والسيوطي كما مرّ في الجزء السادس صفحة (٩٤).

قال الأميني : إن تعجب فعجب أنّ إمام المسلمين لا يفطن لما في كتاب الله العزيز ممّا تكثر حاجته إليه في شتّى الأحوال ، ثمّ يكون من جرّاء هذا الجهل أن تودى بريئة مؤمنة ، وتتّهم بالفاحشة ، ويهتك ناموسها بين الملأ الديني وعلى رءوس الأشهاد.

وهلاّ كان حين عزب عنه فقه المسألة قد استشار أحداً من الصحابة يعلم ما جهله فلا يبوء بإثم القتل والفضيحة؟ وهلاّ تذكّر لدة هذه القضيّة وقد وقعت غير مرّة على عهد عمر؟ حين أراد أن يرجم نساء ولدن ستّة أشهر فحال دونها أمير المؤمنين وابن عبّاس كما مرّت في الجزء السادس (ص ٩٣ ـ ٩٥).

ثمّ هب أنّه ذهل عن الآيتين الكريمتين ، ونسي ما سبق في العهد العمري ، فما ذا كان مدرك حكمه برجم تلك المسكينة؟ أهو الكتاب؟ فأنّى هو؟ أو السنّة؟ فمن ذا الذي رواها؟ أو الرأي والقياس؟ فأين مدرك الرأي؟ وما ترتيب القياس؟ وإن كانت فتوى مجرّدة؟ فحيّا الله المفتي ، وزه بالفتيا ، ومرحباً بالخلافة والخليفة ، نعم ؛ لا يُربّي بيت أُميّة أربى من هذا البشر ، ولا يجتنى من تلك الشجرة أشهى من هذا الثمر.

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٨٢٥ ح ١١ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٧ / ٤٤٢ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ١٥٨ ، تيسير الوصول : ٢ / ١١ ، عمدة القاري : ٢١ / ١٨ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٤٤١.


ـ ٢ ـ

إتمام عثمان الصلاة في السفر

أخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الله بن عمر قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته ، ثمّ إنّ عثمان صلّى بعد أربعاً ، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً ، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين (١).

وفي لفظ ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢٧٠) : إنّ ابن عمر كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها.

وأخرج مالك في الموطّأ (٢) (١ / ٢٨٢) عن عروة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى الرباعية بمنى ركعتين ، وأنّ أبا بكر صلاّها بمنى ركعتين ، وأنّ عمر بن الخطاب صلاّها بمنى ركعتين ، وأنّ عثمان صلاّها بمنى ركعتين شطر إمارته ثمّ أتمّها بعد.

وأخرج النسائي في سننه (٣) (٣ / ١٢٠) عن أنس بن مالك أنّه قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ومع أبي بكر وعمر ركعتين ومع عثمان ركعتين صدراً من إمارته.

وبإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى عثمان بمنى أربعاً حتى بلغ ذلك عبد الله فقال : لقد صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين. الحديث.

ورواه إمام الحنابلة أحمد في المسند (٤) (١ / ٣٧٨) ، وأخرج حديث أنس المذكور

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٤ [٢ / ٥٩٦ ح ١٥٧٢] ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٦٠ [٢ / ١٤٢ ح ١٧ كتاب صلاة المسافرين] ، مسند أحمد : ٢ / ١٤٨ [٢ / ٣١٩ ح ٦٣١٦] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٢٦. (المؤلف)

(٢) موطّأ مالك : ١ / ٤٠٢ ح ٢٠١.

(٣) السنن الكبرى : ١ / ٥٨٦ ح ١٠٩٥ و ١٩٠٧.

(٤) مسند أحمد : ١ / ٦٢٥ ح ٣٥٨٢ ، ٣ / ٦١١ ح ١٢٠٦٩.


في مسنده (٣ / ١٤٥) ولفظه : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة بمنى ركعتين وصلاّها أبو بكر بمنى ركعتين ، وصلاّها عمر بمنى ركعتين ، وصلاّها عثمان بن عفان بمنى ركعتين أربع سنين ثمّ أتمّها بعدُ.

وأخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى بنا عثمان بن عفان رضى الله عنه بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ثمّ قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ركعتين ، وصلّيت مع أبي بكر رضى الله عنه بمنى ركعتين ، وصلّيت مع عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بمنى ركعتين ، فليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان (١).

وأخرج أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلّى عثمان رضى الله عنه بمنى أربعاً ، فقال عبد الله : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدراً من إمارته ثمّ أتمّها ، ثمّ تفرّقت بكم الطرق فلوددت أنّ لي من أربع ركعات ركعتين متقبّلتين. قال الأعمش : فحدّثني معاوية بن قرّة عن أشياخه : أنّ عبد الله صلّى أربعاً فقيل له : عبت على عثمان ثمّ صلّيت أربعاً؟ قال : الخلاف شرّ (٢).

وأخرج البيهقي في السنن الكبير (٣ / ١٤٤) عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنّا مع عبد الله بن مسعود بجمع ، فلمّا دخل مسجد منى فقال : كم صلّى أمير المؤمنين؟ قالوا : أربعاً ، فصلّى أربعاً قال : فقلنا : ألم تحدّثنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى ركعتين ، وأبا بكر صلّى ركعتين؟ فقال : بلى وأنا أحدّثكموه الآن ، ولكن عثمان كان إماما فما أخالفه والخلاف شرّ.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٤ [١ / ٣٦٨ ح ١٠٣٤] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٦١ [٢ / ١٤٣ ح ١٩ كتاب صلاة المسافرين] ، مسند أحمد : ١ / ٤٢٥ [١ / ٧٠٠ ح ٤٠٢٤]. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٣٠٨ [٢ / ١٩٩ ح ١٩٦٠] ، الآثار للقاضي أبي يوسف : ص ٣٠ ، كتاب الأمُ للشافعي : ١ / ١٥٩ و ٧ / ١٧٥ [١ / ١٨٥ و ٧ / ٢٤٨]. (المؤلف)


وأخرج البيهقي في السنن (٣ / ١٤٤) عن حميد ، عن عثمان بن عفّان أنّه أتمّ الصلاة بمنى ، ثمّ خطب الناس فقال : يا أيّها الناس إنّ السنّة سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّة صاحبيه ، ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا. وأخرجه ابن عساكر كما في كنز العمّال (١) (٤ / ٢٣٩).

وأخرج أبو داود وغيره عن الزهري : أنّ عثمان بن عفّان رضى الله عنه أتمّ الصلاة بمنى من أجل الأعراب لأنّهم كثروا عامئذٍ فصلّى بالناس أربعاً ليعلمهم أنّ الصلاة أربعاً (٢).

وروى ابن حزم في المحلى (٤ / ٢٧٠) من طريق سفيان بن عيينه عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : اعتلّ عثمان وهو بمنى ، فأتى عليّ فقيل له : صلّ بالناس فقال : إن شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يعني ركعتين قالوا : لا ، إلاّ صلاة أمير المؤمنين ـ يعنون عثمان ـ أربعاً. فأبى.

وذكره ابن التركماني في ذيل سنن البيهقي (٣ / ١٤٤).

وأخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (٣) (٢ / ٤٤) عن عبد الله بن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يصلّي صلاة السفر ـ يعني ركعتين ـ ومع أبي بكر وعمر وعثمان ستّ سنين من إمرته ثمّ صلّى أربعاً.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٣ / ١٥٣) بالإسناد عن أبي نضرة : أنّ رجلاً سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر فقال : ائت مجلسنا. فقال : إنّ هذا قد سألني عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر فاحفظوها عنّي :

__________________

(١) كنز العمّال : ٨ / ٢٣٤ ح ٢٢٧٠١.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٣٠٨ [٢ / ١٩٩ ح ١٩٦٤] ، سنن البيهقي : ٣ / ١٤٤ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٨٦ [٢ / ٣٤٣] ، نيل الأوطار : ٢ / ٢٦٠ [٣ / ٢٤١]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١٣٧ ح ٥٠٢١.


ما سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفراً إلاّ صلّى ركعتين حتى يرجع ويقول : يا أهل مكة قوموا فصلّوا ركعتين فإنّا سفر ، وغزا الطائف وحنين فصلّى ركعتين ، وأتى الجعرانة فاعتمر منها ، وحججت مع أبي بكر رضى الله عنه واعتمرت فكان يصلّي ركعتين ، ومع عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فكان يصلّي ركعتين ، ومع عثمان فصلّى ركعتين صدراً من إمارته ، ثمّ صلّى عثمان بمنى أربعاً. وفي لفظ الترمذي في الصحيح (١) (١ / ٧١) : ومع عثمان ستّ سنين من خلافته أو ثماني سنين فصلّى ركعتين. فقال : حسن صحيح.

وفي الكنز (٢) (٤ / ٢٤٠) من طريق الدارقطني عن ابن جريج قال : سأل حميد الضمري ابن عبّاس فقال : إنّي أسافر ؛ فأقصر الصلاة في السفر أم أتمّها؟ فقال ابن عبّاس : لست تقصرها ولكن تمامها وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمناً لا يخاف إلاّ الله فصلّى اثنتين حتى رجع ، ثمّ خرج أبو بكر لا يخاف إلاّ الله فصلّى ركعتين حتى رجع ، ثمّ خرج عمر آمناً لا يخاف إلاّ الله فصلّى اثنتين حتى رجع ، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلاّها أربعاً ، ثمّ أخذ بها بنو أُميّة. قال ابن جريج : فبلغني أنّه أوفى أربعاً بمنى فقط من أجل أنّ أعرابيّا ناداه في مسجد الخيف بمنى : يا أمير المؤمنين ما زلت أُصلّيها ركعتين منذ رأيتك عام الأوّل صلّيتها ركعتين. فخشي عثمان أن يظنّ جهّال الناس الصلاة ركعتين وإنّما كان أوفاها بمنى.

وأخرج أحمد في المسند (٣) (٤ / ٩٤) من طريق عباد بن عبد الله قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا صلّى بنا الظهر ركعتين بمكة ، ثمّ انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : لقد عبت أمر ابن عمّك لأنّه كان قد أتمّ الصلاة. قال : وكان عثمان حيث أتمّ الصلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً ، ثمّ إذا خرج إلى منى وعرفة قصّر الصلاة فإذا فرغ الحجّ وأقام

__________________

(١) سنن الترمذي : ٢ / ٤٣٠ ح ٥٤٥.

(٢) كنز العمّال : ٨ / ٢٣٨ ح ٢٢٧٢٠.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.


بمنى أتمّ الصلاة. وذكره ابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٧) ، والشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٢ / ٢٦٠).

وروى الطبري في تاريخه (٣) وغيره : حجّ بالناس في سنة (٢٩) عثمان فضرب بمنى فسطاطاً فكان أوّل فسطاطٍ ضربه عثمان بمنى ، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة ، فذكر الواقدي بالإسناد عن ابن عبّاس قال : إنّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السنة السادسة أتمّها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاءه عليّ فيمن جاءه فقال : والله ما حدث أمر ولا قَدُم عهد ولقد عهدت نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ركعتين ، ثمّ أبا بكر ، ثم عمر ، وأنت صدراً من ولايتك ، فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال : رأي رأيته.

وعن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن عمّه قال : صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك؟ قد صلّى بالناس أربعاً ، فصلّى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين ، ثمّ خرج حتى دخل على عثمان فقال له : ألم تُصلّ في هذا المكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين؟ قال : بلى. قال : ألم تُصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال : بلى. قال : أفلم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال : بلى. قال؟ ألم تُصلّ صدراً من خلافتك ركعتين؟ قال : بلى. قال : فاسمع منّي يا أبا محمد إنّي أُخبِرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين. وقد اتّخذت بمكّة أهلاً فرأيت أن أصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتّخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال ، فربّما اطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧١.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٣) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٦٧ حوادث سنة ٢٩ ه‍.


فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ، أمّا قولك : اتّخذت أهلاً ، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك.

وأمّا قولك : ولي مال بالطائف. فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف.

وأمّا قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيم ؛ فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل ، ثمّ أبو بكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه فصلّى بهم عمر حتى مات ركعتين. فقال عثمان : هذا رأي رأيته.

قال : فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال : أبا محمد غيّر ما يُعلم؟ قال : لا. قال : فما أصنع؟ قال : اعمل أنت بما تعلم. فقال ابن مسعود : الخلاف شرّ ، قد بلغني أنّه صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً. فقال عبد الرحمن بن عوف : قد بلغني أنّه صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي ركعتين ، وأمّا الآن فسوف يكون الذي تقول ، يعني نصلّي معه أربعاً.

أنساب البلاذري (٥ / ٣٩) ، تاريخ الطبري (٥ / ٥٦) ، كامل ابن الأثير (٣ / ٤٢) ، تاريخ ابن كثير (٧ / ١٥٤) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٣٨٦) (١).

نظرة في رأي الخليفة :

قال الأميني : أنت ترى أنّ ما ارتكبه الرجل مجرّد رأي غير مدعوم ببرهنة ولا معتضد بكتاب أو سنّة ، ولم يكن عنده غير ما تترّس به من حججه الثلاث التي دحضها عبد الرحمن بن عوف بأوفى وجه حين أدلى بها ، بعد أن أربكه النقد ، وكان

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٦٨ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٤٤ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، البداية والنهاية : ٧ / ١٧٣ حوادث سنة ٢٩ ه‍ ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٥٨٨.


ذلك منه تشبّثاً كتشبّث الغريق ، ومن أمعن النظر فيها لا يشكّ أنّها ممّا لا يفوه به ذو ٨ / ١٠٣ مرّة في الفقاهة فضلاً عن إمام المسلمين ، ولو كان مجرّد أنّ زوجته مكّية من قواطع السفر فأيّ مهاجر من الصحابة ليس كمثله؟ فكان إذن من واجبهم الإتمام ، لكنّ الشريعة فرضت التقصير على المسافر مطلقاً ، والزوجة في قبضة الرجل تتبعه في ظعنه وإقامته ، فلا تخرج زوجها عن حكم المسافر لمحض أنّه بمقربة من بيئتها الأصليّة التي هاجر عنها وهاجرت.

قال ابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٦) : أخرج أحمد والبيهقي من حديث عثمان وأنّه لمّا صلّى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال : إنّي تأهّلت بمكة لمّا قدمت وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من تأهّل ببلدة فإنّه يصلّي صلاة مقيم. قال : هذا الحديث لا يصحّ منقطع ، وفي رواته من لا يُحتجّ به ، ويردّه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسافر بزوجاته وقصّر.

وقال ابن القيّم (٢) في عدّ أعذار الخليفة : إنّه كان قد تأهّل بمنى ، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوّج فيه ، أو كان له به زوجة أتمّ. ويُروى في ذلك حديث مرفوع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال : صلّى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيّها الناس لمّا قدمت تأهّلت بها ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا تأهّل الرجل ببلدة فإنّه يصلّي بها صلاة مقيم. رواه الإمام أحمد رحمه‌الله في مسنده (٣) (١ / ٦٢) ، وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده (٤) أيضاً ، وقد أعلّه البيهقي بانقطاعه ، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم ، قال أبو البركات بن تيميّة :

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٢٧٠.

(٢) زاد المعاد : ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ح ٤٤٥.

(٤) مسند الحميدي : ١ / ٢١ ح ٣٦.


ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإنّ البخاري ذكره في تاريخه (١) ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نصّ أحمد وابن عباس قبله : إنّ المسافر إذا تزوّج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه‌الله ، ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. انتهى.

قال الأميني : لو كان عثمان لهج بهذه المزعمة في وقته على رءوس الأشهاد ، وكان من المسلّم في الإسلام أنّ التزويج من قواطع السفر ـ وليس كذلك ـ لما بقيت كلمة مطويّة تحت أستار الخفاء حتى يكتشفها هذا الأثريّ المتمحّل ، أو يختلقها له رماة القول على عواهنه.

ثمّ لأيّ شيء كانت ، والحالة هذه ، نقود الصحابة الموجّهة إلى الرجل؟ أو لم يسمعوه لمّا رفع عقيرته بعذره الموجّه؟ أو سمعوه ولم يقيموا له وزنا؟ أو أنّ الخطاب من ولائد أمّ الفرية بعد منصرم أيّامه؟

على أنّ النكاح لا يتمّ عند القوم إلاّ بشاهدين عدلين ، وورد عن ابن عبّاس : «لا نكاح إلاّ بأربعة : وليّ ، وشاهدين ، وخاطب» (٢) ، فأين كان أركان نكاح الخليفة يوم توجيه النقود إليه؟ حتى يدافعوا عنه تلك الجلبة واللغط.

ومتى تأهّل الرجل بهذه المرأة الموهومة قاطعة السفر له؟ وما المسوّغ له ذلك وقد دخل مكة محرماً؟ وكيف يشيع المنكر ويقول : تأهّلت بمكة مذ قدمت؟ ولم يكن متمتّعاً بالعمرة ـ لأنّه لم يكن يبيح ذلك أخذاً برأي من حرّمها كما يأتي تفصيله ـ حتى يقال : إنّه تأهّل بين الإحرامين بعد قضاء نسك العمرة ، فهو كان لم يزل محرماً من مسجد الشجرة حتى أحلّ بعد تمام النسك بمنى ، فيجب أن يكون إتمامه الصلاة إن

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٧ / ٥٠ رقم ٢٢٧.

(٢) سنن البيهقي : ٧ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ١٤٢. (المؤلف)


صحّ الإتمام بالتأهّل ، وأنّى؟ من حيث أحلّ وتأهّل ، وقد صلاّها تامّة بمنى أيّام منى وبعرفات أيضاً محرماً مع الحاج ، فهذه مشكلة أخرى قطّ لا تنحلّ لما صحّ من طريق عثمان نفسه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لا يَنكِحُ المحرمُ ولا يُنكَحُ ولا يخطب» (١).

وعن مولانا أمير المؤمنين قال : «لا يجوز نكاح المحرم ، إن نكح نزعنا منه امرأته» (٢).

قال ابن حزم في المحلّى (٧ / ١٩٧) : مسألة : لا يحلّ لرجل ولا لامرأة أن يتزوّج أو تتزوّج ، ولا أن يزوّج الرجل غيره من وليّته ، ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة ، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور ، كان فيه دخول وطول مدّة وولادة أو لم يكن ، فإذا دخل الوقت المذكور حلّ لهما النكاح والإنكاح. ثمّ ذكر دليل الحكم فقال :

فإن نكح المحرم أو المحرمة فسخ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ. وكذلك إن أنكح من لا نكاح لها إلاّ بإنكاحه فهو نكاح مفسوخ لما ذكرنا ، ولفساد الإنكاح الذي لا يصحّ النكاح إلاّ به ، ولا صحّة لما لا يصحّ ، إلاّ بما يصحّ ، وأمّا الخطبة فإن خطب فهو عاصٍ ولا يفسد النكاح ، لأنّ الخطبة لا متعلّق لها

__________________

(١) الموطّأ لمالك : ١ / ٣٢١ ، وفي طبعة ٢٥٤ [١ / ٣٤٨ ح ٧٠] ، الأُم للشافعي : ٥ / ١٦٠ [٥ / ١٧٨] ، مسند أحمد : ١ / ٥٧ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٨ ، ٧٣ [١ / ٩٢ ح ٤٠٣ ، ص ١٠٤ ح ٤٦٤ ، ص ١٠٥ ح ٤٦٨ ، ص ١١٠ ح ٤٩٤ ، ص ١١٧ ح ٥٣٥] ، صحيح مسلم : ١ / ٩٣٥ [٣ / ٢٠١ ح ٤١ كتاب النكاح] ، سنن الدارمي : ٢ / ٣٨ [٢ / ١٤١] ، سنن أبى داود : ١ / ٢٩٠ [٢ / ١٦٩ ح ١٨٤١] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٠٦ [١ / ٦٣٢ ح ١٩٦٦] ، سنن النسائي : ٥ / ١٩٢ [٢ / ٣٧٦ ح ٣٨٢٥] ، سنن البيهقي : ٥ / ٦٥ ، ٦٦. (المؤلف)

(٢) المحلّى لابن حزم : ٧ / ١٩٩ [مسألة ٨٦٩]. (المؤلف)


بالنكاح ، وقد يخطب ولا يتمّ النكاح إذا ردّ الخاطب ، وقد يتمّ النكاح بلا خطبة أصلاً ، لكن بأن يقول لها : أنكحيني نفسك فتقول : نعم قد فعلت. ويقول هو : قد رضيت ، ويأذن الوليّ في ذلك. ثمّ بسط القول في ردّ من زعم جواز نكاح المحرم بأحسن بيان. فراجع. وللإمام الشافعي في كتابه الأمّ (١) كلمة حول نكاح المحرم ضافية لدة هذه ، راجع (٥ / ١٦٠).

وليتني أدري بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة قال أبو حنيفة ومالك ونصّ أحمد ـ كما زعمه ابن القيّم (٢) ـ : على أنّ المسافر إذا تزوّج ببلدة لزمه الإتمام بها؟ وسنّة رسول الله الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافه ؛ وكان المهاجرون كلّهم يقصّرون بمكّة ، وهي قاعدة أزواجهم كما سمعت ، وليس مستند القوم إلاّ رواية عكرمة بن إبراهيم التي أعلّها البيهقي ، وقد مرّ عن ابن حجر أنّها لا تصحّ. وقال يحيى (٣) وأبو داود : عكرمة ليس بشيء. وقال النسائي (٤) : ضعيف ليس بثقة. وقال العقيلي (٥) : في حديثه اضطراب. وقال ابن حبّان (٦) : كان ممّن يقلّب الأخبار ، ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به. وقال يعقوب : منكر الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي ، وذكره ابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء (٧).

نعم راق أولئك الأئمة التحفظ على كرامة الخليفة ولو بالإفتاء بغير ما أنزل الله ، وكم له من نظير! ونوقفك في الأجزاء الآتية على شطر مهمّ من الفتاوى الشاذّة عن

__________________

(١) كتاب الأُم : ٥ / ١٧٨.

(٢) زاد المعاد : ١ / ١٣٠.

(٣) التاريخ : ٤ / ١٧١ رقم ٣٧٧٠.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٩٤ رقم ٥٠٦.

(٥) الضعفاء الكبير : ٣ / ٣٧٧ رقم ١٤١٤.

(٦) كتاب المجروحين : ٢ / ١٨٨.

(٧) لسان الميزان : ٤ / ١٨٢ [٤ / ٢١٠ رقم ٥٦٧٦]. (المؤلف)


الكتاب والسنّة عند البحث عنها ، والعجب كلّ العجب عدّ ابن القيّم هذا العذر المفتعل أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، وهو مكتنف بكلّ ما ذكرناه من النقود والعلل ، هذا شأن أحسن ما اعتذر به ، فما ظنّك بغيره؟!

وأمّا وجود مال له بالطائف فالرجل مكّي قد هاجر عنها لا طائفيّ ، وبينه وبين الطائف عدّة مراحل ، هب أنّ له مالاً بمكة أو بنفس منى وعرفة اللتين أتمّ فيهما الصلاة ، فإنّ مجرّد المال في مكان ليس يقطع السفر ما لم يجمع الرجل مكثاً ، وقد قصّر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه عام الفتح ، وفي حجة أبي بكر ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات. كما رواه الشافعي ، قال في كتاب الأم (١) (١ / ١٦٥) : قد قصّر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه عام الفتح ، وفي حجّته ، وفي حجّة أبي بكر ، ولعدد منهم بمكّة دار أو أكثر وقرابات منهم : أبو بكر له بمكّة دار وقرابة ، وعمر له بمكة دور كثيرة ، وعثمان له بمكة دار وقرابة ؛ فلم أعلم منهم أحداً أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإتمام ، ولا أتمّ ولا أتمّوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قدومهم مكة ، بل حفظ عمّن حفظ عنه منهم القصر بها. وذكره البيهقي في السنن (٣ / ١٥٣).

وأمّا الخيفة ممّن حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس الذين لم يتمرّنوا بالأحكام أن يقولوا : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمام المسلمين يصلّيها كذلك. فقد كانت أولى بالرعاية على العهد النبويّ والناس حديثو عهد بالإسلام ، ولم تطرق جملة من الأحكام أسماعهم ، وكذلك على العهدين قبله ، لكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرعها بعد بيان حكمي الحاضر والمسافر ، وكذلك من اقتصّ أثره من بعده ، ولقد صلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ركعتين أيّام إقامته بها ثمّ قال : أتمّوا الصلاة يا أهل مكة فإنّا سفر. أو قال : يا أهل البلد صلّوا أربعاً فإنّا سفر (٢). فأزال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما حاذره الخليفة في تعليله المنحوت بعد

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ١٨٧.

(٢) سنن البيهقي : ٣ / ١٣٦ ، ١٥٧ ، سنن أبي داود : ١ / ١٩١ [٢ / ٩ ح ١٢٢٩] ، أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ٣١٠. (المؤلف)


الوقوع ، فهلاّ كان منه اقتصاص لأثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما لم يزل دائباً عليه في أسفاره؟ فهلاّ اقتصّ أثره مع ذلك البيان الأوفى؟ ولم يكن على الأفواه أوكية (١) ، ولا على الآذان صمم ، وهل الواجب تعليم الجاهل؟ أو تغيير الحكم الثابت من جرّاء جهله؟

على أنّ الخليفة إن أراد أن ينقذ الهمج من الجهل بتشريع الصلاة أربعاً فقد ألقاهم في الجهل بحكم صلاة المسافر ، فكان تعليمه العملي إغراء بالجهل ، وواجب التعليم هو الاستمرار على ما ثبت في الشريعة مع البيان ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة كما مرّ ، وكان عمر إذا قدم مكة صلّى لهم ركعتين ثمّ يقول : يا أهل مكة أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ، وروى البيهقي عن أبي بكر مثل ذلك. سنن البيهقي (٣ / ١٢٦ ، ١٥٧) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ١٨) ، موطّأ مالك (٢) (١ / ١٢٦).

هذه حجج الخليفة التي أدلى بها يوم ضايقه عبد الرحمن بن عوف لكنّها عادت عنده مدحورة ، وقد أربكه عبد الرحمن بنقد ما جاء به فلم يبق عنده إلاَّ أن يقول : هذا رأي رأيته ، كما أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا دخل عليه وخصمه بحجاجه فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد. إلخ. وعجز الرجل عن جوابه فقال : رأي رأيته.

هذا منقطع معاذير عثمان في تبرير أُحدوثته فلم يبق له بعد ارتحاضه إلاّ قوله : رأي رأيته ، لكنّ للرجل من بعده أنصاراً اصطنعوا له أعذاراً أخرى هي أوهن من بيت العنكبوت ، ولم يهتد إليها نفس الخليفة حتى يُغبّر بها في وجه منتقديه ، ولكن كم ترك الأوّل للآخر ، منها :

١ ـ إنّ منى كانت قد بنيت وصارت قرية ، كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانت فضاء ولهذا قيل له : يا رسول الله ألا تبني لك

__________________

(١) جمع وكاء وهو ما يشدّ به فم القربة.

(٢) موطّأ مالك : ١ / ٤٠٢ ح ٢٠٢.


بمنى بيتاً يظلّك من الحرّ؟ فقال : لا ، منى مناخ من سبق ، فتأوّل عثمان أنّ القصر إنّما في حال السفر (١).

أنا لا أدري ما صلة كثرة المساكن وصيرورة المحلّ قرية بحكم القصر والإتمام؟ وهل السفر يتحقّق بالمفاوز والفلوات دون القرى والمدن حتى إذا لم ينو فيها الإقامة؟ إنّ هذا لحكم عجاب ، وهذه فتوى من لا يعرف مغزى الشريعة ، ولا ملاك تحقق السفر والحضر المستتبعين للقصر والإتمام ، على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى أيّام إقامته بمكة قصراً وكذلك في خيبر ، وكانت مكة أمّ القرى ، وفي خيبر قلاع وحصون مشيّدة وقرى ورساتيق ، وكذلك كان يفعل في أسفاره ، وكان يمرّ بها على قرية ويهبط أخرى.

على أنّ صيرورة المحلّ قرية لم تكن مفاجأة منها وإنّما عادت كذلك بالتدريج ، ففي أيّ حدّ منها كان يلزم الخليفة تغيير الحكم؟ وعلى أيّ حدّ غيّر؟ أنا لا أدري.

٢ ـ إنّه أقام بها ثلاثاً وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة / ثلاثاً» فسمّاه مقيماً والمقيم غير مسافر (٢). وفي لفظ مسلم (٣) : «يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً». وفي لفظ البخاري : «للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة» انتهى (٤).

إنّ ملاك قطع السفر ليس صدق لفظ الإقامة ، فليست المسألة لغويّة وإنّما هي شرعيّة ، وقد أناطت السنّة الشريفة الإتمام في السفر بإقامة محدودة ليس فيما دونها إلاّ

__________________

(١) ذكره ابن القيّم في زاد المعاد [١ / ١٢٩] هامش شرح المواهب للزرقاني : ٢ / ٢٤ وفنّده بقول موجز. (المؤلف)

(٢) هذا الوجه ذكره ابن القيّم في زاد المعاد [١ / ١٢٩] هامش شرح المواهب : ٢ / ٢٤ ونقده بكلام وجيز. (المؤلف)

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ١٥٩ ح ٤٤٤ كتاب الحج.

(٤) ألفاظ هذا الحديث مذكورة في تاريخ الخطيب : ٦ / ٢٦٧ ـ ٢٧٠ [رقم ٣٢٩٩]. (المؤلف)


التقصير في الصلاة ، وليس لمكة حكم خاصّ يُعدل به عمّا سنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد من الإقامة فيما تشبّث به ناحت المعذرة هو المكث للمهاجر بمكة لما لهم بها من سوابق وعلائق وقرابات ، لا الإقامة الشرعيّة التي هي موضوع حكم الإتمام ، وقد أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة عشراً كما في الصحيحين (١) أو أكثر منها كما في غيره (٢) ولم يزد على التقصير في الصلاة ، فقصر المكث بمكة ثلاثاً على المهاجر دون غيره من الوافدين إلى مكة ، وعلى مكة دون غيرها كما هو صريح تلكم الألفاظ المذكورة يُعرب عن إرادة المعنى المذكور ، ولا يسع لفقيه أن يرى الإقامة ثلاثاً بمكة خاصّة من قواطع السفر للمهاجر فحسب ، وقد أعرض عن استيطانها بالهجرة ، ولم يتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع بمكة وقد أقام بها أكثر من ثلاثة أيام بلغ عشراً أو لم يبلغ أو زاد عليها.

على أنّ الشافعي ومالكاً وأصحابهما وآخرين احتجّوا بالألفاظ المذكورة على استثناء مكث المهاجر بمكة ثلاثاً من الإقامة المكروهة لهم بها ، قالوا : كره رسول الله للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها ، ثمّ أباح لهم المقام بها ثلاثاً بعد تمام النسك. وقال ابن حزم : إنّ المسافر مباح له أن يقيم ثلاثاً وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك ، وأمّا المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث (٣) ، فأين هذا الحكم الخاصّ بمكة للمهاجر فحسب من الإقامة القاطعة للسفر؟

ثمّ لو كان هذا عذر الرجل لكان عليه أن يتمّ بمكة لا بمنى وعرفة وقد أتمّ بهما.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ١٥٣ [١ / ٣٦٧ ح ١٠٣١ و ٤ / ١٥٦٤ ح ٤٠٤٦] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٦٠ [٢ / ١٤١ ح ١٥]. (المؤلف)

(٢) المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٧ [المسألة ٥١٥]. (المؤلف)

(٣) المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٤. (المؤلف)


٣ ـ إنّه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتّخاذها دار الخلافة ، فلهذا أَتمّ ثمّ بدا له أن يرجع إلى المدينة. انتهى.

كأنّ هذا المتأوّل استشفّ عالم الغيب من وراء ستر رقيق ولا يعلم الغيب إلاّ الله ، إنّ مثل هذه العزيمة وفسخها ممّا لا يُعلم إلاّ من قبل صاحبها ، أو من يخبره بها هو ، وقد علمت أنّ الخليفة لمّا ضويق بالنقد لم يعدّ ذلك من معاذيره ، وإلاّ لكانت له فيه منتدح ، وكان خيراً له من تحشيد التافهات ، لكن كشف ذلك لصاحب المزعمة بعد لأي من عمر الدهر فحيّا الله الكشف والشهود.

وكان من المستصعب جدّا والبعيد غايته تغيير العاصمة الإسلاميّة والتعريجة على التعرّب بعد الهجرة من دون استشارة أحد من أكابر الصحابة ، وإلغاء مقدّمات تستوعب برهة طويلة من الزمن كأبسط أمر ينعقد بمحض النيّة ويفسخ بمثلها.

وقال ابن حجر في الفتح (١) (٢ / ٤٥٧) ، والشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٣ / ٢٦٠) : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن عثمان : إنّما أتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة بعد الحجّ وأُجيب بأنّه مرسل ، وفيه أيضاً نظر لأنّ الإقامة بمكة على المهاجرين حرام ، وقد صحّ عن عثمان أنّه كان لا يودّع البيت إلاّ على ظهر راحلته ، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته ، وثبت أنّه قال له المغيرة لمّا حاصروه : اركب رواحلك إلى مكّة. فقال : لن أُفارق دار هجرتي. انتهى.

ولابن القيّم في زاد المعاد (٣) (٢ / ٢٥) وجه آخر في دحض هذه الشبهة. فراجع.

٤ ـ إنّه كان إماماً للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحلّ ولايته ، فكأنّه وطنه.

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧١.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٢٤١.

(٣) زاد المعاد : ١ / ١٢٩.


قال الأميني : إنّ ملاك حكم الشريعة هو المقرّر من قبل الدين لا الاعتبارات المنحوتة ، والإمام والسوقة شرع سواء في شمول الأحكام ، بل هو أولى بالاتّباع لنواميس الدين حتى يكون قدوة للناس وتكون به أُسوتهم ، وهو وإن سرت ولايته وعمله مع مسير نفوذه في البلاد أو في العالم كلّه إلاّ أنّ التكليف الشرعيّ غير منوط بهذا السير ، بل هو مرتبط بتحقّق الموازين الشرعيّة ، فإن أقام في محلّ جاءه حكم الإقامة ، وإن لم ينوِ الإقامة فهو على حكم السفر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام الخلائق على الإطلاق ، ومع ذلك كان يقصّر صلاته في أسفاره ، ولا يعزى إليه أنّه ربّع بمكة أو في منى أو بعرفة أو بغيرها ، وإنّما اتّبع ما استنّه للأمّة جمعاء وبهذا ردّه ابن القيّم في زاد المعاد ، وابن حجر في فتح الباري (١) (٢ / ٤٥٦)

أضف إليه هتاف النبيّ الأعظم وأبي بكر وعمر بن الخطّاب بما مرّ (ص ١٠٧) من قولهم : أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإنّا قوم سفر. فإنّه يعرب عن أنّ حكم القصر والإتمام يعمّ الصادع الكريم ومن شغل منصّة الخلافة بعده.

على أنّه لو كان تربيع الرجل من هذه الناحية لوجب عليه أن يهتف بين الناس بأنّ ذلك لمقام الإمامة فحسب ، وأمّا من ليس له ذلك المقام فحكمه التقصير ، وإلاّ لكان إغراءً بالجهل بعمله ، وإبطالاً لصلاتهم بترك البيان ، فإذ لم يهتف بذلك ولم يعلّل عمله به جواباً لمنتقديه علمنا أنّه لم يرد ذلك ، وأنّ من تابعه من الصحابة لم يعلّلوا عمله بهذا التعليل ، وإنّما تابعوه دفعاً لشرّ الخلاف كما مرّ في صفحة (٩٩ ، ١٠٢) وهذا ينبئ عن عدم صحّة عمله عندهم.

ويشبه هذا التشبّث في السقوط ما نحتوه لأمّ المؤمنين عائشة في تربيعها الصلاة في السفر بأنّها كانت أمّ المؤمنين ، فحيث نزلت فكان وطنها كما ذكره ابن القيّم في زاد

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٥٧٠.


معاده (١) (٢ / ٢٦) ، فإن كان لأمّ المؤمنين هذا الحكم الخاصّ ، وجب أن تكون أُمومتها منتزعة من أُبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ ثبوت الحكم في الأصل أولى من الفرع ، لكن رسول الله كان يصلّي في أسفاره عامّة ركعتين ، وليس من الهيّن تغيير حكم الله بأمثال هذه السفاسف ، ولا من السهل نحت العذر لكلّ من يخالف حكماً من أحكام الدين لرأي ارتآه ، أو غلط وقع فيه ، أو لسياسة وقتيّة حدته إليه ، ولا ينقضي عجبي من العلماء الذين راقتهم أمثال هذه التافهات فدوّنوها في الكتب ، وتركوها أساطير من بعدهم يهزأ بها.

٥ ـ إنّ التقصير للمسافر رخصة لا عزيمة ، ذكره جمع ، وقال المحبّ الطبري في الرياض (٢) (٢ / ١٥١) : عذره في ذلك ظاهر ، فإنّه ممّن لم يوجب القصر في السفر. وتبعه في ذلك شرّاح صحيح البخاري ، وهذا مخالف لنصوص الشريعة ، والمأثورات النبويّة ، والسنّة الشريفة الثابتة عن النبيّ الأقدس ، وكلمات الصحابة ، وإليك نماذج منها :

١ ـ عن عمر : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد. وفي لفظ : على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

مسند أحمد (١ / ٣٧) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٢٩) ، سنن النسائي (٣ / ١١٨) ، سنن البيهقي (٣ / ١٩٩) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٣٠٨ ، ٣٠٩) ، المحلّى لابن حزم (٤ / ٢٦٥) ، زاد المعاد هامش شرح المواهب (٢ / ٢١) فقال : ثابت عن عمر.

٢ ـ عن يعلى بن أُميّة قال : سألت عمر بن الخطّاب قلت (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٤) الآية. وقد أمن الناس؟ فقال : عجبت ممّا عجبت منه ،

__________________

(١) زاد المعاد : ١ / ١٢٩.

(٢) الرياض النضرة : ٣ / ٨٩.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٦٢ ح ٢٥٩ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٣٨ ح ١٠٦٣ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٨٤ ح ١٨٩٨ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٢ ، زاد المعاد : ١ / ١٢٨.

(٤) النساء : ١٠١.


فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (١)

صحيح مسلم (١ / ١٩١ ، ١٩٢) ، سنن أبي داود (١ / ١٨٧) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٢٩) ، سنن النسائي (٣ / ١١٦) ، سنن البيهقي (٣ / ١٣٤ ، ١٤١) ، أحكام القرآن للجصاص (٢ / ٣٠٨) ، المحلّى لابن حزم (٤ / ٢٦٧).

٣ ـ عن عبد الله بن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج من هذه المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها. وفي لفظ : صحبت رسول الله فكان لا يزيد في السفر على الركعتين (٢). الحديث.

مسند أحمد (٢ / ٤٥) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٣٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٢٣) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٣١٠) ، زاد المعاد هامش شرح المواهب للزرقاني (٢ / ٢٩) وصحّحه.

٤ ـ عن ابن عبّاس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة.

وفي لفظ لمسلم : إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعاً (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ١٣٨ ح ٤ كتاب صلاة المسافرين ، سنن أبي داود : ٢ / ٣ ح ١٣٩٩ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٣٩ ح ١٠٦٥ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٨٣ ح ١٨٩١ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٢.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٣٧ ح ٥٠٢٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٣٩ ح ١٠٦٧ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٨٨ ح ١٩١٦ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤ ، زاد المعاد : ١ / ١٢٩.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ١٣٨ ح ٥ و ٦ كتاب صلاة المسافرين ، مسند أحمد : ١ / ٥٨٥ ح ٣٣٢٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٣٩ ح ١٠٦٨ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٨٥ ح ١٩٠٠ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥١ و ٢٥٤ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٢٢٦ ، زاد المعاد : ١ / ١٢٨.


صحيح مسلم (١ / ٢٥٨) ، مسند أحمد (١ / ٣٥٥) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٣٠) ، سنن النسائي (٣ / ١١٩) ، سنن البيهقي (٣ / ١٣٥) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٣٠٧ ، ٣١٠) ، المحلّى لابن حزم (٤ / ٢٧١) فقال : ورويناه أيضاً من طريق حذيفة ، وجابر ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وابن عمر كلّهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسانيد في غاية الصحّة.

تفسير القرطبي (٥ / ٣٥٢) ، تفسير ابن جزي (١ / ١٥٥) ، زاد المعاد لابن القيّم هامش شرح الزرقاني (٢ / ٢٢١) ، مجمع الزوائد (٢ / ١٥٤) من طريق أبي هريرة.

٥ ـ عن عائشة قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأُقرّت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر.

وفي لفظ ابن حزم من طريق البخاري : فرضت الصلاة ركعتين ، ثمّ هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففرضت أربعاً ، وتركت صلاة السفر على الأولى.

وفي لفظ أحمد : كان أوّل ما افترض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة ركعتان ركعتان إلاّ المغرب فإنّها كانت ثلاثة ، ثمّ أتمّ الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً في الحضر ، وأقرّ الصلاة على فرضها الأوّل في السفر.

راجع (١) : صحيح البخاري (١ / ١٥٩ و ٢ / ١٠٥ و ٥ / ١٧٢) ، صحيح مسلم (١ / ٢٥٧) ، موطّأ مالك (١ / ١٢٤) ، سنن أبي داود (١ / ١٨٧) ، كتاب الأم للشافعي (١ / ١٥٩) أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٣١٠) ، سنن البيهقي (٣ / ١٣٥) ، المحلّى (٤ / ٢٦٥) ، زاد المعاد (٢ / ٢١) ، تفسير القرطبي (٥ / ٣٥٢ ، ٣٥٨).

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٣٨٧ ح ٢٥٨٠٦ ، صحيح البخاري : ١ / ١٣٧ ح ٣٤٣ ، ص ٣٦٩ ح ١٠٤٠ و ٣ / ١٤٣١ ح ٣٧٢٠ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٣٧ ح ١ كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، موطّأ مالك : ١ / ١٤٦ ح ٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ٣ ح ١١٩٨ ، كتاب الأم : ١ / ١٨٠ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤ ، زاد المعاد : ١ / ١٢٨ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٢٢٦.


٦ ـ عن موسى بن مسلمة قال : قلت لابن عباس : كيف أُصلّي بمكة إذا لم أُصلِّ في جماعة؟ قال : ركعتين ؛ سنّة أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

مسند أحمد (١ / ٢٩٠ ، ٣٣٧) ، صحيح مسلم (١ / ٢٥٨) ، سنن النسائي (٣ / ١١٩).

٧ ـ عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال : ركعتان سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي لفظ البيهقي : قصر الصلاة في السفر سنّة سنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

مسند أحمد (٢) (٢ / ٥٧) ، سنن البيهقي (٣ / ١٣٦).

٨ ـ عن عبد الله بن عمر قال : الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنّة فقد كفر.

سنن البيهقي (٣ / ١٤٠) ، المحلّى لابن حزم (٤ / ٢٧٠) ، أحكام القرآن للجصّاص (٣) (٢ / ٣١٠) ، المعجم الكبير للطبراني كما في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٤) وقال : رجاله رجال الصحيح.

٩ ـ عن ابن عبّاس قال : من صلّى في السفر أربعا كمن صلّى في الحضر ركعتين.

مسند أحمد (٤) (١ / ٣٤٩) ، المحلّى (٤ / ٢٧٠).

١٠ ـ عن ابن عبّاس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين حتى يرجع. وفي لفظ : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج لم يزد على ركعتين حتى يرجع (٥).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٤٧٧ ح ٢٦٢٧ ، ص ٥٥٤ ح ٣١٠٩ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٣٩ ح ٧ كتاب صلاة المسافرين ، السنن الكبرى : ١ / ٥٨٥ ح ١٩٠١ و ١٩٠٢.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٦٠ ح ٥١٩١.

(٣) أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤ ، المعجم الأوسط : ٨ / ٤١٢ ح ٧٨٤٢.

(٤) مسند أحمد : ١ / ٥٧٥ ح ٣٢٥٨.

(٥) مسند أحمد : ١ / ٤٦٩ ح ٢٥٧٠ ، ص ٥٨٧ ، ح ٣٣٣٩ ، أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤.


مسند أحمد (١ / ٢٨٥ ، ٣٥٦) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٣٠٩).

١١ ـ عن عمران بن حصين قال : ما سافرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفراً قطّ إلاّ صلّى ركعتين حتى يرجع ، وحججت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يصلّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة ، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلّي إلاّ ركعتين وقال لأهل مكة : صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر (١).

راجع سنن البيهقي (٣ / ١٣٥) ، أحكام القرآن للجصّاص (٣ / ٣١٠).

وعن عمران في لفظ آخر : ما سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ صلّى ركعتين إلاّ المغرب. أخرجه أبو داود وأحمد كما في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٥).

١٢ ـ عن عمر بن الخطّاب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : صلاة المسافر ركعتان حتى يئوب إلى أهله أو يموت. أحكام القرآن للجصّاص (٢) (٣ / ٣١٠).

١٣ ـ عن إبراهيم : إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه صلّى الظهر بمكة ركعتين ، فلمّا انصرف قال : يا أهل مكة إنّا قوم سفر ، فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل. فأكمل أهل البلد.

الآثار للقاضي أبي يوسف (ص ٣٠ ، ٧٥) ، وراجع ما مرّ صفحة (١٠٧) من هذا الجزء.

١٤ ـ عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلّي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (٣).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤ ، سنن أبي داود : ٢ / ٩ ح ١٢٢٩ ، مسند أحمد : ٥ / ٥٩٤ ح ١٩٣٦٤.

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٤.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٦٧ ح ١٠٣١ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٤١ ح ١٥ كتاب صلاة المسافرين ، مسند أحمد : ٤ / ٤٠ ح ١٢٦٥٣.


صحيح البخاري (٢ / ١٥٣) ، صحيح مسلم (١ / ٣٦٠) ، مسند أحمد (٣ / ١٩٠) ، سنن البيهقي (٣ / ١٣٦ ، ١٤٥).

١٥ ـ عن عبد الله بن عمر قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتانا ونحن في ضلال فعلّمنا ، فكان فيما علّمنا : أنّ الله عزّ وجلّ أمرنا أن نصلّي ركعتين في السفر (١).

أخرجه النسائي كما مرّ في تفسير الخازن (١ / ٤١٢) ، ونيل الأوطار (٣ / ٢٥٠).

١٦ ـ عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان نزلتا من السماء ، فان شئتم فردّوهما.

أخرجه الطبراني في الصغير (٢) كما في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي (٢ / ١٥٤) فقال : رجاله موثّقون.

١٧ ـ عن السائب بن يزيد الكندي قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، ثمّ زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٥) : رواه الطبراني في الكبير (٣) ورجاله رجال الصحيح.

١٨ ـ عن ابن مسعود قال : من صلّى في السفر أربعاً أعاد الصلاة.

أخرجه الطبراني (٤) كما في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٥).

١٩ ـ عن حفص بن عمر قال : انطلق بنا أنس بن مالك إلى الشام إلى عبد الملك

__________________

(١) تفسير الخازن : ١ / ٣٩٥ ، نيل الأوطار : ٣ / ٢٣٢.

(٢) المعجم الصغير : ٢ / ٨٤ ، وفيه : فردّوها.

(٣) المعجم الكبير : ٧ / ١٥٥ ح ٦٦٧٦.

(٤) المعجم الكبير : ٩ / ٢٨٩ ح ٩٤٥٩.


ونحن أربعون رجلاً من الأنصار ليفرض لنا ، فلمّا رجع وكنّا بفجّ الناقة صلّى بنا الظهر (١) ركعتين ثمّ دخل فسطاطه ؛ وقام القوم يضيفون إلى ركعتيهم ركعتين أُخريين فقال : قبّح الله الوجوه ، فو الله ما أصابت السنّة ولا قبلت الرخصة ، فأشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ قوماً (٢) يتعمّقون في الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرميّة».

أخرجه أحمد في المسند (٣) (٣ / ١٥٩) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٢ / ١٥٥).

٢٠ ـ عن سلمان قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فصلاّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة حتى قدم المدينة وصلاّها بالمدينة ما شاء الله ، وزيد في صلاة الحضر ركعتين وتركت الصلاة في السفر على حالها.

رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٦).

٢١ ـ عن ثمامة بن شراحيل قال : خرجت إلى ابن عمر فقلت : ما صلاة المسافر؟ قال : ركعتين ركعتين إلاّ صلاة المغرب ثلاثاً. قلت : أرأيت إن كنّا بذي المجاز؟ قال : ما ذو المجاز؟ قلت : مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة. فقال : يا أيّها الرجل كنت بآذربيجان لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين ، فرأيتهم يصلّونها ركعتين ركعتين ، ورأيت نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصر عيني يصلّيها ركعتين ، تمّ نزع إليّ بهذه الآية : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٤).

أخرجه أحمد في المسند (٥) (٢ / ١٥٤).

__________________

(١) في مسند أحمد : صلّى بنا العصر.

(٢) في المسند : أقواماً.

(٣) مسند أحمد : ٣ / ٦٣٣ ح ١٢٢٠٤.

(٤) الأحزاب : ٢١.

(٥) مسند أحمد : ٢ / ٣٣٠ ح ٦٣٨٨.


٢٢ ـ أخرج أحمد في المسند (١) (٢ / ٤٠٠) من طريق أبي هريرة قال : أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ فرض لكم على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.

٢٣ ـ عن عمر بن عبد العزيز قال : الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصحّ غيرهما. ذكره ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢٧١).

وذهب عمر وابنه ، وابن عبّاس ، وجابر ، وجبير بن مطعم ، والحسن ، والقاضي إسماعيل ، وحمّاد بن أبي سليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة والكوفيّون إلى أنّ القصر واجب في السفر. كما في تفسير القرطبي (٢) (٥ / ٣٥١) ، وتفسير الخازن (٣) (١ / ٤١٣).

أترى مع هذه الأحاديث مجالاً للقول بأنّ القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟ ولو كان يسوغ الإتمام في السفر لكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُعرب عنه بقول أو بفعل ، ولو بإتيانه في العمر مرّة لبيان جوازه كما كان يفعل في غير هذا المورد ، أخرج مسلم في صحيحه (٤) من حديث بريدة قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوضّأ عند كلّ صلاة ، فلمّا كان يوم الفتح صلّى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : إنّك صنعت شيئاً لم تكن تصنعه. فقال : «عمداً صنعته يا عمر» قال الشوكاني في نيل الأوطار (٥) (١ / ٢٥٨) بعد ذكر الحديث : أي لبيان الجواز.

وأخرج أحمد (٦) وأبو يعلى (٧) عن عائشة قالت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بال فقام

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١١٥ ح ٨٩٤٧.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٢٢٦.

(٣) تفسير الخازن : ١ / ٣٩٦.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ١٢٢ [١ / ٢٩٤ ح ٨٦ كتاب الطهارة]. (المؤلف)

(٥) نيل الأوطار : ١ / ٢٤٨.

(٦) مسند أحمد : ٧ / ١٣٨ ح ٢٤١٢٢.

(٧) مسند أبي يعلى : ٨ / ٢٦٢ ح ٤٨٥٠.


عمر خلفه بكوز فقال : ما هذا يا عمر؟ فقال : ماء تتوضّأ به يا رسول الله. قال : «ما أُمرت كلّما بلت أن أتوضّأ ولو فعلت كانت سنّة». مجمع الزوائد (١ / ٢٤١). وكم للحديثين من نظير في أبواب الفقه!

ولو كان هناك ترخيص لما خفي على أكابر الصحابة حتى نقدوا عثمان نقداً مرّا وفنّدوا معاذيره وفيهم مولانا أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، ومستقى أحكام الدين من بعده ، يعرف رُخصها من عزائمها قبل كلّ الصحابة ، فهل يعزب عنه حكم الصلاة وهو أوّل من صلّى من ذكر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

حتى إنّ الخليفة نفسه لم يفُه بهذا العذر البارد ، ولو كان يعرف شيئاً ممّا قالوه لما أرجأ بيانه إلى هؤلاء المدافعين عنه ، ولما كان في منصرم معاذيره بعد أن أعوزته أنّه رأي رآه ، ولما كان تابعه على ذلك من تابعه محتجّا بدفع شرّ الخلاف فحسب من دون أيّ تنويه بمسألة الرخصة.

وأنت تعرف بعد هذه الأحاديث قيمة قول المحبّ الطبري في رياضه النضرة (١) (٢ / ١٥١) : إنّها مسألة اجتهاديّة ولذلك اختلف فيها العلماء ، فقوله ـ يعني عثمان ـ فيها لا يوجب تكفيراً ولا تفسيقاً. انتهى.

خفي على المغفّل أنّ الاجتهاد في تجاه النصّ لا مساغ له ، وأنّ المسألة لم يكن فيها خلاف إلى يوم أُحدوثة عثمان بل كانت السنّة الثابتة عند جميع الصحابة بقول واحد وجوب القصر للمسافر ، وما كان عمل الخليفة إلاّ مجرّد رأي رآه خلاف سنّة أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعرب عن جليّة الحال صحيح أحمد الآتي في ترجمة مروان وفيه : إنّ معاوية لمّا قدم مكة صلّى الظهر قصراً فنهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك ما عبته به ، فقال لهما : وما ذاك؟ فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع

__________________

(١) الرياض النضرة : ٣ / ٨٩.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر. قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمّها وإنّ خلافك إيّاه له عيب ، فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها أربعاً. واختلاف العلماء بعدُ لا قيمة له قطّ ويضرب به عرض الجدار بعد ثبوت السنّة ، وليس إلاّ لتبرير ساحة الرجل ، وأنّى؟ بل عمله يدنّس ذيل كلّ مبرّر ، وأمّا عدم إيجاب القول بالإتمام للمسافر الكفر أو الفسق وإيجابه ذلك ، فالمرجع فيه الحديث الثامن المذكور (ص ١١٢) من صحيحة عبد الله بن عمر قال : الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنّة فقد كفر.

الدين عند السلف سياسة وقتيّة :

تعطينا هذه الروايات الواردة في صلاة الخليفة درساً ضافياً صافقه الاستقراء لكثير من الموارد ، أنّ كثيرين من الصحابة ما كان يحجزهم الدين عن مخالفة التعاليم المقرّرة وكانوا يقدّمون عليها سياسة الوقت ، وإلاّ فلا وجه لتربيعهم الصلاة وهم يرون أنّ المشروع خلافه لمحض أنّ الخلاف شرّ ، وهم أو من ناضل عنهم وحكم بعدالتهم أجمع لا يرون جواز التقيّة ، فعبدالله بن عمر يتّبع الخليفة في أحدوثته ، وكان يتمّ إذا صلّى مع الإمام ، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين ، وفي لسانه قوله : الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنّة فقد كفر (١) ، وبمسمع منه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله لا يقبل عمل امرئٍ حتى يتقنه». قيل : وما إتقانه؟ قال : «يخلصه من الرياء والبدعة» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (٣).

وهذا عبد الله بن مسعود يرى السنّة في السفر ركعتين ، ويحدّث بها ثمّ يتمّ معتذراً بأنّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه والخلاف شرّ. كما مرّ في (ص ٩٩).

__________________

(١) راجع صفحة ١١٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) بهجة النفوس للحافظ ابن أبي جمرة الأزدي الأندلسي : ٤ / ١٦٠ [ح ٢٤١]. (المؤلف)

(٣) المحلّى : ٧ / ١٩٧ [المسألة ٨٦٦]. (المؤلف)


وهذا عبد الرحمن بن عوف لم يكن يرى للخليفة عذراً فيما أتى به من إتمام الصلاة في السفر ، ويقول له مجيباً عن أعذاره : ما من هذا شيء لك فيه عذر. ويسمع منه قوله : إنّه رأي رأيته. خلافاً للسنّة الثابتة ، ومع ذلك كلّه يصلّي أربعاً بعد ما سمع من بن مسعود بأنّ الخلاف شرّ (١). لما ذا كانت مخالفة عثمان شرّا ، ولم تكن مخالفته ومخالفتهم على ناموس الشريعة ونبيّها شرّا؟ دعني واسأل الصحابة الأوّلين.

وهذا عليّ أمير المؤمنين المقتصّ الوحيد أثر النبيّ الأعظم يؤتى به للصلاة ـ كما مرّ في (ص ١٠٠) ـ فيقول : «إن شئتم صلّيت بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين». فيقال له : لا إلاّ صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعاً. فيأبى ولا يبالون.

نعم ، لم تكن الأحكام عند أُولئك الخلفاء الذين أدخلوا آراءهم الشاذّة في دين الله والذين اتّبعوهم إلاّ سياسة وقتيّة يدور بها الأمر والنهي ، ويتغيّر بتغيّرها الآراء حيناً بعد حين ؛ فترى الأوّل منهم يقول على رءوس الأشهاد : لئن أخذتموني بسنّة نبيّكم لا أطيقها. وقد جاء النبيّ الأعظم بسنّة سهلة سمحة. ويقول : إنّي أقول برأيي إن يك صواباً فمن الله ، وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان. راجع الجزء السابع (ص ١٠٤ ، ١١٨ ، ١١٩).

ويأتي بعده من يفتي بترك الصلاة للجنب الفاقد للماء ولا يبالي ، وقد علّمه النبيّ الأعظم التيمّم فضلاً عمّا في الكتاب والسنّة. راجع (٦ / ٨٣).

وكان لم يقرأ بفاتحة الكتاب في الركعة الأولى ، ويكرّرها في الثانية تارة ، وأُخرى لم يقرأها في ركعاتها ، ويقتصر على حسن الركوع والسجود ، وطوراً يتركها ولم يقرأ شيئاً ثمّ يعيد. راجع (٦ / ١٠٨).

وكان ينهى عن التطوّع بالصلاة بعد العصر ، ويضرب بالدرّة من تنفّل بها ،

__________________

(١) راجع من هذا الجزء : ص ٩٩. (المؤلف)


والناس تخبره بأنّه سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو لا يصيخ إلى ذلك ، كما مرّ في الجزء (٦ / ١٨٤).

وتراه يحكم في الجدّ بمائة قضيّة كلها ينقض بعضها بعضاً ، كما مرّ حديثه في الجزء (٦ / ١١٦).

وثبت عنه قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما. كما فصّلناه في (٦ / ٢١٠).

وجاء عنه قوله : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل. راجع الجزء (٦ / ٢١٣).

إلى قضايا أخرى لدة هذه أسلفناها في الجزء السادس في نوادر الأثر في علم عمر.

وهذا عثمان يخالف السنّة الثابتة في مثل الصلاة عماد الدين ، ويعتذر بقوله : إنّه رأي رأيته.

ويحدث أذاناً بعد الأذان والإقامة ، ويتّخذه الملأ الإسلامي سنّةً في الحواضر الإسلاميّة.

وينهى عليّا أمير المؤمنين عن متعة الحج ، وهو يسمع منه

قوله : «لم أكن لأدع سنّة رسول الله لقول أحد من الناس».

ويأخذ الزكاة من الخيل ، وقد عفى الله عنها بلسان نبيّه الأقدس.

ويقدّم الخطبة على الصلاة في العيدين خلاف السنّة المسلّمة.

ويترك القراءة في الأوليين ، ويقضيها في الأخريين.

ويرى في عدّة المختلعة ما يخالف السنّة المتسالم عليها ؛ واتّخذ في الأموال


والصدقات سيرة دون ما قرّره الكتاب والسنّة ، إلى كثير من الآراء الشاذّة عن مقرّرات الإسلام المقدّس ، وسيوافيك تفصيلها.

وهذا معاوية ، وما أدراك ما معاوية؟! يتّبع أثر النبيّ الأعظم في صلاة ظهره فيأتيه مروان وابن عثمان فيزحزحانه عن هديه ، فيخالف السنّة الثابتة ـ باعتراف منه ـ في صلاة عصره ، اتّباعاً لسياسة الوقت ، وإحياءً لبدعة ابن عمّه ، وإماتة لشرعة المصطفى ، تزلّفاً إلى مثل مروان وابن عثمان.

وتراه يحكم بجواز الجمع بين الأختين المملوكتين ، ويعترض عليه الناس فلا يبالي (١).

ويحلّل الربا ؛ وفي كتاب الله العزيز : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٢) فأخبره أبو الدرداء أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن بيع باعه ، فقال معاوية : ما أرى بهذا بأساً ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ، أخبره عن رسول الله ، ويخبرني عن رأيه. لا أساكنك بأرض ؛ فخرج من ولاية معاوية. اختلاف الحديث للشافعي (٣) هامش كتابه الأم (٧ / ٢٣).

وأخذ ألف دينار دية الذمّي ، وجعل خمسمائة في بيت المال ، وخمسمائة لأهل القتيل. بدعة مسلّمة خلاف سنّة الله (٤).

وأمر بالأذان في العيدين ، ولا أذان فيهما ، ولا أذان إلاّ في المكتوبة. ذكره الشافعي في كتاب الأُم (٥) (١ / ٢٠٨).

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٧]. (المؤلف)

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) اختلاف الحديث : ص ٤٨٠.

(٤) كتاب الديات لأبي عاصم الضحاك : ص ٥٠. (المؤلف)

(٥) كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥.


وأخذ من الأعطية زكاة ، وهو أوّل من أحدثها ،كما في كتاب الأُم (١)(٢ / ١٤).

وهو أوّل من نقص التكبير ، كما أخرجه ابن أبي شيبة.

وأُتي إليه بلصوص ، فقطع بعضهم ، وعفى عن أحدهم لسماعه منه ومن أُمّه كلاماً يروقه ، كما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية (٢) (ص ٢١٩) ، وابن كثير في تاريخه (٣) (٨ / ١٣٦).

وقدّم الخطبة على الصلاة في العيدين كما يأتي تفصيله والمسنون خلافه.

وسنّ لعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وأمر به الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة في جميع الحواضر الإسلاميّة.

فكن على بصيرةٍ من أمرك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤) ، (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) (٥) ، (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٦).

ـ ٣ ـ

إبطال الخليفة الحدود

أخرج البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٣) من طريق محمد بن سعد ، بالإسناد عن أبي اسحاق الهمداني : أنّ الوليد بن عقبة شرب فسكر فصلّى بالناس الغداة ركعتين (٧)

__________________

(١) كتاب الأُم : ٢ / ١٧.

(٢) الأحكام السلطانيّة : ١ / ٢٢٨.

(٣) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٥ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٤) الجاثية : ١٨.

(٥) المائدة : ٤٩.

(٦) الجاثية : ٢١.

(٧) هكذا في الأنساب وصحيح مسلم [٣ / ٥٣٩ ح ٣٨ كتاب الحدود] وأما بقيّة المصادر فكلّها مطبقة على أربع ركعات وستوافيك إن شاء الله تعالى. (المؤلف)


ثم التفت فقال : أزيدكم؟ فقالوا : لا قد قضينا صلاتنا ، ثمّ دخل عليه بعد ذلك أبو زينب وجندب بن زهير الأزدي وهو سكران فانتزعا خاتمه من يده وهو لا يشعر سكراً.

قال أبو إسحاق : وأخبرني مسروق أنّه حين صلّى لم يَرِمْ حتى قاء ، فخرج في أمره إلى عثمان أربعة نفر : أبو زينب ، وجندب بن زهير ، وأبو حبيبة الغفاري ، والصعب بن جثامة ، فأخبروا عثمان خبره ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ماله؟ أجنّ؟ قالوا : لا ، ولكنّه سكر. قال : فأوعدهم عثمان وتهدّدهم ، وقال لجندب : أنت رأيت أخي (١) يشرب الخمر؟ قال. معاذ الله ، ولكنّي أشهد أنّي رأيته سكران يقلسها من جوفه ، وأنّي أخذت خاتمه من يده وهو سكران لا يعقل.

قال أبو إسحاق : فأتى الشهود عائشة فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان ، وأنّ عثمان زبرهم ، فنادت عائشة : أنّ عثمان أبطل الحدود وتوعّد الشهود.

وقال الواقدي : وقد يقال : إنّ عثمان ضرب بعض الشهود أسواطاً ، فأتوا عليّا فشكوا ذلك إليه. فأتى عثمان فقال : «عطّلت الحدود وضربت قوماً شهدوا على أخيك فقلّبت الحكم ، وقد قال عمر : لا تحمل بني أُميّة وآل أبي معيط خاصّة على رقاب الناس» قال : فما ترى؟ قال : «أرى أن تعزله ولا تولّيه شيئاً من أُمور المسلمين ، وأن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنّة ولا عداوة أقمت على صاحبك الحدّ».

قال : ويقال : إنّ عائشة أغلظت لعثمان وأغلظ لها ، وقال : وما أنت وهذا؟ إنّما أُمِرتِ أن تقرّي في بيتك. فقال قوم مثل قوله : وقال آخرون : ومن أولى بذلك منها ، فاضطربوا بالنعال ، وكان ذلك أوّل قتال بين المسلمين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج من عدّة طرق : أنّ طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له : قد نهيناك عن

__________________

(١) كان الوليد أخاه لأمّه ، أمّهما أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. (المؤلف)


تولية الوليد شيئاً من أُمور المسلمين فأبيت وقد شُهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله ، وقال له عليّ : «اعزله وحُدّه إذا شهد الشهود عليه في وجهه». فولّى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد ، فلمّا قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمامة وأشخص الوليد ، فلمّا شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحدّه ألبسه جبّة حبر وأدخله بيتاً ، فجعل إذا بعث إليه رجلاً من قريش ليضربه قال له الوليد : أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك. فيكفّ. فلمّا رأى ذلك عليّ ابن أبي طالب أخذ السوط ودخل عليه ومعه ابنه الحسن ، فقال له الوليد مثل تلك المقالة ، فقال له الحسن : صدق يا أبتِ ، فقال عليّ : ما أنا إذاً بمؤمن. وجلده بسوط له شعبتان ؛ وفي لفظ : فقال عليّ للحسن ابنه : قم يا بنيّ فاجلده ، فقال عثمان : يكفيك ذلك بعض من ترى ، فأخذ عليّ السوط ومشى إليه فجعل يضربه والوليد يسبّه ؛ وفي لفظ الأغاني : فقال له الوليد : نشدتك بالله وبالقرابة ، فقال له عليّ : «اسكت أبا وهب فإنّما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود» فضربه وقال : «لتدعوني قريش بعد هذا جلاّدها».

قالوا : وسئل عثمان أن يحلق ، وقيل له : إنّ عمر حلق مثله ، فقال : قد كان فعل ذلك ثمّ تركه.

وقال أبو مخنف وغيره : خرج الوليد بن عقبة لصلاة الصبح وهو يميل فصلّى ركعتين ثمّ التفت إلى الناس فقال : أزيدكم؟ فقال له عتاب بن علاق أحد بني عوافة بن سعد وكان شريفاً : لا زادك الله مزيد الخير ، ثمّ تناول حفنة من حصى فضرب بها وجه الوليد وحصبه الناس وقالوا : والله ما العجب إلاّ ممّن ولاّك ، وكان عمر بن الخطّاب فرض لعتّاب هذا مع الأشراف في ألفين وخمسمائة. وذكر بعضهم : أنّ القيء غلب على الوليد في مكانه ، وقال يزيد بن قيس الأرحبي ومعقل بن قيس الرياحي : لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي :


شهد الحطيئةُ يوم يلقى ربَّه

أنّ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ

نادى وقد نفدت (١) صلاتُهمُ

أأزيدُكم؟ ثملاً وما يدري

ليزيدهم خيراً ولو قبلوا

منهُ لزادهمُ على عشرِ

فأبوا أبا وهبٍ ولو فعلوا

لقرنتَ بين الشفع والوترِ

حبسوا عنانَكَ إذ جَريتَ ولو

خلَّوا عنانَكَ لم تزل تجري (٢)

وذكر أبو الفرج في الأغاني (٣) (٤ / ١٧٨) ، وأبو عمر في الاستيعاب (٤) بعد هذه الأبيات للحطيئة أيضاً قوله :

تكلّمَ في الصلاة وزاد فيها

علانيةً وجاهر بالنفاقِ

ومجَّ الخمرَ في سنن المصلّى

ونادى والجميع إلى افتراقِ

أزيدكمُ على أن تحمدوني

فما لكمُ وما لي من خلاقِ

ثمّ قال أبو عمر : وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله : أزيدكم؟ بعد أن صلّى الصبح أربعاً مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار.

وهكذا جاء (٥) في مسند أحمد (١ / ١٤٤) ، سنن البيهقي (٨ / ٣١٨) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٤٢) وقال : تهوّع في المحراب. كامل ابن الأثير (٣ / ٤٢) ، أُسد الغابة (٥ / ٩١ ، ٩٢) وقال : قوله لهم : أزيدكم؟ بعد أن صلّى الصبح أربعاً مشهور من رواية الثقات من

__________________

(١) في الأغاني : ٤ / ١٧٨ ، ١٧٩ [٥ / ١٣٨ ، ١٤٠] : تمّت. بدل نفدت. (المؤلف)

(٢) وفي الأغاني : ٤ / ١٧٩ [٥ / ١٤٠] ، حول هذه الأبيات رواية لا تخلو عن فائدة. (المؤلف)

(٣) الأغاني : ٥ / ١٣٩.

(٤) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٥٥٥ رقم ٢٧٢١.

(٥) مسند أحمد : ١ / ٢٣٣ ح ١٢٣٤ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٥ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٤٦ حوادث سنة ٣٠ ه‍ ، أُسد الغابة : ٥ / ٤٥٢ رقم ٥٤٦٨.


أهل الحديث. ثمّ ذكر حديث الطبري (١) في تعصّب القوم على الوليد وقول عثمان له : يا أخي اصبر فإنّ الله يؤجرك ويبوء القوم بإثمك. فقال : قال أبو عمر (٢) : والصحيح عند أهل الحديث أنّه شرب الخمر وتقيّأها ، وصلّى الصبح أربعاً.

تاريخ أبي الفدا (١ / ١٧٦) ، الإصابة (٣ / ٦٣٨) وقال : قصّة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة مخرجة ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (٣) (ص ١٠٤) ، السيرة الحلبيّة (٤) (٢ / ٣١٤) وقال : صلّى بأهل الكوفة أربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني. ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم وقال : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود رضى الله عنه : لا زادك الله خيراً ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فردة خفّه وضرب به وجه الوليد وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنّح. إلخ.

وحكى أبو الفرج في الأغاني (٥) (٤ / ١٧٨) عن أبي عبيد والكلبي والأصمعي : أنّ الوليد بن عقبة كان زانياً شرّيب خمر فشرب الخمر ، بالكوفة وقام ليصلّي بهم الصبح في المسجد الجامع ، فصلّى بهم أربع ركعات ثمّ التفت إليهم وقال لهم : أزيدكم؟ وتقيّأ في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته :

علقَ القلبُ الربابا

بعد ما شابت وشابا

وذكره في (ص ١٧٩) نقلاً عن عمر بن شبة ، وروى من طريق المدائني في

__________________

(١) أخرجه في تاريخه : ٥ / ٦٠ ، ٦١ [٤ / ٢٧٣] ، من طريق مجمع على بطلانه عن كذّاب عن مجهول عن وضّاع متّهم بالزندقة وهم : السري عن شعيب عن سيف بن عمر ، وسيوافيك تفصيل القول في هذا الطريق الوعر وأنّه شوّه تاريخ الطبري. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٥٥٦ رقم ٢٧٢١.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٤٤.

(٤) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٢٨٤.

(٥) الأغاني : ٥ / ١٣٩ ، ١٤١ ، ١٤٣.


صفحة (١٨٠) عن الزهري أنّه قال : خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال : أكلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأُنكلنّ بكم ، فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلظة ، فقال : أما يجد مُرّاق أهل العراق وفسّاقهم ملجأ إلاّ بيت عائشة. فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل : أحسنت ، ومن قائل : ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له : اتّق الله لا تعطّل الحدّ واعزل أخاك عنهم ، فعزله عنهم.

وأخرج من طريق مطر الورّاق قال : قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضى الله عنه : إنّي صلّيت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال : أزيدكم؟ إنّي أجد اليوم نشاطاً ، وأنا أشمّ منه رائحة الخمر. فضرب عثمان الرجل ، فقال الناس : عطّلت الحدود ، وضربت الشهود.

وروى ابن عبد ربّه قصّة الصلاة في العقد الفريد (١) (٢ / ٢٧٣) وفيه : صلّى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران. إلخ.

وجاء في صحيح البخاري (٢) في مناقب عثمان في حديث : قد أكثر الناس فيه. قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٧ / ٤٤) في شرح الجملة المذكورة : ووقع في رواية معمر : وكان أكثر الناس فيما فعل به ، أي من تركه إقامة الحدّ عليه ـ على الوليد ـ وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقّاص.

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١١٩.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٥١ ح ٣٤٩٣.

(٣) فتح الباري : ٧ / ٥٦.


قال الأميني : الوليد هو هذا الذي تسمع حديثه وسنوقفك في هذا الجزء والأجزاء الآتية إن شاء الله على حقيقته حتى كأنّك مطلّ عليه من أمَم ، تراه يشرب الخمر ، ويقيء في محرابه ، ويزيد في الصلاة من سَورة السكر ، ويُنتزع خاتمه من يده فلا يشعر به من شدّة الثمل ، وقد عرّفه الله تعالى قبل يومه هذا بقوله عزّ من قائل (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) سورة السجدة : (١٨) (١). وبقوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢). وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٣) (٢ / ٦٢٠) : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ قوله عزّ وجلّ (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) نزلت في الوليد. وحكاها عنه ابن الأثير في أُسد الغابة (٤) (٥ / ٩٠).

فهل من الممكن أن يحوز مثله حنكة الولاية عن إمام المسلمين؟ فيحتنك النفوس ويستحوذ على الأموال ، ويستولي على النواميس والأعراض ، وتؤخذ منه الأحكام وتُلقى إليه أزمّة البسط والقبض في حاضرة المسلمين ، ويؤمّهم على الجمعة والجماعة؟ هل هذا شيء يكون في الشريعة؟ أعزب عنّي واسأل الخليفة الذي ولاّه وزبر الشهود عليه وتوعّدهم أو ضربهم بسوطه.

وهب أنّ الولاية سبقت منه لكنّ الحدّ الذي ثبت موجبه وليمَ على تعطيله ما وجه إرجائه إلى حين إدخال الرجل في البيت مجلّلاً بجبّة حبر وقاية له عن ألم السياط؟

ثمّ من دخل عليه ليحدّه دافعه المحدود بغضب الخليفة وقطع رحمه ، فهل كان

__________________

(١) راجع الجزء الثاني صفحة ٤٢ الطبعة الأولى و ٤٦ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٥٥٣ رقم ٢٧٢١.

(٤) أُسد الغابة : ٥ / ٤٥١ رقم ٥٤٦٨.


الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامه حدّ الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة؟ فيغضّ الطرف عنه رضاً منه بما يقول ، أولا يبلغه؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينمّ عن اطّلاعه على كلّ ما هنالك ، وكان يتعلّل عن إقامة الحدّ بكلّ تلكم الأحوال ، حتى أنّه منع السبط المجتبى الحسن عليه‌السلام لما علم أنّه لا يجنح إلى الباطل بالرقّة عليه وأحبّ أن يجلده زبانيته الذين يتحرّون مرضاته ، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحدّ بنفسه والظالم يسبّه وهو سلام الله عليه لا تأخذه في الله لومة لائم ، أو أمر ـ سلام الله عليه ـ عبد الله بن جعفر فجلده وهو عليه‌السلام يعدّ كما في الصحيح لمسلم (١) والأغاني (٢) وغيرهما.

وهل الحدّ يعطّل بعد ثبوت ما يوجبه ، حتى يقع عليه الحجاج ، ويحتدم الحوار فيعود الجدال جلاداً ، وتتحوّل المكالمة ملاكمة ، وتعلو النعال والأحذية ، ويُشكّل أوّل قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعقيرة أمّ المؤمنين مرتفعة : إنّ عثمان عطّل الحدود وتوعّد الشهود. ويوبّخه على ذلك سيّد العترة ـ صلوات الله عليه ـ بقوله : «عطّلت الحدود وضربت قوماً شهدوا على أخيك» وهل بعد هذه كلّها يستأهل مثل هذا الفاسق المهتوك بلسان الكتاب العزيز أن يبعث على الأموال؟ كما فعله عثمان وبعث الرجل بعد إقامة الحدّ عليه على صدقات كلب وبلقين (٣) ، وهل آصرة الإخاء تستبيح ذلك كلّه؟

ليست ذمّتي رهينة بالجواب عن هذه الأسئلة وإنّما عليّ سرد القصّة مشفوعة بالتعليل والتحليل ، وأمّا الجواب فعلى عهدة أنصار الخليفة ، أو أنّ المحكّم فيه هو القارئ الكريم.

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من صحيح مسلم : صفحة ٥٢ [٣ / ٥٣٩ ح ٣٨ كتاب الحدود]. (المؤلف)

(٢) الأغاني : ٥ / ١٤٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٤٢ [٢ / ١٦٥]. (المؤلف)


ـ ٤ ـ

النداء الثالث بأمر الخليفة

أخرج البخاري وغيره بالإسناد عن السائب بن يزيد : إنّ النداء يوم الجمعة كان أوّله في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي زمان أبي بكر وفي زمان عمر إذا خرج الإمام ، وإذا قامت الصلاة ، حتى كان زمان عثمان فكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء فثبتت حتى الساعة (١).

وفي لفظ البخاري وأبي داود : إنّ الأذان كان أوّله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلمّا كان خلافة عثمان وكثر الناس ، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ، فأذّن به على الزوراء (٢) فثبت الأمر على ذلك.

وفي لفظ النسائي : أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذّن به على الزوراء.

وفي لفظ له أيضاً : كان بلال يؤذّن إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر يوم الجمعة فإذا نزل أقام ، ثمّ كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر.

وفي لفظ الترمذي : كان الأذان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر إذا

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٩٥ ، ٩٦ [١ / ٣٠٩ ح ٨٧٠ ، ٨٧٤] ، صحيح الترمذي : ١ / ٦٨ [٢ / ٣٩٢ ح ٥١٦] ، سنن أبي داود : ١ / ١٧١ [١ / ٢٨٥ ح ١٠٨٧] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٤٨ [١ / ٣٥٩ ح ١١٣٥] ، سنن النسائي : ٣ / ١٠٠ [١ / ٥٢٧ ح ١٧٠٠] ، كتاب الأُم للشافعي : ١ / ١٧٣ [١ / ١٩٥] ، سنن البيهقي : ١ / ٤٢٩ ، ٣ / ١٩٢ ، ٢٠٥ ، تاريخ الطبري : ٥ / ٦٨ [٤ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٠ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ٤٨ [٢ / ٢٥٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍] ، فيض الإله المالك للبقاعي : ١ / ١٩٣ [١ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٢) الزوراء : اسم موضع في سوق المدينة قرب المسجد ، وهو مرتفع كالمنارة. معجم البلدان : ٣ / ١٥٦.


خرج الإمام أُقيمت الصلاة ؛ فلمّا كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء.

وفي لفظ البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٩) عن السائب بن يزيد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج للصلاة أذّن المؤذّن ثمّ يقيم ، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر ، وفي صدر من أيّام عثمان ، ثمّ إنّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة (١) فعاب الناس ذلك وقالوا : بدعة.

وقال ابن حجر في فتح الباري (٢) (٢ / ٣١٥) : والذي يظهر أنّ الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر ، لكن ذكر الفاكهاني : أنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل بمكة الحجّاج وبالبصرة زياد ، وبلغني أنّ أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرّة ؛ وروى ابن أبي شيبة (٣) من طريق ابن عمر قال : الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار ، ويحتمل أن يريد أنّه لم يكن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّ ما لم يكن في زمنه يسمّى بدعة.

وحكى ما في الفتح ، الشوكاني في نيل الأوطار (٤) (٣ / ٣٣٢) ، وذكر العيني في عمدة القاري (٥) حديث ابن عمر من أنّ الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة ؛ وروى عن الزهري قوله : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان يؤذّن لأهل الأسواق. وقال : وفي لفظ : فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس ـ إلى أن قال ـ : وقيل : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل بمكة الحجّاج وبالبصرة زياد.

__________________

(١) يعني السنة السابعة من خلافة عثمان توافق الثلاثين من الهجرة كما في تاريخ الطبري [٤ / ٢٨٧ حوادث سنة ٣٠ ه‍] وغيره. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٢ / ٣٩٤.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة : ٢ / ٤٨ ح ٣.

(٤) نيل الأوطار : ٣ / ٢٩٨.

(٥) عمدة القاري : ٦ / ٢١١.


قال الأميني : إنّ أوّل ما يُستفهم من رواة هذه الأحاديث أنّ المراد من كثرة الناس الموجبة لتكرّر الأذان هل هو كثرتهم في مركز الخلافة المدينة المنوّرة أو كثرتهم في العالم؟ أمّا الثاني فلم يكن يُجديهم فيه ألف أذان ، فإنّ صوت مؤذّن المدينة لا يبلغ المدن والأمصار ؛ ولا أنّ أولئك مكلّفون بالإصغاء إلى أذان المدينة ولا الصلاة معه.

وأمّا كثرة الناس في المدينة نفسها لو تمّ كونها مصحّحاً للزيادة في النداء ، فإنّما يصحّح تكثير المؤذّنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينها وبين الصلاة ، وقد ثبت في السنّة خلافه في الترتيب ، وأُحدوثة الخليفة إنّما هي الزيادة في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذّنين ، كما نبّه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى للبيهقي (١ / ٤٢٩) ، ولذلك عابه عليه الصحابة ، وحسبوه بدعة ، ولا يخصّ تعدّد المؤذّنين بأيّام عثمان فحسب ، وقد كان في أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذّن بلال وابن أُمّ مكتوم ، واتّخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الأُبّي على صحيح مسلم (١) (٢ / ١٣٦) ، ولا أجد خلافاً في جواز تعدّد المؤذّنين ، بل رتّبوا عليه أحكاماً مثل قولهم هل الحكاية المستحبّة أو الواجبة كما قيل تتعدّد بتعدد المؤذّنين أم لا؟ وقولهم : إذا أذّن المؤذّن الأوّل ، هل للإمام أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده؟ أو له أن يخرج ويقطع من بعده أذانه؟ وقولهم : إذا تعدّد المؤذّنون لهم أن يؤذّن واحد بعد واحد ، أو يؤذّن كلّهم في أوّل الوقت؟ وقال الشافعي في كتاب الأُم (٢) (١ / ٧٢) : إن كان مسجداً كبيراً له مؤذّنون عدد فلا بأس أن يؤذّن في كلّ منارة له مؤذّن فيسمع من يليه في وقت واحد.

وظاهر ما مرّ في الصحيح من أنّه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد

__________________

(١) شرح صحيح مسلم للأُبِّي : ٢ / ٢٣٩.

(٢) كتاب الأُم : ١ / ٨٤.


الأذان والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني (١) ، ويومي إليه قول بعض شرّاح الحديث من أنّ النداء الثالث ثالث باعتبار الشرعيّة لكونه مزيداً على الأذان بين يدي الإمام وعلى الإقامة للصلاة (٢) ، نعم : قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٢ / ٣١٥) : تواردت الشرّاح على أنّ معنى قوله : الأذان الثالث ، أنّ الأوّلين الأذان والإقامة ، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثاً يستدعي سبق اثنين قبله. وقال العيني في عمدته (٤) (٢ / ٢٩٠) : إنّما أطلق الأذان على الإقامة لأنّها إعلام كالأذان ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء» (٥) ، ويعني به بين الأذان والإقامة.

وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان الزائد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان يؤذّن به على باب المسجد على العهد النبويّ ودور الشيخين ، كما ورد في سنن أبي داود (٦) (١ / ١٧١) ، لا في الزوراء التي هي دار بقرب المسجد كما في القاموس (٧) ، وتاج العروس (٨) ، سواء كانت هي دار عثمان بن عفّان التي ذكرها الحموي في المعجم (٩) (٤ / ٤١٢) ، وقال الطبراني (١٠) : فأمر عثمان بالنداء الأوّل على دار له يقال لها الزوراء

__________________

(١) المعجم الكبير : ٧ / ١٤٥ ح ٦٦٤٢.

(٢) شرح الترمذي في هامشه : ٢ / ٦٨. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ٢ / ٣٩٥.

(٤) عمدة القاري : ٥ / ٢١١.

(٥) أخرجه البخاري في صحيحه : ٢ / ٨ [١ / ٢٢٥ ح ٦٠١]. (المؤلف)

(٦) سنن أبي داود : ١ / ٢٨٥ ح ١٠٨٧.

(٧) القاموس المحيط : ص ٥١٦.

(٨) تاج العروس : ٣ / ٢٤٦.

(٩) معجم البلدان : ٣ / ١٥٦.

(١٠) المعجم الكبير : ٧ / ١٤٥ ح ٦٦٤٢.


فكان يؤذّن له عليها (١) ، أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضاً ، أو حجر كبير عند باب المسجد على ما جزم به ابن بطّال كما في فتح الباري (٢ / ٣١٥) ، وعمدة القاري (٣ / ٢٩١). فالنداء في الزوراء على كلّ حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ الخبر ، فأيّ جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنّة؟

ثمّ إنّ كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائيّة في السابعة من خلافة عثمان؟ أو أنّ الجمعيّة كانت إلى التكثّر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلاميّة؟ فما ذلك الحدّ الذي أوجب مخالفة السنّة أو ابتداع نداء ثالث؟ وهل هذه السنّة المبتدعة يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من الناس فيكرّر فيها الأذان عشرات أو مئات؟ سل الخليفة وأنصاره المبرّرين لعمله.

على أنّ كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلما ذا أخذ فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به؟ ولم يكن فيها التكثّر ، وكان على الخليفة أن ينهاهم عنه وينوّه بأنّ الزيادة على الأذان المشروع تخصّ بالمدينة فحسب ، أو يؤخذ بحكمها في كلّ بلدة كثر الناس بها.

نعم ، فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجّاج ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.

ـ ٥ ـ

توسيع الخليفة المسجد الحرام

قال الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤٧) في حوادث سنة (٢٦) الهجريّة : وفيها زاد

__________________

(١) فتح الباري لابن حجر : ٢ / ٣١٥ [٢ / ٣٩٤] ، عمدة القاري : ٣ / ٢٩١ [٦ / ٢١٢].(المؤلف)

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٥١.


عثمان في المسجد الحرام ووسّعه ، وابتاع من قوم وأبى آخرون ، فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال ، فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال : أتدرون ما جرّأكم عليّ؟ ما جرّأكم عليّ إلاّ حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. ثمّ كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأُخرجوا. وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه (١) (٢ / ١٤٢) ، وابن الأثير في الكامل (٢) (٣ / ٣٩).

وأخرج البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٨) من طريق مالك عن الزهري قال : وسّع عثمان مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم ، فقال الناس : يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته.

قال الأميني : كأنّ الخليفة لم يكن يرى لليد ناموساً مطّرداً في الإسلام ، ولا للملك والمالكيّة قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدّسة ، وكأنّه لم يقرع سمعه قول نبيّ العظمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس منه» (٣).

وإنّ من العجب العجاب أنّ الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد ، وشاهد محاكمة العبّاس بن عبد المطّلب معه وإباءه عن إعطاء داره ، ورواية أبيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه‌السلام ، وقد خصمه العبّاس بذلك ، وثبتت عند عمر السنّة الشريفة فخضع لها ، كما مرّ تفصيله في الجزء السادس (ص ٢٦٢ ـ ٢٦٦). غير أنّ الرجل لم يكترث لذلك كلّه ويخالف تلك السنّة الثابتة ، ثمّ يحتجّ بفعل عمر وهيبة الناس لكنّه حلم فلم يهابوه ، فهدم دور الناس من دون رضاهم وسجن من حاوره أو فاوضه في ذلك ، ووضع الأثمان في بيت المال

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٤.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٣٤ حوادث سنة ٢٦ ه‍.

(٣) ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس : ٢ / ١٣٤ [ح ٧٢] و ٤ / ١١١ [ح ٢٢٣]. (المؤلف)


حتى قال الناس : يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته.

ـ ٦ ـ

رأي الخليفة في متعة الحجّ

أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال : سمعت (١) عثمان وعليّا رضي الله عنهما بين مكة والمدينة ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً ، قال : «لبّيك بعمرة وحجّة معاً» قال : فقال عثمان : تراني أنهى الناس عن شيء وتفعله أنت؟ قال : «لم أكن لأدع سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد من الناس».

وفي لفظ أحمد : كنّا نسير مع عثمان رضى الله عنه ، فإذا رجل يلبّي بهما جميعاً ، فقال عثمان رضى الله عنه : من هذا؟ فقالوا : عليّ. فقال. ألم تعلم أنّي قد نهيت عن هذا؟ قال : «بلى. ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقولك».

وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع عليّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له عليّ «ما تريد إلى امر فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنهى عنه؟» قال دعا منك قال : «انّى لا أستطيع أن أدعك». فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً.

وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال : كان عثمان رضى الله عنه ينهى عن المتعة وكان عليّ رضى الله عنه يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ كلمة ، ثمّ قال عليّ : «لقد علمت أنّا قد تمتّعنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال : أجل ولكنّا كنّا خائفين.

راجع (٢) : صحيح البخاري (٣ / ٦٩ ، ٧١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٤٩) ، مسند أحمد

__________________

(١) في المصدر : شهدت عثمان وعليّا ....

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٦٧ ح ١٤٨٨ ، ص ٥٦٩ ح ١٤٩٤ ، صحيح مسلم : ٣ / ٦٨ ح ١٥٨ كتاب الحج ، مسند أحمد : ١ / ٩٨ ح ٤٣٣ ، ص ١٥٣ ح ٧٣٥ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٤٥ ح ٣٧٠٣ ، المستدرك على الصحيحين : / ٦٤٤ ح ١٧٣٥ ، تيسير الوصول : ١ / ٣٣٣.


(١ / ٦١ ، ٩٥) ، سنن النسائي (٥ / ١٤٨ ، ١٥٢) ، سنن البيهقي (٤ / ٣٥٢ و ٥ / ٢٢) ، مستدرك الحاكم (١ / ٤٧٢) ، تيسير الوصول (١ / ٢٨٢).

قال الأميني : لقد فصّلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس (ص ١٩٨ ـ ٢٠٥ و ٢١٣ ـ ٢٢٠) ، تفصيلاً وذكرنا هنالك أحاديث جمّة أنّ متعة الحجّ ثابتة بالكتاب والسنّة ، ولم تنزل آية تنسخ متعة الحجّ ولم ينه عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى مات ، وإنّما النهي عنها رأي رآه الخليفة الثاني كما أخرجه الشيخان وجمع من أئمّة الحديث من طرقهم المتكثّرة. ولقد شاهد عثمان تلكم المواقف وما وقع فيها من الحوار وما أنكره الصحابة على من نهى عنها ، وكان كلّ حجّته : إنّي لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجّاجاً. وأنت ترى أنّ هذه الحجّة الداحضة لم تكن إلاّ رأياً تافهاً غير مدعوم ببرهنة ، بل منقوض بالكتاب والسنّة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف من صاحب هذا الرأي بهذه الدقيقة التي اكتشفها بنظّارته المقرّبة ، والله سبحانه قبله يعلم كلّ ذلك ، فلم ينهيا عن متعة الحج بل أثبتاها.

ما العلمُ إلاّ كتابُ اللهِ والأثرُ

وما سوى ذاك لا عينٌ ولا أثرُ

إلاّ هوىً وخصوماتٌ ملفّقةٌ

فلا يغرنّكَ من أربابِها هدَرُ (١)

نعم ، شهد عثمان كلّ ذلك لكنّه لم يكترث لشيء منها ، وطفق يقتصّ أثر من قبله ، وكان حقّا عليه أن يتّبع كتاب الله وسنّة نبيّه والحقّ أحقّ أن يتّبع ، ولم يقنعه كلّ ذلك حتى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام ـ الذي هو نفس الرسول ، وباب مدينة علمه ، وأقضى أمّته وأعلمها ـ على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذّ عن حكم الله ، حتى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه‌السلام متمتّع بالحجّ ، وكاد من جرّاء ذلك يُقتَلُ عليّ ـ سلام الله عليه ـ كما مرّ حديثه في الجزء السادس ص (٢٠٥)

__________________

(١) البيان للفقيه أبي زيد علي الزبيدي المتوفّى ٨١٣ ، ذكرهما صاحب شذرات الذهب : ٧ / ٢٠٣ [٩ / ١٥٣ حوادث سنة ٨١٣ ه‍]. (المؤلف)


[من] الطبعة الأُولى و (٢١٩) من الطبعة الثانية.

ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا عليّ عليه‌السلام لمّا قال له : «لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول الله». من قوله : أجل ولكنّا كنّا خائفين. أيّ خوف كان في سنة حجّة التمتع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهي حجّة الوداع والنبيّ الأقدس كان معه مائة ألف أو يزيدون ، وأنت تجد أعلام الأمّة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضاً ، قال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر (١) الحديث : قال شعبة لقتادة : ما كان خوفهم. قال : لا أدري!

أنا لا أدري ، هذا مبلغ علم الخليفة ، أو مدى عقليّته ، أو كميّة إصراره على تنفيذ ما أراد ، أو حدّ اتّباعه كتاب الله وسنّة نبيّه ، أو مقدار أمانته على ودائع الدين؟ وهو خليفة المسلمين (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

أليس من الغلوّ الممقوت الفاحش عندئذٍ ما جاء به البلاذري في الأنساب (٥ / ٤) من قول ابن سيرين : كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر؟

إن كان أعلم الأُمّة هذه سيرته وهذا حديثه ، فعلى الإسلام السلام.

ـ ٧ ـ

تعطيل الخليفة القصاص

أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال : لمّا قتل عمر إنّي مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجيٌّ ، فلمّا رأوني ثاروا فسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه ، فنظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه ، فانطلق عبيد الله بن عمر

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٩٨ ح ٤٣٣.

(٢) النحل : ٤٣.


فأخذ سيفه حتى سمع ذلك من عبد الرحمن ، فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة [وقتل] (١) بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد قتل كلّ سبيّ بالمدينة فمنعوه ؛ فلمّا استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص : إنّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان فذهب دم الهرمزان هدراً.

وأخرجه الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤٢) بتغيير يسير والمحبّ الطبري في الرياض (٣) (٢ / ١٥٠) ، وذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٦١٩) وصحّحه باللفظ المذكور.

وذكر البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٤) عن المدائني ، عن غياث بن إبراهيم : أن عثمان صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّا لم نكن خطباء وإن نَعِش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله ، وقد كان من قضاء الله أنّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين (٤) ولا وارث له إلاّ المسلمون عامّة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا : نعم. فقال عليّ : «أَقِدِ الفاسقَ فإنّه أتى عظيماً ، قتل مسلماً بلا ذنب». وقال لعبيد الله : «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان».

وقال اليعقوبي في تاريخه (٥) (٢ / ١٤١) : أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ، ثمّ قال : ألا إنّي وليّ دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال : إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال : فننظر وتنظرون ، ثمّ أخرج

__________________

(١) الزيادة من المصدر.

(٢) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٤٠ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٣) الرياض النضرة : ٣ / ٨٩.

(٤) أسلم على يد عمر وفرض له في ألفين كما في الإصابة وغيرها. (المؤلف)

(٥) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٣.


عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنُسِب الموضع إليه ـ كُوَيْفة ابن عمر ـ فقال بعضهم.

أبا عمرو (١) عبيدُ اللهِ رهنٌ

فلا تشكُكْ بقتلِ الهرمزان

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٦١) بإسناد عن عبد الله (٢) بن عبيد بن عمير قال : لمّا طعن عمر رضى الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله ، فقيل لعمر : إنّ عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان. قال : ولم قتله؟ قال : إنّه قتل أبي. قيل : وكيف ذاك؟ قال : رأيته قبل ذلك مستخلياً بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي. قال عمر : ما أدري ما هذا ، انظروا إذا أنا متّ فاسألوا عبيد الله البيّنة على الهرمزان : هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، وإن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان. فلمّا ولي عثمان رضي‌الله‌عنه قيل له : ألا تمضي وصيّة عمر رضى الله عنه في عبيد الله؟ قال : ومن وليّ الهرمزان؟ قالوا : أنت يا أمير المؤمنين. فقال قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.

وفي طبقات ابن سعد (٣) (٥ / ٨ ـ ١٠) طبع ليدن : انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة وكانت تدّعي الإسلام ، وأراد عبيد الله ألاّ يترك سبياً بالمدينة يومئذٍ إلاّ قتله. فاجتمع المهاجرون الأوّلون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدّوا عليه وزجروه عن السبي ، فقال : والله لأقتلنّهم وغيرهم. يعرّض ببعض المهاجرين ، فلم يزل عمرو بن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه ، فأتاه سعد فأخذ كلّ واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان (٤) ، حتى حجز بينهما الناس ، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيّام الشورى قبل أن يبايع له ، حتى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثمّ حُجز بينهما وأظلمت الأرض يومئذٍ على الناس ، فعظم ذلك في صدور

__________________

(١) أبو عمرو هي كنية عثمان بن عفّان.

(٢) في الأصل عبيد الله ، وصحّحناه من السنن الكبرى.

(٣) الطبقات الكبرى : ٥ / ١٥ ـ ١٧.

(٤) التناصي : هو الأخذ بالنواصي جمع ناصية ، وهي شعر مقدّم الرأس.


الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة حين قتل عبيد الله جُفَينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.

وعن أبي وجزة عن أبيه قال : رأيت عبيد الله يومئذٍ وإنّه ليناصي عثمان ، وإنّ عثمان ليقول : قاتلك الله قتلت رجلاً يصلّي وصبيّة صغيرة ، وآخر من ذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما في الحقّ تركك. قال : فعجبت لعثمان حين ولي كيف تركه! ولكن عرفت أنّ عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن رأيه.

وعن عمران بن منّاح قال : جعل سعد بن أبي وقّاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وجعل سعد يقول وهو يناصيه :

لا أُسْدَ إلاّ أنتَ تنهِتُ واحداً

وغالت أُسودَ الأرض عنك الغوائلُ (١)

فقال عبيد الله :

تعلّمُ أنّي لحمُ ما لا تسيغه

فكلْ من خشاش الأرض ما كنت آكلا

فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلّم عبيد الله ، ويرفق به حتى أخذ سيفه منه ، وحبس في السجن حتى أطلقه عثمان حين ولي.

عن محمود بن لبيد : كنتُ أحسب أنّ عثمان إن ولي سيقتل عبيد الله لما كنت أراه صنع به ، كان هو وسعد أشدّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه.

وعن المطّلب بن عبد الله قال : قال عليّ لعبيد الله بن عمر : «ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها؟». قال : فكان رأي عليّ حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلّم عثمان حتى تركه ، فكان عليّ يقول : «لو قدرت على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه».

__________________

(١) الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجّاج بن علاط. (المؤلف)


وعن الزهري : لمّا استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال : أشيروا عليّ في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله ، وقال جلّ الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة يريدون يُتبعون عبيد الله أباه. فكثر ذلك القول ، فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين إنّ هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على الناس فأعرض عنه ، فتفرّق الناس عن كلام عمرو بن العاص.

وعن ابن جريح : إنّ عثمان استشار المسلمين فأجمعوا على ديتهما ، ولا يقتل بهما عبيد الله بن عمر ، وكانا قد أسلما ، وفرض لهما عمر ، وكان عليّ بن أبي طالب لمّا بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان ، فلم يزل معه فقتل بصفين (١).

وذكر الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٤١) قال : جلس عثمان في جانب المسجد ـ لمّا بويع ـ ودعا عبيد الله بن عمر ، وكان محبوساً في دار سعد بن أبي وقّاص ، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جُفَينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وكان يقول : والله لأقتلنّ رجالاً ممّن شرك في دم أبي. يعرّض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده ، وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض ، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه ، فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق ، فقال عليّ : «أرى أن تقتله». فقال بعض المهاجرين : قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنّما كان هذا الحدث ولا سلطان لك ، قال عثمان : أنا وليّهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي ،

__________________

(١) حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روماً للاختصار وهي كلّها مسندة. (المؤلف)

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٣٩.


قال : وكان رجل من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :

ألا يا عبيدَ اللهِ ما لك مهربٌ

ولا ملجأٌ من ابن أروى (١) ولا خفرْ

أصبتَ دماً واللهِ في غيرِ حلّهِ

حراماً وقتلُ الهرمزان له خطرْ

على غير شيءٍ غير أنْ قالَ قائلٌ

أتتّهمون الهرمزانَ على عمرْ

فقال سفيهٌ والحوادث جمّةٌ

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمرْ

وكان سلاحُ العبدِ في جوفِ بيتِهِ

يقلّبها والأمرُ بالأمرِ يعتبرْ

قال : فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره ، فدعا عثمان زياد ابن لبيد فنهاه ، قال : فأنشأ زياد يقول في عثمان :

أبا عمرو عبيدُ اللهِ رهنٌ

فلا تشكك بقتلِ الهرمزانِ

فإنَّك إن غفرتَ الجرمَ عنه

وأسباب الخطا فَرَسا رهانِ

أتعفو إذ عفوت بغير حقٍ

فما لك بالذي تحكي يدانِ

فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذّبه. وذكره ابن الأثير في الكامل (٢) (٥ / ٣١)

قال الأميني : الذي يعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أنّ الخليفة لم يُقِد عبيد الله قاتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة ، مع إصرار غير واحد من الصحابة على القصاص ، ووافقهم على ذلك مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، لكنه قدّم على رأيه الموافق للكتاب والسنّة ، وهو أقضى الأمّة بنص النبيّ الأمين وعلى آراء الصحابة إشارة عمرو بن العاصي ابن النابغة ـ المترجم في الجزء الثاني صفحة (١٢٠ ـ ١٧٦) بترجمة ضافية تعلمك حسبه ونسبه وعلمه ودينه ـ حيث قال له : إنّ هذا الأمر كان

__________________

(١) أروى بنت كريز أمّ عثمان كما مرّ في : ص ١٢٠. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.


وليس لك على الناس سلطان ... إلخ. على حين أنّ من كانت له السلطة عندئذٍ ، وهو الخليفة المقتول ، في آخر رمق من حياته حكم بأن يقتصّ من ابنه إن لم يقم البيّنة العادلة بأنّ الهرمزان قتل أباه ، ومن الواضح أنّه لم يقمها ، فلم يزل عبيد الله رهن هذا الحكم حتى أطلق سراحه ، وكان عليه مع ذلك دم جفينة وابنة أبي لؤلؤة.

وهل يشترط ناموس الإسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند سلطانه؟ حتى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة ، وإن صحّت الأحلام فاستيهاب الخليفة لما ذا؟ وهب أنّ خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد وليّ للمقتول ، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله؟ وهل للمسلمين الذين استوهبهم فوهبوا مالا يملكون ردّ ذلك الحكم البات؟ وعلى تقدير أن يكون لهم ذلك ، فهل هبة أفراد منهم وافية لسقوط القصاص ، أو يجب أن يوافقهم عليها عامّة المسلمين؟ وأنت ترى أنّ في المسلمين من ينقم ذلك الإسقاط وينقد من فعله ، حتى أنّ عثمان لمّا رأى المسلمين أنّهم قد أبوا إلاّ قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً ، وهي التي يقال لها : كويفة ابن عمر ، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه (١).

وكان أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهو سيّد الأمّة وأعلمها بالحدود والأحكام يكاشف عبيد الله ويهدّده بالقتل على جريمته متى ظفر به ، ولمّا ولي الأمر تطلّبه ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، وقتل بصفّين ، كما في الكامل لابن الأثير (٢) (٣ / ٣٢). وفي الاستيعاب (٣) لابن عبد البرّ : إنّه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان ، فلمّا ولي عليّ خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفّين. وفي مروج

__________________

(١) راجع ما مرّ في : ص ١٣٣ ، ومعجم البلدان : ٧ / ٣٠٧ [٤ / ٤٩٦]. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٠١٢ رقم ١٧١٨.


الذهب (١) (٢ / ٢٤): إنّ عليّا ضربه [ضربةً] (٢) فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه ، وإنّ عليّا قال حين هرب فطلبه ليقيد منه بالهرمزان : «لئن فاتني في هذا اليوم ، لا يفوتني في غيره».

هذه كلّها تنمّ عن أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان مستمرّا على عدم العفو عنه ، وأنّه لم يكن هناك حكم نافذ بالعفو يُتّبع ، وإلاّ لما طلبه ولا تحرّى قتله ، وقد ذكّره بذلك يوم صفّين لمّا برز عبيد الله أمام الناس فناداه عليّ : «ويحك يا ابن عمر علام تقاتلني؟ والله لو كان أبوك حيّا ما قاتلني». قال : أطلب (٣) بدم عثمان. قال : «أنت تطلب بدم عثمان ، والله يطلبك بدم الهرمزان» ؛ وأمر عليّ الأشتر النخعي بالخروج إليه (٤).

إلى هنا انقطعت المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه ، لكن قاضي القضاة أطلع رأسه من مكمن التمويه ، فعزا إلى شيخه ، أبي عليّ أنّه قال (٥) : إنّما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عزّ الدين ، لأنّه خاف أن يبلغ العدوّ قتله فيقال : قتلوا إمامهم ، وقتلوا ولده ، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة. انتهى.

أولا تسائل هذا الرجل؟ عن أيّ شماتة تتوجّه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء ، وأنّهم لم تأخذهم عليه رأفة في دين الله لتعدّيه حدوده سبحانه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦) ولم يكترثوا لأنّه في الأمس أُصيب بقتل أبيه واليوم يقتل هو

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٣.

(٢) من المصدر.

(٣) في المصدر : أطالب.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ١٢ [٢ / ٣٩٩]. (المؤلف)

(٥) راجع شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٢ [٣ / ٦٠ خطبة ٤٣]. (المؤلف)

(٦) البقرة : ٢٢٩.


فتشتبك المصيبتان على أهله ، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنّه منبعث عن صلابة في إيمان ، ونفوذ في البصيرة ، وتنمّر في ذات الله ، وتحفّظ على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وأخذ بمجاميع الدين الحنيف ، فأيّ أمّة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد إليها ألفاظ المدح والإطراء؟ وإنّما الشماتة في التهاون بالأحكام ، وإضاعة الحدود بالتافهات ، واتّباع الهوى والشهوات ، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظٌّ من الدفاع فدافع.

ثمّ إنّ ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأوّل في تبرير عمله الشاذّ عن الكتاب والسنّة. فمن زاعم أنّه عفا عنه ولوليّ الأمر ذلك. وهم يقولون : إنّ الإمام له أن يصالح على الدية إلاّ أنّه لا يملك العفو ، لأنّ القصاص حقّ المسلمين بدليل أنّ ميراثه لهم ، وإنّما الإمام نائب عنهم في الإقامة ، وفي العفو إسقاط حقّهم أصلاً ورأساً وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يملكه الأب والجدّ وإن كانا يملكان استيفاء القصاص ، وله أن يصلح على الدية (١).

وثان يحسب أنّه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول إذ لا وليّ له. ونحن لا ندري أنّهم هل فحصوا عن وليّه في بلاد فارس؟ والرجل فارسيّ هو وأهله ، أو أنّهم اكتفوا بالحكم بالعدم؟ لأنّهم لم يشاهدوه بالمدينة ، وهو غريب فيها ليس له أهل ولا ذوو قرابة ، أو أنّهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم؟ وما كان يضرّهم لو أرجعوا الأمر إلى أوليائه ، في بلاده فيؤمنوهم حتى يأتوا إلى صاحب ترتهم (٢) فيقتصّوا منه أو يعفوا عنه؟

ثمّ متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان؟ وسيّدهم يقول : «أقدِ الفاسق فإنّه أتى عظيماً». وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه ، ولم يكن في مجتمع الإسلام

__________________

(١) بدائع الصنائع لملك العلماء الحنفي : ٧ / ٢٤٥. (المؤلف)

(٢) الترة : الثأر.


من يدافع عنه ويعفو إلاّ ابن النابغة ، وقد مرّ عن ابن سعد قول الزهري من أنّه أجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله.

وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي ، وهل يتفلسف بتلك الشماتة والوصمة والمسبّة على بني أميّة في قتلهم من العترة الطاهرة والداً وما ولد وذبحهم في يوم واحد منهم رضيعاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً سيد شباب أهل الجنّة؟

وهناك من يصوغ لهرمزان وليّا يسمّيه القماذبان ، ويحسب أنّه عفا بإلحاح من المسلمين ، أخرج الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٤٣) عن السري وقد كتب إليه عن شعيب ، عن سيف بن عمر ، عن أبي منصور قال : سمعت القماذبان يحدّث عن قتل أبيه قال : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض ، فمرّ فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال : ما تصنع في هذه البلاد؟ فقال أبس (٢) به ، فرآه رجل. فلمّا أُصيب عمر قال : رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز ، فاقبل عبيد الله فقتله ، فلمّا ولي عثمان دعاني فأمكنني منه ، ثمّ قال : يا بنيّ هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منّا فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في الأرض أحد إلاّ معي إلاّ أنّهم يطلبون إليّ فيه فقلت لهم : ألي قتله؟ قالوا : نعم. وسبّوا عبيد الله ، فقلت : أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا : لا ، وسبّوه. فتركته لله ولهم فاحتملوني ، فو الله ما بلغت المنزل إلاّ على رءوس الرجال وأكفّهم.

لو كان هذا الوليّ المزعوم موجوداً عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح المذكور على صهوة المنبر : لا وارث له إلاّ المسلمون عامّة وأنا إمامكم؟ وما قوله الآخر في حديث الطبري نفسه : أنا وليّهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي؟ ولو كان يعلم بمكان هذا الوارث فلم حوّل القصاص إلى الدية قبل مراجعته؟ ثمّ لما حوّله فلم لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله؟ ثمّ أين صارت الدية وما فعل بها؟ أنا لا أدري!

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٤ / ٢٤٣.

(٢) بسّ الشيء : حطمه ، وفي المصدر : آنس بدلاً من أبس.


ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحد إلاّ معه وهو الذي عفا عن قاتل أبيه ، فما معنى قول الخليفة : وقد عفوت ، أفتعفون؟ وقوله في حديث البيهقي : قد عفوت عن عبيد الله بن عمر؟ وما معنى استيهاب الخليفة المسلمين ووليّ المقتول حيّ يرزق؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة؟ وما معنى تشديد مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص؟ وما معنى قوله عليه‌السلام لعبيد الله «يا فاسق لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان»؟ وما معنى تطلّبه لعبيد الله ليقتله إبّان خلافته؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفاً من أمير المؤمنين؟ وما معنى قول عمرو بن العاصي لعثمان : إنّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان؟ وما معنى قول سعيد بن المسيّب : فذهب دم الهرمزان هدراً؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب عثمان : أتعفو إذ عفوت بغير حقّ .. الخ؟ وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في بدائع الصنائع (٧ / ٢٤٥) وجعله مدرك الفتوى في الشريعة؟ قال : روي أنّه لمّا قُتِل سيّدنا عمر رضى الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده ، فظنّ عبيد الله أنّ هذا هو الذي قتل سيّدنا عمر رضى الله عنه فقتله ، فرجع ذلك إلى سيّدنا عثمان رضى الله عنه فقال سيّدنا عليّ رضى الله عنه لسيّدنا عثمان : «اقتل عبيد الله» فامتنع سيّدنا عثمان رضى الله عنه وقال : كيف أقتل رجلاً قُتل أبوه أمس؟ لا أفعل ؛ ولكن هذا رجل من أهل الأرض وأنا وليّة أعفو عنه وأودي ديته.

وما معنى قول الشيخ أبي علي : إنّه لم يكن للهرمزان وليّ يطلب بدمه والإمام وليّ من لا وليّ له ، وللوليّ أن يعفو؟

ولبعض ما ذكر زيّفه ابن الأثير في الكامل (١) (٣ / ٣٢) فقال : الأول أصحّ في إطلاق عبيد الله ، لأنّ عليّا لمّا ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر وليّ الدم لم يتعرّض له عليّ. انتهى.

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٢٧ حوادث سنة ٢٣ ه‍.


وقبل هذه كلّها ما في إسناد الرواية من الغمز والعلّة ، كتبها إلى الطبري السري ابن يحيى الذي لا يوجد بهذه النسبة له ذكر قطّ ، غير أنّ النسائي أورد عنه حديثاً لسيف بن عمر فقال : لعلّ البلاء من السري (١) وابن حجر يراه السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي الذي كذّبه يحيى بن سعيد وضعّفه غير واحد من الحفّاظ ، ونحن نراه السري بن عاصم الهمداني نزيل بغداد المتوفّى (٢٥٨) ، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذّبه ابن خراش ، ووهّاه ابن عدي (٢) ، وقال : يسرق الحديث وزاد ابن حبّان (٣) : ويرفع الموقوفات لا يحلّ الاحتجاج به ، وقال النقاش في حديث : وضعه السري (٤) فهو مشترك بين كذّابين لا يهمّنا تعيين أحدهما.

والتسمية بابن يحيى محمولة على النسبة إلى أحد أجداده كما ذكره ابن حجر في تسميته بابن سهل (٥) هذا إن لم تكن تدليساً ، ولا يحسب القارئ أنّه السري بن يحيى الثقة لقدم زمانه وقد توفّي سنة (١٦٧) (٦) قبل ولادة الطبري ـ الراوي عنه المولود سنة (٢٢٤) ـ بسبع وخمسين سنة.

وفي الإسناد شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي (٧) : ليس بالمعروف وقال الذهبي : راوية كتب سيف عنه فيه جهالة (٨).

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٦٠ [٣ / ٣٩٩]. (المؤلف)

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٤٦٠ رقم ٨٧٤.

(٣) كتاب المجروحين : ١ / ٣٥٥.

(٤) تاريخ الخطيب : ٩ / ١٩٣ [رقم ٤٧٧٠] ، ميزان الاعتدال : ١ / ٣٨٠ [٢ / ١١٧ رقم ٣٠٨٩] ، لسان الميزان : ٣ / ١٣ [٣ / ١٦ رقم ٣٦٢٤] مرّ في : ٥ / ٢٣١. (المؤلف)

(٥) لسان الميزان : ٣ / ١٣. (المؤلف)

(٦) تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٦١ [٣ / ٤٠٠]. (المؤلف)

(٧) الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ٤ رقم ٨٨٥.

(٨) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٤٨ [٢ / ٢٧٥ رقم ٣٧٠٤] ، لسان الميزان : ٣ / ١٤٥ [٣ / ١٧٦ رقم ٤١٠٠]. (المؤلف)


وفيه سيف بن عمر التميمي راوي الموضوعات ، المتروك ، الساقط ، المتسالم على ضعفه : المتّهم بالزندقة ، كما مرّت ترجمته في صفحة (٨٤). وقد مرّ عن السيوطي (١) أنّه ذكر حديثاً بهذا الطريق وقال : موضوع فيه ضعفاء أشدّهم سيف بن عمر.

وفيه : أبو منصور ، مشترك بين عدّة ضعفاء لا يعوّل عليهم ولا على روايتهم.

عذر مفتعل :

إنّ المحبّ الطبري أعماه الحبّ وأصمّه فجاء بعذر مفتعل غير ما ذكر ، قال في رياضه النضرة (٢) (٢ / ١٥٠) : عنه جوابان :

الأوّل : أنّ الهرمزان شارك أبا لؤلؤة في ذلك ومالأه ، وإن كان المباشر أبا لؤلؤة وحده ، ولكن المعين على قتل الإمام العادل يباح قتله عند جماعة من الأئمّة ، وقد أوجب كثير عن الفقهاء القود على الآمر والمأمور. وبهذا اعتذر عبيد الله بن عمر وقال : إنّ عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره أنّه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة يدخلون في مكان يتشاورون وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه فقتل عمر في صبيحة تلك الليلة ، فاستدعى عثمان عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال : انظروا إلى السكّين فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلاّ وقد اجتمعوا على قتله. فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن ، فلذلك ترك عثمان قتل عبيد الله بن عمر لرؤيته عدم وجوب القود لذلك ، أو لتردّده فيه فلم ير الوجوب بالشك.

والجواب الثاني : أنّ عثمان خاف من قتله ثوران فتنة عظيمة لأنّه كان بنو تيم وبنو عدي مانعين من قتله ، ومانعين عنه ، وكان بنو أُميّة أيضاً جانحين إليه ، حتى قال

__________________

(١) اللآلئ المصنوعة : ١ / ٤٢٩.

(٢) الرياض النضرة : ٣ / ٨٨.


له عمرو بن العاص : قُتل أمير المؤمنين عمر بالأمس ، ويُقتل ابنه اليوم؟ لا والله لا يكون هذا أبداً ، ومال في بني جمح ، فلمّا رأى عثمان ذلك اغتنم تسكين الفتنة وقال : أمره إليّ وسأرضي أهل الهرمزان منه.

قال الأميني : إنّ إثبات مشاركة هرمزان أبا لؤلؤة في قتل الخليفة على سبيل البتّ لمحض ما قاله عبد الرحمن بن أبي بكر من أنّه رآهما متناجيين وعند أبي لؤلؤة خنجر له رأسان دونه خرط القتاد ، فإنّ من المحتمل أنّهما كانا يتشاوران في أمر آخر بينهما ، أو أنّ أبا لؤلؤة استشاره فيما يريد أن يرتكب فنهاه عنه الهرمزان ، لكنّه لم يصغ إلى قيله فوقع القتل غداً ، إلى أمثال هذين من المحتملات ، فكيف يلزم الهرمزان والحدود تُدرَأ بالشبهات (١)؟

هبّ أنّ عبد الرحمن شهد بتلك المشاركة ، وادّعى أنّه شاهد الوقفة بعينه ، فهل يُقتل مسلم بشهادة رجل واحد في دين الله؟ ولم تنعقد البيّنة الشرعيّة مصافقة لتلك الدعوى ، ولهذا لما أنهيت القضيّة من اختلاء الهرمزان بأبي لؤلؤة إلى آخرها إلى عمر نفسه قال : ما أدري هذا ، انظروا إذا أنا متّ فاسألوا عبيد الله البيّنة على الهرمزان ، هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي ، وإذا لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.

وهبّ أنّ البيّنة قامت عند عبيد الله على المشاركة ، فهل له أن يستقلّ بالقصاص؟ أو أنّه يجب عليه أن يرفع أمره إلى أولياء الدم؟ لاحتمال العفو في بقيّة الورثة مضافاً إلى القول بأنّه من وظائف السلطان أو نائبه ، وعلى هذا الأخير الفتوى المطّردة بين العلماء (٢).

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٢ [٢ / ٨٥٠ ح ٢٥٤٥] ، سنن البيهقي : ٨ / ٢٣٨ ، سنن الترمذي : ٢ / ١٧١ [٤ / ٢٥ ح ١٤٢٤] ، أحكام القرآن للجصّاص : ٣ / ٣٣٠ [٣ / ٢٦٨] ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٠ [٢ / ٢٣]. (المؤلف)

(٢) كتاب الأم للشافعي : ٦ / ١١ ، المدوّنة الكبرى : ٤ / ٥٠٢ [٦ / ٤٣٧] ، فيض الإله المالك للبقاعي : ٢ / ٢٨٦ [٢ / ٢٨٧]. (المؤلف)


على أنّه لو كانت لعبيد الله أو لمن عطّل القصاص منه معذرة كهذه لأبدياها أمام الملأ المنتقد ، ولما قال مولانا أمير المؤمنين : «اقتل هذا الفاسق» ، ولما تهدّده بالقتل متى ظفر به ، ولما طلبه ليقتله إبّان خلافته ، ولما هرب عنه عبيد الله إلى معاوية ، ولما اقتصر عثمان بالعذر بأنّه وليّ الدم ، وأنّ المسلمين كلّهم أولياء المقتول ، ولما وهبه واستوهب المسلمين ، ولما كان يقع الحوار بين الصحابة الحضور في نفس المسألة ، ولما قام إليه سعد بن أبي وقّاص وانتزع السيف من يده وجرّه من شعره حتى أضجعه وحبسه في داره.

وهب أنّه تمّت لعبيد الله هذه المعذرة فبما ذا كان اعتذاره في قتل بنت أبي لؤلؤة المسكينة الصغيرة ، وتهديده الموالي كلّهم بالقتل (١)؟

٢ ـ أنا لا أدري من أين جاء المحبّ بهذا التاريخ الغريب من نهضة تيم وعدي ومنعهم من قتل عبيد الله ، وجنوح الأمويّين إليهم بصورة عامّة ، حتى خافهم الخليفة الجديد. وأيّ خليفة هذا يستولي عليه الفرق من أوّل يومه؟ فإذا تبيّنت عليه هذه الضؤولة في مفتتح خلافته ، فبأيّ هيبة يسوس المجتمع بعده؟ ويقتصّ القاتل ، ويقيم الحدود ، ولكلّ مقتصّ منه أو محدود قبيلة تغضب له ، ولها أحلاف يكونون عند مرضاتها.

ليس في كتب التاريخ والحديث أيّ أثر ممّا ادّعاه المحبّ المعتذر ، وإلاّ لكان سعد ابن أبي وقّاص أولى بالخشية يوم قام إلى عبيد الله وجرّ شعره ، وحبسه في داره ، ولم يُر أيّ تيميّ طرق باب سعد ، ولا عدويّ أنكر عليه ، ولا أمويّ أظهر مقته على ذلك ، لكن المحبّ يريد أن يستفزّهم وهم رمم بالية.

ثمّ لو كان عند من ذكرهم جنوح إلى تعطيل هذا الحكم الإلهي حتى أوجب ذلك حذار الخليفة من بوادرهم ، فإنّه معصية تنافي عدالة الصحابة ، وقد أطبق القوم

__________________

(١) ما تقدّم ردّ الجواب الأوّل للمحبّ الطبري.


على عدالتهم. ولو كان الخليفة يروعه إنكار المنكرين على ما يريد أن يرتكب فلما ذا لم يرعه إنكار الصحابة على الأحداث في أُخرياته؟ حتى أودت به ، أكان هيّاباً ثمّ تشجّع؟ سل عنه المحبّ الطبري.

ـ ٨ ـ

رأي الخليفة في الجنابة

أخرج مسلم في الصحيح بالإسناد عن عطاء بن يسار : أنّ زيد بن خالد الجهني أخبره أنّه سأل عثمان بن عفّان قال : قلت : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يُمنِ؟ قال عثمان : يتوضّأ كما يتوضّأ للصلاة ، ويغسل ذكره. قال عثمان : سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وأخرجه البخاري في صحيحه ، وزاد عليه ، ولفظه : سُئل عثمان بن عفّان عن الرجل يجامع فلا يُنزل ، فقال : ليس عليه غسل. ثمّ قال : سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فسألت بعد ذلك عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبيّ ابن كعب فقالوا مثل ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأخرجه بطريق آخر وفيه : فأمروه بذلك ، بدل قوله : فقالوا مثل ذلك عن النبيّ (٢).

وأخرجه أحمد في مسنده (٣) (١ / ٦٣ ، ٦٤) وفيه : فسألت عن ذلك عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبيّ بن كعب فأمروه بذلك. فليس في لفظه (عن رسول الله) وبالألفاظ الثلاثة ذكره البيهقي في السنن الكبرى (١ / ١٦٤ ، ١٦٥).

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ١٤٢ [١ / ٣٤٣ ح ٨٦ كتاب الحيض]. (المؤلف)

(٢) صحيح البخاري : ١ / ١٠٩ [١ / ١١١ ح ٢٨٨]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٠١ ح ٤٥٠ ، ص ١٠٣ ح ٤٦٠.


قال الأميني : هذا مبلغ فقه الخليفة إبّان خلافته وبين يديه قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)(١).

قال الشافعي في كتاب الأمُ (٢) (١ / ٣١) : فأوجب الله عزّ وجلّ الغسل من الجنابة ، فكان معروفاً في لسان العرب أنّ الجنابة الجماع وإن لم يكن مع الجماع ماء دافق ، وكذلك ذلك في حدّ الزنا وإيجاب المهر وغيره ، وكلّ من خوطب بأنّ فلاناً أجنب من فلانة عقل أنّه أصابها وإن لم يكن مقترفاً ، قال الربيع : يريد أنّه لم ينزل.

ودلّت السنّة على أنّ الجنابة أن يفضي الرجل من المرأة حتى يغيب فرجه في فرجها إلى أن يواري حشفته ، أو أن يرى الماء الدافق ، وإن لم يكن جماع. انتهى.

وقال في اختلاف الحديث في هامش كتاب الأُم (٣) (١ / ٣٤) : فكان الذي يعرفه من خوطب بالجنابة من العرب أنّها الجماع دون الإنزال ، ولم تختلف العامّة أنّ الزنا الذي يجب به الحدّ الجماع دون الإنزال ، وأنّ من غابت حشفته في فرج امرأة وجب عليه الحدّ ، وكان الذي يشبه أنّ الحدّ لا يجب إلاّ على من أجنب من حرام. انتهى.

وفي تفسير القرطبي (٤) (٥ / ٢٠٤) : الجنابة : مخالطة الرجل المرأة. والجمهور من الأُمّة على أنّ الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. انتهى.

ثمّ كيف عزب عن الخليفة حكم المسألة ، وقد مرّنته الأسؤلة ، وعلّمته الجوابات النبويّة ، وبمسمع منه مذاكرات الصحابة لما وعوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك جملة منها :

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) كتاب الأم : ١ / ٣٦.

(٣) اختلاف الحديث : ص ٤٩٦.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٣٣.


١ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل».

وفي لفظ «إذا قعد بين شعبها الأربع ، ثمّ أجهد نفسه ، فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل».

وفي لفظ ثالث : «إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل».

وفي لفظ أحمد : «إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثمّ جهد ، فقد وجب الغسل».

صحيح البخاري (١ / ١٠٨) صحيح مسلم (١ / ١٤٢) ، سنن الدارمي (١ / ١٩٤) ، سنن البيهقي (١ / ١٦٣) ، مسند أحمد (٢ / ٢٣٤ ، ٣٤٧ ، ٣٩٣) ، المحلّى لابن حزم (٢ / ٣) ، مصابيح السنّة (١ / ٣٠) ، الاعتبار لابن حازم (ص ٣٠) ، تفسير القرطبي (٥ / ٢٠٠) ، تفسير الخازن (١ / ٣٧٥) (١).

٢ ـ عن أبي موسى : أنّهم كانوا جلوساً فذكروا ما يوجب الغسل ، فقال من حضره من المهاجرين : إذا مسّ الختان الختان وجب الغسل. وقال من حضره من الأنصار : لا حتى يدفق. فقال أبو موسى : أنا آتي بالخبر ، فقام إلى عائشة فسلّم ثمّ قال : إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحييك ، فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلاً عنه أُمّك التي ولدتك إنّما أنا أُمّك. قال : قلت : ما يوجب الغسل؟ قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان وجب الغسل».

صحيح مسلم (١ / ١٤٣) ، مسند أحمد (٦ / ١١٦) ، الموطّأ لمالك (١ / ٥١) ، كتاب

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ١١٠ ح ٢٨٧ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٤٤ ح ٨٧ كتاب الحيض ، مسند أحمد : ٢ / ٤٦٦ ح ٧١٥٧ ، ٣ / ٢٣ ح ٨٣٦٩ ، ص ١٠٢ ح ٨٨٦٣ ، مصابيح السنّة : ١ / ٢١٢ ح ٢٩٢ ، الاعتبار : ص ١٢٠ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٣٤ ، تفسير الخازن : ١ / ٤٤٣.


الأُم للشافعي (١ / ٣١ ، ٣٣) ، سنن البيهقي (١ / ١٦٤) ، المحلّى لابن حزم (٢ / ٢) ، المصابيح للبغوي (١ / ٣٢) ، سنن النسائي ، وصححه ابن حبّان ، وابن القطان ، الاعتبار لابن حازم (ص ٣٠) (١).

٣ ـ عن أُم كلثوم عن عائشة : أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الرجل يجامع أهله [ثم] (٢) يكسل هل عليه من غسل؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه [ثم] (٣) نغتسل».

صحيح مسلم (١ / ١٤٣) ، سنن البيهقي (١ / ١٦٤) ، المدوّنة الكبرى (١ / ٣٤) (٤).

٤ ـ عن الزهري : أنّ رجالاً من الأنصار فيهم أبو أيّوب وأبو سعيد الخدري كانوا يفتون : الماء من الماء ، وأنّه ليس على من أتى امرأته فلم ينزل غسل ، فلمّا ذكر ذلك لعمر ، وابن عمر ، وعائشة أنكروا ذلك ، وقالوا : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.

صحيح الترمذي (٥) (١ / ١٦) ، وصحّحه فقال : وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. سنن البيهقي (١ / ١٦٥).

٥ ـ عن عائشة قالت : «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا».

وفي لفظ : «إذا قعد بين الشعب الأربع ، ثمّ ألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل».

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٣٤٤ ح ٨٨ كتاب الحيض ، مسند أحمد : ٧ / ١٦٣ ح ٢٤٢٩٦ ، موطّأ مالك : ١ / ٤٥ ، كتاب الأُم : ١ / ٣٧ ، ٣٩ ، مصابيح السنّة : ١ / ٢١٦ ح ٣٠٢ ، السنن الكبرى : ١ / ١٠٨ ح ١٩٧ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ٣ / ٤٥٢ ح ١١٧٦ ، الاعتبار : ص ١٢٠.

(٢) من المصدر.

(٣) من المصدر.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ٣٤٥ ح ٨٩ كتاب الحيض ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٣٠.

(٥) سنن الترمذي : ١ / ١٨٠ ح ١٠٩.


سنن ابن ماجة (١) ، مسند أحمد (٢) (٦ / ٤٧ ، ١١٢ ، ١٦١).

٦ ـ عن عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن أبيه مرفوعاً عن جدّه : «إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل». وزاد في المدوّنة : «أنزل أو لم ينزل».

سنن ابن ماجة (١ / ٢١٢) ، المدوّنة الكبرى (١ / ٣٤) ، مسند أحمد (٢ / ١٧٨) ، وأخرجه ابن أبي شيبة كما في نيل الأوطار (١ / ٢٧٨) (٣).

وكأنّ الخليفة كان بمنتأى عن هذه الأحاديث فلم يسمعها ولم يعِها ، أو أنّه سمعها لكنّه ارتأى فيها رأياً تجاه السنّة المحقّقة ، أو أنّه أدرك من أوليات الإسلام ظرفاً لم يشرّع فيه حكم الغسل ، وهو المراد ممّا زعم أنّه سمعه من رسول الله فحسب أنّه مستصحب إلى آخر الأبد حيث لم يتحرّ التعلّم ، ولم يُصِخ إلى المحاورات الفقهيّة حتى يقف على تشريع الحكم إلى أن تقلّد الخلافة على من يعلم الحكم وعلى من لا يعلمه ، فألهته عن الأخذ والتعلّم ، ثمّ إذ لم يجد منتدحاً عن الفتيا في مقام السؤال فأجاب بما ارتآه أو بما علق في خاطره منذ دهر طويل قبل تشريع الحكم.

أو أنّه كان سمع حكماً منسوخاً وعزب عنه ناسخه بزعم من يرى أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الماء من الماء» (٤) وما يشابهه في المعنى من قوله : «إذا أُعجِلت أو أُقحِطت (٥) فلا

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ١٩٩ ح ٦٠٨.

(٢) مسند أحمد : ٧ / ٧٢ ح ٢٣٦٨٦ ، ص ١٦٣ ح ٢٤٢٩٦ ، ص ٢٣١ ح ٢٤٧٥٣.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٠٠ ح ٦١١ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٣٠ مسند أحمد : ٢ / ٣٧٣ ح ٦٦٣٢ ، مصنّف ابن أبي شيبة ١ / ١١٢ ، نيل الأوطار : ١ / ٢٦١.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ١٤١ ، ١٤٢ [١ / ٣٤١ ح ٨٠ كتاب الحيض] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢١١ [١ / ٢٠٠ ح ٦٠٧] ، سنن البيهقي : ١ / ١٦٧. (المؤلف)

(٥) الإقحاط كناية عن عدم الإنزال.


غسل عليك وعليك ، الوضوء» (١) قد نسخ بتشريع الغسل إن كان الاجتزاء بالوضوء فحسب حكماً لموضوع المسألة ، وكان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الماء من الماء» وارداً في الجماع. وأمّا على ما ذهب إليه ابن عبّاس من أنّه ليس منسوخاً بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم يوجد احتلام (٢) كما هو صريح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن رأى احتلاماً ولم ير بللاً فلا غسل عليه» (٣) فمورد سقوط الغسل أجنبي عن المسألة هذه فلا ناسخ ولا منسوخ.

قال القسطلاني في إرشاد الساري (٤) (١ / ٣٣١) ، والنووي في شرح مسلم هامش الإرشاد (٥) (٢ / ٤٢٦) : الجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا : إنّه منسوخ ويعنون بالنسخ أنّ الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطاً ثمّ صار واجباً ، وذهب ابن عبّاس وغيره إلى أنّه ليس منسوخاً بل المراد نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل ، وهذا الحكم باقٍ بلا شك. انتهى.

وأمّا ما مرّ في روايات أوّل العنوان من موافقة مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأبيّ ابن كعب وآخرين لعثمان في الفتيا ، فمكذوب عليهم ستراً على عوار جهل الخليفة بالحكم في مسألة سمحة سهلة كهذه ، أمّا الإمام عليه‌السلام فقد مرّ في الجزء السادس (ص ٢٤٤) (٦)

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ١٤٢ [١ / ٣٤٢ ح ٨٣ كتاب الحيض] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢١١ [١ / ١٩٩ ح ٦٠٦]. (المؤلف)

(٢) مصابيح البغوي : ١ / ٣١ [١ / ٢١٢ ح ٢٩٣] ، تفسير القرطبي : ٥ / ٢٠٥ [٥ / ١٣٤] ، الاعتبار لابن حازم : ص ٣١ [ص ١٢٢] ، فتح الباري : ١ / ٣١٦ [١ / ٣٩٨]. (المؤلف)

(٣) سنن الدارمي : ١ / ١٩٦ ، سنن البيهقي : ١ / ١٦٧ ، ١٦٨ ، مصابيح البغوي : ١ / ٣١ [١ / ٢١٥ ح ٣٠١]. (المؤلف)

(٤) إرشاد الساري : ١ / ٦١٣.

(٥) شرح صحيح مسلم : ٤ / ٣٦.

(٦) الطبعة الاولى وص ٢٦١ الطبعة الثانية. (المؤلف)


ردّه على الخليفة الثاني في نفس المسألة وقوله : «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل». فأرسل عمر إلى عائشة فقالت مثل قول عليّ عليه‌السلام فأخبت إليه الخليفة فقال : لا يبلغني أنّ أحداً فعله ولا يغسل إلاّ أنهكته عقوبة.

وقد علم يوم ذاك حكم المسألة كلّ جاهل به ورفع الخلاف فيها ، قال القرطبي في تفسيره (١) (٥ / ٢٠٥) : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأنّ الغسل يجب بنفس التقاء الختانين وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثمّ رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أترى عليّا عليه‌السلام وافق عثمان وحكم خلاف ما أنزل الله تعالى بعد إفتائه به ، وسوق الناس إليه ، وإقامة الحجّة عليه بشهادة من سمعه عن النبيّ الأعظم؟ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (٢).

وأمّا أبيّ بن كعب فقد جاء عنه من طرق صحيحة قوله : إنّ الفتيا التي كانت الماء من الماء رخصة أرخصها رسول الله في أوّل الإسلام ثمّ أمر بالغسل.

وفي لفظ : إنّما كانت الفتيا في الماء من الماء في أوّل الإسلام ثمّ نهي عنها.

وفي لفظ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما جعل ذلك رخصة للناس في أوّل الإسلام لقلّة الثياب ، ثمّ أمر بالغسل. وفي لفظ : ثمّ أمر بالاغتسال بعد (٣).

فليس من الممكن أنّ أبيّا يروي هذه كلّها ، ثمّ يوافق عثمان على سقوط الغسل بعد ما تبيّن حكم المسألة وشاع وذاع في أيّام الخليفة الثاني.

وأمّا غيرهما : ففي فتح الباري (٤) (١ / ٣١٥) عن أحمد أنّه قال : ثبت عن هؤلاء

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ١٣٤.

(٢) النجم : ٢٣.

(٣) سنن الدارمي : ١ / ١٩٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢١٢ [١ / ٢٠٠ ح ٦٠٩] ، سنن البيهقي : ١ / ١٦٥ ، الاعتبار لابن حازم : ص ٣٣ [ص ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) فتح الباري : ١ / ٣٩٧.


الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.

فنسبة القول بعدم وجوب الغسل في التقاء الختانين إلى الجمع المذكور بهت وقول زور ، وقد ثبت منهم خلافه ، تقوّل القوم عليهم لتخفيف الوطأة على الخليفة ، وافتعلوا للغاية نفسها أحاديث منها ما في المدوّنة الكبرى (١) (١ / ٣٤) من طريق ابن المسيّب قال : إنّ عمر بن الخطّاب ، وعثمان بن عفّان ، وعائشة كانوا يقولون : إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل.

حسب المغفل أنّه باختلاق هذه الرواية يمحو ما خطّته يد التاريخ والحديث في صحائفهما من جهل الرجلين بالحكم ، ورأيهما الشاذّ عن الكتاب والسنّة.

وأعجب من هذا عدّ ابن حزم في المحلّى (٢ / ٤) عليّا وابن عبّاس وأُبيّا وعثمان وعدّة أُخرى وجمهور الأنصار ، ممّن رأى أن لا غسل من الإيلاج إن لم يكن أنزل ، ثمّ قال : وروي الغسل في ذلك عن عائشة وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وابن عبّاس إلخ. كلّ هذه آراء متضاربة ونسب مفتعلة لفّقها أمثال ابن حزم لتزحزح فتوى الخليفتين عن الشذوذ.

وأخرج أحمد في مسنده (٢) (٤ / ١٤٣) من طريق رشدين بن سعد ، عن موسى ابن أيوب الغافقي ، عن بعض ولد رافع بن خديج ، عن رافع بن خديج قال : ناداني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت وخرجت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبرته أنّك دعوتني وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عليك ، الماء من الماء. قال رافع : ثم أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك بالغسل.

__________________

(١) المدوّنة الكبرى : ١ / ٣٠.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٣٥ ح ١٦٨٣٧.


هذه الرواية افتعلها واضعها لإبطال تأويل ابن عباس وإثبات النسخ ذاهلاً عن أنّ هذا لا يبرّر ساحة عثمان من لوث الجهل أيام خلافته بالحكم الناسخ.

وهل في وسع ذي مرّة تعقل حكاية ابن خديج قصّته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وأنّه كان على بطن امرأته لما دعاه ، وأنّه قام ولم ينزل؟ هل العادة قاضية لنقل مثل هذه لمثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ثمّ إن كان الرجل قام من فوره لدعوة نبيّه ، ولم يقض من حليلته وطره ، فلما ذا أرجأ إجابة تلك الدعوة بالاغتسال ولم يكن واجباً؟ فممّن أخذه؟ ولما ذا اغتسل ولمّا أمروا به بعد؟

والنظرة في إسناد الرواية تغنيك عن البحث عمّا في متنها لمكان رشدين بن سعد أبي الحجّاج المصري ، ضعّفه أحمد (١) ، وقال ابن معين (٢) : لا يكتب حديثه ، ليس بشيء ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم (٣) : منكر الحديث فيه غفلة ويحدّث بالمناكير عن الثقات ، ضعيف الحديث. وقال الجوزقاني : عنده معاضيل ومناكير كثيرة وقال النسائي (٤) : متروك الحديث ضعيف لا يكتب حديثه. وقال ابن عدي (٥) : أحاديثه ما أقلّ من يتابعه عليها. وقال ابن سعد (٦) : كان ضعيفاً. وقال ابن قانع ، والدارقطني (٧) ، وأبو داود : ضعيف الحديث. وقال يعقوب بن سفيان : رشدين أضعف وأضعف.

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٤٧٩ رقم ٣١٤٥.

(٢) معرفة الرجال : ١ / ٥١ رقم ١٥.

(٣) الجرح والتعديل : ٣ / ٥١٣ رقم ٢٣٢٠.

(٤) كتاب الضعفاء المتروكين : ص ١٠٧ رقم ٢١٢.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ١٤٩ رقم ٦٦٩.

(٦) الطبقات الكبرى : ٧ / ٥١٧.

(٧) الضعفاء والمتروكون : ص ٢٠٩ رقم ٢٢٠.


عن : موسى بن أيوب الغافقي وهو وإن حكيت ثقته عن ابن معين ، غير أنّه نقل عنه أيضاً قوله فيه : منكر الحديث ، وكذا قال الساجي ، وذكره العقيلي (١) في الضعفاء (٢).

عن : بعض ولد رافع ، مجهول لا يعرف ، فالرواية مرسلة بإسناد لا يعوّل عليه ، قال الشوكاني في نيل الأوطار (٣) (١ / ٢٨٠) : حسّنه الحازمي ، وفي تحسينه نظر ، لأنّ في إسناده رشدين ، وليس من رجال الحسن ، وفيه أيضاً مجهول لأنّه قال عن بعض ولد رافع بن خديج ، فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه. انتهى.

وأمّا تبرير عثمان بتوهّم كون السؤال عنه والجواب قبل تشريع الحكم ، أو قبل نسخه السابق في أوّل الإسلام على العهد النبويّ ، كما يعرب عنه كلام القسطلاني في إرشاد الساري (٤) (١ / ٣٣٢) ، فمن المستبعد جدّا ، فإنّ المسؤول يومئذٍ عن الأحكام وعن كلّ مشكلة هو رسول الله لا غيره ، فما كان عثمان يُسأل عن حكم حتى إذا جهله رجع السائل إلى أفراد آخرين ، فتصل النوبة إلى طلحة والزبير دون رسول الله ؛ وأين كان الشيخان يوم ذاك؟ وقد رووا عن ابن عمر أنّه لم يك يفتي على عهد رسول الله أحد إلاّ أبو بكر وعمر كما مرّ في (٧ / ١٨٢) ، فلا يسع لأيّ أحد الدفاع عن الخليفة بهذا التوهّم.

وإن تعجب فعجب قول البخاري (٥) : الغسل أحوط ، وذاك الأخير إنّما بيّناه لاختلافهم. قاله بعد إخراج رواية أبي هريرة الموجبة للغسل المذكورة (ص ١٤٤) ،

__________________

(١) الضعفاء الكبير : ٢ / ٦٦ رقم ٥٠٩.

(٢) تهذيب التهذيب : ٣ / ٢٧٧ و ١٠ / ٣٣٦ [٣ / ٢٤٠ و ١٠ / ٢٩٩]. (المؤلف)

(٣) نيل الأوطار : ١ / ٢٦٢.

(٤) إرشاد الساري : ١ / ٦١٥.

(٥) صحيح البخاري : ١ / ١١١ ح ٢٨٩.


وفتوى عثمان المذكورة وحديث أبيّ الموافق معه ، فجنح إلى رأي عثمان ، وضرب عمّا جاء به نبيّ الإسلام ، وأجمعت عليه الصحابة والتابعون والعلماء ، كما سمعت عن القرطبي ، وقال النووي في شرح مسلم (١) هامش إرشاد الساري (٢ / ٤٢٥) : إنّ الأُمّة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع ، وإن لم يكن معه إنزال ، وعلى وجوبه بالإنزال. انتهى.

وهذا الإجماع من عهد الصحابة وهلمّ جرّا ، وقال القاضي عياض : لا نعلم أحداً قال به بعد خلاف الصحابة إلاّ ما حُكي عن الأعمش ، ثمّ بعده داود الأصبهاني.

وقال القسطلاني في الإرشاد (٢) (/ ٣٣٣١) : قال البدر الدماميني كالسفاقسي : فيه جنوح لمذهب داود ، وتعقّب هذا القول البرماوي بأنّه إنّما يكون ميلاً لمذهب داود ، والجمهور على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وهو الصواب.

وقال ابن حجر في فتح الباري (٣) (١ / ٣١٦) : قال ابن العربي : إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم ، وما خالف فيه إلاّ داود ، ولا عبرة بخلافه ، وإنّما الأمر الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأنّ الغسل مستحبّ ، وهو أحد أئمّة الدين وأجلّة علماء المسلمين. انتهى.

فلا تعجب عن بخاريّ يقدّم في الفتوى رأي مثل عثمان على ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إجماع الأُمّة عليه تقديمه نظراء عمران بن حطّان الخارجي على الإمام الصادق جعفر بن محمد في الرواية :

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٤).

__________________

(١) شرح صحيح مسلم : ٤ / ٣٦.

(٢) إرشاد الساري : ١ / ٦١٧.

(٣) فتح الباري : ١ / ٣٩٨.

(٤) البقرة : ١٤٥.


ـ ٩ ـ

كتمان الخليفة حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج أحمد في مسنده (١) (١ / ٦٥) عن أبي صالح قال : سمعت عثمان رضى الله عنه يقول على المنبر : أيّها الناس إنّي كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كراهية تفرّقكم عنّي ، ثمّ بدا لي أن أحدّثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل».

وأخرج في المسند (٢) (١ / ٦١ ، ٦٥) عن مصعب قال : قال عثمان بن عفّان رضى الله عنه وهو يخطب على منبره : إنّي محدّثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يمنعني أن أحدّثكم إلاّ الضنّ بكم ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «حرس ليلة في سبيل الله تعالى أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها».

وأخرج في المسند (٣) (١ / ٥٧) عن حمران قال : توضّأ عثمان رضى الله عنه على البلاط ثمّ قال : لأحدّثنكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لا آية في كتاب الله ما حدّثتكموه ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ دخل فصلّى غُفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصلّيها».

وذكرها غير واحد من الحفّاظ أخذاً من مسند أحمد.

قال الأميني : ليت مخبراً يخبرني عن مبرّر هذا الشحّ عن تعليم أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلكم الأحاديث ، والناس في حاجة أكيدة إلى الحديثين في فضل الجهاد والمرابطة اللذين بهما قام عمود الدين ، ومُطط أديمه ، ودخلت هيبته القلوب ، وكانوا يومئذٍ

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٠٥ ح ٤٧٢.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٩٨ ح ٤٣٥ ، ص ١٠٤ ح ٤٦٥.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٩٢ ح ٤٠٢.


يتسابقون على الجهاد لكثرة ما انتهى إليهم من فضله ، ولتعاقب الفتوح التي مرّنتهم على الغزو وشوّقتهم إلى توسيع دائرة المملكة ، وحيازة الغنائم ، فلو كان الخليفة يروي لهم شيئاً ممّا لم يزل له نقر في آذانهم ، ونكت في قلوبهم لازدادوا إليه شوقاً ، وازدلفوا إليه رغبة ، وكان يعلّم العالم منهم من لم يعلم ، لا أنّهم كانوا يتفرّقون عنه كما حسبه الخليفة ، ولو كان يريد تفرّقهم عنه إلى الجهاد فهو حاجة الخليفة إلى مجتمعه وحاجة المجتمع إلى الخليفة الذي يكتنفون به ، فهي مقصورة من الجانبين على التسرّب إلى الجهاد والدفاع والدعوة إلى الله تعالى ، وإلى دينه الحقّ وصراطه المستقيم ، لا أن يجتمعوا حوله فيؤنسونه بالمعاشرة والمكاشرة ؛ إذن فلا وجه للضنّة بهم عن نقل تلكم الروايات.

وأمّا ثالث الأحاديث فهو من حاجة الناس إلى أميرهم في ساعة السلم ، وأيّ نجعة في الأمير هي خير من بعث الأمّة على إحسان الوضوء ، والصلاة بعده التي هي خير موضوع وهي عماد الدين ، ووسيلة إلى المغفرة ، ونجح الطلبات ، وأحد أصول الإسلام ، فلما ذا يشحّ به الخليفة فيحرم أُمّته عن تلكم المثوبات والأجور؟

وأمّا الآية التي بعثته على التنويه بالحديث ، فليته كان يدلّنا عليها ويعرب عنها ، وقد كانت موجودة منذ نزولها ، وفي إبّان شحّ الخليفة على رواية الحديث ، فما الذي جعجع به إلى هذا التاريخ ، وأرجأ روايته إلى الغاية المذكورة؟ ولعلّه أراد ما نصّ عليه أبو هريرة ، فيما أخرجه الجصّاص في آيات الاحكام (١) (١ / ١١٦) عن أبي هريرة أنّه قال : لو لا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما حدّثتكم ، ثمّ تلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) (٢). قال الجصّاص : فأخبر أنّ الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيّنات والهدى الذي أنزله الله تعالى.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ١٠٠.

(٢) البقرة : ١٥٩.


وهب أنّ الآية لم تنزل ، فهل الحكم الذي هتف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسدل عليه ستار الإخفاء إلى أن يرتئي الخليفة أن يبوح به؟ أنا لا أدري السرّ في هذه كلّها ، ولعلّ عند الخليفة ما لا أعلمه.

وهل كان مبلغ جهل الصحابة الأوّلين بالسنّة هذا الحدّ بحيث كان يخفى عليهم مثل الحديثين ، وكان علمهما يخصّ بالخليفة فحسب والخليفة مع هذا كان يعلم جهل جميعهم بذلك وأنّه لو كتمه لما بان؟

على أنّ كاتم العلم وتعاليم النبوّة بين اثنين : رحمة تزوى عنه ، وذموم تتوجّه إليه. وإليك في المقامين أحاديث جمّة ، فمن الفريق الثاني ما ورد :

١ ـ عن ابن عمر مرفوعاً : «علم لا يُقال به ، ككنز لا يُنفق منه» (١). أخرجه ابن عساكر.

٢ ـ عن ابن مسعود مرفوعاً : «علم لا ينفع ، ككنز لا يُنفق منه» (٢). أخرجه القضاعي.

٣ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «مثل الذي يتعلّم العلم ، ثمّ لا يحدّث به ، كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه» (٣). أخرجه الطبراني في الأوسط (٤) والمنذري.

٤ ـ عن أبي سعيد مرفوعاً : «كاتم العلم يلعنه كلّ شيء حتى الحوت في البحر

__________________

(١) كنز العمال : ١٠ / ١٨٩ ح ٢٨٩٩٣.

(٢) كنز العمال : ١٠ / ١٩٠ ح ٢٨٩٩٤.

(٣) المعجم الأوسط : ١ / ٣٩٤ ح ٦٩٣ ، الترغيب والترهيب : ١ / ١٢٢ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩٠ ح ٢٨٩٩٥.

(٤) في الطبعات السابقة : الطيالسي ، وهو سهو منه قدس‌سره. إذ ترجم ما رمز إليه المتقي في كنز العمال ب (طس) بالطيالسي ، والحال أنه رمز للطبراني في الأوسط. وتكرر هذا السهو منه في تخريج حديث : اللهم ارحم خلفائي ... انظر ص ٢٢١.


والطير في السماء» (١) أخرجه ابن الجوزي في العلل.

٥ ـ عن ابن مسعود مرفوعاً : «أيّما رجل آتاه الله علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (٢). أخرجه الطبراني.

٦ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «ما آتى الله تعالى عالماً علماً إلاّ أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه» (٣) أخرجه ابن النظيف وابن الجوزي.

٧ ـ عن ابن مسعود مرفوعاً : «من كتم علماً عن أهله ألجم (٤) يوم القيامة لجاماً من نار» (٥). أخرجه ابن عدي.

٨ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلاّ أتى (٦) يوم القيامة ملجماً بلجام من نار» (٧). أخرجه ابن ماجة.

٩ ـ عن أبي سعيد مرفوعاً : «من كتم علماً ممّا ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه يوم القيامة بلجام من نار» (٨) أخرجه ابن ماجة والمنذري.

١٠ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «مثل الذي يتعلّم العلم ثمّ لا يحدّث به كمثل رجل رزقه الله مالاً فكنزه فلم ينفق منه» (٩). أخرجه أبو خيثمة في العلم وأبو نصر في الإبانة.

__________________

(١) العلل : ١ / ٩٩ ح ١٢٥ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩٠ ح ٢٨٩٩٧.

(٢) المعجم الكبير ١٠ / ١٢٨ ح ١٠١٩٧ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩٠ ح ٢٨٩٩٨.

(٣) العلل : ١ / ١٠٤ ح ١٤١ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩٠ ح ٢٩٠٠٠.

(٤) في الكامل : لُجم.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٢٠٦ رقم ٧٠٢ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩١ ح ٢٩٠٠٢.

(٦) في سنن ابن ماجة : أُتي به.

(٧) سنن ابن ماجة : ١ / ٩٦ ح ٢٦١ ، كنز العمال : ١٠ / ١٩٦ ح ٢٩٠٣١.

(٨) سنن ابن ماجة : ١ / ٩٧ ح ٢٦٥ ، الترغيب والترهيب : ١ / ١٢١.

(٩) كنز العمال : ١٠ / ٢١٥ ح ٢٩١٣٨.


١١ ـ عن ابن عمر مرفوعاً : «من بخل بعلم أوتيه أُتي به يوم القيامة مغلولاً ملجوماً بلجام من نار» (١) أخرجه ابن الجوزي في العلل.

١٢ ـ وفي لفظ ابن النجار عن ابن عمرو : «من علم علماً ثمّ كتمه ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من نار» (٢).

وفي لفظ الخطيب (٣) : «من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (٤). أخرجه ابن حبّان والحاكم والمنذري.

١٣ ـ عن ابن مسعود مرفوعاً : «من كتم علماً ينتفع به ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (٥). أخرجه الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل والسجزي والخطيب.

١٤ ـ عن ابن عبّاس مرفوعاً : «من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (٦). أخرجه الطبراني في الكبير.

١٥ ـ عن قتادة : «[هذا] (٧) ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علماً فليعلّمه الناس ، وإيّاكم وكتمان العلم ، فإنّ كتمان العلم هلكة» أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في تفسير الشوكاني (٨) (١ / ٣٧٥).

__________________

(١) كنز العمال : ١٠ / ٢١٥ ح ٢٩١٣٨.

(٢) كنز العمال : ١٠ / ٢١٧ ح ٢٩١٤٦.

(٣) تاريخ بغداد : ٥ / ٣٩ رقم ٢٣٩١.

(٤) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ١ / ٢٩٨ ح ٩٦ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ١٨٢ ح ٣٤٦ ، الترغيب والترهيب : ١ / ١٢١ ، كنز العمال : ١٠ / ٢١٧ ح ٢٩١٤٧.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٤٥٥ رقم ٨٧١ ، كنز العمال : ١٠ / ٢١٧ ح ٢٩١٤٨ ، تاريخ بغداد : ٦ / ٧٧ رقم ٣١١٣.

(٦) المعجم الكبير : ١١ / ٥ ح ١٠٨٤٥ ، كنز العمال : ١٠ / ٢١٧ ح ٢٩١٤٩.

(٧) الزيادة من المصدر.

(٨) فتح القدير : ١ / ٤٠٩.


١٦ ـ عن الحسن قال : «لو لا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدّثتكم بكثير ممّا تسألون عنه». أخرجه ابن سعد (١).

وحسبك من الفريق الأوّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١ ـ «رحم الله امرأً سمع منّي حديثاً فحفظ (٢) حتى يبلّغه غيره» (٣). أخرجه ابن حبّان.

٢ ـ «رحم الله امرأً سمع منّا حديثاً فوعاه ثمّ بلّغه من هو أوعى منه» (٤) أخرجه ابن عساكر.

٣ ـ «اللهمّ ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي ، يروون أحاديثي وسنّتي ويعلّمونها الناس» (٥). أخرجه الطبراني في الاوسط (٦) والرامهرمزي والخطيب وابن النجار.

٤ ـ «رحمة الله على خلفائي» ، قيل : من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال : «الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها الناس» (٧). أخرجه أبو نصر في الإبانة وابن عساكر والمنذري في الترغيب.

٥ ـ «نضّر الله امرأً سمع منّا حديثاً فبلّغه غيره» (٨). أخرجه المنذري.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٧ / ١٥٨.

(٢) في المصدر : فحفظه.

(٣) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ١ / ٢٧٠ ح ٦٧ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٨ وح ٢٩٢٠٤.

(٤) كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٦.

(٥) المعجم الاوسط : ٦ / ٣٩٥ ح ٥٨٤٢ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٨.

(٦) في الطبعات السابقة : الطيالسي ، وقد أشرنا إلى ذلك في ص ٢١٨.

(٧) الترغيب والترهيب : ١ / ١١٠ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢٩ ح ٢٩٢٠٩.

(٨) الترغيب والترهيب : ١ / ١٠٨ ، كنز العمال : ١٠ / ٢٢١ ح ٢٩١٦٥.


راجع (١) مسند أحمد مسانيد الصحابة المذكورين ، مسند الطيالسي ، الترغيب والترهيب للمنذري ، كتاب العلم لأبي عمر ، إحياء العلوم للغزالي ، مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ، كنز العمّال كتاب العلم.

نعم ؛ لعلّ الخليفة اتّبع في كتمانه سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأي الشيخين قبله في نهيهما عن إكثار الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فصّلنا القول فيه في (٦ / ٢٩٤) ، ولست أدري أنّ قلّة رواية الخليفة وقد بلغت عدّتها كما ذكرها السيوطي في تاريخ الخلفاء (٢) (ص ١٠٠) ، وابن العماد الحنبلي في الشذرات (٣) (١ / ١٣٦) مائة وستة وأربعين حديثاً أهي لقلّة مُنّته في السنّة ، وصفر يده من العلم بها؟ أو لشحّه على بثّها وضنّه بالأُمّة؟ والله يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون.

ـ ١٠ ـ

رأي الخليفة في زكاة الخيل

أخرج البلاذري في الأنساب (٤) (٥ / ٢٦) بالإسناد من طريق الزهري : أنّ عثمان كان يأخذ من الخيل الزكاة ، فأنكر ذلك من فعله وقالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وقال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٧) : قال ابن شهاب : كان عثمان بن عفّان يصدق الخيل.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٨ ح ٤١٤٦ ٣ / ٢٩١ ح ١٠١٠٩ ، ٦ / ٢٣٣ ح ٢١٠٨٠ ، مسند أبي داود الطيالسي : ٣٣٠ ح ٢٥٣٤ ، جامع بيان العلم : ص ٤٧ ح ١٦٠ ، ص ١٤٦ ح ٧١٥ ، ص ١٤٧ ح ٧١٧ ـ ٧١٩ ، إحياء علوم الدين : ١ / ١٦ ـ ١٧ ، مجمع الزوائد : ١ / ١٣٧ ، ١٦٣ ، ١٨٤ ح ٢٨٧٨٥.

(٢) تاريخ الخلفاء : ص ١٣٩.

(٣) شذرات الذهب : ١ / ٢٦٣ حوادث سنة ٥٧ ه‍. وفيه : مائة وأربعة وستون حديثاً ، والرقم مائة وستة وأربعون ذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣٢٢ ، ترجمة عثمان بن عفّان.

(٤) أنساب الأشراف : ٥ / ٢٦.


وأخرجه عبد الرزّاق (١) عن الزهري كما في تعاليق الآثار للقاضي أبي يوسف (ص ٨٧).

قال الأميني : ليت هذه الفتوى المجرّدة من الخليفة كانت مدعومة بشيء من كتاب أو سنّة ، لكن من المأسوف عليه أنّ الكتاب الكريم خال عن ذكر زكاة الخيل ، والسنّة الشريفة على طرف النقيض ممّا أفتى به ، وقد ورد فيما كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفرائض قوله : «ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء».

وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وفي لفظ ابن ماجة : «قد تجوّزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق».

وقوله : «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه».

وفي لفظ البخاري : «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة».

وفي لفظ له : «ليس على المسلم صدقة في عبده وفرسه» (٢).

وفي لفظ مسلم : «ليس على المسلم في عبده ولا في (٣) فرسه صدقة».

وفي لفظ له : «ليس على المرء المسلم في فرسه ولا مملوكه صدقة».

وفي لفظ أبي داود : «ليس في الخيل والرقيق زكاة إلاّ زكاة الفطر في الرقيق».

وفي لفظ الترمذي : «ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة».

وفي لفظ النسائي كلفظ مسلم الأوّل.

وفي لفظ له : «لا زكاة على الرجل المسلم في عبده ولا فرسه».

وفي لفظ له : «ليس على المرء في فرسه ولا في مملوكه صدقة».

__________________

(١) المصنّف : ٤ / ٣٥ ح ٦٨٨٨.

(٢) في البخاري : ولا فرسه.

(٣) في مسلم : ولا فرسه بدون (في).


وفي لفظ : «ليس على المسلم صدقة في غلامه ولا في فرسه».

ولفظ ابن ماجة كلفظ مسلم الأوّل.

وفي لفظ أحمد : «ليس في عبد الرجل ولا في فرسه صدقة».

وفي لفظ البيهقي : «لا صدقة على المسلم في عبده ولا في فرسه».

وفي لفظ عبد الله بن وهب في مسنده : «لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه».

وفي لفظ ابن أبي شيبة : «ولا في وليدته».

وفي رواية للطبراني في الكبير والبيهقي في السنن (٤ / ١١٨) من طريق عبد الرحمن بن سمرة : «لا صدقة في الكسعة والجبهة والنّخة» (١).

ومن طريق أبي هريرة : «عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخّة».

راجع (٢) صحيح البخاري (٣ / ٣٠ ، ٣١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٦١) ، صحيح الترمذي (١ / ٨٠) ، سنن أبي داود (١ / ٢٥٣) ، سنن ابن ماجة (١ / ٥٥٥ ، ٥٥٦) ، سنن

__________________

(١) الجبهة : الخيل. الكسعة : البغال والحمير. النخة. المربّيات في البيوت. (المؤلف) [قال ابن منظور في لسان العرب : النَّخَّة والنُّخَّة : اسم جامع للحُمُر ، والنَّخّة : الرقيق من الرجال والنساء يعني بالرقيق المماليك. والنّخة : أن يأخذ المصدّق ديناراً لنفسه بعد فراغه من الصدقة. وقيل : النَّخَّة الدينار الذي يأخذه ، وبكل ذلك فُسّر قوله ٦ : ليس في النّخّة صدقة ، وكان الكسائي يقول : إنما هو النّخة بالضم. وهو البقر العوامل ...].

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٢ ح ١٣٩٤ ، ١٣٩٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٧١ ح ٨ ـ ٩ كتاب الزكاة ، سنن الترمذي : ٣ / ٢٣ ح ٦٢٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٠٨ ح ١٥٩٤ ـ ١٥٩٥ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٩ ح ١٨١٣ ، السنن الكبرى : ٢ / ١٧ ـ ١٩ ح ٢٢٤٦ ـ ٢٢٥٧ ، مسند أحمد : ١ / ١٤٩ ح ٧١٣ ، ص ١٩٥ ح ٩٨٧ ، ص ٢١٢ ح ١١٠٠ ، ص ٢٣٤ ح ١٢٣٧ ، ص ٢٣٥ ح ١٢٤٧ ، ص ٢٣٩ ح ١٢٧٠ و ٢ / ٤٧٩ ح ٧٢٥٣ ، ص ٤٩٣ ح ٧٢٤٩ ، ص ٥٤٥ ح ٧٦٩٩ و ٣ / ١٢٦ ح ٩٠٢٨ ، ص ١٦٩ ح ٩٢٩٥ ، كتاب الأم : ٢ / ٢٦ ، موطّأ مالك : ١ / ٢٧٧ ح ٣٧ ، أحكام القرآن : ٣ / ١٥٤ ، عمدة القاري : ٩ / ٣٦.


النسائي (٥ / ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧) ، سنن البيهقي (٤ / ١١٧) ، مسند أحمد (١ / ٦٢ ، ١٢١ ، ١٣٢ ، ١٤٥ ، ١٤٦ ، ١٤٨ و ٢ / ٢٤٣ ، ٢٤٩ ، ٢٧٩ ، ٤٠٧ ، ٤٣٢) ، كتاب الأُم للشافعي (٢ / ٢٢) ، موطّأ مالك (١ / ٢٠٦) ، أحكام القرآن للجصّاص (٣ / ١٨٩) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ٢٢٩) ، عمدة القاري للعيني (٤ / ٣٨٣).

ولو كان في الخيل شيء من الزكاة لوجب أن يذكر في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فصّل فيه الفرائض تفصيلا (١) ، وقد أعطاه كبرنامج يعمل به في الفرائض وعليه كان عمل الصحابة ، ومنه أخذ أبو بكر ما كتبه دستوراً يعوّل عليه في الصدقات (٢) ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يهتف بتلك السنّة الثابتة ، وعليها كان عمله عليه‌السلام ، وعليها أصفقت الصحابةو جرت الفتيا من التابعين ، وبها قال عمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومكحول ، والشعبي ، والحسن ، والحكم بن عتيبة ، وابن سيرين ، والثوري ، والزهري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأهل الظاهر ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحنفيّة (٣).

وقال ابن حزم : وذهب جمهور الناس إلى أن لا زكاة في الخيل أصلاً. وقال مالك والشافعي ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وجمهور العلماء : لا زكاة في الخيل بحال.

نعم ؛ للحنفيّة هاهنا تفصيل مجرّد عن أيّ برهنة ضربت عنه الأُمّة صفحاً قالوا : لا زكاة في الخيل الذكور ، ولو كثرت وبلغت ألف فرس ، وإن كانت إناثاً ، أو إناثاً وذكوراً سائمة غير معلوفة فحينئذ تجب فيها الزكاة. وصاحب الخيل مخيّر إن شاء أعطى عن كلّ فرس منها ديناراً أو عشرة دراهم ، وإن شاء قوّمها فأعطى من كلّ مائتي درهم خمسة دراهم.

__________________

(١) راجع سنن البيهقي : ٤ / ٨٥ ـ ٩٠ ، مستدرك الحاكم : ١ / ٣٩٠ ـ ٣٩٨ [١ / ٥٤٨ ـ ٥٥٤ ح ١٤٤١ ـ ١٤٤٧]. (المؤلف)

(٢) راجع مصابيح السنّة للبغوي : ١ / ١١٩ [٢ / ١٤ ح ١٢٦٣]. (المؤلف)

(٣) راجع المحلّى لابن حزم : ٥ / ٢٢٩ [المسألة ٦٤١] ، عمدة القاري : ٤ / ٣٨٣ [٩ / ٣٦].(المؤلف)


كذا حكاه ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٨) ، وأبو زرعة في طرح التثريب (٤ / ١٤) ، وملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٣٤) ، والنووي في شرح مسلم (١).

وهذا التفصيل ما كان قطّ يعرفه الصحابة والتابعون لأنّهم لم يجدوا له أثراً في كتاب أو سنّة ، وكان من الحقيق إن كان للحكم مدرك يعوّل عليه أن يعرفوه ، وأن يثبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه ، وكذلك أبو بكر من بعده ، وهذا كاف في سقوطه ، ولذلك خالف أبا حنيفة فيه أبو يوسف ومحمد ، وقالا بعدم الزكاة في الخيل كما ذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢) (٣ / ١٨٨) ، وملك العلماء في البدائع (٢ / ٣٤) ، والعيني في العمدة (٣) (٤ / ٣٨٣).

وغاية جهد أصحاب أبي حنيفة في تدعيم قوله بالحجّة أحاديث لم يوجد في شيء منها ما جاء به من الرأي المجرّد ، ألا وهي :

١ ـ أخرج البخاري (٤) ومسلم (٥) في الصحيحين من طريق أبي هريرة مرفوعاً : ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها. فذكر الوعيد الذي في منع حقّها وحقّ الإبل والبقر والغنم ، وذكر في الإبل : ومن حقّها يوم وردها ، ثمّ قال : قيل : يا رسول الله. فالخيل؟ قال : الخيل لثلاثة : هي لرجل وزر ، وهي لرجل أجر ، وهي لرجل ستر. فأمّا الذي هي له وزر : فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الاسلام فهي له وزر ، وأمّا الذي هي له ستر : فرجل ربطها في سبيل الله. ثمّ لم ينس حقّ الله في ظهورها ، ولا رقابها فهي له ستر. وأمّا الذي هي له أجر : فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الاسلام. الحديث. وفي لفظ مسلم بدل قوله : ثمّ لم ينس حقّ الله ...

__________________

(١) شرح صحيح مسلم : ٧ / ٥٥.

(٢) أحكام القرآن : ٣ / ١٥٣.

(٣) عمدة القاري : ٩ / ٣٦.

(٤) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٢ ح ٣٤٤٦.

(٥) صحيح مسلم : ٢ / ٣٧٦ ح ٢٤ كتاب الزكاة.


إلخ : ولم ينس حقّ الله في ظهورها وبطونها ، في عسرها ويسرها.

استدلّ به ابن التركماني المارديني في الجوهر النقيّ ـ ذيل سنن البيهقي ـ (٤ / ١٢٠) وقال : يدلّ عليه ظاهر قوله : ثمّ لم ينس حقّ الله. إلخ. مع قرينة قوله في أوّل الحديث : ما من صاحب كنز لا يؤدّي زكاته ، وما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها ، وما من صاحب غنم لا يؤدّي زكاته. ونحن لا نعرف وجه الدلالة في ظاهر قوله : ثمّ لم ينس. مع ضمّ القرينة إليه على ما أفتى به أبو حنيفة ، وغيرنا أيضاً لا يرى فيه دلالة على الزكاة في الخيل ، كما قاله البيهقي في السنن (٤ / ١١٩).

٢ ـ أخرج البيهقي في سننه الكبرى (٤ / ١١٩) عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عبدان عن أبيه ، عن أبي عبد الله محمد بن موسى الإصطخري ، عن إسماعيل بن يحيى ابن بحر الأزدي ، عن الليث بن حماد الإصطخري ، عن أبي يوسف القاضي ، عن غورك بن الحصرم أبي عبد الله ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار.

قال البيهقي : تفرّد به غورك ، وأخبرنا أبو بكر بن الحارث قال : قال علي بن عمر الحافظ ـ يعني الدارقطني : تفرّد به غورك عن جعفر ، وهو ضعيف جدّا ومن دونه ضعفاء.

قال الأميني : في رجال الإسناد :

١ ـ أحمد بن عبدان : مجهول. قاله مسلمة بن قاسم.

٢ ـ محمد بن موسى الإصطخري : شيخ مجهول ، روى عن شعيب خبراً موضوعاً قاله ابن حجر.

٣ ـ إسماعيل بن يحيى الأزدي : ضعّفه الدارقطني ، وحكاه عنه ابن حجر.

٤ ـ ليث بن حمّاد الإصطخري : ضعّفه الدارقطني ، ونقله عنه الذهبي وابن حجر.


٥ ـ أبو يوسف القاضي : قال البخاري : تركوه ، وعن المبارك : أنّه وهّاه. وعن يزيد بن هارون : لا تحلّ الرواية عنه. وقال الفلاس : صدوق كثير الخطأ. إلى آخر ما مرّ من ترجمته في هذا الجزء (ص ٣٠ ، ٣١).

٦ ـ غورك السعدي : قال الدارقطني : ضعيف جدّا ، وذكره الذهبي في الميزان (١).

ومما يوهن هذه الرواية عدم إخراج ابن أبي يوسف القاضي فيما جمعه من الأحاديث عن والده وأسماه بالآثار. وذكرها الذهبي في الميزان (٢) (٢ / ٣٢٣) فقال : ضعّف الدارقطني الليث وغيره في إسناده.

على أنّ الرواية خالية عن التفصيل الذي جاء به أبو حنيفة من نفي الزكاة في ذكور الخيل ولو كثرت ، ووجوبها إن كانت إناثا ، أو إناثا وذكوراً. إلى آخر ما تقوّل به.

٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة في مسنده من طريق عمر مرفوعاً في حديث طويل قال : فلا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد. يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلّغت. ولا أعرفنّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي : يا محمد. يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً. الحديث.

استدلّ به على وجوب الزكاة في الخيل ابن التركماني المارديني في الجوهر النقيّ ذيل سنن البيهقي (٤ / ١٢٠). وقال : فدلّ على وجوب الزكاة في هذه الأنواع. انتهى.

__________________

(١) راجع ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٢٣ ، ٣٦٠ [٣ / ٣٣٧ ، ٤٢٠ رقم ٦٦٧٢ ، ٦٩٩٤] ، لسان الميزان : ١ / ١٩٢ ، ٤٤١ و ٤ / ٤٢١ ، ٤٩٣ و ٥ / ٤٠١ و ٦ / ٣٠٠ [١ / ٢٠٥ رقم ٦٠٧ ، ص ٤٩٢ رقم ١٣٧٧ و ٤ / ٤٩٠ رقم ٦٥٠٣ ، ص ٥٨٥ رقم ٦٧٧٩ و ٥ / ٤٥٤ رقم ٨٠٩٤ و ٦ / ٣٦٨ رقم ٩٣١٩]. (المؤلف)

(٢) ميزان الاعتدال : ٣ / ٤٢٠ رقم ٦٩٩٤.


أمعن النظر في الحديث لعلّك تعرف وجه الدلالة على ما ارتآه الرجل ، وما أحسبك أن تعرفه ، غير أنّ حبّ المارديني إمامه أبا حنيفة أعماه وأصمّه ، فحسب أنّه أقام البرهنة على ما خرق به الرجل إجماع الأُمّة ، وتقوّل تجاه النصّ الأغرّ ، والسنّة الثابتة ، وكلّ هذه من جرّاء رأي من صدّق الخيل بعد عفو الله ورسوله عنها.

٤ ـ فعل عمر بن الخطّاب وأخذه الزكاة من الخيل ، وليس في فعله أيّ حجّة للحنفية ولا لغيرهم ، لأنّه لم يكن ، فيما عمله ، التفصيل الذي ذكره القوم ، على أنّه كان يأخذ ما أخذه من الخيل تطوّعاً لا فريضة باستدعاء من أرباب الخيل كما مرّ في الجزء السادس (ص ١٥٥) ، وما كان يخافه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويحذّر به عمر في أخذه الزكاة من الخيل من أن يعود جزية يوجبها أُناس في المستقبل ، فكان كما توسّم سلام الله عليه على عهد عثمان ، فالتفصيل المذكور أحدوثة في الدين خارجة عن السنّة الثابتة ، وهو كما قال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٢٢٨) : وأتوا بقول في صفة زكاتها لا نعلم أحداً قاله قبلهم.

وقولهم هذا يخالف القياس الذي هو أساس مذهبهم. قال ابن رشد في ممهدات المدوّنة الكبرى (١ / ٢٦٣) : والقياس أنّه لمّا اجتمع أهل العلم في البغال والحمير على أنّه لا زكاة فيها وإن كانت سائمة ، واجتمعوا في الإبل ، والبقر ، والغنم على الزكاة فيها إذا كانت سائمة ، واختلفوا في الخيل السائمة وجب ردّها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل والبقر والغنم ، لأنّها بها أشبه لأنّها ذات حافر كما أنّها ذوات حوافر ، وذو الحافر بذي الحافر أشبه منه بذي الخفّ أو الظلف ، ولأنّ الله تبارك وتعالى قد جمع بينها فجعل الخيل والبغال والحمير صنفاً واحداً لقوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (١) وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفاً واحداً لقوله (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ

__________________

(١) النحل : ٨.


تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (١) ولقوله عزّ وجلّ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢).

ـ ١١ ـ

تقديم عثمان الخطبة على الصلاة

قال ابن حجر في فتح الباري (٣) (٢ / ٣٦١) : روى ابن المنذر عن عثمان بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال : أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثمّ خطبهم (٤) فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ، ففعل ذلك ، أي صار يخطب قبل الصلاة ، وهذه العلّة غير التي اعتلّ بها مروان ، لأنّ عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة.

لكن قيل : إنّهم كانوا في زمن مروان يتعمّدون ترك سماع خطبته لما فيها من سبّ من لا يستحقّ السبّ ، والإفراط في مدح بعض الناس ، فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه ، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان الذي واظب عليه.

وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (٥) (٣ / ٣٦٢).

وأخرج ابن شبة (٦) عن أبي غسان قال : أوّل من خطب الناس في المصلّى على منبر عثمان بن عفّان. وقال ابن حجر : يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرّة ثمّ تركه

__________________

(١) النحل : ٥ ، ٦.

(٢) غافر : ٧٩.

(٣) فتح الباري : ٢ / ٤٥١.

(٤) على الباحث مناقشة الحساب حول هذه الكلمة. (المؤلف)

(٥) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٤ ، ٣٤٥.

(٦) تاريخ المدينة : ١ / ١٣٥.


حتى أعاده مروان. فتح الباري (١) (٢ / ٣٥٩) ، نيل الأوطار (٢) (٣ / ٣٧٤).

وذكره السيوطي في الأوائل ، وتاريخ الخلفاء (٣) (ص ١١١) ، والسكتواري في محاضرة الأوائل (٤) (ص ١٤٥) : إنّ أوّل من خطب في العيدين قبل الصلاة عثمان رضى الله عنه.

قال الأميني : إنّ الثابت في السنّة الشريفة أنّ الخطبة في العيدين تكون بعد الصلاة ، قال الترمذي في الصحيح (٥) (١ / ٧٠) : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم أنّ صلاة العيدين قبل الخطبة ويقال : إنّ أوّل من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم. انتهى.

وإليك جملة ممّا ورد فيها :

١ ـ عن ابن عبّاس قال : أشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه صلّى يوم فطر أو أضحى قبل الخطبة ثمّ خطب (٦).

صحيح البخاري (٢ / ١١٦) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٥) ، سنن أبي داود (١ / ١٧٨ ، ١٧٩) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٥) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٤) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٦).

٢ ـ عن عبد الله بن عمر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أبو بكر ثمّ عمر يصلّون العيد قبل الخطبة. وفي لفظ الشافعي : إنّ النبيّ وأبا بكر وعمر كانوا يصلّون في العيدين قبل

__________________

(١) فتح الباري : ٢ / ٤٤٩.

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٣٤٥.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٥٤.

(٤) الأوائل : ص ١٤٥.

(٥) سنن الترمذي : ٢ / ٤١١ ح ٥٣١.

(٦) صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٥ ح ١٣٨١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٣ ح ٢ كتاب صلاة العيدين ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩٧ ح ١١٤٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٣ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٦.


الخطبة ، وفي لفظ للبخاري : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي في الأضحى والفطر ثمّ يخطب بعد الصلاة (١).

صحيح البخاري (٢ / ١١١ ، ١١٢) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٦) ، موطّأ مالك (١ / ١٤٦) ، مسند أحمد (٢ / ٣٨) ، كتاب الأم للشافعي (١ / ٢٠٨) ، سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٧) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٦) ، سنن الترمذي (١ / ٧٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٣) ، المحلّى لابن حزم (٥ / ٨٥) ، بدائع الصنائع (١ / ٢٧٦)

٣ ـ عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج يوم العيد فيصلّي بالناس ركعتين ثمّ يسلّم فيقف على رجليه (٢). انتهى.

سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٩) ، المدوّنة الكبرى لمالك (١ / ١٥٥) ، سنن البيهقي (٣ / ٢٩٧).

٤ ـ عن عبد الله بن السائب ، قال : حضرت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بنا العيد ثمّ قال : «قد قضينا الصلاة فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب» (٣).

سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٦) ، سنن أبي داود (١ / ١٨٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٥) ، سنن البيهقي (٣ / ٣٠١) ، المحلّى (٥ / ٨٦).

٥ ـ عن جابر بن عبد الله قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام يوم الفطر فصلّى فبدأ بالصلاة

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٦ ح ٩١٤ ، ص ٣٢٧ ح ٩٢٠ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٦ ح ٨ كتاب صلاة العيدين ، موطّأ مالك : ١ / ١٧٨ ، مسند أحمد : ٢ / ١٢٦ ح ٤٩٤٣ ، كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٧ ح ١٢٧٦ ، سنن الترمذي : ٢ / ٤١١ ح ٥٣١ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٧.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٠٩ ح ١٢٨٨ ، المدوّنه الكبرى : ١ / ١٦٩.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٤١٠ ح ١٢٩٠ ، سنن أبي داود : ١ / ٣٠٠ ح ١١٥٥ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٨ ح ١٧٧٩.


قبل الخطبة ثمّ خطب الناس (١).

صحيح البخاري (٢ / ١١١) ، صحيح مسلم (١ / ٣٢٥) ، سنن أبي داود (١ / ١٧٨) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٦) ، سنن البيهقي (٢ / ٢٩٦ ، ٦٩٨).

٦ ـ عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي قبل الخطبة. المدوّنة الكبرى (٢) (١ / ١٥٥).

٧ ـ عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم النحر بعد الصلاة (٣).

صحيح البخاري (٢ / ١١٠) ، سنن النسائي (٣ / ١٨٥).

٨ ـ عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عليّ بن أبي طالب وعثمان محصور ، فجاء فصلّى ثمّ انصرف فخطب (٤).

موطّأ مالك (١ / ١٤٧) ، كتاب الأُم للشافعي (١ / ١٧١) ذكر من طريق مالك شطراً منه.

هذه الأحاديث تكشف عن استمرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه السنّة المرتّبة ولم يُعزَ إليه غيرها قطّ ، وعلى ذلك مضى الشيخان ومولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وعثمان نفسه ردحاً من أيّامه ، كما جاء في رواية ابن عمر من أنّ النبيّ وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلّون في العيدين قبل الخطبة (٥). وظاهر هذا اللفظ وإن كان مطلقاً إلاّ أنّ الجمع بينه وبين ما جاء من مخالفة عثمان للقوم وأنّه أوّل من قدّم الخطبة أنّه كان

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٣٢ ح ٩٣٥ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٤ ح ٣ كتاب صلاة العيدين ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩٧ ح ١١٤١ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٥ ح ١٧٦٥.

(٢) المدوّنة الكبرى : ١ / ١٦٩.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٣٤ ح ٩٤٠ ، السنن الكبرى : ١ / ٥٤٧ ح ١٧٧٧.

(٤) موطّأ مالك : ١ / ١٧٨ ، كتاب الأم : ١ / ١٩٢.

(٥) كتاب الأُم للشافعي : ١ / ٢٠٨ [١ / ٢٣٥] ، صحيح البخاري : ٢ / ١١٢ [١ / ٣٢٧ ح ٩٢٠]. (المؤلف)


أوّلاً على وتيرتهم حتى بدا له أن يغيّر الترتيب ففعل ، ويؤيّده سكوت ابن عمر نفسه عن عثمان فيما مرّ (ص ١٦١) من قوله : كان النبيّ ثمّ أبو بكر ثمّ عمر يصلّون العيد قبل الخطبة. فإن كان عثمان أيضاً مستمرّا على سيرتهم وسنّتهم لذكره ولم يفصل بينهم وبهذا يتأتّى الجمع أيضاً بين حديثي ابن عبّاس من قوله : شهدت العيد مع النبيّ وأبي بكر وعمر فبدءوا بالصلاة قبل الخطبة. ومن قوله : صلّى رسول الله ثمّ خطب وأبو بكر وعمر وعثمان (١).

وليتني أدري كيف يُتقرّب إلى المولى سبحانه بصلاة بدّلوا فيها سنّة الله التي لا تبديل لها؟ قال الشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٣ / ٣٦٣) : قد اختُلف في صحّة العيدين مع تقدّم الخطبة ، ففي مختصر المزني (٣) عن الشافعي ما يدلّ على عدم الاعتداد بها ، وكذا قال النووي في شرح المهذّب : إنّ ظاهر نصّ الشافعي أنّه لا يعتدّ بها. قال : وهو الصواب.

ثمّ تابع عثمان المسيطرون من الأمويّين من بعده فخالفوا السنّة المتّبعة بتقديم الخطبة لكن الوجه في فعل عثمان غيره في من تبعه ، أمّا هو فكان يُرتج عليه القول فلا يروق المجتمعين ما يتكلّفه من تلفيقه غير المنسجم فيتفرّقون عنه ، فقدّمها ليصيخوا إليه وهم منتظرون للصلاة ولا يسعهم التفرّق قبلها.

قال الجاحظ : صعد عثمان بن عفّان رضى الله عنه المنبر فأُرتج عليه فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب ، وستأتيكم الخطب على وجهها وتعلمون إن شاء الله (٤).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦ [١ / ٥٦٩ ح ٣٢١٥ ـ ٣٢١٧] ، صحيح مسلم : ١ / ٣٢٤ [٢ / ٢٨٣ ح ١ كتاب صلاة العيدين]. (المؤلف)

(٢) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٣) مختصر المزني : ص ٣١.

(٤) البيان والتبيين : ١ / ٢٧٢ و ٢ / ١٩٥ [١ / ٢٧٩ و ٢ / ١٧١]. (المؤلف)


وقال البلاذري في الأنساب (١) (٥ / ٢٤) : إنّ عثمان لمّا بويع خرج إلى الناس ، فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس إنّ أوّل مركب صعب ، وإنّ بعد اليوم أيّاماً ، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها ، فما كنّا خطباء وسيعلّمنا الله. وبهذا اللفظ أخرجه ابن سعد في طبقاته (٢) : (٣ / ٤٣) طبع ليدن ، وفي لفظ أبي الفداء في تاريخه : (١ / ١٦٦) : لمّا بويع عثمان رقى المنبر وقام خطيباً فحمد الله وتشهّد ثمّ أُرتج عليه ، فقال : إنّ أوّل كلّ أمر صعب وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها. ثمّ نزل.

وروى أبو مخنف كما في أنساب البلاذري : إنّ عثمان لمّا صعد المنبر قال : أيّها الناس إنّ هذا مقام لم أزوّر له خطبة ولا أعددت له كلاماً ، وسنعود فنقول إن شاء الله.

وعن غياث بن إبراهيم : إنّ عثمان صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّا لم نكن خطباء ، وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله.

وروي أنّ عثمان خطب فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً وسيأتي الله به. انتهى.

وذكره اليعقوبي في تاريخه (٣) (٢ / ١٤٠) فقال : صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة (٤) فتكلّم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشرّ ، وكان عثمان رجلاً حييّا فأُرتج عليه فقام مليّا لا يتكلّم ثمّ قال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقّق الخطب ، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطبة. ثمّ نزل.

__________________

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٢٤.

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٦٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٢.

(٤) وذكره غير واحد من مؤلّفي القوم. (المؤلف)


وفي لفظ ملك العلماء في بدائع الصنائع (١ / ٢٦٢) : إنّ عثمان لمّا استخلف خطب في أوّل جمعة ، فلمّا قال : الحمد لله. أُرتج عليه ، فقال : أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وإنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المكان مقالاً وستأتيكم الخطب من بعد ، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل وصلّى بهم الجمعة.

ولعلّه لحراجة الموقف عليه كان يماطل الخطبة باستخبار الناس وسؤالهم عن أخبارهم وأسعارهم وهو على المنبر ، كما أخرجه أحمد في المسند (١) (١ / ٧٣) من طريق موسى بن طلحة. وذكره الهيثمي في المجمع (٢ / ١٨٧) فقال : رجاله رجال الصحيح.

ولا يبرّر عمل الخليفة ما احتجّ به ابن حجر فيما مرّ عن فتح الباري (ص ١٦٠) من أنّه رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ... إلخ. لأنّ هذه المصلحة المزعومة كانت مرموقة على العهد النبويّ لكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرعها لما رآه من مصلحة التشريع الأقوى ، فهذا الرأي تجاه ما ثبت من السنّة نظير الاجتهاد في مقابلة النصّ ، ولو سوّغنا تغيير الأحكام ، وما قرّره الشرع الأقدس بآراء الرجال ، فلا تبقى قائمة للإسلام ، فلا فرق بينه وبين ما ارتآه مروان في كونهما بدعة مستحدثة ، وإن ضمّ إليه شنعة أخرى من سبّ من لا يحلّ سبّه.

هذا مجمل القول في أحدوثة الخليفة ، وأمّا من عداه من آل أميّة. فكانوا يسبّون ويلعنون مولانا أمير المؤمنين عليّا ـ صلوات الله عليه ـ في خطبهم على صهوات المنابر ، فلا تجلس لهم الناس وينثالون عنهم (٢) ، فقدّموا الخطبة ليضطرّ الناس إلى الاستماع له بالرغم من عدم استباحتهم ذلك القول الشائن ، لما وعوه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحيح المأثور من طريق ابن عبّاس وأُمّ سلمة من قوله : «من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله تعالى» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١١٨ ح ٥٤١.

(٢) أي : يتفرقون.

(٣) المستدرك : ٣ / ١٢١ [٣ / ١٣٠ ح ٤٦١٦] ، وستوافيك طرقه ومصادره. (المؤلف)


أخرج أئمّة الصحاح من طريق أبي سعيد الخدري قال : أخرج مروان المنبر يوم العيد ، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان خالفت السنّة ، أخرجت المنبر يوم عيد ، ولم يكن يخرج به ، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ، ولم يكن يُبدأ بها. فقال مروان : ذاك شيء قد ترك. فقال أبو سعيد : أمّا هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله يقول : «من رأى منكراً فاستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».

وفي لفظ الشافعي في كتاب الأُم (١) من طريق عياض بن عبد الله قال : إنّ أبا سعيد الخدري قال : أرسل إليّ مروان وإلى رجل قد سمّاه ، فمشى بنا حتى أتى المصلّى ، فذهب ليصعد فجبذته (٢) إليّ فقال : يا أبا سعيد تُرك الذي تعلم. قال أبو سعيد : فهتفت ثلاث مرّات ، فقلت : والله لا تأتون إلاّ شرّا منه.

وفي لفظ البخاري في صحيحه : خرجت مع مروان ـ وهو أمير المدينة ـ في أضحى أو فطر ، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم والله. فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم ، فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (٣).

وفي لفظ : قال أبو سعيد : قلت : أين الابتداء بالصلاة؟ فقال : لا يا أبا سعيد قد

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥.

(٢) جبذ : جذب. (المؤلف)

(٣) راجع صحيح البخاري : ٢ / ١١١ [١ / ٣٢٦ ح ٩١٣] ، صحيح مسلم : ١ / ٢٤٢ [٢ / ٢٨٦ ح ٩ كتاب صلاة العيدين] ، سنن أبي داود : ١ / ١٧٨ [١ / ٢٩٦ ح ١١٤٠] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٣٨٦ [١ / ٤٠٦ ح ١٢٧٥] ، سنن البيهقي : ٣ / ٢٩٧ ، مسند أحمد : ٣ / ١٠ ، ٢٠ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٩٢ [٣ / ٣٨١ ح ١٠٦٨٩ ، ص ٣٩٧ ح ١٠٧٦٦ ، ص ٤٥٢ ح ١١١٠٠ ، ص ٤٥٦ ح ١١١٢٢ ، ص ٥١٨ ، ح ١١٤٦٦] ، بدائع الصنائع : ١ / ٢٧٦. (المؤلف)


تُرك ما تعلم ، قلت : كلاّ والذي نفسي بيده لا تأتون بخير ممّا أعلم. ثلاث مرّات.

قال ابن حزم في المحلّى (٥ / ٨٦) : أحدث بنو أميّة تقديم الخطبة قبل الصلاة واعتلّوا بأنّ الناس كانوا إذا صلّوا تركوهم ، ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنّهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، فكان المسلمون يفرّون وحقّ لهم ، فكيف وليس الجلوس واجباً؟

وقال ملك العلماء في بدائع الصنائع (١ / ٢٧٦) : وإنّما أحدث بنو أُميّة الخطبة قبل الصلاة لأنّهم كانوا يتكلّمون في خطبتهم بما لا يحلّ ، وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس. وبمثل هذا قال السرخسي في المبسوط (٢ / ٣٧).

وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة (١ / ٣٨٦) : قيل : سبب ذلك أنّهم كانوا يسبّون في الخطبة من لا يحلّ سبّه ، فتفرّق الناس عند الخطبة إذا كانت متأخّرة لئلاّ يسمعوا ذلك فقدّم الخطبة ليُسمعهم.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (١) : (٣ / ٣٦٣) : قد ثبت في صحيح مسلم (٢) من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال : أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، وقيل : أوّل من فعل ذلك معاوية ، حكاه القاضي عياض. وأخرجه الشافعي (٣) عن ابن عبّاس بلفظ : حتى قدم معاوية فقدّم الخطبة. ورواه عبد الرزاق (٤) عن الزهري بلفظ : أوّل من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية. وقيل : أوّل

__________________

(١) نيل الأوطار : ٣ / ٣٣٥.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ١٠٠ ح ٧٨ كتاب الإيمان.

(٣) أخرجه في كتاب الأُم : ١ / ٢٠٨ [١ / ٢٣٥] من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي ، ولعلّ حديث ابن عبّاس مذكور في غير هذا الموضع. (المؤلف)

(٤) المصنّف : ٣ / ٢٨٤ ح ٥٦٤٦.


من فعل ذلك زياد بالبصرة في خلافة معاوية ، حكاه القاضي أيضاً. وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أنّ أوّل من فعل ذلك زياد بالبصرة قال : ولا مخالفة بين هذين الأثرين ، وأثر مروان ، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك ، وتبعه عمّاله. انتهى.

لا شكّ أنّ كلاّ من هؤلاء الثلاثة جاء ببدعة وتردّى بالفضيحة ، لكنّ كلّ التبعة على من جرّأهم على تغيير السنّة فعلّوا على أساسه ، ولعبوا بسنن المصطفى حتى الصلاة. أخرج الشافعي في كتاب الأُم (١) (١ / ٢٠٨) من طريق وهب بن كيسان قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثمّ قال : كلّ سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غُيّرت حتى الصلاة.

فإن كان ما ينقم على الخليفة من هذا الوجه أمراً واحداً فهو في بقيّة الأمويّين أمران : مخالفة السنّة ، والابتداع بسبّ أمير المؤمنين. فهم مورد المثل السائر : أحشفاً وسوء كيلة (٢). أنا لا أعجب من هؤلاء الثلاثة إن جاءوا بالبدع ، فإنّ بقيّة أعمالهم تلائم هاتيك الخطّة ، فإنّ الخلاعة والتهتّك مزيج نفسيّاتهم ، والمعاصي المقترفة ملء أرديتهم فلا عجب منهم إن غيّروا السنّة كلّها ، ولا أعجب من مروان إن قال لأبي سعيد بكلّ ابتهاج : تُرك الذي تعلم. أو قال : قد ذهب ما تعلم ، ولا عجب إن بدّلوا الخطبة المجعولة للموعظة وتهذيب النفوس ؛ الخطبة التي قالوا فيها : وجبت لتعليم ما يجب إقامته يوم العيد والوعظ والتكبير ، كما في البدائع (١ / ٢٧٦) بدّلوها بما هو محظور شرعاً أشدّ الحظر من الوقيعة في أمير المؤمنين ، وأوّل المسلمين ، وحامية الدين ، الإمام المعصوم ، المطهّر بنصّ الكتاب العزيز ، نفس النبيّ الأقدس بصريح القرآن ، وعدل الثقل الأكبر في حديث الثقلين ، صلوات الله عليه. ولعلّك لا تعجب من الخليفة

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ٢٣٥.

(٢) مثل يضرب لخلّتي الإساءة تجتمعان على الرجل. المستقصى في أمثال العرب : ١ / ٢٥٩.


أيضاً تغييره سنّة الله وسنّة رسوله بعد أن درست تاريخ حياته ، وسيرته المعربة عن نفسيّاته ، وهو وهم من شجرة واحدة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار.

لكنّ العجب كلّه ممّن يرى هؤلاء ، وأمثالهم من سماسرة الشهوات والميول ، عدولاً بما أنّهم من الصحابة ، والصحابة كلّهم عدول عندهم ، وأعجب من هذا أن يُحتجّ في غير واحد من أبواب الفقه بقول هؤلاء وعملهم. نعم ، وافق شنّ طبقه.

ـ ١٢ ـ

رأي الخليفة في القصاص والدية

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣٣) من طريق الزهري : أنّ ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام ، فرُفِع إلى عثمان رضى الله عنه فأمر بقتله ، فكلّمه الزبير رضى الله عنه وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهوه عن قتله ، قال : فجعل ديته ألف دينار. وذكره الشافعي في كتاب الأُم (١) (٧ / ٢٩٣).

وأخرج البيهقي من طريق الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضى الله عنه : أنّ رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمّة عمداً ، ورُفِع إلى عثمان رضى الله عنه فلم يقتله وغلّظ عليه الدية مثل دية المسلم.

وقال أبو عاصم الضحّاك في الديات (ص ٧٦) : وممّن يرى قتل المسلم بالكافر عمر بن عبد العزيز ، وإبراهيم ، وأبان بن عثمان بن عفّان ، وعبد الله ؛ رواه الحكم عنهم ، وممّن أوجب دية الذمّي مثل دية المسلم عثمان بن عفّان.

قال الأميني : إنّ عجبي مقسّم بين إرادة الخليفة قتل المسلم بالكافر ، وبين جعل عقل الكافر مثل دية المسلم ، فلا هذا مدعوم بحجّة ، ولا ذلك مشفوع بسنّة ، وأيّ خليفة هذا يزحزحه مثل الزبير ، المعروف سيرته والمكشوف سريرته ، عن رأيه في

__________________

(١) كتاب الأُم : ٧ / ٣٢١.


الدماء وينهاه عن فتياه؟ غير أنّه يفتي بما هو لدة رأيه الأوّل في البعد عن السنّة ، ويسكت عنه الزبير وأناس نهوا الخليفة عمّا ارتآه أوّلاً ، واكتفوا بحقن دم المسلم وما راقهم مخالفة الخليفة مرّة ثانية ، وهذه النصوص النبويّة صريحة في أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر ، وأنّ عقل الكتابي الذمّي نصف عقل المسلم ، وإليك لفظ تلكم النصوص في المسألتين :

أمّا الأولى منهما فقد جاء :

١ ـ عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ بن أبي طالب : هل عندكم شيء من العلم ليس عند الناس؟ قال : لا والله ما عندنا إلاّ ما عند الناس ، إلاّ أن يرزق الله رجلاً فهماً من القرآن أو ما في هذه الصحيفة ، فيها الديات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يُقتل مسلم بكافر.

وفي لفظ الشافعي : لا يقتل مؤمن بكافر. فقال : لا يُقتل مؤمن عبد ولا حرّ ولا امرأة بكافر في حال أبدا ، وكلّ من وصف الإيمان من أعجميّ وأبكم يعقل ويشير بالإيمان ويصلّي فقتل كافراً فلا قود عليه ، وعليه ديته في ماله حالة ، وسواء أكثر القتل في الكفار أو لم يكثر ، وسواء قتل كافراً على مال يأخذه منه أو على غير مال ، لا يحلّ ـ والله أعلم ـ قتل مؤمن بكافر بحال في قطع طريق ولا غيره.

راجع (١) : صحيح البخاري (١٠ / ٧٨) ، سنن الدارمي (٢ / ١٩٠) ، سنن ابن ماجة (٢ / ١٤٥) ، سنن النسائي (٨ / ٢٣) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٨) ، صحيح الترمذي (١ / ١٦٩) ، مسند أحمد (١ / ٧٩) ، كتاب الأُم للشافعي (٦ / ٣٣ ، ٩٢) ، أحكام القرآن للجصّاص (١ / ١٦٥) ، الاعتبار لابن حازم (ص ١٩٠) ، تفسير ابن كثير (١ / ٢١٠) فقال : ذهب

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٥٣٤ ح ٦٥١٧ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٨٧ ح ٢٦٥٨ ، السنن الكبرى ٤ / ٢٢٠ ح ٦٩٤٦ ، سنن الترمذي : ٤ / ١٧ ح ١٤١٢ ، مسند أحمد : ١ / ١٢٨ ح ٦٠٠ ، كتاب الأُم : ٦ / ٣٨ ، ١٠٥ ، أحكام القرآن : ١ / ١٤٢ ، الاعتبار : ص ٤٥٣.


الجمهور إلى أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن عليّ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يُقتل مسلم بكافر». ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه يُقتل به لعموم آية المائدة.

قال الأميني : يعني من آية المائدة قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (١). وقد خفي على المجتهد تجاه النصوص الصحيحة الثابتة أنّ عموم الآية لا يأباها عن التخصيص ، وقد خصّصها هو نفسه بمخصّصات. أجاب عن هذا الاستدلال الواهي كثير من الفقهاء وفي مقدّمهم الإمام الشافعي ، قال في كتاب الأُم (٢) (٧ / ٢٩٥) في مناظرة وقعت بينه وبين بعض أصحاب أبي حنيفة : قلنا : فلسنا نريد أن نحتجّ عليك بأكثر من قولك إنّ هذه الآية عامّة ، فزعمت أنّ فيها خمسة أحكام مفردة وحكماً سادساً جامعاً ، فخالفت جميع الأربعة الأحكام التي بعد الحكم الأوّل والحكم الخامس والسادس جماعتها (٣) في موضعين : في الحرّ يقتل العبد. والرجل يقتل المرأة. فزعمت أن عينه ليس بعينها ولا عين العبد ، ولا أنفه بأنفها ولا أنف العبد ، ولا أُذنه بأُذنها ، ولا أُذن العبد ، ولا سنّه بسنّها ولا سنّ العبد ، ولا جروحه كلّها بجروحها ولا جروح العبد ، وقد بدأت أوّلاً بالذي زعمت أنّك أخذت به فخالفته في بعض ووافقته في بعض ، فزعمت أنّ الرجل يقتل عبده فلا تقتله به ، ويقتل ابنه فلا تقتله به ، ويقتل المستأمن فلا تقتله به ، وكلّ هذه نفوس محرّمة.

قال ـ يعني المدافع عن أبي حنيفة ـ : اتّبعت في هذا أثراً. قلنا : فتخالف الأثر الكتاب؟ قال : لا. قلنا : فالكتاب إذاً على غير ما تأوّلت ، فلم فرّقت بين أحكام الله عزّ وجلّ على ما تأوّلت؟ قال بعض من حضره : دع هذا فهو يلزمه كلّه.

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) كتاب الأُم : ٧ / ٣٢٥.

(٣) كذا في المصدر.


قال : والآية الأُخرى : قال الله عزّ وجلّ : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (١) دلالة على أنّ من قُتل مظلوماً فلوليّه أن يقتل قاتله. قيل له : فيُعاد عليك ذلك الكلام بعينه في الابن يقتله أبوه ، والعبد يقتله سيده ، والمستأمن يقتله المسلم.

قال : فلي من كلّ هذه مخرج. قلت : فاذكر مخرجك. قال : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا جعل الدم إلى الوليّ كان الأب وليّا فلم يكن له أن يقتل نفسه. قلنا : أفرأيت إن كان له ابن بالغ أتخرج الأب من الولاية وتجعل للابن أن يقتله؟ قال : لا أفعل. قلت : فلا تخرجه بالقتل من الولاية؟ قال : لا. قلت : فما تقول في ابن عمّ لرجل قتله وهو وليّه ووارثه لو لم يقتله وكان له ابن عمّ هو أبعد منه ، أفتجعل للأبعد أن يقتل الأقرب؟ قال : نعم. قلنا : ومن أين وهذا وليّه وهو قاتل؟ قال : القاتل يخرج بالقتل من الولاية. قلنا : والقاتل يخرج بالقتل من الولاية؟ قال : نعم. قلنا : فلم لم تخرج الأب من الولاية وأنت تخرجه من الميراث؟ قال : اتّبعت في الأب الأثر. قلنا : فالأثر يدلّك على خلاف ما قلت. قال : فاتّبعت فيه الإجماع. قلنا : فالإجماع يدلّك على خلاف ما تأوّلت فيه القرآن ، فالعبد يكون له ابن حرّ فيقتله مولاه أيخرج القاتل من الولاية ويكون لابنه أن يقتل مولاه؟ قال : لا ، بالإجماع. قلت : فالمستأمن يكون معه ابنه أيكون له أن يقتل المسلم الذي قتله؟ قال : لا ، بالإجماع. قلت : أفيكون الإجماع على خلاف الكتاب؟ قال : لا. قلنا : فالإجماع إذاً يدلّك على أنّك قد أخطأت في تأويل كتاب الله عزّ وجلّ ، وقلنا له : لم يجمع معك أحد على أن لا يقتل الرجل بعبده إلاّ من مذهبه أن لا يُقتل الحرّ بالعبد ولا يُقتل المؤمن بالكافر ، فكيف جعلت إجماعهم حجّة ، وقد زعمت أنّهم أخطأوا في أصل ما ذهبوا إليه؟ والله أعلم.

٢ ـ عن قيس بن عباد قال : انطلقت أنا والأشتر إلى عليّ فقلنا : هل عهد إليك

__________________

(١) الإسراء : ٣٣.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامّة؟ قال : لا إلاّ ما في كتابي هذا. فأخرج كتاباً فإذا فيه : لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.

أخرجه (١) : أبو عاصم في الديات (ص ٢٧) ، وأحمد في المسند (١ / ١١٩ ، ١٢٢) ، وأبو داود في سننه (٢ / ٢٤٩) ، والنسائي في سننه (٨ / ٢٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٩ ، ١٩٤) ، والجصّاص في أحكام القرآن (١ / ٦٥) ، وابن حازم في الاعتبار (ص ١٨٩) ، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (٧ / ١٥٢) وقال :

هو دليل على أنّ المسلم لا يُقاد بالكافر ، أمّا الكافر الحربيّ فذلك إجماع كما حكاه البحر. وأمّا الذمّي فذهب إليه الجمهور لصدق اسم الكافر عليه ، وذهب الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنّه يُقتل المسلم بالذميّ. ثمّ بسط القول في أدلّتهم وزيّفها بأحسن بيان. فراجع.

٣ ـ عن عائشة قالت : وجد في قائم سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابان وفي أحدهما : «لا يُقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده».

أخرجه أبو عاصم في الديات (ص ٢٧) ، والبيهقي في سننه الكبرى (٨ / ٣٠).

٤ ـ عن معقل بن يسار مرفوعاً : «لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، والمسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم».

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٣٠).

٥ ـ عن ابن عبّاس مرفوعاً : «لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده».

أخرجه ابن ماجة في سننه (٢) (٢ / ١٤٥).

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٩١ ح ٩٦٢ ، ص ١٩٦ ح ٩٩٤ ، سنن أبي داود : ٤ / ١٨٠ ح ٤٥٣٠ ، السنن الكبرى : ٤ / ٢٢٠ ح ٦٩٤٨ ، أحكام القرآن : ١ / ١٤٢ ، الاعتبار : ص ٤٥١ ، نيل الأوطار : ٧ / ١٠.

(٢) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٨٨ ح ٢٦٦٠.


٦ ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعاً : «لا يُقتل مسلم بكافر».

وفي لفظ أحمد : «لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده».

أخرجه (١) : أبو عاصم الضحّاك في الديات (ص ٥١) ، وأبو داود في سننه (٢ / ٢٤٩) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٢١١) ، والترمذي في سننه (١ / ١٦٩) ، وابن ماجة في سننه (٢ / ١٤٥) ، والجصّاص في أحكام القرآن (١ / ١٦٩) بلفظ أحمد ، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (٧ / ١٥٠) فقال : رجاله رجال الصحيح. وقال في (ص ١٥٢):

هذا في غاية الصحّة فلا يصحّ عن أحد من الصحابة شيء غير هذا إلاّ ما رويناه عن عمر أنّه كتب في مثل ذلك أن يُقاد به ثمّ ألحقه كتاباً فقال : لا تقتلوه ولكن اعتقلوه (٢).

٧ ـ عن عمران بن الحصين مرفوعاً : «لا يُقتل مؤمن بكافر».

قال الشافعي في كتاب الأُم (٣) (٦ / ٣٣): سمعت عدداً من أهل المغازي ، وبلغني عن عدد منهم أنّه كان في خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح : «لا يُقتل مؤمن بكافر». وبلغني عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه أنّه روى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين ، عن مجاهد وعطاء وأحسب طاوساً والحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في خطبة عام الفتح : «لا يُقتل مؤمن بكافر».

وأخرجه البيهقي في السنن (٨ / ٢٩) فقال : قال الشافعي رحمه‌الله : وهذا عامّ

__________________

(١) سنن أبي داود : ٤ / ١٨١ ح ٤٥٣٠ ، مسند أحمد : ٢ / ٤٢٦ ح ٦٩٣١ ، سنن الترمذي : ٤ / ١٨ ح ١٤١٣ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٨٨ ح ٢٦٦٦٠ ، أحكام القرآن : ١ / ١٤٢ ، نيل الأوطار : ٧ / ١٠ ، ١١.

(٢) أسلفنا في : ٦ / ١٣٣ ، ١٣٤ ما يعرب عن عدم وقوف الخليفة على حكم المسألة. (المؤلف)

(٣) كتاب الأُم : ٦ / ٣٨.


عند أهل المغازي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكلّم به في خطبته يوم الفتح ، وهو يروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسنداً من حديث عمرو بن شعيب وحديث عمران بن الحصين.

وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (١) (٧ / ١٥٣) فقال : إنّ السبب في خطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الفتح بقوله : «لا يُقتل مسلم بكافر». ما ذكره الشافعي في الأُم (٢) ، حيث قال : وخطبته يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتلته خزاعة وكان له عهد فخطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «لو قتلت مسلماً بكافر لقتلته به». وقال : «لا يُقتل مؤمن بكافر». إلخ.

٨ ـ عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : «لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده».

أخرجه الجصّاص في أحكام القرآن (٣) (١ / ١٦٥).

أمّا الثانية ففيها :

عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى أنّ عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى (٤).

وفي لفظ أبي داود : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب يومئذٍ النصف من دية المسلمين ، قال : فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيباً فقال : إنّ الإبل قد غلت. [قال :] (٥) ففرضها

__________________

(١) نيل الأوطار : ٧ / ١٢.

(٢) كتاب الأُم : ٧ / ٣٢١.

(٣) أحكام القرآن : ١ / ١٤٢.

(٤) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٢ [٢ / ٨٨٣ ح ٢٦٤٤] ، سنن النسائي : ٨ / ٤٥ [٤ / ٢٣٥ ح ٧٠٠٩]. (المؤلف)

(٥) من المصدر.


عمر على أهل الذهب ألف دينار. الحديث. سنن أبي داود (١) (٢ / ٢٥١).

وفي لفظ آخر لأبي داود : دية المعاهد نصف دية الحرّ (٢ / ٢٥٧).

وفي لفظ أبي عاصم الضحّاك في الديات (ص ٥١) : دية الكافر على النصف من دية المسلم ، ولا يُقتل مسلم بكافر.

قال الخطابي في شرح سنن ابن ماجة في ذيل الحديث (٢ / ١٤٢) : ليس في دية أهل الكتاب شيء أثبت من هذا ، وإليه ذهب مالك وأحمد ، وقال أصحاب أبي حنيفة : ديته كدية المسلم. وقال الشافعي : ثلث دية المسلم. والوجه الأخذ بالحديث ولا بأس بإسناده.

وأخرج النسائي في سننه (٢) (٨ / ٤٥) من طريق عبد الله بن عمر [وابن العاص] (٣) مرفوعاً : «عقل الكافر نصف عقل المؤمن». وأخرجه الترمذي في سننه (٤) (١ / ١٦٩).

هذه سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليها ذهب الجمهور ، وعليها جرت الفقهاء من المذاهب ، غير أنّ لأبي حنيفة شذوذاً عنها في المسألتين أخذاً بما يعرب عن قصوره عن فهم السنّة ، وعرفان الحديث ، وفقه الكتاب ، وقد ذكر غير واحد من أعلام المذاهب أدلّته في المقامين وزيّفها ، وبسط القول في بطلانها ، وحسبك في المقام كلمة الإمام الشافعي في كتاب الأُم (٥) (٧ / ٢٩١) فإنّه فصّل القول فيها تفصيلاً وجاء بفوائد جمّة. فراجع. وعمدة ما ركن إليه أبو حنيفة في المسألة الأولى تجاه تلكم الصحاح

__________________

(١) سنن أبي داود : ٤ / ١٨٤ ح ٤٥٤٢ ، ص ١٩٤ ح ٤٥٨٣.

(٢) السنن الكبرى : ٤ / ٢٣٥ ح ٧٠١٠.

(٣) من المصدرين.

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ١٨ ح ١٤١٣.

(٥) كتاب الأُم : ٧ / ٣٢٠.


مرسلة عبد الرحمن بن البيلماني ، وقد ضعّفها الدارقطني (١) وابن حازم في الاعتبار (٢) (ص ١٨٩) وغيرهما ، وذكر البيهقي في سننه (٨ / ٣٠) : باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر. وذكر لها طرقاً وزيّفها بأسرها.

ـ ١٣ ـ

رأي الخليفة في القراءة

قال ملك العلماء في بدائع الصنائع (١ / ١١١) : إنّ عمر رضى الله عنه ترك القراءة في المغرب في إحدى الأُوليين فقضاها في الركعة الأخيرة وجهر ، وعثمان رضى الله عنه ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الأُخريين وجهر.

وقال في صفحة (١٧٢) : روي عن عمر رضى الله عنه أنّه ترك القراءة في ركعة من صلاة المغرب فقضاها في الركعة الثالثة وجهر. وروي عن عثمان رضى الله عنه أنّه ترك السورة في الأُوليين فقضاها في الأُخريين وجهر.

قال الأميني : إنّ ما ارتكبه الخليفتان مخالف للسنّة من ناحيتين ، الأولى : الاجتزاء بركعة لا قراءة فيها. والثانية : تكرير الحمد في الأخيرة أو الأُخريين بقضاء الفائتة مع صاحبة الركعة ، وكلاهما خارجان عن السنّة الثابتة لا يجتزأ بالصلاة التي يكونان فيها ، أمّا الناحية الأولى فإليك نبذة ممّا ورد فيها :

١ ـ عن عبادة بن الصامت مرفوعاً : «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن فصاعداً».

وفي لفظ : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إمام أو غير إمام».

وفي لفظ الدارمي : «من لم يقرأ بأمّ الكتاب فلا صلاة له».

__________________

(١) سنن الدارقطني : ٣ / ١٣٥ ح ١٦٥.

(٢) الاعتبار : ص ٤٥٢.


راجع (١) : صحيح البخاري (١ / ٣٠٢) ، صحيح مسلم (١ / ١٥٥) ، صحيح أبي داود (١ / ١٣١) ، سنن الترمذي (١ / ٣٤ ، ٤١) ، سنن النسائي (٢ / ١٣٧ ، ١٣٨) ، سنن الدارمي (١ / ٢٨٣) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧٦) ، سنن البيهقي (٢ / ٣٨ ، ٦١ ، ١٦٤) ، مسند أحمد (٥ / ٣١٤ ، ٣٢١) ، كتاب الأُمّ (١ / ٩٣) ، المحلّى لابن حزم (٣ / ٢٣٦) ، المصابيح للبغوي (١ / ٥٧) وصحّحه ، المدوّنة الكبرى (١ / ٧٠).

٢ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج ، غير تمام».

وفي لفظ : «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، فهي خداج ـ ثلاثاً ـ غير تمام».

وفي لفظ الشافعي : «كلّ صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج». الحديث.

وفي لفظ أحمد : «أيّما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ، ثمّ هي خداج ، ثمّ هي خداج».

راجع (٢) : مسند أحمد (٢ / ٢٤١ ، ٢٨٥) ، كتاب الأُمّ للشافعي (١ / ٩٣) ، موطّأ مالك (١ / ٨١) المدوّنة الكبرى (١ / ٧٠) ، صحيح مسلم (١ / ١٥٥ ، ١٥٦) ، سنن أبي داود (١ / ١٣٠) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧٧) ، سنن الترمذي (١ / ٤٢) ، سنن النسائي (٢ / ١٣٥) ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٢٦٣ ح ٧٢٣ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٥ ح ٣٤ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢١٧ ح ٨٢٢ ، سنن الترمذي : ٢ / ٢٥ ح ٢٤٧ ، السنن الكبرى : ١ / ٣١٦ ح ٩٨٢ ـ ٩٨٣ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٣ ح ٨٣٧ ، مسند أحمد : ٦ / ٤٢٧ ح ٢٢١٦٩ ، ص ٤٣٩ ح ٢٢٢٣٧ ، كتاب الأُم : ١ / ١٠٧ ، مصابيح السنّة : ١ / ٣١٩ ح ٥٧٧ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٦٧.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٤٧٩ ح ٧٢٤٩ ، ص ٥٥٥ ح ٧٧٧٧ ، كتاب الأُم : ١ / ١٠٧ ، موطّأ مالك : ١ / ٨٤ ح ٣٩ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٦٨ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧ ح ٣٨ ـ ٤١ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢١٦ ح ٨٢١ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٣ ح ٨٣٨ ، سنن الترمذي : ٢ / ١٢١ ح ٣١٢ ، السنن الكبرى : ٦ / ٢٨٣ ح ١٠٩٨٢ ، مصابيح السنّة ١ / ٣١٩ ح ٥٧٨.


سنن البيهقي (٢ / ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ١٥٩ ، ١٦٧) ، مصابيح السنّة (١ / ٥٧).

٣ ـ عن أبي هريرة قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره أن يخرج فينادي : لا صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب. فما زاد.

أخرجه (١) أحمد في المسند (٢ / ٤٢٨) ، الترمذي في صحيحه (١ / ٤٢) ، أبو داود في سننه (١ / ١٣٠) ، البيهقي في سننه (٢ / ٣٧ ، ٥٩) ، والحاكم في المستدرك (١ / ٢٣٩) وقال : صحيح لا غبار عليه.

٤ ـ عن عائشة مرفوعاً : «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج».

أخرجه (٢) أحمد في مسنده (٦ / ١٤٢ ، ٢٧٥) ، وابن ماجة في سننه (١ / ٢٧٧). ويوجد في كنز العمّال (٤ / ٩٥ ، ٩٦) من طريق عائشة ، وابن عمر ، وعليّ ، وأبي أمامة نقلاً عن أحمد ، وابن ماجة ، والبيهقي ، والخطيب ، وابن حبّان ، وابن عساكر ، وابن عدي.

٥ ـ عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً : «لا صلاة لمن لم يقرأ في كلّ ركعة الحمد وسورة في فريضة أو غيرها» (٣). صحيح الترمذي (١ / ٣٢) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧٧) ، كنز العمّال (٥ / ٩٥).

٦ ـ عن أبي سعيد قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وبما تيسّر (٤)

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ١٦٣ ح ٩٢٤٥ ، سنن الترمذي : ٢ / ١٢١ ح ٣١٢ ، سنن أبي داود : ١ / ٢١٦ ح ٨٢٠ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ٣٦٥ ح ٨٧٢.

(٢) مسند أحمد : ٧ / ٢٠٥ ح ٢٤٥٧٥ ، ص ٣٩١ ح ٢٥٨٢٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٤ ح ٨٤٠ ، كنز العمّال : ٧ / ٤٣٧ ح ١٩٦٦٣ ، ص ٤٣٨ ح ١٩٦٦٨ ، سنن البيهقي : ٢ / ١٦٧ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٥ / ٨٤ ح ١٧٨٤ ، الكامل في ضعفاء الرجال : ٦ / ٢٨٤ رقم ١٧٦٩.

(٣) سنن الترمذي : ٢ / ٣ ح ٢٣٨ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٤ ح ٨٣٩ ، كنز العمّال : ٧ / ٤٣٧ ح ١٩٦٦٦.

(٤) سنن أبي داود : ١ / ٢١٦ ح ٨١٨ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٧٢. وانظر كنز العمّال : ٨ / ١١٢ ح ٢٢١٤١.


سنن البيهقي (٢ / ٦٠) ، سنن أبي داود (١ / ١٣٠) ، تيسير الوصول (٢ / ٢٢٣).

٧ ـ عن أبي قتادة قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ في الركعتين الأُوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأُخريين بفاتحة الكتاب.

وفي لفظ لمسلم وأبي داود : كان يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأُوليين بفاتحة الكتاب وسورتين.

راجع (١) : صحيح البخاري (٢ / ٥٥) ، صحيح مسلم (١ / ١٧٧) ، سنن الدارمي (١ / ٢٩٦) ، سنن أبي داود (١ / ١٢٨) ، سنن النسائي (٢ / ١٦٥ ، ١٦٦) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧٥) ، سنن البيهقي (٢ / ٥٩ ، ٦٣ ، ٦٦ ، ١٩٣) ، مصابيح السنّة (١ / ٥٧) وصحّحه.

٨ ـ عن سمرة بن جندب قال : حفظت سكتتين في الصلاة. وفي لفظ : حفظت سكتتين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سكتة إذا كبّر الإمام حتى يقرأ ، وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع (٢).

سنن أبي داود (١ / ١٢٤) ، صحيح الترمذي (١ / ٣٤) ، سنن الدارمي (١ / ٢٨٣) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧٨) ، سنن البيهقي (٢ / ١٩٦) ، مستدرك الحاكم (١ / ٢١٥) ، مصابيح السنّة (١ / ٥٦) ، تيسير الوصول (٢ / ٢٢٩).

٩ ـ عن رفاعة بن رافع قال : جاء رجل يصلّي في المسجد قريباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جاء فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعد صلاتك

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٢٧٠ ح ٧٤٥ ، صحيح مسلم : ١ / ٤٢٠ ح ١٥٤ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢١٢ ح ٧٩٨ ، السنن الكبرى : ١ / ٣٣٦ ح ١٠٤٩ ـ ١٠٥٠ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧١ ح ٨٢٩ ، مصابيح السنّة : ١ / ٣٢١ ح ٨٥٢.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٢٠٦ ح ٧٧٧ ، سنن الترمذي : ٢ / ٣١ ح ٢٥١ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٥ ح ٨٤٥ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ٣٣٥ ح ٧٨٠ ، مصابيح السنّة : ١ / ٣١٨ ح ٥٧٥ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٧٩.


فإنّك لم تصلّ». فعاد فصلّى كنحو ممّا صلّى ، فقال النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعد صلاتك فإنّك لم تصلّ». فقال : علّمني يا رسول الله كيف أُصلّي؟ قال : «إذا توجّهت إلى القبلة فكبّر ثمّ اقرأ بأمّ القرآن وما شاء الله أن تقرأ ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومكّن ركوعك وامدد ظهرك فإذا رفعت فأقم صلبك ، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ، فإذا سجدت فمكّن سجودك ، فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى ، ثمّ اصنع ذلك في كلّ ركعة وسجدة حتى تطمئنّ» وفي لفظ أحمد : «فإذا أتممت صلاتك على هذا فقد أتممتها ، وما انتقصت من هذا من شيء فإنّما تنقصه من صلاتك» (٣).

سنن أبي داود (١ / ١٣٧) ، سنن البيهقي (٢ / ٣٤٥) ، مسند أحمد (٤ / ٣٤٠) ، كتاب الأُم للشافعي (١ / ٨٨) ، مستدرك الحاكم (١ / ٢٤١ ، ٢٤٢) ، المحلّى لابن حزم (٣ / ٢٥٦).

وأخرج البخاري مثله من طريق أبي هريرة في صحيحه (١ / ٣١٤) ، وكذلك مسلم في صحيحه (١ / ١١٧) ، وذكره البيهقي في سننه (٢ / ٣٧ ، ٦٢ ، ١٢٢) نقلاً عن الشيخين.

١٠ ـ عن وائل بن حجر قال : شهدت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُتي بإناء ـ إلى أن قال : فدخل في المحراب فصفّ الناس خلفه وعن يمينه وعن يساره ثمّ رفع يديه حتى حاذتا شحمة أذنيه ، ثمّ وضع يمينه على يساره وعند صدره ، ثمّ افتتح القراءة فجهر بالحمد ، ثمّ فرغ من سورة الحمد فقال : آمين. حتى سمع من خلفه ، ثمّ قرأ سورة أخرى ، ثمّ رفع يديه بالتكبير حتى حاذتا بشحمة أُذنيه ، ثمّ ركع فجعل يديه على ركبتيه ـ إلى أن قال : ثمّ صلّى أربع ركعات يفعل فيهنّ ما فعل في هذه. مجمع الزوائد (٢ / ١٣٤).

١١ ـ عن عبد الرحمن بن أبزي قال : ألا أريكم صلاة رسول الله؟ فقلنا : بلى.

__________________

(٣) سنن أبي داود : ١ / ٢٢٧ ح ٨٥٩ ، مسند أحمد : ٥ / ٤٤٩ ح ١٨٥١٨ ، كتاب الأُم : ١ / ١١٠ ، المستدرك على الصحيحين : ١ / ٣٦٨ ح ٨٨١ ، ص ٣٦٩ ح ٨٨٤ ، صحيح البخاري : ١ / ٢٦٣ ح ٧٢٤ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٨ ح ٤٥ كتاب الصلاة.


فقام فكبّر ثمّ قرأ ، ثمّ ركع فوضع يديه على ركبتيه حتى أخذ كلّ عضو مأخذه ، ثمّ رفع حتى أخذ كلّ عضو مأخذه ، ثمّ سجد حتى أخذ كلّ عضو مأخذه ، ثمّ رفع حتى أخذ كلّ عضو مأخذه ، ثمّ سجد حتى أخذ كلّ عضو مأخذه ، ثمّ رفع فصنع في الركعة الثانية كما صنع في الركعة الأولى. ثمّ قال : هكذا صلاة رسول الله.

أخرجه أحمد في المسند (١) (٣ / ٤٠٧) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٣٠) فقال : رجاله ثقات.

١٢ ـ عن عبد الرحمن بن غنم قال : إنّ أبا مالك الأشعري قال لقومه : قوموا حتى أُصلّي بكم صلاة النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصففنا خلفه وكبّر ثمّ قرأ بفاتحة الكتاب فسمع من يليه ، ثمّ كبّر فركع ، ثمّ رفع رأسه فكبّر ، فصنع ذلك في صلاته كلّها.

صورة مفصّلة بلفظ أحمد :

إنّ أبا مالك الأشعري جمع قومه فقال : يا معشر الأشعريّين اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلّمكم صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى لنا بالمدينة. فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم ، فتوضّأ وأراهم كيف يتوضّأ ، فأحصى الوضوء إلى أماكنه حتى لمّا أن فاء الفيء وانكسر الظلّ قام فأذّن ، وصفّ الرجال في أدنى الصفّ ، وصفّ الولدان خلفهم ، وصفّ النساء خلف الولدان ، ثمّ أقام الصلاة فتقدّم فرفع يديه وكبّر فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة يسرّ بهما (٢) ، ثمّ كبّر فركع فقال : سبحان الله وبحمده. ثلاث مرّات ثمّ قال : سمع الله لمن حمده ، واستوى قائماً ، ثمّ كبّر وخرّ ساجداً ، ثمّ كبّر فرفع رأسه ، ثمّ كبّر فسجد ، ثمّ كبّر فانتهض قائماً ، فكان تكبيره في أوّل ركعة ستّ تكبيرات وكبّر حين قام إلى الركعة الثانية ، فلمّا قضى صلاته أقبل على قومه بوجهه

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤١٢ ح ١٤٩٤٦.

(٢) في المصدر : يسرّهما.


فقال : احفظوا تكبيري وتعلّموا ركوعي وسجودي ؛ فإنّها صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كان يصلّي لنا كذي الساعة من النهار.

أخرجه (١) أحمد في المسند (٥ / ٣٤٣) ، وعبد الرزّاق والعقيلي كما في كنز العمّال (٤ / ٢٢١) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٢ / ١٣٠).

١٣ ـ أخرج أبو حنيفة وأبو معاوية وابن فضيل وأبو سفيان عن أبي نضرة ، عن سعيد ، عن النبيّ عليه‌السلام قال : «لا تجزي صلاة لمن لم يقرأ في كلّ ركعة بالحمد لله وسورة في الفريضة وغيرها». أحكام القرآن للجصّاص (٢) (١ / ٢٣).

١٤ ـ عن أنس بن مالك : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله ربّ العالمين. كتاب الأُمّ للشافعي (٣) (١ / ٩٣).

١٥ ـ عن عليّ بن أبي طالب قال : «من السنّة أن يقرأ الإمام في الركعتين الأُوليين من صلاة الظهر بأمّ الكتاب وسورة سرّا في نفسه ، وينصت من خلفه ويقرءون في أنفسهم ، ويقرأ في الركعتين الأُخريين بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة ويستغفر الله ويذكره ويفعل في العصر مثل ذلك».

بهذا اللفظ حكاه السيوطي عن البيهقي كما في كنز العمّال (٤) (٤ / ٢٥١) وفي السنن الكبرى للبيهقي (٢ / ١٦٨) لفظه : إنّه كان يأمر أو يحثّ أن يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر في الركعتين الأُوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الركعتين الأُخريين بفاتحة الكتاب. وقريباً من هذا اللفظ أخرجه الحاكم في المستدرك (٥) (١ / ٢٣٩).

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٧٠ ح ٢٣٩٩ ، المصنّف : ٢ / ٦٣ ح ٢٤٩٩ ، كنز العمّال : ٨ / ١٦٢ ح ٢٢٣٩٩.

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٢٢.

(٣) كتاب الأم : ١ / ١٠٧.

(٤) كنز العمّال : ٨ / ٢٨٤ ح ٢٢٩٣٢.

(٥) المستدرك على الصحيحين : ١ / ٣٦٥ ح ٨٧٤.


١٦ ـ عن عائشة قالت : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين.

راجع (١) : صحيح مسلم (١ / ١٤٢) ، سنن أبى داود (٢ / ١٢٥) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٧١) ، سنن البيهقي (٢ / ١١٣).

١٧ ـ عن أبي هريرة قال : في كلّ الصلاة يُقرأ ، فما أسمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسمعناكم ، وما أخفى علينا أخفينا عليكم. وفي لفظ : في كلّ صلاة قراءة (٢).

مسند أحمد (٢ / ٣٤٨) ، صحيح مسلم (١ / ١١٦) ، سنن أبي داود (١ / ١٢٧) ، سنن النسائي (٢ / ١٦٣) ، سنن البيهقي (٢ / ٤٠) عن مسلم ، وفي (ص ٦١) عن البخاري ، تيسير الوصول (٢ / ٢٢٨).

١٨ ـ عن أبي هريرة قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتتح القراءة بالحمد لله ربّ العالمين. أخرجه (٣) ابن ماجة في سننه (١ / ٢٧١).

وأخرجه الدارمي من طريق أنس بن مالك مع زيادة في سننه (١ / ٢٨٣) ، والنسائي في سننه (٢ / ١٣٣) ، والشافعي في كتاب الأمّ (١ / ٩٣).

١٩ ـ عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعاً : «كلّ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج». وفي لفظ أحمد : «فهي خداج ، ثمّ هي خداج ، ثمّ هي خداج».

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٤٤٩ ح ٢٤٠ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢٠٨ ح ٧٨٣ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٦٧ ح ٨١٢.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٢٤ ح ٨٣٧٨ ، صحيح مسلم : ١ / ٣٧٧ ح ٤٣ كتاب الصلاة ، سنن أبي داود : ١ / ٢١١ ح ٧٩٧ ، السنن الكبرى : ١ / ٣٣٤ ح ١٠٤١ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٧١.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٦٧ ح ٨١٤ ، السنن الكبرى : ١ / ٣١٤ ح ٩٧٥ ، كتاب الأُم : ١ / ١٠٧.


أخرجه (١) : أحمد في المسند (٢ / ٢٠٤ ، ٢١٥) ، وابن ماجة في سننه (١ / ٢٧٨).

٢٠ ـ أخرج أبو داود في سننه (٢) (١ / ١١٩) من طريق عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان إذا قام إلى الصلاة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه ، ويصنع [مثل] (٣) ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع.

٢١ ـ كان أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم أبو قتادة ، فقال أبو حميد : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثمّ يكبّر حتى يقرّ كلّ عظم في موضعه معتدلاً ، ثمّ يقرأ ثمّ يكبّر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثمّ يركع ـ ثمّ ذكر كيفيّة الركوع والسجدتين ـ فقال : ثمّ يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك (٤).

سنن أبي داود (١ / ١١٦) ، سنن الدارمي (١ / ٣١٣) ، سنن ابن ماجة (١ / ٢٨٣) وذكر شطراً منه ، سنن البيهقي (٢ / ٧٢) ، مصابيح السنّة (١ / ٥٤).

٢٢ ـ عن جابر بن عبد الله قال : يقرأ في الأُوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأُخريين بفاتحة الكتاب. قال : وكنّا نحدّث أنّه لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب فما فوق ذاك. وفي لفظ الطبراني : سنّة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأُوليين بأُمّ القرآن وسورة ، وفي الأخريين بأُمّ القرآن.

سنن البيهقي (٢ / ٦٣) فقال : وروينا ما دلّ على هذا عن عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة. وأخرجه (٥) ابن أبي شيبة كما في كنز العمّال : (٤ / ٢٠٩

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٤١٥ ح ٦٨٦٤ ، ص ٤٣٣ ح ٦٩٧٧ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٤ ح ٨٤١.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ١٩٨ ح ٧٤٤.

(٣) من المصدر.

(٤) سنن أبي داود : ١ / ١٩٤ ح ٧٣٠ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٢٨٠ ح ٨٦٢ ، مصابيح السنّة : ١ / ٣٠٩ ح ٥٥٦.

(٥) مصنّف ابن أبي شيبة : ١ / ٢٧١ ، كنز العمّال : ٨ / ١٠٩ ح ٢٢١٢٥ ، ص ٢٨١ ح ٢٢٩٢٤.


٢٥٠) ، ورواه الطبراني باللفظ المذكور كما في مجمع الزوائد (٢ / ١١٥).

٢٣ ـ عن جابر بن عبد الله : من صلّى ركعة لم يقرأ فيها بأُمّ القرآن فلم يصلّ ، إلاّ وراء إمام (١).

صحيح الترمذي (٢ / ٤٢) ، وصحّحه ، موطّأ مالك (١ / ٨٠) ، المدوّنة الكبرى لمالك (١ / ٧٠) ، سنن البيهقي (٢ / ١٦٠) ، تيسير الوصول (٢ / ٢٢٣).

٢٤ ـ عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : «من صلّى مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأُمّ القرآن وقرآن معها ، ومن صلّى صلاة لم يقرأ فيها فهي خداج ـ ثلاثا ـ».

أخرجه (٢) عبد الرزاق كما في كنز العمّال (٤ / ٩٦) وحسّنه.

٢٥ ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحةالكتاب».

وفي لفظ الدارقطني (٣) وصحّحه : «لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب». وفي لفظ أحمد (٤) : «لا تُقبل صلاة لا يُقرأ فيها بأمّ الكتاب».

كنز العمّال (٥) (٤ / ٩٦) نقلاً عن جمع من الحفّاظ.

٢٦ ـ عن أبي الدرداء : أقرأ في الركعتين الأُوليين من الظهر والعصر والعشاء الآخرة في كلّ ركعة بأمّ القرآن وسورة ، وفي الركعة الآخرة من المغرب بأمّ القرآن. كنز العمّال (٦) (٤ / ٢٠٧).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ١٢٣ ح ٣١٢ ، موطّأ مالك : ١ / ٨٤ ح ٣٨ ، المدوّنة الكبرى : ١ / ٦٨ ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٧٢.

(٢) المصنّف : ٢ / ١٣٣ ح ٢٧٨٧ ، كنز العمّال : ٧ / ٤٤٢ ح ١٩٦٨٨.

(٣) سنن الدارقطني : ١ / ٣٢٢.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٧٧ ح ٢٠٢١٧.

(٥) كنز العمّال : ٧ / ٤٤٢ ح ١٩٦٨٩ و ٤٤٣ ح ١٩٦٩٧ و ١٩٦٩٨.

(٦) كنز العمّال : ٨ / ١١٠ ح ٢٢١٣٢.


٢٧ ـ عن حسين بن عرفطة مرفوعاً : «إذا قمت في الصلاة فقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، ألحمد لله ربّ العالمين. حتى تختمها ، قل هو الله أحد إلى آخرها». أخرجه الدارقطني (١) كما في كنز العمّال (٢) (٤ / ٩٦).

٢٨ ـ عن ابن عبّاس : «لا تصلّينّ صلاة حتى تقرأ بفاتحة الكتاب وسورة ، ولا تدع أن تقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة» (٣). أخرجه عبد الرزّاق كما في الكنز (٤ / ٢٠٨).

٢٩ ـ عن ابن سيرين قال : إنّ ابن مسعود كان يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأُوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كلّ ركعة ، وفي الأُخريين بفاتحة الكتاب.

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١١٧) فقال : رجاله ثقات إلاّ أنّ ابن سيرين لم يسمع من ابن مسعود.

٣٠ ـ عن زيدين ثابت قال : القراءة سنّة ، لا تخالف الناس برأيك. أخرجه الطبراني في الكبير (٤). كما في مجمع الزوائد (٢ / ١١٥).

هذه سنّة نبيّ الإسلام في قراءة الفاتحة في كلّ ركعة من الفرائض والنوافل ، وعلى هذه فتاوى أئمّة المذاهب ، وإليك نصوصها :

رأي الشافعي :

قال إمام الشافعية في كتاب الأُم (٥) (١ / ٩٣) : سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ

__________________

(١) لم نجده عند الدارقطني بهذا الإسناد ، ولكنه أخرج مضمونه بأسانيد كثيرة أخرى. أنظر سنن الدارقطني ١ / ٣١٧ ـ ٣٢٣.

(٢) كنز العمّال : ٧ / ٤٤٢ ح ١٩٦٨٧.

(٣) المصنّف : ٢ / ٩٤ ح ٢٦٢٨ ، كنز العمّال : ٨ / ١١٤ ح ٢٢١٥٣.

(٤) المعجم الكبير : ٥ / ١٣٣ ح ٤٨٥٥.

(٥) كتاب الأُم : ١ / ١٠٧ ، ١٠٢ ـ ١٠٣.


القارئ في الصلاة بأُمّ القرآن ، ودلّ على أنّها فرض على المصلّي إذا كان يحسن أن يقرأها. فذكر عدّة من الأحاديث فقال : فواجب على من صلّى منفرداً أو إماماً أن يقرأ بأمّ القرآن في كلّ ركعة لا يجزيه غيرها ، وإن ترك من أمّ القرآن حرفاً واحداً ناسياً أو تساهياً لم يعتدّ بتلك الركعة ، لأنّ من ترك منها حرفاً لا يقال له قرأ أمّ القرآن على الكمال.

وقال في صفحة (٨٩) فيمن لا يحسن القراءة : فإن لم يحسن سبع آيات وأحسن أقلّ منهنّ لم يجزه إلاّ أن يقرأ بما أحسن كلّه إذا كان سبع آيات أو أقلّ ، فإن قرأ بأقلّ منه أعاد الركعة التي لم يكمل فيها سبع آيات إذا أحسنهنّ. وقال : ومن أحسن أقلّ من سبع آيات ، فأمّ أو صلّى منفرداً ردّد بعض الآي حتى يقرأ به سبع آيات أو ثمان آيات وإن [لم يفعل] (١) لم أر عليه إعادة ، ولا يجزيه في كلّ ركعة إلاّ قراءة ما أحسن ممّا بينه وبين أن يكمل سبع آيات أو ثمان آيات من أحسنهنّ.

وقال (٢) : وأقلّ ما يجزئ من عمل الصلاة أن يحرم ويقرأ بأم القرآن يبتدئها ب (بسم الله الرحمن الرحيم) إن أحسنها ، ويركع حتى يطمئنّ راكعاً ، ويرفع حتى يعتدل قائماً ، ويسجد حتى يطمئنّ ساجداً على الجبهة ، ثمّ يرفع حتى يعتدل جالساً ، ثمّ يسجد الأخرى كما وصفت ، ثمّ يقوم حتى يفعل ذلك في كلّ ركعة ، ويجلس في الرابعة ويتشهّد ويصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسلّم تسليمة يقول : السلام عليكم ، فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته وضيّع حظّ نفسه فيما ترك ، وإن كان لا يحسن أمّ القرآن فيحمد الله ويكبّره مكان أمّ القرآن لا يجزئه غيره ، وإن كان لا يحسن غير أمّ القرآن قرأ بقدرها سبع آيات لا يجزئه دون ذلك ، فإن ترك من أمّ القرآن حرفاً وهو في الركعة رجع إليه وأتمّها ، وإن لم يذكر حتى خرج من الصلاة وتطاول ذلك أعاد.

__________________

(١) من المصدر ، وهي موجودة في طبعة الغدير الأولى.

(٢) ذكره المزني في مختصره هامش كتاب الأم : ١ / ٩٠ ، ٩١ [ص ١٧ ـ ١٨]. (المؤلف)


وقال في كتاب الأُم (١) (١ / ٢١٧) : إنّ من ترك أُمّ القرآن في ركعة من صلاة الكسوف في القيام الأوّل أو القيام الثاني لم يعتدّ بتلك الركعة ، وصلّى ركعة أخرى وسجد سجدتي السهو ، كما إذا ترك أمّ القرآن في ركعة واحدة من صلاة المكتوبة لم يعتدّ بها.

رأي مالك :

وقال إمام المالكية كما في المدوّنة الكبرى (٢) (١ / ٦٨) : ليس العمل على قول عمر حين ترك القراءة (٣) فقالوا له : إنّك لم تقرأ؟ فقال : كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسن. قال : فلا بأس إذن. وأرى أن يعيد من فعل هذا (٤) وإن ذهب الوقت.

وقال في رجل ترك القراءة في ركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة : لا تجزئه الصلاة وعليه أن يعيد ، ومن ترك القراءة في جلّ ذلك أعاد ، وإن قرأ في بعضها وترك بعضها أعاد أيضاً ، وإذا قرأ في ركعتين وترك القراءة في ركعتين ، فإنّه يعيد الصلاة من أيّ الصلوات كانت.

وقال : من نسي قراءة أُمّ القرآن حتى قرأ السورة فإنّه يرجع فيقرأ أُمّ القرآن ثمّ يقرأ سورة أيضاً بعد قراءته أُمّ القرآن. وقال : لا يقضي قراءة نسيها من ركعة في ركعة أخرى. وقال فيمن ترك أُمّ القرآن في الركعتين وقد قرأ بغير أُمّ القرآن : يعيد صلاته. وقال في رجل ترك القراءة في ركعة في الفريضة : يلغي تلك الركعة بسجدتيها ولا يعتدّ بها.

__________________

(١) كتاب الأُم : ١ / ٢٤٥.

(٢) المدوّنة الكبرى : ١ / ٦٥ ، ٦٦.

(٣) مرّ حديثه في الجزء السادس صفحة : ١٠٠ الطبعة الأولى و ١٠٨ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٤) في المصدر : ذلك ، بدلاً من : هذا.


رأي الحنابلة :

قال ابن حزم في المحلّى (٣ / ٢٣٦) : وقراءة أُمّ القرآن فرض في كلّ ركعة من كلّ صلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً ، والفرض والتطوّع سواء ، والرجال والنساء سواء. ثمّ ذكر جملة من أدلّة المسألة.

وذكر في (ص ٢٤٣) فعل عمر وما يعزى إلى عليّ ـ وحاشاه من ذلك ـ فقال : لا حجّة في قول أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال في (ص ٢٥٠) : من نسي التعوّذ أو شيئاً من أُمّ القرآن حتى ركع أعاد متى ذكر فيها وسجد للسهو إن كان إماماً أو فذّا ، فإن كان مأموماً ألغى ما قد نسي إلى أن ذكر ، وإذا أتمّ الإمام قام يقضي ما كان ألغى ، ثمّ سجد للسهو ، ولقد ذكرنا برهان ذلك فيمن نسي فرضاً في صلاته فإنّه يعيد ما لم يصلّ كما أُمر ، ويعيد ما صلّى كما أُمر. قال :

ومن كان لا يحفظ أُمّ القرآن [صلّى] (١) وقرأ ما أمكنه من القرآن إن كان يعلمه ، لا حدّ في ذلك وأجزأه ، وليسعَ في تعلّم أُمّ القرآن فإن عرف بعضها ، ولم يعرف البعض قرأ ما عرف منها فأجزأه ، وليسعَ في تعلّم الباقي ، فإن لم يحفظ شيئاً من القرآن صلّى كما هو يقوم ويذكر الله كما يحسن بلغته ويركع ويسجد حتى يتمّ صلاته ويجزيه ، وليسعَ في تعلّم أُمّ القرآن.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (٢) (٢ / ٢٣٣) : اختلف القائلون بتعيّن الفاتحة في كلّ ركعة هل تصحّ صلاة من نسيها؟ فذهبت الشافعيّة وأحمد بن حنبل إلى عدم

__________________

(١) من المصدر.

(٢) نيل الأوطار : ٢ / ٢٣٨.


الصحّة ، وروى ابن القاسم عن مالك أنّه إن نسيها في ركعة من صلّى ركعتين فسدت صلاته ، وإن نسيها في ركعة من صلّى ثلاثيّة أو رباعيّة ، فروي عنه أنّه يعيدها ولا تجزئه ، وروي عنه أنّه يسجد سجدتي السهو ، وروي عنه أنّه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام ، ومقتضى الشرطيّة التي نبّهناك على صلاحيّة الأحاديث للدلالة عليها أنّ الناسي يعيد الصلاة كمن صلّى بغير وضوء ناسياً. انتهى.

وأمّا أبو حنيفة إمام الحنفيّة فإنّ له في مسائل الصلاة آراء ساقطة تشبه أقوال المستهزئ بها وحسبك برهنة صلاة القفال (١) ، وسنفصّل القول في تلكم الآراء الشاذّة عن الكتاب والسنّة ، وقد اجتهد في المسألة تجاه تلكم النصوص. قال الجصّاص في أحكام القرآن (١ / ١٨) : قال أصحابنا ـ الحنفيّة ـ جميعاً رحمهم‌الله : يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في كلّ ركعة من الأُوليين ، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه صلاته. انتهى.

قال ابن حجر في فتح الباري (٢) : إنّ الحنفيّة يقولون بوجوب قراءة الفاتحة لكن بنوا على قاعدتهم أنّها مع الوجوب ليست شرطاً في صحّة الصلاة ، لأنّ وجوبها إنّما ثبت بالسنّة ، والذي لا تتمّ الصلاة إلاّ به فرض ، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٣) فالفرض قراءة ما تيسّر ، وتعيّن الفاتحة إنّما يثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه ، وهذا تأويل على رأي فاسد ، حاصله ردّ كثير من السنّة المطهّرة بلا برهان ولا حجّة نيّرة ، فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع : لا يجزئ كذا ، لا يقبل كذا ، لا يصحّ كذا ، ويقول المتمسّكون بهذا الرأي يجزئ ، ويقبل ، ويصحّ ؛ ولمثل هذا حذّر السلف

__________________

(١) ذكرها ابن خلّكان في تاريخه [٥ / ١٨٠ رقم ٧١٣] في ترجمة السلطان محمود السبكتكين. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٢ / ٢٤٢.

(٣) المزمّل : ٢٠.


من أهل الرأي. انتهى. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (١) (٢ / ٢٣٠).

ونظراً إلى الأهميّة الواردة في قراءة أُمّ الكتاب في الصلوات كلّها ، وأخذاً بظاهر : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» ، ذهب من ذهب من القوم إلى وجوبها على المأموم أيضاً مطلقاً أو في الصلوات الجهريّة ؛ قال الترمذي في الصحيح (٢) (١ / ٤٢) : قد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام ، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين من بعدهم القراءة خلف الإمام ، وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وروي عن عبد الله بن المبارك أنّه قال : أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرؤون إلاّ قوم (٣) من الكوفيّين ، وأرى أنّ من لم يقرأ صلاته جائزة ، وشدّد قوم من أهل العلم في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام فقالوا : لا تُجزئ صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب وحده كان أو خلف الإمام. انتهى.

وقد جاء مع ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعاً : «إنّي أراكم تقرءون وراء إمامكم فلا تفعلوا إلاّ بأُمّ القرآن فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأها».

وفي لفظ أبي داود : «لا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلاّ بأُمّ القرآن».

وفي لفظ النسائي وابن ماجة : «لا يقرأنّ أحد منكم إذا جهرت بالقراءة إلاّ بأُمّ القرآن».

وفي لفظ الحاكم : «إذا قرأ الإمام فلا تقرءوا إلاّ بأُمّ القرآن فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها».

__________________

(١) نيل الأوطار : ٢ / ٢٣٥.

(٢) سنن الترمذي : ٢ / ١٢٢ ح ٣١٢.

(٣) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف قدس‌سره ، وفي الطبعة المحققة : إلاّ قوماً ، وهو الصحيح لوجوب نصبه على الاستثناء.


وفي لفظ الطبراني : «من صلّى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب».

وعن أنس بن مالك مرفوعاً : «أتقرؤون في صلاتكم خلف الإمام بقرآن والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه».

وعن أبي قلابة مرسلاً : «أتقرؤون خلفي وأنا أقرأ فلا تفعلوا ذلك ، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه سرّا» (١).

قال ابن حزم في المحلّى (٣ / ٢٣٩) : اختلف أصحابنا فقالت طائفة : فرض على المأموم أن يقرأ أُمّ القرآن في كلّ ركعة أسرّ الإمام أو جهر ، وقالت طائفة : هذا فرض عليه فيما أسرّ فيه الإمام خاصّة ولا يقرأ فيما جهر فيه الإمام ، ولم يختلفوا في وجوب قراءة أُمّ القرآن فرضاً في كلّ ركعة على الإمام والمنفرد.

وأخرج البيهقي أحاديث صحاحاً تدلّ على أنّ القراءة تسقط مع الإمام جهر أو لم يجهر. وذكر قول من قال : يقرأ خلف الإمام مطلقاً ثمّ قال : هو أصحّ الأقوال على السنّة وأحوطها. راجع السنن الكبرى (٢ / ١٥٩ ـ ١٦٦).

هذا تمام القول في الناحية الأولى من ناحيتي مخالفة عمل الخليفتين في الصلاة للسنّة الشريفة ، ومن ذلك كلّه يُعلم حكم الناحية الثانية وأنّ الأُمّة مطبقة على أنّ تدارك الفائتة من قراءة ركعة في ركعة أخرى لم يرد في السنّة النبويّة ، وأنّ رأي الرجلين غير مدعوم بحجّة ، لا يُعمل به ، ولا يُعوّل عليه ، ولا يستنّ به قطّ أحد من رجال الفتوى ، والحقّ أحقّ أن يُتّبع.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣٠٢ ، ٣٠٨ و ٥ / ٣١٣ ، ٣١٦ ، ٣٢٢ [٢ / ٥٨٣ ح ٧٩٤٧ ، ص ٥٩٤ ح ٨٠١٥ ، ٦ / ٤٢٧ ح ٢٢١٦٣ ، ص ٤٣٠ ح ٢٢١٨٦ ، ص ٤٤٠ ح ٢٢٢٤٤] ، سنن الترمذي : ١ / ٤٢ [٢ / ١٢٢ ح ٣١٢] ، المحلّى لابن حزم : ٣ / ٢٣٦ [المسالة ٣٦٠] ، مستدرك الحاكم : ١ / ٢٣٨ ، ٢٣٩ [٣٦٤ ـ ٣٦٥ ح ٨٧٠ ـ ٨٧١] سنن النسائي : ٢ / ١٤١ [١ / ٣١٩ ح ٩٩٢] ، سنن البيهقي : ٢ / ١٦٤ ، ١٦٥ ، مصابيح السنّة : ١ / ٦٠ [١ / ٣١٩ ح ٥٧٧ ـ ٥٧٨]. (المؤلف)


ـ ١٤ ـ

رأي الخليفة في صلاة المسافر

أخرج أبو عبيد في الغريب (١) وعبد الرزّاق (٢) والطحاوي وابن حزم عن أبي المهلّب ، قال كتب عثمان : أنّه بلغني أنّ قوماً يخرجون إمّا لتجارة أو لجباية أو لحشريّة (٣) يقصرون الصلاة وإنّما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدوّ.

ومن طريق قتادة عن عياش المخزومي : كتب عثمان إلى بعض عمّاله : أنّه لا يصلّي الركعتين المقيم ولا البادي ولا التاجر ، إنّما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد.

وفي لفظ ابن حزم : إنّ عثمان كتب إلى عمّاله : لا يصلّي الركعتين جابٍ ولا تاجر ولا تان (٤) ، إنّما يصلّي الركعتين ... إلخ.

وفي لسان العرب : في حديث عثمان رضى الله عنه أنّه قال : لا يغرّنكم جشركم من صلاتكم فإنّما يقصر الصلاة من كان شاخصاً أو يحضره عدوّ. قال أبو عبيد : الجشر القوم يخرجون بدوابّهم إلى المرعى ، ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت (٥).

وفي هامش سنن البيهقي (٣ / ١٣٧) : شاخصاً : يعني رسولاً في حاجة ، وفي النهاية (٦) : شاخصاً : أي مسافراً ومنه حديث أبي أيوب : فلم يزل شاخصاً في سبيل الله.

__________________

(١) غريب الحديث : ٣ / ٤١٩.

(٢) المصنّف : ٢ / ٥٢١ ح ٤٢٨٢.

(٣) كذا في النسخ بالمهملة ، والصحيح كما يأتي : الجشر بالمعجمة. (المؤلف)

(٤) التناية : هي الفلاحة والزراعة. نهاية ابن الأثير [١ / ١٩٩]. (المؤلف)

(٥) سنن البيهقي : ٣ / ١٣٧ ، المحلّى لابن حزم : ٥ / ١ [مسألة ٥١٣]. نهاية ابن الأثير : ٢ / ٣٢٥ [١ / ٢٧٣] ، لسان العرب : ٥ / ٢٠٧ [٢ / ٢٨٧] ، كنز العمّال : ٤ / ٢٣٩ [٨ / ٢٣٥ ح ٢٢٧٠٤] ، تاج العروس : ٣ / ١٠٠ و ٤ / ٤٠١. (المؤلف)

(٦) النهاية في غريب الحديث والأثر : ٢ / ٤٥١.


قال الأميني : من أين جاء عثمان بهذا القيد في السفر؟ والأحاديث المأثورة في صلاته مطلقات كلّها ، كما أوقفناك عليها في (ص ١١١ ـ ١١٥) ، وقبلها عموم قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (١). ولأبي حنيفة وأصحابه والثوريّ وأبي ثور في عموم الآية نظر واسع لم يخصّوه بالمباح من السفر ، بل قالوا بأنّه يعم سفر المعصية أيضاً كقطع الطريق والبغي كما ذكره ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢٦٤) ، والجصّاص في أحكام القرآن (٢) (٢ / ٣١٢) ، وابن رشد في بداية المجتهد (٣) (١ / ١٦٣) ، وملك العلماء في البدائع (١ / ٩٣) ، والخازن في تفسيره (٤) (١ / ٤١٣).

وليس لحضور العدوّ أيّ دخل في القصر والإتمام وإنّما الخوف وحضور العدوّ لهما شأن خاصّ في الصلوات ، وأحكام تخصّ بهما ، وناموس مقرّر لا يعدوهما.

فمقتضى الأدلّة كما ذهبت إليه الأُمّة جمعاء : أنّ التاجر والجابي والتاني والجشرية وغيرهم إذا بلغوا مبلغ السفر فحكمهم القصر ، فهم وبقيّة المسافرين شرع سواء ، وإلاّ فهم جميعاً في حكم الحضور يتمّون صلاتهم من دون أيّ فرق بين الأصناف ، وليس تفصيل الخليفة إلاّ فتوى مجرّدة ورأياً يخصّ به ، وتقوّلاً لا يؤبه له تجاه النصوص النبويّة ، وإطباق الصحابة ، واتّفاق الأُمّة ، وتساند الأئمّة والعلماء ، وإنّما ذكرناه هنا لإيقافك على مبلغ الرجل من الفقاهة ، أو تسرّعه في الفتيا من غير فحص عن الدليل ، أو أنّه عرف الدليل لكنّه لم يكترث له وقال قولاً أمام قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

على أنّ التاجر جاء فيه ما أخرجه ابن جرير الطبري وغيره من طريق عليّ

__________________

(١) النساء : ١٠١.

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٢٥٥.

(٣) بداية المجتهد : ١ / ١٧٢.

(٤) تفسير الخازن : ١ / ٣٩٦.


كرّم الله وجهه قال : «سأل قوم من التجّار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلّي؟ فأنزل الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (١)

. وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إنّي رجل تاجر أختلف إلى البحرين ، فأمره أن يصلّي بركعتين (٢).

ـ ١٥ ـ

رأي الخليفة في صيد الحرم (٣)

أخرج إمام الحنابلة أحمد وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : أقبل عثمان إلى مكة ، فاستقبلتُهُ بقديد ، فاصطاد أهل الماء حجلاً فطبخناه بماء وملح ، فقدّمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا ، فقال عثمان : صيد لم نصده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حِلّ فأطعموناه فما بأس به. فبعث إلى عليّ فجاء ، فذكر له فغضب عليّ وقال : «أنشد رجلاً شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أُتي بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّا قوم حرم فأطعموه أهل الحِلّ» فشهد اثنا عشر رجلاً من

__________________

(١) تفسير ابن جرير : ٥ / ١٥٥ [مج ٤ / ج ٥ / ٢٤٤] ، مقدمات المدوّنة الكبرى لابن رشد : ١ / ١٣٩ ، تفسير ابن عطيّة كما في تفسير القرطبي : ٥ / ٣٦٢ [٥ / ٢٣٢] ، الدرّ المنثور : ٢ / ٢٠٩ [٢ / ٦٥٦] ، تفسير الشوكاني : ١ / ٤٧١ [١ / ٥٠٨] ، تفسير الآلوسي : ٥ / ١٣٤. (المؤلف)

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٤٤ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٢١٠ [٢ / ٦٥٦]. (المؤلف)

(٣) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ، ١٠٤ [١ / ١٦١ ح ٧٨٥ ، ٧٨٦ ، ص ١٦٧ ح ٨١٦] ، كتاب الأُم للشافعي : ٧ / ١٥٧ [٧ / ١٧٠ ـ ١٧١] ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩١ [٢ / ١٧٠ ح ١٨٤٩] ، سنن البيهقي : ٥ / ١٩٤ ، تفسير الطبري : ٧ / ٤٥ ، ٤٦ [مج ٥ / ج ٧ / ٧٠] ، المحلّى لابن حزم : ٧ / ٢٥٤ [المسألة ٨٩٢] كنز العمّال : ٣ / ٥٣ [٥ / ٢٥٣ ح ١٢٧٩٣] نقلاً عن أحمد وأبي داود وابن جرير ، وعن الطحاوي وقال : صحّحه [في شرح معاني الآثار ٢ / ١٦٨ ح ٣٧٨٥] وأبي يعلى [في مسنده : ١ / ٢٩٤ ح ٣٥٦] والبيهقي. (المؤلف)


أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال عليّ : «أنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أُتي ـ ببيض النعام ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا قوم حرم أطعموه أهل الحلّ» فشهد دونهم من العدّة من الاثني عشر قال : فثنى عثمان وركه من الطعام فدخل رحله ، وأكل الطعام أهل الماء.

وفي لفظ آخر لأحمد عن عبد الله بن الحارث : إنّ أباه ولي طعام عثمان ، قال : فكأنّي أنظر إلى الحجل حوالي الجفان فجاء رجل فقال : إنّ عليّا رضى الله عنه يكره هذا ، فبعث إلى عليّ وهو ملطّخ يديه بالخبط فقال : إنّك لكثير الخلاف علينا ، فقال عليّ : «أُذكر الله من شهدا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بعجز حمار وحش وهو محرم فقال : إنّا محرمون فأطعموه أهل الحلّ». فقام رجال فشهدوا ثمّ قال : «أُذكر الله رجلاً شهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بخمس بيضات بيض نعام فقال : إنّا محرمون فأطمعوه أهل الحلّ» فقام رجال فشهدوا ، فقام عثمان فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء.

وفي لفظ الإمام الشافعي : إنّ عثمان أُهديت له حجل وهو محرم ، فأكل القوم إلاّ عليّا فإنّه كره ذلك.

وفي لفظ لابن جرير : حجّ عثمان بن عفّان فحجّ عليّ معه ، فأُتي عثمان بلحم صيد صاده حلال ، فأكل منه ولم يأكله عليّ ، فقال عثمان : والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال عليّ (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) (١).

وفي لفظ : إنّ عثمان بن عفّان رضى الله عنه نزل قديداً فأُتي بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها ، فأرسل إلى عليّ رضى الله عنه وهو يضفر (٢) بعيراً له ، فجاء والخبط ينحات من

__________________

(١) المائدة : ٩٦.

(٢) ضفر الدابّة يضفرها ضفراً : ألقى اللجام في فيها. والضفر : ما شددت به البعير من الشعر المضفور. والمضفور والضفير : الحبل المفتول. الضفائر : الذوائب المضفورة [لسان العرب : ٨ / ٧٠ ، ٧١]. (المؤلف)


يديه ، فأمسك عليّ وأمسك الناس فقال عليّ : «من هاهنا من أشجع؟ هل تعلمون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءه أعرابيّ ببيضات نعام وتتمير (١) وحش فقال : أطعمهنّ أهلك فإنّا حرم؟» قالوا : بلى. فتورّك عثمان عن سريره ونزل فقال : خبثت علينا.

وفي لفظ البيهقي : كان الحارث خليفة عثمان رضى الله عنه على الطائف ، فصنع لعثمان رضى الله عنه طعاماً وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش قال : فبعث إلى عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له ، فجاءه وهو ينفض الخبط من يده فقالوا له : كل. فقال : «أطعموه قوماً حلالاً فإنّا قوم حرم» ، ثمّ قال عليّ رضى الله عنه : «أنشد الله من كان هاهنا من أشجع ، أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُهدي إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله؟» قالوا : نعم.

وأخرج الطبري من طريق صبيح بن عبد الله العبسي قال : بعث عثمان بن عفّان أبا سفيان بن الحرث على العروض ، فنزل قديداً فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر فاستعاره منه فاصطاد به من اليعاقيب فجعلهنّ في حظيرة ، فلمّا مرّ به عثمان طبخهنّ ثمّ قدّمهنّ إليه فقال عثمان : كلوا ، فقال بعضهم : حتى يجيء عليّ بن أبي طالب. فلمّا جاء فرأى ما بين أيديهم قال عليّ : «إنّا لا نأكل منه». فقال عثمان مالك لا تأكل؟ فقال : «هو صيد [و] (٢) لا يحلّ أكله وأنا محرم». فقال عثمان : بيّن لنا. فقال عليّ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (٣). فقال عثمان : أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) (٤).

__________________

(١) التتمير : التقديد. والتتمير : التيبيس. والتتمير : أن يقطع اللحم صغاراً ويجفّف. واللحم المتمّر : المقطع. لسان العرب [٢ / ٥٠]. (المؤلف)

(٢) من المصدر.

(٣) المائدة : ٩٥.

(٤) المائدة : ٩٦.


وأخرج سعيد بن منصور كما ذكره ابن حزم من طريق بسر بن سعيد قال : إنّ عثمان بن عفّان كان يصاد له الوحش على المنازل ثمّ يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته ، ثمّ إنّ الزبير كلّمه فقال : ما أدري ما هذا يُصاد لنا ومن أجلنا ، لو تركناه ، فتركه.

قال الأميني : هذه القصّة تشفّ عن تقاعس فقه الخليفة عن بلوغ مدى هذه المسألة ، أو أنّه راقه اتّباع الخليفة الثاني في الرأي حيث كان يأمر المحرم بأكل لحم الصيد ، ويحذّر أهل الفتوى عن خلافه مهدّداً بالدرّة إن فعل وسيوافيك تفصيله إن شاء الله تعالى. غير أنّ عثمان أفحمه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بالكتاب والسنّة فلم يجد ندحة من الدخول في فسطاطه والاكتفاء بقوله : إنّك لكثير الخلاف علينا. وهذا القول ينمّ عن توفّر الخلاف بين مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين الخليفة ، ومن الواضح الجليّ أنّ الحقّ كلّما شجر خلاف بين مولانا عليّ عليه‌السلام وبين غيره كائناً من كان لا يعدو كفّة الإمام صلوات عليه للنصّ النبويّ : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة» (١) وقوله : «عليّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض» (٢) وأنّه باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووارث علمه ، وعيبة علمه ، وأقضى أُمّته (٣) وكان سلام الله عليه منزّهاً عن الخلاف لاتّباع هوى أو احتدام بغضاء بينه وبين غيره ، فإنّ ذلك من الرجس الذي نفاه الله عنه عليه‌السلام في آية التطهير. وقد طأطأ كلّ عليم لعلمه ، وكان من المتسالم عليه أنّه أعلم الناس بالسنّة ؛ ولذلك لمّا نهى عمر عبد الله بن جعفر عن لبس الثياب المعصفرة في الإحرام جابهه الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) راجع ما مرّ في الجزء الثالث : ص ١٥٥ ـ ١٥٨ الطبعة الأولى و ١٧٦ ـ ١٨٠ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث : ص ١٥٨ الطبعة الأولى و ١٨٠ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٣) راجع ما فصّلناه في الجزء السادس : ص ٥٤ ـ ٧٣ الطبعة الأولى و ٦١ ـ ٨١ الطبعة الثانية. (المؤلف)


بقوله : «ما أخال أحداً يعلّمنا السنّة» (١) ، فسكت عمر إذ كان لم يجد منتدحاً عن الإخبات إلى قوله ، ولو كان غيره عليه‌السلام لعلاه بالدرّة ، ولذلك كان عمر يرجع إليه في كلّ أمر عصيب ، فإذا حلّه قال : لو لا عليّ لهلك عمر (٢) ، أو نظير هذا القول. وسيوافيك عن عثمان نفسه قوله : لو لا عليّ لهلك عثمان.

فرأي الإمام الطاهر هو المتّبع وهو المعتضد بالكتاب بقوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، كما استدلّ به عليه‌السلام على عثمان ، فبعمومه كما حكاه ابن حزم في المحلّى (٧ / ٢٤٩) عن طائفة ظاهر في أنّ الشيء المتصيّد هو المحرّم ملكه وذبحه وأكله كيف كان ، فحرّموا على المحرم أكل لحم الصيد وإن صاده لنفسه حلال ، وإن ذبحه الحلال (٣) ، وحرّموا عليه ذبح شيء منه وإن كان قد ملكه قبل إحرامه. وقال القرطبي في تفسيره (٤) (٦ / ٣٢١) : التحريم ليس صفة للأعيان ، وإنّما يتعلّق بالأفعال. فمعنى قوله : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي فعل الصيد ، وهو المنع من الاصطياد ، أو يكون الصيد بمعنى المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل ، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنّه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك لعموم قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ولحديث الصعب بن جثامة. وقال في (ص ٣٢٢): وروي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر : أنّه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد لعموم قوله تعالى (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) : قال ابن عبّاس : هي مبهمة. وبه قال طاووس ، وجابر بن زيد وأبو الشعثاء ، وروي ذلك عن الثوري ، وبه

__________________

(١) كتاب الأُم للإمام الشافعي : ٢ / ١٢٦ [٢ / ١٤٧] ، المحلّى لابن حزم : ٧ / ٢٦٠ [المسألة ٨٩٦]. (المؤلف)

(٢) راجع نوادر الأثر في علم عمر في الجزء السادس من كتابنا هذا. (المؤلف)

(٣) هكذا هي العبارة في المحلّى ، وهي لا تخلو من اضطراب.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ٦ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.


قال إسحاق ، واحتجّوا بحديث ابن جثامة. انتهى.

ويعتضد رأي الإمام عليه‌السلام ومن تبعه بالسنّة الشريفة الثابتة بما ورد في الصحاح والمسانيد ، وإليك جملة منه :

١ ـ عن ابن عبّاس قال : يا زيد بن أرقم هل علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُهدي إليه عضد صيد فلم يقبله وقال : «إنّا حُرُم»؟ قال : نعم.

وفي لفظ : قدم زيد بن أرقم فقال له ابن عبّاس يستذكره : كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حرام؟ قال : نعم أهدى له رجل عضواً من لحم صيد فردّه وقال : «إنّا لا نأكل إنّا حُرم».

وفي لفظ مسلم (١) : إنّ زيد بن أرقم قدم فأتاه ابن عبّاس رضى الله عنه فاستفتاه في لحم الصيد فقال : أُتي رسول الله بلحم صيد وهو محرم فردّه.

راجع (٢) صحيح مسلم (١ / ٤٥٠) سنن أبي داود (١ / ٢٩١) ، سنن النسائي (٥ / ١٨٤) ، سنن البيهقي (٥ / ١٩٤) ، المحلّى لابن حزم (٧ / ٢٥٠) وقال. رويناه من طرق كلّها صحاح.

٢ ـ عن الصعب بن جثامة قال : مرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا بالأبواء أو بودان (٣) وأهديت له لحم حمار وحش فردّه عليّ ، فلمّا رأى في وجهي الكراهية قال : «إنّه ليس بنا ردّ عليك ولكنّنا حُرم».

__________________

(١) كذا في سنن البيهقي. والموجود في صحيح مسلم هو اللفظ الذي قبله.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٢٣ ح ٥٥ كتاب الحج ، سنن أبي داود : ٢ / ١٧٠ ح ١٨٥٠ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٧٠ ح ٣٨٠٣ ـ ٣٨٠٤.

(٣) ودان بفتح الواو قرية جامعة بين مكة والمدينة ، بينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال من الجحفة ، ومنها الصعب بن جثامة. معجم البلدان [٥ / ٣٦٥]. (المؤلف)


وفي لفظ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بلحم حمار وحش فردّه وقال : «إنّا حُرم لا نأكل الصيد».

راجع (١). صحيح مسلم (١ / ٤٤٩) ، مسند أحمد (٤ / ٣٧) ، سنن الدارمي (٢ / ٣٩) ، سنن ابن ماجة (٣ / ٢٦٢) ، سنن النسائي (٥ / ١٨٤) ، سنن البيهقي (٥ / ١٩٢) بعدّة طرق ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٥٨٦) ، تفسير الطبري (٧ / ٤٨) ، تيسير الوصول (١ / ٢٧٢).

٣ ـ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أُهدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شقّ حمار وحش وهو محرم فردّه.

وفي لفظ أحمد : إنّ الصعب بن جثامة أهدى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو محرم عجز حمار ، فردّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقطر دماً.

وفى لفظ طاووس في حديثه : عضداً من لحم صيد.

وفي لفظ مقسم : لحم حمار وحش.

وفي لفظ عطاء في حديثه : أُهدي له صيد فلم يقبله وقال : «إنّا حُرم».

وفي لفظ النسائي : أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل حمار وحش تقطر دماً وهو محرم وهو بقديد فردّها عليه.

وفي لفظ ابن حزم : إنّه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل حمار وحش فردّه عليه وقال : «إنّا حُرم لا نأكل الصيد». وفي لفظ : «لو لا أنّا محرمون لقبلناه منك».

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٢٢ ح ٥٠ ـ ٥١ كتاب الحج ، مسند أحمد : ٤ / ٦٢٤ ح ١٥٩٨٧ ، ١٥٩٨٨ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠٣٢ ح ٣٠٩٠ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٧٠ ح ٣٨٠١ ـ ٣٨٠٢ ، أحكام القرآن : ٢ / ٤٨١ ، جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٧٤ ، تيسير الوصول : ١ / ٣٢١ ح ٤٣.


راجع (١) : صحيح مسلم (١ / ٤٤٩) ، مسند أحمد (١ / ٢٩٠ ، ٣٣٨ ، ٣٤١) ، مسند الطيالسي (ص ١٧١) ، سنن النسائي (٥ / ١٨٥) ، سنن البيهقي (٥ / ١٩٣) ، المحلّى لابن حزم (٧ / ٢٤٩) وقال : رويناه من طرق كلّها صحاح ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٥٨٦) ، تفسير القرطبي (٦ / ٣٢٢).

لفت نظر :

أخرج البيهقي في تجاه هذا الصحيح المتسالم عليه في السنن الكبرى (٥ / ١٩٣) من طريق عمرو بن أُميّة الضمري : أنّ الصعب بن جثامة أهدى للنبيّ عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم. ثمّ قال : وهذا إسناد صحيح ، فإن كان محفوظاً فكأنّه ردّ الحيّ وقبل اللحم والله أعلم. انتهى.

لا أحسب هذا مبلغ علم البيهقي ، وإنّما أعماه حبّه لتبرير الخليفة في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنّة ، فرأى الضعيف صحيحاً ، وأتى في الجمع بينه وبين الصحيح المذكور بما يأباه صريح لفظه ، ولهذه الغاية أخرج البخاري ذلك الصحيح المتسالم عليه في صحيحه (٢) (٣ / ١٦٥) وحذف منه كلمة : الشقّ ، والعجز ، والرجل ، والعضد ، واللحم. وتبعه في ذلك الجصّاص في أحكام القرآن (٣) (٢ / ٥٨٦) حيّا الله الأمانة.

وعقّب ابن التركماني رأي البيهقي فيما أخرجه فقال في شرح السنن الكبرى (٤) : قلت : هذا في سنده يحيى بن سليمان الجعفي عن ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيّوب هو

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٢٣ ح ٥٣ ـ ٥٤ كتاب الحج ، مسند أحمد : ١ / ٤٧٧ ح ٢٦٢٥ ، ص ٥٥٦ ح ٣١٢٢ ، ص ٥٦١ ح ٣١٥٨ ، السنن الكبرى : ٢ / ٣٧١ ح ٣٨٠٥ ، أحكام القرآن : ٢ / ٤٨١ ، الجامع لأحكام القرآن : ٦ / ٢٠٨.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٦٤٩ ح ١٧٢٩.

(٣) أحكام القرآن : ٢ / ٤٨١.

(٤) الجوهر النقي : ٥ / ١٩٣.


الغافقي المصري ، ويحيى بن سليمان ذكره الذهبي في الميزان (١) والكاشف (٢) عن النسائي أنّه ليس بثقة. وقال ابن حبّان (٣) : ربّما أغرب. والغافقي قال النسائي (٤) : ليس بذاك القوي. وقال أبو حاتم (٥) : لا يحتجّ به. وقال أحمد (٦) : كان سيّئ الحفظ يخطئ خطأً كثيراً ، وكذّبه مالك في حديثين ، فعلى هذا لا يشتغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده ولمخالفته للحديث الصحيح ، وقول البيهقي : ردّ الحيّ وقبل اللحم يردّه ما في الصحيح أنّه عليه‌السلام ردّه. انتهى.

٤ ـ عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عبّاس ، عن عليّ بن أبي طالب قال : «أُتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحم صيد وهو محرم فلم يأكله» (٧).

مسند أحمد (١ / ١٠٥) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٢٦٣).

٥ ـ عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت له : يا ابن أُختي إنّما هي عشر ليال فإن يختلج في نفسك شيء فدعه. يعني أكل لحم الصيد (٨).

موطّأ مالك (١ / ٢٥٧) ، سنن البيهقي (٥ / ١٩٤) ، تيسير الوصول (١ / ٢٧٣).

٦ ـ عن نافع قال : أهدي إلى ابن عمر ظبي مذبوحة بمكة فلم يقبلها ، وكان ابن عمر يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كلّ حال.

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٨٢ رقم ٩٥٣٢.

(٢) الكاشف : ٣ / ٢٥٨ رقم ٦٢٨٥.

(٣) الثقات : ٩ / ٢٦٣.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٢٤٩ رقم ٦٥٧.

(٥) الجرح والتعديل : ٩ / ١٢٧ رقم ٥٤٢.

(٦) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٥٢ رقم ٤١٢٥.

(٧) مسند أحمد : ١ / ١٦٩ ح ٨٣٢ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠٣٢ ح ٣٠٩١.

(٨) موطّأ مالك : ١ / ٣٥٤ ح ٨٥ ، تيسير الوصول : ١ / ٣٢٢ ح ٤٨.


رواه ابن حزم في المحلّى (٧ / ٢٥٠) من طريق رجاله كلّهم ثقات.

ولو كان عند الخليفة علم بسنّة نبيه لعلّه لم يك يخالفها ، ولو كان عنده ما يجد به في الحجاج تجاه هذه السنّة الثابتة لأفاضه وما ترك النوبة لأتباعه ليحتجّوا له بعد لأي من عمر الدهر بما لا يغني من الحقّ شيئاً ، قال البيهقي في سننه (٥ / ١٩٤) : أمّا عليّ وابن عبّاس فإنّهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقاً ، وقد خالفهما عمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم ومعهم حديث أبي قتادة وجابر والله أعلم. انتهى.

أمّاحديث أبي قتادة قال : انطلقت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبيّة فأحرم أصحابي ولم أحرم ، فانطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكنت مع أصحابي فجعل بعضهم يضحك إلى بعض ، فنظرت فإذا حمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته ، فاستعنت بهم فأبوا أن يعينوني فأكلنا منه ، فلحقت برسول الله وقلت : يا رسول الله إنّي أصبت حمار وحش ومعي منه فاضلة. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقوم : «كلوا» وهم محرمون (١).

فهو غير واف بالمقصود لأنّ قصّته كانت عام الحديبيّة السادس من الهجرة كما هو صريح لفظه ، وكثير من أحكام الحجّ شرّعت في عام حجّة الوداع السنة العاشرة ومنها تعيين المواقيت ولذلك ما كان أبو قتادة محرماًعند ذاك ، مع إحرام رسول الله وإحرام أصحابه. قال ابن حجر في فتح الباري (٢) (٤ / ١٩) : قيل : كانت هذه القصّة قبل أن يوقّت النبيّ المواقيت. وقال السندي في شرح سنن النسائي (٥ / ١٨٥) عند ذكر حديث أبي قتادة : قوله عام الحديبيّة بهذا تبيّن أنّ تركه الإحرام ومجاوزته الميقات بلا إحرام كان قبل أن تُقرّر المواقيت ، فإنّ تقرير المواقيت كان سنة حجّ الوداع كما روي عن أحمد.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٦٣ [٢ / ٦٤٧ ح ١٧٢٦] ، صحيح مسلم : ١ / ٤٥٠ [٣ / ٢٤ ح ٥٦ كتاب الحج] ، سنن النسائي : ٥ / ١٨٥ [٢ / ٣٧١ ح ٣٨٠٧] سنن ابن ماجة : ٢ / ٣٦٣ [٢ / ١٠٣٣ ح ٣٠٩٣] ، سنن البيهقي : ٥ / ١٨٨. (المؤلف)

(٢) فتح الباري : ٤ / ٢٣.


ومنها أحكام الصيد النازلة في سورة المائدة التي هي آخر ما نزل من القرآن ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قرأها في حجّة الوداع وقال : «يا أيّها الناس إنّ سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها». وروي نحوه عن عائشة موقوفاً وصحّحه الحاكم وأقرّه ابن كثير ، وأخرجه أبو عبيد من طريق ضمرة بن حبيب ، وعطية بن قيس مرفوعاً (١)

فليس من البدع أن يكون غير واحد من مواضيع الحجّ لم يشرّع لها حكم في عام الحديبيّة ثمّ شرّع بعده ومنها هذه المسألة ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حاضراً في عام الحديبيّة وقد شاهد قصّة أبي قتادة كما شاهدها غيره ـ على فرض صحّتها ـ ومع ذلك أنكر على عثمان وكذلك الشهود الذين استنشدهم صلوات الله عليه فشهدوا له لم يعزب عنهم ما وقع في ذلك العام ، لكنّهم شهدوا على التشريع الأخير الثابت.

ولو كان لقصّة أبي قتادة مقيل من الصحّة أو وزن يقام لما ترك عثمان الاحتجاج بها لكنّه كان يعلم أنّ الشأن فيها كما ذكرناه ، وأنّ العمل قبل التشريع لا حجّيّة له ، وأفحمه الإمام عليه‌السلام بحجّته الداحضة ، فتوارى عن الحجاج في فسطاطه وترك الطعام على أهل الماء.

وأمّا حديث جابر فقد أخرجه غير واحد من أئمّة الفقه والحديث ناصّين على ضعفه من طريق عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صيد البرّ لكم حلال وأنتم حرم إلاّ ما اصطدتم وصيد لكم (٢).

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٢ / ٣١١ [٢ / ٣٤٠ ح ٣٢١٠] ، تفسير القرطبي : ٦ / ٣١ [٦ / ٢٢] ، تفسير الزمخشري : ١ / ٤٠٣ [١ / ٦٠٢] ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٢ ، تفسير الخازن : ٢ / ٤٤٨ [١ / ٤٢٩] ، تفسير الشوكاني : ٢ / ١ [٢ / ٣]. (المؤلف)

(٢) كتاب الأُم : ٢ / ١٧٦ [٢ / ٢٠٨] ، سنن أبي داود : ١ / ٢٩١ [٢ / ١٧١ ح ١٨٥١] ، سنن النسائي : ٥ / ١٨٧ [٢ / ٣٧٢ ح ٣٨١٠] ، سنن البيهقي : ٥ / ١٩٠ ، المحلّى لابن حزم : ٧ / ٢٥٣ [المسألة ٨٩٢]. (المؤلف)


قال النسائي في سننه : أبو عبد الرحمن عمرو بن أبي عمرو ليس بالقويّ في الحديث وإن كان قد روى عنه مالك.

وقال ابن حزم في المحلّى : أمّا خبر جابر فساقط لأنّه عن عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف.

وقال ابن التركماني في شرح سنن البيهقي (١) عند قول الشافعي : إنّ ابن أبي يحيى أحفظ من الدراوردي (٢) : قلت : الدراوردي احتجّ به الشيخان وبقيّة الجماعة ، وقال ابن معين (٣) : ثقة حجّة ، ووثّقه القطّان وأبو حاتم (٤) وغيرهما ، وأمّا ابن أبي يحيى فلم يخرج له في شيء من الكتب الخمسة ، ونسبه إلى الكذب جماعة من الحفّاظ كابن حنبل وابن معين وغيرهما ، وقال بشر بن المفضل : سألت فقهاء المدينة عنه فكلّهم يقولون : كذّاب أو نحو هذا ، وسُئل مالك : أكان ثقة؟ فقال : لا ولا في دينه ، وقال ابن حنبل (٥) : كان قدريّا معتزليّا جهميّا كلّ بلاء فيه ، وقال البيهقي (٦) في التيمّم والنكاح : مختلف في عدالته. ومع هذا كلّه كيف يرجّح على الدراوردي؟

قال : ثمّ لو رجح عليه هو ومن معه فالحديث في نفسه معلول عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلّم فيه. قال ابن معين (٧) : وأبو داود ليس بالقوي. زاد يحيى : وكان مالك يستضعفه. وقال السعدي : مضطرب الحديث.

قال : والمطلب قال فيه ابن سعد (٨) : ليس يحتجّ بحديثه لأنّه يرسل عن

__________________

(١) الجوهر النقي : ٥ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) الرجلان وردا في طريقي الشافعي للحديث. (المؤلف)

(٣) التاريخ : ٣ / ٢٣٠ رقم ١٠٧٩.

(٤) الجرح والتعديل : ٥ / ٣٩٥ رقم ١٨٣٣.

(٥) العلل ومعرفة الرجال : ٢ / ٥٠٣ رقم ٣٣١٧.

(٦) سنن البيهقي : ١ / ٢٠٥ ، ٧ / ١٥٧.

(٧) التاريخ : ٣ / ١٩٤ رقم ٨٨٣.

(٨) الطبقات الكبرى ـ القسم المتمم ـ : ص ١١٦ رقم ٢١.


النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً ، وعامّة أصحابه يدلّسون ، ثمّ الحديث مرسل ، قال الترمذي (١) : المطلب لا يعرف له سماع من جابر. فظهر بهذا أنّ الحديث فيه أربع علل : إحداها : الكلام في المطلب. ثانيتها : أنّه ولو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل. ثالثتها : الكلام في عمرو. رابعتها : أنّه ولو كان ثقة فقد اختلف عليه فيه كما مرّ. انتهى.

ثمّ ذكر ما استشكل به الطحاوي في الحديث من جهة النظر من قوله : إنّ الشيء لا يحرم على إنسان بنيّة غيره أن يصيد له.

هذا مجمل القول في حديث أبي قتادة وجابر ، فلا يصلحان للاعتماد ورفع اليد عن تلكم الصحاح المذكورة الثابتة ، ولا يخصّص بمثلهما عموم ، ولا يتمّ بهما تقييد مطلقات الكتاب ، والمعوّل عليه في المسألة هو كتاب الله العزيز والسنّة الشريفة الثابتة ، وما شذّ عنهما من رأي أيّ بشر يضرب به عرض الجدار (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

ـ ١٦ ـ

خصومة يرفعها الخليفة إلى عليّ

أخرج أحمد والدورقي من طريق الحسن بن سعد عن أبيه : إنّ يحيس (٣) وصفيّة كانا من سبي الخمس ، فزنت صفيّة برجل من الخمس وولدت غلاماً ، فادّعى الزاني ويحيس فاختصما إلى عثمان ، فرفعهما عثمان إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال عليّ : «أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وجلدهما خمسين خمسين (٤).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٣ / ٢٠٤ ح ٨٤٦.

(٢) الجاثية : ١٨.

(٣) في مسند أحمد : يحنس. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ١ / ١٠٤ [١ / ١٦٧ ح ٨٢٢] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٨ ، كنز العمّال : ٣ / ٢٢٧ [٦ / ١٩٨ ح ١٥٣٤٠]. (المؤلف)


قال الأميني : هل علمت أنّه لما ذا ردّ الخليفة الحكم إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ لقد رفعه إليه إن كنت لا تدري لأنّه لم يكن عنده ما يفصل به الخصومة ، ولعلّه كان ملأ سمعه قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) ويعلم في الجملة أنّ هناك فرقاً في كثير من الأحكام بين الأحرار والمملوكين ، لكن عزب عنه أنّ مسألة الحدّ أيضاً من تلكم الفروع ، فكأنّه لم يلتفت إلى قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) الآية (٢).

أو أنّ الآية الكريمة كانت نصب عينيه لكن لم يسعه فهم حقيقتها ، لأنّ قيد ذاكرته أنّ حدّ المحصنات هو الرجم ، غير أنّه لم يتسنَّ له تعرّف أنّ الرجم لا يتبعّض فالذي يمكن تنصيفه من العذاب هو الجلد ، فالآية الشريفة دالّة بذلك على سقوط الرجم عن المحصنات من الإماء وإنّما عليهنّ نصف الجلد الثابت عليها في السنّة الشريفة (٣).

وأخرج أحمد في مسنده (٤) (١ / ١٣٦) من طريق أبي جميلة عن عليّ عليه‌السلام قال : «أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمة له سوداء زنت لأجلدها الحدّ ، قال : فوجدتها في دمائها فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بذلك فقال لي : إذا تعالت من نفاسها فاجلدها

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) النساء : ٢٥.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٤٨ [٦ / ٢٥٠٩ ح ٦٤٤٨] ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٧ [٣ / ٥٣٥ ح ٣٠ كتاب الحدود] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٣٩ [٤ / ١٦٠ ح ٤٤٧٠ ـ ٤٤٧١] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١١٩ [٢ / ٨٥٧ ح ٢٥٦٦] ، سنن البيهقي : ٨ / ٢٤٢ ، موطّأ مالك : ٢ / ١٧٠ [٢ / ٨٢٧ ح ١٦] ، كتاب الأُم : ٦ / ١٢١ [٦ / ١٣٥] ، تفسير القرطبي : ١٢ / ١٥٩ [١٢ / ١٠٧]. (المؤلف)

(٤) مسند أحمد : ١ / ٢١٩ ح ١١٤٦.


خمسين» وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٦) وفيه : «إذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين». وذكره الشوكاني في نيل الأوطار (١) (٧ / ٢٩٢) باللفظ المذكور. وأخرجه (٢) مسلم وأبو داود والترمذي وصحّحه وليس في لفظهم (خمسين).

هب أنّ الخليفة نسيها لبعد العهد ، لكنّه هل نسي ما وقع بمطلع الأكمة منه على العهد العمري؟ من جلده المحصنات من الإماء خمسين جلدة كما أخرجه الحفّاظ (٣) ، أو أنّ الخليفة وقف على مغازي الآيات الكريمة ، ولم تذهب عليه السنّة النبويّة ، وكان على ذكر ممّا صدر على عهد عمر لكن أربكه حكم العبد ، لأنّه رأى الآية الكريمة نصّا في الإماء ، وكذلك نصوص الأحاديث ، ولم يهتدِ إلى اتّحاد الملاك بين العبيد والإماء من المملوكيّة ، وهو الذي أصفق عليه أئمّة الحديث والتفسير كما في (٤) كتاب الأُم للشافعي (٦ / ١٤٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ٢٠٦) ، سنن البيهقي (٨ / ٢٤٣) ، تفسير القرطبي (٥ / ١٤٦ ، ١٢ / ١٥٩) ، تفسير البيضاوي (١ / ٢٧٠) ، تيسير الوصول (٢ / ٤) ، فيض الإله المالك للبقاعي (٢ / ٣١١) ، فتح الباري (١٢ / ١٣٧) ، فتح القدير (١ / ٤١٦) ، تفسير الخازن (١ / ٣٦٠) ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (٧ / ٢٩٢) : لا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر (٥).

أو أنّ الخليفة حسب أنّ ولد الزانية لا بدّ وأن يكون للزاني ، ولم يشعر بمقاربة

__________________

(١) نيل الأوطار : ٧ / ١٣٦.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٥٣٧ ح ٣٤ كتاب الحدود ، سنن أبى داود : ٤ / ١٦١ ح ٧٣ ٤٤ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣٧ ح ١٤٤١.

(٣) موطّأ مالك : ٢ / ١٧٠ [٢ / ٨٢٧ ح ١٦] ، سنن البيهقي : ٨ / ٢٤٢ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٦ ، كنز العمّال : ٣ / ٨٦ [٥ / ٤١٤ ح ١٣٤٦٨]. (المؤلف)

(٤) كتاب الأُم للشافعي : ٦ / ١٥٥ ، أحكام القرآن : ٢ / ١٦٩ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٩٦ ، ١٢ / ١٠٧ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٢١٠ ، تيسير الوصول : ٢ / ٧ ، فتح الباري : ١٢ / ١٦٥ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٢ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٦ ، نيل الأوطار : ٧ / ١٣٦.

(٥) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة ٨٤٠ ه‍ في البحر الزخار : ٦ / ١٤٣.


زوجها إيّاها أو إمكان مقاربته منذ مدّة يمكن أن ينعقد الحمل فيها ، وبذلك يتحقّق الفراش الذي يلحق الولد بصاحبه ، كما حكم به مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام والأصل فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

لقد أنصف الخليفة في رفع حكم هذه المسألة إلى من عنده علم الكتاب والسنّة ، فإنّه كان يعلم علم اليقين إنّ ذلك عند العترة الطاهرة لا البيت الأموي ، وليته أنصف هذا الإنصاف في كلّ ما يرد عليه من المسائل ، وليته علم أنّ حاجة الأمّة إنّما هي إلى إمام لا يعدوه علم الكتاب والسنّة فأنصفها ، غير أنّ .....

إذا لم تستطع شيئاً فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

ـ ١٧ ـ

رأي الخليفة في عدّة المختلعة (١)

عن نافع ، أنّه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر أنّها اختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء معاذ بن عفراء إلى عثمان فقال : إنّ ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أتنتقل؟ فقال له عثمان : تنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدّة عليها إلاّ أنّها لا تنكح حتى تحيض حيضة ، خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله عند ذلك : عثمان خيرنا وأعلمنا. وفي لفظ آخر : قال عبد الله : أكبرنا وأعلمنا.

وفي لفظ عبد الرزّاق (٢) عن نافع ، عن الربيع بنة معوذ أنّها قالت : كان لي زوج

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٤٥٠ ، ٤٥١ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٣٤ [١ / ٦٦٣ ح ٢٠٥٨] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٧٦ نقلا عن ابن أبي شيبة [في المصنّف : ٥ / ١١٥] ، زاد المعاد لابن القيّم : ٢ / ٤٠٣ [٤ / ٢١٤] ، كنز العمّال : ٣ / ٢٢٣ [٦ / ١٨١ ح ١٥٢٦٤ ، ح ١٥٢٦٨] ، نيل الأوطار : ٧ / ٣٥ [٦ / ٢٧٨]. (المؤلف)

(٢) المصنّف : ٦ / ٥٠٤ ح ١١٨٥٠.


يُقلّ الخير عليّ إذا حضر ويحزنني إذا غاب (١) ، فكانت منّي زلّة يوماً فقلت له : اختلعت منك بكلّ شيء أملكه فقال : نعم. ففعلت ، فخاصم عمّي معاذ بن عفراء إلى عثمان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : دون عقاص الرأس.

وفي لفظ عن نافع : إنّه زوّج ابنة أخيه رجلاً فخلعها ، فرفع ذلك إلى عثمان فأجازه فأمرها أن تعتدّ حيضة. وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبادة بن الصامت : قالت : ـ الربيع ـ : اختلعت من زوجي ثمّ جئت عثمان فسألت ما ذا عليّ من العدّة؟ فقال : لا عدّة عليك إلاّ أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. انتهى.

قال الأميني : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) نصّا من الله العزيز الحكيم من غير فرق بين أقسام الطلاق المنتزعة من شقاق الزوج والزوجة ، فإن كان الكره من قبل الزوج فحسب فالطلاق رجعي. أو من قبل الزوجة فقط فهو خلعي. أو منهما معاً فمباراة. فليس لكلّ من هذه الأقسام حكم خاصّ في العدّة غير ما ثبت لجميعها بعموم الآية الكريمة المنتزع من الجمع المحلّى باللام ـ المطلّقات ـ وعلى هذا تطابقت فتاوى الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم وفي مقدّمهم أئمّة المذاهب الأربعة. قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٧٦) : مسألة : وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشهورة إلى أنّ المختلعة عدّتها عدّة المطلّقة بثلاثة قروء إن كانت ممّن تحيض ، وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر ، وبه يقول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعروة ، وسالم ، وأبو سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ،

__________________

(١) في المصدر : ويحرمني إذا غاب.

(٢) البقرة : ٢٢٨.


وأبو عياض ، وخلاس بن عمر ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبو عبيد ، وقال الترمذي (١) : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ، ومأخذهم في هذا أنّ الخلع طلاق فتعتدّ كسائر المطلّقات. انتهى.

هذه آراء أئمّة المسلمين عند القوم وليس فيها شيء يوافق ما ارتآه عثمان وهي مصافقة للقرآن الكريم كما ذكرناه.

وقد احتُجّ لعثمان بما رواه الترمذي في صحيحه (٢) (١ / ١٤٢) من طريق عكرمة عن ابن عباس : إنّ امرأة ثابت بن قيس رضى الله عنه اختلعت منه فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّتها حيضة.

وهذه الرواية باطلة ، إذ المحفوظ عند البخاري (٣) والنسائي (٤) من طريق ابن عبّاس في قصّة امرأة ثابت ما لفظه : قال ابن عبّاس : جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّي ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكنّي أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أتردّين عليه حديقته؟» ـ وكانت صداقها ـ» قالت : نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة».

فامرأة ثابت نظراً إلى هذه اللفظة مطلّقة تطليقة والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء.

على أنّ الاضطراب الهائل في قصّة امرأة ثابت يوهن الأخذ بما فيها ، ففي لفظ : إنّها جميلة بنت سلول. كما في سنن ابن ماجة (٥). وفي لفظ أبي الزبير : إنّها زينب. وفي

__________________

(١) قاله في صحيحه : ١ / ١٤٢ [٣ / ٤٩٢ ح ١١٨٥]. (المؤلف)

(٢) سنن الترمذي : ٣ / ٤٩١ ح ١١٨٥.

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٠٢١ ح ٤٩٧١.

(٤) السنن الكبرى : ٣ / ٣٦٩ ح ٥٦٥٧.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٦٣ ح ٢٠٥٦ ، ٢٠٥٨.


لفظ : إنّها بنت عبد الله. وفي لفظ لابن ماجة والنسائي : إنّها مريم العالية. وفي موطّأ مالك (١) : إنّها حبيبة بنت سهل. وذكر البصريّون : أنّها جميلة بنت أُبي (٢). وجلّ هذه الألفاظ كلفظ البخاري والنسائي يخلو عن ذكر العدّة بحيضة ، فلا يخصّص حكم القرآن الكريم بمثل هذا.

على أنّه لو كان لها مقيل في مستوى الصدق والصحّة لما أصفقت الأئمّة على خلافها كما سمعت من كلمة ابن كثير.

وقد يعاضَد رأي الخليفة بما أخرجه الترمذي في صحيحه (١ / ١٤٢) عن الربيع بنت معوذ ـ صاحبة عثمان ـ أنّها اختلعت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أُمرت أن تعتدّ بحيضة. قال الترمذي : حديث الربيع الصحيح أنّها أُمرت أن تعتدّ بحيضة. وبهذا اللفظ جاء في حديث سليمان بن يسار عن الربيع قالت : إنّها اختلعت من زوجها فأمرت أن تعتدّ بحيضة.

وقال البيهقي بعد رواية هذا الحديث : هذا أصحّ وليس فيه من أَمَرَها ولا على عهد النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد روينا في كتاب الخلع أنّها اختلعت من زوجها زمن عثمان بن عفّان رضى الله عنه. ثمّ أخرج حديث نافع المذكور في صدر العنوان فقال : هذه الرواية تصرّح بأنّ عثمان رضى الله عنه هو الذي أمرها بذلك ، وظاهر الكتاب في عدّة المطلّقات يتناول المختلعة وغيرها ، فهو أولى وبالله التوفيق. انتهى (٣).

فليس للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصّة بنت معوذ حكم وما رفعت إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما وقعت في عصر عثمان وهو الحاكم فيها ، وقد حرّفتها عن موضعها يد الأمانة على ودائع العلم والدين لتبرير ساحة عثمان عن لوث الجهل ، ولو كان لتعدّد القصّة وزن يقام عند

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٥٦٤ ح ٣١.

(٢) راجع نيل الأوطار : ٧ / ٣٤ ـ ٣٧ [٦ / ٢٧٦ ـ ٢٧٨]. (المؤلف)

(٣) سنن البيهقي : ٧ / ٤٥١. (المؤلف)


الفقهاء وروايتها بمشهد منهم ومرأى لما عدلوا عنها على بكرة أبيهم إلى عموم الكتاب ولما تركوها متدهورة في هوّة الإهمال.

وعلى الباحث أن ينظر نظرة عميقة إلى قول ابن عمر وقد كان في المسألة أوّلاً مصافقاً في رأيه الكتاب ومن عمل به من الصحابة وعدّ في عدادهم ، ثمّ لمحض أن بلغه رأي الخليفة المجرّد عن الحجّة عدل عن فتواه فقال : عثمان خيرنا وأعلمنا. أو قال : أكبرنا وأعلمنا. هكذا فليكن المجتهدون ، وهكذا فلتصدر الفتاوى.

ـ ١٨ ـ

رأي الخليفة في امرأة المفقود

أخرج مالك من طريق سعيد بن المسيب أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : أيّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنّها تنتظر أربع سنين ، ثمّ تنتظر أربعة أشهر وعشراً ، ثمّ تحلّ. وقضى بذلك عثمان بن عفّان بعد عمر.

وأخرج أبو عبيد بلفظ : إنّ عمر وعثمان رضى الله عنه قالا : امرأة المفقود تربّص أربع سنين ، ثمّ تعتدّ أربعة أشهر وعشراً ، ثمّ تنكح.

وفي لفظ الشيباني : إنّ عمر رضى الله عنه أجّل امرأة المفقود أربع سنين. وفي لفظ شعبة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قضى عمر رضى الله عنه في المفقود تربّص امرأته أربع سنين ثمّ يطلّقها وليّ زوجها ، ثمّ تربّص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثمّ تزوّج.

ومن طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر رضى الله عنه في امرأة المفقود قال : إن جاء زوجها وقد تزوّجت خيّر بين امرأته وبين صداقها ، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر ، وإن اختار امرأته اعتدّت حتى تحلّ ، ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلّ من فرجها. قال ابن شهاب : وقضى بذلك عثمان بعد عمر.


وفي لفظ الشافعي : إذا تزوّجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحقّ بها ، فإن دخل بها زوجها الآخر فالأوّل المفقود بالخيار بين امرأته والمهر (١).

قال الأميني : من لي بمتفقّه في المسألة ، يخبرني عن علّة تريّث المفقود عنها زوجها أربع سنين ، أهو مأخوذ من كتاب الله؟ فأين هو منه؟ أم أُخذ من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن ذا الذي رواها ونقلها؟ والصحاح والمسانيد للقوم خالية عنها ، نعم ربّما يُتشبّث للتقدير بأنّها نهاية مدّة الحمل. قال البقاعي في فيض الإله المالك (٢ / ٢٦٣) : وسبب التقدير بأربع سنين أنّها نهاية مدّة الحمل وقد أخبر بوقوعه لنفسه الإمام الشافعي وكذا الإمام مالك وحكي عنه أيضاً أنّه قال : جارتنا امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة ، تحمل كلّ بطن أربع سنين ، وورد هذا عن غير تلك المرأة أيضاً. انتهى.

وهذا التعليل حكاه ابن رشد في مقدّمات المدوّنة الكبرى (٢ / ١٠١) عن أبي بكر الأبهري ثمّ عقّبه بقوله : وهو تعليل ضعيف لأنّ العلّة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحرّ والعبد (٢) لاستوائهما في مدّة لحوق النسب. ولوجب أن يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد عنها زوجها فقام عنها أبوها في ذلك ، فقد قال : إنّها لو أقامت عشرين سنة ثمّ رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام وهذا يبطل تعليله إبطالاً ظاهراً. انتهى.

وليت هذا المتشبّث أدلى في حجّته بذكر أُناس تريّثوا في الأرحام النزيهة عن الخنا أربعاً قبل فتيا الخليفتين ، وإلاّ فما غناء قصّة وقعت بعدهما بردح طويل من

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٢٨ [٢ / ٥٧٥ ح ٥٢] ، كتاب الأُم للشافعي : ٧ / ٢١٩ [٧ / ٢٣٦] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٥ ، ٤٤٦. (المؤلف)

(٢) التفصيل بين الحرّ والعبد بأنّ امرأة الحرّ يضرب لها الأجل أربعة أعوام ولامرأة العبد تربّص عامين كما نصّ عليه ابن رشد ، رأي مجرّد لا دليل عليه. (المؤلف)


الزمن ولا يُدرى أصحيحة هي أم مكذوبة؟ وعلى فرض الصحّة فهل كان الخليفتان يعلمان الغيب؟ وأنّه سينتج المستقبل الكشّاف رجلاً يكون حجّة لما قدّراه من مدّة التربّص؟ أو كان ما قد رآه فتوى مجرّده؟ فنحتت لها الأيّام علّة بعد الوقوع.

على أنّ أقصى مدّة الحمل محلّ خلاف بين الفقهاء ، ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنّه عامان ، ومذهب الشافعي أنّه أربعة أعوام ، واختار ابن القاسم أنّ أكثره خمسة أعوام (١) ، وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روي أنّ امرأة ابن عجلان ولدت ولداً مرّة لسبعة أعوام (٢).

ولعلّ أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يُرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي وقد ولدن أولاداً لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام ، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل ذلك كلّه ، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟! أو وجاه ما أتت به أمّ الإمام الشافعي فأفتى به؟!

ونقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللاً غير هذا وإن ردّها وفنّدها ، منها : أنّها المدّة التي تبلغها المكاتبة في بلد الإسلام مسيراً ورجوعاً ، ومنها : أنّه جهل إلى أيّ جهة سار من الأربع جهات ، فلكلّ جهة تربّص سنّة فهي أربع سنين. هذا مبلغ علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حكم ما صدع به النبيّ الأقدس؟

ثمّ يخبرني هذا المتفقّه عن هذه العدّة التي أثبتها الخليفتان لما ذا هي؟ فإن كانت عدّة الوفا فإنّها غير جازمة بها ، ولا تثبت بمجرّد مرور أربع سنين أو أكثر ، وفي رواية عن عمر كما سمعت أنّه قضى في المفقود تربّص امرأته أربع سنين ثمّ يطلّقها وليّ

__________________

(١) في الفقه على المذاهب الأربعة : ٤ / ٥٣٥ إنّه خمس سنين على الراجح. (المؤلف)

(٢) راجع مقدّمات المدوّنة الكبرى للقاضي ابن رشد : ٢ / ١٠٢. (المؤلف)


زوجها ثمّ تربّص بعد ذلك الأربعة أشهر وعشر ثمّ تزوّج (١). فعلى هذا إنّها عدّة الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء ، فما هذه أربعة أشهر وعشراً؟ وعلى فرض ثبوت هذه العدّة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتى إنّه إذا جاء بعد النكاح خُيّر بين امرأته وبين صداقها ، وقد قطع الشرع أيّ صلة بينهما ورخّص في تزويجها ، فنكحت على الوجه المشروع ، قال ابن رشد (٢) : ألا ترى أنّها لو ماتت بعد العدّة لم يوقف له ميراث منها ، وإن كان لو أتى في هذه الحالة كان أحقّ بها ، ولو بلغ هو من الأجل ما لا يجيء إلى مثله من السنين وهي حيّة لم تورث منه ، وإنّما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقض الأجل المفروض ، وأمّا إذا انقضى واعتدّت فليس ذلك لها وكذلك إن مضت بعد العدّة.

ثمّ ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأوّل الصداق ولم يأت بمأثم وإنّما تزوّج بامرأة أباحتها له الشريعة؟

وأعجب من كلّ هذه أنّ هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلّهم ولم يُفْتِ بمقتضاها أئمّة المذاهب في باب الخيار. قال مالك في الموطّأ (٣) (٢ / ٢٨) : إن تزوّجت بعد انقضاء عدّتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأوّل إليها. وقال : وذلك الأمر عندنا ، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوّج فهو أحقّ بها.

وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : لا تحلّ امرأة المفقود حتى يصحّ موته. قاله القاضي ابن رشد في بداية المجتهد (٢ / ٥٢) فقال : وقولهم مرويّ عن عليّ وابن مسعود.

وقال الحنفيّة : يُشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط : أحدها أن يكون

__________________

(١) سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٥. (المؤلف)

(٢) مقدّمات المدوّنة الكبرى : ٢ / ١٠٤. (المؤلف)

(٣) موطّأ مالك : ٢ / ٥٧٥ ح ٥٢.


العقد صحيحاً ، فلو عقد عليها عقداً فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها ثمّ ظهر فساد العقد أو بطلانه فإنّ له الحقّ في الرجوع عليها بما أنفقه.

ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوّجت بزوج آخر ودخل بها ثمّ حضر زوجها الغائب ، فإنّ نكاحها الثاني يكون فاسداً ، ويفرّق القاضي بينهما ، وتجب عليها العدّة بالوطء الفاسد ، ولا نفقة لها على الزوج الأوّل ولا على الزوج الثاني (١).

وقال الشافعي في كتاب الأُمّ (٢) (٥ / ٢٢١) : لم أعلم مخالفاً في أنّ الرجل أو المرأة لو غابا أو أحدهما برّا أو بحراً عُلم مغيبهما أو لم يعلم فماتا أو أحدهما فلم يُسمع لهما بخبر أو أسرهما العدوّ فصيّروهما إلى حيث لا خبر عنهما لم نورّث واحداً منهما من صاحبه إلاّ بيقين وفاته قبل صاحبه ، فكذلك عندي امرأة الغائب أيّ غيبة كانت ممّا وصفت أو لم أصف بأسار عدوّ أو بخروج الزوج ثمّ خفي مسلكه ، أو بهيام من ذهاب عقل أو خروج فلم يُسمَع له ذكر ، أو بمركب في بحر فلم يأت له خبر ، أو جاء خبر أن غرق كان يرون أنّه قد كان فيه ولا يستيقنون أنّه فيه ، لا تعتدّ امرأته ولا تنكح أبداً حتى يأتيها بيقين وفاته ، ثمّ تعتدّ من يوم استيقنت وفاته وترثه ، ولا تعتدّ امرأة من وفاة ومثلها يرث إلاّ ورثت زوجها الذي اعتدّت من وفاته ، ولو طلّقها وهو خفيّ الغيبة بعد أيّ هذه الأحوال كانت ، أو آلى منها ، أو تظاهر ، أو قذفها ، لزمه ما يلزم الزوج الحاضر في ذلك كلّه ، وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن تكون امرأة رجل يقع عليها ما يقع على الزوجة تعتدّ لا من طلاق ولا وفاة ، كما لو ظنّت أنّه طلّقها أو مات عنها لم تعتدّ من طلاق إلاّ بيقين ، وهكذا لو تربّصت سنين كثيرة بأمر حاكم واعتدّت وتزوّجت فطلّقها الزوج الأوّل المفقود لزمها الطلاق ، وكذلك إن آلى منها ، أو تظاهر ، أو قذفها ، لزمه ما يلزم الزوج ، وهكذا لو تربّصت بأمر حاكم أربع سنين ثمّ اعتدّت

__________________

(١) الفقه على المذاهب الاربعة : ٣ / ٥٦٥ [٤ / ٥٧٥]. (المؤلف)

(٢) كتاب الأُم : ٥ / ٢٣٩.


فأكملت أربعة أشهر وعشراً ونكحت ودخل بها ، أو نكحت ولم يدخل بها ، أو لم تنكح وطلّقها الزوج الأوّل المفقود في هذه الحالات لزمها الطلاق لأنّه زوج ، وهكذا لو تظاهر منها أو قذفها أو آلى منها لزمه ما يلزم المولى غير أنّه ممنوع من فرجها بشبهة بنكاح غيره ، فلا يقال له فيء حتى تعتدّ من الآخر إذا كانت دخلت عليه ، فإذا أكملت عدّتها أجّل من يوم تكمل عدّتها أربعة أشهر ، وذلك حين حلّ له فرجها وإن أصابها فقد خرج من طلاق الإيلاء وكفّر ، وإن لم يصبها قيل له : أصبها أو طلّق.

قال : وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يُفقد حتى يعلم يقين موته ، وإن أجّلها حاكم أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من مال زوجها ، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنّها مانعة له نفسها ، وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدّة منه لو طلّقها أو مات عنها ولا بعد ذلك ، ولم أمنعها النفقة من قبل أنّها زوجة الآخر ، ولا أنّ عليها منه عدّة ، ولا أنّ بينهما ميراثاً ، ولا أنّه يلزمها طلاقه ، ولا شيء من الأحكام بين الزوجين إلا لحوق الولد به إن أصابها ، وإنّما منعتها النفقة من الأوّل لأنّها مخرجة نفسها من يديه ومن الوقوف عليه ، كما تقف المرأة على زوجها الغائب بشبهة ، فمنعتها نفقتها في الحال التي كانت فيها مانعة له نفسها بالنكاح والعدّة ، وهي لو كانت في المصر مع زوج فمنعته نفسها منعتها نفقتها بعصيانها ، ومنعتها نفقتها بعد عدّتها من زوجها الآخر بتركها حقّها من الأوّل وإباحتها نفسها لغيره ، على معنى أنّها خارجة من الأوّل ، ولو أنفق عليها في غيبته ثمّ ثبتت البيّنة على موته في وقت ردّت كلّ ما أخذت من النفقة من حين مات فكان لها الميراث.

ولو حكم لها حاكم بأن تزّوج فتزوّجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها ، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمّي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتى مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.


قال : ومتى طلّقها الأوّل وقع عليها طلاقه ، ولو طلّقها زوجها الأوّل أو مات عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج ، فكانت عليها عدّة الوفاة والطلاق ولها الميراث في الوفاة والسكنى في العدّة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة ، ولو مات الزوج الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت. إلخ.

فأنت بعد هذه كلها جدّ عليم بأنّه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحة من أصول الحكم والفتيا لما عدل عنه هؤلاء الأئمّة ، ولما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولما قال عليه‌السلام في امرأة المفقود إذا قدم وقد تزوّجت امرأته : «هي امرأته إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ولا تُخيَّر».

ولما قال عليه‌السلام : «إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوّج حتى تعلم أمره».

ولما قال عليه‌السلام : «إنّها لا تتزوّج».

ولما قال عليه‌السلام : «ليس الذي قال عمر رضى الله عنه بشيء ، هي امرأة الغائب حتى يأتيها يقين موته أو طلاقها ، ولها الصداق من هذا بما استحلّ من فرجها ونكاحه باطل».

ولما قال عليه‌السلام : «هي امرأة الأوّل دخل بها الآخر أو لم يدخل بها».

ولما قال عليه‌السلام : «امرأة ابتليت فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته» (١). قال الشافعي بعد ذكر الحديث : وبهذا نقول.

وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق ؛ وأعلم الأمّة بأسرها ، وباب مدينة العلم النبويّ ، ووارث علم النبيّ الأقدس على ما جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليتهما رجعا إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدّا بالرأي المجرّد كما استعلماه في

__________________

(١) كتاب الأُم للشافعي : ٥ / ٢٢٣ [٥ / ٢٤١] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٤٤ ، ٤٤٦ ، مقدّمات المدوّنة الكبرى : ٢ / ١٠٣. (المؤلف)


كثير ممّا أربكهما من المشكلات ، وأنّى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأيّ رأي هذا [الذي] ضربت عنه الأُمّة صفحاً؟ وكم له من نظير! وكيف أوصى النبيّ الأعظم باتّباع أُناس هذه مقاييس آرائهم في دين الله ، وهذا مبلغهم من العلم ، بقوله فيهم : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين فتمسّكوا بها (١)؟

(خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) (٢).

ـ ١٩ ـ

الخليفة يأخذ حكم الله من أُبيّ

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٤١٧) بالإسناد عن أبي عبيدة قال : أرسل عثمان رضى الله عنه إلى أُبيّ يسأله عن رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة. قال أُبيّ : إنّي أرى أنّه أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وتحلّ لها الصلاة. قال : لا أعلم عثمان رضى الله عنه إلاّ أخذ بذلك.

قال الأميني : صريح الرواية أنّ الخليفة كان جاهلاً بهذا الحكم حتى تعلّمه من أُبيّ وأخذ بفتياه ، ولا شكّ أنّ الذي علّمه هو خير منه ، فهلاّ ترك المقام له أو لمن هو فوقه؟ وفوق كلّ ذي علم عليم ، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أيّ من مسائل الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.

وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري (٣) (٢ / ٧٣٣) : إنّ عمر كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر الأثر في علمه ، فانظر ما ذا ترى؟

__________________

(١) أسلفنا الحديث في الجزء السادس : ص ٣٣٠ ، وبيّنا المعنى الصحيح المراد منه. (المؤلف)

(٢) سورة ص : ٢٢.

(٣) عمدة القاري : ٥ / ٢٠٣.


ـ ٢٠ ـ

الخليفة يأخذ السنّة من امرأة

أخرج الإمامان الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان أخبرت : أنّها جاءت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأنّ زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي أرجع إلى أهلي فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم» ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال : «فكيف قلت؟» فرددت عليه القصّة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتّبعه وقضى به.

قال الشافعي في الرسالة : وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

وقال في اختلاف الحديث : اخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفّان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها أن تمكث في بيتها وهي متوفّى عنها حتى يبلغ الكتاب أجله ، فاتّبعه وقضى به.

قال ابن القيّم في زاد المعاد : حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطّئهِ ، واحتجّ به وبنى عليه مذهبه ، ثمّ ذكر تضعيف ابن حزم إيّاه وفنّده وقال : ما قاله أبو محمد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البرّ في شهرته ، وأنّه معروف عند علماء الحجاز والعراق.

راجع (١) الرسالة للشافعي (ص ١١٦) ، كتاب الأُم له (٥ / ٢٠٨) ، اختلاف

__________________

(١) الرسالة : ٤٣٨ ح ١٢١٤ ، كتاب الأُم : ٥ / ٢٢٧ ، اختلاف الحديث : ص ٤٧٩ ، موطّأ مالك : ٢ / ٥٩١ ح ٨٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٩١ ح ٢٣٠٠ ، أحكام القرآن : ١ / ٤١٨ ، زاد المعاد : ٤ / ٢١٥ ، نيل الأوطار : ٦ / ٣٣٥ ، سنن الترمذي : ٣ / ٥٠٨ ح ١٢٠٤ ، السنن الكبرى : ٣ / ٣٩٣ ح ٥٧٢٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٦٥٤ ح ٢٠٣١.


الحديث له هامش كتاب الأُم (٧ / ٢٢) ، موطّأ مالك (٢ / ٣٦) ، سنن أبي داود (١ / ٣٦٢) ، سنن البيهقي (٧ / ٤٣٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (١ / ٤٩٦) ، زاد المعاد (٢ / ٤٠٤) ، الإصابة (٤ / ٣٨٦) ، نيل الأوطار (٧ / ١٠٠) وقال : رواه الخمسة وصحّحه الترمذي ولم يذكر النسائي وابن ماجة إرسال عثمان.

قال الأميني : هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عمّا توصّلت إليه المرأة المذكورة ، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك ، فارجع البصر كرّتين ، وأعجب من خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أُمّته ، وهو المرجع الوحيد للأمّة جمعاء يومئذٍ في كلّ ما جاء به الإسلام المقدّس كتاباً وسنّة ، وبه سُدّ فراغ النبيّ الأعظم ، وعليه يُعوّل في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلاً عن مثل هذه المسألة البسيطة.

ثمّ اعجب من ابن عمر أنّه يرى من هذا مبلغ علمه أعلم الصحابة في يومه ، ما عشت أراك الدهر عجباً.

ـ ٢١ ـ

رأي الخليفة في الإحرام قبل الميقات

أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣١) بالإسناد عن داود بن أبي هند أنّ عبد الله (١) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال : لأجعلنّ شكري لله أن أخرج من موضعي محرماً ، فأحرم من نيسابور. فلمّا قدم على عثمان لامه على ما صنع قال : ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.

لفظ آخر من طريق محمد بن إسحاق قال : خرج عبد الله بن عامر من

__________________

(١) هو ابن خال عثمان بن عفّان كما في الإصابة راجع : ٣ / ٦١ [رقم ٦١٧٩]. (المؤلف)


نيسابور معتمرا قد أحرم منها ، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس ، فلمّا قضى عمرته أتى عثمان بن عفّان رضى الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضى الله عنه فقال له عثمان رضى الله عنه : لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.

وقال ابن حزم في المحلّى (٧ / ٧٧) : روينا من طريق عبد الرزّاق ، حدثنا معمر عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين قال : أحرم عبد الله بن عامر من حيرب (١) فقدم على عثمان بن عفّان فلامه ، فقال له : غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر : غررت بنسكك.

فقال ابن حزم : قال أبو محمد ـ يعني نفسه ـ : وعثمان لا يعيب عملاً صالحاً عنده ولا مباحاً ، وإنّما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيّما وقد بيّن أنّه هوان بالنسك ، والهوان بالنسك لا يحلّ وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحجّ.

وذكره ابن حجر في الإصابة (٣ / ٦١) وقال : أحرم ابن عامر من نيسابور شكراً لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ، ثمّ ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة وفيه : أنّ ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمد بن سيرين والبيهقي فقال : قال البيهقي : هو عن عثمان مشهور (٢).

وذكر هذه كلّها في تهذيب التهذيب (٣) (٥ / ٢٧٣) غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث. وفي تيسير الوصول (٤) (١ / ٢٦٥) : عن عثمان رضى الله عنه : أنّه كره أن يحرم الرجل

__________________

(١) وفي نسخة : جيرب. ولم أجدهما في المعاجم. (المؤلف)

(٢) توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى : ٥ / ٣١. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٣٩.

(٤) تيسير الوصول : ١ / ٣١٣.


من خراسان وكرمان. أخرجه البخاري (١) ترجمةً.

قال الأميني : إنّ الذي ثبت في الإحرام بالحجّ أو العمرة أنّ هذه المواقيت حدّ للأقلّ من مدى الإحرام ، بمعنى أنّه لا يعدوها الحاجّ وهو غير محرم ، وأمّا الإحرام قبلها من أيّ البلاد شاء أو من دويرة أهل المحرم ، فإن عقده باتّخاذ ذلك المحلّ ميقاتاً فلا شكّ أنّه بدعة محرّمة كتأخيره عن المواقيت ، وأمّا إذا جيء به للاستزادة من العبادة عملاً بإطلاقات الخير والبرّ ، أو شكراً على نعمة ، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصلاة والصوم وبقيّة القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البرّ ، تشمله كلّ من أدلّة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس ، وإنّما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي :

١ ـ أخرج أئمّة الحديث ؛ بإسنادٍ صحيح من طريق الأخنسي ، عن أُمّ حكيم ، عن أُم سلمة مرفوعاً : «من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجّة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه». قال الأخنسي : فركبت أُمُّ حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتى أهلّت منه بعمرة.

وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي : «من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر». أو : «وجبت له الجنّة» وفي لفظ : «ووجبت له الجنّة».

وفي لفظ ابن ماجة : «من أهلّ بعمرة من بيت المقدس غُفر له».

وفي لفظ له أيضاً : «من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفّارة لما قبلها من الذنوب». قالت : فخرجت أُمّي (٢) من بيت المقدس بعمرة.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٥٦٥ باب ٣٢ كتاب الحج.

(٢) كلمة : أمي غير موجودة في لفظ ابن ماجة. وفي لفظ أحمد : فركبت أُم حكيم.


وقال أبو داود بعد الحديث : يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة.

راجع (١) مسند أحمد (٦ / ٢٩٩) ، سنن أبي داود (١ / ٢٧٥) ، سنن ابن ماجة (٢ / ٢٣٥) ، سنن البيهقي (٥ / ٣٠) ، مصابيح السنّة للبغوي (١ / ١٧٠) ، والترغيب والترهيب للمنذري (٢ / ٦١) ذكره بالألفاظ المذكورة وصحّحه من طريق ابن ماجة وقال : ورواه ابن حبّان في صحيحه.

٢ ـ أخرج ابن عدي (٢) والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٣) : أنّ من تمام الحجّ أن تحرم من دُويرة أهلك.

سنن البيهقي (٥ / ٣٠) ، الدرّ المنثور (٤) (١ / ٢٠٨) ، نيل الأوطار (٥) (٥ / ٢٦) قال : ثبت ذلك مرفوعاً من حديث أبي هريرة.

٣ ـ أخرج الحفّاظ من طريق عليّ أمير المؤمنين ؛ أنّه قال في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : «إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك».

أخرجه (٦) وكيع ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٤٢٤ ح ٢٦٠١٨ ، سنن أبي داود : ٢ / ١٤٣ ح ١٧٤١ سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٩٩ ح ٣٠٠١ و ٣٠٠٢ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٢٣١ ح ١٨٢٧ ، الترغيب والترهيب : ٢ / ١٩٠ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٩ / ١٣ ح ٣٧٠١.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال : ٢ / ١٢٠ رقم ٣٢٨.

(٣) البقرة : ١٩٦.

(٤) الدرّ المنثور : ١ / ٥٠٢.

(٥) نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.

(٦) مصنّف ابن أبي شيبة : ٤ / ١٩٥ ح ٢٠ كتاب الحج ، جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٢٠٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٢ / ٣٠٣ ح ٣٠٩٠ ، وكذا في تلخيصه ، أحكام القرآن : ١ / ٢٨٦ ، ٣٠٠ ، التفسير الكبير : ٥ / ١٤٤ ، الدرّ المنثور : ١ / ٥٠٢ ، نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.


والنحّاس في ناسخه (ص ٣٤) ، وابن جرير في تفسيرهِ (٢ / ١٢٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٧٦) ، وصحّحه وأقرّه الذهبي ، والبيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣٠) ، والجصّاص في أحكام القرآن (١ / ٣٣٧ ، ٣٥٤) ، تفسير ابن جزي (١ / ٧٤) ، تفسير الرازي (٢ / ١٦٢) ، تفسير القرطبي (٢ / ٣٤٣) ، تفسير ابن كثير (١ / ٢٣٠) ، الدرّ المنثور (١ / ٢٠٨) ، نيل الأوطار (٥ / ٢٦).

٤ ـ قال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (١ / ٣١٠) : رُوي عن عليّ وعمر وسعيد ابن جبير وطاوس ، قالوا : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال في (ص ٣٣٧) : أمّا الإحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه. وروي عن الأسود بن يزيد ، قال : خرجنا عُمّاراً ، فلمّا انصرفنا مررنا بأبي ذرّ فقال : أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إنّ العمرة من مدركم. وإنّما أراد أبو ذرّ : أنّ الأفضل إنشاء العمرة من أهلك ، كما رُوي عن عليّ : تمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال الرازي في تفسيره (٢) (٢ / ١٦٢) : روي عن عليّ وابن مسعود : أنّ إتمامهما أن يحرم من دُويرة أهله. وقال في (ص ١٧٢) : اشتهر عن أكابر الصحابة أنّهم قالوا : من إتمام الحجّ أن يحرم المرء من دُويرة أهله.

وقال القرطبي في تفسيره (٣) (٢ / ٣٤٣) بعد ذكره حديث عليّ عليه‌السلام : وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقّاص وفعله عمران بن حصين. ثمّ قال : أمّا ما روي عن عليّ وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف ، وثبت أنّ عمر أهلّ من إيلياء (٤) ، وكان

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٦٣ ، ٢٨٦.

(٢) التفسير الكبير : ٥ / ١٤٤ ، ١٦١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٤٤.

(٤) إيلياء ـ بالمد وتقصر ـ : اسم مدينة بيت المقدس [معجم البلدان : ١ / ٢٩٣]. (المؤلف)


الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يُحرمون من بيوتهم ، ورخّص فيه الشافعي. ثمّ ذكر حديث أُم سلمة المذكور.

وقال ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٣٠) بعد حديث عليّ عليه‌السلام : وكذا قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.

٥ ـ أخرج البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ٣٠) من طريق نافع عن ابن عمر : أنّه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.

وأخرج مالك في الموطّأ (١) (١ / ٢٤٢) : أنّ ابن عمر أهلّ بحجّة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول (٢) (١ / ٢٦٤) ، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة : أنّه ثابت.

قال الشافعي في كتاب الأُمّ (٣) (٢ / ١١٨) : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ابن دينار ، عن طاووس ، قال : قال ـ ولم يسمّ عمرو القائل إلاّ أنّا نراه ابن عبّاس ـ : الرجل يهلّ من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلاّ محرماً. إلى أن قال :

قلت : إنّه لا يضيق عليه أن يبتدئ الإحرام قبل الميقات كما لا يضيق عليه لو أحرم من أهله ، فلم يأت الميقات إلاّ وقد تقدّم بإحرامه ، لأنّه قد أتى بما أُمر به من أن يكون محرماً من الميقات. انتهى.

قال ملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ١٦٤) : كلّما قدّم الإحرام على المواقيت هو أفضل. وروي عن أبي حنيفة : أنّ ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه

__________________

(١) موطّأ مالك : ١ / ٣٣١ ح ٢٦.

(٢) تيسير الوصول : ١ / ٣١٣.

(٣) كتاب الأُمّ : ٢ / ١٣٨ ، ١٣٩.


الإحرام. وقال الشافعي : الإحرام من الميقات أفضل بناءً على أصله أنّ الإحرام ركن فيكون من أفعال الحجّ ، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات ، لأنّ أفعال الحجّ لا يجوز تقديمها على أوقاتها (١) وتقديم الإحرام على الميقات جائز بالإجماع إذا كان في أشهر الحجّ ، والخلاف في الأفضليّة دون الجواز ، ولنا قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، وروي عن عليّ وابن مسعود أنّهما قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وروي عن أمّ سلمة ... إلى آخره.

وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٢ / ٣٤٥) : أجمع أهل العلم على أنّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنّه محرم ، وإنّما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيّق المرء على نفسه ما وسّع الله عليه ، وأن يتعرّض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلّهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ، لأنّه زاد ولم ينقص.

وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب (٥ / ٥ ـ ٦) : قد بيّنا أنّ معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريداً للنسك ، أمّا الإحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور ، ونقل غير واحد الإجماع عليه ، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دُويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي ، ورجّحه من أصحابه القاضي أبو الطيّب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة ، وروي عن عمر وعليّ أنّهما قالا في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وقال ابن المنذر : ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من إيلياء يعني بيت المقدس ، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. انتهى. لكن الأصحّ عند النووي (٣) من

__________________

(١) لا صلة بين ركنيّة الإحرام وكونه من أفعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء ، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مرّ من الأدلّة. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٢٤٥.

(٣) شرح صحيح مسلم : ٧ / ٨٧.


قولي الشافعي : أنّ الإحرام من الميقات أفضل ، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحقّقين ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكرة تقدّم الإحرام على الميقات ، قال ابن المنذر : وروينا عن عمر أنّه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الإحرام من المكان البعيد. انتهى.

وعن أبي حنيفة رواية ؛ أنّه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل ، وإلاّ فمن الميقات ، وبه قال بعض الشافعيّة.

وشذّ ابن حزم الظاهري (١) فقال : إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمرُّ عليها فلا إحرام له إلاّ أن ينوي إذا صار [إلى] (٢) الميقات تجديد إحرام. وحكاه عن داود وأصحابه (٣) وهو قول مردود بالإجماع قبله على خلافه قاله النووي ، وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرم ، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره. انتهى.

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار (٤) (٥ / ٢٦) جواز تقديم الإحرام على الميقات مستدلاّ عليه بما مرّ في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ). ثمّ قال :

وأمّا قول صاحب المنار : إنّه لو كان أفضل لما تركه جميع الصحابة ؛ فكلام على غير قانون الاستدلال ، وقد حكى في التلخيص أنّه فسّره ابن عيينة فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفراً من أهله ، ولكن لا يناسب لفظ الإهلال الواقع في حديث الباب ولفظ الإحرام الواقع في حديث أبي هريرة. انتهى.

__________________

(١) المحلّى : ٧ / ٧٠ المسألة ٨٢٢.

(٢) من المصدر.

(٣) في المصدر : وأصحابهم.

(٤) نيل الأوطار : ٤ / ٣٣٥.


والإمعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الإحرام على الميقات ، وأنّ الخلاف في الأفضل من التقديم والإحرام من الميقات ، لكن الخليفة لم يعط النظر حقّه ، ولم يوفِ للاجتهاد نصيبه ، أو أنّه عزبت عنه السنّة المأثورة ، فطفق يلوم عبد الله بن عامر ، أو أنّه أحبّ أن يكون له في المسألة رأي خاصّ ، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي :

العلمُ قال اللهُ قال رسولُه

إن صحَّ والإجماعُ فاجهد فيهِ

وحذارِ من نصبِ الخلافِ جهالةً

بين الرسولِ وبين رأي فقيهِ

وهلمّ معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أنّ عثمان لا يعيب عملاً صالحاً ... الى آخره. فإنّه غير مدعوم بالحجّة غير حسن الظنّ بعثمان ، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافّة ما لم يزع عنه وازع ، وسيرة الرجل تأبى عن الظنّ الحسن به ، وأمّا مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنّة الثابتة وأنّ نهي عثمان مخالف لها ، وليس من الهيّن الفتُّ في عضد السنّة لتعظيم إنسان وتبرير عمله ، فإنّ المتّبع في كافّة القُرَب ما ثبت من الشرع ، ومن خالفه عِيب عليه كائناً من كان.

وأمّا تشبّثه بالهوان بالنسك فتافه جدّا ، وأيّ هوان بها في التأهّب لها قبل ميقاتها بقربةٍ مطلقة إن لم يكن تعظيماً لشعائر الله ، وإنّما الهوان المحرّم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات ، (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١).

ـ ٢٢ ـ

لو لا عليٌّ لهلك عثمان

أخرج الحافظ العاصمي في كتابه زين الفتى في شرح سورة هل أتى ؛ من

__________________

(١) النحل : ١١٦.


طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه : أنّ رجلاً أتى عثمان بن عفّان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميّت ، فقال : إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وأنّه يعذّب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسُّ منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره ، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل : أعد المسألة. فأعادها ، ثمّ قال عثمان بن عفّان : أجب الرجل عنها يا أبا الحسن فقال عليّ : «ائتوني بزند وحجر» والرجل السائل والناس ينظرون إليه ، فأُتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار ، ثمّ قال الرجل : «ضع يدك على الحجر» ، فوضعها عليه ثمّ قال : «ضع يدك على الزند» ، فوضعها عليه فقال : «هل أحسست منهما حرارة النار» ، فبهت الرجل ، فقال عثمان : لو لا عليّ لهلك عثمان.

قال الأميني : نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أُميّة الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون ، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقى منه في العلم ، فكيف به؟ وإنّما تُقلّها عيبة العلوم الإلهيّة المتلقّاة من المبدأ الأعلى منشئ الكون ومُلقي أسراره فيه ، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كلّ معضلة أعوز القوم عرفانها.

وإنّما كان المترقّب من عثمان ـ بعد ما تسنّم عرش الخلافة ـ الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنّة المفاضة على أفراد الصحابة ، لئلا يرتبك في موارد السؤال ، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد ، أو يرتئي رأياً عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف ..

ـ ٢٣ ـ

رأي الخليفة في الجمع بين الأُختين بالملك

أخرج مالك في الموطأ (١) (٢ / ١٠) ، عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب أنّ رجلاً سأل عثمان بن عفّان عن الأُختين من ملك اليمين ، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان :

__________________

(١) موطّأ مالك : ٢ / ٥٣٨ ح ٣٤.


أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، أمّا أنا فلا أُحبُّ أن أصنع ذلك. قال : فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال ابن شهاب : أراه عليّ بن أبي طالب.

لفظ آخر للبيهقي :

عن ابن شهاب ؛ قال : أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنّ نياراً الأسلمي سأل رجلاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُختين فيما ملكت اليمين ، فقال له : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، ولم أكن لأفعل ذلك. قال : فخرج نيار من عند ذاك الرجل فلقيه رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما أفتاك به صاحبك الذي استفتيتهُ؟ فأخبره ، فقال : إنّي أنهاك عنهما ، ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.

قال ملك العلماء في البدائع : وروي عن عثمان رضى الله عنه أنّه قال : كلُّ شيء حرّمه الله تعالى من الحرائر حرّمه الله تعالى من الإماء إلاّ الجمع في الوطء بملك اليمين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن : وروي عن عثمان وابن عباس أنّهما أباحا ذلك وقالا : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. وقال : روي عن عثمان الإباحة ، وروي عنه أنّه ذكر التحريم والتحليل وقال : لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدلُّ على أنّه كان ناظراً فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه ، فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثمّ وقف فيه ، وقطع عليّ فيه بالتحريم.

وقال الزمخشري : أمّا الجمع بينهما في ملك اليمين ؛ فعن عثمان وعليّ أنّهما قالا : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. فرجّح عليّ التحريم وعثمان التحليل.

وقال الرازي (١) : وعن عثمان ، أنّه قال : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، والتحليل أولى.

__________________

(١) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.


وقال ابن عبد البرّ في كتاب الاستذكار (١) : إنّما كنّى قبيصة بن ذؤيب عن عليّ ابن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه.

راجع (٢) : السنن الكبرى للبيهقي (٧ / ١٦٣ ، ١٦٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ١٥٨) ، المحلّى لابن حزم (٩ / ٥٢٢) ، تفسير الزمخشري (١ / ٣٥٩) ، تفسير القرطبي (٥ / ١١٧) ، بدائع الصنائع لملك العلماء (٢ / ٢٦٤) تفسير الخازن (١ / ٣٥٦) الدرّ المنثور (٢ / ١٣٦) نقلاً عن مالك والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزّاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي ، تفسير الشوكاني (١ / ٤١٨) نقلاً عن الحفّاظ المذكورين.

قال الأميني : يقع البحث عن هذه المسألة في موردين :

الأوّل : في حكم الجمع بين الأُختين بملك اليمين ووطئهما جميعاً ، فهو محرّم على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره (٣) (٣ / ١٩٣).

وهو المشهور عن الجمهور والأئمّة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقّف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٢).

ولا يجوز الجمع عند عامّة الصحابة ، كما في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤).

كان فيه خلاف بين السلف ثمّ زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين. واتّفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصّاص في أحكام القرآن (٤) (٢ / ١٥٨).

__________________

(١) في بيان حديث الموطّأ المذكور في أوّل العنوان في قول قبيصة : فلقي رجلاً. (المؤلف)

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، الكشّاف : ١ / ٤٩٦ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٢ ، الدرّ المنثور : ٢ / ٤٧٦ ، موطّأ مالك : ٢ / ٥٣٨ ح ٣٤ ، كتاب الأُم للشافعي : ٥ / ٣ ، المصنّف لعبد الرزاق : ٧ / ١٨٩ ح ١٢٧٢٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة : ٤ / ١٦٩ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٣.

(٣) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.

(٤) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، ١٣٢.


وذهب كافّة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحد من أئمّة الفتوى إلى خلافه ـ قول عثمان ـ لأنّهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممّن قال ذلك من الصحابة عمر وعليّ وابن عبّاس وعمّار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسّف في التأويل. كذا قاله القرطبي في تفسيره (١) (٥ / ١١٦ ، ١١٧).

وقال أبو عمر في الاستذكار : روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عبّاس ، ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ، ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلاّ من شذّ عن جماعتهم باتّباع الظاهر ونفي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهراً ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متّفقون على أنّه لا يحلُّ الجمع بين الأُختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحلُّ ذلك في النكاح (٢).

وحُكِيت الحرمة المتسالم عليهابين الأُمّة جمعاء عن عليّ ، وعمر ، والزبير ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ، وعائشة ، وعمّار ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وابن منبه ، وإسحاق بن راهويه ، وإبراهيم النخعي ، والحكم بن عتيبة ، وحمّاد بن أبي سليمان ، والشعبي ، والحسن البصري ، وأشهب ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وأبي حنيفة ، ومالك (٣).

ومع المجمعين الكتاب والسنّة ، فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عدّ

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧.

(٢) تفسير ابن كثير ١ / ٤٧٣ ، تفسير الشوكاني : ١ / ٤١١ [١ / ٤٤٧]. (المؤلف)

(٣) راجع أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٥٨ [٢ / ١٣٠] ، المحلّى لابن حزم : ٩ / ٥٢٢ ، ٥٢٣ ، تفسير القرطبي : ٥ / ١١٧ ، ١١٨ [٥ / ٧٧ ، ٧٨] ، تفسير أبي حيّان : ٣ / ٢١٣ ، تفسير الرازي : ٣ / ١٩٣ [١٠ / ٣٦] ، الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦]. (المؤلف)


المحرّمات في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (١) ، فقد حرّمت الجمع بينهما بأيّ صورة من نكاح أو ملك يمين. قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٧٣) : وقد أجمع المسلمون على أنّ معنى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية (٢) : أنّ النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلّهنّ سواء ، وكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأُختين وأمّهات النساء والربائب ، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجّة المحجوج بها على من خالفها وشذّ عنها. انتهى.

وقد تمسّك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمّة الفتوى والمفسّرون ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يشدّد النكير على من يفعل ذلك ويقول : «لو كان لي من الأمر شيء ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً». أو يقول للسائل : «إنّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة».

وروي عن إياس بن عامر أنّه قال : سألت عليّ بن أبي طالب فقلت : إنّ لي أُختين ممّا ملكت يميني اتّخذت إحداهما سريّة وولدت لي أولاداً ثمّ رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال : «تعتق التي كنت تطأ ثمّ تطأ الأخرى» ثمّ قال : «إنّه يحرم عليك ممّا ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلاّ العدد». أو قال : «إلاّ الأربع ، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب» (٣).

ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه‌السلام لنهض حجّة للفتوى ، فإنّه أعرف الأُمّة بمغازي الكتاب وموارد السنّة ، وهو باب علم النبيّ صلّى الله عليهما وآلهما وهو الذي خلّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلاً للكتاب ليتمسّكوا بهما فلا يضلّوا.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) هي آية (وأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الأُخْتَينِ) (المؤلف)

(٣) أخرجه الجصّاص في أحكام القرآن : ٢ / ١٥٨ [٢ / ١٣٠] ، وأبو عمر في الاستذكار ، وذكره ابن كثير في تفسيره : ١ / ٤٧٢ ، والسيوطي في الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦]. (المؤلف)


وقد أصفق على ذلك أئمّة أهل البيت من ولده ، وهم عترته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعدال الكتاب وأبوهم سيّدهم ، وقولهم حجّة في كلّ باب.

وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من موافقته لعثمان في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنّة وقوله : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية وحاشاه عليه‌السلام من أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله ، غير أنّ رماة القول على عواهنه راقهم أن يهون على الأُمّة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه ، قال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) : قد روى إياس بن عامر أنّه قال لعليّ : إنّهم يقولون : إنّك تقول : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. فقال : «كذبوا».

ومن السنّة للمجمعين ما استدل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق (٣ / ٩٥) ، وملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤) وغيرهما من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم أُختين».

المورد الثاني : هل هناك ما يخصّص الحرمة المستفادة من القرآن بالنسبة إلى ملك اليمين؟ يدّعي عثمان ذلك فقال : أحلّتهما آية وحرّمتهما آية. ولم يعيّن الآية المحلّلة كما يعيّنها غيره من السلف ، نعم ؛ أخرج عبد الرزّاق (٢) وابن أبي شيبة (٣) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود ؛ أنّه سُئل عن الرجل يجمع بين الأُختين الأمتين فكرهه ، فقيل : يقول الله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). فقال : وبعيرك أيضاً ممّا ملكت يمينك. وفي لفظ ابن حزم : إنّ حملك ممّا ملكت يمينك (٤).

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠.

(٢) المصنّف : ٧ / ١٩٣ ح ١٢٧٤٢.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة : ٣ / ٣٠٦ ح ٣ باب ٥٠ من كتاب النكاح.

(٤) المحلّى لابن حزم : ٩ / ٥٢٤ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٢ ، الدرّ المنثور : ٢ / ١٣٧ [٢ / ٤٧٦] نقلاً عن الحفّاظ المذكورين. (المؤلف)


وقال الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) : يعنون بالمحلّل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). والقول بهذا بعيد عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات ، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة ، وأنّى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيّمة نقتصر منها بكلام (٢) الجصّاص ، قال في أحكام القرآن (٣) (٢ / ١٩٩) : إنّ الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأخرى ؛ إذ كلُّ واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى ، وذلك لأنّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وارد في حكم التحريم كقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ... وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وارد في إباحة المسبيّة التي لها زوج في دار الحرب ، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما ، فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبيّة وبين زوجها وإباحتها لمالكها ، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأُختين ، إذ كلّ واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى ، فيستعمل حكم كلّ واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه. قال :

ويدلُّ على ذلك أنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّها لم تعترض على حلائل الأبناء وأُمّهات النساء وسائر من ذكر تحريمهنّ في الآية ، وأنّه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أُمّ المرأة بملك اليمين ، ولم يكن قوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) موجباً لتخصيصهنّ لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى ، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع عليّ رضى الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على تحريم الجمع بين الأُختين يدلُ

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠ ، والآية : النساء : ٢٤.

(٢) الظاهر أنه قدس‌سره ضمّن (نقتصر) معنى (نكتفي) فعدّاه بالباء.

(٣) أحكام القرآن : ٢ / ١٣١.


على أنّ حكم الآيتين إذا وردتا في سببين ، إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أنّ كلّ واحدة منهما تجري على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى ، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل ذلك. إلى آخره.

ونحن نردف كلام الجصّاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وأنّه كما سمعت من الجصّاص غير السبب الوارد فيه قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ).

أخرج مسلم في صحيحه وغيره ؛ بالإسناد عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواج ، فسألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). فاستحللنا بها فروجهنّ.

وفي لفظ أحمد : إنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس لهنّ أزواج من أهل الشرك ، فكان أُناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّوا وتأثّموا من غشيانهنّ ، قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وفي لفظ النسائي : إنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدوّا فقاتلوهم وظهروا عليهم ، فأصابوا لهم سبايا لهنّ أزواج في المشركين ، فكان المسلمون تحرّجوا من غشيانهنّ ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

راجع (١) : صحيح مسلم (١ / ٤١٦ ، ٤١٧) ، صحيح الترمذي (١ / ١٣٥) ، سنن أبي

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ح ٣٣ ـ ٣٥. كتاب الرضاع ، سنن الترمذي : ٥ / ٢١٨ ح ٣٠١٦ ، ٣٠١٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٤٧ ح ٢١٥٥ ، السنن الكبرى : ٣ / ٣٠٨ ح ٥٤٩١ و ٥٤٩٢ ، مسند أحمد : ٣ / ٤٨٦ ح ١١٢٩٤ ، وص ٥٠٥ ح ١١٣٨٨ ، أحكام القرآن : ٢ / ١٣٦ ، مصابيح السنّة : ٢ / ٤٢١ ح ٢٣٥٦ ، الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٨٠ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٢٠٩ ، تفسير الخازن : ١ / ٣٤٢ ، فتح القدير : ١ / ٤٥٤.


داود (١ / ٣٣٦) ، سنن النسائي (٦ / ١١٠) ، مسند أحمد (٣ / ٧٢ ، ٨٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (٢ / ١٦٥) ، سنن البيهقي (٧ / ١٦٧) ، المحلّى لابن حزم (٩ / ٤٤٧) ، مصابيح السنّة (٢ / ٢٩) ، تفسير القرطبي (٥ / ١٢١) ، تفسير البيضاوي (١ / ٢٦٩) ، تفسير ابن كثير (١ / ٤٧٣) تفسير الخازن (١ / ٣٧٥) ، تفسير الشوكاني (١ / ٤١٨).

وعلى ذلك تأوّله عليّ ، وابن عبّاس ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، وقالوا : إنّ الآية وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبيح وطؤهنّ بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما (١).

وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٥ / ١٢١) : قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ؛ فقال ابن عبّاس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصّة ، أي هنّ محرّمات إلاّ ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب ، فإنّ تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أنّ السباء يقطع العصمة ، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب ، يدلُّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وذكر الحديث ، فقال : وهذا نصّ [صحيح] (٣) صريح في أنّ الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وطء المسبيّات ذوات الأزواج ، فأنزل الله تعالى في جوابهم : (إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. انتهى.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ١٦٥ [٢ / ١٣٥] ، سنن البيهقي : ٧ / ١٦٧ ، تفسير الشوكاني : ١ / ٤١٨ [١ / ٤٥٤]. (المؤلف)

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٨٠.

(٣) الزيادة من المصدر.


قول آخر في الآية المحلّلة :

قال ملك العلماء في بدائع الصنائع (٢ / ٢٦٤) ، والزمخشري في تفسيره (١) (١ / ٣٥٩) عني عثمان بآية التحليل قوله عزّ وجلّ : (إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

وهذا إنّما يتمّ بالتمسّك بعموم ملك اليمين ، لكن الممعن في لحن القول يجد أنّه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنّه في مقام بيان ناموس العفّة للمؤمنين بأنّ صاحبها يكون حافظاً لفرجه إلاّ فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٢) ولا ينافي هذا وجود شروط في كلّ منهما ، فإنّ العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة من الشريعة ، وإنّما هي التي تضيّق دائرة العموم وهي الناظرة عليه ، مثلاً لا يقتضي هو إباحة وطء الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيّام شهر رمضان وفي الإحرام والإيلاء والظهار والمعتدّة من وطء بشبهة ، ولا إباحة وطء الأُختين ولا وطء الأمة ذات الزوج فإنّ هذه شرائط جاء بها الإسلام لا يخصّصها أيُّ شيء ، ولا يعارض أدلّتها عموم إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

ولو وسّعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كلّ هذه أو نراها تعارض أدلّتها ، ولنا عندئذٍ أن نقول في نكاح الأُختين وفي بقيّة ما ورد فيه الكتاب ممّا ذكر : أحلّته آية وحرّمته آية! فقد استُثنِيا ـ الزوجة وملك اليمين ـ بنسق واحد وهذا ممّا لا يفوه به أيّ متفقّه.

__________________

(١) الكشّاف : ١ / ٤٩٦.

(٢) المؤمنون : ٥ و ٦.


وكذلك لو أخذنا بعمومها في الرجال والنساء كما جوّزه الجصّاص لوجب أن نبيح للمرأة المالكة أن يطأها من تملكه ، وهذا لا يحلُّ إجماعاً من أئمّة المذاهب ، وقال ابن حزم في المحلّى (٩ / ٥٢٤) : لا خلاف بين أحد من الأُمّة كلّها قطعاً متيقّناً في أنّه ليس على عمومه ، بل كلّهم مجمع قطعاً على أنّه مخصوص ، لأنّه لا خلاف ولا شكّ في أنّ الغلام من ملك اليمين وهو حرام لا يحلُّ ، وأنّ الأُمّ من الرضاعة من ملك اليمين والأُخت من الرضاعة من ملك اليمين ، وكلتاهما متّفق على تحريمهما ، أو الأمة يملكها الرجل قد تزوّجها أبوه ووطأها وولد منها حرام على الابن.

وقال : ثمّ نظرنا في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ). (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ). (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (١). ولم يأت نصّ ولا إجماع على أنّه مخصوص حاش زواج الكتابيّات فقط ، فلا يحلُّ تخصيص نصّ لا برهان على تخصيصه ، وإذ لا بدّ من تخصيص ما هذه صفتها أو تخصيص نصّ آخر لا خلاف في أنّه مخصوص ، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز غيره. انتهى.

وأمّا ما قيل (٢) من أنّ الآية المحلّلة قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) في ذيل آية عدّ المحرّمات فباطل أيضاً ، فإنّه بمنزلة الاستثناء ممّا قبله من المحرّمات ومنها الجمع بين الأُختين ، وقد عرفت أنّ الأُمّة صحابيّها وتابعيّها وفقهاءها مجمعة على عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأُختين في الوطء نكاحاً وملك يمين ، ولم يفرّقوا بينهما قطُّ ، وهو الحجّة ، على أنّ ملاك التحريم في النكاح وهو الوطء موجود في ملك اليمين ، فالحكم فيهما شرع سواء في المراد ممّا وراء ذلك هو ما وراء المذكورات كلّها من الأُمّهات والبنات إلى آخر ما فيها ، ومنها الجمع بين الأُختين بقسميه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢١.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ١١٧ [٥ / ٧٧] ، تفسير ابن كثير : ١ / ٤٧٤ (المؤلف)


وعلى فرض الإغضاء عن كلّ هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين ، فإنّ دليل الحظر مقدّم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين ، كما بيّنه علماء علم الأُصول ونصّ عليه في هذه المسألة الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) والرازي في تفسيره (٢) (٣ / ١٩٣).

لكن عثمان كان لا يعرف كلّ هذا ، ولا أحاط بشيء من أسباب نزول الآيات ، فطفق يغلّب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكلّ ، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلّة الحرمة دفعاً للضرر المحتمل ، وقد شذّ بذلك عن جميع الأُمّة كما عرفت تفصيله ، ولم يوافقه على هذا الحسبان أيّ أحد إلاّ ما يعزى إلى ابن عبّاس بنقل مختلف فيه كما مرّ عن أبي عمر في الاستذكار.

وفي كلام الخليفة شذوذ آخر وهو قوله : كلُّ شيء حرّمه الله تعالى من الحرائر حرّمه الله تعالى من الإماء إلاّ الجمع بالوطء بملك اليمين. فهو باطل في الاستثناء والمستثنى منه ، أمّا الاستثناء فقد عرفت إطباق الكلّ على حرمة الجمع بين الأُختين بالوطء بملك اليمين معتضداً بالكتاب والسنّة ، وأمّا المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه بالاتّفاق من الأُمّة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.

لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذّة عن الكتاب وفقه الإسلام باب الشجار على الأُمّة بمصراعيه ، فإنّها في الأغلب لا تفقد متابعاً أو مجادلاً قد ضلّوا وأضلّوا وهم لا يشعرون ، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يُؤبه بهم لم يزالوا مصرّين على رأي الخليفة في هذه المسألة ، لكنّهم شذّاذ عن الطريقة المثلى. قال القرطبي في تفسيره (٣) (٥ / ١١٧) : شذّ أهل الظاهر فقالوا : يجوز

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠.

(٢) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧.


الجمع بين الأُختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك ، واحتجّوا بما روي عن عثمان في الأُختين من ملك اليمين : حرّمتهما آية وأحلّتهما آية.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١)

ـ ٢٤ ـ

رأي الخليفة في ردِّ الأخوين الأُمّ عن الثلث

أخرج الطبري في تفسيره (٢) (٤ / ١٨٨) ؛ من طريق شعبة ، عن ابن عبّاس : أنّه دخل على عثمان رضى الله عنه فقال : لِم صار الأخوان يردّان الأُمّ إلى السدس ، وإنّما قال الله (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) (٣). والأخَوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضى الله عنه : هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار.

وفي لفظ الحاكم والبيهقي : لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.

أخرجه الحاكم في المستدرك (٤) (٤ / ٣٣٥) وصحّحه ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٢٢٧) ، وابن حزم في المحلّى (٩ / ٢٥٨) ، وذكره الرازي في تفسيره (٥) (٣ / ١٦٣) ، وابن كثير في تفسيره (١ / ٤٥٩) ، والسيوطي في الدرّ المنثور (٦) (٢ / ١٢٦) ، والآلوسي في روح المعاني (٤ / ٢٢٥).

قال الأميني : ما أجاب به الخليفة ابن عبّاس ينمُّ عن عدم تضلّعه في العربيّة مع

__________________

(١) البقرة : ١٤٥.

(٢) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٧٨.

(٣) النساء : ١١.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٧٢ ح ٧٩٦٠.

(٥) التفسير الكبير : ٩ / ٢١٥.

(٦) الدرّ المنثور : ٢ / ٤٤٧.


أنّها لسان قومه ، ولو كان له قسط منها لأجاب ابن عبّاس بصحّة إطلاق الجمع على الاثنين وأنّه المطّرد في كلام العرب ، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلّهم ـ العياذ بالله ـ وما هو ببدع في ذلك عمّن تقدّماه يوم لم يعرفا معنى الأبّ وهو من صميم لغة الضاد ومشروح بما بعده في الذكر الحكيم ، فإنّ إطلاق الإخوة على الأخوين قد لهج به جمهور العرب ، ولذلك لا تجد أيّ خلاف في حجب الأخوين الأُمّ عن الثلث إلى السدس بين الصحابة العرب الأقحاح ، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربيّة الفصحاء ، والفقهاء من مذاهب الإسلام ، ولا استناد لهم في الحكم إلاّ الآية الكريمة ، وما ذلك إلاّ لتجويزهم إطلاق الجمع على الإثنين سواء كان ذلك أقلّه أو توسّعاً مطّرداً في الإطلاق.

قال الطبري في تفسيره (١) (٤ / ١٨٧) : قال جماعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الإسلام في كلّ زمان : عنى الله جلّ ثناؤه بقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). إثنين كان الإخوة أو أكثر منهما ، أُنثيين كانتا أو كنّ إناثاً ، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكوراً ، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أُنثى ، واعتلّ كثير ممّن قال ذلك بأنّ ذلك قالته الأُمّة عن بيان الله جلّ ثناؤه على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقلته أُمّة نبيّه نقلاً مستفيضاً قطع العذر مجيئه ، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده. ثمّ نقل حديث ابن عبّاس المذكور فقال : والصواب من القول في ذلك عندي أنّ المعنيّ بقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) إثنان من إخوة الميت فصاعداً على ما قاله أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون ما قاله ابن عبّاس رضى الله عنه (٢) لنقل الأُمّة وراثة صحّة ما قالوه من ذلك عن الحجّة وإنكارهم ما قاله ابن عبّاس في ذلك. قال :

فإن قال قائل : وكيف قيل في الأخوين إخوة؟ وقد علمت أنّ الأخوين في

__________________

(١) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٧٨ ، ٢٧٩.

(٢) سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عبّاس. (المؤلف)


منطق العرب مثالاً (١) لا يشبه مثال الإخوة في منطقها؟ قيل : إنّ ذلك وإن كان كذلك فإنّ من شأنها (٢) التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما. فلمّا كان ذلك كذلك وكان مستفيضاً في منطقها ، منتشراً مستعملاً في كلامها : ضربت من عبد الله وعمرو رءوسهما ، وأوجعت منهما ظهورهما. وكان ذلك أشدّ استفاضة في منطقها من أن يقال : أوجعت منهما ظهرهما ، وإن كان مقولاً : أوجعت ظهرهما ، كما قال الفرزدق :

بما في فؤادينا من الشوق والهوى

فيبرأ منهاضُ الفؤاد المشغَّف

غير أنّ ذلك وإن كان مقولاً فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جلّ ثناؤه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣) فلمّا كان ما وصفت من إخراج كلّ ما كان في الإنسان واحداً إذا ضمّ إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين ، فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها ، وكان الأخوان شخصين كلّ واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحداً لا ثاني له ، فأخرج أُنثييهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت ، فقيل : إخوة في معنى الأخوين ، كما قيل : ظهور في معنى الظهرين ، وأفواه في معنى فموين ، وقلوب في معنى قلبين. وقد قال بعض النحويّين : إنّما قيل إخوة ، لأنّ أقلّ الجمع إثنان ... إلى آخره. انتهى.

وأخرج الحاكم بإسناد صحّحه في المستدرك (٤) (٤ / ٣٣٥) ، والبيهقي في السنن (٦ / ٢٢٧) عن زيد بن ثابت أنّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين فقال : إنّ العرب تسمّي

__________________

(١) كذا في المصدر أيضاً ، ولعلّها في الأصل : أن للأخوين ... مثالاً.

(٢) أي : العرب.

(٣) التحريم : ٤.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٧٢ ح ٧٩٦١.


الأخوين إخوة. وذكره الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ٩٩).

وأخرج ابن جرير في تفسيره (٢) (٤ / ١٨٩) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). قال : اضرّوا بالأُمّ ، ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك. الدرّ المنثور (٣) (٢ / ١٢٦).

وذكر الجصّاص في أحكام القرآن (٤) (٢ / ٩٨) قول الصحابة بحجب الأخوين الأُمّ عن الثلث كالإخوة فقال : والحجّة : أنّ اسم الأخوة قد يقع على الاثنين كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وهما قلبان. وقال تعالى (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٥). ثم قال تعالى : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) (٦). فأطلق لفظ الجمع على اثنين. وقال تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٧) فلو كان أخاً وأُختاً كان حكم الآية جارياً فيهما ... إلخ (٨)

وقال مالك في الموطّأ (٩) (١ / ٣٣١) : فإن كان له إخوة فلأُمّه السدس فمضت السنّة أنّ الإخوة اثنان فصاعداً.

وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك (١٠) (٢ / ١٢٢) : فإن كان معها ـ أي

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٢.

(٢) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٨٠.

(٣) الدرّ المنثور : ٢ / ٤٤٧.

(٤) أحكام القرآن : ٢ / ٨١.

(٥) سورة ص : ٢١ ، ٢٢.

(٦) سورة ص : ٢١ ، ٢٢.

(٧) النساء : ١٧٦.

(٨) بقيّة كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصّاص أحد أئمّة الحنفية. (المؤلف)

(٩) موطّأ مالك : ٢ / ٥٠٧.

(١٠) عمدة السالك : ص ١٤٥ ، فيض الإله المالك : ٢ / ١٢٨.


الأُمّ ـ ولد أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأخوة ومن الأخوات فلها السدس لقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). والمراد بهم اثنان فأكثر إجماعاً (١).

وقال الشافعي كما في مختصر المزني ـ هامش كتاب الأُم (٢) (٣ / ١٤٠) : وللأُمّ الثلث ، فإن كان للميّت ولد أو ولد ولد أو اثنان من الأُخوة أو الأخوات فصاعداً فلها السدس.

وقال ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٥٩) : حكم الأخوين كحكم الإخوة عند الجمهور. ثمّ ذكر حديث زيد بن ثابت من أنّ أخوين يسمّيان إخوة.

وقال الشوكاني في تفسيره (٣) (١ / ٣٩٨) : قد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأُمّ إلى السدس.

هذا رأي الأُمّة في الإخوة فقد عزب عن الخليفة صحّة الإطلاق في الآية الكريمة في لسان قومه ، وأنّ السلف لم يعرف من الإخوة معنى إلاّ ما يعمُّ الأخوين ، وزعم أنّ من كان قبله شذّوا عن لسان قومه ، وذهبوا إلى حجب الأُمّ بالأخوين خلاف كتاب الله ، وجاء يأسف على أنّه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس ، هذا مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلّة الأحكام والفروض المسلّمة بين الأُمّة.

وأمّا ابن عبّاس فإنّه لم يشذّ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد ، وإنّما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرّف الملأ مقداره من أبسط شيء يجب أن يكون في مثله ، فضلاً عن معضلات المسائل وهو الحيطة باللغة وعرفان موارد الاستعمال ، حتى يتسنّى له أخذ الحكم من

__________________

(١) هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمّتهم. (المؤلف)

(٢) مختصر المزني : ص ١٣٨.

(٣) فتح القدير : ١ / ٤٣٣.


الكتاب والسنّة اللذين جاءا بهذه اللغة الكريمة ، ولذلك أتى في قوله بصورة الاستفهام عن مدرك الحكم لا عن أصله ، فإنّ الحكم كان مسلّماً عنده لا أنّ ما قاله للخليفة كان رأياً له في الخلاف في حجب الأخوين ، وإلاّ لتبعه أصحابه المقتصّون أثره ، لكنهم كلّهم موافقون للأُمّة وعلمائها في حجب الأخوين كما ذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٥٩) فعدُّ ابن عبّاس مخالفاً في المسألة بهذه الرواية ، كما فعله الطبري في تفسيره (١) (٤ / ١٨٨) ، وابن رشد في البداية (٢) (٢ / ٣٢٧) وغير واحد من الفقهاء وأئمّة الحديث ورجال التفسير أُغلوطة (٣) نشأت من عدم فهم مغزى كلامه.

ـ ٢٥ ـ

رأي الخليفة في المعترفة بالزنا

عن يحيى بن حاطب قال : توفّي حاطب فأعتق من صلّى من رقيقه وصام ، وكانت له أمة نوبيّة قد صلّت وصامت وهي أعجميّة لم تفقه فلم ترعه إلاّ بحبلها وكانت ثيّباً. فذهب إلى عمر رضى الله عنه فحدّثه فقال : لأنت الرجل لا تأتي بخير ، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضى الله عنه فقال : أحبلت؟ فقالت : نعم من مرغوش بدرهمين. فإذا هي تستهلُّ بذلك لا تكتمه قال : وصادف عليّا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فقال : أشيروا عليّ ، وكان عثمان رضى الله عنه جالساً فاضطجع ، فقال عليّ وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحدُّ. فقال : أَشِر عليّ يا عثمان. فقال : قد أشار عليك أخواك ، قال : أشر عليّ أنت. قال : أراها تستهلُّ به كأنّها لا تعلمه ، وليس الحدُّ إلاّ على من علمه. فقال : صدقت صدقت والذي نفسي بيده ، ما الحدُّ إلاّ على من علمه. فجلدها عمر مائة وغرّبها عاماً (٤).

__________________

(١) جامع البيان : مج ٣ / ج ٤ / ٢٧٨.

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٣٤٠.

(٣) خبر لقوله المتقدم : فَعَدُّ ابن عباس.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٣٨ ، كتاب الأُم للشافعي : ١ / ١٥٢.


قال الأميني : أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس (١) ، وتكلّمنا هنالك حول رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجلد والاغتراب وأنّه خارج عن نطاق الشرع ، وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحدّ.

لو كان ما يقوله الخليفة حقّا لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد ، فيقال في كلّها إنّه لا يعلم الحدّ ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدُّ بالإقرار ، ولو بعد استبراء الخبر والتريّث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة يدرأ بها الحدّ ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول للمعترف بالزنا «أبك جنون؟» (٢) أو يقول : «لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت؟» (٣) وكذلك مولانا أمير المؤمنين عليّ وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والردّ لشبهة في الإقرار ، لكنّهما بعد ثبات المعترف على ما قال كانا يجريان عليه الحدّ ، ألا ترى قول عمر للزانية : ما يبكيك؟ أنّ المرأة ربّما استكرهت على نفسها. فأخبرت أنّ رجلاً ركبها وهي نائمة فخلّى سبيلها ، وأنّ علياً عليه‌السلام قال لشراحة حين أقرّت بالزنا : لعلّك عصيت نفسك؟ قالت : أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها (٤).

ولعلّ من جرّاء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، والحدود تُدْفَعُ ما وجدلها مدفع ، غير أنّه لم يدر أنّ للإقرار ناموساً في الشريعة لا يعدوه ولا سيّما في مورد الزنا ، فإنّه يؤاخذ به المعترف في أوّل مرّة كما تعطيه

__________________

(١) صفحة ١٦١ الطبعة الأولى ، وص ١٧٤ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) كما في صحيح أخرجه البخاري [٦ / ٢٥٠٢ ح ٦٤٣٩] ومسلم [٣ / ٥٢٥ ح ١٧ كتاب الحدود] والبيهقي في السنن : ٨ / ٢٢٥. (المؤلف)

(٣) كما في حديث ماعز ، وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدّمهم البخاري في صحيحه : ١٠ / ٣٩ [٦ / ٢٥٠٢ ح ٦٤٣٨] ، [وفي صحيح مسلم : ٣ / ٥٢٩ ح ٢٢ والسنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ٢٢٦]. (المؤلف)

(٤) أخرجهما الجصّاص في أحكام القرآن : ٣ / ٣٢٥ [٣ / ٢٦٤]. (المؤلف)


قصّة العسيف الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما (١) ، أو بعد أربعة أقارير ، إمّا في مجلس واحد كما ورد في قصّة ماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين ، أو في عدّة مجالس كما يظهر من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي (٨ / ٢٢٨) ، فتقوم تلكم الأقارير مقام أربع شهادات ، كما وقع في سارق جاء إلى عليّ فقال : إنّي سرقت ، فردّه ، فقال : إنّي سرقت ، فقال : شهدت على نفسك مرّتين ، فقطعه (٢). وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة كما بينّاه ، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمّة المذاهب. قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد (٣) (٢ / ٤٢٩) : أمّا عدد الإقرار الذي يجب به الحدُّ فإنّ مالكاً (٤) والشافعي (٥) يقولان : يكفي في وجوب الحدّ عليه اعترافه به مرّة واحدة وبه قال داود وأبو ثور والطبري (٦) وجماعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى : لا يجب الحدُّ إلاّ بأقارير أربعة مرّة بعد مرّة ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وزاد أبو حنيفة وأصحابه في مجالس متفرّقة.

ثمّ ما ذا يعني الخليفة بقوله : أراها تستهلُّ به كأنّها لا تعلمه ، وليس الحدُّ إلاّ على من علمه؟ هل يريد جهلها بالحدّ أو بحرمة الزنا؟ أمّا العلم بثبوت الحدّ فليس له أيّ صلة بإجراء حكم الله فإنّه يتبع تحقّق الزنا في الخارج ، علم الزاني أو الزانية بترتّب الحدّ عليهما أم لم يعلما.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٦٣١ ح ٦٧٧٠ ، صحيح مسلم : ٣ / ٥٣٢ ح ٢٥ كتاب الحدود. وانظر : سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٥٢ ح ٢٥٤٩ ، سنن الترمذي : ٤ / ٣١ ح ١٤٣٣.

(٢) كنز العمّال : ٣ / ١١٧ [٥ / ٥٤٩ ح ١٣٩٠٩] نقلاً عن عبد الرزاق [في المصنّف : ١٠ / ١٩١ ح ١٨٧٨٣] ، وابن المنذر ، والبيهقي [في السنن الكبرى : ٨ / ٢٧٥]. (المؤلف)

(٣) بداية المجتهد : ٢ / ٤٣٤.

(٤) ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطّأ [٢ / ٨٢٥ ، ٨٢٦ ح ١٢ ، ١٣] ، والمدوّنة الكبرى [٦ / ٢٠٩]. (المؤلف)

(٥) يوجد تفصيل قوله في كتابه الأُم : ٧ / ١٦٩ [٧ / ١٨٣]. (المؤلف)

(٦) في بداية المجتهد : والبرطي ، بدلاً من الطبري.


على أنّه ليس من الممكن في عاصمة النبوّة أن يجهل ذلك أيُّ أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلوداً تنال منه السياط ، ومرجوماً تتقاذفه الأحجار.

وأمّا حرمة الزنا فلا يقبل من المعتذر بالجهل بها ، إلاّ حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلاميّة ، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعدُ ، وأمّا المدنيُّ يومئذٍ الكائن بين لوائح النبوّة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء ، وهو يعي كلّ حين التشديد في الزنا وحرمته ، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جرّاء حرمة السفاح ، فعقيرة ترتفع من ألم السياط ، وجنازة تُشال بعد الرجم ، فليس من الممكن في حقّه عادةً أن يجهل حرمة الزنا ، فلا تقبل منه دعواه الجهل ، ولعلّ هذا ممّا اتّفقت عليه أئمّة المذاهب. قال مالك في المدوّنة الكبرى (١) (٤ / ٣٨٢) في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه : لا حدّ عليه وينكّل إذا كان ممّن لا يُعذر بالجهالة.

وقال فيمن يطلّق امرأته تطليقةً قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول : ظننت أنّ الواحدة لا تبينها منّي وأنّه لا يبرئها منّي إلاّ الثلاث : قال ابن القاسم : ليس عليه الحدُّ إن عذر بالجهالة ، فأرى في مسألتك إن كان ممّن يُعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحدّ لأنّ مالكاً قال في الرجل يتزوّج الخامسة : إن كان ممّن يُعذر بالجهالة وممّن يظنُّ أنّه لم يعرف أنّ ما بعد الأربع ليس ممّا حرّم الله ، أو يتزوّج أُخته من الرضاع على هذا الوجه ، فإنّ مالكاً درأ عنه الحدّ وعن هؤلاء.

وفي (ص ٤٠١) (٢) : من وطئ جارية هي عنده رهن أنّه يقام عليه الحدّ ، قال ابن القاسم : ولا يعذر في هذا أحد ادّعى الجهالة. قال مالك : حديث التي قالت : زنيت

__________________

(١) المدوّنة الكبرى : ٦ / ٢٠٧.

(٢) المدوّنة الكبرى : ٦ / ٢٤٢.


بمرغوش بدرهمين (١) أنّه لا يؤخذ به. وقال مالك : أرى أن يقام الحدُّ ولا يُعذر العجم بالجهالة.

وقال الشافعي في كتاب الأُم (٢) (٧ / ١٦٩) في زناء الرجل بجارية امرأته : إنّ زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلاّ أن يكون ممّن يُعذر بالجهالة ويقول : كنت أرى أنّها لي حلال.

قال شهاب الدين أبو العبّاس ابن النقيب المصري في عمدة السالك (٣) : ومن زنى وقال : لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحدّ ، وإن لم يكن كذلك حدّ (٤). انتهى.

ولو قُبل من كلّ معتذرٍ بالجهل لعطّلت حدود الله ، وتترّس به كلُّ زانٍ وزانية ، وشاع الفساد ، وساد الهرج ، وارتفع الأمن عن الفروج والنواميس ، ولو راجعت ما جاء في مدافعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحدّ تراهم يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شبه ذلك ، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شيء من الروايات ، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحدّ لذكروه لا محالة من غير شك.

على أنّ الجهل حيث يُسمع يجب أن يكون بادّعاء من الرجل لا بالتوسّم من وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة ، وهو ظاهر كلمات الفقهاء المذكورة.

ولِما قلناه كلّه لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال ، فأخذها مولانا أمير المؤمنين

__________________

(١) يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عمّا فيه. (المؤلف)

(٢) كتاب الأم : ٧ / ١٨٢.

(٣) عمدة السالك : ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٤) راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك : ٢ / ٣١٢ [٢ / ٣١٤] (المؤلف)


وعبد الرحمن فقالا : قد وقع عليها الحدُّ. وأمّا عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان صدقت. إلى آخره. وفعله من إجراء الجلد والاغتراب أنّه هزأ بهذا القول ، ولو كان مصدّقاً لما جلدها ، لكنّه جلدها وهي تستحقُّ الرجم كما مرّ في الجزء السادس.

ـ ٢٦ ـ

شراء الخليفة صدقة رسول الله

أخرج الطبراني في الأوسط (١) من طريق سعيد بن المسيب قال : كان لعثمان آذن ، فكان يخرج بين يديه إلى الصلاة ، قال : فخرج يوماً فصلّى والآذن بين يديه ثمّ جاء فجلس الآذن ناحية ولفّ رداءه فوضعه تحت رأسه واضطجع ووضع الدرّة بين يديه ، فأقبل عليّ في إزار ورداء وبيده عصا ، فلمّا رآه الآذن من بعيد قال : هذا عليّ قد أقبل ، فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه ، فجاء حتى قام على رأسه فقال : اشتريت ضيعة آل فلان ولوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مائها حقّ ، أما إنّي قد علمت أنّه لا يشتريها غيرك. فقام عثمان وجرى بينهما كلام حتى ألقى الله عزّ وجلّ (٢) وجاء العبّاس فدخل بينهما ، ورفع عثمان على عليّ الدرّة ورفع عليّ على عثمان العصا ، فجعل العباس يسكّنهما ويقول لعليّ : أمير المؤمنين. ويقول لعثمان : ابن عمّك. فلم يزل حتى سكتا. فلمّا أن كان من الغد رأيتهما وكلّ منهما آخذٌ بيد صاحبه وهما يتحدّثان. مجمع الزوائد (٧ / ٢٢٦).

قال الأميني : يعلمنا الحديث أنّ الخليفة ابتاع الضيعة وماءها وفيه حقّ لِوقف رسول الله لا يجوز ابتياعه ، فإن كان يعلم بذلك ، وهو المستفاد من سياق الحديث حيث إنّه لم يعتذر بعدم العلم ، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام عليه‌السلام : وقد علمت أنّه لا يشتريها غيرك. فبأي مبرّر استساغ ذلك الشراء؟ وإن كان لا يعلم فقد أعلمه

__________________

(١) المعجم الأوسط : ٨ / ٣٦٣ ح ٧٧٤٠.

(٢) عبارة الطبراني في المعجم الأوسط : وجرى بينهما كلام لا أرده حتى ألقى الله.


الإمام عليه‌السلام فما هذه المماراة والتلاحي ورفع الدرّة الذي اضطرّ الإمام إلى رفع العصا؟ حتى فصل بينهما العبّاس ، أو في الحق مغضبة؟ وهل يكون تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل مجلبةً لغضب الإنسان الديني؟ فضلاً عمّن يُقلّه أكبر منصّة في الإسلام.

وأحسب أنّ ذيل الرواية مُلصق بها لإصلاح ما فيها ، وعلى فرض صحّته فإنّه لا يجديهم نفعاً ، فإنّ الإمام عليه‌السلام لم يألُ جهداً في النهي عن المنكر سواء ارتدع فاعله أو أنّه عليه‌السلام يئس من خضوعِه للحقّ ، وعلى كلّ فإنّه عليه‌السلام كان يماشيهم على ولاء الإسلام ولا يثيره إلاّ الحقّ إذا لم يُعمل به ، فيجري في كلّ ساعة على حكمها من مكاشفة أو ملاينة ، وهكذا فليكن المصلح المنزّه عن الأغراض الشخصيّة الذي يغضب لله وحده ويدعو إلى الحقّ للحقّ.

ـ ٢٧ ـ

الخليفة في ليلة وفاة أُمّ كلثوم

أخرج البخاري في صحيحه (١) في الجنائز باب يعذّب الميت ببكاء أهله ، وباب من يدخل قبر المرأة (٢ / ٢٢٥ ، ٢٤٤) ، بالإسناد من طريق فليح بن سليمان ، عن أنس ابن مالك ، قال : شهدنا بنت (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس على القبر ، فرأيت عينيه تدمعان فقال : «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة ـ زيد بن سهل الأنصاري ـ : أنا ، قال : «فانزل في قبرها». قال : فنزل في قبرها فقبرها. قال ابن مبارك : قال فليح : أراه يعني الذنب. قال أبو عبد الله ـ يعني البخاري

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٤٣٢ ح ١٢٢٥ ، ص ٤٥٠ ح ١٢٧٧.

(٢) الصحيح عند شرّاح الحديث أنها أمّ كلثوم زوجة عثمان بن عفّان ، وجاء في لفظ أحمد [٤ / ١٠٦ ح ١٢٩٨٥] وغيره أنها رقيّة. وعقّبه السهيلي وقال : هو وهمٌ بلا شكّ. راجع الروض الأُنف : ٢ / ١٠٧ [٥ / ٣٦٢] ، فتح الباري : ٣ / ١٢٢ [٣ / ١٥٨] ، عمدة القاري : ٤ / ٨٥ [٨ / ٧٦ ح ٤٦]. (المؤلف)


نفسه ـ ليقترفوا : ليكتسبوا (١) وفي مسند أحمد ؛ قال سريج : يعني ذنباً.

وأخرجه (٢) ابن سعد في الطبقات (٨ / ٣١) طبع ليدن ، وأحمد في مسنده (٣ / ١٢٦ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٧٠) ، والحاكم في المستدرك (٤ / ٤٧) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤ / ٥٣) من طريقين ، وذكره السهيلي في الروض الأُنف (٢ / ١٠٧) نقلاً عن تاريخ البخاري وصحيحه وعن الطبري فقال : قال ابن بطّال : أراد النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها ، وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه لأنّه حين قال عليه‌السلام : «أيّكم لم يقارف الليلة أهله». سكت عثمان ولم يقل أنا ، لأنّه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المقارفة ، فحرم بذلك ما كان حقّا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره ، وهذا بيّن في معنى الحديث ، ولعلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً لأنّه فعل فعلاً حلالاً ، غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم.

ويوجد الحديث في نهاية ابن الأثير (٣) (٣ / ٢٧٦) ، لسان العرب (٤) (١١ / ١٨٩) ، الإصابة (٤ / ٤٨٩) ، تاج العروس (٦ / ٢٢٠).

قال الأميني : اضطربت كلمات العلماء حول هذا الحديث غير أنّ فليحاً المتوفّى

__________________

(١) إيعاز إلى قوله تعالى (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) [الأنعام : ١١٣] كما في فتح الباري : ٣ / ١٦٣ [٣ / ٢٠٩] ، وفي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام : ١٢٠]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٨ / ٣٨ ، مسند أحمد : ٣ / ٥٧٩ ح ١١٨٦٦ ، ٤ / ١٠٤ ح ١٢٩٧٠ ، ص ١٠٦ ح ١٢٩٨٥ ، وص ١٧٥ ح ١٣٤٤١ ، المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢ ح ٦٨٥٣ ، الروض الأنف : ٥ / ٣٦٢ ، تاريخ الأمم والملوك : ١١ / ٤٩٨ حوادث سنة ٩ ه‍.

(٣) النهاية : ٤ / ٤٦.

(٤) لسان العرب : ١١ / ١٢٧.


سنة (١٦٣) ، الذي فسّر المقارفة بالذنب ، وأيّد البخاري كلامه بقوله : ليقترفوا : ليكتسبوا ، وسريجاً المتوفّى سنة (٢١٧) هم أقدم من تكلّم فيه ، وقال الخطابي (١) : معناه لم يذنب (٢). وجاء ابن بطّال (٣) وخصّه بمقارفة النساء ، وجمع بينهما العيني (٤) ، وأيّا ما كان فلا شكّ في أنّه أمر استحقّ من جرّائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أولى الناس بها ، والمسلمون كلّهم كانوا يعلمون ذلك ، لكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الداعي إلى الستر على المؤمنين والإغضاء عن العيوب ، الناهي عن إشاعة الفحشاء في كتابه الكريم ، والمانع عن التجسّس عمّا يقع في الخلوات ، المبعوث لإعزاز أهل الدين ، شاءَ ـ وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ـ أن يستثني مورداً واحداً تلوّح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه بصهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواسطة مفخره بهاتيك الصلة ، فعرف المسلمون ذلك المقتضي بالطبع الأوّل وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها ، فإن كان ذنباً أثّر في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن حطّ من رتبته بما قلناه. ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تستّر عليها ، لكنّها بلغت من الكبر حدّا لم يَرَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سترها ؛ ولا رعى حرمةً ولا كرامةً لمقترفها ، فإن كانت سيّئة هذا شأنها ، فلا خير فيمن يجترح السيّئات.

وإن أُريدت مقارفة النساء على الوجه المحلّل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاظة والغلظة ، فأيّ إنسان تحبّذ له نفسه التمتّع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرّم مجده ، وانقطاع فخره ، وانفصام عرى شرفه ، فكيف هان ذلك على الخليفة؟ فلم يراعِ حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستهانت تلك المصيبة العظيمة فتلذّذ

__________________

(١) أبو سليمان حمد بن محمد البستي صاحب التآليف القيّمة المتوفّى ٣٨٨. (المؤلف)

(٢) ذكره العيني في عمدة القاري : ٤ / ٨٥ [٨ / ٧٦ ح ٤٦]. (المؤلف)

(٣) ذكر كلامه السهيلي في الروض الأُنف : ٢ / ١٠٧ [٥ / ٣٦٢] كما مرّ بلفظه. (المؤلف)

(٤) في عمدة القاري : ٤ / ٨٥ [٨ / ٧٦ ح ٤٦]. (المؤلف)


بالرّفَث إلى جارية (١) ، والمطلوب من الخلفاء معرفة فوق هذه من أوّل يومهم ؛ ورأفة أربى ممّا وقع ، ورقّة تنيف على ما صدر منه ، وحياء يفضل على ما ناء به.

ومن العسير جدّا الخضوع للاعتقاد بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتكب ذلك الهتك والإهانة على أمر مباح مع رأفته الموصوفة على أفراد الأُمّة وإغراقه نزعاً في الستر عليهم ؛ وكيف في حقّ رجل يعلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيشغل منصّة الخلافة؟

هذا ما عندنا وأمّا أنت فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

أيحكم ضميرك الحرُّ عندئذٍ في رجل هذا شأنه وهذه سيرته مع كريمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصحّة ما أخرجه ابن سعد في طبقاته (٢) (٣ / ٣٨) من القول المعزوّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قارف الرجل ، يوم سمع من النبيّ الأعظم تلك القارصة : لو كان عندي ثالثة زوجتها عثمان ، قاله لمّا ماتت أُمّ كلثوم؟ كذا قال ابن سعد.

أو قوله : لو كنّ ـ يعني بناته ـ عشراً لزوجتهنّ عثمان (٣)؟

أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر (٤) : لو أنّ لي أربعين بنتاً لزوّجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهنّ واحدة (٥)؟

أو قوله فيما جاء به ابن عساكر (٦) من طريق أبي هريرة قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي عثمان بن عفّان على باب المسجد فقال : يا عثمان هذا جبريل

__________________

(١) كما في عمدة القاري : ٤ / ٨٥ [٨ / ٧٦ ح ٤٦]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٥٦.

(٣) طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٨ / ٢٥ [٨ / ٣٨]. (المؤلف)

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٤٢.

(٥) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢١٢ [٧ / ٢٣٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍] وقال : إسناد ضعيف ، أخبار الدول للقرماني : ص ٩٨ [١ / ٢٩٥]. (المؤلف)

(٦) راجع تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢١١. [٧ / ٢٣٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)


يخبرني أنّ الله قد زوّجك أُمّ كلثوم بمثل صداق رقيّة على مثل مصاحبتها (١)؟

أكانت مصاحبة عثمان هذه أُمّ كلثوم ولِدَة مصاحبتها رقيّة وكانت مرضيّة للمولى سبحانه؟ أو ترى عثمان متخلّفاً عن شرط الله في أُمّ كلثوم؟ أنا لا أدري.

على أنّ إسناد هذا الحديث معلول من جهات ، وكفاه علّة عبد الرحمن بن أبي الزناد القرشي وقد ضعّفه ابن معين (٢) وابن المديني وابن أبي شيبة وعمرو بن عليّ والساجي وابن سعد (٣) ، وقال ابن معين والنسائي (٤) : ولا يحتجُّ بحديثه (٥).

ـ ٢٨ ـ

اتِّخاذ الخليفة الحمى له ولذويه

لقد جعل الإسلام منابت العيش من مساقط الغيث والمروج كلّها شرعاً سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص كما هو الأصل في المباحات الأصليّة من أجواز الفلوات وأطراف البراري ؛ فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أيّ مزاحمة بينهم ، وليس لأيّ أحد أن يحمي لنفسه حمى فيمنع الناس عنه ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلمون شركاء في ثلاث : في الكلأ والماء والنار».

وقال : «ثلاث لا يُمنعن : الماء والكلأ والنار».

وقال : «لا يُمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» وفي لفظ : «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ». وفي لفظ : «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٣٩ ، ٤٠.

(٢) التاريخ : ٣ / ٢٥٨ رقم ١٢١١.

(٣) الطبقات الكبرى : ٥ / ٤١٦.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ١٦٠ رقم ٣٨٧.

(٥) تهذيب التهذيب : ٦ / ١٧١ [٦ / ١٥٥]. (المؤلف)


فضله يوم القيامة» (٦) نعم كان في الجاهليّة يحمي الشريف منهم ما يروقه من قِطَع الأرض لمواشيه وإبله خاصّة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم ، وكان هذا من مظاهر التجبّر السائد عندئذٍ ، فاكتسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت وتقاليد الجبابرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا حمى إلاّ لله ولرسوله» (٧).

وقال الشافعي في تفسير الحديث : كان الشريف من العرب في الجاهليّة إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً ، فحمى لخاصّته مدى عُواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحد ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله. قال : فنهى النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهليّة يفعلون. قال :

وقوله : إلاّ لله ولرسوله. يقول : إلاّ ما يُحمى لخيل المسلمين وركابهم التي تُرصد للجهاد ويُحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع (٨) لنعم الصدقة والخيل المعدّة في سبيل الله (٩).

واستعمل عمر على الحمى مولى له يقال له هنّى فقال له : يا هنّى ضمّ جناحك للناس ، واتّقِ دعوة المظلوم فإنّ دعوة المظلوم مجابة ، وأدخل ربّ الصريمة وربّ الغنيمة ، وإيّاي ونعم ابن عفّان (١٠) ونعم ابن عوف فإنّهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى

__________________

(٦) توجد هذه الأحاديث في صحيح البخاري : ٣ / ١١٠ [٢ / ٨٣٠ ح ٢٢٢٦ و ٢٢٢٧] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٦ [ص ٣٧٣ ح ٧٣١ و ٧٣٣] ، سنن أبي داود : ٢ / ١٠١ [٣ / ٢٧٧ ، ٢٧٨ ح ٣٤٧٣ ، ٣٤٧٧] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٤ [٢ / ٨٢٨ ح ٢٤٧٨]. (المؤلف)

(٧) صحيح البخاري : ٣ / ١١٣ [٢ / ٨٣٥ ح ٢٢٤١] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٤ [ص ٣٧٢ ح ٧٢٨] ، كتاب الأُم للشافعي : ٣ / ٢٠٧ [٤ / ٤٧] وفي الأخيرين تفصيل ضافٍ حول المسألة. (المؤلف)

(٨) على عشرين فرسخاً أو نحو ذلك من المدينة. معجم البلدان [٥ / ٣٠١]. (المؤلف)

(٩) راجع كتاب الأُم : ٣ / ٢٠٨ [٤ / ٤٧] ، معجم البلدان : ٣ / ٣٤٧ [٥ / ٣٠١] ، نهاية ابن الأثير : ١ / ٢٩٧ [١ / ٤٤٧] ، لسان العرب : ١٨ / ٢١٧ [٣ / ٣٤٨] ، تاج العروس : ١٠ / ٩٩. (المؤلف)

(١٠) في لفظ أبي عبيد : ودعني من نعم ابن عفّان. بدل : وإيّاي ونعم ابن عفّان. (المؤلف)


نخل وزرع ، وإنّ ربّ الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول : يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك. الى آخره (١).

كان هذا الناموس متسالماً عليه بين المسلمين حتى تقلّد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة كما في أنساب البلاذري (٥ / ٣٧) ، والسيرة الحلبيّة (٢) (٢ / ٨٧) ، أو له ولحكم بن أبي العاص كما في رواية الواقدي ، أو لهما ولبني أُميّة كلّهم كما في شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ٦٧) قال : حمى عثمان المراعي حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلاّ عن بني أُميّة. وحكى في (ص ٢٣٥) (٤) عن الواقدي أنّه قال : كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع ، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أُميّة حتى كان آخر الزمان ، فكان يحمي الشرف (٥) لإبله ، وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص ، ويحمي الربذة (٦) لإبل الصدقة ، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أُميّة. انتهى.

نقم ذلك المسلمون على الخليفة فيما نقموه عليه وعدّته عائشة ممّا أنكروه عليه ، فقالت : وإنّا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة (٧) ، وضربه بالسوط والعصا ، فعمدوا

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٧١ [٣ / ١١١٣ ح ٢٨٩٤] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٨ [ص ٣٧٦ ح ٧٤١] ، كتاب الأُم : ٣ / ٢٧١ [٤ / ٤٨]. (المؤلف)

(٢) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٧٨.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٣٩ خطبة ٤٣.

(٥) كبد نجد. عند البخاري بالسين المهملة ، وفي موطّأ ابن وهب : الشرف ـ بالشين المعجمة وفتح الراء ـ وهذا هو الصواب. معجم البلدان [٣ / ٢١٢ ، ٣٣٦]. (المؤلف)

(٦) الربذة في الشرف المذكورة هي الحمى الأيمن [معجم البلدان : ٣ / ٣٣٦]. (المؤلف)

(٧) يسمّى العشب بالغمامة كما يسمّى بالسماء. المحماة : من أحميت المكان فهو محمى ؛ أي جعلته حمى. الفائق للزمخشري. (المؤلف)


إليه حتى إذا ماصوه كما يماص الثوب (١) ، قال ابن منظور في ذيل الحديث : الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلأ إذا لم يكن مملوكاً فلذلك عتبوا عليه.

كانت في اتّخاذ الخليفة الحمى جِدّة وإعادة لعادات الجاهليّة الأُولى التي أزاحها نبيُّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل المسلمين في الكلأ مشتركين ، وقال : «ثلاثة يبغضهم الله» ، وعدّ فيهم من استنّ في الإسلام سنّة الجاهليّة (٢). وكان حقّا على الرجل أن يحمي حمى الإسلام قبل حمى الكلأ ، ويتّخذ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّة متّبعة ولا يحيي سنّة الجاهليّة ، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٣). ولكنّه ...

ـ ٢٩ ـ

إقطاع الخليفة فدك لمروان

عدّ ابن قتيبة في المعارف (٤) (ص ٨٤) ، وأبو الفداء في تاريخه (١ / ١٦٨) ممّا نقم الناس على عثمان إقطاعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله ، فقال أبو الفداء : وأقطع مروان بن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثاً ، فروى أبو بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه إلى أن تولّى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردّها صدقة.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (٦ / ٣٠١) من طريق المغيرة حديثاً في فدك

__________________

(١) راجع الفائق للزمخشري : ٢ / ١١٧ [٣ / ٧٧] ، نهاية ابن الأثير : ١ / ٢٩٨ ، و ٤ / ١٢١ [١ / ٤٤٧ و ٤ / ٣٧٢] ، لسان العرب : ٨ / ٣٦٣ و ١٨ / ٢١٧ [٣ / ٣٤٩ و ١٣ / ٢٢٣] ، تاج العروس : ١٠ / ٩٩. (المؤلف)

(٢) بهجة النفوس للحافظ الأزدي ابن أبي جمرة : ٤ / ١٩٧. (المؤلف)

(٣) فاطر : ٤٣.

(٤) المعارف : ص ١٩٤ ـ ١٩٥.


وفيه : أنّها أقطعها مروان لمّا مضى عمر لسبيله. فقال : قال الشيخ : إنّما أقطع مروان فدكاً في أيّام عثمان بن عفّان رضى الله عنه وكأنّه تأوّل في ذلك ما روي عن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أطعم الله نبيّا طعمة فهي للذي يقوم من بعده ، وكان مستغنياً عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم ، وذهب آخرون إلى أنّ المراد بذلك التولية وقطع جريان الإرث فيه ، ثمّ تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما يفعلان.

وفي العقد الفريد (١) (٢ / ٢٦١) في عدّ ما نقم الناس على عثمان : أنّه أقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافتتح إفريقية وأخذ خمسها فوهبه لمروان.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه (٢) (١ / ٦٧) : وأقطع عثمان مروان فدك ، وقد كانت فاطمة عليها‌السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارةً بالميراث وتارةً بالنحلة فدفعت عنها.

قال الأميني : أنا لا أعرف كنه هذا الإقطاع وحقيقة هذا العمل فإنّ فدك إن كانت فيئاً للمسلمين ـ كما ادّعاه أبو بكر ـ فما وجه تخصيصها بمروان؟ وإن كانت ميراثاً لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما احتجّت له الصدّيقة الطاهرة في خطبتها ، واحتجّ له أئمّة الهدى من العترة الطاهرة وفي مقدّمهم سيّدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم‌السلام ، فليس مروان منهم ، ولا كان للخليفة فيها رفع ووضع. وإن كانت نحلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة ـ صلوات الله عليها ـ كما ادّعته وشهد لها أمير المؤمنين وابناها الإمامان السبطان وأُمّ أيمن المشهود لها بالجنّة فردّت شهادتهم بما لا يُرضي الله ولا رسوله ، وإذا رُدّت شهادة أهل آية التطهير فبأيّ شيء يُعتمد (٣)؟ وعلى أيّ حجّة يُعوّل؟

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩ خطبة ٣.

(٣) ضمّن قدس‌سره (يُعتمد) معنى (يوثَق).


إن دام هذا ولم يحدثْ به غِيَرٌ

لم يُبكَ ميتٌ ولم يُفرحْ بمولودِ

فإن كانت فدك نحلة فأيّ مساس بها لمروان؟ وأيُّ سلطة عليها لعثمان؟ حتى يقطعها لأحد. ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من أهل البيت ، وردّها عمر إليهم ، وأقطعها عثمان لمروان ، ثمّ كان فيها ما كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلمّ جرّا فكانت تؤخذ وتعطى ، ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات ، كما فصّلناه في الجزء السابع (ص ١٩٥ ـ ١٩٧) ولم يُعمل برواية أبي بكر في عصر من العصور ، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحابوه وجاملوه ، فقد أبطله من جاء بعده بأعمالهم وتقلّباتهم فيها بأنحاء مختلفة.

بل إنّ أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصكّ للزهراء فاطمة ، غير أنّ ابن الخطّاب منعه وخرق الكتاب كما مرّ في الجزء السابع عن السيرة الحلبيّة ، وبذلك كلّه تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الإقطاع ، وسيوافيك قول مولانا أمير المؤمنين في قطائع عثمان.

ـ ٣٠ ـ

رأي الخليفة في الأموال والصدقات

لم تكن فدك ببدع من سائر الأموال من الفيء والغنائم والصدقات عند الخليفة بل كان له رأي حرّ فيها وفي مستحقّيها ، كان يرى المال مال الله ، ويحسب نفسه وليّ المسلمين ، فيضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد ، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين : «نافجاً حضنيه بين نثيله ومُعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يَخضمون مال الله خَضمة الإبل نبتة الربيع» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٣٥ [ص ٤٩ خطبة ٣]. (المؤلف)


كان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلّهم ، ولكلّ فرد من الملأ الدينيّ منه حقّ معلوم للسائل والمحروم ، لا يسوغ في شرعة الحقّ وناموس الإسلام المقدّس حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقّه لغيره من دون مرضاته.

جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغنائم : «لله خمسه وأربعة أخماس للجيش ، وما أحد أولى به من أحد ، ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحقّ به من أخيك المسلم» (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جاءه فيء قسّمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظّين ، وأعطى العزب حظّا (٢).

والسنّة الثابتة في الصدقات أنّ أهل كلّ بيئة أحقّ بصدقتهم ما دام فيهم ذو حاجة ، وليس الولاية على الصدقات للجباية وحملها إلى عاصمة الخلافة وإنّما هي للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالّها ، وقد ورد في وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام والصلاة أنّه قال : «فإذا أقرُّوا لك بذلك فقل لهم : إنّ الله قد فرض عليكم صدقة أموالكم تُؤخذ من أغنيائكم فتردّ في فقرائكم» (٣).

قال عمرو بن شعيب : إنّ معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله إلى اليمن حتى مات النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر ، ثمّ قدم على عمر فردّه على ما كان عليه فبعث

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ / ٣٢٤ ، ٣٣٦. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٢٥ [٣ / ١٣٦ ح ٢٩٥٣] ، مسند أحمد : ٦ / ٢٩ [٧ / ٤٥ ح ٢٣٤٨٤] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٦. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ٢١٥ [٢ / ٥٠٥ ح ١٣٣١] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٥٨٠ ، ٥٩٥ ، ٦١٢ [ص ٦٩٣ ح ١٨٥٢ ، ص ٧٠٩ ح ١٩٠٨ ، ص ٧٢٨ ح ١٩٩٠] ، المحلّى : ٦ / ١٤٦ [مسألة ٧١٩]. (المؤلف)


إليه معاذ بثلث صدقة الناس ، فأنكر ذلك عمر وقال : لم أبعثك جابياً ولا آخِذَ جزية ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردّها على فقرائهم. فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه منّي. الحديث (١).

ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس يوم كان عامله على مكة : «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قبلنا» نهج البلاغة (٢) (٢ / ١٢٨).

وقال عليه‌السلام لعبد الله بن زمعة لمّا قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً : «إنّ هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنّما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة (٣) أيديهم لا تكون لغير أفواههم». نهج البلاغة (٤) (٤٦١١)

ومن كلام له عليه‌السلام : «إنّ القرآن أُنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض ، والفيء فقسّمه على مستحقّيه ، والخمس فوضعه الله حيث وضعه ، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها». راجع ما أسلفناه في (٦ / ٧٧).

وأتى عليّا أمير المؤمنين مال من أصبهان فقسّمه بسبعة أسباع ففضل رغيف فكسره بسبع [كِسَر] (٥) فوضع على كلّ جزء كسرة ثمّ أقرع بين الناس أيُّهم يأخذ أوّل (٦).

__________________

(١) الأموال : ص ٥٩٦ [ص ٧١٠ ح ١٩١٢]. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ص ٤٥٧ كتاب ٦٧.

(٣) الجَناة : ما يجنى من الشجر ، أي يُقطف.

(٤) نهج البلاغة : ص ٣٥٣ رقم ٢٣٢.

(٥) من المصدر.

(٦) سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٨. (المؤلف)


وأتته عليه‌السلام امرأتان تسألانه عربيّة ومولاة لها ، فأمر لكلّ واحدة منهما بكرّ من طعام وأربعين درهماً ، فأخذت المولاة الذي أُعطيت وذهبت ، وقالت العربيّة : يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربيّة وهي مولاة؟ قال لها عليّ رضى الله عنه : إنّي نظرت في كتاب الله عزّ وجلّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق (١).

ولذلك كلّه كانت الصحابة لا ترتضي من الخليفة الثاني تقديمه بعضاً من الناس على بعض في الأموال بمزيّة معتبرة كان يعتبرها فيمن فضّله على غيره ، كتقديم زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدريّ على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والمجاهدين على القاعدين ، من دون حرمان أيّ أحدٍ منهم (٢) ، وكان يقول على صهوات المنابر : من أراد المال فليأتني فإنّ الله جعلني له خازناً وقاسماً (٣).

ويقول بعد قراءة آيات الأموال : والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حقّ في هذا المال أُعطي منه أو مُنِع حتى راعٍ بعدن (٤).

ويقول : أبدأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الأقرب فالأقرب إليه. فوضع الديوان على ذلك.

وفي لفظ أبي عبيد : إنّ رسول الله إمامنا فبرهطه نبدأ ، ثمّ بالأقرب فالأقرب (٥).

__________________

(١) سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٩. (المؤلف)

(٢) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٢٤ ـ ٢٢٧ [ص ٢٨٦ ـ ٢٩٠ ح ٥٥٠ ـ ٥٥٩] ، فتوح البلدان للبلاذري : ص ٤٥٣ ـ ٤٦٦ [ص ٤٣٥ ـ ٤٤٧] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٩ ، ٣٥٠ ، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي : ص ٧٩ ـ ٨٣ [ص ٩٤ ـ ١٠٩ باب ٣٩]. (المؤلف)

(٣) راجع الجزء ٦ من كتابنا هذا ص ١٩٢ [أنظر الأموال : ص ٢٨٥ ح ٥٤٨]. (المؤلف)

(٤) الأموال : ص ٢١٣ [ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ح ٥٢٥] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٥١. (المؤلف)

(٥) الأموال : ص ٢٢٤ [ص ٢٨٦ ح ٥٤٩] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٦٤. (المؤلف)


وقبل هذه كلّها سنّة الله في الذكر الحكيم حول الأموال مثل قوله تعالى :

١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

٢ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

٣ ـ (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٣).

هذه سنّة الله وسنّة نبيّه غير أنّ الخليفة عثمان نسي ما في الكتاب العزيز ، وشذّ عمّا جاء به النبيُّ الأقدس في الأموال ، وخالف سيرة من سبقه ، وتزحزح عن العدل والنصفة ، وقدّم أبناء بيته الساقط ، أثمار الشجرة الملعونة في كتاب الله ، رجال العيث والعبث ؛ والخمور والفجور ، من فاسق إلى لعين ؛ إلى حلاّف مهين همّاز مشّاء بنميم ، وفضّلهم على أعضاء الصحابة وعظماء الأُمّة الصالحين ، وكان يهب من مال المسلمين لأحد من قرابته قناطير مقنطرة من الذهب والفضّة من دون أيّ كيل ووزن ، ويؤثرهم على من سواهم كائناً من كان من ذي قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم. ولم يكن يجرؤ أحد عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كان يرى سيرته الخشنة مع أُولئك القائمين بذلك الواجب ، ويشاهد فيهم من الهتك والتغريب والضرب بدرّة كانت أشدّ من الدرّة العمريّة (٤) مشفوعة بالسوط والعصا (٥) ، وإليك نبذة من سيرة الخليفة في الأموال :

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) الحشر : ٦ و ٧.

(٤) راجع محاضرة الأوائل للسكتواري : ص ١٦٩. (المؤلف)

(٥) يأتي حديثه بعيد هذا. (المؤلف)


ـ ٣١ ـ

أيادي الخليفة عند الحكم بن أبي العاص

أعطى صدقات قضاعة الحكم بن أبي العاص عمّه ، طريد النبيّ بعد ما قرّبه وأدناه ، وألبسه يوم قدم المدينة وعليه فزر (١) خلق وهو يسوق تيساً والناس ينظرون إلى سوء حاله وحال من معه ، حتى دخل دار الخليفة ثمّ خرج وعليه جبّة خزّ وطيلسان. تاريخ اليعقوبي (٢) (٢ / ٤١).

وقال البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٨) رواية عن ابن عبّاس أنّه قال : كان ممّا أنكروا على عثمان أنّه ولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة (٣) ، فبلغت ثلاث مائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها.

وقال ابن قتيبة وابن عبد ربّه والذهبي : وممّا نقم الناس على عثمان أنّه آوى طريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم ولم يؤوِه أبو بكر وعمر وأعطاه مائة ألف (٤).

وعن عبد الرحمن بن يسار قال : رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة إذا أمسى آتاها عثمان ، فقال له : ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص ؛ وكان عثمان إذا أجاز أحداً من أهل بيته بجائزة جعلها فرضاً من بيت المال ، فجعل يدافعه ويقول له : يكون فنعطيك إن شاء الله. فألحّ عليه فقال : إنّما أنت خازن لنا ، فإذا أعطيناك فخذ ، وإذا سكتنا عنك فاسكت. فقال : كذبت والله ما أنا لك بخازنٍ ولا لأهل بيتك إنّما أنا

__________________

(١) من فزر الثوب : انشقّ وتقطّع وبلي. (المؤلف)

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٤.

(٣) أبو حيّ باليمن. (المؤلف)

(٤) المعارف لابن قتيبة : ص ٨٤ [ص ١٩٤] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٦١ [٤ / ١٠٣] ، محاضرات الراغب : ٢ / ٢١٢ [مج ٢ / ج ٤ / ٤٧٦] ، مرآة الجنان لليافعي : ١ / ٨٥ نقلاً عن الذهبي [في تاريخ الإسلام : ص ٣٦٥ ـ ٣٦٦ حوادث سنة ٣١ ه‍]. (المؤلف)


خازن المسلمين ، وجاء بالمفاتيح يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال : أيّها الناس زعم عثمان أنّي خازن له ولأهل بيته وإنما كنت خازناً للمسلمين وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها فأخذها ودفعها إلى زيد بن ثابت. تاريخ اليعقوبي (١) (٢ / ١٤٥).

قال الأميني : يُروى نظير هذه القضية كما يأتي لزيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود ، ولعلّ هذه وقعت لغيرهم من الولاة على الصدقات أيضاً ، والله العالم.

الحَكَم وما أدراك ما الحكَم؟ :

كان خصّاء يخصي الغنم (٢) أحد جيران رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة من أُولئك الأشدّاء عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبالغين في إيذائه شاكلة أبي لهب كما قاله ابن هشام في سيرته (٣) (٢ / ٢٥) ، وأخرج الطبراني (٤) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال : كان الحكَم يجلس عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا تكلّم اختلج ، فبصر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «كن (٥) كذلك» فما زال يختلج حتى مات.

وفي لفظ مالك بن دينار : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإصبعه فالتفت فرآه فقال : «اللهمّ اجعل به وزغاً» (٦) فرجف مكانه وارتعش. وزاد الحلبي : بعد أن مكث شهراً مغشيّا عليه (٧).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٨.

(٢) حياة الحيوان للدميري : ١ / ١٩٤ [١ / ٢٧٦]. (المؤلف)

(٣) السيرة النبوية : ٢ / ٥٧.

(٤) المعجم الكبير : ٣ / ٢١٤ ح ٣١٦٧.

(٥) كذا في الإصابة ، وفي المعجم الكبير : أنت.

(٦) الوزغ : الارتعاش والرعدة. (المؤلف)

(٧) الإصابة : ١ / ٣٤٥ ، ٣٤٦ [رقم ١٧٨١] ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣٣٧ [١ / ٣١٧] ، الفائق للزمخشري : ٢ / ٣٠٥ [٤ / ٥٧ ـ ٥٨] تاج العروس : ٦ / ٣٥. (المؤلف)


أسلفناه من طرق الحفّاظ (١) الطبراني والحاكم والبيهقي. ومرّت صحّته في الجزء الأوّل صفحة (٢٦٠).

روى البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٧): إنّ الحكم بن أبي العاص كان جاراً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهليّة وكان أشدّ جيرانه أذىً له في الإسلام ، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة وكان مغموصاً عليه في دينه ، فكان يمرُّ خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلّى قام خلفه فأشار بأصابعه ، فبقي على تخليجه وأصابته خبلة ، واطّلع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وهو في بعض حُجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة (٢) وقال : «من عذيري من هذا الوزغة اللعين؟» ثم قال : لا يساكنني ولا ولده فغرّبهم جميعاً إلى الطائف ، فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردّهم فأبى ذلك وقال : ما كنت لآوي طرداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ لمّا استخلف عمر كلّمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر ، فلمّا استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال : قد كنت كلّمت رسول الله فيهم وسألته ردّهم فوعدني أن يأذن لهم فقُبض قبل ذلك. فأنكر المسلمون عليه إدخاله إيّاهم المدينة.

قال الواقدي : ومات الحكم بن أبي العاص بالمدينة في خلافة عثمان فصلّى عليه وضرب على قبره فسطاطاً.

وعن سعيد بن المسيب قال : خطب عثمان فأمر بذبح الحمام وقال : إنّ الحمام قد كثر في بيوتكم حتى كثر الرمي ونالنا بعضه ، فقال الناس : يأمر بذبح الحمام وقد آوى طرداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكره بلفظ أخصر من هذا في صفحة (١٢٥) وذكر بيتين لحسان بن ثابت في

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦٧٨ ح ٤٢٤١ ، دلائل النبوة : ٦ / ٢٣٩ ، ٢٤٠

(٢) العنزة : عصاً في قدر نصف الرمح أو اكثر ، فيها سنان مثل سنان الرمح.


عبد الرحمن بن الحكم الآتيين في لفظ أبي عمر فقال : كان يفشي أحاديث رسول الله ، فلعنه وسيّره إلى الطائف ومعه عثمان الأزرق والحارث وغيرهما من بنيه ، وقال : «لا يساكنني» فلم يزالوا طرداء حتى ردّهم عثمان ، فكان ذلك ممّا نُقم عليه.

وفي السيرة الحلبيّة (١) (١ / ٣٣٧): اطّلع الحكم على رسول الله من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة ، فخرج إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعنزة ، وقيل بمدرى (٢) في يده وقال : «من عذيري من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه» ، ولعنه وما ولد ، وذكره ابن الأثير مختصراً في أسد الغابة (٣) (٢ / ٣٤).

وقال أبو عمر في الاستيعاب : أخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم من المدينة وطرده عنها فنزل الطائف وخرج معه ابنه مروان ، واختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه فقيل : كان يتحيّل ويستخفي ويتسمّع ما يسرُّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كبار أصحابه في مشركي قريش وسائر الكفّار والمنافقين ، فكان يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عليه ، وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته ، إلى أُمور غيرها كرهت ذكرها ، ذكروا : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم يحكيه فالتفت النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فرآه يفعل ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فكذلك فلتكن». فكان الحكم مختلجاً يرتعش من يومئذٍ ، فعيّره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه :

إنّ اللعين أبوك فارمِ عظامَه

إن تَرمِ تَرمِ مخلّجاً مجنونا

يمسي خميصَ البطنِ من عملِ التقى

ويظلُّ من عملِ الخبيثِ بطينا (٤)

__________________

(١) السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧.

(٢) المدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس.

(٣) أُسد الغابة : ٢ / ٣٧ و ٣٨ رقم ١٢١٧.

(٤) الاستيعاب ١ / ١١٨ [القسم الأول ٣٥٩ ـ ٣٦٠ رقم ٥٢٩] ، أُسد الغابة : ٢ / ٣٤ [٢ / ٣٧ و ٣٨ رقم ١٢١٧]. (المؤلف)


وأخرج أبو عمر من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يدخل عليكم رجل لعين» وكنت قد تركت عمراً يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أزل مشفقاً أن يكون أوّل من يدخل ، فدخل الحكم ابن أبي العاص (١).

وقال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (٢) (ص ١٤٤): وبسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه أنّه قال : «ليدخلنّ الساعة عليكم رجل لعين». فو الله ما زلت أتشوّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان ـ يعني الحكم ـ كما صرّحت به رواية أحمد (٣).

وروى البلاذري في الأنساب (٥ / ١٢٦) ، والحاكم في المستدرك (٤) (٤ / ٤٨١) وصحّحه والواقدي كما في السيرة الحلبيّة (٥) (١ / ٣٣٧) بالإسناد عن عمرو بن مرّة قال : استأذن الحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرف صوته فقال : «ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلاّ المؤمنين وقليل ما هم ، ذوو مكر وخديعة يُعطَون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» (٦).

وفي لفظ ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (٧) (ص ١٤٧) : «ائذنوا له

__________________

(١) الاستيعاب : ١ / ١١٩ [القسم الأول / ٣٦٠ رقم ٥٢٩]. (المؤلف)

(٢) تطهير الجنان : ص ٦٣.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣٤٧ ح ٦٤٨٤.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٨ ح ٨٤٨٤.

(٥) السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧.

(٦) وذكره الدميري في حياة الحيوان : ٢ / ٢٩٩ [٢ / ٤٢٢] ، وابن حجر في الصواعق : ص ١٠٨ [ص ١٨١] ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه : ٦ / ٩٠ [كنز العمّال : ١١ / ٣٥٧ ح ٣١٧٢٩] نقلاً عن أبي يعلى ، والطبراني ، والحاكم والبيهقي ، وابن عساكر [في مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٩١ ترجمة مروان بن الحكم]. (المؤلف)

(٧) تطهير الجنان : ص ٦٤.


فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وما يخرج من صلبه يشرفون في الدنيا ، ويترذّلون في الآخرة ، ذوو مكر وخديعة إلاّ الصالحين منهم وقليل ما هم».

وأخرج الحاكم في المستدرك (١) (٤ / ٤٨١) وصحّحه من طريق عبد الله بن الزبير قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الحكم وولده.

وأخرج الطبراني (٢) وابن عساكر والدارقطني في الأفراد من طريق عبد الله بن عمر قال : هجرت الرواح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء أبو الحسن فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادنُ» ، فلم يزل يدنيه حتى التقم أُذنيه ، فبينما النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يساره إذ رفع رأسه كالفزع قال : فَدعّ (٣) بسيفه الباب فقال لعليّ : «اذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها» فإذا عليّ يدخل الحكم بن أبي العاص آخذاً بأذنه ولها زنمة (٤) حتى أوقفه بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلعنه نبيُّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً ثمّ قال : «أحلّه ناحية» حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار ثمّ دعا به فلعنه ثمّ قال : «إنّ هذا سيخالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء». فقال ناس من القوم : هو أقلُّ وأذلُّ من أن يكون هذا منه قال «بلى وبعضكم يومئذٍ شيعته». كنز العمّال (٥) (٦ / ٣٩ ، ٩٠).

وأخرج ابن عساكر (٦) من طريق عبد الله بن الزبير ، قال وهو على المنبر : وربّ هذا البيت الحرام والبلد الحرام إنّ الحكم بن أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي لفظ : إنّه قال وهو يطوف بالكعبة : وربّ هذه البنيّة للعن

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٨ ـ ٥٢٩ ح ٨٤٨٥.

(٢) المعجم الكبير : ١٢ / ٣٣٦ ح ١٣٦٠٢.

(٣) الدعّ : الطرد والدفع.

(٤) زنمة : هي شيء يقطع من أذن الشاة ويترك معلّقاً بها.

(٥) كنز العمّال : ١١ / ١٦٥ ح ٣١٠٦٠ ، ص ٣٥٩ ح ٣١٧٤.

(٦) مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٩١.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم وما ولد. كنز العمال (١) (٦ / ٩٠).

وأخرج ابن عساكر (٢) من طريق محمد بن كعب القرظي أنّه قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكَم وما ولد ، إلاّ الصالحين وهم قليل.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وعبد بن حميد والنسائي (٣) وابن المنذر والحاكم وصحّحه عن عبد الله قال : إنّي لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إنّ الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ في يزيد رأياً حسناً أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية؟ إنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية إلاّ رحمة وكرامة لولده. فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أُفّ لكما؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله أباك؟ فسمعت عائشة فقالت : مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ، كذبت والله ما فيه نزلت ، نزلت في فلان بن فلان.

وفي لفظ آخر عن محمد بن زياد : لمّا بايع معاوية لابنه قال مروان : سنّة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن : سنّة هرقل وقيصر. فقال مروان : هذا الذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (٤) الآية. فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ، كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أُسمّي الذي نزلت فيه لسمّيته ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله. وفي لفظ : ولكن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله. وفي لفظ

__________________

(١) كنز العمّال : ١١ / ٣٥٧ ح ٣١٧٣٢ و ٣١٧٣٣.

(٢) كنز العمال : ١١ / ٣٦١ ح ٣١٧٤٦.

(٣) السنن الكبرى : ٦ / ٤٥٨ ح ١١٤٩١.

(٤) الأحقاف : ١٧.


الفائق : فأنت فظاظة (١) لعنة الله ولعنة رسوله.

راجع (٢) مستدرك الحاكم (٤ / ٤٨١) ، تفسير القرطبي (١٦ / ١٩٧) ، تفسير الزمخشري (٣ / ٩٩) ، الفائق له (٢ / ٣٢٥) ، تفسير ابن كثير (٤ / ١٥٩) ، تفسير الرازي (٧ / ٤٩١) ، أُسد الغابة لابن الأثير (٢ / ٣٤) ، نهاية ابن الأثير (٣ / ٢٣) شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٥٥) تفسير النيسابوري هامش الطبري (٢٦ / ١٣) ، الإجابة للزركشي (ص ١٤١) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٤ / ١٣٢) ، الصواعق لابن حجر (ص ١٠٨) ، إرشاد الساري للقسطلاني (٧ / ٣٢٥) ، لسان العرب (٩ / ٧٣) ، الدرّ المنثور (٦ / ٤١) ، حياة الحيوان للدميري (٢ / ٣٩٩) ، السيرة الحلبية (١ / ٣٣٧) ، تاج العروس (٥ / ٦٩) ، تفسير الشوكاني (٥ / ٢٠) ، تفسير الآلوسي (٢٦ / ٢٠) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية (١ / ٢٤٥).

لفت نظر :

يوجد هذا الحديث في المصادر جلّها لو لا كلّها باللفظ المذكور ، غير أنّ البخاري أخرجه في تفسير صحيحه (٣) في سورة الأحقاف وحذف منه لعن مروان وأبيه وما راقه ذكر ما قاله عبد الرحمن ، وهذا دأبه في جلّ ما يرويه ، وإليك لفظه :

__________________

(١) قال الزمخشري : افتظظت الكرش إذا اعتصرت ماءها ، كأنّه عصارة قذرة من اللعنة. (المؤلف)

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٨ ح ٨٤٨٣ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٦ / ١٣١ ، الكشّاف : ٤ / ٣٠٤ ، الفائق في غريب الحديث : ٤ / ١٠٢ ، التفسير الكبير : ٢٨ / ٢٣ ، اسد الغابة : ٢ / ٣٨ رقم ١٢١٧ ، النهاية في غريب الحديث والأثر : ٣ / ٤٥٤ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥٠ خطبة ٧٢ ، تفسير غرائب القرآن للنيسابوري : ٦ / ١٢١ ، الإجابة : ص ١٢٩ ـ ١٣٠ باب ٢ فصل ٨ ، تفسير النسفي : ٤ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، الصواعق المحرقة : ص ١٨١ ، إرشاد الساري : ١١ / ٦٩ ، لسان العرب : ١٠ / ٢٧٩ ، الدرّ المنثور : ٧ / ٤٤٤ ، حياة الحيوان : ٢ / ٤٢٢ ، السيرة الحلبيّة : ١ / ٣١٧ ، فتح القدير : ٥ / ٢١ ، السيرة النبوية لزيني دحلان : ١ / ١١٧.

(٣) صحيح البخاري : ٤ / ١٨٢٧ ح ٤٥٥٠.


كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يُبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً ، فقال : خذوه. فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه (١) ، فقال مروان : إنّ هذا الذي أنزل الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي). فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلاّ أنّ الله أنزل عذري.

وهذا الحديث يكذّب ما عزاه القوم إلى أمير المؤمنين وابن عبّاس من قولهما بنزول آية : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (٢) في أبي بكر كما مرّ في الجزء السابع (ص ٣٢٦).

وكان الحَكَم مع ذلك كلّه يدعو الناس إلى الضلال ويمنعهم عن الإسلام. اجتمع حويطب بمروان يوماً فسأله مروان عن عمره ، فأخبره ، فقال له : تأخّر إسلامك أيّها الشيخ حتى سبقك الأحداث. فقال حويطب : الله المستعان والله لقد هممت بالإسلام غير مرّة كلّ ذلك يعوقني أبوك يقول : تضع شرفك ، وتدع دين آبائك لدين مُحدث ، وتصير تابعاً؟ فسكت مروان وندم على ما كان قال له. تاريخ ابن كثير (٣) (٨ / ٧٠).

الحَكَم في القرآن :

أخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي ، قال : قال مروان لمّا بايع الناس ليزيد : سنّة أبي بكر وعمر ... إلى آخر الحديث المذكور. فسمعت ذلك عائشة فقالت : إنّها لم تنزل في عبد الرحمن ، ولكن نزل في أبيك : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) الآية. سورة القلم : ١٠ ، ١١.

__________________

(١) كلمة (عليه) غير موجودة في المصدر. والصحيح ـ ظاهراً ـ ذكرها لحاجة السياق إليها.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) البداية والنهاية : ٨ / ٧٦ حوادث سنة ٥٣ ه‍.


راجع (١) ؛ الدر المنثور (٦ / ٤١ ، ٢٥١) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٣٧) ، تفسير الشوكاني (٥ / ٢٦٣) ، تفسير الآلوسي (٢٩ / ٢٨) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٢٤٥). وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنّها قالت لمروان : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأبيك وجدّك ـ أبي العاص بن أُميّة ـ : «إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن».

ذكره (٢) السيوطي في الدرّ المنثور (٤ / ١٩١) ، والحلبي في السيرة (١ / ٣٣٧) والشوكاني في تفسيره (٣ / ٢٣١) ، والآلوسي في تفسيره (١٥ / ١٠٧). وفي لفظ القرطبي في تفسيره (٣) (١٠ / ٢٨٦) :

قالت عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت بعضٌ من لعنة الله. ثمّ قالت : والشجرة الملعونة في القرآن.

وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مُرّة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأيت بني أُميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء» ، واهتمّ رسول الله لذلك ، فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٤).

وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبح وهو مهموم فقيل : ما لَك يا رسول الله؟ فقال : إنّي أُريت في المنام كأنّ بني أُميّة يتعاورون منبري هذا ، فقيل : يا رسول الله لا تهتم فإنّها دنيا تنالهم ، فأنزل الله (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي) الآية.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٧ / ٤٤٤ ، ٨ / ٢٤٦ ، السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧ ، فتح القدير : ٥ / ٢٧٠ ، السيرة النبوية : ١ / ١١٧.

(٢) الدرّ المنثور : ٥ / ٣٠٩ ، ٣١٠ ، السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧ ، فتح القدير : ٣ / ٢٤٠.

(٣) الجامع لأحكام القرآن : ١٠ / ١٨٥.

(٤) الإسراء : ٦٠.


وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي (١) وابن عساكر (٢) ، عن سعيد ابن المسيّب قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أُميّة على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه : إنّما هي دنيا أُعطوها. فقرّت عينه وذلك قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ). الآية.

وأخرج الطبري والقرطبي وغيرهما من طريق سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أُميّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتى مات ، وأنزل الله تعالى (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) الآية.

وروى القرطبي والنيسابوري عن ابن عبّاس : أنّ الشجرة الملعونة بنو أُميّة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو (٣) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة» فأنزل الله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) يعني الحكم وولده.

وفي لفظ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في المنام أنّ ولد الحكم بن أُميّة يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك (٤).

وفي لفظ للحاكم والبيهقي في الدلائل (٥) وابن عساكر (٦) وأبي يعلى من طريق أبي هريرة : «إنّي أريت في منامي كأنّ بني الحكم بن العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة» فما رؤي النبيُّ مستجمعاً ضاحكاً حتى توفّي.

__________________

(١) دلائل النبوة : ٦ / ٥٠٩.

(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٩١.

(٣) وفي بعض المصادر : ابن عمر. (المؤلف)

(٤) كما في تفسير الخازن : ٣ / ١٦٩.

(٥) دلائل النبوّة : ٦ / ٥١١.

(٦) مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٩٠.


مصادر ما رويناه (١) :

تفسير الطبري (١٥ / ٧٧) ، تاريخ الطبري (١١ / ٣٥٦) ، مستدرك الحاكم (٤ / ٤٨) ، تاريخ الخطيب (٨ / ٢٨ و ٩ / ٤٤) ، تفسير النيسابوري هامش الطبري (١٥ / ٥٥) ، تفسير القرطبي (١٠ / ٢٨٣ ، ٢٨٦) ، النزاع والتخاصم للمقريزي (ص ٥٢) ، أُسد الغابة (٣ / ١٤) من طريق الترمذي ، تطهير الجنان لابن حجر هامش الصواعق (ص ١٤٨) فقال : رجاله رجال الصحيح إلاّ واحداً فثقة ، والخصائص الكبرى (٢ / ١١٨) ، الدرّ المنثور (٤ / ١٩١) ، كنز العمال (٦ / ٩٠) ، تفسير الخازن (٣ / ١٧٧) ، تفسير الشوكاني (٣ / ٢٣٠ ، ٢٣١) ، تفسير الآلوسي (١٥ / ١٠٧) فقال الآلوسي :

ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاءً لهم ومختبراً ، وبذلك فسّره ابن المسيّب ، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا ، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممّن كان عندهم عاملاً وللخبائث عاملاً ، أو ممّن كان أعوانهم كيف ما كان ، ويحتمل أن يكون المراد : ما جعلنا خلافتهم وما جعلنا أنفسهم إلاّ فتنة ، وفيه من المبالغة في ذمّهم ما فيه ، وجعل ضمير نخوّفهم على هذا لِما كان له أولاً أو للشجرة باعتبار أنّ المراد بها بنو أُميّة ، ولعنهم لِما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة ، والفروج المحصنة ، وأخذ الأموال من غير حلّها ، ومنع الحقوق عن أهلها ، وتبديل الأحكام ، والحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى

__________________

(١) جامع البيان : مج ٩ / ج ١٥ / ١١٢ ـ ١١٣ ، تاريخ الأُمم والملوك : ١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍ ، المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٧ ح ٨٤٨١ ، تفسير غرائب القرآن للنيسابوري : ٤ / ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، ٢ / ٣٦٢ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٠ / ١٨٣ ـ ١٨٥ ، النزاع والتخاصم : ص ٧٩ ، أُسد الغابة : ٢ / ١٤ رقم ١١٦٥ ، سنن الترمذي : ٥ / ٤١٤ ح ٣٣٥٠ ، تطهير الجنان : ص ٦٥ ، الخصائص الكبرى للسيوطي : ٢ / ٢٠٠ ، الدرّ المنثور : ٥ / ٣٠٩ ، كنز العمّال : ١١ / ٣٥٨ ح ٣١٧٣٦ ـ ٣١٧٣٧ ، تفسير الخازن : ٣ / ١٦٩ ، فتح القدير : ٣ / ٢٤٠.


على نبيّه عليه الصلاة والسلام ، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيّام ، وجاء لعنهم في القرآن إمّا على الخصوص كما زعمته الشيعة ، أو على العموم كما نقول ، فقد قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١). وقال عزّ وجلّ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢). إلى آيات أُخَر ، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولاً أوّليّا ... إلى آخر كلامه. راجع.

نظرة في كلمتين :

١ ـ قال القرطبي بعد روايته حديث الرؤيا : لا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية.

لا يهمّنا بسط القول حول هذا التخصيص ، ولا ننبس ببنت شفة في تعميم العموم الوارد في الأحاديث المذكورة وأمثالها الواردة في بني أُميّة عامّة وفي بني أبي العاص جدّ عثمان خاصّة ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيح من طريق أبي سعيد الخدري : «إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً ، وإنّ أشدّ قومنا لنا بغضاً بنو أُميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق أبي ذر : «إذا بلغت بنو أُميّة أربعين اتّخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله نحلاً (٤) ، وكتاب الله دغلاً» (٥).

__________________

(١) الأحزاب : ٥٧.

(٢) سورة محمد : ٢٢ ، ٢٣.

(٣) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٨٧ [٤ / ٥٣٤ ح ٨٥٠٠]. وصحّحه. (المؤلف)

(٤) في كنز العمال : دخلاً.

(٥) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٧٩ [٤ / ٥٢٦ ح ٨٤٧٦] ، وأخرجه ابن عساكر كما في كنز العمّال : ٦ / ٣٩ [١١ / ١٦٥ ح ٣١٠٥٨]. (المؤلف)


وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق حمران بن جابر اليمامي : «ويل لبني أُميّة ـ ثلاث [مرات] (١) أخرجه ابن مندة كما في الإصابة (١ / ٣٥٣) ، وحكاه عن ابن مندة وأبي نعيم السيوطي في الجامع الكبير كما في ترتيبه (٢) (٦ / ٣٩ ، ٩١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق أبي ذر : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً» قال حلام بن جفال (٣) : فأنكر على أبي ذر فشهد عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه : «إنّي سمعت رسول الله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ ، وأشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله».

أخرجه الحاكم من عدّة طرق وصحّحه هو والذهبي كما في المستدرك (٤) (٤ / ٤٨٠) وأخرجه (٥) أحمد ، وابن عساكر ، وأبو يعلى ، والطبراني ، والدارقطني من طريق أبي سعيد وأبي ذرّ وابن عبّاس ومعاوية وأبي هريرة كما في كنز العمّال (٦ / ٣٩ ، ٩٠).

وذكر ابن حجر في تطهير الجنان (٦) هامش الصواعق (ص ١٤٧) بسند حسّنه : أنّ مروان دخل على معاوية في حاجة وقال : إنّ مؤنتي عظيمة أصبحت أبا عشرة ، وأخا عشرة ، وعمّ عشرة ثمّ ذهب ، فقال معاوية لابن عبّاس وكان جالساً معه على سريره : أنشدك بالله يا ابن عبّاس أما تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا بلغ بنو

__________________

(١) من الكنز والإصابة.

(٢) كنز العمّال : ١١ / ١٦٥ ح ٣١٠٥٩ ، ص ٣٦٣ ح ٣١٧٥٠.

(٣) في المستدرك : حلام بن جذل ، وفي شرح النهج : ٨ / ٢٥٧ : جلاّم بن جندل.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٧ ح ٨٤٧٨ ، وكذا في التلخيص.

(٥) مسند أحمد : ٣ / ٤٩٨ ح ١١٣٤٩ ، و ٢ / ٣٤٧ ح ٦٤٨٣ ، مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٨٣ ، ٢٨ / ٢٩٠ ، مسند أبي يعلى : ٢ / ٣٨٣ ح ١١٥٢ ، المعجم الكبير : ١٢ / ١٨٢ ح ١٢٩٨٢ ، كنز العمّال : ١١ / ١٦٥ ح ٣١٠٥٥ ، ص ٣٥٩ ح ٣١٧٣٨.

(٦) تطهير الجنان : ص ٦٤. وفيه : دغلاً ، بدلاً من : دخلاً.


أبي الحكم ثلاثين رجلاً اتّخذوا آيات الله بينهم دولاً ، وعباد الله خولاً ، وكتابه دخلاً ، فإذا بلغوا سبعة وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من كذا»؟ قال : اللهم نعم.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسناد حسّنه ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق (١) (ص ١٤٣): «شرُّ العرب بنو أميّة ، وبنو حنيفة ، وثقيف» ، وقال : صحّ. قال الحاكم : على شرط الشيخين عن أبي برزة رضى الله عنه قال : كان أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله بنو أميّة.

وقول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لكلّ أُمّة آفة وآفة هذه الأُمّة بنو أُميّة». كنز العمّال (٢) (٦ / ٩١).

فالحَكَم في هذه العمومات ولا سيّما بعد ملاحظة ما أثبتته السير ومدوّنات التاريخ وغيرها ، وبعد الإحاطة بأحوال الرجال وما ارتكبوه وما ارتبكُوا فيه ، أنت ووجدانك أيّها القارئ الكريم.

٢ ـ قال ابن حجر في الصواعق (٣) (ص ١٠٨) : قال ابن ظفر : وكان الحَكَم هذا يُرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل ، كذا ذكره الدميري في حياة الحيوان (٤).

ولعنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحَكَم وابنه لا تضرهما لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدارك ذلك بقوله ممّا بيّنه في الحديث الآخر : إنّه بشر يغضب كما يغضب البشر ، وإنّه سأل ربّه أنّ من سبّه أو لعنه أو دعا عليه أن يكون [ذلك] (٥) رحمةً وزكاةً وكفّارةً وطهارةً. وما نقله الدميري عن ابن ظفر في أبي جهل لا تأويل عليه فيه بخلافه في الحكم فإنّه صحابيّ ، وقبيح أيّ

__________________

(١) تطهير الجنان : ص ٦٣.

(٢) كنز العمّال : ١١ / ٣٦٤ ح ٣١٧٥٥.

(٣) الصواعق المحرقة : ١٨١.

(٤) حياة الحيوان : ٢ / ٤٢٢.

(٥) من المصدر.


قبيح أن يُرمى صحابيّ بذلك ، فليحمل على أنّه إن صحّ ذلك كان يُرمى به قبل الإسلام. انتهى.

أنا لا أدري أيعلم ابن حجر ما ذا يلوك بين أشداقه؟ أهو مجدّ فيما يقول أم هازئ؟ أمّا ما اعتذر به من أنّ لعنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تضرُّ الحَكَم وابنه. إلى آخره. فقد أخذه ممّا أخرجه الشيخان في الصحيحين (١) من طريق أبي هريرة ، غير أنّه حرّف منه كلماً وزاد فيه أخرى وإليك لفظه :

قال : اللهمّ إنّما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر ، وإنّي قد اتّخذت عندك عهداً لم تخلفنيه فأيّما مؤمن آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له كفارةً وقربةً تقرّبه بها إليك.

هذا حطّ من مقام الرسالة لأجل أمويّ ساقط ، وحسبان أنّ صاحبها كإنسان عاديّ يثيره ما يثير غيره فيغضب لما لا ينبغي أن يُغضب له ، ومخالف للكتاب العزيز من قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٢).

نعم ، هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر غير أنّه كما قال في الذكر الحكيم : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) فإن كان في الوحي أن يلعن الطريد وما ولد فما ذا ينجيه من اللعن؟ إلاّ أن يحسب ابن حجر أنّ الوحي أيضاً يتّبع الشهوات! كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وكيف يكون اللعن رحمةً وزكاةً وطهارةً وكفّارةً وقد أصاب موضعه بأمر من الله سبحانه؟

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٧١ [٥ / ٢٣٣٩ ح ٦٠٠٠ كتاب الدعوات] ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٩١ [٥ / ١٧٠ ح ٩١ كتاب البرّ والصلة وبزيادة : يوم القيامة ، في ذيل الحديث]. (المؤلف)

(٢) النجم : ٣ ـ ٤.


وما يصنع ابن حجر بالصحيح المتضافر من أنّ سباب المسلم فسوق (١)؟

وكيف يسوّغ له إيمانه أن يكون رسول الله سبّاباً أو لعّاناً أو مؤذياً لأحد أو جالداً لمسلم على غير حقّ؟ وكلُّ ذلك من منافيات العصمة والله سبحانه يقول (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٢). وجاء في الصحيح : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن سبّاباً ولا فحّاشاً ولا لعّاناً ، وقد أبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدعاء على المشركين ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنّما بُعثت رحمة» (٣) فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمل في أُولئك المشركين الهداية فلم يلعنهم ولا دعا عليهم ، ولمّا كان لم يَرجُ في الحَكَم وولده أيّ خير لعنهم لعناً يُبقي عليهم خزي الأبد.

نعم ؛ رواية الصحيحين المنافية لعصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلقتها يد الهوى على عهد معاوية تزلّفاً إليه ، وطمعاً في رضيخته ، وتحبّباً إلى آل أبي العاص المقرّبين عنده. ومن أراد الوقوف على أبسط ممّا ذكرناه في المقام فليراجع كتاب (أبو هريرة) لسيّدنا الآية السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي (٤) (ص ١١٨ ـ ١٢٩).

__________________

(١) أخرجه أحمد [في المسند : ٢ / ٢٤ ح ٤٢٥٠] ، والبخاري [في الصحيح : ٥ / ٢٢٤٧ ح ٥٦٩٧] ، والترمذي [في السنن : ٥ / ٢٢ ح ٢٦٣٥] ، والنسائي [في السنن الكبرى : ٢ / ٣١٣ ـ ٣١٤ ح ٣٥٦٧ ـ ٣٥٧٨] ، وابن ماجة [في السنن : ٢ / ١٢٩٩ ح ٣٩٣٩] وغيرهم من طريق ابن مسعود. وابن ماجة [في السنن ٢ / ١٢٩٩ ـ ١٣٠٠ ح ٣٩٤٠ من طريق أبي هريرة ، ٣٩٤١ من طريق سعد بن أبي وقاص] من طريق جابر وسعد ، والطبراني [في المعجم الأوسط : ١ / ٤١٣ ح ٧٣٨ ، والكبير : ١٧ / ٣٩ ح ٨٠] عن عبد الله بن المغفل وعمرو بن النعمان. وصحّحه غير واحد من الحفاظ ؛ كالهيثمي [في مجمع الزوائد : ٨ / ٧٣] ، والسيوطي [في الدر المنثور : ١ / ٥٣٠] ، والمناوي [في فيض القدير : ٤ / ٨٤ ح ٤٦٣٣].(المؤلف)

(٢) الأحزاب : ٥٨.

(٣) أخرجه البخاري : ٩ / ٢٢ [٥ / ٢٢٤٣ ح ٥٦٨٤] ، ومسلم في صحيحه : ٢ / ٣٩٣ [٥ / ١٦٨ ح ٨٧]. (المؤلف)

(٤) أبو هريرة : ص ٣٥ ـ ٤٥.


هبنا ـ العياذ بالله ـ ما شينا ابن حجر في أساطيره في نبيّ العصمة والقداسة ، فما حيلة المغفّل فيما نزل من الذكر الحكيم في الحَكَم وبنيه؟ هل فيه ضير؟ أم يراه أيضاً رحمةً وزكاةً وكفّارةً وطهارةً.

وشتّان بين رأي ابن حجر في الحَكَم وبين ما يأتي من قول أبي بكر لعثمان فيه : عمّك إلى النار ، وقول عمر لعثمان : ويحك يا عثمان تتكلّم في لعين رسول الله وطريده وعدوّ الله وعدوّ رسوله؟

وأمّا ما عالج به داء الحكم فهو يعلم أنّه موصوم بما هو أفظع من ذلك ؛ من لعن رسول الله وطرده إيّاه ، وكان الخبيث يهزأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشيته حتى أخذته دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل تجديه الصحبة وحاله هذه؟ وهل تشمل الصحبة التي هي من أربى الفضائل اللصّ الذي ساكن الصحابة لاستراق أموالهم وإلقاح الفتن فيهم؟ وهل تشمل المنافقين الذي كانوا في المدينة يومئذٍ؟ (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) (١) فإن طهّرت الصحبة أمثال الحكم فهي مطهّرة أُولئك بطريق أولى لأنّه لم يكشف عنهم الغطاء كما كشف عن الحكم على العهد النبويّ وفي دور الشيخين ، حتى أراد ابن أخيه أن ينقذه من الفضيحة فزيد ضغث على إبّالة (٢) ، ونبشت الدفائن ، وذكر ما كاد أن يُنسى.

ثمّ هب أنّ الصحبة مُزيحة لعلل النفس والأمراض القلبيّة فهل هي مزيلة للأدواء الجسمانيّة؟ لم نجد في كتب الطبّ من وصفها بذلك ، ولاتعدادها في صفّ الأدوية المفيدة لداء من الأدواء ، ولا لذلك الداء العضال الذي زعم ابن حجر أنّه منفيّ عن الحكم لمحض الإسلام والصحبة ، وجوّز أن يكون قبل اتّصاله بالمسلمين ، حيّا الله هذا الطبّ الجديد!

__________________

(١) التوبة : ١٠١.

(٢) الإبّالة : الحزمة من الحطب .. الضغث : القبضة من الحشيش. ومعنى المثل : بليّة على أخرى. أنظر مجمع الأمثال : ٢ / ٢٦٠.


إنّ من الممكن جدّا أن يكون هذا الداء العضال من علل طرد الرجل من المدينة ، فلم يُرد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون بين صحابته في عاصمة نبوّته مخزيّ مثله.

إذا أنهاك البحث إلى هاهنا وعرفت الحَكَم ومقداره في أدوار حياته جاهليّةً وإسلاماً ، فاقرأ ما جاء به سالم بن وابصة تزلّفاً إلى معاوية بن مروان بن الحكم من قوله :

إذا افتخرت يوماً أُميّةُ أطرقتْ

قريش وقالوا معدن الفضل والكرمْ

فإن قيل هاتوا خَيركم أطبقوا معاً

على أنّ خيرَ الناسِ كلِّهمُ الحكمْ

ألستم بني مروان غيثَ بلادِنا

إذا السنةُ الشهباءُ سدّتْ على الكظمْ

سبحانك اللهمّ ما قيمة بشر خيره الحَكَم؟ وما شأن جدوب غيثها بنو مروان؟ إن هي إلاّ أساطير الأوّلين نسجتها يد الغلوّ في الفضائل.

المساءلة :

هلمّ معي نسائل الخليفة في إيواء لعين رسول الله وطريده ـ الحَكَم ـ وبمسمعٍ منه ومرأى نزول القرآن فيه واللعن المتواصل من مصدر النبوّة عليه وعلى من تناسل منه عدا المؤمنين ، وقليل ما هم ، ما هو المبرّر لعمله هذا وردّه إلى مدينة الرسول؟ وقد طرده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبناءه منها تنزيها لها من تلكم الأرجاس والأدناس الأمويّة ، قد سأل أبا بكر وبعده عمر أن يردّاه ، فقال كلّ منهما : لا أحلُ عقدة عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) وقال الحلبي في السيرة (٢) (٢ / ٨٥) : كان يقال له : طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعينه ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرده إلى الطائف ومكث به مدّة رسول الله ومدّة أبي بكر بعد أن سأله

__________________

(١) الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٧ ، الرياض النضرة : ٢ / ١٤٣ [٣ / ٨٠] ، أُسد الغابة : ٢ / ٣٥ [٢ / ٣٨ رقم ١٢١٧] ، السيرة الحلبية ١ / ٣٣٧ [١ / ٣١٧] ، الإصابة : ١ / ٣٤٥ [رقم ١٧٨١] (المؤلف)

(٢) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٧٦ ـ ٧٧.


عثمان في إدخاله المدينة فأبى ، فقال له عثمان : عمّي ، فقال : عمُّك إلى النار ؛ هيهات هيهات أن أُغيّر شيئاً فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله لا رددته أبداً ، فلمّا توفّي أبو بكر وولي عمر كلّمه عثمان في ذلك فقال له : ويحك يا عثمان تتكلّم في لعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريده وعدوّ الله وعدوّ رسوله؟ فلمّا ولي عثمان ردّه إلى المدينة فاشتدّ ذلك على المهاجرين والأنصار فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة ، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه. انتهى.

ألم تكن للخليفة أُسوة في رسول الله؟ والله يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (١) أو كان قومه وحامّته أحبّ إليه من الله ورسوله؟ وبين يديه الذكر الحكيم : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢).

ثمّ ما هو المبرّر لتخصيص الرجل بتلك المنحة الجزيلة من حقوق المسلمين وأُعطياتهم؟ بعد تأمينه على أخذ الصدقات المشترط فيه الثقة والأمانة واللعين لا يكون ثقةً ولا أميناً.

ثمّ نسائل الحَكَم والخليفة على تقريره لما ارتكبه من حمل صدقات قضاعة إلى دار الخلافة وقد ثبت في السنّة كما مرّ (ص ٢٣٩) أنّها تُقسّط على فقراء المحلّ وعليها أتت الأقوال. قال أبو عبيد في الأموال (٣) (ص ٥٩٦) : والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلّها أنّ أهل كلّ بلد من البلدان ، أو ماء من المياه أحقُّ بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك ، وإن أتى ذلك على جميع صدقتها حتى يرجع

__________________

(١) الأحزاب : ٢١.

(٢) التوبة : ٢٤.

(٣) الأموال : ص ٧٠٩ ح ١٩١١.


الساعي ولا شيء معه منها ، بذلك جاءت الأحاديث مفسّرة. ثمّ ذكر أحاديث فقال (١) (ص ٥٩٧) : قال أبو عبيد : فكلّ هذه الأحاديث تثبت أنّ كلّ قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها ، ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنّما جاءت به السنّة لحرمة الجوار وقُرب دارهم من دار الأغنياء. انتهى.

ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيُعطى؟ أو لم يكن في المدينة الطيّبة من فقراء المسلمين أحد فيقسّم ذلك المال الطائل بينهم بالسويّة؟ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) (٢). الآية. فتخصيصها للحَكَم لما ذا؟

وهلمّ معي إلى المسكين صاحب المال تُؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم مَصبّ تلكم الأموال ومدرّها من أيدي أولئك الجبابرة أو الجباة ـ نظراء الحكم ومروان والوليد وسعيد ـ وما يرتكبونه من فجور ومجون ، وبعد لم ينقطع من أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن الوليد سيف .. مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه وما يملكه ، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٣) ، فهل يرى المسكين أنّ هذا الأخذ يطهّره ويزكّيه؟ لا حكم إلاّ لله.

نعم ، يقول المغيرة بن شعبة ـ زاني ثقيف ـ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم وعليهم حسابهم (٤) ويقول ابن عمر : ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر. ويقول : ادفعها إلى الأمراء وإن تمزّعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم (٥).

نحن لا نقيم لأمثال هذه الآراء وزناً ، ولا أحسب أنّ الباحث يقدّر لها قيمة.

__________________

(١) الأموال : ص ٧١١ ح ١٩١٦.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) التوبة : ١٠٣.

(٤) سنن البيهقي : ٤ / ١١٥. (المؤلف)

(٥) سنن البيهقي : ٤ / ١١٥ ، الأموال لأبي عبيد : ص ٥٧٠ [ص ٦٨١ ح ١٧٩٩]. (المؤلف)


فإنّها ولائد ظنون مجرّدة ، وقد جاء في أولئك الأُمراء بإسناد صحّحه الحاكم والذهبي من طريق جابر بن عبد الله قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجرة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء». قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : «أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي ، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم ، ولا يردون عليّ (١) حوضي ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منّي وأنا منهم وسيردون على حوضي» (٢).

فإعطاء الصدقات لأولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان والله تعالى يقول : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٣).

ثم إنّ الصدقات كضرائب ماليّة في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأُمّة. قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله عزّ وجلّ فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء ، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء ، وحقّ على الله تبارك وتعالى أن يحاسبهم ويعذّبهم». الأموال لأبي عبيد (٤) (ص ٥٩٥) ، المحلّى لابن حزم (٦ / ١٥٨) ، وأخرجه الخطيب في تاريخه (٥ / ٣٠٨) من طريق عليّ مرفوعاً.

وفي لفظ : «إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غنيّ ، والله سائلهم عن ذلك» نهج البلاغة (٥) (٢ / ٢١٤).

هذا هو مجرى الصدقات في الشريعة المطهّرة ، وهو الذي يطهّر صاحب المال

__________________

(١) في المصدر : على.

(٢) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٢٢ [٤ / ٤٦٨ ح ٨٣٠٢ وكذا في التلخيص]. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٢.

(٤) الأموال : ص ٧٠٩ ح ١٩١٠.

(٥) نهج البلاغة : ص ٥٣٣ رقم ٣٢٨.


ويُزكّيه ، ويكتسح عن المجتمع معرّة الآراء الفاسدة من الفقراء ، المقلقة للسلام والمعكّرة لصفو الحياة.

ثمّ الخليفة يدّعي (١) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده ردّ الحكم بعد أن فاوضه في ذلك ، إن كان هذا الوعد صحيحاً فلِم لَم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان وهلاّ رواه لهما حين كلّمهما في ردّه فجبهاه بما عرفت؟ أو أنّهما لم يثقا بتلك الرواية؟ فهذه مشكلة أخرى. أو أنّهما صدّقاه؟ غير أنّهما رأيا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده أن يردّه هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يردّه ، ولعلّ المصلحة الواقعيّة أو الظروف لم تساعده على إنجاز الوعد حتى قضى نحبه ، فمن اين عرف الترخيص له في ردّه؟ ولو كانت هناك شبهة رخصة؟ لعمل بها الشيخان حين فاوضهما هو في ذلك ، لكنّهما ما عرفا الشبهة ولا علما تلميحاً للرخصة بل رأياه عقدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تنحلّ ، وفي الملل والنحل للشهرستاني (٢) (١ / ٢٥) : فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً. انتهى. ومن هنا رأى ابن عبد ربّه في العقد ، وأبو الفدا في تاريخه (١ / ١٦٨) أنّ الحكم طريد رسول الله وطريد أبي بكر وعمر أيضاً ، وكذلك الصحابة كلّهم ما عرفوا مساغاً لردّ الرجل وأبنائه ، وإلاّ لما نقموا به عليه ولعذروه على ما ارتكبه وفيهم من لا تخفى عليه مواعيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وللخليفة معذرة أخرى ، قال ابن عبد ربّه في العقد الفريد (٣) (٢ / ٢٧٢) : لمّا ردّ عثمان الحَكَم طريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلّم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي؟ إنّي وصلت رحماً وقرّيت عيناً. انتهى. ونحن لا نخدش العواطف بتحليل كلمة الخليفة هذه ، ولا نفصّل القول في مغزاها وإنّما نمرُّ به

__________________

(١) الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٧ ، الرياض النضرة : ٢ / ١٤٢ [٣ / ٨٠] ، مرآة الجنان لليافعي : ١ / ٨٥ ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٣] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٨٦ [٢ / ٧٧]. (المؤلف)

(٢) الملل والنحل : ١ / ٣٢.

(٣) العقد الفريد : ٤ / ١١٨.


كراماً ، وأنت إذا عرفت الحَكَم وما ولد ، فعلمت أنّ ردّهم إلى المدينة المشرّفة وتولّيهم على الأُمور ، وتسليطهم على ناموس الإسلام ، واتّخاذ الحمى لهم كما مرّ (ص ٢٣٥) جناية كبيرة على الأُمّة لا تُغتفر ، ولا تقرّ بها قطُّ عين.

ـ ٣٢ ـ

أيادي الخليفة عند مروان

أعطى مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمّه وصهره من ابنته أُمّ أبان خُمس غنائم إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار ، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حنبل الجمحي الكندي مخاطباً الخليفة :

سأحلف بالله جهد اليمي

ـن (١) ما ترك الله أمراً سُدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلي لَكَ (٢) أو تبتلى

فإنَّ الأمينين قد بيّنا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلةً

وما جعلا درهماً في الهوى

دعوت اللعينَ فأدنيتَهُ

خلافاً لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروانَ خمس العبا

د ظُلماً لهم وحميت الحمى (٣)

هكذا رواه ابن قتيبة في المعارف (٤) (ص ٨٤) ، وأبو الفداء في تاريخه (١ / ١٦٨) ، وذكر البلاذري الأبيات في الأنساب (٥ / ٣٨) ونسبها إلى أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي الخزرجي الذي منع أن يدفن عثمان بالبقيع ، وإليك لفظها :

__________________

(١) في الطبعة المعتمدة لدينا من المعارف : أحلف بالله ربِّ الأنام.

(٢) في المعتمدة : نبتلى بك.

(٣) في المعتمدة ورد الشطر الثاني هكذا : فهيهات شأوك ممن سعى.

(٤) المعارف : ص ١٩٥.


أُقسمُ باللهِ ربِّ العبا

د ما ترك الله خلقاً سُدى

دعوتَ اللعينَ فأدنيته

خلافاً لسنّة من قد مضى

قال : يعني الحكَم والد مروان.

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلماً لهم وحميت الحمى

ومالٌ أتاك به الأشعريُ

من الفيء أنهيته من ترى

فأمّا الأمينان إذ بيّنا

منار الطريق عليه الصُوى

فلم يأخذا درهماً غيلةً

ولم يصرفا درهماً في هوى

وذكرها ابن عبد ربّه في العقد الفريد (١) (٢ / ٢٦١) ونسبها إلى عبد الرحمن ، وروى البلاذري من طريق عبد الله بن الزبير أنّه قال : أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم. وفي رواية أبي مخنف : فابتاع الخمس بمائتي ألف دينار فكلّم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان (٢).

وفي رواية الواقدي كما ذكره ابن كثير : صالحه بطريقها على ألفي ألف دينار وعشرين ألف دينار ، فأطلقها كلّها عثمان في يوم واحد لآل الحكَم ويقال : لآل مروان (٣)

وفي رواية الطبري عن الواقدي ، عن أُسامة بن زيد ، عن ابن كعب قال : لمّا وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جُرجير ألفي

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٢) الأنساب : ٥ / ٢٧ ، ٢٨. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن كثير : ٧ / ١٥٢ [٧ / ١٧٠ حوادث سنة ٢٧ ه‍]. لا يخفى على القارئ تحريف ابن كثير رواية الواقدي ، والصحيح ما ذكره الطبري عنه. (المؤلف)


ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، فبعث ملك الروم رسولاً وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد. إلى أن قال : كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب ، فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت : أو لمروان؟ قال : لا أدري. تاريخ الطبري (١) (٥ / ٥٠).

وقال ابن الأثير في الكامل (٢) (٣ / ٣٨) : وحُمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان ، وكان هذا ممّا أُخذ عليه ، وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية ، فإنّ بعض الناس يقول : أعطى عثمان خمس إفريقية عبد الله بن سعد. وبعضهم يقول : أعطاه مروان بن الحكم ، وظهر بهذا أنّه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى ، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية. والله أعلم.

وروى البلاذري وابن سعد : أنّ عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه المال ، وتأوّل في ذلك الصلة التي أمر الله بها ، واتّخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال : إنّ أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإنّي أخذته فقسّمته في أقربائي. فأنكر الناس عليه ذلك (٣).

وأخرج البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٨) من طريق الواقدي عن أُمّ بكر بنت المسور قالت : لمّا بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور فيمن دعا ، فقال مروان وهو يحدّثهم : والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهماً فما فوقه. فقال المسور : لو أكلت طعامك وسكتّ لكان خيراً لك ، لقد غزوت معنا إفريقية وإنّك لأقلّنا مالاً ورقيقاً وأعواناً وأخفّنا ثقلاً ، فأعطاك ابن عفّان خمس

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٥٦ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٣٧ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٣) طبقات ابن سعد : ٣ / ٤٤ طبع ليدن [٣ / ٦٤] ، الأنساب للبلاذري : ٥ / ٢٥. (المؤلف)


إفريقية وعُمّلت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين. فشكاه مروان إلى عروة وقال : يغلظ لي وأنا له مكرمٌ متّقٍ.

وقال ابن أبي الحديد في الشرح (١) (١ / ٦٧) : أمر ـ عثمان ـ لمروان بمائة ألف من بيت المال وقد زوّجه ابنته أُمّ أبان ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان : أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال : لا. ولكن أبكي لأنّي أظنُّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو (٢) أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً. فقال : ألق المفاتيح يا ابن أرقم فإنّا سنجد غيرك ، وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة ، فقسّمها كلّها في بني أُميّة.

وقال الحلبي في السيرة (٣) (٢ / ٨٧) : وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضى الله عنه أنّه أعطى ابن عمّه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية.

مروان وما مروان؟

مرّ في صفحة (٢٤٦) ما صحّ من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبيه وعلى من يخرج من صلبه. وأسلفنا ما صحّ من قول عائشة لمروان : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أباك فأنت فضض من لعنة الله.

وأخرج الحاكم في المستدرك (٤) (٤ / ٤٧٩) من طريق عبد الرحمن بن عوف وصحّحه أنه قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ أُتي به إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [فدعاله] ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

(٢) في المصدر : والله لو.

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٧٨.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٦ ح ٨٤٧٧. وما بين المعقوفين منه.


فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال : هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون.

وذكره الدميري في حياة الحيوان (١) (٢ / ٣٩٩) ، وابن حجر في الصواعق (٢) (ص ١٠٨) ، والحلبي في السيرة (٣) (١ / ٣٣٧). ولعلّ معاوية أشار إليه بقوله لمروان : يا ابن الوزغ لست هناك. فيما ذكره ابن أبي الحديد (٤) (٢ / ٥٦).

وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمرّ الحكم بن أبي العاص فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل لأُمّتي ممّا في صلب هذا» (٥).

وفي شرح ابن أبي الحديد (٦) (٢ / ٥٥) نقلاً عن الاستيعاب (٧) : نظر عليّ عليه‌السلام يوماً إلى مروان فقال له : «ويل لك وويل لأُمّة محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك». وفي لفظ ابن الأثير : «ويلك وويل أُمّة محمد منك ومن بنيك». أُسد الغابة (٨) (٤ / ٣٤٨). ورواه ابن عساكر بلفظ آخر كما في كنز العمّال (٩) (٦ / ٩١).

وقال مولانا أمير المؤمنين يوم قال له الحسنان السبطان : «يبايعك مروان يا أمير المؤمنين» : «أوَلم يبايعني قبل قتل (١٠) عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنّها كفّ

__________________

(١) حياة الحيوان : ٢ / ٤٢٢.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ١٨١.

(٣) السيرة الحلبية : ١ / ٣١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥٥ خطبة ٧٢.

(٥) أُسد الغابة : ٢ / ٣٤ [٢ / ٣٧ رقم ١٢١٧] ، الإصابة : ١ / ٣٤٦ [رقم ١٧٨١] ، السيرة الحلبية : ١ / ٣٣٧ [١ / ٣١٧] ، كنز العمّال : ٦ / ٤٠ [١١ / ١٦٧ ح ٣١٠٦٦]. (المؤلف)

(٦) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥٠ خطبة ٧٢.

(٧) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٣٨٨ رقم ٢٣٧٠.

(٨) أُسد الغابة : ٥ / ١٤٥ رقم ٤٨٤١.

(٩) كنز العمّال : ١١ / ١٦٧ ح ٣١٠٦٧.

(١٠) في نهج البلاغة وشرحه : بعد قتل ...


يهوديّة لو بايعني بيده لغدر بسبّته ، أما إنّ له إمرةً كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة (١) وستلقى الأُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر». نهج البلاغة (٢).

قال ابن أبي الحديد في الشرح (٣) (٢ / ٥٣) : قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة ورويت في زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة وهي قوله عليه‌السلام في مروان : «يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإنّ له إمرة» الى آخره.

هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقاته (٤) (٥ / ٣٠) طبع ليدن قال : قال عليُّ بن أبي طالب يوماً ونظر إليه : «ليحملنّ راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، وله إمرة كلحسة الكلب أنفه». انتهى. وهذا الحديث كما ترى غير ما في نهج البلاغة وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه ، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط أيضاً في تذكرته (٥) (ص ٤٥). والله العالم.

قال البلاذري في الأنساب (٥ / ١٢٦) : كان مروان يلقّب خيط باطل (٦) لدقّته وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يُرى في الشمس ، فقال الشاعر ـ ويقال : إنّه عبد الرحمن بن الحَكم أخوه ـ :

لعمرك ما أدري وإنِّي لسائلٌ

حليلة مضروب القفا كيف يصنعُ (٧)

__________________

(١) هم بنو عبد الملك : الوليد ، سليمان ، يزيد ، هشام. كذا فسّره الناس وعند ابن أبي الحديد [٦ / ١٤٧ ـ ١٤٨ خطبة ٧٢] هم أولاد مروان : عبد الملك ، بشر ، محمد ، عبد العزيز. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ص ١٠٢ رقم ٧٣.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٤٨ ، خطبة ٧٢.

(٤) الطبقات الكبرى : ٥ / ٤٣.

(٥) تذكرة الخواص : ص ٧٨.

(٦) أنظر ثمار القلوب : ص ٧٦ رقم ١٠٣.

(٧) أشار بقوله : مضروب القفا إلى ما وقع يوم الدار ، فإنّ مروان ضُرِب يوم ذاك على قفاه كما يأتي حديثه في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى. (المؤلف)


لحى الله قوماً أمّروا خيطَ باطلٍ

على الناس يعطي ما يشاء ويمنعُ (١)

وذكر البلاذري في الأنساب (٥ / ١٤٤) في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله :

غدرتم بعمروٍ يا بني خيط باطل

ومثلكمُ يبني البيوتَ على الغَدرِ

وذكر ابن أبي الحديد في شرحه (٢) (٢ / ٥٥) لعبد الرحمن بن الحكَم في أخيه قوله

وهبت نصيبي منك يا مروَ (٣) كلّه

لعمرو ومروان الطويل وخالدِ

وربّ ابن أُمّ زائدٍ غير ناقص

وأنت ابن أُمّ ناقصٍ غير زائدِ

ومن شعر مالك بن الريب ـ المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة (٤) ـ يهجو مروان قوله :

لعمرك ما مروانُ يقضي أُمورَنا

ولكنّما تقضي لنا بنتُ جعفرِ (٥)

فيا ليتها كانت علينا أميرةً

وليتك يا مروانُ أمسيت ذا حِرِ

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٧٢) من طريق أبي يحيى قال : كنت بين الحسن والحسين ومروان يتسابّان فجعل الحسن يسكّت الحسين ، فقال مروان : أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال : «قلت أهل بيت ملعونون ، فو الله لقد لعنك الله

__________________

(١) ورواهما وما قبلهما ابن الأثير في أسد الغابة : ٤ / ٣٤٨ [٥ / ١٤٥ رقم ٤٨٤١]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٥١ خطبة ٧٢.

(٣) هو مرخّم مروان.

(٤) الشعر والشعراء : ص ٢٢١.

(٥) بنت جعفر هي الهاشمية الشهيرة بأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب زوجة عبد الملك بن مروان. ثمّ طلّقها فتزوّجها عليّ بن عبد الله بن عباس. (المؤلف)


وأنت في صلب أبيك». أخرجه (١) الطبراني وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه (٦ / ٩٠) نقلاً عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر.

إنّ الذي يستشفّه المنقّب من سيرة مروان وأعماله أنّه ما كان يقيم لنواميس الدين الحنيف وزناً ، وإنّما كان يلحظها كسياسات زمنيّة فلا يبالي بإبطال شيء منها ، أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله ، وإليك من شواهد ذلك عظائم ، وعليها فقس ما لم نذكره :

١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (٢) (٤ / ٩٤) من طريق عباد بن عبد الله ابن الزبير قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا ، قدمنا معه مكة قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال : وكان عثمان حين أتمّ الصلاة فإذا قدم مكة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به. فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر وعمر رضى الله عنهما. قالا : فإنّ ابن عمّك قد أتمّها وإنّ خلافك إيّاه له عيب. قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٦) نقلاً عن أحمد والطبراني فقال : رجال أحمد موثّقون.

فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصلاة التي هي عماد الدين إلى

__________________

(١) المعجم الكبير : ٣ / ٨٥ ح ٢٧٤٠ ، كنز العمّال : ١١ / ٣٥٧ ح ٣١٧٣٠ ، مسند أبي يعلى : ١٢ / ١٣٥ ح ٦٧٦٤ ، مختصر تاريخ دمشق : ٢٤ / ١٨١.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٥٨ ح ١٦٤١٥.


درجة يقدّم فيها التحفّظ على عثمان في عمله الشاذّ عن الكتاب والسنّة على العمل بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أخضع معاوية لما ارتآه من الرأي الشائن في صلاة العصر ، فما ذا يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصلاة من الأحكام؟

وإن تعجب فعجب أنّه يَعدُّ مخالفة عثمان في رأيه الخاصّ له عيباً عليه يغيّر لأجله الحكم الدينيّ الثابت ، ولا يَعدّ مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك لأجلها الأباطيل والأحداث!

ومن العجيب أيضاً أن يُنهى معاوية عن مخالفة عثمان ، ولا يُنهى من خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مخالفته. أهؤلاء من خير أُمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله؟ وأعجب من كلّ ذلك حسبان أُولئك العابثين بدين الله عدولاً وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.

٢ ـ أخرج البخاري (١) من طريق أبي سعيد الخدري قال : خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجبذت بثوبه فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم والله. فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم. فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وفي لفظ الشافعي : يا أبا سعيد تُرك الذي تعلم.

أترى مروان كيف يغيّر السنّة؟ وكيف يفوه ملء فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلّم به؟ كأنّ ذلك مفوّضٌ إليه ، وكأنّ تركها المنبعث عن التجرّي على الله ورسوله يكون مبيحاً لإدامة الترك ، لما ذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنّة؟ ولما ذا تُرك؟

نعم ؛ كان لمروان في المقام ملحوظتان : الأُولى اقتصاصه أثر ابن عمّه عثمان ،

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٦ ح ٩١٣.


والآخر أنّه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ويسبُّه ويلعنه فتتفرّق عنه الناس لذلك ، فقدّمها على الصلاة لئلاّ يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به من كبائر وموبقات. راجع تفصيلاً أسلفناه صفحة (١٦٤ ـ ١٦٧) من هذا الجزء.

ويستظهر ممّا سبق (ص ١٦٦) من كلام عبد الله بن الزبير : كلُّ سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غيّرت حتى الصلاة. إنّ تسرّب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصوراً على الخطبة قبل الصلاة فحسب ، وإنّما تطرّق ذلك إلى كثير من الأحكام كما يجده الباحث السابر أغوار السير والحديث.

٣ ـ سبّه لمولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وكان الرجل كما قال أُسامة بن زيد فاحشاً متفحّشاً (١).

الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرّأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم قال له : أقد مروان من نفسك. قال عليه‌السلام : «ممّ ذا؟» قال : من شتمه وجذب راحلته. وقال له : لِمَ لا يشتمك؟ كأنّك خير منه! (٢) وعلاّه معاوية بكلّ ما عنده من حول وطول ، لكن مروان تبعه شرّ متابعة ، ولم يأل جهداً في تثبيت ذلك كلّما أقلّته صهوة المنبر ، أو وقف على منصّة خطابة ، ولم يزل مجدّا في ذلك وحاضّا عليه حتى عاد مطّرداً بعد كلّ جمعة وجماعة في أيّ حاضرة يتولّى أمرها ، وبين عمّاله يوم تولّى خلافة هي كلعقة الكلب أنفه تسعة أشهر كما وصفها مولانا أمير المؤمنين ، ولم تكن هذه السيرة السيّئة إلاّ لسياسة وقتيّة ، وقد أعرب عمّا في سريرته بقوله ، فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه ، قال : ما كان أحد أدفع عن عثمان من عليّ. فقيل له : ما لكم تسبُّونه على المنابر؟ قال : إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك (٣).

__________________

(١) الاستيعاب في ترجمة أُسامة [القسم الأول / ٧٧ رقم ٢١]. (المؤلف)

(٢) يأتي حديثه تفصيلاً في قصة أبي ذر في هذا الجزء إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) الصواعق لابن حجر : ص ٣٣ [ص ٥٥]. (المؤلف)


قال ابن حجر في تطهير الجنان (١) هامش الصواعق (ص ١٤٢) وبسندٍ رجاله ثقات : إنّ مروان لمّا ولي المدينة كان يسبُّ عليّا على المنبر كلّ جمعة ، ثمّ ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسبّ ، ثمّ أُعيد مروان فعاد للسبّ ، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلاّ عند الإقامة ، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للحسن في بيته بالسبّ البليغ لأبيه وله ، ومنه : ما وجدت مثلك إلاّ مثل البغلة يقال لها : من أبوك؟ فتقول : أبي (٢) الفرس. فقال للرسول : «ارجع إليه فقل له : والله لا أمحو عنك شيئاً ممّا قلت بأنّي أسبّك ، ولكن موعدي وموعدك الله ، فإن كنت كاذباً فالله أشدُّ نقمة ، قد أكرم جدّي أن يكون مثلي مثل البغلة». الى آخره.

ولم يختلف من المسلمين اثنان في أنّ سبّ الإمام ولعنه من الموبقات ، وإذا صحفَ ما قاله ابن معين (٣) كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (٤) (١ / ٥٠٩) من أنّ كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. انتهى.

فما قيمة مروان عندئذٍ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنّا لا نتنازل عن أنّ مولانا أمير المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كلّ من سبّهم ولعنهم ، فكيف ونحن نرى أنّه عليه‌السلام سيّد الصحابة على الإطلاق ، وسيّد الأوصياء ، وسيّد من مضى ومن غبر عدا ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو نفس النبيّ الأقدس بنصّ الذكر الحكيم ، فلعنه وسبُّه لعنه وسبُّه وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سبّ عليّا فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله» (٥).

__________________

(١) تطهير الجنان : ص ٦٣.

(٢) كذا في المصدر.

(٣) التاريخ : ٢ / ٦٦.

(٤) تهذيب التهذيب : ١ / ٤٤٧.

(٥) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٢١ [٣ / ١٣١ ح ٤٦١٦] ، مسند أحمد : ٦ / ٣٢٣ [٧ / ٤٥٥ ح ٢٦٢٠٨] ، وسيوافيك تفصيل طرقه. (المؤلف)


وكان مروان يتربّص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة ، ويغتنم الفرص في إيذائهم. قال ابن عساكر في تاريخه (١) (٤ / ٢٢٧) : أبى مروان أن يُدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : ما كنت لأدع ابن أبي تراب يُدفن مع رسول الله وقد دفن عثمان بالبقيع. ومروان يومئذٍ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك ، فلم يزل عدوّا لبني هاشم حتى مات. انتهى.

أيّ خليفة هذا يُجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله؟ ومن أولى بالدفن في الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكيّ؟ وبأيّ كتاب وبأيّة سنّة وبأيّ حقّ ثابت كان لعثمان أن يدفن فيها؟ ومن جرّاء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم ، كان ابن الحكم يحثُّ ابن عمر على الخلافة والقتال دونها. أخرج أبو عمر من طريق الماجشون وغيره : أنّ مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قُتل عثمان رضى الله عنه فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال : وكيف لي بالناس؟ قال : تقاتلهم ونقاتلهم معك. فقال : والله لو اجتمع عليّ أهل الأرض إلاّ فدك ما قاتلتهم ، قال : فخرجوا من عنده ومروان يقول :

والمُلك بعد أبي ليلى لمن غلبا (٢)

لما ذا ترك الوزغ سنّة الانتخاب الدستوري في الخلافة بعد انتهاء الدور إلى سيّد العترة؟ وما الذي سوّغ له ذلك الخلاف؟ وحضّ ابن عمر على الأمر ، وتثبيطه على القتال دونه ، بعد إجماع الأُمّة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين؟ نعم : لم يكن من اليوم الأوّل هناك انتخاب صحيح قطُّ ، ورأي حرّ لأهل الحلّ والعقد ، أنّى كان ثمّ أنّى؟

والمُلك بعد أبي الزهرا لمن غلبا

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ١٣ / ٢٨٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٤١.

(٢) الاستيعاب ترجمة عبد الله بن عمر [القسم الثالث / ٩٥٢ رقم ١٦١٢]. (المؤلف)


هذا مروان :

فهلمّ معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد مولده بما ذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة إليه في المشورة في الصالح العام؟ ولِمَ استكتبه وضمّه إليه فاستولى عليه؟ (١) ونصب عينيه ما لهج به النبيُّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات ، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء من المؤمنين وإكبارهم شكراً لأعمالهم لا الاحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان الذي يجب الإنكار والتقطيب تجاه عمله الشائن ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من رأى منكراً فاستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (٢) ، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة».

وهب أنّ الخليفة تأوّل وأخطأ لكنّه ما هذا التبسّط إليه بكلّه؟ وتقريبه وهو ممّن يجب إقصاؤه ، وإيواؤه وهو ممّن يستحقُّ الطرد ، وتأمينه وهو أهل بأن يُتّهم ، ومنحه أجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه ، وتسليطه على أعطيات المسلمين ومن المحتّم قطع يده عنها؟

أنا لا أعرف شيئاً من معاذير الخليفة في هذه المسائل ـ لعلّ لها عذراً وأنت تلومها ـ لكنّ المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كَثب ، والمستشفّون للحقائق الممعنون فيها ، وكيف يعذره المسلمون ونصب أعينهم قوله عزّ من قائل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى

__________________

(١) كما ذكره أبو عمر في الاستيعاب [القسم الثالث / ١٣٨٧ رقم ٢٣٧٠] ، وابن الأثير في أُسد الغابة : ٤ / ٣٤٨ [٥ / ١٤٤ ـ ١٤٥ رقم ٤٨٤١]. (المؤلف)

(٢) مرّ الحديث في : ص ١٦٥. (المؤلف)


وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) (١)؟

أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجاً عن حكم القرآن؟ أليس عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لقومه نصيباً من الخمس فلم يجعل ونصّ على أنّ بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه؟

قال جبير بن مطعم : لمّا قسم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطّلب (٢) أتيته أنا وعثمان فقلت : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا يُنكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم ، أرأيت بني المطّلب أعطيتهم ومنعتنا؟ وإنّما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال : «إنّهم لم يفارقوني ـ أو : لم يفارقونا ـ في جاهليّة ولا إسلام وإنّما هم بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه ، ولم يقسم رسول الله لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئاً كما قسم لبني هاشم وبني المطّلب (٣).

ومن العزيز على الله ورسوله أن يُعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطريده ولعينه ، وقد منعه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقومه من الخمس ، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن حكم الكتاب والسنّة ، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أوجب الله مودّتهم في الذكر الحكيم؟ أنا لا أدري. والله من ورائهم حسيب.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) المطّلب أخو هاشم لأبٍ وأمٍّ ، وأمّهما عاتكة بنت مرّة. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ٢٨ [٣ / ١١٤٣ ح ٢٩٧١] ، الأموال : ص ٣٣١ [ص ٤١٥ ح ٨٤٣ ، ٨٤٤] ، سنن البيهقي : ٦ / ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، سنن أبي داود : ٢ / ٣١ [٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ح ٢٩٧٨ ـ ٢٩٨٠ ،] ، مسند أحمد : ٤ / ٨١ [٥ / ٣٦ ح ١٦٢٩٩] ، المحلّى : ٧ / ٣٢٨ [المسألة ٩٤٩]. (المؤلف)


ـ ٣٣ ـ

إقطاع الخليفة وعطيّته الحارث

أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ـ أخا مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشة ـ ثلاثمائة ألف درهم كما في أنساب البلاذري (٥ / ٥٢) ، وقال في (ص ٢٨) : قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم.

وقال ابن قتيبة في المعارف (١) (ص ٨٤) ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٢) (٢ / ٢٦١) ، وابن أبي الحديد في شرحه (٣) (١ / ٦٧) ، والراغب في المحاضرات (٤) (٢ / ٢١٢) : تصدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزون (٥) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم.

وقال الحلبي في السيرة (٦) (٢ / ٨٧) : أعطى الحارث عشر ما يباع في السوق ، أي سوق المدينة.

قال الأميني : لقد اصطنع الخليفة لهذا الرجل ثلاثاً لا أظنّه يخرج من عهدة النقد عليها :

١ ـ إعطاءه ثلاثمائة ألف ولم يكن من حرّ ماله.

__________________

(١) المعارف : ص ١٩٥.

(٢) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٨ خطبة ٣.

(٤) محاضرات الأدباء : مج ٢ / ح ٤ ص ٤٧٦.

(٥) في المعارف : مهزوز. وفي شرح ابن أبي الحديد : تهروز. وفي محاضرات الراغب : مهزور. [في طبعتي المعارف وشرح النهج المعتمدتين لدينا : مهزور] (المؤلف)

(٦) السيرة الحلبية : ٢ / ٧٨.


٢ ـ هبته إبل الصدقة إيّاه وحده.

٣ ـ إقطاعه إيّاه ما تصدّق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عامّة المسلمين.

أنا لا أدري بما ذا استحقّ الرجل هذه الأعطيات الجزيلة؟ وكيف خصّ به ما تصدّق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كافّة أهل الإسلام ، وحرمه الباقون؟ ولو كان الخليفة موفّراً عليه بهذه الكمّية من مال أبيه لاستكثر ذلك نظراً إلى حاجة المسلمين وجيوشهم ومرابطيهم ، فكيف به وقد وهبه ما لا يملك من مال المسلمين ومن الأوقاف والصدقات؟ وما كان الرجل يعرف بشيء من الأعمال البارّة والمساعي المشكورة في سبيل الدعوة الإلهيّة وخدمة المجتمع الديني حتى يحتمل فيه استحقاق زيادة في عطائه ، وهب أنّا نجّزنا ذلك الاستحقاق لكنّه لا يعدو أن يكون مخرج الزيادة ممّا يسوغ للخليفة التصرّف فيه ، لا ممّا لا يجوز تبديله من إقطاع ما تصدّق به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعله وقفاً عامّا على المسلمين لا يخصُّ به واحد دون آخر ، (بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (١).

فلم يبق مبرّر لتلكم الصنائع أو الفجائع إلاّ الصهر بينه وبين الخليفة والنسب لأنّه ابن عمّه. ولك حقّ النظر في صنيع كلّ من الخليفتين : ١ ـ عثمان ؛ وقد علمت ما ارتكبه هاهنا وفي غيره. ٢ ـ مولانا عليّ عليه‌السلام ؛ يوم جاءه عقيل يستميحه صاعاً من البُرّ للتوسيع له ولعياله ممّا قدّر له في العطاء ، فأدّى عليه‌السلام ما هو حقُّ الأُخوّة والتربية ، ولا سيّما في مثل عقيل من الأشراف والأعاظم الذين يجب فيهم التهذيب أكثر من غيرهم ، فأدنى إليه الحديدة المحماة فتأوّه فقال عليه‌السلام : «تجزع من هذه وتعرّضني لنار جهنّم؟» (٢).

وفي رواية ابن الأثير في أُسد الغابة (٣) (٣ / ٤٢٣) من طريق سعد : أنّ عقيل بن

__________________

(١) البقرة : ١٨١.

(٢) الصواعق لابن حجر : ص ٧٩ [ص ١٣٢]. (المؤلف)

(٣) أُسد الغابة : ٤ / ٦٥ رقم ٣٧٢٦.


أبي طالب لزمه دين فقدم على عليّ بن أبي طالب الكوفة فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه ، فلمّا أمسى دعا بعشائه فإذا خبز وملح وبقل ، فقال عقيل : ما هو إلاّ ما أرى. قال : «لا» قال : فتقضي ديني؟ قال : «وكم دينك؟» قال : أربعون ألفاً. قال : «ما هي عندي ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فإنّه أربعة آلاف فأدفعه إليك». فقال له عقيل : بيوت المال بيدك وأنت تسوّفني بعطائك؟ فقال : «أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟» إقرأ (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).

ـ ٣٤ ـ

حظوة سعيد من عطيّة الخليفة

أعطى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة مائة ألف درهم ، قال أبو مخنف والواقدي : أنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف درهم ، فكلّمه عليّ والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك ، فقال : إنّ له قرابةً ورحماً. قالوا : أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي ؛ فقالوا : فهديهما والله أحبُّ إلينا من هديك. فقال : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله (١).

قال الأميني : كان العاص أبو سعيد من جيران رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يؤذونه ، وقتله مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم بدر مشركاً (٢).

وأما خَلْفه سعيد فهو ذلك الشابُّ المترف كما في رواية ابن سعد (٣) ورد الكوفة

__________________

(١) أنساب البلاذري : ٥ / ٢٨. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ١٨٥ طبع مصر [١ / ٢٠١] ، أُسد الغابة : ٢ / ٣١٠ [٢ / ٣٩١ رقم ٢٠٨٢]. (المؤلف)

(٣) الطبقات : ٥ / ٢١ طبع ليدن [٥ / ٣٢]. وننقل عنه كلّ ما يأتي في سعيد بن العاص ، وذكره ابن عساكر في تاريخه : ٦ / ١٣٥ [٧ / ٢٥٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٣٠٦]. (المؤلف)


من غير سابقة والياً من قبل عثمان بعد عزله الوليد ولم يحمل أيّ حنكة ، فطفق يلهج من أوّل يومه بما يثير العواطف ويجيش الأفئدة ، فنسبهم إلى الشقاق والخلاف وقال : إنّ هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش.

ولقد أزرى هذا الغلام بهاشم بن عتبة المرقال الصحابيّ العظيم صاحب راية مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بصفّين ، العبد الصالح الذي فُقِئت إحدى عينيه في سبيل الله يوم اليرموك ومات شهيداً في الجيش العلوي.

قال ابن سعد (١) : قال سعيد مرّة بالكوفة : من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان ، فقال القوم : ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص : أنا رأيته. فقال له سعيد : بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم : تعيّرني بعيني وإنّما فُقئت في سبيل الله؟ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ؛ ثمّ أصبح هاشم في داره مفطراً وغدّى الناس عنده ، فبلغ ذلك سعيداً فأرسل إليه فضربه وحرّق داره.

ما أجرأ ابن العاص على هذا العظيم من عظماء الصحابة فيضربه ويحرّق داره لعمله بالسنّة الثابتة في الأهلّة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا» وفي لفظ : «صوموا لرؤيته ، وافطروا لرؤيته» (٢)!

لم يكن يعلم هاشم المرقال بأنّ آراء الولاة وأهواءهم لها صولة وجولة في رؤية الهلال أيضاً ، وأنّ الشهادة بها قد تكون من الجرائم التي لا تُغفر ، وأنّ السياسة الوقتيّة لها دخل في شهادات الرجال ، وأنّ حملة النزعة العلويّة لا تقبل شهاداتهم.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٥ / ٣٢.

(٢) صحيح البخاري [٢ / ٦٧٤ ح ١٨١٠] ، صحيح مسلم [٢ / ٤٦١ ح ١٩ كتاب الصيام] ، سنن أبي داود [٢ / ٢٩٧ ، ٢٩٨ ح ٢٣٢٠ ، ٢٣٢٦] ، سنن الدارمي [٢ / ٣] ، سنن النسائي [٢ / ٦٩ ـ ٧١ ح ٢٤٢٦ ـ ٢٤٣٥] ، سنن ابن ماجة [١ / ٥٢٩ ح ١٦٥٤] ، سنن البيهقي [٤ / ٢٠٦]. (المؤلف)


قد شكاه إلى الخليفة الكوفيّون مرّة فلم يعبأ بها ، فقال : كلّما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله ، فانكفأ سعيد إلى الكوفة ، وأضرّ بأهلها إضراراً شديداً (١) ونفى في سنة (٣٣) بأمر من خليفته جمعاً من صلحاء الكوفة وقرّائها إلى الشام كما يأتي تفصيله. ولم يفتأ على سيرته السيّئة إلى أن رحل من الكوفة إلى عثمان مرّة ثانية سنة (٣٤) والتقى هناك بالفئة الشاكية إلى عثمان وهم :

الأشتر بن الحارث ، يزيد بن مكفّف ، ثابت بن قيس ، كميل بن زياد ، زيد بن صوحان ، صعصعة بن صوحان ، الحارث الأعور ، جندب بن زهير ، أبو زينب الأزدي أصغر بن قيس الحارثي.

وهم يسألون الخليفة عزل سعيد ، فأبى وأمره أن يرجع إلى عمله ، وقفل القوم قبله إلى الكوفة واحتلّوها ودخلها من ورائهم ، وركب الأشتر مالك بن الحارث في جيش يمنعه من الدخول فمنعوه حتى ردّوه إلى عثمان ، فجرى هنالك ما جرى ، ويأتي نبأه بعد حين إن شاء الله تعالى.

لقد أراد الخليفة أن يصل رحمه من هذا الشابّ المجرم بإعطاء تلك الكمّية الزائدة على حدّه وحقّه من بيت المال ، إن كان له ثمّة نصيب ، ولو كان هذا العطاء حقّا لَما نقده عليه أعاظم الصحابة وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه.

وأمّا ما تترّس به من المعذرة من الاحتساب بصلة الرحم كما احتسب مَن قبله بمنع رحمهم عن الزيادة في أعطياتهم من بيت المال فتافه ، لأنّ الصلة إنّما تستحسن من الإنسان إن كان الإنفاق من خالص ماله لا المال المشترك بين آحاد المسلمين ؛ ومن وهب مالا يملكه لا يُعَدُّ أميناً على أرباب المال ، فهو إلى الوزر أقرب منه إلى الأجر.

__________________

(١) أنساب البلاذري : ٥ [ص ٣٩ ـ ٤٥]. (المؤلف)


ـ ٣٥ ـ

هبة الخليفة للوليد من مال المسلمين

أعطى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أُميّة أخا الخليفة من أُمّه ما استقرض عبد الله بن مسعود من بيت مال المسلمين ووهبه له. قال البلاذري في الأنساب (٥ / ٣٠) : لمّا قدم الوليد الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردُّ ما تأخذ ، فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثمّ إنّه اقتضاه إيّاه ، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظنُّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال.

وعن عبد الله بن سنان قال : خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة ، وفي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال : يا أهل الكوفة فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال : فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه عن بيت المال. العقد الفريد (١) (٢ / ٢٧٢).

الوليد ومن ولده :

أمّا أبوه عقبة بن أبي معيط فكان أشدّ الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إيذائه من جيرانه ، أخرج ابن سعد بالإسناد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كنت بين شرّ جارين بين أبي لهب وعقبة بن

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١١٩.


أبي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي ، حتى إنّهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى فيطرحونه على بابي» (١).

وقال ابن سعد في الطبقات (٢) (١ / ١٨٥) : كان أهل العداوة والمناواة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل ، أبو لهب ، إلى أن عدّ عقبة بن أبي معيط ، والحكم بن أبي العاص فقال : وذلك أنّهم كانوا جيرانه ، والذي كان تنتهي عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم : أبو جهل ، وأبو لهب ، وعقبة بن أبي معيط.

وقال ابن هشام في سيرته (٣) (٢ / ٢٥) : كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أُميّة ، وعقبة بن أبي معيط.

وقال (٤) في (١ / ٣٨٥) : كان أُبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط متصافيين حَسَناً ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه فبلغ ذلك أُبيّا فأتى عقبة فقال له : ألم يبلغني أنّك جالست محمداً وسمعت منه؟ ثمّ قال : وجهي من وجهك حرام أن أكلّمك ، واستغلظ له من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدوّ الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله ، فأنزل الله تعالى فيهما : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٥) وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بإسنادٍ صححهُ السيوطي

__________________

(١) طبقات ابن سعد : ١ / ١٨٦ طبع مصر [١ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) السيرة النبوية : ٢ / ٥٧.

(٤) السيرة النبوية : ١ / ٣٨٧.

(٥) الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.


من طريق (١) سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : أنّ عقبة (٢) بن أبي معيط كان يجلس مع النبيّ بمكة لا يؤذيه ، وكان له خليل (٣) غائب عنه بالشام ، فقالت قريش : صبا عقبة. وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته : ما فعل محمد ممّا كان عليه؟ فقالت : أشدّ مما كان أمراً. فقال : ما فعل خليلي عقبة؟ فقالت : صبا. فبات بليلة سوء. فلمّا أصبح أتاه عقبة فحيّاه فلم يردّ عليه التحية ، فقال : ما لك لا تردّ عليّ تحيّتي؟ فقال : كيف أردُّ عليك تحيّتك وقد صبوت؟ قال : أوَ قد فعلتها قريش؟ قال : نعم ، قال : فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال : تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم ، ففعل ، فلم يردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن مسح وجهه من البزاق ثمّ التفت إليه فقال : «إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً».

فلمّا كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج ، فقال له أصحابه : أخرج معنا ، قال : وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً ، فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم ، فلمّا هزم الله المشركين وحمل (٤) به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسيراً في سبعين من قريش وقدّم إليه عقبة فقال : أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال : «نعم ، بما بزقت في وجهي». وفي لفظ الطبري : «بكفرك وفجورك وعتوّك على الله ورسوله». فأمر عليّا فضرب عنقه فأنزل الله فيه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ). إلى قوله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).

__________________

(١) دلائل النبوّة : ٢ / ٦٠٦ ـ ٦٠٧ خ ٤٠١.

(٢) وقع في الدرّ المنثور [٦ / ٢٥٠] الاشتباه في اسم الرجل فجعله أبا معيط ، وتبعه على علاّته من حكاه عنه كالشوكاني [في تفسيره : ٤ / ٧٤] وغيره. (المؤلف)

(٣) هو أُبيّ بن خلف كما سمعت ، وفي غير واحد من المصادر : أُميّة بن خلف : (المؤلف)

(٤) في الدر المنثور : وَحَلَ به جملُهُ في جدد من الأرض.


وقال الضحّاك : لمّا بزق عقبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى ، ولم يصل حيث أراد فأحرق خدّيه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار.

وفي لفظ : كان عقبة يكثر مجالسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل ، وكان أُبيُّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة ، قال : لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي ، فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ قفاه وتبزق وجهه وتلطم عينه. فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك ، فقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ألقاك خارجاً من مكة إلاّ علوت رأسك بالسيف» الحديث.

وقال الطبري في تفسيره : قال بعضهم عني بالظالم عقبة بن أبي معيط لأنّه ارتدّ بعد إسلامه طلباً منه لرضا أُبيّ بن خلف وقالوا : فلان هو أُبيّ.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : كان أُبيّ بن خلف يحضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزجره عقبة بن أبي معيط فنزل (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) إلى آخره. قال : الظالم : عقبة وفلان : أُبيّ. وروي مثله عن الشعبي وقتادة وعثمان ومجاهد.

أخرج نزول الآيات الكريمة (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) إلى قوله : (خَذُولاً). في عقبة ، وأنّ الظالم هو : ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل (١) ، وابن المنذر ، وعبد الرزاق في المصنّف (٢) ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير.

__________________

(١) دلائل النبوة : ٢ / ٦٠٦ ح ٤٠١.

(٢) المصنّف : ٥ / ٣٥٧ ح ٩٧٣١.


راجع (١) : تفسير الطبري (١٩ / ٦) ، تفسير البيضاوي (٢ / ١٦١) ، تفسير القرطبي (١٣ / ٢٥) ، تفسير الزمخشري (٢ / ٣٢٦) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٣١٧) ، تفسير النيسابوري هامش الطبري (١٩ / ١٠) ، تفسير الرازي (٦ / ٣٦٩ ، تفسير ابن جزي الكلبي (٣ / ٧٧) ، إمتاع المقريزي (ص ٦١ ، ٩٠) ، الدرّ المنثور للسيوطي (٥ / ٦٨) ، تفسير الخازن (٣ / ٣٦٥) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٣ / ٣٦٥) ، تفسير الشوكاني (٤ / ٧٢) ، تفسير الآلوسي (١٩ / ١١).

هذا الوالد ، وما أدراك ما ولد؟ :

أمّا الوليد الفاسق بلسان الوحي المبين ، الزاني ، الفاجر ، السكّير ، المدمن للخمر المتهتّك في أحكام الدين وتعاليمه ، المهتوك بالجلد على رءوس الأشهاد ، فسل عنه قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٢) فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم بتأويل القرآن نزوله فيه. كما مرّ في (ص ١٢٤).

وسل عنه قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣) وهذه الآية كسابقتها تومي بالفاسق إليه كما أسلفناه في الجزء الثاني (ص ٤٢ ، ٤٣ ، الطبعة الأولى و ٤٦ ، ٤٧ الطبعة الثانية).

وسل عن محراب جامع الكوفة يوم قاء فيه من السكر وصلّى الصبح أربعاً وأنشد فيها رافعاً صوته :

علِقَ القلبُ الربابا

بعد ما شابت وشابا

__________________

(١) جامع البيان : مج ١١ / ج ١٩ / ٧ ـ ٨ ، تفسير البيضاوي : ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠ ، الجامع لأحكام القرآن : ١٣ / ١٩ ، الكشّاف : ٣ / ٢٧٦ ، تفسير غرائب القرآن : ٥ / ٢٣٤ ، التفسير الكبير : ٢٤ / ٧٥ ، الدرّ المنثور : ٦ / ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ، تفسير الخازن : ٣ / ٣٤٧ ، تفسير النسفي : ٣ / ١٦٤ ، فتح القدير : ٤ / ٧٤.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) السجدة : ١٨.


وقال : هل أزيدكم؟ فضربه ابن مسعود بفردة خفّه ، وأخذه الحصباء من المصلّين ، ففرّ عنهم حتى دخل داره والحصباء من ورائهِ ، كما فصّلناه في هذا الجزء (ص ١٢٠ ـ ١٢٤).

وسل عنه سوط عبد الله بن جعفر لمّا جلده حدّ الشارب بأمر مولانا أمير المؤمنين ، وهو يسبّه بمشهد عثمان بعد ضوضاء من المسلمين على تأخير الحدّ ، كما مرّ (ص ١٢٥)

وسل عنه ابن عمّه سعيد بن العاص لمّا غسل منبر جامع الكوفة ومحرابه تطهيراً من أقذار الفاسق حين ولاّه عثمان على الكوفة بعد الوليد.

وسل عنه الإمام السبط الحسن المجتبى يوم تكلّم عليه في مجلس معاوية فقال عليه‌السلام : «وأمّا أنت يا وليد فو الله ما ألومك على بغض عليّ وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً ، وأنت الذي سمّاه الله الفاسق ، وسمّى عليّا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له : اسكت يا عليّ فأنا أشجع منك جناناً ، وأطول منك لساناً ، فقال لك علي : اسكت يا وليد فأنا مؤمن ، وأنت فاسق. فأنزل الله تعالى في موافقته قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ). ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (١) فيك وفيه

أنزل اللهُ والكتاب عزيزٌ

في عليٍّ وفي الوليد قرانا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً

وعليٌّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عمرك الل

 ـه كمن كان فاسقاً خوّانا

سوف يُدعى الوليد بعد قليلٍ

وعليٌّ إلى الحساب عيانا

__________________

(١) هو حسّان بن ثابت. راجع الجزء الثاني ص ٤٢ الطبعة الأولى و ٤٥ الطبعة الثانية. (المؤلف)


فعليٌّ يُجزى بذاك جناناً

ووليدٌ يُجزى بذاك هوانا

ربّ جدٍّ لعقبة بن أبان (١)

لابسٌ في بلادنا تبّانا

وما أنت وقريش؟ إنّما أنت علج من أهل صفوريّة ، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسنّ ممّن تُدعى إليه». شرح ابن أبي الحديد : (٢ / ١٠٣) (٢).

وإن شئت فسل الخليفة عثمان عن تأهيله إيّاه للولاية على صدقات بني تغلب ثمّ للإمارة على الكوفة ، وائتمانه على أحكام الدين وأعراض المسلمين ، وتهذيب الناس ودعوتهم إلى الدين الحنيف ، وإسقاط ما عليه من الدين لبيت مال المسلمين وإبراء ذمّته عمّا عليه من مال الفقراء ، هل في الشريعة الطاهرة تسليط مثل الرجل على ذلك كلّه؟ أنا لا أعرف لذلك جواباً ، ولعلّك تجد عند الخليفة ما يبرّر عمله ، أو تجد عند ابن حجر بعد اعترافه بصحّة ما قلناه ، وأنّه جاء من طريق الثقات جواباً منحوتاً لا نعرف المحصّل منه.

قال في تهذيب التهذيب (٣) (١١ / ١٤٤) : قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت. انتهى.

أمّا نحن فلا نرى السكوت صواباً بعد أن لم يسكت عنه الذكر الحكيم وسمّاه فاسقاً في موضعين ، (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ، ومهما سكتنا عن أمر بينه وبين الله سبحانه فليس من السائغ أن نسكت عن ترتيب آثار العدالة عليه والرواية عنه وهو فاسق في القرآن ، متهتّك بالجرائم على رءوس الأشهاد ، متعدٍّ حدود الله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤).

__________________

(١) أبان اسم أبي معيط جدّ الوليد. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ خطبة ٨٣.

(٣) تهذيب التهذيب : ١١ / ١٢٧.

(٤) البقرة : ٢٢٩.


ـ ٣٦ ـ

هبة الخليفة لعبد الله من مال المسلمين

أعطى لعبد الله بن خالد بن أُسيد بن أبي العيص بن أميّة ثلاثمائة ألف درهم ولكلّ رجل من قومه ألف درهم. وفي العقد الفريد (١) (٢ / ٢٦١) ، والمعارف لابن قتيبة (٢) (ص ٨٤) ، وفي شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ٦٦) : أنّه أعطى عبد الله أربعمائة ألف درهم.

قال أبو مخنف : كان على بيت مال عثمان عبد الله بن الأرقم ، فاستسلف عثمان من بيت المال مائة ألف درهم وكتب عليه بها عبد الله بن الأرقم ذكر حقّ للمسلمين وأشهد عليه عليّا وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقّاص وعبد الله بن عمر ، فلمّا حلّ الأجل ردّه عثمان ، ثمّ قدم عليه عبد الله بن خالد بن أُسيد من مكة وناس معه غزاة فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف درهم ولكلّ رجل من القوم بمائة ألف درهم ، وصكّ بذلك إلى ابن أرقم فاستكثره وردّ الصكّ له. ويقال : إنّه سأل عثمان أن يكتب عليه به ذكر حقّ فأبى ذلك ، فامتنع ابن الأرقم من أن يدفع المال إلى القوم ، فقال له عثمان : إنّما أنت خازن لنا فما حَمَلك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم : كنت أراني خازناً للمسلمين وإنّما خازنك غلامك ، والله لا ألي لك بيت المال أبداً. وجاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر ، ويقال : بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى ناتل مولاه ، ثمّ ولّى زيد بن ثابت الأنصاري بيت المال وأعطاه المفاتيح. ويقال : إنّه ولّى بيت المال معيقيب بن أبي فاطمة ، وبعث إلى عبد الله بن الأرقم ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبلها. أنساب البلاذري (٥ / ٥٨).

__________________

(١) العقد الفريد : ٤ / ١٠٣.

(٢) المعارف : ص ١٩٥.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٨ خطبة ٣.


وذكر أبو عمر في الاستيعاب (١) وابن حجر في الإصابة (٢) حديث عبد الله بن أرقم في ترجمته وردّه ما بعث إليه عثمان من ثلاثمائة ألف. وفي رواية الواقدي : قال عبد الله : مالي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني عثمان ، والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أُعطى ثلاثمائة ألف درهم ، ولئن كان من مال عثمان ما أُحبّ أن آخذ من ماله شيئاً.

وقال اليعقوبي في تاريخه (٣) (٢ / ١٤٥) : زوّج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أُسيد وأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.

قال الأميني : أنا لا أدري هل قرّرت الشريعة لبيت مال المسلمين حساباً وعدداً؟ أو أنّها أمرت أن يُكال ويوزن لأيّ أحد بغير حساب؟ إذن فمن ذا الذي أمرته بالقسمة على السويّة ، والعدل في الرعيّة؟ لقد بلغ الفوضى في الأموال على عهد هذا الخليفة حدّا لم يسطع معه أمناؤه على بيت المال أن يستمرّوا على عملهم ، فكانوا يلقون مفاتيحه إليه لما كانوا يجدونه من عدم تمكّنهم من الجري على النواميس المطّردة في الأموال الثابتة في السنّة الشريفة ، ولا على ما مضى الأوّلان عليه من الحصول على مرضاة العامّة في تقسيمها ، فرأوا التنصّل من هذه الوظيفة أهون عليهم من تحمّل تبعاتها الوبيلة ، وقد ناقشوا الحساب فلم يجدوا لعبد الله بن خالد أيّ جدارة للتخصّص بهذه الكمّيات ، فهو لو عُدّ في عداد غيرهم لم يحظ بغير عطائه زنة أعطيات المسلمين ، لكن صهر الخلافة والاتّصال بالنسب الأمويّ لعلّهما يبرّران ما هو فوق الناموس الماليّ المطّرد في الشريعة!

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٦٦ رقم ١٤٦٩.

(٢) الإصابة : ٢ / ٢٧٤ رقم ٤٥٢٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٦٨.


ـ ٣٧ ـ

عطيّة الخليفة أبا سفيان

أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال قاله ابن أبي الحديد في الشرح (١) (١ / ٦٧).

قال الأميني : لا أرى لأبي سفيان المستحقّ للمنع عن كلّ خير أيّ موجب لذلك العطاء الجزل من بيت مال المسلمين ، وهو ـ كما في الاستيعاب لأبي عمر عن طائفة ـ كان كهفاً للمنافقين منذ أسلم وكان في الجاهليّة ينسب إلى الزندقة. قال الزبير يوم اليرموك لمّا حدّثه ابنه أنّ أبا سفيان كان يقول : إيه بني الأصفر : قاتله الله يأبى إلاّ نفاقاً أوَلسنا خيراً له من بني الأصفر؟ وقال له عليّ عليه‌السلام : «ما زلت عدوّا للإسلام وأهله». ومن طريق ابن المبارك عن الحسن : أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أُميّة ، فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار. فصاح به عثمان : قم عنّي فعل الله بك وفعل. الاستيعاب (٢) (٢ / ٦٩٠).

وفي تاريخ الطبري (٣) (١١ / ٣٥٧) : يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة ، فما هناك جنّة ولا نار.

وفي لفظ المسعودي : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة. مروج الذهب (٤) (١ / ٤٤٠).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٧٨ ـ ١٦٧٩ رقم ٣٠٠٥.

(٣) تاريخ الأُمم الملوك : ١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٦٠.


وأخرج ابن عساكر في تاريخه (١) (٦ / ٤٠٧) عن أنس : أنّ أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي فقال : هل هنا أحد (٢)؟ فقالوا : لا. فقال : اللهمّ اجعل الأمر أمر جاهليّة ، والملك ملك غاصبيّة ، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة.

وقال ابن حجر : كان رأس المشركين يوم أُحد ويوم الأحزاب ، وقال ابن سعد في إسلامه : لمّا رأى الناس يطئون عقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسده ، فقال في نفسه : لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثمّ قال : «إذاً يخزيك الله» وفي رواية : قال في نفسه : ما أدري لِمَ (٣) يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال : «بالله يغلبك». الإصابة (٢ / ١٧٩).

وإن سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت ، قال في حديث له : «معاوية طليق ابن طليق ، حزب من هذه الأحزاب ، لم يزل لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين عدوّا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين» (٤).

وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله : «يا ابن صخر يا ابن اللعين» (٥) ولعلّه عليه‌السلام يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعنه وابنيه معاوية ويزيد لمّا رآه راكباً وأحد الولدين يقود والآخر يسوق فقال : «اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق» (٦).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٢٣ / ٤٧١ رقم ٢٨٤٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٦٧.

(٢) في المصدر : هاهنا أحد؟

(٣) في الإصابة : بِمَ ..

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٤ [٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍]. (المؤلف)

(٥) شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤١١ و ٤ / ٥١ [١٥ / ٨٢ كتاب ١٠ و ١٦ / ١٣٥ كتاب ٣٢] (المؤلف)

(٦) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث : صفحة ٢٢٢ الطبعة الأولى ، و ٢٥٢ الطبعة الثانية [أنظر تاريخ الأُمم والملوك : ١٠ / ٥٨ سنة ٢٨٤ ه‍]. (المؤلف)


وذكر ابن أبي الحديد في الشرح (١) (٤ / ٢٢٠) من كتاب للإمام عليه‌السلام كتبه إلى معاوية قوله : فلقد سلكت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدّك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق والأباطيل (٢).

ويعرّفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية ـ لمّا قال له : يا عدوّ الله وعدوّ رسوله ـ : ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر. إلى آخر ما يأتي في البحث عن مواقف أبي ذر مع عثمان.

هذا حال الرجل يوم كفره وإسلامه ولم يغيّر ما هو عليه حتى لفظ نفسه الأخير ، فهل له في أموال المسلمين قطمير أو نقير (٣) فضلاً عن الآلاف؟ لو لا أنّ النسب الأمويّ برّر للخليفة أن يخصّه بمنائحه الجمّة من مال الناس ، وافق السنّة أم خالفها.

ـ ٣٨ ـ

عطاء الخليفة من غنائم إفريقية

أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة الخمس من غنائم إفريقية في غزوها الأوّل كما مرّ في صفحة (٢٥٩) وقال ابن كثير : أعطاه خمس الخمس. وكان مائة ألف دينار على ما ذكره أبو الفدا من تقدير ذلك الخمس بخمسمائة ألف دينار. وكان حظُّ الفارس من تلك الغنيمة العظيمة ثلاثة آلاف [مثقال] ، ونصيب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٢٣ الكتاب ٦٥.

(٢) قوله عليه‌السلام لمعاوية هو : فلقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل. وأما القول الذي ينقله العلاّمة قدس‌سره فهو لابن أبي الحديد في شرحه لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) القطمير : القشرة الدقيقة على النواة بين النواة والتمر. النقير : كناية عن الشيء التافه. يقال : هو حقير نقير.


الراجل ألف [مثقال]. كما ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (١) (٣ / ١٧٣) ، وابن كثير في تاريخه (٢) (٧ / ١٥٢).

وقال ابن أبي الحديد في شرحه (٣) (١ / ٦٧) : أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب ، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة ، من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وقال البلاذري في الأنساب (٥ / ٢٦): كان ـ عثمان ـ كثيراً ما يولّي من بني أُميّة من لم يكن له مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحبة ، فكان يجيء من أُمرائه ما ينكره أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم ، فلمّا كان في الستّ الأواخر استأثر ببني عمّه فولاّهم وولّى عبد الله بن أبي سرح مصر ، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه. إلى أن قال : فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه كتاباً يتهدّده فيه ، فأبى أن ينزع عمّا نهاه عثمان عنه ، وضرب بعض من كان شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتى قتله ، فخرج من أهل مصر سبع مائة إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمد ، فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة تسأله أن ينصفهم من عامله ، ودخل عليه عليُّ بن أبي طالب وكان متكلّم القوم ، فقال له : «إنّما يسألك القوم رجلاً مكان رجل وقد ادّعوا قِبَله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه». فقال لهم : اختاروا رجلاً أُولّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمد بن أبي بكر الصدّيق ، فقالوا : استعمل علينا محمد بن أبي بكر ، فكتب عهده على مصر ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن

__________________

(١) أُسد الغابة : ٣ / ٢٦٠ رقم ٢٩٧٤. وما بين المعقوفين منه.

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ١٧٠ حوادث سنة ٢٧ ه‍.

(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٩٩ خطبة ٣.


أبي سرح. وسيأتي تمام الخبر وكتاب عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره بالتنكيل بالقوم.

قال الأميني : ابن أبي سرح هذا هو الذي أسلم قبل الفتح وهاجر ثمّ ارتدّ مشركاً وصار إلى قريش بمكة ، فقال لهم : إنّي أضرب محمداً حيث أُريد. فلمّا كان يوم الفتح أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله وأباح دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة ، ففرّ إلى عثمان فغيّبه حتى أتى به رسول الله بعد ما اطمأنّ أهل مكة فاستأمنه له ، فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طويلاً. ثمّ قال : «نعم» فلمّا انصرف عثمان قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن حوله : «ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» وقال رجل من الأنصار : فهلاّ أومأت إليّ يا رسول الله؟ فقال : «إنّ النبيّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين» (١).

ونزل القرآن بكفره في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) الآية (٢).

أطبق المفسّرون على أنّ المراد بقوله : سأُنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن أبي سرح وسبب ذلك فيما ذكروه : أنّه لمّا نزلت الآية التي في المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٣). دعاه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأملاها عليه ، فلمّا انتهى إلى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٤) عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال : تَبارَكَ اللهُ أحسَنُ الخَالِقِين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هكذا أُنزلت عليّ» ، فشكّ عبد الله حينئذٍ وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أُوحي إليه ، وإن كان كاذباً لقد قلت كما

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٢٢٠ [٤ / ١٢٨ ح ٤٣٥٩] ، أنساب البلاذري : ٥ / ٤٩ ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٠ [٣ / ١٠٧] ، الاستيعاب : ١ / ٣٨١ [القسم الثالث / ٩١٨ رقم ١٥٥٣] ، تفسير القرطبي : ٧ / ٤٠ [٧ / ٢٨] ، أُسد الغابة : ٣ / ١٧٣ [٣ / ٢٥٩ رقم ٢٩٧٤] ، الإصابة : ٢ / ٣١٧ [رقم ٤٧١١] ، تفسير الشوكاني : ٢ / ١٣٤ [٢ / ١٤١]. (المؤلف)

(٢) الأنعام : ٩٣.

(٣) المؤمنون : ١٢.

(٤) ٢٠


قال. فارتدّ عن الإسلام ولحق بالمشركين فذلك قوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ).

راجع (١) الأنساب للبلاذري (٥ / ٤٩) ، تفسير القرطبي (٧ / ٤٠) ، تفسير البيضاوي (١ / ٣٩١) ، كشّاف الزمخشري (١ / ٤٦١) ، تفسير الرازي (٤ / ٩٦) ، تفسير الخازن (٢ / ٣٧) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٢ / ٣٧) ، تفسير الشوكاني (٢ / ١٣٣ ، ١٣٥) نقلاً عن ابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن جريج ، وابن جرير ، وأبي الشيخ.

كان الرجل أمويّ النزعة والنشأة ، أرضعته وعثمان ثدي الأشعريّة فقرّبته الأُخوّة من الرضاعة إلى الخليفة ، وآثرته نزعاته الأمويّة على المسلمين ، وأوصلته إلى الحظوة والثروة من حطام الدنيا ، وحلّلت له تلك المنحة الطائلة وإن لم تساعد الخليفة على ذلك النواميس الدينيّة ، إذ لم يكن أمر الغنائم مفوّضاً إليه وإنّما خمسها لله ولرسوله ولذي القربى ، وأدّى الرجل شكر تلكم الأيادي بامتناعه عن بيعة عليّ أمير المؤمنين بعد قتل أخيه الخليفة ، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.

هذه سيرة عثمان وسنّته في الأموال وفي لسانه قوله على صهوة الخطابة : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغم الله أنف من رغم. ولا يصيخ إلى قوله عمّار يوم ذاك : أشهد الله أنّ أنفي أوّل راغم من ذلك.

وبين شفتيه قوله : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أُنوف أقوام. ولا يعبأ بقول مولانا أمير المؤمنين في ذلك الموقف : «إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه» (٢).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٧ / ٢٧ ـ ٢٨ ، تفسير البيضاوي : ١ / ٣١١ ـ ٣١٢ ، الكشّاف : ٢ / ٤٥ ـ ٤٦ ، التفسير الكبير : ١٣ / ٨٤ ، تفسير الخازن : ٢ / ٣٥ ، تفسير النسفي : ٣ / ١١٦ ، فتح القدير : ٢ / ١٤٠ ، جامع البيان : مج ٥ / ج ٧ / ٢٧٤.

(٢) سيوافيك تفصيل الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى. (المؤلف)


نعم : هذا عثمان وهذا قيله ، والمشرّع الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيما أخرجه البخاري في صحيحه (١) (٥ / ١٥): «إنّما أنا قاسم وخازن والله يُعطي». ويقول : «ما أعطيكم ولا أمنعكم إنّما أنا قاسم حيث أُمرت». وفي لفظ : «والله ما أُوتيكم من شيء ولا أمنعكموه ، إن أنا إلاّ خازن أضع حيث أُمرت» (٢). وقد حذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته من التصرّف في مال الله بغير حقّ بقوله : «إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النار يوم القيامة» (٣).

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤).

ـ ٣٩ ـ

الكنوز المكتنزة ببركة الخليفة

اقتنى جماعة من رجال سياسة الوقت ، وأصحاب الفتن والثورات من جرّاء الفوضى في الأموال ضياعاً عامرة ، ودوراً فخمة ، وقصوراً شاهقة ، وثروة طائلة ، ببركة تلك السيرة الأمويّة في الأموال ، الشاذّة عن الكتاب والسنّة الشريفة وسيرة السلف ، فجمعوا من مال المسلمين مالاً جمّا ، وأكلوه أكلا لمّا.

منهم ؛ الزبير بن العوام : خلّف كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب بركة الغازي في ماله (٥) (٥ / ٢١) : إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١١٣٣ باب ٧.

(٢) صحيح البخاري : ٥ / ١٧ [٣ / ١١٣٤ ج ٢٩٤٩] ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٥ [٣ / ١٣٥ ح ٢٩٤٩] ، طرح التثريب : ٧ / ١٦٠. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٥ / ١٧ [٣ / ١١٣٨ ، ١١٣٩]. (المؤلف)

(٤) البقرة : ١٨٧ ، ٢٢٩.

(٥) صحيح البخاري : ٣ / ١١٣٨ ، ١١٣٩ ح ٢٩٦١.


ألف ومائتا ألف. قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف (١) وصرّح ابن بطّال والقاضي عياض وغيرهما : بأنّ الصواب ما قاله ابن الهائم ، وأنّ البخاري غلط في الحساب.

كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيّدة بالدرهم أو الدينار ، غير أنّ في تاريخ ابن كثير (٢) (٧ / ٢٤٩) قيّدها بالدرهم.

وقال ابن سعد في الطبقات (٣) (٣ / ٧٧) طبع ليدن : كان للزبير بمصر خطط ، وبالإسكندرية خطط ، وبالكوفة خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلاّت تقدم عليه من أعراض المدينة.

وقال المسعودي في المروج (٤) (١ / ٤٣٤) ، خلّف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططاً.

ومنهم ؛ طلحة بن عبيد الله التيمي : ابتنى داراً بالكوفة تُعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة (٥) أكثر ممّا ذكر ، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج.

وعن محمد بن إبراهيم قال : كان طلحة يغلُّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلُّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

__________________

(١) ذكره شرّاح البخاري ، راجع فتح الباري [٦ / ٢٣٣] ، إرشاد الساري [٧ / ٥٠] ، عمدة القاري [١٥ / ٥٣ ح ٣٧] ، شذرات الذهب : ١ / ٤٣ [١ / ٢٠٨ حوادث سنة ٣٦ ه‍]. (المؤلف)

(٢) البداية والنهاية : ٧ / ٢٧٨ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

(٣) الطبقات الكبرى : ٣ / ١١٠.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠.

(٥) بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء [معجم البلدان : ٣ / ٢٠٥]. (المؤلف)


وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافٍ. والوافي وزنه وزن الدينار ، وعن موسى بن طلحة : أنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.

وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناضّ (١) ثلاثين ألف ألف درهم ؛ ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

وعن سعدى أُمّ يحيى بن طلحة : قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم ، وقوّمت أُصوله وعقاره ثلاثين ألف ألف درهم.

وعن عمرو بن العاص : أنّ طلحة ترك مائة بُهار في كلّ بُهار ثلاثة قناطير ذهب. وسمعت أنّ البُهار (٢) جلد ثور. وفي لفظ ابن عبد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بُهار من ذهب وفضة.

وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً.

وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار.

راجع (٣) طبقات ابن سعد (٣ / ١٥٨) طبع ليدن ، الأنساب للبلاذري (٥ / ٧) ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤) ، العقد الفريد (٢ / ٢٧٩) ، الرياض النضرة (٢ / ٢٥٨) ، دول

__________________

(١) الناضّ : الدرهم والدينار. (المؤلف)

(٢) البُهار يساوي ثلاثمائة رطل. وقيل : هو ما يحمل على البعير بلغة أهل الشام. أنظر النهاية : ١ / ١٦٦.

(٣) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠ ، العقد الفريد : ٤ / ١٢٩ ، الرياض النضرة : ٣ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، دول الإسلام : ص ٢٢ ، ٢٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍ ، خلاصة الخزرجي : ٢ / ١٢ رقم ٣١٩٥.


الإسلام للذهبي (١ / ١٨) الخلاصة للخزرجي (ص ١٥٢).

وسيأتي عن عثمان قوله : ويلي على ابن الحضرميّة ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً ، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي.

ومنهم ؛ عبد الرحمن بن عوف الزهري : قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً.

وقال : وكان فيما خلّفه ذهب قُطّع بالفؤوس حتى مجلت (١) أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال : صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفاً.

وقال اليعقوبي : ورّثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار. وقيل : ثمانين ألف. وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً.

راجع (٢) طبقات ابن سعد (٣ / ٩٦) طبع ليدن ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٤٦) ، صفة الصفوة لابن الجوزي (١ / ١٣٨) ، الرياض النضرة لمحِبّ الطبري (٢ / ٢٩١).

ومنهم ؛ سعد بن أبي وقّاص ، قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق. وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق

__________________

(١) أي : صلُبت وثخُن جلدها من أثر العمل.

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٣٦ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٧٠ ، صفة الصفوة : ١ / ٣٥٥ رقم ٨ ، الرياض النضرة : ٤ / ٢٧٢.


فرفع سمكها ووسّع فضاءها وجعل أعلاها شرفات (١). طبقات ابن سعد (٣ / ١٠٥) ، مروج الذهب (١ / ٤٣٤).

ومنهم ؛ يعلى بن أُميّة (٢) : خلّف خمسمائة ألف دينار ، وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة (٣) ألف دينار. كذا ذكره المسعودي في مروج الذهب (٤) (١ / ٤٣٤).

ومنهم ؛ زيد بن ثابت ـ المدافع الوحيد عن عثمان ـ ، قال المسعودي : خلّف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع ، بقيمة مائة ألف دينار. مروج الذهب (٥) (١ / ٤٣٤).

هذه نبذ ممّا وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان ، ومن المعلوم أنّ التاريخ لم يُحصِ كلّ ما كان هناك من عظائم ، شأنه في أكثر الحوادث والفتن ولا سيّما المتدرّجة منها في الحصول.

وأمّا ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدّث عنه ولا حرج ، كان ينضّد أسنانه بالذهب ويتلبّس بأثواب الملوك. قال محمد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطْرَف خزّ ثُمِّن مائة دينار فقال : هذا لنائلة (٦) كسوتها إيّاه ، فأنا ألبسه أسرّها به. وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار (٧).

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٠.

(٢) في المصدر : يعلى بن منية.

(٣) في المصدر : ثلاثمائة.

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٥) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٦) هي حليلة عثمان بنت الفرافصة. (المؤلف)

(٧) طبقات ابن سعد : ٣ / ٤٠ طبع ليدن [٣ / ٥٨] ، أنساب البلاذري : ص ٣ ، ٤ [٥ / ٤٨] ، الاستيعاب في ترجمة عثمان : ٢ / ٤٧٦ [القسم الثالث / ١٠٤٢ رقم ١٧٧٨]. (المؤلف)


قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليٌّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه فقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم. وفي لفظ : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام ، فقال له عليّ : «إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه» إلى آخر الحديث الآتي في مواقف الخليفة مع عمّار.

وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة ، فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (١).

وقال ابن سعد في الطبقات (٢) (٣ / ٥٣) طبع ليدن : كان لعثمان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسائة ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار فانتُهبت وذهبت.

وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.

وقال المسعودي في المروج (٣) (١ / ٤٣٣) : بنى داره في المدينة وشيّدها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر (٤) ، وأقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة ، وذكر عبد الله بن عتبة : أنّ عثمان يوم قُتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحُنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً.

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٦٨ [ص ١١٣] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٨٧ [٢ / ٧٨]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٣ / ٧٦ ـ ٧٧.

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٤) العرعر : شجر يقال له الساسم ويقال له الشيزى ، ويقال : هو شجر عظيم جبلي.


وقال الذهبي في دول الإسلام (١) (١ / ١٢) : كان قد صار له أموال عظيمة رضى الله عنه وله ألف مملوك.

صورة متخذة

من أُعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته

الدينار

الأعلام

٥٠٠٠٠٠

مروان

١٠٠٠٠٠

ابن أبي سرح

٢٠٠٠٠٠

 طلحة

٢٥٦٠٠٠٠

عبد الرحمن

٥٠٠٠٠٠

يعلى بن أُميّة

١٠٠٠٠٠

زيد بن ثابت

١٥٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٢٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٠٠٠ / ٣١٠ / ٤ الجمع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.

إقرأ ولا تنس قول مولانا أمير المؤمنين في عثمان : «قام نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع».

وقوله الآتي بُعيد هذا : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال».

الدرهم

الأعلام

٣٠٠٠٠٠

الحكَم

__________________

(١) دول الإسلام : ص ١٦.


٢٠٢٠٠٠٠

 آل الحكَم

٣٠٠٠٠٠

 الحارث

١٠٠٠٠٠

سعيد

١٠٠٠٠٠

الوليد

٣٠٠٠٠٠

عبد الله

٦٠٠٠٠٠

 عبد الله

٢٠٠٠٠٠

أبو سفيان

١٠٠٠٠٠

مروان

٢٢٠٠٠٠٠

طلحة

٣٠٠٠٠٠٠٠

طلحة

٥٩٨٠٠٠٠٠

 الزبير

٢٥٠٠٠٠

ابن أبي وقّاص

٣٠٥٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٠٠٠ / ٧٧٠ / ١٢٦ المجموع مائة وستة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهم.

بقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على المذكورين ومن جرى مجراهم من زبانيته ؛ أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أنّ الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود إلى نظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدّة ، ويعانوا البلاء ، ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان ، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول : «إنّ بني أُميّة ليُفوّقُونني تراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويقاً» (١) أي يعطونني من المال قليلاً

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ١٢٦ [ص ١٠٤ خطبة ٧٧]. (المؤلف)


قليلاً كفُواق الناقة (١).

وهل الوجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه من سويق غيره (٢) كما كان يفعل الخليفة؟ ليتني وجدت من يحير جواباً عن مسألتي هذه. أمّا الخليفة فلم أدركه حتى أستحفي منه الخبر ، ولعلّه لو كنت مستحفياً منه لسبقت الدِرّة الجواب.

نعم يُعلَم حكم تلكم الأعطيات والقطائع ـ وقد أقطع أكثر أراضي بيت المال (٣) ـ من خطبة لمولانا أمير المؤمنين ، ذكرها الكلبي مرفوعة إلى ابن عبّاس قال : إنّ عليّا عليه‌السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال : «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله ؛ فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزُوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق» (٤).

قال الكلبي : ثمّ أمر عليه‌السلام بكلّ سلاح وُجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر أن لا يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكفّ عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره ، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أُصيبت أو أُصيب أصحابها ، فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها ، فكتب إلى معاوية :

__________________

(١) فُواق الناقة : الحلبة الواحدة من لبنها.

(٢) يقال : جدح جوين من سويق غيره. مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس [مجمع الامثال : ١ / ٢٨٢ رقم ٨٢٦]. (المؤلف)

(٣) السيرة الحلبية : ٢ / ٨٧ [٢ / ٧٨]. (المؤلف)

(٤) نهج البلاغة : ١ / ٤٦ [ص ٥٧ خطبة ١٥] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٩٠ [١ / ٢٦٩ خطبة ١٥]. (المؤلف)


ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقال الوليد بن عقبة ـ المذكور آنفاً ـ يذكر قبض عليّ عليه‌السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه :

بني هاشمٍ ردّوا سلاحَ ابنِ أختِكمْ

ولا تنهبوه لا تحلُّ مناهبُه

بني هاشمٍ كيف الهوادةُ بيننا

وعند عليٍّ درعُه ونجائبُه

بني هاشمٍ كيف التودُّدُ منكمُ

وبزُّ ابنِ أروى فيكمُ وحرائبُه

بني هاشمٍ إلاّ تردّوا فإننا

سواءٌ علينا قاتلاه وسالبُه

بني هاشم إنّا وما كان منكمُ

كصدعِ الصفا لا يشعب الصدع شاعبُه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب بأبيات طويلة من جملتها :

فلا تسألونا سيفَكم إنّ سيفَكمْ

أُضيع وألقاه لدى الروعِ صاحبُه

وشبّهته كسرى وقد كان مثلُه

شبيهاً بكسرى هديُه وضرائبُه

قال : أي كان كافراً كما كان كسرى كافراً ؛ وكان المنصور رحمه‌الله تعالى إذا أنشد هذا البيت يقول : لعن الله الوليد هو الذي فرّق بين بني عبد مناف بهذا الشعر (١).

هذه الأبيات المعزوّة إلى عبد الله نسبها المسعودي في مروج الذهب (٢) (١ / ٤٤٣) إلى الفضل بن العباس بن أبي لهب وذكر منها :

سلوا أهلَ مصرٍ عن سلاحِ ابنِ أختنا

فهم سلبوه سيفَه وحرائبه

وكان وليَّ العهدِ بعد محمدٍ

عليٌّ وفي كلِّ المواطنِ صاحبه

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٩٠ [١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١]. (المؤلف)

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٦٥.


عليٌّ وليُّ الله أظهرَ دينَه

وأنت مع الأشقين فيما تحاربه

وأنت امرؤٌ من أهلِ صيفورَ مارحٌ (١)

فما لك فينا من حميمٍ تعاتبه

وقد أنزل الرحمنُ أنّك فاسقٌ

فما لك في الإسلام سهمٌ تطالبه

ـ ٤٠ ـ

الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن

كان مزيج نفس الخليفة حبّ بني أبيه آل أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن وتفضيلهم على الناس ، وقد تنشّب ذلك في قلبه وكان معروفاً منه من أوّل يومه ، وعرفه بذلك من عرفه. قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (٢).

وفي لفظ الإمام أبي حنيفة : لو وليتُها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتى يجزّوا رأسه. ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار (٣) (ص ٢١٧).

ووصّى إلى عثمان بقوله : إن وليتَ هذا الأمر فاتّق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس (٤).

وبهذه الوصيّة أخذه عليّ وطلحة والزبير لمّا ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة وقالوا له : ألم يوصك عمر ألاّ تحمل آل أبي معيط وبني أُميّة على رقاب الناس؟ فلم يجبهم بشيء. أنساب البلاذري (٥ / ٣٠).

__________________

(١) في الطبعة المعتمدة لدينا من المروج : صفواء نازح.

(٢) أنساب البلاذري : ٥ / ١٦. (المؤلف)

(٣) الآثار : ص ٢١٧ باب ٣٤ ح ٩٦٠.

(٤) طبقات ابن سعد : ٣ / ٢٤٧ [٣ / ٣٤٠] ، أنساب البلاذري : ٥ / ١٦ ، الرياض النضرة : ٢ / ٧٦ [٢ / ٣٥٦]. (المؤلف)


كان يبذل كلّ جهده في تأسيس حكومة أمويّة قاهرة في الحواضر الإسلاميّة كلّها تقهر مَن عداهم ، وتنسي ذكرهم في القرون الغابرة ، غير أنّ القَدر الحاتم راغمه على منويّاته فجعل الذكر الجميل الخالد والبقيّة المتواصلة في الحقب والأجيال كلّها لآل عليّ عليه وعليهم‌السلام ، وأمّا آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوارٍ بانتسابه ، متخافت عند ذكر نسبه ؛ فكأنّهم حديث أمس الدابر ، فلا ترى لهم ذكراً ، ولا تسمع لأحد منهم رِكزاً.

كان الخليفة يمضي وراء نيّته هاتيك قدماً ؛ وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف : فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أُميّة. فولّى على الأمر في المراكز الحسّاسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أميّة ، وشبابهم المترَف المتبختر في شرخ الشبيبة وغلوائها.

وأمّر فتيانهم الناشطين للعمل ، الذين لم تحنّكهم الأيّام ولم يؤدّبهم الزمان ، وسلّطهم على رقاب الناس ، ووطّد لهم السبل ، وكسح عن مسيرهم العراقيل ، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلاميّة ، وجرّ الويلات بيد أُولئك الطغام على نفسه وعلى الأُمّة المرحومة من يومه وهلمّ جراً.

قال أبو عمر (١) : دخل شبل بن خالد على عثمان رضى الله عنه حين لم يكن عنده غير أمويّ فقال : ما لكم معشر قريش؟ أما فيكم صغير تريدون أن ينبُل؟ أو فقير تريدون غناه؟ أو خامل تريدون التنويه باسمه؟ عَلام أقطعتم هذا الأشعري ـ يعني أبا موسى ـ العراق يأكلها هضماً؟ فقال عثمان : ومن لها؟ فأشاروا بعبد الله (٢) بن عامر

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٩٣ رقم ١١٥٥.

(٢) كان ابن خال عثمان ، لأن أُمّ عثمان أروى بنت كريز. وعبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. (المؤلف)


وهو ابن ستّ عشرة سنة (١) فولاّه حينئذ.

وكان هؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل ؛ ولا يكترث لما يقول ؛ والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي ، ولا يعي عذل أيّ عاذل ، ومن أُولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف ، كان يقول كما مرّ في (ص ٢٧٠) على صهوة المنبر : إنّ السواد بستان لأغيلمة من قريش.

وهؤلاء الأغيلمة هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «إنّ فساد أُمّتي على يدي غلمة سفهاء من قريش» (٢).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هلاك هذه الأُمّة على يد أُغيلمة من قريش» (٣).

وأُولئك السفهاء الأمراء هم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجرة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء». قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : «أُمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي». الحديث مرّ في صفحة (٢٥٦).

وأُولئك هم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسمعوا هل سمعتم؟ إنّه سيكون بعدي أُمراء فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس منّي ولست منه

__________________

(١) أحسبه تصحيفاً ؛ قال أبو عمر [في الاستيعاب : القسم الثالث / ٩٣٢ ـ ٩٣٣ رقم ١٥٨٧] في ترجمة عبد الله بن عامر : عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كلّه لعبد الله. قال صالح : وهو ابن أربع وعشرين سنة. وقال أبو اليقظان : قدم ابن عامر البصرة والياً عليها وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة. (المؤلف)

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : ١٠ / ١٤٦ [٣ / ١٣١٩ ح ٣٤١٠ ، ٦ / ٢٥٨٩ ح ٦٦٤٩] ، والحاكم في المستدرك : ٤ / ٤٧٠ [٤ / ٥١٧ ح ٨٤٥٠] صحّحه هو والذهبي ، وقال الحاكم : شهد حذيفة بن اليمان بصحّة هذا الحديث. (المؤلف)

(٣) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٧٩ [٤ / ٥٢٦ ح ٨٤٧٦] : فقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ولهذا الحديث توابع وشواهد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته الطاهرين والأئمّة من التابعين لم يسعني إلاّ ذكرها. ثمّ ذكر بعض ما أسلفنا في الحَكم ومروان وبني أبي العاص. (المؤلف)


وليس بواردٍ عليّ الحوض ، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه وسيرد عليّ الحوض» ، وفي لفظ : «سيكون أُمراء يكذبون ويظلمون فمن صدّقهم بكذبهم ...» (١).

وفي لفظ أحمد في المسند (٢) (٤ / ٢٦٧): «ألا إنّه سيكون بعدي أُمراء يكذبون ويظلمون ، فمن صدّقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس منّي ولا أنا منه ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو منّي وأنا منه».

وهم المعنيّون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون أُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون مالا يُؤمرون» مسند أحمد (٣) (١ / ٤٥٦).

يستعملهم عثمان وهو أعرف بهم من أيّ ابن أُنثى وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين» (٤) وفي تمهيد الباقلاني (ص ١٩٠): «من تقدّم على قوم من المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه خان الله ورسوله والمسلمين».

فعهد أُولئك الأُغيلمة عهد هلاك أُمّة محمد ودور فسادها ، منهم بدأت الفتن وعليهم عادت ، فترى الولاة يوم ذاك من طريدٍ لعين إلى وزغٍ مثله ، ومن فاسقٍ مهتوك بالذكر الحكيم إلى طليق منافق ، ومن شابّ مترف إلى أُغيلمة سفهاء.

وكان للخليفة وراء ذلك كلّه أمل بأنّه لو بيده مفاتيح الجنّة ليعطيها بني أُميّة

__________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي : ٢ / ١٠٧ [رقم ٥٠٠] و ٥ / ٣٦٢ [رقم ٢٨٨٦]. (المؤلف)

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٣٣٣ ح ١٧٨٨٩.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٤١ ح ٤٣٥٠.

(٤) سنن البيهقي : ١٠ / ١١٨ ، مجمع الزوائد ٥ / ٢١١. (المؤلف)


حتى يدخلوها من عند آخرهم ؛ أخرج أحمد في المسند (١) (١ / ٦٢) من طريق سالم بن أبي الجعد قال : دعا عثمان رضى الله عنه ناساً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم عمّار بن ياسر فقال : إنّي سائلكم وإنّي أُحبّ أن تصدقوني ، نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم ، فقال عثمان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أُميّة حتى يدخلوا من عند آخرهم. إسناده صحيح رجاله كلّهم ثقات رجال الصحيح.

فكأنّ الخليفة يحسب أنّ الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرّب معه إلى باب الجنّة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال ، فما حظى الخليفة بما أحبّ لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا ، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم ، وأمّا الآخرة فإنّ بينهم وبين الجنّة لَسدّا بما اقترفوه من الآثام ، فلا أرى الخليفة يحظى بأُمنيّته هنالك ؛ ونحن لا نعرف نظريّة الخليفة في أمر الثواب والعقاب ؛ ولا ما يؤوّل به الآي الواردة فيهما في الذكر الحكيم ، ولا رأيه في الجنّة والنار وأهلهما ، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٢) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً) (٣) (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) (٤) (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٥) (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٦)

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ح ٤٤١.

(٢) المعارج : ٣٨.

(٣) الجاثية : ٢١.

(٤) الانفطار : ١٣ ـ ١٥.

(٥) المطفّفين : ٧.

(٦) الهمزة : ٤ ـ ٧.


(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (١) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢).

فهؤلاء الأمويّون لم يكونوا في أمل الخليفة ولا أغنوا عنه شيئاً يوم ضحّى بنفسه وجاهه وملكه لأجلهم حتى قُتل من جرّاء ذلك ، ولا أحسب أنّهم مغنون عنه شيئاً غداً عند الله يوم لا يغني عنه مال ولا بنون.

ألا تعجب من خليفة لا يروقه إيثار نبيّه بني هاشم على سائر قريش ، وتدعوه عصبيّته العمياء إلى أن يعارض بمثل هذا التافه المخزي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه أحمد (٣) : «يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحقّ نبيّا لو أخذت بحلقة الجنّة ما بدأت إلاّ بكم» (٤)؟

ـ ٤١ ـ

تسيير الخليفة أبا ذر إلى الربذة

روى البلاذري (٥) : لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث ابن الحَكَم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزّ وجلّ : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٦) فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن انته عمّا يبلغني

__________________

(١) الشعراء : ٩٠ ، ٩١.

(٢) هود : ٢٣.

(٣) مناقب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ص ١٢٢ ح ١٨٠.

(٤) الصواعق : ص ٩٥ [ص ١٦٠]. (المؤلف)

(٥) أنساب الأشراف : ٥ / ٥٢.

(٦) التوبة : ٣٤.


عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله؟ فو الله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبُّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وكفّ ؛ وقال عثمان يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك. فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي! الحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام إلاّ أنّه كان يقدم حاجّا ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأذن له في ذلك ، وإنّما صار مكتبه بالشام لأنّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب» فأذن لي آتي الشام فأغزو هناك فأذن له ، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلةً فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال : أما وجدت أهون عليك منّي حين تبعث إليّ بمال؟ وردّها.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ، فسكت معاوية. وكان أبو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يُطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يُكذّب ، وأثرهً بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : إنّ أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ؛ فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار ، فلمّا قدم أبو ذر المدينة جعل يقول : تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان : الحق بأيّ أرض شئت. فقال بمكة. فقال : لا. قال : فبيت المقدس. قال : لا. قال : فبأحد المصرين. قال لا : ولكنّي مُسيّرك إلى الربذة. فسيّره إليها فلم يزل بها حتى مات.


ومن طريق محمد بن سمعان قال : قيل لعثمان : أنّ أبا ذر يقول : إنّك أخرجته إلى الربذة. فقال : سبحان الله ما كان من هذا شيء قطُّ ، وإنّي لأعرف فضله ، وقديم إسلامه ، وما كنّا نعدُّ في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكلّ شوكة منه.

ومن طريق كميل بن زياد قال : كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وكنت بها في العام المقبل حين سيّره إلى الربذة.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : تكلّم أبو ذر بشيء كرهه (١) عثمان فكذّبه (٢) فقال : ما ظننت أنّ أحداً يكذّبني بعد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أقلّت الغبراء وما أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ، ثمّ سيّره إلى الربذة فكان أبو ذر يقول : ما ترك الحقُّ لي صديقاً. فلمّا سار إلى الربذة قال : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّا.

قال : وشيّع عليّ أبا ذر ، فأراد مروان منعه منه فضرب عليّ بسوطه بين أُذني راحلته ، وجرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام حتى قال عثمان : ما أنت بأفضل عندي منه. وتغالظا فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتى اصطلحا.

وقد روي أيضاً : أنه لمّا بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه‌الله. فقال عمّار بن ياسر : نعم ، فرحمه‌الله من كلّ أنفسنا. فقال عثمان : يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ يأتي تمام الحديث في ذكر مواقف عمّار.

ومن طريق ابن حراش الكعبي (٣) قال : وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعرٍ فقال : ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحقُّ لي صديقاً.

__________________

(١) في رواية الواقدي ، والمسعودي [في مروج الذهب ٢ / ٣٥٨] كما يأتي أنه قال : لسمعت رسول الله يقول : «إذا بلغ بنو أبي العاصّ ثلاثين رجلاً ...» الحديث. (المؤلف)

(٢) في لفظ الواقدي : قال عثمان : ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله؟ (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد ٤ / ٢٣٦ : عبد الله بن خراش الكعبي.


ومن طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : قلت لأبي ذرّ : ما أنزلك الربذة؟ قال : النصح لعثمان ومعاوية.

ومن طريق بشر بن حوشب الفزاري عن أبيه قال : كان أهلي بالشربّة (١) فجلبت غنماً لي إلى المدينة فمررت بالربذة وإذا بها شيخ أبيض الرأس واللحية. قلت : من هذا؟ قالوا : أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإذا هو في حِفش (٢) ومعه قطعة من غنم فقلت : والله ما هذا البلد بمحلّة لبني غفار. فقال : أُخرجت كارهاً. فقال بشر بن حوشب : فحدّثت بهذا الحديث سعيد بن المسيب فأنكر أن يكون عثمان أخرجه وقال : إنّما خرج أبو ذر إليها راغباً في سكناها (٣).

وأخرج البخاري في صحيحه (٤) من حديث زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فقلت لأبي ذر : ما أنزلك [منزلك] هذا؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال : نزلت في أهل الكتاب. فقلت : [نزلت] فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : اقدم المدينة. فقدمت فكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر [ت] ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحّيت فكنت قريباً. فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.

قال ابن حجر في فتح الباري (٥) في شرح الحديث : وفي رواية الطبري أنّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة

__________________

(١) الشربّة ـ بفتح أوّله وثانيه وتشديد الموحدة ـ : موضع بين السليلة والربذة في طريق مكة. (المؤلف)

(٢) الحفش ـ بكسر المهملة ـ : البيت الصغير ، أو هو من الشعر. (المؤلف)

(٣) أنظر إلى ابن المسيّب يكذّب أبا ذر لتبرير عثمان من تسييره ، ولا يكترث لاستلزامه تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيوافيك البحث عنه. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٢ / ٥٠٩ ح ١٣٤١. وما بين المعقوفات منه.

(٥) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.


ما خشيه معاوية على أهل الشام. وقال بعد قوله : إن شئت تنحّيت. في رواية الطبري : تنحّ قريباً. قال : والله لن أدع ما كنت أقوله. ولابن مردويه : لا أدع ما قلت.

وذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظ هذا نصُّه قال : إنّه حضر مجلس عثمان ذات يوم ، فقال عثمان : أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقّ لغيره؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين. فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له : كذبت يا ابن اليهوديّ ثمّ تلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) الآية (١)

فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب : لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا! فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي ، غيّب وجهك عنّي فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان : إنّ أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك. فكتب إليه عثمان بحمله ، فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، فقيل له : إنّك تموت من ذلك فقال : هيهات لن أموت حتى أُنفى ، وذكر جوامع ما نزل به بعدُ ومن يتولّى دفنه ، فأحسن إليه [عثمان] (٢) في داره أيّاماً ، ثمّ دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلّم بأشياء ، وذكر الخبر في ولد أبي العاص : «إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتّخذوا عباد الله خولاً». ومرّ في الخبر بطوله وتكلّم بكلام كثير ، وكان

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

(٢) من المصدر.


في ذلك اليوم قد أُتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال فنضت (١) البدر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم ، فقال عثمان : إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً لأنّه كان يتصدّق ويقري الضيف وترك ما ترون. فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين ، فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال : يا ابن اليهوديّ تقول لرجل مات وترك هذا المال إنّ الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما يسرُّني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً» فقال له عثمان : وارِ عنّي وجهك. فقال : أسير إلى مكة. قال لا والله. قال : فتمنعني من بيت ربّي أعبده فيه حتى أموت؟ قال : أي والله. قال : فإلى الشام. قال : لا والله. قال : البصرة. قال : لا والله فاختر غير هذه البلدان. قال : لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ، ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان ، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال : فإنّي مُسيّرك إلى الربذة. قال : الله أكبر صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرني بكلّ ما أنا لاقٍ. قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأنّي أُمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ، ويتولّى مواراتي نفر ممّن يردون من العراق نحو الحجاز. وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته وقيل ابنته ، وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة. فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسيّره عنها ، إذ طلع عليه عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ، فاعترض مروان فقال : يا عليّ إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه ، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد أعلمتك. فحمل عليه عليُّ بن أبي طالب بالسوط [وضرب] (٢) بين أُذني راحلته وقال : «تنحّ نحّاك الله إلى النار» ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف. فلمّا أراد الانصراف بكى أبو ذر وقال : رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن

__________________

(١) نضّت : أي ظهرت ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا من مروج الذهب : فنثرت.

(٢) من المصدر.


وولدك ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به عليُّ بن أبي طالب ، فقال عثمان : يا معشر المسلمين من يعذرني من عليّ؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له وفعل كذا والله لنعطينّه حقّه. فلمّا رجع عليّ استقبله الناس (١) فقالوا : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال عليّ : «غضب الخيل على اللجم» (٢). ثمّ جاء. فلمّا كان بالعشيّ جاء إلى عثمان فقال له : ما حملك على ما صنعت بمروان واجترأت عليّ ورددت رسولي وأمري؟ قال : «أمّا مروان فإنّه استقبلني يردُّني فرددته عن ردّي؟ وأمّا أمرك فلم أردُّه» قال عثمان : أوَلم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ فقال عليّ : «أوَكلّ ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة لله والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل». قال عثمان : أقد مروان. قال : «وما أقيده»؟ قال : ضربت بين أُذني راحلته (٣) قال عليّ : «أمّا راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأمّا أنا فو الله لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّا» قال عثمان : ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته ، فو الله ما أنت عندي بأفضل منه. فغضب عليّ بن أبي طالب وقال : «إليّ تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأُمّي أفضل من أُمّك ، وهذه نبلي قد نثلتها وهلمّ فأقبل بنبلك». فغضب عثمان واحمرّ وجهه فقام ودخل داره وانصرف عليّ فاجتمع إليه أهل بيته ورجال من المهاجرين والأنصار ، فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّا وقال : إنّه يعيبني ويظاهر من يعيبني

__________________

(١) هذه الجملة تعرب عن غيبة الإمام عليه‌السلام عن المدينة المشرّفة في تشييع أبي ذر أيّاماً وتقرّب ما قاله الأُستاذ عبد الحميد جودت السحّار المصري في كتابه الاشتراكي الزاهد : ص ١٩٢ : ومضى عليّ ورفقاؤه مع أبي ذر حتى بلغوا الربذة فنزلوا عن رواحلهم وجلسوا يتحدّثون. (المؤلف)

(٢) مجمع الأمثال : ٢ / ٤١٢ رقم ٢٦٦٢. مثل يضرب لمن يغضب غضباً لا ينتفع به ، واللُجم جمع لجام : الحديدة في فم الفرس.

(٣) في العبارة سقط يظهر في الجواب وسيأتي صحيحها بُعيد هذا إن شاء الله. (المؤلف)


يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما ، فدخل الناس بينهما ، وقال له عليّ : «والله ما أردت تشييع أبي ذرّ إلاّ الله».

وفي رواية الواقدي من طريق صهبان مولى الأسلميّين قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له : أنت الذي فعلت ما فعلت (١)؟ فقال له أبو ذر : نصحتك فاستغشتني ونصحت صاحبك فاستغشّني. فقال عثمان : كذبت ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها قد انغلت (٢) الشام علينا ، فقال له أبو ذر : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك؟ قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ؛ إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلّم عليّ عليه‌السلام وكان حاضراً وقال : أُشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٣) قال : فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أُحبّ ذكره وأجابه عليّ بمثله.

قال : ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلّموه ، فمكث كذلك أيّاماً ، ثمّ أمر أن يؤتى به فأُتي به ، فلمّا وقف بين يديه قال : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنّك لتبطش بي بطش جبار ، فقال : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك! فإلى أين أخرج؟ قال : حيث شئت. قال : فأخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال : إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ؛ أفأردُّك إليها؟ قال : فأخرج إلى العراق. قال : لا.

__________________

(١) في شرح النهج : فعلت وفعلت.

(٢) أنغل : أفسد.

(٣) غافر : ٢٨.


قال : ولِمَ؟ قال : تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأُمّة؟ قال : فأخرج إلى مصر. قال : لا. قال : فإلى أين أخرج؟ قال : حيث شئت. قال أبو ذر : فهو إذن التعرّب بعد الهجرة أأخرج إلى نجد؟ فقال عثمان : الشرف الأبعد أقصى فأقصى ، امض على وجهك هذا ولا تعدونّ الربذة فسر إليها. فخرج إليها.

وقال اليعقوبي : وبلغ عثمان أنّ أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجتمع إليه الناس فيحدّث بما فيه الطعن عليه ، وأنّه وقف بباب المسجد فقال : أيُّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الربذيّ ؛ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١). محمد الصفوة من نوح ، فالأوّل من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد ، إنّه شرُف شريفهم واستحقّوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة ، وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ، أو كالشجر الزيتونيّة أضاء زيتها وبورك زيدها (٢) ومحمد وارث علم آدم وما فضّلت به النبيّون. إلى أن قال :

وبلغ عثمان أنّ أبا ذر يقع فيه ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنن أبي بكر وعمر فسيّره إلى الشام إلى معاوية ، وكان يجلس في المجلس (٣) فيقول كما كان يقول ، ويجتمع إليه الناس حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه ، وكان يقف على باب دمشق إذا صلّى صلاة الصبح فيقول : جاءت القطار تحمل النار ، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له ؛ ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له. فقال :

وكتب معاوية إلى عثمان : إنّك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر. فكتب

__________________

(١) آل عمران : ٣٣ و ٣٤.

(٢) ولعلّ الصحيح زندها ، كما في بعض المصادر [وفي الطبعة المعتمدة لدينا : زبدها]. (المؤلف)

(٣) في المصدر : في المسجد.


إليه أن احمله على قتب بغير وطاء ، فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه ، فلمّا دخل إليه وعنده جماعة قال : بلغني أنّك تقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا كملت بنو أميّة ثلاثين رجلاً اتّخذوا بلاد الله دولا ؛ وعباد الله خولا ؛ ودين الله دغلا» ، فقال : نعم سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم : أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟ فبعث إلى عليّ بن أبي طالب فأتاه فقال : يا أبا الحسن أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقصّ عليه الخبر فقال عليّ «نعم». فقال : فكيف تشهد؟ قال : «لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر». فلم يقم بالمدينة إلاّ أيّاماً حتى أرسل إليه عثمان : والله لتخرجنّ عنها ، قال : أتُخرجني من حرم رسول الله؟ قال : نعم وأنفك راغم ، قال : فإلى مكة؟ قال : لا. قال : فإلى البصرة؟ قال : لا. قال : فإلى الكوفة؟ قال : لا. ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها. يا مروان أخرجه ولا تدع أحداً يكلّمه حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته ، فخرج عليّ والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ينظرون ، فلمّا رأى أبو ذر عليّا قام إليه فقبّل يده ثمّ بكى وقال : إنّي إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي. فذهب عليّ يكلّمه ؛ فقال مروان : إنّ أمير المؤمنين قد نهى أن يكلّمه أحد. فرفع عليّ السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال : «تنحّ نحّاك الله إلى النار». ثمّ شيّعه وكلّمه بكلام يطول شرحه ، وتكلّم كلُّ رجل من القوم وانصرفوا وانصرف مروان إلى عثمان ، فجرى بينه وبين عليّ في هذا بعض الوحشة وتلاحيا كلاماً.

وأخرج ابن سعد من طريق الأحنف بن قيس قال : أتيت المدينة ثمّ أتيت الشام فجمّعت (١) فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلاّ خرّ أهلها يصلّي ويخفُّ صلاته. قال : فجلست إليه فقلت له : يا عبد الله من أنت؟ قال : أنا أبو ذر. فقال لي :

__________________

(١) أي : حضرت الجمعة.


فأنت من أنت؟ قال : قلت : أنا الأحنف بن قيس. قال : قم عنّي لا أعدك بشرّ. فقلت له : كيف تعدني بشرّ؟ قال : إنّ هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه ألاّ يجالسني أحد.

وأخرج أبو يعلى من طريق ابن عبّاس قال : استأذن أبو ذر عثمان فقال : إنّه يؤذينا ، فلمّا دخل قال له عثمان : أنت الذي تزعم أنّك خير من أبي بكر وعمر؟ قال : لا ، ولكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منّي من بقي على العهد الذي عاهدته عليه وأنا باقٍ على عهده» (١) قال : فأمره أن يلحق بالشام ، وكان يحدّثهم ويقول : لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم إلاّ ما ينفقه في سبيل الله أو يعدُّه لغريم. فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر. فكتب إليه عثمان : أن اقدم عليّ فقدم.

راجع (٢) : الأنساب (٥ / ٥٢ ـ ٥٤) ، صحيح البخاري في كتابي الزكاة والتفسير ، طبقات ابن سعد (٤ / ١٦٨) ، مروج الذهب (١ / ٤٣٨) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٤٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٢٤٠ ـ ٢٤٢) ، فتح الباري (٣ / ٢١٣) ، عمدة القاري (٤ / ٢٩١).

كلمة أمير المؤمنين

لمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة

«يا أبا ذر إنّك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم من الرابح غداً ، والأكثر

__________________

(١) حديث العهد أخرجه أحمد في مسنده [١ / ٣٢١ ح ١٦٩٨]. (المؤلف) [والعيني في عمدة القاري : ٨ / ٢٦٢]

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٠٩ ح ١٣٤١ ، ٤ / ١٧١١ ح ٤٣٨٣ ، الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٩ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٥٧ ـ ٣٦٠ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٧١ ـ ١٧٢ ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ٥٢ ـ ٥٩ خطبة ٤٣ ، فتح الباري : ٣ / ٢٧٤ ، عمدة القاري : ٨ / ٢٦٢ ح ١١.


حسداً ، ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً ، لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضتَ منها لأمّنوك» (١).

ذكر ابن أبي الحديد في الشرح (٢) (٢ / ٣٧٥ ـ ٣٨٧) تفصيل قصّة أبي ذر ورآه مشهوراً متضافراً ، وإليك نصّه قال :

واقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان ، وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة (٣) عن عبد الرزاق ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس : أن لا يكلّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه ، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به ، وتحاماه الناس إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً عليهما‌السلام وعمّاراً ، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه ، فجعل الحسن عليه‌السلام يكلّم أبا ذر ، فقال له مروان : إيهاً يا حسن ألا تعلم أنّ أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك. فحمل عليّ عليه‌السلام على مروان فضرب بالسوط بين أُذني راحلته وقال : «تنحّ نحّاك الله إلى النار». فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظّى على عليّ عليه‌السلام ، ووقف أبو ذر فودّعه القوم ومعه ذكوان مولى أُم هاني بنت أبي طالب ، قال ذكوان : فحفظت كلام القوم ـ وكان حافظاً ـ فقال عليّ عليه‌السلام :

«يا أبا ذر إنّك غضبت لله ، إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا ، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رتقاً ثمّ

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٢٤٧ [ص ١٨٨ خطبة ١٣٠ وقرَضت منها : قطعت منها جزءاً]. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ٨ / ٢٥٢ ـ ٢٦٢ خطبة ١٣٠.

(٣) السقيفة وفدك : ص ٧٨ ـ ٨١.


اتّقى الله لجعل له منها مخرجاً ؛ يا أبا ذر لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل».

ثمّ قال لأصحابه : «ودّعوا عمّكم». وقال لعقيل : «ودّع أخاك» ، فتكلّم عقيل فقال : ما عسى ما نقول يا أبا ذر؟ وأنت تعلم أنّا نحبّك وأنت تحبّنا ، فاتّق الله فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصبر كرم ، واعلم أنّ استثقالك الصبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع.

ثمّ تكلّم الحسن فقال : «يا عمّاه لو لا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف ، وقد أتى من القوم إليك (١) ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنك راضٍ».

ثمّ تكلّم الحسين عليه‌السلام فقال : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، والله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصبر من الدين والكرم ، وإنّ الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً».

ثمّ تكلّم عمّار مغضباً فقال : لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك. أما والله لو أردت دنياهم لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين.

__________________

(١) في المصدر : وقد أتى القوم إليك.


فبكى أبو ذر رحمه‌الله ـ وكان شيخاً كبيراً ـ وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلتُ على عثمان بالحجاز كما ثقلتُ على معاوية بالشام ، وكره أن أُجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (١) فأفسد الناس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله ما أُريد إلاّ الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة.

ورجع القوم إلى المدينة فجاء عليّ عليه‌السلام إلى عثمان فقال له : ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال عليّ عليه‌السلام : «أمّا رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددته ، وأمّا أمرك فلم أصغّره» ، قال : أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال : «أوَ كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟» قال عثمان : أقد مروان من نفسك. قال : «مِمّ ذا؟» قال : من شتمه وجذب راحلته. قال : «أمّا راحلته فراحلتي بها ، وأمّا شتمه إيّاي فو الله لا يشتمني شتمة إلاّ شتمتك مثلها لا أكذب عليك». فغضب عثمان وقال : لِمَ لا يشتمك؟ كأنّك خير منه؟ قال عليّ : «إي والله ومنك». ثمّ قام فخرج ، فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أُميّة يشكو إليهم عليّا عليه‌السلام ، فقال القوم : أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل. قال : وددت ذاك. فأتوا عليّا عليه‌السلام فقالوا : لو اعتذرت إلى مروان وأتيته. فقال : «كلاّ أمّا مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ، ولكن إن أحبّ عثمان أتيته». فرجعوا إلى عثمان فأخبروه ، فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم ، فتكلّم عليّ عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أمّا ما وجدت عليّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فو الله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقّه. وأمّا مروان فإنّه اعترض يريد ردّي عن قضاء حقّ الله عزّ وجلّ فرددته ، ردّ مثلي مثله ، وأمّا ما كان منّي إليك فإنّك أغضبتني فأخرج الغضب منّي ما لم أرده».

__________________

(١) يعني مصر والبصرة ، كان والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة ، وكان على البصرة عبد الله بن عامر ابن خاله كما مرّ : ص ٢٩٠. (المؤلف)


فتكلّم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا ما كان منك إليّ فقد وهبته لك ، وأمّا ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك ، وأمّا ما حلفت عليه فأنت البرُّ الصادق ، فأدنِ يدك. فأخذ يده فضمّها إلى صدره ، فلمّا نهض قالت قريش وبنو أُميّة لمروان : أأنت رجل جبهك عليُّ وضرب راحلتك؟ وقد تفانت وائل في ضرع ناقة ، وذبيان وعبس في لطمة فرس ، والأوس والخزرج في نسعة (١) أفتحمل لعليّ عليه‌السلام ما أتاه إليك؟ فقال مروان : والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.

فقال ابن أبي الحديد (٢) : واعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل أنّ عثمان نفى أبا ذر أوّلاً إلى الشام ثمّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية ، ثمّ نفاه من المدينة إلى الربذة لمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام.

أصل هذه الواقعة : أنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع : بشّر الكانزين (٣) بعذاب أليم ، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت. ثمّ إنّه أرسل إليه مولى من مواليه أن انتهِ عمّا بلغني عنك ، فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى ، وعيب من ترك أمر الله تعالى؟ فو الله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضا عثمان ، فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وتماسك ، إلى أن قال عثمان يوماً والناس حوله : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك. فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال

__________________

(١) النسعة ـ بكسر النون ـ : حبل عريض طويل تشدّ به الرحال. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ٨ / ٢٥٥ خطبة ١٣٠.

(٣) في النسخة : الكافرين. والصحيح كما مرّ عن البلاذري [في الأنساب : ٥ / ٥٢]. (المؤلف)


عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي ، الحق بالشام. فأخرجه إليها ، فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمائة دينار ، فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها. وردّها عليه. ثمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر : يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهي الإسراف ، وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله إنّي لأرى حقّا يُطفأ ، وباطلاً يُحيا ، وصادقاً مكذّباً ، وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية : إنّ أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة.

وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانيّة عن جلام بن جندل الغفاري قال : كنت غلاماً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان ، فجئت إليه يوماً أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار تحمل النار ، اللهمّ العن الآمرين بالمعروف والتاركين له ، اللهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرّ (١) معاوية وتغيّر لونه وقال : يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت : اللهمّ لا. قال : من عَذيري من جندب بن جنادة يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ، ثمّ قال : ادخلوه عليّ ، فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية : يا عدوّ الله وعدوّ رسوله تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع ، أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكنّي أستأذن فيك. قال جلام : وكنت أُحبُّ أن أرى أبا ذر لأنّه رجل من قومي ، فالتفتّ إليه فإذا رجل أسمر ضرب (٢) من الرجال خفيف العارضين في ظهره

__________________

(١) ازبأرّ الرجل ازبئراراً : تهيّأ للشرّ. (المؤلف)

(٢) الضرب : الرجل الماضي الندب. (المؤلف)


حناء (١) ، فأقبل على معاوية وقال : ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا عليك مرّات أن لا تشبع ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا ولي الأُمّة الأَعْيَن (٢) الواسع البلعوم الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأُمّة حذرها منه» (٣). فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمعته يقول وقد مررت به : «اللهمّ العنه ولا تشبعه إلاّ بالتراب». وسمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «است معاوية في النار». فضحك معاوية وأمر بحبسه ، وكتب إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أن احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجّه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلاّ قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.

فلمّا قدم بعث إليه عثمان : الحق بأيّ أرض شئت قال : بمكة؟ قال : لا. قال : بيت المقدس؟ قال : لا. قال : بأحد المصرين؟ قال : لا ، ولكني مسيّرك إلى الربذة ، فسيّره إليها ، فلم يزل بها حتى مات.

وفي رواية الواقدي : أنّ أبا ذر لمّا دخل على عثمان قال له :

لا أنعمَ اللهُ بقَينٍ عينا

نعم ولا لقّاه يوماً زينا

تحيّة السخط إذا التقينا

__________________

(١) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا : في ظهره جنأ. والجنأ : إشراف الكاهل على الصدر.

(٢) في لفظ الحديث سقط كما لا يخفى [والأَعْيَن هو واسع العين ، ويبدو أن سياق الحديث متماسك]. (المؤلف)

(٣) وفي حديث عليّ عليه‌السلام : «لا يذهب أمر هذه الأُمّة إلاّ على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم» ذكره ابن الأثير في النهاية : ١ / ١١٢ [٢ / ٣٦٢] ، لسان العرب : ١٤ / ٣٢٢ [٦ / ٢٤٨] ، تاج العروس : ٨ / ٢٠٦. (المؤلف)


فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي قيناً قطُّ. وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عيناً يا جنيدب. فقال أبو ذر : أنا جندب وسمّاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي سمّاني به على اسمي ، فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنّا نقول : يد الله مغلولة وأنّ الله فقير ونحن أغنياء؟ فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكنّي أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلاً». فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا : لا. قال عثمان : ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أنّي صدقت؟ قالوا : لا والله ما ندري. فقال عثمان : ادعوا لي عليّا. فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذر : اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص. فأعاده ، فقال عثمان لعليّ عليه‌السلام : أسمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : «لا وقد صدق أبو ذر» فقال : كيف عرفت صدقه؟ قال : لأنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» فقال من حضر : أمّا هذا فسمعناه كلّنا من رسول الله. فقال أبو ذر : أحدّثكم أنّي سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتتّهمونني؟ ما كنت أظنُّ أنّي أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين ، قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له : أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر : نصحتك فاستغشتني ونصحت صاحبك فاستغشّني. قال عثمان : كذبت ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها وقد أنغلت الشام علينا. قال له أبو ذر : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. فقال عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك؟ قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلّم عليّ عليه‌السلام وكان حاضراً فقال : «أُشير عليك بما


قال مؤمن آل فرعون : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). فأجابه عثمان بجواب غليظ وأجابه عليّ عليه‌السلام بمثله ولم نذكر الجوابين تذمّماً منهما.

قال الواقدي : ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلّموه فمكث كذلك أيّاماً ثمّ أُتي به فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل هديك كهديهم؟ أما إنّك لتبطش بي بطش جبّار. فقال عثمان : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك! فإلى أين أخرج؟ قال : حيث شئت. قال : أخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال : إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ، أفأردّك إليها؟ قال : أفأخرج إلى العراق؟ قال : لا إنّك إن تخرج إليها تقدم على قوم أُولي شقّة (١) وطعن على الأئمّة والولاة. قال : أفأخرج إلى مصر؟ قال : لا ، قال : فإلى أين أخرج؟ قال : إلى البادية. قال أبو ذر : أصير بعد الهجرة أعرابيّا؟ قال : نعم. قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان : بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى ، امض على وجهك هذا فلا تَعدُوَنّ الربذة ، فخرج إليها.

وروى الواقدي أيضاً عن مالك بن أبي الرجال ، عن موسى بن ميسرة : أنّ أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أُحبُّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة ، فجئته فقلت له : ألا تخبرني : أخرجت من المدينة طائعاً أم أُخرجت كرهاً؟ فقال : كنت في ثغرٍ من ثغور المسلمين أغني عنهم فأُخرجت إلى المدينة ، فقلت : دار هجرتي وأصحابي ، فأُخرجت من المدينة إلى ما ترى ، ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ مرّ بي عليه‌السلام فضربني برجله وقال : «لا أراك نائماً في المسجد» فقلت : بأبي أنت وأُمّي غلبتني عيني

__________________

(١) في شرح النهج : أُولي شُبَه.


فنمت فيه. قال : «فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟» قلت : إذاً ألحق بالشام فإنّها أرض مقدّسة وأرض الجهاد. قال : «فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟» قلت : أرجع إلى المسجد قال : «فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟» قلت : آخذ سيفي فأضربهم به ، فقال : «ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ انسَق (١) معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع». فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأُطيع ، والله ليلقينّ الله عثمان وهو آثم في جنبي.

ثمّ ذكر ابن أبي الحديد الخلاف في أمر أبي ذر ، وحكى عن أبي علي حديث البخاري الذي أسلفناه (ص ٢٩٥) فقال : ونحن نقول : هذه الأخبار وإن كانت قد رويت لكنّها ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الأخبار ، والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان وحسن الظنّ بفعله : إنّه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنّه أنّ إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب وأقطع لأطماع من يشرئبُّ إلى شقّ العصا ، فأخرجه مراعاةً للمصلحة ومثل ذلك يجوز للإمام ، هكذا يقول أصحابنا المعتزلة وهو الأليق بمكارم الأخلاق ، فقد قال الشاعر :

إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلّةٌ

فكن أنت محتالاً لزلّته عذرا

وإنّما يتأوّل أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان ، فأمّا من لم يحتمل حاله التأويل وإن كانت له صحبة سالفة كمعاوية وأضرابه فإنّهم لا يتأوّلون لهم ، إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها ولا تقبل العلاج والإصلاح. انتهى.

من المستصعب جدّا التفكيك بين الخليفتين وبين أعمالهم ، فأنّهما من شجرةٍ واحدة ، وهما في العمل صنوان ، لا يشذّ أحدهما عن الآخر ، فتربّص حتى حين ، وسنوقفك على جليّة الحال.

__________________

(١) فعل أمر من : إنساق ينساق.


هلمّ معي إلى نظارة التنقيب

قال الأميني : هل تعرف موقف أبي ذر الغفاري من الإيمان ، وثباته على المبدأ ، ومحلّه من الفضل ، ومبلغه من العلم ، ومقامه من الصدق ، ومُبوّأه من الزهد ، ومُرتقاه من العظمة ، وخشونته في ذات الله ، ومكانته عند صاحب الرسالة الخاتمة؟ فإن كنت لا تعرف فإلى الملتقى.

تعبّده قبل البعثة ، سبقه في الإسلام ، ثباته على المبدأ

١ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات (١) (٤ / ١٦١) من طريق عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : صلّيت قبل الإسلام قبل أن ألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث سنين. فقلت : لمن؟ قال : لله. فقلت : أين توجّه (٢)؟ قال : أتوجّه حيث يوجّهني الله.

وأخرج من طريق أبي معشر نجيح قال : كان أبو ذر يتألّه في الجاهليّة ويقول : لا إله إلاّ الله ، ولا يعبد الأصنام ، فمرّ عليه رجل من أهل مكة بعد ما أُوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا أبا ذر إنّ رجلاً بمكة يقول مثل ما تقول : لا إله إلاّ الله. ويزعم أنّه نبيّ. وذكر حديث إسلامه (٣) (ص ١٦٤).

وفي صحيح مسلم في المناقب (٤) (٧ / ١٥٣) ، بلفظ ابن سعد الأوّل ، وفي (ص ١٥٥) بلفظ : صلّيت سنتين قبل مبعث النبيّ ، قال : قلت : فأين كنت توجّه؟ قال : حيث وجّهني الله.

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٠. وفيه : صلّيت يا ابن أخي قبل أن ...

(٢) فعل مضارع للمفرد المخاطب ، وأصله : تتوجه ، فحذفت تاء المضارعة للتخفيف.

(٣) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٤) صحيح مسلم : ٥ / ٧٢ ح ١٣٢ كتاب فضائل الصحابة ص ٧٦.


وفي لفظ أبي نعيم في الحلية (١ / ١٥٧) : يا ابن أخي صلّيت قبل الإسلام بأربع سنين. وذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة (١) (١ / ٢٣٨).

وفي حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٢١٨) : أخذ أبو بكر بيد أبي ذر وقال : يا أبا ذر هل كنت تتألّه في جاهليّتك؟ قال : نعم ، لقد رأيتني أقوم عند الشمس ، فما أزال مصلّياً حتى يؤذيني حرّها فأخرّ كأنّي خفاء ، فقال : فأين كنت تتوجّه؟ قال : لا أدري إلاّ حيث وجّهني الله.

٢ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات (٣) (٤ / ١٦١) من طريق أبي ذر قال : كنت في الإسلام خامساً. وفي لفظ أبي عمر وابن الأثير : أسلم بعد أربعة. وفي لفظ آخر : يقال : أسلم بعد ثلاثة. ويقال : بعد أربعة. وفي لفظ الحاكم : كنت ربع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع. وفي لفظ أبي نعيم : كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع. وفي لفظ المناوي : أنا رابع الإسلام. وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري : كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً.

راجع (٤) : حلية الأولياء (١ / ١٥٧) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٤٢) الاستيعاب (١ / ٨٣ و ٢ / ٦٦٤) ، أُسد الغابة (٥ / ١٨٦) ، شرح الجامع الصغير للمناوي (٥ / ٤٢٣) ، الإصابة (٤ / ٦٣).

٣ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات (٥) (٤ / ١٦١) من طريق أبي ذر قال : كنت أوّل

__________________

(١) صفة الصفوة : ١ / ٥٨٥ رقم ٦٤. وفيه : قبل أن القى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاث سنين.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٢٧ رقم ٣٠٧٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٥١.

(٣) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٤.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٥٩ ، الاستيعاب : القسم الأول / ٢٥٢ رقم ٣٣٩ ، والقسم الرابع / ١٦٥٣ رقم ٢٩٤٤ ، أُسد الغابة : ١ / ٣٥٧ رقم ٨٠٠.

(٥) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢١.


من حيّاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحيّة الإسلام فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : وعليك ورحمة الله. وفي لفظ أبي نعيم : انتهيت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قضى صلاته ، فقلت : السلام عليك ، فقال : «وعليك السلام».

وأخرجه مسلم في المناقب من الصحيح (١) (٧ / ١٥٤ ، ١٥٥) ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٥٩) ، وأبو عمر في الاستيعاب (٢) (٢ / ٦٦٤).

٤ ـ أخرج ابن سعد والشيخان في الصحيحين من طريق ابن عبّاس واللفظ للأوّل قال : لمّا بلغه أنّ رجلاً خرج بمكة يزعم أنّه نبي أرسل أخاه فقال : اذهب فائتني بخبر هذا الرجل وبما تسمع منه. فانطلق الرجل حتى أتى مكة فسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إلى أبي ذر ، فأخبره أنّه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق. فقال أبو ذر : ما شفيتني. فخرج أبو ذر ومعه شنّة (٣) فيها ماؤه وزاده حتى أتى مكة ، ففرق أن يسأل أحداً عن شيء ولمّا يلقَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأدركه الليل فبات في ناحية المسجد ، فلمّا أعتَمَ (٤) مرّ به عليّ فقال : ممّن الرجل؟ قال : رجل من بني غفار. قال : قم إلى منزلك. قال : فانطلق به إلى منزله ، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. وغدا أبو ذر يطلب ، فلم يَلقَه وكره أن يسأل أحداً عنه ، فعاد فنام حتى أمسى ، فمرّ به عليّ فقال : أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ فانطلق به فبات حتى أصبح لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ، فأصبح اليوم الثالث فأخذ على عليّ لئن أفشى إليه الذي يريد ليكتمنّ عليه وليسترنه ، ففعل فأخبره أنّه بلغه خروج هذا الرجل يزعم أنّه نبيّ ، فأرسلت أخي ليأتيني بخبره وبما سمع منه ، فلم يأتني بما يشفيني من حديثه ، فجئت بنفسي لألقاه ، فقال له عليّ : إنّي غادٍ فاتّبع أثري ، فإنّي إن

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٧٤ ، ٧٦ ح ١٣٢ كتاب فضائل الصحابة.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٥٤ رقم ٢٩٤٤.

(٣) الشنّة : الخَلَقُ من كل آنية صُنعت من جلد.

(٤) من العتمة : وهي دخول الليل.


رأيتُ ما أخاف عليك اعتللتُ بالقيام كأنّي أُهريق الماء فآتيك ، وإن لم أرَ أحداً فاتّبع أثري حتى تدخل حيث أدخل. ففعل حتى دخل على أثر عليّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر وسمع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلم من ساعته ، ثمّ قال : يا نبيّ الله ما تأمرني؟ قال : «ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري» قال : فقال له : والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد. قال : فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فقال المشركون : صبأ الرجل ، صبأ الرجل ، فضربوه حتى صرع ، فأتاه العبّاس فأكبّ عليه وقال : قتلتم الرجل ، يا معشر قريش أنتم تجّار وطريقكم على غفار فتريدون أن يقطع الطريق؟ فأمسكوا عنه. ثمّ عاد اليوم الثاني فصنع مثل ذلك ثمّ ضربوه حتى صُرع ، فأكبّ عليه العباس وقال لهم مثل ما قال في أوّل مرّة ، فأمسكوا عنه.

وذكر ابن سعد في حديث إسلامه : ضربه لإسلامه فتية من قريش فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أمّا قريش فلا أدعهم حتى أثأر منهم ، ضربوني. فخرج حتى أقام بعُسفان ، وكلّما أقبلت عِير لقريش يحملون الطعام ينفّر بهم على ثنيّة غزال (١) فتلقّى أحمالها فجمعوا الحِنَط (٢). فقال لقومه : لا يمسُّ أحد حبّة حتى تقولوا : لا إله إلا الله. فيقولون لا إله إلاّ الله ، ويأخذون الغرائر.

راجع (٣) طبقات ابن سعد (٤ / ١٦٥ ، ١٦٦) ، صحيح البخاري كتاب المناقب باب إسلام أبي ذر (٦ / ٢٤) ، صحيح مسلم كتاب المناقب (٧ / ١٥٦) ، دلائل النبوّة لأبي نعيم (٢ / ٨٦) ، حلية الأولياء له (١ / ١٥٩) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٣٨) ، الاستيعاب (٢ / ٦٦٤).

__________________

(١) بينها وبين الجحفة ثلاثة أودية.

(٢) الحِنَط : جمع حنطة.

(٣) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٥ ، صحيح البخاري : ٣ / ١٢٩٤ ح ٣٣٢٨ ، صحيح مسلم : ٥ / ٧٦ ح ١٣٢ ، دلائل النبوة : ١ / ٣٣٦ ح ١٩٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٢ ح ٥٤٥٦ ، الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٥٣ رقم ٢٩٤٤.


وأخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ١٥٨) من طريق ابن عبّاس عن أبي ذر ، قال : أقمت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة فعلّمني الإسلام وقرأت من القرآن شيئاً ، فقلت : يا رسول الله إنّي أُريد أن أُظهر ديني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي أخاف عليك أن تُقتل». قلت : لا بد منه وإن قُتلت. قال : فسكت عنّي ، فجئت وقريش حلق يتحدّثون في المسجد ، فقلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله. فانتقضت الحلق ، فقاموا فضربوني حتى تركوني كأنّي نصب أحمر ، وكانوا يرون أنّهم قد قتلوني. فأفقت فجئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى ما بي من الحال فقال لي : «ألم أنهك؟» فقلت : يا رسول الله كانت حاجة في نفسي فقضيتها ، فأقمت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «الحق بقومك فإذا بلغك ظهوري فأتِني».

وأخرج من طريق عبد الله بن الصامت قال : قال لي أبو ذر رضى الله عنه : قدمت مكة فقلت : أين الصابئ؟ فقالوا : الصابئ الصابئ. فأقبلوا يرمونني بكلّ عظم وحجر حتى تركوني مثل النصب الأحمر.

وأخرجه أحمد في المسند (١) (٥ / ١٧٤) بصورة مفصّلة ، ومسلم في المناقب (٢) ، والطبراني (٣) كما في مجمع الزوائد (٩ / ٣٢٨).

حديث علمه :

١ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٤) (٥ / ١٧٠) طبع ليدن من طريق زاذان سُئل عليّ عن أبي ذر فقال : «وعى علماً عجز فيه ، وكان شحيحاً حريصاً ، [شحيحاً] على دينه ، حريصاً على العلم ، وكان يكثر السؤال فيُعطى ويُمنَع ، أما أن قد

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٢١ ح ٢١٠١٥.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٧٢ ح ١٣٢.

(٣) المعجم الأوسط : ٣ / ٣٦٧ ح ٢٧٨٥.

(٤) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٣٢. وما بين المعقوفين منه.


ملئ له في وعائه حتى امتلأ».

وقال أبو عمر : روى عنه جماعة من الصحابة وكان من أوعية العلم المبرّزين في الزهد والورع والقول بالحقّ ، سُئل عليّ عن أبي ذر فقال : «ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس ، ثمّ أوكأ فيه فلم يُخرج شيئاً منه». الاستيعاب (١) (١ / ٨٣ و ٢ / ٦٦٤).

وحديث عليّ عليه‌السلام ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٢) (٥ / ١٨٦) ، والمناوي في شرح الجامع الصغير (٥ / ٤٢٣) ولفظه : «وعاء ملئ علماً ثمّ أوكأ عليه» ، وابن حجر في الإصابة (٤ / ٦٤) وقال : أخرجه أبو داود بسند جيّد.

٢ ـ أخرج (٣) المحاملي في أماليه والطبراني من طريق أبي ذر قال : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ممّا صبّه جبرئيل وميكائيل في صدره إلاّ وقد صبّه في صدري. الحديث. مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) ، الإصابة (٣ / ٤٨٤).

قال أبو نعيم في الحلية (١ / ١٥٦) : العابد الزهيد ، القانت الوحيد ، رابع الإسلام ورافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام ، تعبّد قبل الدعوة بالشهور والأعوام ، وأوّل من حيّا الرسول بتحيّة الإسلام ، لم يكن تأخذه في الحقّ لائمة اللوّام ، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكّام ، أوّل من تكلّم في علم البقاء والفناء (٤) ، وثبت على المشقّة والعناء ، وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المحن والرزايا ، واعتزل مخالطة البرايا ، إلى أن حلّ بساحة المنايا ؛ أبو ذر الغفار يرضى الله عنه. خدم الرسول ، وتعلّم الأُصول ، ونبذ الفضول.

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الاول / ٢٥٥ رقم ٣٣٩ ، والقسم الرابع / ١٦٥٥ رقم ٢٩٤٤. وفيه : ثم أوكأ عليه.

(٢) أُسد الغابة : ٦ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.

(٣) أمالي المحاملي : ص ١٠٠ ـ ١٠١ ح ٦٠ ، المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٤.

(٤) هذه الكلمة غير موجودة في المصدر.


وفي (ص ١٦٩) : قال الشيخ رحمه‌الله تعالى : كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازماً وجليساً ، وعلى مساءلته والاقتباس منه حريصاً ، وللقيام على ما استفاد منه أنيساً ، سأله عن الأُصول والفروع ، وسأله عن الإيمان والإحسان ، وسأله عن رؤية ربّه تعالى ، وسأله عن أحبّ الكلام إلى الله تعالى ، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء أم تبقى؟ وسأله عن كلّ شيء حتى [عن] (١) مسّ الحصى في الصلاة. ثمّ أخرج من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ شيء حتى سألته عن مسّ الحصى. فقال : «مسّه مرّة أودع».

وأخرج أحمد في المسند (٢) (٥ / ١٦٣) عن أبي ذر قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ شيء حتى سألته عن مسح الحصى فقال : «واحدة أو دع».

وقال ابن حجر في الإصابة (٤ / ٦٤) : كان يوازي ابن مسعود في العلم.

حديث صدقه وزهده :

١ ـ أخرج ابن سعد والترمذي من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبي الدرداء مرفوعاً : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر».

وأخرج الترمذي بلفظ : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، شبه عيسى بن مريم». فقال عمر بن الخطّاب كالحاسد : يا رسول الله أفنعرّف ذلك له؟ قال : «نعم فاعرفوه له».

وفي لفظ الحاكم : «ما تقلُّ الغبراء ولا تظلُّ الخضراء من ذي لهجة أصدق

__________________

(١) من الحلية.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٢٠٥ ح ٢٠٩٣٥.


ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم». فقام عمر بن الخطّاب فقال : يا رسول الله فنعرف ذلك له؟ قال : «نعم فاعرفوه له».

وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبد الله بن عمرو : «ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيّين أصدق من أبي ذر».

وفي لفظ أبي نعيم من طريق أبي ذر : «ما تظلُّ الخضراء ولا تقلُّ الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر شبيه ابن مريم».

وفي لفظ ابن سعد من طريق أبي هريرة : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر».

وفي لفظ لأبي نعيم : «أشبه الناس بعيسى نسكاً وزهداً وبرّا».

وفي لفظٍ من طريق الهجنع بن قيس : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ثمّ رجل بعدي ، من سرّه أن ينظر إلى عيسى بن مريم زهداً وسمتاً فلينظر إلى أبي ذر».

وفي لفظٍ من طريق عليّ عليه‌السلام : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، يطلب شيئاً من الزهد عجز عنه الناس».

وفي لفظٍ من طريق أبي هريرة : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ؛ فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم هدياً وبرّا ونسكاً فعليكم به».

وفي لفظٍ من طريق أبي الدرداء : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».

وفي لفظ ابن سعد من طريق مالك بن دينار : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت


الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر».

أخرجه على اختلاف ألفاظه : ابن سعد ، الترمذي ، ابن ماجة ، أحمد ، ابن أبي شيبة (١) ، ابن جرير (٢) ، أبو عمر ، أبو نعيم ، البغوي ، الحاكم ، ابن عساكر (٣) الطبراني (٤) ، ابن الجوزي.

راجع طبقات ابن سعد (٥) (٤ / ١٦٧ ، ١٦٨) طبع ليدن ، صحيح الترمذي (٢ / ٢٢١) ، سنن ابن ماجة (١ / ٦٨) ، مسند أحمد (٢ / ١٦٣ ، ١٧٥ ، ٢٢٣ و ٥ / ١٩٧ و ٦ / ٤٤٢) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٣٤٢) صحّحه وأقرّه الذهبي ، و (٤ / ٤٨٠) صحّحه أيضاً وأقرّه الذهبي ، مصابيح السنّة (٢ / ٢٢٨) ، صفة الصفوة (١ / ٢٤٠) ، الاستيعاب (١ / ٨٤) ، تمييز الطيّب لابن الدّيبع (ص ١٣٧) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٢٩) ، الإصابة لابن حجر (٣ / ٦٢٢ و ٤ / ٦٤) ، الجامع الصغير للسيوطي من عدّة طرق ، شرح الجامع الصغير للمناوي (٥ / ٤٢٣) فقال : قال الذهبي : سنده جيّد وقال الهيثمي : رجال أحمد وُثّقوا وفي بعضهم خلاف ، كنز العمّال (٦ / ١٦٩ و ٨ / ١٥ ـ ١٧).

__________________

) مصنّف ابن أبي شيبة : ١٢ / ١٢٤ ح ٢٣١٥ ـ ٢٣١٧.

(٢) تهذيب الآثار : ص ١٥٨ ح ١٨ من مسند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

) مختصر تاريخ دمشق : ٢٨ / ٢٩٠.

) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٥.

) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٨ ، سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٨ ح ٣٨٠١ ـ ٣٨٠٢ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٥ ح ١٥٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٤٧ ح ٦٤٨٣ ، ص ٣٦٦ ح ٦٥٩٣ ، ص ٤٤٦ ح ٧٠٣٨ و ٦ / ٢٥٥ ح ٢١٢١٧ و ٧ / ٥٩٥ ح ٢٦٩٤٧ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٦٠ و ٤ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ح ٨٤٧٨ وكذا في تلخيصه ، مصابيح السنّة : ٤ / ٢٢٠ ح ٤٨٩٧ ، ص ٢٢١ ح ٤٨٩٨ ، صفة الصفوة : ١ / ٥٩٠ رقم ٦٤ ، الاستيعاب : القسم الأول / ٢٥٥ رقم ٣٣٩ ، تمييز الطيّب من الخبيث : ص ١٥٩ ح ١١٧٣ ، الجامع الصغير : ٢ / ٤٨٥ ح ٧٨٢٥ ، كنز العمّال : ١١ / ٦٦٦ ـ ٦٦٨ ح ٣٣٢٢١ ـ ٣٣٢٢٢ ، ٣٣٢٢٥ ـ ٣٣٢٢٩ و ١٣ / ٣١٦ ح ٣٦٨٩٨.


٢ ـ أخرج الترمذي في صحيحه (١) (٢ / ٢٢١) مرفوعاً : «أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه‌السلام».

وفي لفظ أبي عمر في الاستيعاب (٢ / ٦٦٤): «أبو ذر في أُمّتي على زهد عيسى ابن مريم» وفي (١ / ٨٤) : «أبو ذر في أُمّتي شبيه عيسى بن مريم في زهده». وبلفظ : «من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر» (٢).

وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٣) (٥ / ١٨٦) بلفظ أبي عمر الأوّل.

٣ ـ أخرج الطبراني مرفوعاً : «من أحبّ أن ينظر إلى المسيح عيسى بن مريم إلى برّه وصدقه وجدّه فلينظرإلى أبي ذر».

كنز العمّال (٤) (٦ / ١٦٩) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠).

٤ ـ أخرج الطبراني (٥) من طريق ابن مسعود مرفوعاً : «من سرّه أن ينظر إلى شبه عيسى خَلقاً وخُلقاً فلينظر إلى أبي ذر».

مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) ، كنز العمّال (٦) (٦ / ١٦٩).

٥ ـ أخرج الطبراني (٧) من طريق ابن مسعود مرفوعاً : «إنّ أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته». كنز العمّال (٨) (٦ / ١٦٩).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٩ ح ٣٨٠٢.

(٢) الاستيعاب : القسم الرابع / ١٦٥٥ رقم ٢٩٤٤ ، القسم الأول / ٢٥٥ رقم ٣٣٩.

(٣) أُسد الغابة : ٦ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.

(٤) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٨ ح ٣٣٢٣٠.

(٥) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٦.

(٦) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٨ ح ٣٣٢٣١.

(٧) المعجم الكبير : ٢ / ١٤٩ ح ١٦٢٥.

(٨) كنز العمّال : ١١ / ٦٦٦ ح ٣٣٢١٩.


حديث فضله :

١ ـ عن بريدة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزّ وجلّ أمرني بحبّ أربعة وأخبرني أنّه يحبّهم : عليّ وأبو ذر والمقداد وسلمان».

أخرجه (١) الترمذي في صحيحه (٢ / ٢١٣) ، وابن ماجة في سننه (١ / ٦٦) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ١٣٠) وصححه ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٧٢) ، وأبو عمر في الاستيعاب (٢ / ٥٥٧) ، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وصحّحه وأقرّ تصحيحه المناوي في شرح الجامع (٢ / ٢١٥). وابن حجر في الإصابة (٣ / ٤٥٥) ، وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة (٢) : الظاهر أنّه أمر إيجاب ويحتمل الندب ، وعلى الوجهين فما أُمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أمر به أُمّته ، فينبغي للناس أن يحبّوا هؤلاء الأربعة خصوصاً.

٢ ـ أخرج ابن هشام في السيرة (٣) (٤ / ١٧٩) مرفوعاً : «رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبَعث وحده».

وأخرج ابن هشام في السيرة (٤) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (٤ / ١٧٠) في حديث دفنه قال : فاستهلّ عبد الله بن مسعود يبكي ويقول : صدق رسول الله : «تمشي وحدك وتموت وحدك ، وتبعث وحدك».

وذكره أبو عمر في الاستيعاب (٥) (١ / ٨٣) ، وابن الأثير في أُسد الغابة (٥ / ١٨٨) ،

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٥٩٤ ح ٣٧١٨ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣ ح ١٤٩ ، المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٤١ ح ٤٦٤٩ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٦٣٦ رقم ١٠١٤ ، الجامع الصغير : ١ / ٢٥٨ ح ١٦٩٢.

(٢) شرح سنن ابن ماجة : ١ / ٦٦.

(٣) السيرة النبوية : ٤ / ١٦٧.

(٤) السيرة النبوية : ٤ / ١٦٨ ، الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٣٥.

(٥) الاستيعاب : القسم الأول / ٢٥٣ رقم ٣٣٩ ، أُسد الغابة : ٦ / ١٠١ رقم ٥٨٦٢.


وابن حجر في الإصابة (٤ / ٦٤).

٣ ـ أخرج البزّار من طريق أنس بن مالك مرفوعاً : «الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وأبي ذر».

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) فقال : إسناده حسن.

٤ ـ أخرج أبو يعلى (١) من طريق الحسين بن عليّ قال : أتى جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد إنّ الله يحبُّ من أصحابك ثلاثة فأحبّهم : عليُّ بن أبي طالب ، وأبو ذر ، والمقداد بن الأسود. مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠).

٥ ـ أخرج الطبري (٢) من طريق أبي الدرداء أنّه ذكر أبا ذر فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد. كنز العمّال (٣) (٨ / ١٥).

وأخرج أحمد في المسند (٤) (٥ / ١٩٧) من طريق عبد الرحمن بن غنم قال : إنّه زار أبا الدرداء بحمص فمكث عنده ليالي وأمر بحماره فأوكف ، فقال أبو الدرداء : ما أراني إلاّ متّبعك ، فأمر بحماره فأُسرج فسارا جميعاً على حماريهما ، فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية ، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه فأخبرهما خبر الناس ، ثمّ إنّ الرجل قال : وخبر آخر كرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه. فقال أبو الدرداء : فلعلّ أبا ذر نُفي؟ قال : نعم والله ، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرّات ، ثمّ قال أبو الدرداء : ارتقبهم واصطبر ، كما قيل لأصحاب الناقة. اللهمّ إن كذّبوا أبا ذر فإنّي لا أُكذّبه ، اللهمّ وإن اتّهموه فإنّي لا أتّهمه ، اللهمّ وإن استغشُّوه فإنّي لا أستغشُّه ،

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ١٢ / ١٤٣ ح ٦٧٧٢.

(٢) تهذيب الآثار : ص ١٦٠ ح ٢٦٠ من مسند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٣) كنز العمال : ١٣ / ٣١١ ح ٣٦٨٨٦.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ح ٢١٢١٧.


فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد ، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده لو أنّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أظلّت الخضراء ...» (١) الحديث.

وأخرجه الحاكم ملخّصاً في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٤) وصحّحه وقال الذهبي : سند جيد.

٦ ـ من طريق ابن الحارث عن أبي الدرداء أنّه قال وذكرت له أبا ذر : والله إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليُدنيه دوننا إذا حضر ، ويتفقّده إذا غاب ، ولقد علمت أنّه قال : «ما تحمل الغبراء ولا تُظلّ الخضراء للبشر بقولٍ أصدق لهجة من أبي ذر».

كنز العمّال (٣) (٨ / ١٥) ، مجمع الزوائد (٩ / ٣٣٠) ، الإصابة (٤ / ٦٣) ، نقلاً عن الطبراني لفظه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقّده إذا غاب.

٧ ـ أخرج أحمد في مسنده (٤) (٥ / ١٨١) من طريق أبي الأسود الدؤلي أنّه قال : رأيت أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيت لأبي ذر شبيهاً.

وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٣٣١).

٨ ـ روى شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف (٥) (١ / ١٦٦) قال : مرّ أبو ذر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه جبريل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبي فلم يسلّم فقال جبريل : هذا أبو ذر لو سلّم لرددنا عليه. فقال : «أتعرفه يا جبريل؟» قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّا لهو في ملكوت السماوات السبع أشهر منه في الأرض قال : «بِمَ نال هذه

__________________

(١) أنظر : تهذيب الآثار : ص ١٥٩ ـ ١٦٠ ح ٢٦٠ من مسند عليّ عليه‌السلام.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٧ ح ٥٤٦٧.

(٣) كنز العمّال : ١٣ / ٣١١ ح ٣٦٨٨٧.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ٢٣١ ح ٢١٠٦٥.

(٥) المستطرف : ١ / ١٣٧ ـ ١٣٨.


المنزلة؟» قال : بزهده في هذه الحطام الفانية. وذكره الزمخشري في ربيع الأبرار (١) باب ٢٣.

عهد النبي الأعظم إلى أبي ذر :

١ ـ أخرج الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٣) من طريق صحّحه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة؟» وشبك بين أصابعه ، قلت : يا رسول الله فما تأمرني؟ قال : «اصبر اصبر اصبر ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم».

٢ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ١٦٢) من طريق سلمة بن الأكوع عن أبي ذر رضى الله عنه قال : بينا أنا واقف مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : «يا أبا ذر أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي». قلت : في الله؟ قال : «في الله». قلت : مرحباً بأمر الله.

٣ ـ أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٣) (٤ / ١٦٦) طبع ليدن من طريق أبي ذر قال : قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» قال : قلت : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به. فقال : «أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصبر حتى تلقاني».

وفي لفظ أحمد وأبي داود : «كيف أنت وأئمّة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟» قال : قلت : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضع سيفي على عاتقي ثمّ أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك. قال : «أوَلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني». وفي لفظ : «كيف أنت عند ولاة يستأثرون بهذا الفيء؟».

__________________

) ربيع الأبرار : ١ / ٨٣٤.

) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٦ ح ٥٤٦٤.

) الطبقات الكبرى : ٤ / ٢٢٦.


مسند أحمد (١) (٥ / ١٨٠) ، سنن أبي داود (٢) (٢ / ٢٨٢) ، ولأحمد طريقان كلاهما صحيحان رجالهما كلّهم ثقات ، وهم :

١ ـ يحيى بن آدم ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٢ ـ زهير بن معاوية الكوفي ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٣ ـ يحيى بن أبي بكير الكوفي ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٤ ـ مطرف بن طريف ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٥ ـ أبو الجهم سليمان بن الجهم الحارثي ، تابعيّ لا خلاف في ثقته.

٦ ـ خالد بن وهبان ، تابعيّ ثقة.

٤ ـ أخرج أحمد في المسند (٣) (٥ / ١٧٨) من طريق أبي السليل في حديث عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا أبا ذر كيف تصنع إن أُخرجت من المدينة؟» قال : قلت : إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال : «كيف تصنع إن أُخرجت من مكة؟» قال : قلت : إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدّسة. قال : «وكيف تصنع إن أُخرجت من الشام؟» قال : إذاً والذي بعثك بالحقّ أضع سيفي على عاتقي. قال : «أو خير من ذلك؟» قال : قلت : أوَ خير من ذلك؟ قال : «تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشيّا».

رجال الإسناد كلّهم ثقات وهم :

١ ـ يزيد بن هارون بن وادي ، مجمع على ثقته من رجال الصحيحين.

٢ ـ كهمس بن الحسن البصري ، ثقة من رجال الصحيحين.

٣ ـ أبو السليل ضريب بن نقير البصري ، ثقة من رجال مسلم والصحاح الأربعة غير البخاري.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ح ٢١٠٤٨ ، ١٠٤٩.

(٢) سنن أبي داود : ٤ / ٢٤١ ح ٤٧٥٩.

(٣) مسند أحمد : ٦ / ٢٢٧ ح ٢١٠٤١.


وفي لفظ : «كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟» أي المسجد النبويّ. قال : آتي الشام. قال : «كيف تصنع إذا أُخرجت منها؟» قال : أعود إليه ـ أي المسجد ـ قال : «كيف تصنع إذا أُخرجت منه؟» ، قال : أضرب بسيفي. قال : «أدلّك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشداً. قال : تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك».

فتح الباري (١) (٣ / ٢١٣) ، عمدة القاري (٢) (٤ / ٢٩١).

٥ ـ أخرج الواقدي من طريق أبي الأسود الدؤلي قال : كنت أُحبُّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة فقلت له : ألا تخبرني : أَخَرجت من المدينة طائعاً ، أُم خرجت مكرهاً؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأُخرجت إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أصحابي ودار هجرتي ، فأُخرجت منها إلى ما ترى. ثمّ قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربني برجله وقال : «لا أراك نائماً في المسجد» ، فقلت : بأبي أنت وأُمّي غلبتني عيني فنمت فيه ، فقال : «كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟» فقلت : إذن ألحق بالشام فإنّها أرض مقدسة وأرض بقيّة الإسلام وأرض الجهاد ، فقال : «فكيف تصنع إذا أُخرجت منها؟». فقلت : أرجع إلى المسجد ، قال : «فكيف تصنع إذا أخرجوك منه». قلت : إذن آخذ سيفي فأضرب به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع». فسمعت وأطعت وأنا أسمع وأُطيع ، والله ليلقينّ الله عثمان وهو آثم في جنبي. شرح ابن أبي الحديد (٣) (١ / ٢٤١).

وبهذا الطريق واللفظ أخرجه أحمد في المسند (٤) (٥ / ١٥٦) والإسناد صحيح

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) عمدة القاري : ٨ / ٢٦٣ ح ١١ ، وفيه : ألا أدلّك.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٥٧ ـ ٥٨ خطبة ٤٣.

(٤) مسند أحمد : ٦ / ١٩٤ ح ٢٠٨٧٤.


رجاله كلّهم ثقات ، وهم :

١ ـ عليّ بن عبد الله المديني ، وثّقه جماعة ، وقال النسائي : ثقة مأمون ، أحد الأئمّة في الحديث.

٢ ـ معمر بن سليمان أبو محمد البصري ، متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٣ ـ داود بن أبي هند أبو محمد البصري ، مجمع على ثقته من رجال الصحاح غير البخاري ، وهو يروي عنه في التاريخ (١) من دون غمز فيه.

٤ ـ أبو الحرب بن الأسود الدؤلي ، ثقة من رجال مسلم.

٥ ـ أبو الأسود الدؤلي ، تابعيّ متّفق على ثقته من رجال الصحاح الستّة.

٦ ـ مرّ في (ص ٢٩٦) في حديث تسيير أبي ذر : قال ـ عثمان ـ : فانّي مُسَيّرك إلى الربذة. قال ـ أبو ذر ـ : الله أكبر صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرني بكلّ ما أنا لاقٍ. قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأنّي أُمنَع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة. الحديث.

هذا أبو ذر

وفضائله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسيّاته وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه ، فأيُّ منها كان ينقمه الخليفة عليها (٢) ، فطفق يعاقبه ويطارده من مُعتقل إلى منفى ، ويستجلبه على قتب بغير وطاء ، يطير مركبه خمسة من الصقالبة الأشدّاء حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف ، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتى سالت نفسه في منفاه الأخير ـ الربذة ـ على غير ماء ولا كلأ ، يلفحه حرّ الهجير ، وليس له من وليّ حميم يمرّضه ، ولا أحد من قومه يواري جثمانه الطاهر ، مات رحمه‌الله وحده ، وسيحشر

__________________

(١) التاريخ الكبير : ٣ / ٢٣١ رقم ٧٨٠.

(٢) كذا.


وحده كما أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي خوّله بتلكم الفضائل ، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم ، فانظر لِمن الفَلْج (١) يومئذٍ.

لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامّته ومن ازدلف إليه ممّن يجري مجراهم ، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين ، وليس فيهم من يبلغ شأو أبي ذر في السوابق والفضائل ، ولا يشقّ له غباراً في أُكرومة ، فما ذا الذي أخّر أبا ذر عنهم حتى قطعوا عنه عطاءه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشيء من الدعة ، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبيّ الأعظم ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ولما ذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه أحد (٢)؟ ولما ذا يفرّ الناس منه في المدينة؟ ولما ذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه ويكلّموه؟ ولما ذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحداً يكلّمه؟ فلم يحلّ ذلك الصحابي العظيم إلاّ محلاّ وعراً ، ولم يرتحل إلاّ إلى متبوّأ الإرهاب ، كأنّما خلق أبو ذر للعقوبة فحسب ، وهو من عرّفته الأحاديث التي ذكرناها ، وقصّته لعمر الله وصمة على الإسلام وعلى خليفته لا تُنسى مع الأبد.

نعم ؛ إنّ أبا ذر ينقم ما كان مطّرداً عند ذاك من السرف في العطاء من دون أيّ كفاءة في المعطى ـ بالفتح ـ ومخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك وفي كلّ ما يخالف السنّة الشريفة ، واضطهاد أهل السوابق من الأُمّة بيد أُمراء البيت الأمويّ رجال العيث والعبث ؛ وكانوا يحسبون عرش ذلك اليوم قد استقرّ على تلكم الأعمال ؛ فرأوا أنّ في الإصاخة إلى قيل أبي ذر وشاكلته من صلحاء الصحابة تزحزحاً لذلك العرش عن مستقرّه ، أو أنّ مُهمْلجة الجشع الذين حصّلوا على تلكم الثروات الطائلة خافوه أن يُسلب ما في أيديهم إن وعى واعٍ إلى هتافه ، فتألّبوا عليه وأغروا خليفة الوقت به بتسويلات متنوّعة حتى وقع ما وقع ، والخليفة أسير هوى قومه ، ومسيّر بشهواتهم ،

__________________

(١) الفَلْج : الظفر والفوز.

(٢) أخرجه ابن سعد في الطبقات : ٤ / ١٦٨ [٤ / ٢٢٩]. (المؤلف)


مدفوع بحبّ بني أبيه وإن كانوا من الشجرة الملعونة في القرآن.

وما كان أبو ذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقّها ، ولا يبغي سلب السلطة عمّن ملك شيئاً ملكاً مشروعاً ، لكنّه كان ينقم على أهل الأثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين ، وخضمهم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، وما كان يتحرّى إلاّ ما أراد الله سبحانه بقوله عزّ من قائل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، وما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجهات الماليّة.

أخرج أحمد في مسنده (١) (٥ / ١٦٤ ، ١٧٦) من طريق الأحنف بن قيس قال : كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفرّ الناس منه حين يرونه ، قال : قلت : من أنت؟ قال : أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : قلت : ما يفرّ الناس منك؟ قال : إنّي أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله.

وفي لفظ مسلم في صحيحه (٢) (٣ / ٧٧) قال الأحنف بن قيس : كنت في نفر من قريش فمرّ أبو ذر رضى الله عنه وهو يقول : بشّر الكانزين بكيٍّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم ، وبكيٍّ من أقفيتهم يخرج من جباههم قال : ثمّ تنحّى فقعد إلى سارية ، فقلت : من هذا؟ قالوا : هذا أبو ذر ، فقمت إليه فقلت : ما شيء سمعتك تقول قُبَيْلُ؟ قال : ما قلت إلاّ شيئاً سمعته من نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : قلت : ما تقول في هذا العطاء؟ قال : خذه فإنّ فيه اليوم معونة ، فإذا كان ثمناً لدينك فدعه. سنن البيهقي (٦ / ٣٥٩).

وأخرج أبو نعيم فى الحلية (١ / ١٦٢) من طريق سفيان بن عيينة بإسناده عن أبي ذر ، قال : إنّ بني أُميّة تُهدّدني بالفقر والقتل ؛ ولَبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها ، ولَلفقر أحبّ إليّ من الغنى ، فقال له رجل : يا أبا ذر مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ قال : إنّي أنهاهم عن الكنوز.

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٠٦ ح ٢٠٩٤٠ ، ص ٢٢٤ ح ٢١٠٢٤.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٣٨٥ ح ٣٥.


وفي فتح الباري (١) (٣ / ٢١٣) نقلاً عن غيره : الصحيح أنّ إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقّبه النووي بالإبطال لأنّ السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. انتهى.

وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر ، فإنّ يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد لأبي بكر وعمر ، وإنّما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة ، والمبائن للسيرة النبويّة في كلّ ما ذكرناه ؛ ولذلك كلّه كان سلام الله عليه ساكتاً عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنّك تبطش بي بطش جبّار. ويقول : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع (ص ٢٩٨ و ٣٠٦).

ولم يكن لأبي ذر منتدح من ندائه والدعوة إلى المعروف الضائع ، والنهي عن المنكر الشائع ، وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢). قال ابن خراش : وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعر فقال : ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحقّ لي صديقاً (٣).

وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتّخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفّه والتوسّع والاستئثار بالأموال ، وكان في العهد النبويّ صعلوكاً لا مال له ووصفه به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) وفي لفظ : إنّ معاوية ترب خفيف الحال (٥).

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) آل عمران : ١٠٤.

(٣) الأنساب : ٥ / ٥٥ ، ومرّ مثله من طريق آخر : ص ٢٩٤. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : كتاب النكاح والطلاق : ٤ / ١٩٥ [٣ / ٢٩٠ ح ٣٦] ، سنن النسائي : ٦ / ٧٥ [٣ / ٢٧٤ ح ٥٣٥٢] ، سنن البيهقي : ٧ / ١٣٥. (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٤ / ١٩٩ [٣ / ٢٩٥ ح ٤٨]. (المؤلف)


فما واجب أبي ذر عندئذٍ؟ وقد أمره النبيّ الأعظم في حديث (١) السبعة التي أوصاه بها ، بأن يقول الحقّ وإن كان مرّا ، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي يجديه قول عثمان : مالك وذلك؟ لا أُمّ لك؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدّة ليس لها سلف من العهد النبويّ ، فلم يهتف إلاّ بما تعلّمه من الكتاب والسنّة ، وقد أخده من الصادع الكريم من فَلق فيه ، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجّار وملاّك ذوو يسار ، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهيّة ، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يُصنع به من طرده من الحواضر الإسلاميّة : مكة ، والمدينة ، والشام ، والبصرة ، والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأنّ ما يصيبه في الله ، فقال أبو ذر : مرحباً بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنّة بما يخلّ نظام المجتمع ، وكون بلائه في الله يأبى أن يكون ما جرّ إليه ذلك البلاء غير مشروع.

وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينهاه عمّا سينوء به من الإنكار وهو يعلم أنّ تلك الدعوة تجرّ عليه الأذى والبلاء الفادح ، وتشوّه سمعة خليفة المسلمين ، وتسوّد صحيفة تاريخه ، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات : ص ١٦٤ [٤ / ٢٢٩] من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : أوصاني خليلى بسبع : [أمرني] بحبّ المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرّا ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أُكثِر من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله. فإنّهنّ من كنزٍ تحت العرش. (المؤلف)


وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاقّ الذي اتّهم به أبو ذر ؛ ولم يكن قطّ يقصده وهو شبيه عيسى في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زهداً ونسكاً وبرّا وهدياً وصدقاً وجدّا وخلقاً.

هكذا وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّ عثمان قال لمّا غضب عليه : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله. وكذّبه حين روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث بني العاص ، عجباً هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلّغ عنهما صادقاً؟ لاها الله هذا أدب يخصّ بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لمّا دافع عن أبي ذر بقوله : «أُشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون». أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحبّ أن يذكره ، ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزّه الكتاب عن ذكره.

وقد تجهّم عثمان مرّة أخرى أمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بكلام فظّ ، لمّا شيّع هو وولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مرّ تفصيله (ص ٢٩٤ ، ٢٩٧) وفيه قوله لعليّ عليه‌السلام : ما أنت بأفضل عندي من مروان.

إنّ من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين عليّ ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين ، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبويّة في مروان؟ أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الإغضاء عنها ، فرأى ابن الحكم عدلاً لمن طهّره الجليل ورآه نفس النبيّ الأعظم في الذكر الحكيم؟ كبرت كلمة تخرج من أفواهم ...

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١)

__________________

(١) المائدة : ٥٠.


جناية التاريخ

ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأُمّة من تاريخ حياتهم ، وكرائم أخلاقهم ، وآثار مآثرهم ، ونفسيّاتهم الكاملة ، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم ، ودرر حكمهم ، وموارد إقدامهم وإحجامهم!

تجد التاريخ هنا يسرع السير فيُنسي ذكرهم ، ويغمط فضلهم ، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغّرة ، أو يحوّر الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة ، كلّ ذلك تأييداً لمبدإ ، وأخذاً بناصر نزعة ، وستراً على أقوام آخرين تمسّ الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم ، وتبعاً لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.

فمن هذه النواحي كلّها أغفل التاريخ عن التبسّط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقريّة والكمال ، التي يجب أن تُتّخذ قدوة في السلوك والتهذيب ، وأن تكون للأمّة بها أسوة وقُدوة في التقوى والمبدأ.

البلاذري :

فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدّة طرق بصورة مرّت في صفحة (٢٩٤) ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري ـ وأبو ذر هو الذي ما أظلّت الخضراء ... إلخ ـ أُخرجت كارهاً. ثمّ عقّبه بأُكذوبة سعيد بن المسيّب ـ الذي كان من مناوئي العترة الطاهرة وشيعتهم ـ من إنكار إخراج عثمان إيّاه ، وأنّه خرج إليها راغباً في سكناها.

ولا يعلم المغفّل أنّ في ذلك تكذيباً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنّه يُخرَج من المدينة كما مرّ (ص ٣١٦) بطرق صحيحة. وتكذيباً لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى ، وقد صمّم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمّار : «يا عثمان


اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك» (١). وتكذيباً لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابياً.

وتكذيباً لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضاً أنّه لمّا أنهي إليه نعي أبي ذر قال : رحمه‌الله. فقال عمّار : نعم فرحمه‌الله من كلّ أنفسنا. فقال عثمان : يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ ـ يأتي تمام الحديث في مواقف عمّار.

وتكذيباً لما رواه البلاذري أيضاً عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفنا (ص ٢٩٤) وتكذيباً ، وتكذيباً.

ولا يعلم المسكين أنّ تلك الحادثة الفجيعة المتعلّقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار والأخذ والردّ وتوفّرت النقمة والنقد حتى عُدّت من عظائم الحوادث ، وسار بحديثها الركبان ، وتذمّر لها المؤمنون ، وشمت فيها من شمت ، ونقم بها على الخليفة ، وكان ممّا استتبعها أنّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة : إنّ هذا الرجل فعل بك وفعل ، هل أنت ناصب لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال : لا ، لو أنّ عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (٢).

وقال ابن بطّال كما في عمدة القاري للعيني (٣) (٤ / ٢٩١) : إنّما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنّه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له ، وكان في جيشه مَيل إلى أبي ذر ، فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنّه كان رجلاً لا يخاف في الله لومة لائم.

فما كنت يومئذٍ تمرّ بحاضرة من الحواضر الإسلاميّة إلاّ وتجد توغّلاً من أهلها في هذا الحديث ، وتغلغلاً بين أرجائها من جرّاء ذلك الحادث الجلل.

__________________

(١) سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ٣ / ٢١٢ [٤ / ٢٢٧]. (المؤلف)

(٣) عمدة القاري : ٨ / ٢٦٢ ح ١١.


إنّ حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيّب المنبعث عن الولاء الأموي لكنّه شاء أن يقول فقال ، ذاهلاً عن أنّه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دار هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيّه ويختار الربذة منزلاً له ولأهله مع جدبها وقفرها ، ولو كانت له خيرة في الأمر ، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصّة الاكتئاب؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيّعيه في ذلك الوادي الوعر لمّا حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبّة؟

ومن أمانة البلاذري في النقل أنّه عند سرد قصّة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال : جرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأنّ فيه نيلاً من صاحبه.

ابن جرير الطبري :

وإنّك تجد الطبري في التاريخ (١) لمّا بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول : في هذه السنة ـ أعني سنة ٣٠ ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكِر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمورٌ كثيرة كرهت ذكر أكثرها ، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة. انتهى.

لما ذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلاّ قصّة العاذرين التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريراً لعمل الخليفة؟ وأمّا الحقائق الراهنة التي كانت تمسّ كرامة الرجلين ، وكانت حديث أُمّة محمد وقتئذ وهلمّ جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها ، وحسب أنّها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها ، وقد ذهب عليه أنّ في فجوات الدهر ، وثنايا التاريخ ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍.


تروقه نفسيّات مناوئي أبي ذر ، وتحقّق أعلام النبوّة التي جاء بها النبيّ الأعظم في قصّة أبي ذر من المغيّبات.

ثمّ ذكر القصّة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصحّ شيء منها ، وكلّ جملة منها يكذّبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحّته ، وكفاها وهناً ما في سندها من الغمز وإليك رجاله :

١ ـ السريّ. مرّ الكلام فيه في هذا الجزء (ص ١٤٠) وأنّه مشترك بين اثنين عُرفا بالكذب والوضع.

٢ ـ شعيب بن إبراهيم الأُسيدي الكوفي. أسلفنا صفحة (١٤٠) من هذا الجزء قول الحافظين ابن عديّ والذهبي فيه وأنّه مجهول لا يُعرف.

٣ ـ سيف بن عمر التميمي الكوفي. ذكرنا في صفحة (٨٤) من هذا الجزء أقوال الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل حول الرجل وأنّه ضعيف ، متروك ، ساقط ، وضّاع ، عامّة حديثه منكر ، يروي الموضوعات عن الأثبات ، كان يضع الحديث ، واتّهم بالزندقة.

أضف إلى المصادر السابقة : الاستيعاب (١) ـ ترجمة القعقاع ـ (٢ / ٥٣٥) ، الإصابة (٣ / ٢٣٩) ، مجمع الزوائد للهيثمي (١٠ / ٢١).

٤ ـ عطيّة بن سعد العوفي الكوفي ، للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف وقال الساجي : ليس بحجّة وكان يقدّم عليّا على الكلّ. وقال ابن سعد (٢) : كتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سبّ عليّ فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته ، فاستدعاه فأبى أن يسبّ فأمضى حكم الحجّاج فيه (٣). وذكر

__________________

(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٨٣ رقم ٢١٢١.

(٢) الطبقات الكبرى : ٦ / ٣٠٤.

(٣) تهذيب التهذيب لابن حجر : ٧ / ٢٢٧ [٧ / ٢٠٠ ـ ٢٠١]. (المؤلف)


ابن كثير في تفسيره (١ / ٥٠١) عن صحيح الترمذي (١) من طريق عطيّة في عليّ مرفوعاً : «لا يحلّ لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك». فقال : ضعيف لا يثبت فإنّ سالماً متروك وشيخه عطيّة ضعيف. انتهى. وكون الرجل في الإسناد آية كذب الرواية ؛ إذ الشيعيّ الجلد كالعوفي لا يروي حديث الخرافة.

٥ ـ يزيد الفقعسي : لا أعرفه ولا أجد له ذكراً في كتب التراجم.

فانظر إلى أمانة الطبري على ودائع التاريخ ، فإنّه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة ، حيّا الله الأمانة!

نظرة قيّمة في تاريخ الطبري :

شوّه الطبري تاريخه بمكاتبات السريّ الكذّاب الوضّاع ، عن شعيب المجهول الذي لا يُعرف ، عن سيف الوضّاع ، المتروك ، الساقط ، المتّهم بالزندقة ، وقد جاءت في صفحاته بهذا الإسناد المشوّه (٧٠١) رواية وضعت للتمويه على الحقائق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة ١١ إلى ٣٧ عهد الخلفاء الثلاثة فحسب ، ولا يوجد شيء من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلّها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة ، وإنّما بدأ برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبيّ الأقدس ، وبثّها في الجزء الثالث والرابع والخامس ، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.

ذكر في الجز الثالث من (ص ٢١٠) في حوادث سنة (١١) ٦٧ حديثاً.

أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشرة ٤٢٧ حديثاً.

أورد في الجزء الخامس فى حوادث السنة ال (٢٣ ـ ٣٧) ٢٠٧ حديثاً.

المجموع ٧٠١

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٥٩٨ ح ٣٧٢٧.


وممّا يهمّ لفت النظر إليه أنّ الطبري من صفحة (٢١٠) من الجزء الثالث إلى (١) (ص ٢٤١) يروي عن السريّ بقوله : حدّثني ، المعرب عن السماع منه ، ومن (٢) (ص ٢٤١) يقول : كتب إليّ السريّ ، إلى آخر ما يروي عنه ، إلاّ حديثاً واحداً في الجزء الرابع (٣) (ص ٨٢) يقول فيه : حدّثنا.

ولست أدري أنّ السريّ ، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصوراً على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقاً؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصّة المذهبيّة الواقعة في الأيّام الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلّفاً إلى أناس ، واختذالاً عن آخرين ، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة ، ووليد نفس واحد ، ولا أحسب أنّ هذه كلّها تخفى على مثل الطبري ، غير أنّ الحبّ يعمي ويصم.

وقد سوّدت هاتيك المخاريق المختلقة صحائف تاريخ ابن عساكر ، وكامل ابن الأثير ، وبداية ابن كثير ، وتاريخ ابن خلدون ، وتاريخ أبي الفداء إلى كتب أناس آخرين اقتفوا أثر الطبري على العمى ، وحسبوا أنّ ما لفّقه هو في التاريخ أصل متّبع لا غمز فيه ، مع أنّ علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أيّ حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.

والتآليف المتأخّرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء والشهوات كلّها متّخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٢٢٣ ـ ٢٧٦ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٢٧٦ حوادث سنة ١١ ه‍.

(٣) تاريخ الأُمم والملوك : ٣ / ٤٧٦ حوادث سنة ١٣ ه‍.


منها في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

ابن الأثير الجزري :

وأنت ترى ابن الأثير في الكامل ـ الناقص ـ تبعاً للطبري في الذكر والإهمال كما هو كذلك في كلّ ما توافقا عليه من التاريخ ، لكنّه زاد ضغثاً على إبّالة (١) فقال (٢) : وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أموراً كثيرة من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصحّ النقل به ، ولو صحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ، فإنّ للإمام أن يؤدّب رعيّته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه كرهت ذكرها. انتهى.

إنّ الذي لم يصحّح الرجل نقله صحّحه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه ، وكان قد حسب أنّ الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته ، وقد ذهب عليه أنّ أهل النصفة من المؤلّفين وروّاد الحقائق من الرواة سوف لا يدَعون صغيرة ولا كبيرة إلاّ ويحصونها على الأمّة ، وإنّ مدوّنة التاريخ ليست قصراً على كتابه.

هبّ أنّه ستر التاريخ بالإهمال لكنّه ما ذا يصنع بالمحدّثين الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوّة (٣)؟ أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملاءه من رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأُمّة ، ولا سيّما أنّ سابقة الطرد من عاصمة النبوّة لم تكن إلاّ لمثل الحكم ـ عمّ

__________________

(١) الضغث : القبضة من الحشيش ، والإبّالة : الحزمة من الحطب ، وقد مرّ كراراً شرح هذا المثل.

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٥١ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٣) راجع : ص ٣٢٤ ـ ٣٢٨. (المؤلف)


الخليفة ـ وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيهاً للعاصمة عن معرّتهم ، وتطهيراً لها عن لوث بقائهم فيها ، أفهل يُساوى أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق منه ، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبّه ، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنّة ، والثلاثة الذين يحبّهم الله تعالى. أفهل يساوى من هو هذا بالطريد اللعين؟ فيشوّه ذكره بهذه التسوية ، ويشهر بين الملأ موصوماً بذلك ، ويُمنع الناس عن التقرّب إليه ، وينادى عليه بذلّ الاستخفاف ، ويُحرَم الناس من علومه الجمّة التي هو وعاؤها ، ولعمر الحقّ ، وشرف الإسلام ، ومجد الإنسانيّة ، وقداسة أبي ذر ، إنّ النشر بالمناشير ، والقرض بالمقاريض أهون على الدينيّ الغيور من بعض هاتيك الشنائع.

ثمّ إنّ تأديب الخليفة للرعيّة إنّما يقع على من فقد الآداب الدينيّة وطوّحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأمّا مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لم يُطرِ به غيره ، وقرّبه وأدناه وعلّمه وإذا غاب عنه تفقّده ، وشهد أنّه شبيه عيسى بن مريم هدياً وسمتاً وخلقاً وبرّا وصدقاً ونسكاً وزهداً. فبما ذا يؤدّب؟ لما ذا؟ وأيّ تأديب هذا يراه النبيّ الأعظم بلاءً في الله؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول : مرحباً بأمر الله. وبم ولم استحقّ أبو ذر التأديب؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه ، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضباً لله ويقول له : «فارجُ من غضبت له» (١).

نعم ؛ يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدّب للناس لما حمله من علم النبوّة وأحكام الدين وحكمه ، والنفسيّات الكريمة ، والملكات الفاضلة التي تركته شبيهاً بعيسى بن مريم في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ما بال الخليفة يتحرّى تأديب أبي ذر وهو هذا ، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة؟

__________________

(١) راجع ما مرّ في هذا الجزء صفحة : ٣٠٠. (المؤلف)


ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.

ويبهظه تأديب مروان وهو يتّهمه بالكتاب المزوّر عليه.

ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له : أنا أكفيك عليّ بن أبي طالب. فأجابه الإمام بقوله : «يا ابن اللعين الأبتر والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ، أنت تكفيني؟! فو الله ما أعزّ الله من أنت ناصره (١)» إلخ.

ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ، ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحقّ بالنفي منهم (٢) ويؤوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما؟

ما بال الخليفة يخوّل مروان مهمّات المجتمع ، ويلقي إليه مقاليد الصالح العام؟ ولم يُصخ إلى قول صالح الأُمّة مولانا أمير المؤمنين له : «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يُقاد حيث يُسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وايم الله إنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يُصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغُلِبت على أمرك» يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

ما بال الخليفة يعطي مروان أزمّة أُموره ويشذّ عن السيرة الصالحة حتى توبّخه زوجته نائلة بنت الفرافصة؟ وتقول : قد أطعت مروان يقودك حيث شاء ، قال : فما أصنع؟ قالت. تتقي الله وتتّبع سنّة صاحبيك ، فإنّك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبّة ، وإنّما تركك الناس لمكانه ، فأرسل إلى عليّ فاستصلحه ، فإنّ له قرابة وهو لا يعصى (٣). ليت الخليفة كانت له أُذن واعية تسمع

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٢٥٣ [ص ١٩٣ خطبة ١٣٥]. (المؤلف)

(٢) سيوافيك حديثه في مواقف عمّار إن شاء الله تعالى. (المؤلف)

(٣) تاريخ الطبري : ٥ / ١١٢ [٤ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ حوادث سنة ٣٥ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٦٩ [٢ / ٢٨٥ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)


من بنت الفرافصة كلمتها الحكميّة التي كانت فيها نجاته في النشأتين.

كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنّه لم يفعل ، وما ذا كان يجديه لو فعل؟ وحوله الأمويّون وهو المتفاني في حبّهم ، وهم لا يرون ذلك الرأي السديد سديداً لأنّه على طرف النقيض ممّا حملوه من النهمة والشره ، واكتناز الذهب والفضة ، والسير مع الهوى والشهوات ، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول : يا بني أُميّة تلقّفوها تلقّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة. أو يقول لعثمان : صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أُميّة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار. راجع (ص ٢٧٨).

وعثمان وإن زبره تلك الساعة ، لكنّه لم يَعْدُ رأيه في بني أميّة المتلاعبين بالدين لعبهم بالأكر ، ولا أدري هل تهجّس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجّس وفعل في أبي ذر البرّ التقي ، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء؟

لقد فات ابن الأثير كلّ هذا ، فاعتذر عن الرجل بأنّ الخليفة يؤدّب رعيّته.

عماد الدين بن كثير :

جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية (١) (٧ / ١٥٥) فبنى على أساس ما علاّه من قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات ، قال : كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالاً من الأغنياء ويمنع أن يدّخر فوق القوت ويوجب أن يتصدّق بالفضل ويتأوّل قول الله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ١٧٥ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٢) التوبة : ٣٤.


يمتنع ، فبعث يشكوه إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها ، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه فلم يرجع. فأمره بالمقام بالربذة ـ وهي شرقي المدينة ـ ويقال : إنّه سأل عثمان أن يقيم بها ، وقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي : إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها. وقد بلغ البناء سلعاً ، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة ، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان حتى لا يرتدّ أعرابيّا بعد هجرته ، ففعل ، فلم يزل مقيماً بها حتى مات. انتهى.

وقال (١) في (ص ١٦٥) عند ذكر وفاته : جاء في فضله أحاديث كثيرة ، من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر». وفيه ضعف. ثمّ لمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام ، فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثمّ نزل الربذة ، فأقام بها حتى مات في ذي الحجّة من هذه السنة ، وليس عنده سوى امرأته وأولاده ، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه ، إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه ، فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به ، وقيل : قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه ، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوها بعد الموت ، وقد أرسل عثمان بن عفّان إلى أهله فضمّهم مع أهله. انتهى.

هذا كلّ ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام ، وفيه مواقع للنظر :

١ ـ اتّهامه أبا ذر بأنّه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء ... إلخ.

هذه النظريّة قديماً ما عزوها إلى الصحابيّ العظيم اختلاقاً عليه وزوراً ، وقد تحوّلت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوّهة أخرى من نسبة الاشتراكيّة إليه ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ١٨٥ حوادث سنة ٣٢ ه‍.


وسنفصّل القول عنها تفصيلاً إن شاء الله تعالى.

٢ ـ إنّه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أنّ عثمان أمره بالمقام بالربذة ، أمّا حديث الربذة فقد أوقفناك آنفاً على أنّه كان منفيّا إليها ، وأخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة ، ووقع هنالك ما وقع بين عليّ عليه‌السلام ومروان ، وبينه وبين عثمان ، وبين عثمان وبين عمّار ، واعتراف عثمان بتسييره ، وتسجيل عليّ أمير المؤمنين عليه ذلك ، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه ، وأنّ عثمان جعله أعرابيّا بعد الهجرة ، وهو مقتضى إعلام النبوّة في إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بأنّه سوف يُخرَج من المدينة ، ويُطرد من مكة والشام ، وأمّا خبر الشام فقد مرّ إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضاً.

٣ ـ وأمّا حديث بلوغ البناء سلعاً فإفك مفترىً على أُمّ ذر ، وقد جاء في مستدرك الحاكم (١) (٣ / ٣٤٤) ، وذكره البلاذري كما مرّ في (ص ٢٩٣) ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.

على أنّ ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ ، وجلّ ما عنده إنّما هو ملخّص ما فيه مع التصرّف فيه على ما يروقه ، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذّاب وضّاع وبين مجهول لا يُعرَف إلى ضعيف متّهم بالزندقة كما أسلفناه في (ص ٨٤ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ٣٢٧) وهم :

١ ـ السريّ. ٢ ـ شعيب. ٣ ـ سيف. ٤ ـ عطيّة. ٥ ـ يزيد الفقعسي.

وحديث يكون في إسناده أحد هؤلاء لا يعوّل عليه ، وعلى فرض اعتباره فإنّه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالّة على إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يُخرَج ويُطرَد من مكّة والمدينة والشام. راجع (ص ٣١٦ ـ ٣١٩) وهي معتضدة بما مرّ عن أبي ذر

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٧ ح ٥٤٦٨.


وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إيّاه ، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم فى تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.

٤ ـ وأمّا ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتدّ أعرابيّا فإنّه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشتمل على حديث سلع ، وقد مرّ من طريق البلاذري بإسناد صحيح في (ص ٢٩٤) قول أبي ذر : ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّا. على أنّه لم يذكر أحد أنّ أبا ذر قدم المدينة خلال أيّام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلاً لأمر عثمان بالتعاهد.

٥ ـ ما ذكره من أنّه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ... إلخ.

إنّ شنشنة الرجل في الفضائل أنّه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويّين ومن انضوى إليهم من روّاد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرّض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها ، ولا يملّ من تسطيرها وإن سوّدت أضابير من القراطيس ، لكنّه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل البيت أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأُمّة وصلحائها كأبي ذر تضيق عليه الأرض برحبها ، وتلكّأ وتلعثم كأنّ في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة ، أو أنّه كان في أُذنه وقر عن سماعها فلم تُنهَ إليه ؛ وإن اضطرّته الحالة إلى ذكر شيء منها جاء به في صورة مصغّرة ، كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفاً ، وهو يعلم أنّ طريق هذا الإسناد ليس منحصراً بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم ، وإنّما جاء من طريق عليّ أمير المؤمنين وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ؛ وحسّن الترمذي غير واحد من طرقه في صحيحه (١) (٢ / ٢٢١).

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٨ ح ٣٨٠١ ، ٣٨٠٢.


وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده (١) (٥ / ١٩٧) صحيح رجاله كلّهم ثقات.

وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صحّحه هو وأقرّه الذهبي كما في المستدرك (٢) (٣ / ٣٤٢).

وإسناد الحاكم من طريق عليّ عليه‌السلام وأبي ذر أيضاً صحّحه هو وأقرّه الذهبي كما في المستدرك (٣) (٤ / ٤٨٠).

وأمّا إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو ، فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير (٤) : سنده جيّد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٥) : رجال أحمد وثّقوا وفي بعضهم خلاف. وحسّنه السيوطي في الجامع الصغير (٦). فأين الضعف المزعوم؟

ولا يهمّنا التعرّض لبقيّة ما رمى القول فيه على عواهنه ؛ فإنّها مأخوذة من الطبري مع عدم الإجادة في الأخذ ؛ ولعلّه أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عواراً على عواره وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها (ص ٣٢٧).

والممعن في كتب المحدّثين يعلم أنّ هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تَعْدُ كتب الحديث ، فتجدها تثبت ما من حقّه الحذف ، وتحذف ما يجب أن يذكر ، ونَكِل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيّها القارئ الكريم.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٧)

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٢٥٥ ح ٢١٢١٧.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٣٨٥ ح ٥٤٦٠ ، وكذا في التلخيص.

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٥٢٧ ح ٨٤٧٨.

(٤) فيض القدير : ٥ / ٤٢٣.

(٥) مجمع الزوائد : ٩ / ٣٣٠.

(٦) الجامع الصغير : ٢ / ٤٨٥ ح ٧٨٢٥.

(٧) سورة ق : ٢٢.


نظرية أبي ذر في الأموال

وافى سيّدنا أبو ذر كغيره من قرنائه المقتصّين أثر الكتاب والسنّة يبغي صالح قومه ونجاح أمّته ، يبغي بهم أن لا يتخلّفوا عنهما قيد ذرّة ، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم ، وأن تكون لضعفاء الأُمّة لماظة من منائح الأغنياء ، وأن لا يُمنَعوا حقوقهم التي افترضها الله لهم ، وكان نكيره الشديد متوجّهاً إلى مغتصبي أموال الفقراء ، وإلى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة منضّدة في دورهم ، وكانت سبائك التبر تُقسّم بكسرها بالفؤوس ، من دون أن تُخرَج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات ، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب ، وريّهم الظمأ وراحتهم النكد ، وعند القوم أموال لهم متكدّسة لا تنتفع بها العفاة ، ولا يستفيد من نمائها المجتمع ، ولا يُصرف شيء منها في الصالح العام ، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضّة أن تتداولهما الأيدي ، ويتقلّبا في وجوه الحرف والمهن والصنائع ، فتنتجع العامّة بهما ، فأربابهما بالأرباح ، والضعفاء بالأجور ، والبلاد بالعمران ، والأراضي بالإحياء ، والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر ، والملأ العلمي بالجوامع والكلّيات والكتب والصحف ، والمضطرّون بحقوقهما الإلهيّة [المخرجة ، والجنود بالعتاد ، والرواتب والرواحل ، وثغور الإسلام بالعِدّة والعُدّة] (١) واستحكامات تقتضيها الظروف ، حتى تكون الأُمّة سعيدة بما يتسنّى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها ؛ ولذلك حرّم المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضّة لئلاّ يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقّبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.

كان نكير سيّدنا أبي ذر موجّهاً إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان

__________________

(١) ساقط من الطبعة الثانية.


يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كلّ يوم ويتلو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكان يرى الأموال تُجبى إليه فيقول : جاءت القطار تحمل النار.

وكمروان الذي كان إحدى منائح عثمان له خمس إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار.

وكعبد الرحمن بن عوف ، وقد خلّف ذهباً قُطّع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلَّ امرأة ثمانون ألفاً ، فتكون ثروته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مرّ في صفحة (٢٨٤).

وكزيد بن ثابت المخلّف من الذهب والفضّة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يُكسر عند تقسيمه بالفؤوس.

وكطلحة التارك بعده مائة بُهار في كلّ بهار ثلاث قناطر ذهب ـ والبُهار جلد ثور ـ وهذه هي التي قال عثمان فيها : ويلي على ابن الحضرميّة ـ يعني طلحة ـ أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً ، وهو يروم دمي يحرّض على نفسي (١) أو طلحة التارك مائة جمل ذهباً كما مرّ عن ابن الجوزي.

وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني ، وهو يرى أنّ خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أيّ اكتراث لمخالفة السنّة الشريفة ، وهو يعلم الكمّية المدّخرة من النقود التي نهبت يوم الدار : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (٢).

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٤٠٤ [٩ / ٣٥ خطبة ١٣٧]. (المؤلف)

(٢) آل عمران : ١٤.


فما ظنّك بالرجل الدينيّ الواقف على كلّ هذه الكنوز من كثب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المغيّبات ، وممّا يشاهده من نفسيّات القوم ، أنّ تلكم الأموال المكتنزة سوف يُصرَف أكثرها في الدعوة إلى الباطل ، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وفي أُجور الوضّاعين للأحاديث في فضائل بني أُميّة والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي محرّفي الكلم عن مواضعه ، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة ، ويُصرف شيء كثير منها في الخمور والفجور ، إلى غير ذلك من وجوه الشرّ.

ما ظنّك بالرجل؟ وفي أُذنه نداء الصادع الكريم : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً». ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاؤوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأُكَر ، وقد اتّخذوا مال الله دولا ...

فهل تراه يخفق على ذلك كلّه ، كأنّه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم؟ أو أنّه يُدوّخ العالم بعقيرته؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد؟ عساه يكسح شيئاً من الشرّ الحاضر ، ويسدّ عادية المعرّة المقبلة ، وإنّ أسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

لقد ناء أبو ذر بهذه المهمّة الدينيّة وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، وما كان يلهج إلاّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولم يشذّ في تأويل الآية عمّا يقتضيه ظاهرها ، لأنّ مطمح نظره

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.


كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممّن جمعوا من غير حلّه ، وادّخروا على غير حقّه ، ولم يؤدّوا المفترض ممّا استباحوه من المال واكتنزوه ، ولذلك لم يوجّه نكيره إلى أُناس آخرين من زملائه ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق الواجبة عليه آلافاً مؤلّفة ، وقد عرفت شطراً من يساره في الجزء الثاني (٨٥ ـ ٨٨).

وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول : ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منّا (١).

وكعبد الله بن جعفر الطيّار الذي دوّخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصّلها ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٣٢٥ ـ ٣٤٤) وغيره.

وعبد الله بن مسعود الذي خلّف تسعين ألفاً كما في صفة الصفوة.

وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم ، فقال له عبد الله بن الزبير : بعت مكرمة قريش. فقال حكيم : ذهبت المكارم إلاّ التقوى يا ابن أخي ، إنّي اشتريت بها داراً في الجنّة أُشهدك أنّي قد جعلتها في سبيل الله. وحجّ حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجلّلها الحبرة (٣) ؛ ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضّة قد نقش في رءوسها : عتقاء الله عزّ وجلّ عن حكيم. وأعتقهم ، وأهدى ألف شاة (٤).

إلى أُناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار. فلم تسمع أُذن الدنيا أنّ أبا ذر وجّه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوماً لأنّه كان يعلم بأنّهم اقتنوها من طرقها

__________________

(١) صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٣٠٠ [١ / ٧١٥ رقم ١٠٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٧ / ٢٤٨ ـ ٢٩٨ رقم ٣٢٢٢ ، وأنظر : المنتظم : ٦ / ٢١٤ رقم ٤٧٧.

(٣) الحِبَرَة والحَبَرَة : ضربٌ من البرود اليمانية.

(٤) صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٣٠٤ [١ / ٧٢٥ رقم ١٠٩]. (المؤلف)


المشروعة وأدّوا ما عليهم منها وزادوا ، وراعوا حقوق المروءة حقّ رعايتها ، وما كان يبغي بالناس إلاّ هذه.

لما ذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول : يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف. فسكت معاوية. ويقول أبو ذر : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه (١).

ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصّصة الظاهر والباطن كما في مروج الذهب (٢) (١ / ٤٣٤) فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة ، وليس ذلك إلاّ لما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبناءين وصاحبيهما.

وأمّا وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كلّه الذي عزاه إلى سيّدنا أبي ذر المختلقون فمن أفائكهم المفتريات ، لم يدَّعه أبو ذر ولا دعا إليه ، وكيف يكون ذلك وأبو ذر يعي من شريعة الحقّ وجوب الزكاة؟ وهل يمكن ذلك إلاّ بعد اليسار والوفر الزائد على المؤن؟ والله سبحانه يقول : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (٣) وفي تنكير الصدقة و (من) التبعيض دلالة على أنّ المأخوذ بعض المال لا كلّه.

على أنّ النُصب الزكويّة المضروبة في النقدين والأنعام والغلاّت كلّها نصوص على أنّ الباقي من المال مباح لأربابه ، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.

فلو كان يجب إنفاق بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنصب والإخراج

__________________

(١) راجع ما مرّ : ص ٣٠٤. (المؤلف)

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٥١.

(٣) التوبة : ١٠٣.


منها؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كلّ مسلم ، فضلاً عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط بالسنّة الشريفة.

ولو كانت على المكلّف بقيّة من الواجب بعد الزكاة لم يؤدّها فما معنى الفلاح؟ الذي وصف الله تعالى به المؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (١).

وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كلّ ما للإنسان من المال بعد المؤن فبما ذا يحترف أو يمتهن؟ وليس عنده فاضل على المؤن. أبما ادّخره لقوته؟ أم بما رجع عنه بخفّي حنين؟ وممّا ذا يخرج الزكاة؟ فيسدّ بها خلّة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله الذي هو أوان فاقته. أمن المحتمل أنّ أبا ذر كان يوجب ترك كلّ هذه ويريد أن تكون الدنيا مشحونة بالعفاة المتكفّفين؟ فلا يرى المتسوّل إلاّ شحّاذاً مثله ، ولا يجد العافي مُنتجعاً لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يُتقوّل به على أبي ذر سنة أو دون سنة.

تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحبّ لهم إلاّ الخير كلّه ، ولا يريد هذا أيّ مصلح أو صالح في نفسه ، فضلاً عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم وصلحائهم.

نعم ؛ غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين (٢) وغضب للمسلمين حيث رأى فيئهم مدّخراً عنهم تتمتّع به سماسرة النهمة والجشع.

يرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديَهُمْ من فيئِهمْ صَفِراتِ

فكان كلّ ما انتابه من جرّاء هذا الأخذ والرد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه

__________________

(١) المؤمنون : ١ ـ ٤.

(٢) راجع : ص ٣٠٠ من هذا الجزء. (المؤلف)


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي». قال : في الله؟ قال : «في الله». قال : مرحباً بأمر الله. راجع (ص ٣١٦) من هذا الجزء.

ثمّ إنّ ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). ـ فخصّه معاوية بأهل الكتاب وعمّمه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين ، كما أخرجه البخاري ومرّ بلفظه (ص ٢٩٥) وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفّاكين على أبي ذر ـ ظاهر (١) في أنّه لا خلاف بينهما فى المقدار المنفق من المال وإنّما هو في توجيه الخطاب ، فارتأى معاوية أنّ المخاطب به أهل الكتاب ، وعلم أبو ذر من مستقى الوحي ولحن الآية الكريمة أنّها تعمّ كلّ مكلّف. إذن فيجب إمّا أن يُعزى هذا الشذوذ إليهما جميعاً ، أو يبرّآن عنه جميعاً ، فإفراد أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والإحن.

وأيّا ما كان ، فالمراد إنفاق البعض لا الكلّ ، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير لأوّل وهلة. وليست هذه الآية بدعاً من آيات أُخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) الآية ، البقرة : ٢٦١.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) البقرة : ٢٧٤.

وقوله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، البقرة : ٢٦٢.

وقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الآية ، البقرة : ٢٦٥.

على أنّ هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها ،

__________________

(١) خبر «إنّ» في أول الفقره ، من قوله : ثم إن ما شجر ....


لكن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنّه نزّلها إلى البعض ، ولعلّ النكتة في الإتيان بالجمع المضاف فيها أنّ الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلوّ الهمّة حدّا لا يبالون معه لو توقّفت الحالة على إنفاق كلّ أموالهم. أو أنّهم حين يسمحون بإنفاق البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكلّ بفضل منه ويثيبهم على ذلك. وبهذا يُعلم السرّ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، الأنفال : ٣٦. وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الآية ، النساء : ٣٨.

فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، آل عمران : ٩٢.

وقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، إبراهيم : ٣١.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، البقرة : ٣.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، الأنفال : ٣.

وقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، الحج : ٣٥.

وقوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، السجدة : ١٦.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ، البقرة : ٢٥٤.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ، البقرة : ٢٦٧.

وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، المنافقون : ١٠.

على أنّ غير واحد من تلكم الآيات تومي إلى الإنفاق المندوب كما نصّ


عليه علماء التفسير وحفّاظ الحديث ، ومع ذلك لم يدعها سبحانه على ما يتوهّم منها من جمعها المضاف حتى جعل لها حدّا بقوله عزّ وجلّ : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى) عُنُقِكَ وَلَا تَبسُطْهَا كُلَّ البَسطِ فَتَقعُدَ مَلُوماً مَحسُورا) ، الإسراء : ٢٩. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، الفرقان : ٦٧.

أترى أنّ أبا ذر ـ سلام الله عليه ـ عزب عنه كلّ هذه الآيات الكريمة والأُصول المسلّمة؟ أو كان له رأي خاصّ في تأويلها تجاه الحقائق الراهنة حتى جاء بعد لأي من عمر الدنيا رعرعة تجشّأهم الدهر فقاءهم وقفوا على تلكم الكنوز المخيّأة؟!

ولو كان لأبي ذر أدنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم إلهي ، شذوذاً يخلّ بنظام المجتمع ويقلق السلام والوئام ، وتكثر حوله القلاقل ، وفيه إثارة العواطف والإخلال بالأمن أو التزحزح عن مبادئ الإسلام ، لكان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل من يردعه ويحبسه عن قصده السيّئ وأبو ذر أطوع له من الظلّ لذيه ، لكنّه عليه‌السلام بدلاً عن ذلك يقول : «غضبتَ لله فارجُ من غضبت له». ويقول : «والله ما أردتُ تشييع أبي ذر إلاّ لله». ويقول لعثمان : «اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك». وأمير المؤمنين من تعرفه بتنمّره في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم ، وهو مع الحقّ والحقّ معه في كلّ ما يقول ويفعل.

وهل ترى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه كان يعلم أنّ أبا ذر سوف ينوء في أُخرياته بدعوة باطلة كهذه طفق ينوّه به ، ويعرّفه بين الملأ بصفات فاضلة تكبر مقامه ، وتعظّم مكانته عند الجامعة (١) ، وتمكّنه من القلوب الصالحة؟ ويقول عمر

__________________

(١) أي : المجتمع الإسلامي.


له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله فنعرف ذلك له؟ فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم فاعرفوه له». فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤيّداً له على عيثه ، ومؤسّساً لباطله ، ومعرّفاً لضلاله ، حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١)

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) (٢)

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (٣)

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) (٤)

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (٥)

أبو ذر والاشتراكيّة

لقد عرفت كلّ ما في كنانة الأوّلين من نبال مرشوقة إلى العبد الصالح شبيه عيسى في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهلمّ هاهنا إلى رجرجة الآخرين من مقلّدة الدور الأخير الخابطين خبط عشواء ، الذين رموا أبا ذر ـ وأُجلّه ـ بالاشتراكيّة تارة وبالشيوعيّة أخرى.

هل أحاط علماً هؤلاء الأغرار بمبادئ الشيوعيّة التعيسة ، ومواد الاشتراك الذي هو بمقربة من رديفته المبغوضة؟

وهل أُتيح لهم عرفان مغازي أبي ذر المصلح العظيم فيما قال ودعا إليه حتى طفقوا يوفّقوا بين المبدأين؟

__________________

(١) الأنعام : ١٤٤.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

(٣) النور : ١٥.

(٤) الكهف : ٥.

(٥) الأنعام : ١١٦.


لا أحسب أنّهم عرفوا شيئاً من تلكم المغازي ، وأنّهم في ظنّي الغالب بهم شيوعيّة خونة يديفون السمّ في الدسم ، ويُسرّون حسواً في ارتغاء (١) ، اتّخذوا ما قالوه بل تقوّلوه أكبر دعاية إلى تلكم المبادئ الهدّامة لأُسس المدنيّة والحضارة ، المضادّة لناموس الطبيعة ، فضلاً عن حدود الإسلام ، يجعل مثل أبي ذر العظيم شيوعيّا أو اشتراكيّا ، وقد صافقه على ما هتف به ونقم على من ناوأه وآذاه من القوم جلّ الصحابة إن لم نقل كلّهم ممّن يعبأ به وبرأيه ، واستاءوا لما نُكب به من جرّاء ذلك الهتاف وفي مقدّمهم مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا ، وعمّار الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عمّاراً مع الحقّ والحقّ معه يدور عمّار مع الحقّ أينما دار» (٢) إلى كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والاستياء ، فلم يكن أبو ذر شاذّا في رأيه ، ولا أُنهي إلينا أنّه خالفه أحد من الصحابة ، فدونك صحائف التاريخ وزبر الحديث.

نعم ؛ خالفه الذين يريدون أن يخضموا مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع ، وكانوا يكنزون الذهب والفضّة ولا يُنفقون منها ما يجب عليهم إنفاقه ، ويحرمون الأُمّة عن أعطياتهم وما ينمو منها ، ويريدون للضعفاء أن يرزخوا تحت نير الاضطهاد ، ويرسفوا في قيود الفاقة والضعة ، خاضعين لهم مستعبدين ، وللقوم من أموالهم قصور مشيّدة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة ، يأكلون فيها مال الله أكلاً لمّا ، ويحبّون احتكاره حبّا جمّا.

نعم ؛ خالفه أولئك الذين عرّفهم يزيد بن قيس الأرحبيّ يوم صفين بقوله من خطبة له : يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت (٣) ، ويأخذ مال الله ، ويقول : لا إثم

__________________

(١) مثل يضرب لمن يُريك أنّه يعينك ، وإنما يجرّ النفع إلى نفسه. مجمع الأمثال ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠.

(٢) سيوافيك في محلّه في الجزء التاسع بإذن الله تعالى. (المؤلف)

(٣) من ألفاظ الكنايات. ومعناها : كيت وكيت.


عليّ فيه ، كأنّما أُعطي تراثه من أبيه ، كيف؟ إنّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم ، إنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتم (١).

فأيّ إنسان يبلغه أنّ العظماء الذين نوّهنا بذكرهم ، وهم أهل الفضائل والعلوم ، اعتنقوا مبدأً لا يروقه أن يقتصّ أثرهم؟ وهو لا يعلم أنّ ذلك العزو المختلق تقوّلوه دعاية إلى ضلالهم وترويجاً لباطلهم وستراً على عوارهم.

دع ذلك كلّه وهلمّ معي إلى النظر في مبادئ الشيوعيّة والفرق الاشتراكيّين ، إنّ القوم على تعدّد فرقهم إلى الاشتراكيّة الديمقراطية ، والاشتراكيّة الوطنيّة النازيّة ، والشيوعيّة ، والماركسيّة ـ اشتراكيّة رأس المال ـ وبالرغم من تباينهم الكثير في شتّى النواحي لا يختلفون في موادّ ثلاثة تجمع شملهم المبدّد ـ بدّد الله شملهم :

١ ـ تقويض النظام الحالي ، وتشييد نظام جديد على أنقاضه يضمن توزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الأفراد.

٢ ـ إلغاء الملكيّة الخاصّة ـ ثروات الإنتاج ـ كرأس المال ، والأرض ، والمصانع ، على أن تستولي الدولة على هذه الملكيّات جميعها وتجعلها ملكيّة عامّة تديرها للمصلحة العامّة.

٣ ـ يشتغل الأفراد لحساب الدولة بأجور تُعطى لهم بالتساوي ؛ على أساس قيمة العمل الذي ينتجه كلّ منهم ، وتبعاً لذلك لا يكون هناك دخل للأفراد سوى الأجور.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٦ / ١٠ [٥ / ١٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٢٨ [٢ / ٣٧٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٥ [٥ / ١٩٤ خطبة ٦٥]. (المؤلف)


وتنفرد الشيوعيّة عن بقيّة الاشتراكيّين بأمرين :

أحدهما : إلغاء الملكيّة الخاصّة إلغاءً نهائيّا من غير فرق بين ثروات الإنتاج وثروات الاستهلاك.

وثانيهما : توزيعها المال بين الأفراد لكلّ على حسب حاجته ، ويستخدم من كلّ على حسب قدرته ، فيكلّف العامل بالعمل على قدر استطاعته ، ويدرّ عليه المعاش بما يسدّ حاجته.

فعلينا هاهنا أن نعيد ذكر ما هتف به أبو ذر في شتّى مواقفه ، وما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب الأموال ، وما قال في حقّه عظماء الصحابة من الإطراء له والدفاع عنه بعد هتافه بما هتف ، وما يؤثر فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الثناء الجميل وعهده إليه بما ينتابه من النكبات. فننظر إليها نظرة مُستشفّ للحقيقة فنرى هل ينطبق شيء منها على موادّ الشيوعيّة والاشتراكيّة؟ أو ينحسر عنه ذلك الإفك المفترى داحراً إلى حضيض البهت والافتراء.

إنّ من قول أبي ذر لعثمان : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أبا بكر وعمر ؛ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش جبّار.

ومن قوله له أيضاً : اتّبع سنّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك؟ قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تجد أبا ذر هاهنا يلفت نظر عثمان إلى عهد الرسالة ثمّ إلى عهد الشيخين ويدعوه إلى اتّباع تلكم السير ؛ ومن جليّة الحال عند هاتيك الأدوار الثلاثة اطّراد الملكيّة الخاصّة ، ووجود أهل اليسار من الملاّكين والتجّار ؛ وحرّيتهم في ثروتي الإنتاج والاستهلاك ، واختصاص كلّ ماليّة من نقود أو عقار أو ضياع أو مصانع أو


أطعمة بأربابها ، ومن النواميس المسلّمة عند نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يحلّ مال امرئٍ إلاّ بطيب نفسه (١) وفي الذكر الحكيم : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٢) ، فتجده يعزو الأموال إلى أربابها ويحرّم أكلها بالباطل إلاّ أنْ تستباح بتجارة شرعيّة تستتبع رضا المالك الخاصّ ، وهناك آيات كريمة كثيرة تربو على خمسين آية لم يعدها عزو الأموال إلى مالكيها. تقدّم شطر منها في صفحة (٣٤٠).

فأبو ذر في هذا الموقف يدعو إلى ضدّ الدعوة الاشتراكيّة الملغية للملكيّة الخاصّة ، ويرى مخالفة ذلك من المنكر الذي يجب النهي عنه ، فلم يردعه عمّا مضى فيه قول عثمان : مالك وذلك لا أُمّ لك.

ومن قوله لمعاوية لمّا بنى الخضراء : إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف.

فأبو ذر هاهنا يجوّز أن يكون المال مقسوماً إلى مال الله وإلى ما يخصّ للإنسان نفسه ، فيرتّب على الأوّل الخيانة ، وعلى الثاني السرف ، ولم ينقم على معاوية نفس تصرّفه في المال وإنّما نقم عليه أحد الأمرين الخيانة أو الإسراف ، ولو كان ملغياً للملكيّة لكان الواجب عليه أن ينتقد منه أصل تصرّفه في تلكم الأموال.

وتراه يسمّي مال المسلمين من الفيء والصدقات والغنائم مال الله ؛ وقد روى ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً لعثمان حيث قال له : أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلا» وصدّقه في حديثه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهذه التسمية لم تكن قصراً على عهد أبي ذر ومعاوية وإنّما كانت دارجة قبله

__________________

(١) مرّ الحديث ص ١٢٩. (المؤلف)

(٢) النساء : ٢٩.


وبعده ، هذا عمر بن الخطّاب وقوله لأبي هريرة لمّا قدم من البحرين : يا عدوّ الله وعدوّ كتابه أسرقت مال الله؟ قال : لست بعدوّ الله ولا بعدوّ كتابه ؛ ولكنّي عدوّ من عاداهما ، ولم أسرق مال الله (١).

وقال الأحنف بن قيس : كنّا جلوساً بباب عمر فخرجت جارية ، فقلنا : هذه سُرّ سُرّيّة عمر ، فقالت : إنّها ليست بسُرّيّة عمر إنّها لا تحلّ لعمر ، إنّها من مال الله. قال : فتذاكرنا بيننا ما يحلّ له من مال الله ، قال : فرقى ذلك إليه فأرسل إلينا ، فقال : ما كنتم تذاكرون؟ فقلنا : خرجت علينا جارية فقلنا : هذه سُريّة عمر. فقالت : إنّها ليست بسُريّة عمر إنّها لا تحلّ لعمر ، إنّها من مال الله ، فتذاكرنا بيننا ما يحلّ لك من مال الله. فقال : ألا أُخبركم بما أستحلّ من مال الله؟ حُلّتين : حلّة الشتاء والقيظ (٢).

وقال عمر : لا يترخّصنّ أحدُكم في البرذعة أو الحبل أو القتب ؛ فإنّ ذلك للمسلمين ليس أحد منهم إلاّ وله فيه نصيب ، فإن كان لإنسان واحد رآه عظيماً ، وإن كان لجماعة المسلمين ارتخص فيه وقال : مال الله (٣)؟!

ومن قوله في حديث : البلاد بلاد الله ، وتحمى لنعم مال الله ، يحمل عليها في سبيل الله (٤).

وفي حديث من قوله : المال مال الله ، والعباد عباد الله ، والله لو لا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر (٥).

__________________

(١) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٩ [ص ٣٤٢ ح ٦٦٧] ، راجع ما أسلفناه في : ٦ / ٢٥٤ الطبعة الأُولى و ٢٧١ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٨ [ص ٣٤١ ح ٦٦٣]. (المؤلف)

(٣) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٦٨ [ص ٣٤٢ ح ٦٦٥]. (المؤلف)

(٤) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٩ [ص ٣٧٧ ح ٧٤١]. (المؤلف)

(٥) الأموال لأبي عبيد : ص ٢٩٩ [ص ٣٧٧ ح ٧٤٢]. (المؤلف)


وكان عمر كلّما مرّ بخالد قال : يا خالد أَخرِج مال الله من تحت استك (١).

وهذا مولانا أمير المؤمنين يقول في خطبته الشقشقيّة (٢) : «إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع».

وفي خطبة له عليه‌السلام : «لو كان المال لي لسوّيت بينهم ، فكيف و [إنما] المال مال الله؟ ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف» (٣).

ومن كتاب له إلى عامله بآذربيجان : «ليس لك أن تفتات في رعيّة ، ولا تخاطر إلاّ بوثيقة ، وفي يديك مال من مال الله عزّ وجلّ وأنت من خزّانه» (٤).

ومن كتاب له إلى أهل مصر : «ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأُمّة سفهاؤها وفجّارها فيتّخذوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، والصالحين حرباً ، والفاسقين حزبا» (٥).

ومن كتاب له إلى قُثَم بن العباس : «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة» (٦).

وروي أنّه عليه‌السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال الله ، أحدهما عبد من مال الله والآخر من عُروض الناس. فقال عليه‌السلام : «أمّا هذا فهو من مال الله ولا حدّ عليه ، مال

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس : ص ٢٥٧ الطبعة الأُولى وص ٢٧٤ الطبعة الثانية. (المؤلف)

(٢) أسلفنا مصادرها في الجزء السابع : ص ٨٢ ـ ٨٧. (المؤلف)

(٣) نهج البلاغة : ١ / ٢٤٢ [ص ١٨٣ خطبة ١٢٦ والزيادة منه]. (المؤلف)

(٤) نهج البلاغة : ٢ / ٦ [ص ٣٦٦ كتاب ٥] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٣ [٤ / ١٣٤]. (المؤلف)

(٥) نهج البلاغة : ص ١٢٠ [ص ٤٥٢ كتاب ٦٢]. (المؤلف)

(٦) نهج البلاغة : ص ١٢٨ [ص ٤٥٧ كتاب ٦٧]. (المؤلف)


الله أكل بعضه بعضاً» الحديث. نهج البلاغة (١) (٢ / ٢٠٢).

كما أنّ التسمية بمال المسلمين أيضاً كان مطّرداً قبل هذا العهد وبعده ، قال عمر ابن الخطّاب لعبد الله بن الأرقم : اقسم بيت مال المسلمين في كلّ شهر مرّة ، اقسم مال المسلمين في كلّ جمعة مرّة. ثمّ قال : اقسم بيت المال في كلّ يوم مرّة. قال : فقال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين لو أبقيت في مال المسلمين بقيّة تعدّها لنائبة. سنن البيهقي (٦ / ٣٥٧).

وقال عمر في خالد لمّا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف : إن كان دفعها من ماله فهو سرف ، وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة (٢). الغدير (٦ / ٢٧٤).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له في ذكر أصحاب الجمل : «فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها» نهج البلاغة (٣) (١ / ٣٢٠).

وقال لعبد الله بن زمعة : إنّ هذا المال ليس لي ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين. نهج البلاغة (٤) (١ / ٤٦١).

ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه : «وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك خُنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدنّ عليك شدّة» نهج البلاغة (٥) (٢ / ١٩).

وفي كتاب لعبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز : إنّي قد أخرجت للناس أُعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه : انظر كلّ من أدان في غير

__________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٢٣ رقم ٢٧١.

) انظر : تاريخ الطبري : ٤ / ٦٧ حوادث سنة ١٧ ه‍ ، البداية والنهاية : ٧ / ٩٣ حوادث سنة ١٧ ه‍.

(٣) نهج البلاغة : ص ٢٤٧ خطبة ١٧٢.

(٤) نهج البلاغة : ص ٣٥٣ رقم ٢٣٢.

(٥) نهج البلاغة : ص ٣٧٧ كتاب ٢٠.


سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه : إنّي قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه : أن انظر كلّ بكر ليس له مال فشاء أن تزوّجه [فزوّجه] وأصدق عنه. فكتب إليه : إنّي قد زوّجت كلّ من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. الأموال لأبي عبيد (١) (ص ٢٥١).

ولكلّ من التسميتين وجه معقول ، أمّا التسمية بمال الله فلأنّه لله سبحانه وهو الآمر بإخراجه ومعيّن النُصب ، ومبيّن الكمّيات المخرجة ، ومشخّص المصارف والمستحقّين ، وأمّا التسمية بمال المسلمين فلأنّهم المصرف والمدرّ له ، فلا غضاضة على أبي ذر لو سمّاه بأيّ من الاسمين ، ولا يعرب أيّ منهما عن مبدأ سوء.

وما رواه الطبري في تاريخه (٢) (٥ / ٦٦) من طريق عرّفناك رجاله في (ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨) وأنّه باطل لا يُعوّل عليه ، من أنّه لمّا ورد ابن السوداء (٣) الشام لقي أبا ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ، ألا إنّ كلّ شيء لله ، كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله : قال؟ يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال : فلا تقله. قال : فإنّي لا أقول : إنّه ليس لله ولكن سأقول : مال المسلمين.

فهذا بعد الغضّ عن إسناده الباطل ومتنه الركيك وبعد الإغضاء عن أنّ مثل أبي ذر الذي هو من أوعية العلم وعلب الفضائل وحملة الرأي السديد ليس بالذي يحرّكه ابن السوداء اليهوديّ فيعيره أُذناً واعية ، ثم يمضي لما ألقاه عليه من التلبيس

__________________

(١) الأموال : ص ٣٢٠ ح ٦٢٥.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٠ ه‍.

(٣) يعني عبد الله بن سبأ اليهودي الممقوت لكافّة فرق المسلمين خصوصاً الشيعة منهم ، فإنّه محكوم عليه عندهم بالكفر ، وقد نقم عليه وعلى أصحابه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لإلحادهم. (المؤلف)


فيخبط الجوّ ويعكّر الصفو. فقصارى ما فيه أنّ أبا ذر وجد معاوية متذرّعاً بهذه التسمية إلى الحيف في أموال المسلمين والتقلّب فيها على حسب الميول والشهوات بإيهام أنّ المال مال الله ، فهو مباح لعبيده يتصرّف كلّ منهم فيه كيف شاء ويتملّك منه ما شاء كالمباحات الأصليّة ، فأراد أبو ذر أن يدحر حجّته الداحضة ورأيه الضئيل بأنّ المال للمسلمين كافّة بأمر من مالكه الأصليّ جلّت آلاؤه ، فليس لأحد أن يستبدّ بشيء منه دونهم ، ويستغلّه بحرمانهم واكتناز الذهب والفضّة ، وفيهم أمسّ الحاجة إلى مقدّراتهم.

ويُعرب عن رأي معاوية ما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان ، رواه المسعودي في مروج الذهب (١) (٢ / ٧٩) من طريق إبراهيم بن عقيل البصري ، قال : قال معاوية يوماً وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ، فقال صعصعة :

تمنّيك نفسك ما لا يكو

ن جهلاً معاويُ لا تأثم

فهذا الحوار بين أبي ذر ومعاوية في منتأى عن إثبات المالكيّة ونفيها ، وليس فيه إلى المبدأ الاشتراكيّ أيّ طرف رامق ، وتُعرب عن رأي معاوية خطبة الأرحبي المذكورة (ص ٣٤٤).

ومن كلمات أبي ذر قوله لمعاوية لمّا بعث إليه بثلاثمائة دينار : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

فإنّك تشهد هاهنا أبا ذر يقسّم المال إلى العطاء المفترض الذي منع منه عامه ذلك ـ لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ـ وإلى المال المملوك الذي يُخرج منه الصلة

__________________

(١) مروج الذهب : ٣ / ٥٣.


بطوع من صاحبه ورغبة ، فإنّ الصلة من المروءات وهي لا تكون إلاّ من خالص مال الرجل ، ومن غير الحقوق الإلهيّة ، ومن غير الأموال المسروقة ، فأين هو عن إلغاء الملكيّة الذي هو الحجر الأساسي للاشتراكيّين؟ على أنّه ليس عندهم صلة ولا غيرها من حقوق الإنسانيّة ، وإنّما هي عندهم أُجور على قيم أعمال الرعيّة.

رواياته في الأموال :

وأمّا ما رواه أبو ذر في باب الأموال عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينادي بما لا يلائم الاشتراكيّة قطّ ، وإليك جملة منه :

١ ـ «ما من مسلم ينفق من كلّ مال له زوجين في سبيل الله عزّ وجلّ إلاّ استقبلته حجبة الجنّة كلّهم يدعوه إلى ما عنده». قلت : وكيف ذلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن كانت رجالاً فرجلين ، وإن كانت إبلاً فبعيرين ، وإن كانت بقراً فبقرتين».

وفي لفظ : «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنّة» (١).

ففيه إثبات المال لكلّ إنسان بالرغم من المبدأ الاشتراكيّ ، والترغيب بالتطوّع بالإنفاق في سبيل الله من كلّ نوع زوجين.

٢ ـ «في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البرّ صدقته».

٣ ـ «ما من رجل يموت فيترك غنماً أو إبلاً أو بقراً لم يؤدّ زكاته إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها».

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده : ٥ / ١٥١ ، ١٥٣ ، ١٥٩ ، ١٦٤ [٦ / ١٨٧ ح ٢٠٨٣٤ ، ص ١٩٠ ح ٢٠٨٥١ ، ص ١٩٩ ح ٢٠٩٠٤ ، ص ٢٠٦ ح ٢٠٩٤٢]. (المؤلف)


وفي لفظ : «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة ...» الحديث (١).

فهي تثبت الماليّة وأنّه لا فريضة على الإنسان في ماله غير الزكاة ، وهي من بعضها ، وأنّ الباقي لصاحبه ، رضي الاشتراكيّ أو غضب.

وأمّا ما وقع له مع كعب الأحبار في مشهد عثمان ـ وهو من عمدة ما تشبّث به المتحاملون على أبي ذر وقاذقوه ـ ممّا أخرجه الطبري بإسناده الواهي عن السريّ الكذّاب الوضّاع ، عن شعيب المجهول الذي لا يعرف ، عن سيف بن عمر الوضّاع المتّهم بالزندقة الذين عرفت حالهم في صفحة (٣٢٦ ـ ٣٢٧) من طريق ابن عبّاس قال : كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة ، وكان يحبّ الوحدة والخلوة ، فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار ، فقال لعثمان : لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف ، وقد ينبغي لمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات. فقال كعب : من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجّه ، فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال : يا أبا ذر اتّق الله واكفف يدك ولسانك. وقد كان قال له : يا ابن اليهوديّة ما أنت وما هاهنا؟ والله لتسمعنّ منّي أو لأدخل عليك (٢).

ومرّ (ص ٢٩٥) في لفظ المسعودي (٣) : أنّ أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم ، فقال عثمان : أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقّ لغيره؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٥٢ ، ١٥٨ ، ١٦٩ ، ١٧٩ [٦ / ١٨٩ ح ٢٠٨٤٤ ، ص ١٩٧ ح ٢٠٨٩٢ ، ص ٢١٤ ح ٢٠٩٨٠ ، ص ٢٢٨ ح ٢١٠٤٧] ، الأموال لأبي عبيد : ص ٣٥٥ [ص ٤٤٣ ح ٩٢٢] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٤٤ [١ / ٥٦٩ ح ١٧٨٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الطبري : ٥ / ٦٧ [٤ / ٢٨٤ حوادث سنة ٣٠ ه‍]. (المؤلف)

(٣) مروج الذهب : ٢ / ٣٥٧.


فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له : كذبت يا ابن اليهوديّ ثم تلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) ، الآية (١). فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب : لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يا ابن اليهوديّ ما أجرأك على القول في ديننا! فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي! غيّب وجهك عنّي فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام (٢).

فإنّما دعا أبو ذر في هذه الواقعة إلى العطاء المندوب المدلول عليه بقوله : ـ ينبغي ـ الوارد في رواية الطبري ، وبالآية الكريمة الواردة في حديث المسعودي : وهو من واجبات البشريّة وفروض الإنسانيّة التي ضيّعتها الشيوعيّة الممقوتة ، والأحاديث المرغّبة لكلّ ممّا ذكر أبو ذر أكثر من أن تحصى.

جاء من طريق فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ في المال حقّا سوى الزكاة» ثمّ قرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). الآية المذكورة. وروى بيان وإسماعيل هذا الحديث عن الشعبي.

أخرجه (٣) ابن أبي حاتم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والدارقطني ، وابن جرير ، وابن المنذر.

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

(٢) هذه القضيّة كما ترى وقعت قبل إخراج أبي ذر إلى الشام وهي السبب الوحيد في نفيه إليها ، فهذا اللفظ يكذّب ما في رواية الطبري من أنّ أبا ذر كان يختلف من الربذة إلى المدينة ... إلخ. ولم يختلف اثنان في أنّ أبا ذر في مدّة نفيه إلى الربذة لم يأتِ قطّ إلى المدينة كما مرّ في : ص ٣٣٣. (المؤلف)

(٣) سنن الترمذي : ٣ / ٤٨ ح ٦٦٠ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٠ ح ١٧٨٩. الكامل في ضعفاء الرجال : ٤ / ١١ رقم ٨٨٨ ، سنن الدارقطني : ٢ / ١٢٥ ح ١١ ، جامع البيان : مج ٢ / ج ٢ / ٩٦.


راجع (١) سنن البيهقي (٤ / ٨٤) ، أحكام القرآن للجصّاص (١ / ١٥٣) ، تفسير القرطبي (٢ / ٢٢٣) ، تفسير ابن كثير (١ / ٢٠٨) ، شرح سنن ابن ماجة (١ / ٥٤٦) تفسير الشوكاني (١ / ١٥١) ، تفسير الآلوسي (٢ / ٤٧).

وأخرج البخاري في الصحيح (٢) في كتاب الزكاة (٣ / ٢٩) من طريق أنس قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء (٣) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس : فلمّا أنزلت هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ الله تبارك وتعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنّها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بخ ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه.

وأخرجه (٤) مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي مختصراً.

وأخرج أبو عبيد في الأموال (٥) (ص ٣٥٨) من طريق ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ذا ينفقون؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ١٣١ ، الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ١٦٢ ، فتح القدير : ١ / ١٧٤.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٣٠ ح ١٣٩٢.

(٣) بيرحاء ـ بفتح الموحّدة والراء المهملة ـ : موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر بني جديلة [معجم البلدان : ١ / ٥٢٤]. (المؤلف)

(٤) صحيح مسلم : ٢ / ٣٨٨ ح ٤٢ كتاب الزكاة ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٠٩ ح ٢٩٩٧ ، السنن الكبرى : ٦ / ٣١١ ح ١١٠٦٦.

(٥) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٣٣.


مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١). قال : فتلك التطوّع والزكاة سوى ذلك.

وقال أبو عبيد في الأموال (٢) (ص ٣٥٨) : إنّ هذا مذهب (٣) ابن عمر وأبي هريرة ، وأصحاب رسول الله أعلم بتأويل القرآن وأولى بالاتّباع ، و [هو] (٤) مذهب طاووس ، والشعبي أنّ في المال حقوقاً سوى الزكاة مثل برّ الوالدين ، وصلة الرحم ، وقرى الضيف ، مع ما جاء في المواشي من الحقوق.

وفي الأموال (٥) (ص ٣٥٧) من طريق أبي حمزة قال : قلت للشعبي : إذا أدّيت زكاة مالي أيطيب لي مالي؟ قال : فقرأ عليّ هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخر الآية المذكورة.

فنداء أبي ذر في موقفه هذا نداء القرآن الكريم ونداء المشرّع الأعظم ونداء تابعيهما من الصحابة والتابعين ، ولا يردّ ذلك إلاّ مثل كعب الأحبار الذي هو حديث عهد باليهوديّة ، وقد اعتنق الإسلام أمس ، على حين أنّه لم يسلم طيلة عهد النبوّة وإنّما سالم على عهد عمر ، ولا أدري هل حدته إلى ذلك الحقيقة؟ أو الفَرَق من بطش المسلمين وشوكتهم؟ أو الطمع في العطاء الجاري؟ ولا أدري أيضاً أنّه في مدّة إسلامه القصيرة هل أحاط خبراً بنواميس الإسلام وفروضه وسننه أو لا؟ ولا أحسب ، كما أوعز إليه أبو ذر الناظر إليه من كثب ، حيث قال له : يا ابن اليهوديّة ما أنت وما هاهنا؟ وكان من حقّه أن يؤدّب بالمحجن كما فعله سيّد غفار ـ ساء الخليفة أم سرّه ـ

__________________

(١) البقرة : ٢١٥.

(٢) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٣١.

(٣) في المصدر : فهذا غير مذهب ...

(٤) من المصدر.

(٥) الأموال : ص ٤٤٦ ح ٩٢٩.


لأنّه لم يكن أهلاً للفتيا ، فأفتى تجاه عالم من علماء الصحابة الذي ملء إهابه العلم بالكتاب والسنّة ، وحشو ردائه الفروض والسنن ، ولا يُفرغ إلاّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أظلّت الخضراء وما أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر».

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

وإثبات العطاء مندوباً ومفترضاً فرع إثبات الماليّة للأشخاص ، ولا تتّفق معه الشيوعيّة بحال ، وأين يقع أبو ذر منها؟

٤ ـ «ثلاثة يبغضهم الله : الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والغنيّ الظلوم».

وفي لفظ : «إنّ الله يبغض الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والمكثر البخيل».

وفي لفظ : «إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور ، والبخيل المنّان ، والتاجر الحلاّف» (٢).

في هذه الروايات ذكر اختلاف طبقات الناس وحدودهم بما يملكون ، ففقير وغنيّ ، ومكثر وتاجر تتقوّم تجارته برأس ماله ، والاشتراكيّ يرى أنّ الناس شرع سواء بالنسبة إلى الأموال.

٥ ـ قلت : يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلّون ويصومون ويحجّون.

__________________

(١) التوبة : ٧٩.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٥٣ ، ١٧٦ [٦ / ١٩٠ ح ٢٠٨٤٨ ـ ٢٠٨٤٩ ، ص ٢٢٣ ح ٢١٠٢٠] ، وأخرجه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه [٤ / ١٠٤ ح ٢٤٥٦] ، والنسائي [في السنن الكبرى : ٤ / ٢٦٩ ح ٧١٣٧] ، والترمذي في باب كلام الحور العين وصحّحه [٤ / ٦٠١ ح ٢٥٦٨] ، وابن حبّان في صحيحه [٨ / ١٣٦ ح ٣٣٤٩] ، والحاكم [في المستدرك : ٢ / ١٢٣ ح ٢٥٣٢] وصحّحه. راجع الترغيب والترهيب للمنذري : ١ / ٢٤٧ ، و ٢ / ٢٣٠ ، ٢٣٨ [٢ / ٣٣ ، ص ٥٨٩ ، ص ٦١٠]. (المؤلف)


قال : «وأنتم تصلّون وتصومون وتحجّون». قلت : يتصدّقون ولا نتصدّق. قال : «وأنت فيك صدقة : رفعك العظم عن الطريق صدقة ، وهدايتك الطريق صدقة ، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة ، وبيانك عن الأرتم (١) صدقة ، ومباضعتك امرأتك صدقة» قال : قلت : يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال : «أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟». قال : قلت : نعم. قال : «فتحتسبون بالشرّ ، ولا تحتسبون بالخير؟».

وفي لفظ : قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأُجور ، يصلّون كما نصلّي ويصومون كما نصوم ويتصدّقون بفضول أموالهم ، قال : فقال رسول الله : «أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة وبكلّ تحميدة صدقة». الحديث.

وفي لفظ : قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذهب أهل الأموال بالأجر. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فيك صدقة كثيرة فاذكر فضل سمعك وفضل بصرك». الحديث.

وفي لفظ : «على كلّ نفس في كلّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه». قلت يا رسول الله : من أين أتصدّق وليس لنا أموال؟ قال : «لأنّ من أبواب الصدقة : التكبير ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، وأستغفر الله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتُسمع الأصمّ والأبكم حتى يفقه ، وتدلّ المستدلّ على حاجة له وقد علمت مكانها ، وتسعى بشدّة ساقيك إلى اللهفان المستغيث ، وترفع بشدّة ذراعيك مع الضعيف ، كلّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك» (٢).

__________________

(١) قال ابن الأثير في النهاية : ٢ / ١٩٤ بعد روايته الحديث : كذا وقع في الرواية ، فإن كان محفوظاً فلعله من قولهم : رتمت الشيء إذا كسرته ، ويكون معناه معنى الأرَتّ ، وهو الذي لا يفصح الكلام ولا يصحّحه ولا يبينه.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ١٥٤ ، ١٦٧ ، ١٧٨ [٦ / ١٩١ ح ٢٠٨٥٦ ، ص ٢١٠ ح ٢٠٩٥٨ ، ٢١١ ح ٢٠٩٦٢ ، ٢١٢ ح ٢٢٠٩٧٢ ص ٢٢٦ ح ٢١٠٣٨] ، صحيح مسلم : ٣ / ٨٢ [٢ / ٣٩٣ ح ٥٣ كتاب الزكاة] ، سنن البيهقي : ٤ / ١٨٨. (المؤلف)


وفي هذه الأحاديث تقرير الأغنياء وأهل الدثور والأموال على أحوالهم المنوطة بالوفر المخصوص بهم واليسار الممنوح لهم وأنّه ليس منهم ، وذكر الصدقة من فضول أموال المثرين ، والتأسف على ما يفوت الفقراء من صدقاتهم بالأموال فرضاً وتطوّعاً ، وأين يثبت الاشتراكيّ مالاً لأحد فيثبت له فضولاً؟ ومتى يرى في العالم غنيّا غير غاصب؟ وأنّى يُبقي موضوعاً للصلات والصدقات وفروض الإنسانيّة؟ لكن روايات أبي ذر تثبت كلّ ذلك.

٦ ـ أمرني خليلي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبع : أمرني بحبّ المساكين والدنوّ منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.

وفي لفظ : أوصاني حِبيّ بخمس : أرحم المساكين وأجالسهم ، وأنظر إلى من هو تحتي ولا أنظر إلى من هو فوقي (١).

... وممّا لا غبار عليه أنّ المراد من الدون والتحت في الحديثين : من هو دونه في المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم ، ولا ينظر إلى من فوقه لئلاّ يشغله الاستياء أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة ، وأمّا الأعمال والطاعات والملكات الفاضلة ، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى من هو فوقه فيها ليتنشّط على مثل عمله فيتحرّى شأوه ، ولا ينظر إلى من هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن اكتساب الفضائل والفواضل ، وربّما داخله العجب.

ففي الحديثين إثبات الماليّة والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعيّ.

٧ ـ ليس من فرس عربيّ إلاّ يؤذن له مع كلّ فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهمّ

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٥٩ ، ١٧٣ [٦ / ١٩٩ ح ٢٠٩٠٦ ، ص ٢١٩ ح ٢١٠٠٦] ، حلية أبي نعيم : ١ / ١٦٠. (المؤلف)


خوّلتني من خوّلتني من بني آدم ، فاجعلني من أحبّ أهله وماله إليه. أو : أحبّ أهله وماله إليه (١).

نحن لا نحتجّ هنا بدعوة الفرس ورأيه ، لكن بما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إلهام الله سبحانه إيّاه أنّه يدعو بتلك الدعوة وفيها إثبات التحويل والماليّة وإن ازورّ عنهما الشيوعيّ.

هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدّق تضادّ بنصّها ما اتّهم به من المبدأ الممقوت ، وإن هي إلاّ نداء القرآن الكريم وما صدع به الرسول الأمين.

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ)

(الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢)

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (٣)

نظرة في الكلمات الواردة في إطراء أبي ذر

هل تلائم ما اتّهم به؟

أمّا ثناء الصحابة عليه بعد نفيه ودأبه على ما هتف به فحسبك من ذلك قول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك» إلى آخرما مرّ في صفحة (ص ٣٠٠).

صدرت هذه الكلمة الذهبيّة من الإمام عليه‌السلام في منصرم ما صعّد به أبو ذر وصوّب ، فليس له بعد هذا إلاّ طفائف سمعها منه من زاره بالمنفى ـ الربذة ـ فلم يكن

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٧٠ [٦ / ٢١٥ ح ٢٠٩٨٦]. (المؤلف)

(٢) الزمر : ١٨.

(٣) آل عمران : ٧.


لها شأن كبير ، وفي الكلمة صراحة بأنّ غضب أبي ذر كان لله فعليه أن يرجو من غضب له ، وهو فرع رضا الله سبحانه على ما ناء به ودعا إليه ، وأنّ ما لهج به ممّا أغضب القوم كانت كلمة دينيّة محضة تجاه الدنيويّة المحضة التي خافها أبو ذر على دينه وخافها القوم على دنياهم ، فامتحنوه بالقلى ونفوه إلى الفلا ، وأنّه هو الرابح غداً ، وإنّما القوم حاسدوه ، وأيّ من هذه تلتئم مع الشيوعيّة التي هي مادّية محضة ليس بينها وبين مرضاة الله تعالى أيّ صلة؟

أتحسب أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أطرى أبا ذر بهذا الإطراء البالغ ويقول في كلمته الأخرى لعثمان : «اتّق الله سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك» ، فيراه صالحاً ويرى هلاكه في ذلك التسيير حوباً لا يصدر من المتّقي ، إنّه أطراه وهو غير مستشفّ لنظريّته؟ ولا عارف بنفسيّته وهو كروحه التي بين جنبيه؟ أو أنّه يوافقه على المذهب الشيوعيّ؟ أو أنّه يراغم أعداءه مع حيطته بباطله؟ وقد قال لعثمان ـ وهو الصادق الأمين ـ : والله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقّه. وأيّ حقّ للشيوعيّ مُتحرّي الفساد في الجامعة وباخس حقوق الأُمّة؟ وإنّما الحقّ للمؤمن الكامل في نفسه ، المحقّ في دعائه ، الصالح في رأيه.

وهناك ما هو أصرح من ذلك في كون أبي ذر محقّا وأنّ نظريّة من خالفه من الباطل المحض ، وه وقول الإمام في ذيل كلمته في توديع أبي ذر : «يا أبا ذر لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل». وأيّ اشتراكيّ يكون هكذا؟ نعوذ بالله من السفاسف.

أضف إلى كلمة الإمام قول ولده الإمام الزكيّ السبط المجتبى أبي محمد الحسن لأبي ذر : «قد أتى من القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ، واصبر حتى تلقى نبيّك وهو عنك راض». راجع (ص ٣٠١).

فترى الإمام المعصوم يتذمّر ممّا أصاب أبا ذر من القوم ، ويأمره بالصبر المقابل


بالأجر الجزيل ، وأنّه سيلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنه راض ، وهل تجد توفيقاً بين [رضا] (١) الرسول ومعتقد الإمام المجتبى وبين الشيوعيّة؟ ذلك المعول الهدّام لأساس دين المصطفى وسنّة الله التي لن تجد لها تحويلاً.

وأشفع الكلمتين بقول الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله لأبي ذر : «قد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ؛ فاسأل الله الصبر والنصر».

وهذه الكلمة لدة كلمات أبيه وأخيه ـ صلوات الله عليهم ـ في المصارحة بأنّ دعوة أبي ذر كانت دينيّة ولم يكن فيها أيّ شذوذ ، ودعوة مناوئيه دنيويّة ، والمرجع في الإفراج عنه إزاء ما انتابه من المحن هو الله ، لرضاه سبحانه بدعوة المنكوب وسخطه على من نال منه ؛ ولا يحسب عاقل أنّ شيئاً من ذلك يلتئم مع الاشتراكيّة الممقوتة.

وبعد تلكم الكلمات الذهبيّة خطاب عمّار بن ياسر أبا ذر بقوله : لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك ، والله لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك.

أيجوز لمسلم عاديّ فضلاً عن مثل عمّار الذي لا يفارق الحقّ ولا يفارقه نصّا من النبيّ الكريم أن يدعو على أُناس نكبوا بعائث في المجتمع الدينيّ مقلق فيهم السلام بذلك الدعاء المجهد؟ ويحكم عليهم بأنّهم أهل دنيا غرّتهم الأمانيّ ، وأنّ أعمالهم غير مرضيّة ، وأنّهم خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين؟

يدعو عليهم بذلك في مشهد إمام معصوم خشن في ذات الله كمولانا أمير المؤمنين وشبليه السبطين الحسنين ثمّ لا ينكر ذلك عليه أحد منهم. إنّ هذا لا يكون. وإنّ مشايعة القوم لأبي ذر قبل هذه الكلمات كلّها مع العلم بنهي الخليفة عنها إشادة بأمره ؛ وتصديق لمقاله ، والإمام يرى أنّ النهي عن مشايعته معصية أو أنّه

__________________

(١) ساقط من الطبعة الثانية.


خلاف الحقّ لا يُتّبع كما قاله لعثمان (١) ولا يجتمع شيء من ذلك مع ما قذفوه به من الطامّة الكبرى.

كانت الصحابة كلّهم المهاجرون منهم والأنصار ينقمون ما نيل به أبو ذر من النفي والتعذيب ، وكان قيل النقمة بين شفاههم ، وفي طيّات قلوبهم ، وأسطر خطاباتهم ، يوم التجمهر ويوم الدار ، وكانت إحدى العلل المعدّة لما جرى هنالك من مغبّات الأعمال ، فلم تكن الغضبة عمّن ذكرنا أسماءهم بدعاً من جمهرة الأصحاب ، غير أنّ منهم من صبّها في بوتقة الإطراء لأبي ذر ؛ ومنهم من أفرغها في قالب العيب على من نال منه ، ولهم هنالك لهجات مختلفة في الصورة متّحدة في المآل ، ولذلك عدّ المؤرّخون ممّا أنكر الصحابة من سيرة عثمان تسييره أبا ذر. وقال البلاذري : قد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمّار ، فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر (٢).

وهذه النقمة العامّة المنبعثة عن مودّة القوم لأبي ذر مودّة خالصة دينيّة وإخاء في الإيمان وولاء في الطريقة المثلى. كلّ ذلك أخذاً بما وعوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أبي ذر وهديه وسمته ونسكه وتقواه وإيمانه وصدقه لا تلتئم مع شيء ممّا قذفوا به أبا ذر من الشيوعيّة ، أو تقول : إنّ الصحابة كلّهم شيوعيّون؟ أعوذ بالله من الفرية الشائنة. ولو كان أبو ذر شيوعيّا كان في الحقّ نفيه عن أديم الأرض لا عن المدينة فحسب ، وكان من واجب الصحابة أن يرضوا بذلك الحكم البات. قال الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا

__________________

(١) راجع صفحة : ٢٩٧ و ٣٠٢. (المؤلف)

(٢) أنساب البلاذري : ٥ / ٢٦ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٥٠ [٢ / ١٧٠ ـ ١٧١] ، مروج الذهب : ١ / ٤٣٨ ، ٤٤١ [٢ / ٣٥٦ ، ٣٦٢] ، الرياض النضرة : ٢ / ١٢٤ [٣ / ٧٣ ـ ٧٥] ، تاريخ ابن خلدون : ٢ / ٣٨٥ [٢ / ٥٨٧] ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٤] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٦١ [٢ / ٢٦٨]. (المؤلف)


أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) وأيّ فساد في الأرض أعظم من هذا المبدأ التعيس المضادّ للكتاب والسنّة؟ وفي الكتاب الكريم قوله سبحانه : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٢). وأما السنّة الشريفة فحدّث عنها في باب الأموال والاختصاص فيها وتقرير ميسرة الأغنياء ولا حرج. وبذلك كلّه تقوم دعائم المدنيّة ، وتشاد علالي الحضارة الراقية.

ثناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه وعهده إليه :

أمّا ما أُثر عن نبيّ الإسلام من ذلك فقد قدّمنا شطراً منه في صفحة (٣١٢ ـ ٣١٩) ولا منتدح من أن نقول : إنّ نبيّ العظمة كان جدّ عليم بواسع علم النبوّة بما سوف ينوء به أبو ذر في خواتيم أيّامه بأقوال وأعمال تبهظ مناوئيه ، وكان يعلم أيضاً أنّ أُمّته سيتّخذون كلّ ما لهج به أصولاً متّبعة. فلو كان يعلم في أبي ذر شذوذاً لما أغرى الأُمّة بموافقته بتلكم الكلم الدرّية ، على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إليه وأخبره أنّ ما يصيبه من الكوارث من جرّاء ما يدعو إليه في الله وبعينه ؛ فلا يعقل أن يكون في رأيه شذوذ عن طريقة الدين ، بل كان من واجبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُنبّهه على خطئه في الرأي وغلطه في الدعوة ، فإذ لم يفعل وأشفع ذلك بثنائه البالغ عليه وعهده إليه علمنا أنّ أبا ذر هو ذلك البرّ التقيّ ، ورجل الإصلاح ، ومثال العطف والحنوّ على ضعفاء الأُمّة ، وطالب الخير والسعادة لأقويائها ، ولقد تحمّل الشدائد لينقذ المكبّين على الدنيا من مغبّة العمل السيّئ ، وليسعد آخرين برغد العيش وبُلهنية الحياة ، موصولة حلقات حياتهم الدنيا بدرجات الآخرة العليا ، لكن جهلوه وجهلوا أمره وجهلوا حقّه ،

__________________

(١) المائدة : ٣٣.

(٢) الزخرف : ٣٢.


وأضاعوه وأيّ فتىً أضاعوا؟ وأضاعوا فيه وصيّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناوأه قوم ليسوا له بأكفاء.

ولو أنّي بُليت بهاشميٍ

خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان عليَّ ما ألقى ولكن

تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١)

نظرة في مقال

أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر

جاء في جريدة الوقت المصريّة العدد الثاني لسنتها الأُولى الموافقة سنة (١٣٦٧) ما نصّه :

لجنة الفتوى بالأزهر تقول : لا شيوعيّة في الإسلام.

عن الأهرام الغرّاء

كانت وزارة الداخليّة قد أحالت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر كتاباً تناول فيه مؤلّفه مذهب العالم الصحابيّ أبي ذر الغفاريّ غفر الله له ، وخلص من بحثه إلى القول بوجود الشيوعيّة في الإسلام ، وذلك لكي تعرف الوزارة رأي الدين في ذلك ، وما إذا كان هذا الكتاب يمكن تداوله. وقد أحال فضيلة الأستاذ الأكبر هذا الموضوع إلى لجنة الفتوى في الأزهر ، فاجتمعت برئاسة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم المفتي السابق ورئيس هذه اللجنة ، وبحثت موضوع الكتاب بحثاً مستفيضاً ، ثمّ أصدرت فيه فتواها وقد تلقّت وزارة الداخليّة هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر. وهذا نصّها بعد الديباجة :

__________________

(١) الصف : ١٤.


لا شيوعيّة في الإسلام

إنّ من مبادئ الدين الإسلاميّ احترام الملكيّة ، وإنّ لكلّ امرئٍ أن يتّخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبّه ويستطيعه ويتملّك بهذه السبل ما يشاء ، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنّه لا يجب في مال الأغنياء إلاّ ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجيّة أو القرابة ، وما يكون لعوارض موقّتة وأسباب خاصّة كإغاثة ملهوف وإطعام جائع مضطرّ ، وكالكفّارات وما يتّخذ من العدّة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ، ولسائر المصالح العامّة المشروعة كما هو مفصّل في كتب التفسير وشروح السنّة وكتب الفقه الإسلاميّ. هذا هو الواجب. غير أنّ الإسلام يدعو كلّ قادر من المسلمين أن يتطوّع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البرّ والخير مع عدم الإسراف والتبذير في ذلك كما قال الله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (١) وكما قال عزّ وجلّ في وصف عباده الذين أثنى عليهم : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢) وكما تدلّ عليه السنّة في أحاديث كثيرة. وذهب أبو ذر الغفاري رضى الله عنه إلى أنَّه يجب على كلّ شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده ـ في سبيل الله ـ أي في سبيل البرّ والخير ، وأنّه يحرم ادّخار ما زاد عن حاجته ونفقته ونفقة عياله.

هذا هو مذهب أبي ذر ولا يُعلم أنّ أحداً من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفّل كثير من علماء المسلمين بردّ مذهبه وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين

__________________

(١) الإسراء : ٢٩.

(٢) الفرقان : ٦٧.


بما لا مجال للشكّ معه في أنّ أبا ذر رضى الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحقّ أنّ هذا مذهب غريب من صحابيّ جليل كأبي ذر ، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح ، ولذلك استنكره الناس في زمنه واستغربوه منه.

قال الآلوسي في تفسيره (١) بعد ما بيّن مذهبه ما نصّه : وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك ، وكان الناس يقرءون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كلّ المال لم يكن للآية وجه. وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حلّ مستغربين منه ذلك. انتهى.

ومن هذا يتبيّن أنّ هذا الرأي خطأ وصاحبه مجتهد مخطئ مغفور له خطؤه بل مأجور على اجتهاده ، ولكنّه لا يُتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين أنّه خطأ لا يتّفق هو وما يدلّ عليه كتاب الله وسنّة رسوله وقواعد الدين الإسلاميّ.

ولمّا كان مذهبه داعياً إلى الإخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضى الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة ـ وكان أبو ذر وقتئذٍ في الشام فاستدعاه الخليفة ، فأخذ أبو ذر يقرّر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس ، فطلب منه عثمان أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس ، فأقام بالربذة ـ مكان بين مكة والمدينة.

وقال ابن كثير في تفسيره (٢) : كان من مذهب أبي ذر رضى الله عنه تحريم ادّخار ما زاد على نفقة العيال. وكان يفتي بذلك ويحثّهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضرّ بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى عثمان وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات رضى الله عنه في خلافة عثمان.

__________________

(١) روح المعاني : ١٠ / ٨٧.

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٥٣.


وجاء في فتح الباري (١) للحافظ ابن حجر ما خلاصته : أنّ دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة ، ولذلك أمر عثمان أبا ذر أن يقيم بالربذة مع أنّ في بقائه بالمدينة مصلحة كبيرة لطالبي العلم لما في بقائه بالمدينة من مفسدة تترتّب على نشر مذهبه.

وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ما في هذا الكتاب ـ الشيوعيّة في الإسلام ـ لا يتّفق هو ومبادئ الإسلام وقواعده. كما يتبيّن أنه لا شيوعيّة في الإسلام بالمعنى الذي يفهمه الناس ، والذي صرّح به صاحب هذا الكتاب وسمّاه شيوعيّة الإسلام ، ومن أجل هذا نرى ألاّ يذاع مثل هذا الكتاب بين الناس لئلاّ يتّخذها المفسدون في الأرض الهدّامون للنظم الصالحة ذريعة للإخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الإيمان والجاهلين بمبادئ الإسلام.

قال الأميني : إنّ وزارة الداخليّة أو شيخ الأزهر لو أحال كلّ منهما النظر في هذه المهمّة إلى لجنة عارفة بحال أبي ذر ، واقفة على مقاله ، مطّلعة على كتب الحديث والسير والتفاسير ، بصيرة بما فيها من الغثّ والسمين خالية عن الأغراض ، بعيدة عن النعرات الطائفيّة ، لحكمت بما هو الحقّ الصراح ، وعرفت أنّ ما دعا إليه أبو ذر لم يكن خارجاً عمّا سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالكيّة لكلّ إنسان ، وما يجب عليه إنفاقه من المال ، وما يتطوّع به الرجل من النفقات ، وقد أوقفناك قبل هذا على كلّ ذلك ، وأنّ هياجه لم يكن موجّهاً إلاّ إلى أناس معلومين كانوا يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقون منها في سبيل الله ، ويحرمون الأُمّة من منافعها المفروضة لها فضلاً عن المندوب إليها والمرغّب فيها. وبذلك كلّه تعرف أن ما عزت إليه اللجنة الحاكمة ـ من غير بصيرة ـ من وجوب إنفاق ما فضل من المال على حاجة الإنسان ونفقته ونفقة عياله زور من القول ، وفند (٢) من الرأي ، وليتها أشارت إلى مصدر ما ادّعته من

__________________

(١) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.

(٢) الفند : الكذب ، والمحرّف من الكلام.


مذهب أبي ذر الذي حسبته مخالفاً لجمهور الصحابة والتابعين ، وقد أسلفنا لك جملة ممّا أثر عنه في ذلك ، وليس في شيء منه أيّ دلالة على ما ادّعته من العزو المختلق ، وليتها بيّنت العلماء الذين تصدّوا لنقض مذهب أبي ذر ، وأشارت إلى ما جاءوا به في تدعيم حجّتهم ، ولعلّها أرادت بهم المؤرّخ محمد الخضري ، وأحمد أمين ، وصادق إبراهيم عرجون ، وعمر أبي نصر ، ومحمد أحمد جاد المولى بك ، وعبد الحميد بك العبادي ، وأمثالهم من المحدثين المتسرّعين الذين مُنيت بهم البلاد والعباد.

وأسلفنا لك أيضاً قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له على حقيقة رأيه ، واستيائهم لما نكب به من جرّاء ذلك ، وإجماع صلحائهم على أنّ ما جاء به كان رأياً صحيحاً دينيّا محضاً مستفاداً من الكتاب والسنّة.

وعجيب استغرابها مذهب أبي ذر وهي لا تعرفه ، وأعجب منه اعتذارها له ببعده عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد أبي ذر ، أيّ اجتهاد هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرّعها يبعد حامله عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح؟ نعم ؛ كم وكم عند القوم من المجتهدين البعيدة آراؤهم عن مبادئ الإسلام كابن ملجم قاتل الإمام أمير المؤمنين ، وأبي الغادية قاتل عمّار ، وابني هند والنابغة قائدي الفئة الباغية ، وأمثالهم (١) لكن شتّان بين هؤلاء وسيّد غفار!

أوَليس ممّا يُضحك الثكلى ويبكي كلّ مسلم أن يُحسب أنّ مذهب أبي ذر بعيد عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الظاهر الواضح؟ وهو الذي لم يعبد الصنم قبل إسلامه وصلّى سنين قبل المبعث الشريف مولّياً وجهه إلى الله وهو محسن ، وهو ربع الإسلام ورابع المسلمين ، وقد طوى جُلّ سنيّه على عهد النبوّة في صحبة الرسول الأعظم ولم يفتأ متعلّماً منه ، مصيخاً إلى كلّ ما يدعو إليه ويهتف به ، فتنتقش كلّ تلكم

__________________

(١) ممّن أسلفنا ذكرهم في الجزء السابع : ص ١٠٥ ، ١٠٦. (المؤلف)


المثل العليا في نفسه كما تنتقش الصور في المرآة الصافية ، بل تثبت فيها كما تثبت في العدسة اللاقطة.

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدنيه دون الصحابة إذا حضر ويتفقّده إذا غاب ، وكان شحيحاً على دينه حريصاً على العلم ، وقد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ شيء حتى عن مسّ الحصى في الصلاة ، وقد صبّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدره ما صبّه جبريل وميكائيل في صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته بأنّه شبيه عيسى هدياً وسمتاً ونسكاً وبرّا وصدقاً وخلقاً وخُلقاً (١).

وما ظنّك برجل قال فيه باب مدينة علم النبيّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سُئل عنه : «وعاء ملئ علماً ثمّ أوكى (٢) عليه» (٣).

أو ليس من العجب العجاب أنّ من هو هكذا وهو في عهد النبوّة لم يزل في مدينة الرسول يتلقّى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ إفاضاته ، ويستقي من مستقى الوحي يكون مذهبه بعيداً عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الواضح ، ويكون رأي كعب الأحبار اليهوديّ حديث العهد بالإسلام أو من بعده بعد لأي من عمر الدهر ـ وقد نمى وترعرع وشبّ وشاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقائق ظلمات بعضها فوق بعض ـ قريباً منها ، ويكون صاحبه عارفاً بها حاكماً على مثل أبي ذرّ بما حكم؟! كأنّ الحقائق الإسلاميّة نصب عينه دون سيّد غفّار ، أو معلّقة على شحمة أُذنه يسمع رنّتها دون ذلك الصحابيّ العظيم!

هب أنّا تنازلنا للّجنة الحاكمة عن كلّ ما قلناه ، ولكن هل يسعنا التغاضي عمّا جاء به الحفّاظ وأئمّة الحديث من طرق صحيحة عن نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إطراء

__________________

(١) راجع في كلّ ذلك صفحة : ٣١٢ ـ ٣١٦ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) يقال : أوكى القربة وأوكى عليها إذا شدها.

(٣) راجع : ص ٣١١ من هذا الجزء. (المؤلف)


الرجل والثناء عليه وإكباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شيء من أطواره في أولياته أو أخرياته؟ وهو العارف بعلم النبوّة بكلّ ما ينهض به أبو ذر بعده ، فهلاّ بدر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ردعه عمّا سينوء به بدل أمره إيّاه بالصبر على ما ينتابه من جرّاء ما قام به ودعا إليه؟ بدل عدّه ما أصابه من المحن ممّا هو لله وفيه؟ بدل إخباره بكلّ ما يجري عليه من النفي والجلاء مقصوراً على ذلك من غير ردع؟

ونسائل اللجنة الحاكمة عن الذين استنكروا مذهب أبي ذر واستغربوه منه من الصحابة أهُم من علية الصحابة أو من أذنابها؟ وبطبع الحال أنّها ستجيبنا أنّهم الحكم ابن أبي العاص ، وأخوه الحارث بن الحكم ، ومروان بن الحكم ، والوليدين عقبة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن خالد ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وإن شئت قلت حثالة من بني أُميّة البعداء عن مبادئ الإسلام وعمّا هو الحقّ الواضح ، ومن حذا حذوهم في الإكباب على حطام الدنيا واكتناز المال من غير حلّه ممّن أقلقوا السلام ، وجرّوا الويلات إلى خليفة الوقت ، وحرموا ضعفاء الأُمّة عن حقوقهم ، وولغوا في الدماء المحرّمة وأثاروها حروباً دامية ، وألقحوها فتنة شعواء ، فلم تزل عداءً محتدماً تتلقّاها الأجيال من بعدهم حتى انتهت إلى عصرنا الحاضر ، وهو الذي حفز اللجنة الحاكمة على رميها القول على عواهنه ، ولكن صافق أبا ذر على رأيه الصحيح الموافق لمبادئ الدين الإمام أبو السبطين وشبلاه الإمامان وصلحاء الأُمّة كلّهم ومن استاء لنكبات أبي ذر ونقم بها على خليفة الوقت.

حنّ قدح ليس منها (١) :

لقد جرّأ تقحّم هذه اللجنة الجائرة في حكمها جبران ملكون الصحافي

__________________

(١) مثل يُضَرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس هو منها ، أو يتمدّح بما لا يوجد فيه. مجمع الأمثال : ١ / ٢٤١ رقم ١٠١٨.


النصرانيّ صاحب جريدة الأخبار العراقيّة في سنتها العاشرة (١٣٦٨ ه‍) في عددها المتسلسل (٢٥٠٣) الصادر في جمادى الأولى ، فطفق يرقص لما هنالك من مكاء وتصدية ، والمسكين لا يعرف مبادئ الإسلام ولو عرفها لاتّبعها ، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزّههم وذبّ عنهم ، لكنّه حسب ما لفّقوه حقيقة راهنة وصبّها في بوتقة من القول هو أربى في إفادة ما حاولوه ، غير أنّه يطفو عليه القوارص واللواذع قال :

لكن أبا ذر الغفاري يعتقد أنّه يتعيّن على كلّ فرد أن ينفق في سبيل الله كلّ ما يفيض عن حاجته وحاجة أُسرته ، ولكن لم يُعرف أنّ أحداً من الصحابة شاطره هذا الرأي ، وإنّما عارض الكثير من عقلاء المسلمين وحكمائهم في هذا المبدأ ، فلا شكّ إذن في أنّ أبا ذر كان مخطئاً في رأيه ، ولا ينبغي اتّباعه بعد أن ثبت أنّه خطأ ، وأنّ رأيه لا يتّفق مع القرآن ولا السنّة ولا المبادئ الإسلاميّة وتعاليمها. انتهى.

ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه ، أمّا الأوّل فإنّ الرجل كما قلناه بعيد عن كلّ ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتى يتسنّى له الحكم الباتّ فيها ، وإنّما أحسن ظنّه بأولئك المتقوّلين زاعماً أنّهم هم الأقرباء من المبادئ الإسلاميّة العرفاء بحقيقة ما حكموا به ، ولو كان الأمر كما زعم لكان الحقّ معهم ، وإن كان لنا أن نؤاخذه بأنّ مرحلة حسن الظنّ لا يكتفى بها في باب القضاء الحاسم على عظيم من عظماء الأُمّة ، فكان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلكم المزاعم وهو في عاصمة من عواصم الإسلام ـ بغداد ـ وبمطلع الأكمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين ـ النجف الأشرف ـ وفيها العلماء ، والمؤلّفون ، والمحقّقون ، والجهابذة ، وعباقرة الوقت في كلّ جيل ، فكان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالك أو هاهنا ، ولهذا لسنا نستعتبه لخروجه عن الطريقة المثلى في القضاء ، ونحن نعدّ هذه وأمثالها سيّئة من سيّئات اللجنة الحاكمة وهي المؤاخذة بها. وكأنّي بها وهي تحسب أنّها تحسن صنعاً ، وتبتهج بما نشرته من الحكم الساقط وقذف عظيم من عظماء الأُمّة بما تبرأ منه ساقة


المسلمين ، وتراه دفاعاً عن بيضة الإسلام المقدّس ، وكفاحاً للشيوعيّة الهدّامة ، وردماً لثلمة أتت على الدين من ذلك المبدأ التعس ، وكأنّها جاءت بقرني حمار (١) لمّا استشهدت على ما ارتأته بأقاويل أُناس زورٍ عن مواقف الحقّ والصدق.

شهود اللجنة :

لقد استشهدت اللجنة على ما أرادت بكلام الآلوسي وابني كثير وحجر ، كأنّها لم تجد في أبي ذر كلاماً لغير هؤلاء من ناصبي العداوة لأهل البيت وشيعتهم ، وما أذهلها ـ أو تذاهلت هي ـ عمّا قدّمناه من الكلمات فيه! وما كان أغناه عن الركون إلى هذه التافهات المختلقة المائنة! لكنّا نعذرها على ذلك لأنّها تتحرّى ما يدعم دعواها ، وما أشرنا إليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم الدعوى وتدحرها ، ولذلك اقتصرت في النقل على بعض تلكم الكلم ، وإنّما أسقطت البعض الآخر ممّا لفّقوه للتهافت الظاهر بينها ، فكأنّها شعرت بذلك فحذفته ، وهي تحسب أنّ البحّاثة لا تراجع تلك الكتب ولا تقف على تناقضها ، أو أنّ الآراء لا مناقشة في حسابها ، وليس وراءها محاسب ولو بعد حين ، فنقول هاهنا : أمّا الآلوسي فإليك تمام كلامه في تفسيره (١٠ / ٨٧) قال في تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) :

أخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضى الله عنه ، وجرى بينه لذلك وبين معاوية في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضى الله عنه في المدينة ، فاستدعاه إليها فرآه مصرّا على ذلك حتى إنّ كعب الأحبار قال له : يا أبا ذر إنّ الملّة الحنيفيّة أسهل الملل وأعدلها ، وحيث لم يجب إنفاق كلّ المال في الملّة اليهوديّة وهي أضيق الملل وأشدّها كيف يجب فيها؟ فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدّة

__________________

(١) مجمع الأمثال : ١ / ٢٩٦ رقم ٨٧٣.


وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضى الله عنه بأُمّه وشكايته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله فيه : إنّك امرؤ فيك جاهليّة ، فرفع عصاه ليضربه وقال له : يا يهوديّ ما ذاك من هذه المسائل. فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضى الله عنه فلم يرجع حتى ضربه ، وفي رواية : إنّ الضربة وقعت على عثمان ، وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه ، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون : لو وجب إنفاق كلّ المال لم يكن للآية وجه ، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حلّ مستغربين منه ذلك ، فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها ، وأشار إليه بالذهاب إلى الربذة ، فسكن فيها حسبما يريد ، وهذا ما يُعوّل عليه في هذه القصّة. ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره. انتهى.

في هذه الكلمة مواقع للنظر :

١ ـ قوله : أخذ بظاهر الآية. إلخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها ، وليس فيها إيجاب لإنفاق جميع المال المؤداة زكاته الفاضل عن الحاجة ، فأيّ ظهور فيها يعاضد ما عزوه إلى أبي ذر حتى يسعه الأخذ به والتعويل عليه؟ وإنّما هي زاجرة عن الاكتناز الذي بينّاه في صفحة (٣٢٠) ولم يؤثر قطّ عن أبي ذر المصارحة ولا الإشارة إلى شيء ممّا عزاه إليه ، بل أوقفناك على أنّ كلّ ما روي عنه أو فيه منافٍ لذلك.

٢ ـ ما رتّبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية ، وقد أسلفنا في صفحة (٢٩٥) عن صحيح البخاري من أنّ النزاع بينهما كان في نزول الآية لا في مفادها ، فكان معاوية يزعم أنّها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يعمّمها عليهم وعلى المسلمين ، ومرّ أيضاً مراد أبي ذر من الإنفاق ومقدار المنفق من المال وأنّه ليس ما فضل عن الحاجة وإنّما هو ما ندب إليه الشرع واجباً أو تطوّعاً ، ولم يكن إنكاره إلاّ على الاكتناز الذي هو لدة الاحتكار في الأطعمة ، يحرم الملأ من منافع النقدين ونمائهما ،


ويحرم الفقراء خاصّة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين ، وقد فصّلنا القول في هذه كلّها.

٣ ـ ما رواه من قصّة كعب الأحبار : لقد أقرأناك المأثور من هذه القصّة وكيفيّة الحال فيها واختلاف ألفاظها ، وليس في شيء منها أكثر ما لفّقه الآلوسي من قول الرجل لأبي ذر : إنّ الملّة الحنيفية. إلخ. ومن استعاذته بظهر عثمان ، وعدم اكتراث أبي ذر لذلك ووقوع الضربة على عثمان ، وليته ذكر لما تقوّله مصدراً ولو من ٣ ـ أضعف الكتب أو من مدوّنات القصّاصين ، لكنّه أراد أن ينشب على أبي ذر ثورة وهو في عالم البرزخ بوقوع الضربة على عثمان ؛ غير أنّه أخفق ظنّه وأكدى أمله بفضل التنقيب الصحيح.

ونذكر لك هنا لفظ أحمد في مسنده (١) (١ / ٦٣) من طريق مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر : أنّه جاء يستأذن على عثمان بن عفّان رضى الله عنه فأذن له وبيده عصاه ، فقال عثمان رضى الله عنه : يا كعب إنّ عبد الرحمن توفّي وترك مالاً ، فما ترى فيه؟ فقال : إن كان يصل فيه حقّ الله فلا بأس [عليه]. فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أُحبّ لو أنّ لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبّل منّي أذر خلفي منه ستّ أواق». أُنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرّات. قال : نعم.

ومنه يتجلّى أنّها قضيّة في واقعة ترجع إلى مال عبد الرحمن بن عوف الذي ترك ذهباً قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وبلغ ربع ثُمنه ثمانين ألفاً ، وقد أُعطي له ذلك بغير استحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون ، فكانت أثرة ممقوتة واكتنازاً منهيّا عنه ، وما كانت فتوى كعب تُبرّر شيئاً من عمله ، لأنّه لم يكن من نماء زرع أو نتاج ماشية أو ربحاً من تجارة حتى يطهّره إخراج حقوق الله منه ، وإنّما كان المال كلّه لله ، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء ، وإن كان لابن عوف فيه حقٌّ فعلى زنة بقيّة المسلمين فحسب.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٠٢ ح ٤٥٥. وما بين المعقوفين منه.


والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلى كعب خاصّة ـ وهو يهوديّ قريب العهد بالإسلام ـ وفي المنتدى مثل أبي ذر عالم الصحابة ، والمستفتي جدّ عليم بحقيقة ذلك المال لأنّه هو الذي أدرّه عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشورى ، ولم تكن ثروته الشخصيّة تفي بتلكم العطايا الجزيلة ، فليس لها مدرّ إلاّ مال الله ، فعلى أبي ذر البصير بمواقع أحكام الشرع أن ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك العطاء ، وعلى من استباح أخذه واكتنازه ؛ وعلى من حاول أن يُبرّر تلكم الأعمال. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وإن كانت توجب نظريّة أبي ذر هذه الشيوعيّة أو الاشتراكيّة فقد سبقه إليها الخليفة الثاني ببيان أوفى وتقرير أوضح ، أخرجه الطبري في تاريخه (١) (٥ / ٣٣) من طريق أبي وائل ، قال : قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسّمتها على فقراء المهاجرين.

وأخرجه ابن حزم في المحلّى (٦ / ١٥٨) فقال : هذا إسناد في غاية الصحّة والجلالة.

وفي عصر المأمون (٢) (١ / ٢) : حرّم عمر بن الخطّاب على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة لأنّ أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال ، كلّ ذلك يدفعه لهم من بيت المال ، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة.

نعم ؛ عزبت عن اللجنة نظريّة الخليفة الثاني في ناحية المال ، أو أنّ عظمة الخلافة صدّتهم عن الجرأة عليه ، لكنّ أبا ذر لم يكن خليفة فتمنعهم عظمته عن التقوّل

__________________

(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٢٦ حوادث سنة ٢٣ ه‍.

(٢) لمؤلفه أحمد فريد رفاعي ، المفتش في وزارة الداخلية المصرية سابقاً.


عليه ، وقد مات في المنفى فريداً وحيداً لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهّزه بعد موته فيتوثّب عليه حتى الخنافس والديدان ، غير أنّ له يوماً آخر يُحشر فيه أُمّة واحدة ، هنالك تُبلى السرائر ويُعلم ما ارتآه أبو ذر وما رُمي به ، ذلك يوم مشهودٌ له الناس ، والحكم هنالك لله الواحد القهّار.

٤ ـ ما عزا إليه من الحدّة ، وهو ينافي تشبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه بعيسى بن مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (١) فهو ممثّل المسيح عليه‌السلام في هذه الأُمّة ، وأنّى تقع الحدّة منه؟ إلاّ أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين بالوداعة بينهم ، والخشونة في ذات الله ، وأبو ذر في الرعيل الأوّل منهم ؛ فليس من المستطاع أن نخضع لصحّة هذه الرواية ، وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرّبه ويدنيه ويحبّه.

فلا تكاد تنهض حجّة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح ؛ لأنّ المعلوم من حال أبي ذر هو ما أخبر به النبيّ الصادق الأمين ، وعلى فرض صحّتها قضيّة في واقعة لا تعدو أن تكون فلتة ليست لها لدة ، ولعلّها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شرّاح صحيح البخاري (٢) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدّة فيحمل ما صدر منه في المقام عليها.

وكأنّ الرجل هاهنا ذهل عمّا ذكره في كتابه مسائل الجاهليّة (ص ١٢٩) من قوله : إنّ أبا ذر رضى الله عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تسابّ هو وبلال الحبشي المؤذّن فقال له : يا ابن السوداء. فلمّا شكا بلال إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم قال له : «شتمت بلالاً وعيّرته بسواد أُمّه؟» قال : نعم. قال : «حسبت أنّه

__________________

(١) راجع : ص ٣١٢ ـ ٣١٤ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع فتح الباري لابن حجر [١ / ٨٧] ، وإرشاد الساري للقسطلاني [٣ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ح ١٤٠٦] ، وعمدة القاري للعيني [٨ / ٢٦٢ ح ١١]. (المؤلف)


بقي فيك شيء من كبر الجاهليّة». فألقى أبو ذر خدّه على التراب ثمّ قال : لا أرفع خدّي حتى يطأ بلال خدّي بقدمه. انتهى.

وهكذا رواه البرماوي ، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري (١) (١ / ١١٣) وقال : زاد ابن الملقن : فوطأ خدّه.

هذا أبو ذر وهذا أدبه وكرم أخلاقه ، وإنّه لعلى خلق عظيم.

٥ ـ ما ادّعاه من كثرة المتعرّضين لأبي ذر ... إلخ. ليته سمّى واحداً من أولئك المتعرّضين ، أو سمّى مصدراً ولو من أتفه المصادر يصافقه على هذه الدعوى ، وإنّما كانت الصحابة يومئذٍ بين مصافق لأبي ذر على هتافه ، ومُسلّ له على نكبته ، ومُستاء على ما أصابه من الأذى ، وناقم على من فعل به ذلك ، لم يكن عندئذٍ من يردّ عليه قوله ويحفظ آية المواريث ، وأبو ذر ناسيها وهو وعاء ملئ علماً بشهادة من أعلم الأُمّة باب مدينة علم النبيّ صلّى الله عليهما وآلهما.

كان من العزيز على صلحاء الصحابة المنابأة (٢) بالفادح الجلل تسيير أبي ذر إلى الربذة لكرههم ذلك ونُبوِّ (٣) سمعهم عنه ، وكان الصحابيّ الصالح يسترجع مراراً لمّا قرع سمعه ذلك النبأ المزري ، وكان يقول : ارتقبهم واصطبر ، اللهمّ إن كذّبوا أبا ذر فإنّي لا أُكذّبه ، اللهمّ وإن اتّهموه فإنّي لا أتّهمه ، اللهمّ وإن استغشّوه فانّي لا أستغشّه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ إلى أحد (٤).

ولعلّ الآلوسي يريد بمن ذكرهم من المتعرّضين طغمة آل أُميّة المتّخذين مال الله

__________________

) إرشاد الساري : ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ح ٣٠.

(٢) كذا ، ولعله رحمه‌الله أراد : المُنابة : من نابه أمر إذا نزل به أو أصابه.

(٣) نبا سمعه نبوّا : أي تجافى وكره.

(٤) راجع من هذا الجزء صفحة : ٣١٥. (المؤلف)


دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلاً ، وكتابه دغلاً ، غير أنّهم ما كانوا يجادلون بالقرآن ، وما كانوا يعرفون منه إلاّ ظاهراً من قوله تعالى : (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا) (١) وكانت مجادلتهم مجالدة بالحراب والعتاد ، وكان قولهم في ذلك صخباً وجلبة ، فتبعهم الآلوسي تحت جامع النزعة.

٦ ـ حسبانه بأنّ خروجه إلى الربذة كان مللاً منه من تعرّض الناس وازدحامهم عليه مستغربين منه رأيه ، بعد أن استشار عثمان فأشار إليه بالذهاب إليها فسكن فيها حسبما يريد. وهذه أُكذوبة أخرى ، فقد مرّ فيما تقدّم أنّه نُفي إلى الربذة ، ومُنع الناس عن مشايعته ، فلم يدنُ منه أحد إلاّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وابناه الإمامان وعمّار معهم ، وما جرى بينهم وبين مروان ، ثمّ ما جرى بين الإمام وبين عثمان ، وما قال له مشايعوه من كلمات التسلية ، وما قاله أبو ذر نفسه لمن زاره في الربذة ، وقول عثمان لعمّار : يا عاضّ أير أبيه أتحسب أنّي ندمت من تسييره؟ إلى كلمات أخرى كلّها صريحة في تسييره على صورة غير مرضية ، ونقمة الصحابة جمعاء على من فعل به ذلك. وقد عرفت قبل هذه كلّها إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك النفي والإخراج بالرغم من أشواق أبي ذر المحتدمة على جواره مرقد النبيّ الأعظم ، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدّم من صحائف هذا الجزء. لكن الآلوسي أراد أن يخفّف وطأة النقد على من والاه وردّ النقمة عنه فصدّر للقصّة صورة خياليّة ، وحسب أنّ التنقيب لا يكشف عن عوارها ، وليت اللجنة الحاكمة لم تتغافل عن أنّ هذه الجملة الأخيرة تنافي ما استشهدت به من كلام ابني كثير وحجر ، فقد اعترفا بأنّ خروج أبي ذر إلى الربذة كان تسييراً بلا اختيار منه ، غير أنّهما حاولا الاعتذار عن قِبَل من ارتكب ذلك.

٧ ـ قوله : هذا ما يُعوّل عليه في هذه القصّة ... إلخ. انظر إلى هذا الرجل كيف

__________________

(١) القصص : ٧٧.


يحاول أن يغمط الحقائق الثابتة حسب ميوله وأهوائهِ ، وهو يزعم أنّ الأُمّة ستتّخذ ما لفّقه أصلاً متّبعاً ، فتمحو الكتب وتلقي الستار على صفحة التاريخ ، وتحذف الأحاديث من مدوّناتها ، وتضرب صفحاً عن غير كتابه ممّا ثبت فيها كلّ ما نفاه هو كما قدّمنا لك ذلك في أبحاثنا هذه. وقصارى القول أنّ العلماء في هذه المسألة فريقان : فقسم سرد تلكم الأحوال سرداً تاريخيّا أو أخرجها إخراج الحديث من غير تعرّض لما لها أو عليها وقد عرفت هؤلاء ، وفريق يعترف بكلّ ما هنالك غير أنّه يعتذر عمّن ارتكب هاتيك الأحوال بأنّها كانت لحفظ أبّهة الخلافة ، وصيانة منصب الشريعة ، وإقامة حرمة الدين (١) وليس أحد من هؤلاء من الشيعة حتى يجعل الآلوسي روايتهم غير معوّل عليها ، وهل من الجائز أن لا يتفطّن أعلام القوم وحفّاظهم في كلّ تلكم القرون الخالية لما جاء به الآلوسي ، وحسبوا أُولئك ما روته الشيعة صحيحاً وجعلوه من مطاعن عثمان المتسالم عليه عندهم ، وجاؤوا ينحتون له الأعذار في تبريره؟ وبعد هذه كلّها فلا عذر للجنة الحاكمة في أن تعتمد على مثل هذه الكلمة التي مزيجها الكذب ، وحشوها الأغلاط ، والعوار مكتنف بها من شتّى نواحيها ، هذا حال الشاهد الأوّل الذي استشهدت به اللجنة الحاكمة.

الشاهد الثاني : أمّا شاهد اللجنة الثاني وهو ابن كثير ، وما أدراك ما ابن كثير؟ وما أدراك ما كتاباه في التفسير والتاريخ؟ مجاميع الفحش ، وموسوعات البهت ، وكراريس الدجل ، ومن تدجيله هاهنا ما ادّعاه من نسبة تحريم ادّخار ما زاد على نفقة العيال إلى أبي ذر وأنّه كان يفتي به ويحثّهم عليه ... إلخ. على حين أنّه لا يوجد لأبي ذر أيّ فتوى تصرّح أو تلوّح بذلك التحريم أو حثّ له على ذلك أو أمر به أو تغليظ فيه غير ما لفّقه الأفّاكون في الأدوار المتأخّرة من عزو مختلق ، نعم ؛ وربما يتّخذ

__________________

(١) راجع الرياض النضرة : ٢ / ١٤٦ [٣ / ٧٤ ـ ٧٥] ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٤] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٦٨. (المؤلف)


مصدراً لهذه الأفائك ما شوّه به الطبري صحيفة تاريخه من مكاتبة السريّ الكذّاب من طريق شعيب المجهول عن سيف الساقط المتّهم بالزندقة ، الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والأمانة وعرفت حال روايتهم خاصّة في (ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨) ؛ وغير خاف ذلك على مثل ابن كثير ومن لفّ لفّه ، لكنّهم نبذوا الرجل نبذةً ليسقطوه عن محلّه ، ويسقطوا آراءه عن الاعتبار فتشبّثوا بالحشيش كالغريق ، لكنّهم خابوا وفشلوا ، وإنّما المأثور عنه تلاوة الآية الكريمة ، ونقل السنّة الواردة عن نبيّ الإسلام في اكتناز الذهب والفضّة ، وأمّا الآية الكريمة فقد عرفت مقدار دلالتها وأنّ الخلاف الواقع بين أبي ذر ومعاوية إنّما هو بالنسبة إلى نزولها دون المفاد ، وأنّه لو صحّت النسبة لوجب قذفهما معاً أو تبرئتهما معاً.

على أنّ لأبي ذر في ما ادّعاه من شأن الآية مصافقين ، فروى ابن كثير نفسه عن ابن عبّاس : أنّها عامّة. وعن السدي أنّه قال : هي في أهل القبلة. فهو أيضاً يوافقه في الجملة.

وفي تفسير الخازن (١) (٢ / ٢٣٢) : قال ابن عبّاس والسدي : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين ، وقال القرطبي في تفسيره (٢) (٨ / ١٢٣) : قال أبو ذر وغيره : المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين ، وهو الصحيح لأنّه لو أراد أهل الكتاب خاصّة لقال : ويكنزون بغير (والذين) فلمّا قال : (والذين) فقد استأنف معنىً آخر يبيّن أنّه عطف جملة على جملة ، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء ، قال السدي : عنى أهل القبلة.

وقال الزمخشري في الكشّاف (٣) (٢ / ٣١) : ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون

__________________

(١) تفسير الخازن : ٢ / ٢٢١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن : ٨ / ٧٩.

(٣) الكشّاف : ٢ / ٢٦٦.


غير المنفقين. وقال البيضاوي في تفسيره (١) (١ / ٤٩٩) : ويجوز أن يراد به المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدّون حقّه. وقال الشوكاني في تفسيره (٢) (٢ / ٣٣٩) : والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك. وقال الآلوسي في تفسيره (١٠ / ٨٧) : والمراد من الموصول إمّا الكثير من الأحبار والرهبان ، وإمّا المسلمون وهو الأنسب لقوله : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ).

فرأي أبي ذر أخذاً بمجاميع هذه الكلمات ، هو الصحيح والأنسب والأولى ، وما تفرّد به بل ذهب إليه آخرون ، فلما ذا لا يقذفون هؤلاء بما قُذف به أبو ذر؟ وهل لأبي ذر حساب آخر يسوّغ الفرية عليه دون أولئك؟ نعم. نعم.

وأمّا السنّة فقد روى نظير ما رواه غير واحد من الصحابة ، لكن القوم لم يضمروا على أحد منهم من الحقد ما أضمروه على أبي ذر لمكان رأيه في الإمامة منذ الصدر الأوّل ، ونزعته العلويّة التي لم يزل مجاهراً بها ، ومناوأته للبيت الأمويّ ، فحاولوا تشويه ذكره وتفنيد رأيه بكلّ ما تيسّر لهم ، فمن أولئك الصحابة :

١ ـ عبد الله بن مسعود ، قال : دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بلال وعنده صبرة من تمر فقال : «ما هذا يا بلال؟» قال : أُعدّ ذلك لأضيافك. قال : «أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنّم؟ انفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

رواه البزّار (٣) بإسناد حسن والطبراني في الكبير (٤) وقال : «أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنّم».

٢ ـ أبو هريرة ، قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد بلالاً فأخرج له صبراً من تمر فقال :

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ١ / ٤٠٣.

(٢) فتح القدير : ٢ / ٣٦٦.

(٣) البحر الزخّار (مسند البزّار) : ٥ / ٣٤٨.

(٤) المعجم الكبير : ١ / ٣٤٠ ح ١٠٢٠ وفيه : يفور لها بخار من جهنم.


«ما هذا يا بلال؟» قال : ادّخرته لك يا رسول الله ، قال : «أما تخشى أن يجعل لك بخار في نار جهنّم؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».

رواه (١) أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن.

٣ ـ أسماء بنت أبي بكر ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا توكي فيوكى عليك». وفي رواية : «انفقي ـ أو انفحي ـ أو انضحي ـ ولا تحصي فيحصي الله عليك ، ولا توعي فيوعي الله عليك». رواه (٢) البخاري ومسلم وأبو داود.

٤ ـ بلال مرفوعاً : «يا بلال مُت فقيراً ولا تمت غنيّا» ، قلت : وكيف لي بذلك؟ قال «ما رزقت فلا تخبأ ، وما سُئلت فلا تمنع». فقلت : يا رسول الله وكيف لي بذلك؟ قال : «هو ذاك أو النار».

رواه الطبراني في الكبير (٣) ، وابن حبّان في كتاب الثواب ، والحاكم (٤) وصحّحه.

٥ ـ أنس بن مالك ، قال أُهديت للنبيّ ثلاث طوائر فأعطى خادمه طائراً ، فلمّا كان من الغد أتته بها ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألم أنهَكِ أن ترفعي شيئاً لغد؟ فإنّ الله يأتي برزق غد». رواه (٥) أبو يعلى والبيهقي ، ورجال أبي يعلى ثقات.

٦ ـ أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدّخر شيئاً لغد.

__________________

(١) مسند أبي يعلى : ١٠ / ٤٣٠ ح ٦٠٤٠ ، المعجم الكبير : ١ / ٣٤٢ ح ١٠٢٥ ، المعجم الأوسط : ٣ / ٢٧٢ ح ٢٥٩٣.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ٥٢٠ ح ١٣٦٦ ، ص ٩١٥ ح ٢٤٥١ ، صحيح مسلم : ٢ / ٤٠٩ ح ٨٨ و ٨٩ ، كتاب الزكاة ، سنن أبي داود : ٢ / ١٣٣ ح ١٦٩٩ ـ ١٧٠٠.

(٣) المعجم الكبير : ١ / ٣٤١ ح ١٠٢١.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٣٥٢ ح ٧٨٨٧.

(٥) مسند أبي يعلى : ٧ / ٢٢٤ ح ٤٢٢٣ ، شعب الإيمان : ٢ / ١١٩ ح ١٣٤٨.


رواه (١) ابن حبّان في صحيحه والبيهقي.

٧ ـ سمرة بن جندب ، مرفوعاً : «إنّي لأَلجُ هذه الغرفة ما ألجها إلاّ خشية أن يكون فيها مال فأتوفّى ولم أنفقه». رواه الطبراني في الكبير (٢) بإسناد حسن.

٨ ـ أبو سعيد الخدري ، مرفوعاً : «ما أُحبّ أنّ لي أُحداً ذهباً أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلاّ شيء أُعدّه لدين» (٣).

رواه البزّار وهو إسناد حسن وله شواهد كثيرة.

٩ ـ أبو أمامة : إنّ رجلاً توفّي على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يوجد له كفن ، فأُتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «انظروا إلى داخلة إزاره» فأصيب دينار أو ديناران ، فقال : «كيّتان» (٤).

١٠ ـ توفّي رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيّة». ثمّ تُوفّي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كيّتان».

رواه (٥) أحمد والطبراني من عدّة طرق ، وابن حبّان في صحيحه من طريق عبد الله بن مسعود.

١١ ـ سلمة بن الأكوع ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأُتي بجنازة ثمّ أُتي

__________________

(١) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ١٤ / ٢٧٠ ح ٦٣٥٦ ، شعب الإيمان : ٢ / ١٧١ ـ ١٧٢ ح ١٤٦٤.

(٢) المعجم الكبير : ٧ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ح ٧١٠٥.

(٣) مجمع الزوائد : ١٠ / ٢٣٩.

(٤) الكيّتان : أي لذعة على كلّ دينار كنز.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٣٤٤ ح ٢١٧١٨ ، المعجم الكبير : ٨ / ١٠٥ ح ٧٥٠٦ و ٧٥٠٨ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٨ / ٥٤ ح ٣٢٦٣.


بأخرى فقال : «هل ترك من دين؟» قالوا : لا. قال : «فهل ترك شيئاً؟» قالوا : نعم ثلاثة دنانير. فقال بإصبعه : «ثلاث كيّات».

أخرجه (١) أحمد بإسناد جيّد وابن حبّان في صحيحه باللفظ المذكور والبخاري نحوه.

١٢ ـ أبو هريرة : أنّ أعرابيّا غزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر ، فأصابه من سهمه ديناران فأخذهما الأعرابي ، فجعلهما في عباءة فخيط عليهما ولفّ عليهما ، فمات الأعرابيّ فوجد الديناران ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «كيّتان».

رواه أحمد (٢) وإسناده حسن لا بأس به.

هذه جملة من تلكم الأحاديث ، وقد جمعها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (٣) (١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٨).

١٣ ـ أخرج أحمد في مسنده (٤) (١ / ٣٠٠) من طريق ابن عبّاس قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفت إلى أُحد فقال : «والذي نفس محمد بيده ما يسرّني أنّ أُحداً يحوّل لآل محمد ذهباً أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت أدع منه دينارين ، إلاّ دينارين أعدّهما لدين إن كان».

١٤ ـ أخرج ابن كثير نفسه في تفسيره (٢ / ٣٥٢) من طريق عبد الله بن مسعود : «والذي لا إله غيره لا يكون عبد يكنز فيمسّ دينار ديناراً ولا درهم درهماً ، ولكن

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٦٣٩ ح ١٦٠٧٥ ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٨ / ٥٤ ح ٣٢٦٤ ، صحيح البخاري : ٢ / ٧٩٩ ح ٢١٦٨.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ٣٨ ـ ٣٩ ح ٨٤٦٣.

(٣) الترغيب والترهيب : ٢ / ٥١ ـ ٥٨.

(٤) مسند أحمد : ١ / ٤٩٣ ح ٢٧١٩.


يُوسع جلده فيوضع كلّ دينار ودرهم على حدته».

رواه سفيان عن عبد الله بن عمر (١) بن مرّة عن مسروق عن ابن مسعود ، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة.

١٥ ـ حكى ابن كثير (٢) عن أبي جعفر بن جرير الطبري (٣) من طريق ثوبان مرفوعاً : «من ترك بعده كنزاً مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول : ويلك ما أنت؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك. ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثمّ يتبعها سائر جسده». قال : ورواه ابن حبّان في صحيحه (٤).

١٦ ـ ونقل في (ص ٣٥٣) عن ابن أبي حاتم بإسناده من طريق ثوبان مرفوعاً : «ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلاّ جعل الله بكلّ قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنهِ».

١٧ ـ وذَكر (٥) عن أبي يعلى بالإسناد من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يُوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون».

١٨ ـ أخرج أحمد (٦) من طريق عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : حدّثني صاحب لي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تبّا للذهب والفضّة» وقال : إنّه انطلق مع عمر بن الخطّاب فقال : يا رسول الله! قولك : «تبّا للذهب والفضّة». ما ذا ندّخر؟ قال

__________________

(١) في المصدر : عمرو.

) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٥٣.

) جامع البيان : مج ٦ / ج ١٠ / ١٢٤.

) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان : ٨ / ٤٩ ح ٣٢٥٧.

) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٥٤.

) مسند أحمد : ٦ / ٥٠٣ ح ٢٢٥٩١.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وزوجة تعين على الآخرة». تفسير ابن كثير (٢ / ٣٥١).

١٩ ـ أخرج (١) أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : لمّا نزلت في الذهب والفضّة ما نزل قالوا : فأيّ المال نتّخذ؟ قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك فأَوضَعَ (٢) على بعير ، فأدركه (٣) وأنا في أثره ، فقال : يا رسول الله أيّ المال نتّخذ؟ قال : «قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة».

٢٠ ـ وقبل هذه كلّها ما أخرجه إمام الحنابلة أحمد في مسنده (٤) (١ / ٦٢) من طريق عثمان بن عفّان من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ شيء سوى ظلّ بيت ، وجِلْف (٥) الخبز ، وثوب يواري عورته والماء ، فما فضل عن هذا فليس لابن آدم فيهنّ حقّ». وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (١ / ٦١).

هذه الأحاديث أخرجها أئمّة الفقه وحفّاظ الحديث وأعلام التفسير في تآليفهم محتجّين بها لما ارتأوه من الترغيب إلى الزهد والتطوّع بالإنفاق ، والترهيب عن الاكتناز والادّخار ، ولم يتكلّم أحد منهم في راوٍ من رواتها ، وما اتّهم في أيّ منهم بما اتّهم به أبو ذر ، فإن كان للتأويل والحمل على معنىً صحيح فيها مجال فهي وما رواه أبو ذر على شرع سواء ، فأيّ وازعٍ عن تأويل ما جاء به أبو ذر؟ ولما ذا رشقوه بين أولئك الصحابة بنبال القذف؟ مع أنّ أبا ذر لم يكن هتافه ذلك للدعوة إلى تهذيب

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٣٨١ ح ٢١٩٣١ ، سنن الترمذي : ٥ / ٢٥٩ ح ٣٠٩٤ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٥٩٦ ح ١٨٥٦.

(٢) يقال : أوضع الراكب إيضاعاً إذا سار بين القوم.

(٣) في سنن ابن ماجة : فأدرك النبيّ.

(٤) مسند أحمد : ١ / ١٠٠ ح ٤٤٢.

(٥) جِلْفُ الخبز : الخبز اليابس الغليظ بلا أُدْم ولا لبن.


النفس بالزهادة في حطام الدنيا والفوز بمراتب الكمال ، وإنّما كان نكيره على أُمّة اتّخذت كنوزاً مكدّسة من الذهب والفضّة على غير وجه حلّها ، كما فصّلنا القول في ذلك تفصيلاً.

وإذ لم يجد ابن كثير شاهداً قويماً لما ادّعاه من أقوال أبي ذر تشبّث بعمله ، فقال : وقد اختبره معاوية رضى الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله؟ فبعث إليه بألف دينار ففرّقها من يومه ، ثمّ بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إنّ معاوية إنّما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب ، فقال : ويحك إنّها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به (١).

وليس فيه إلاّ زهد أبي ذر المهلك سبده ولبده (٢) ، ولم يكن عمله هذا عن فتوى ولا إيجاب ، وإنّما كان تطوّعاً ومبالغة في الزهادة والجود ، وقد سبقه إلى ذلك سيّد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عاش صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عرفت ومات ولم يدع ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمةً ولا شاةً ولا بعيراً ، وترك درعه رهناً عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (٣) وحذا حذوه آله سلام الله عليهم الذين كانوا (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ، (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٤) ، (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (٥) وقد خرج الإمام السبط الحسن الزكيّ من ماله

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٥٣.

(٢) السَّبَد : الوبر ، وقيل : الشعر. والعرب تقول : ماله سَبَدٌ ولا لَبَد ، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ، يكنّى بهما عن الإبل والغنم.

(٣) طبقات ابن سعد طبع مصر ، رقم التسلسل : ٨٣٦ ، ٨٣٧ [٢ / ٣١٧] ، مسند أحمد : ١ / ٣٠٠ [١ / ٤٩٣ ح ٢٧١٩] ، تاريخ الخطيب البغدادي : ٤ / ٣٩٦ [رقم ٢٢٨٨]. (المؤلف)

(٤) راجع ما فصّلناه في الجزء الثاني : ص ٤٧ ، ٥٢ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٣. (المؤلف)

(٥) نزلت في أمير المؤمنين كما مرّ في هذا الجزء : ص ٥٤. (المؤلف)


مرّتين. وقاسم الله عزّ وجلّ ماله ثلاث مرار حتى أن كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً ، ويعطي خفّا ويمسك خفّا (١).

وما أكثر الزهّاد أمثال أبي ذر في أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أفنت الزهادة كلّ مالهم من ثُمّةٍ ورُمّة (٢) وقد عُدّ ذلك في الجميع فضيلة يُذكرون بها ويُشكرون عليها ، إلاّ في أبي ذر شبيه عيسى بن مريم في الأُمّة المرحومة فاتّخذوه مدركاً لتلك الفتوى المزعومة. غفرانك اللهمّ وإليك المصير.

استشهاد اللجنة بكلمة ابن حجر :

أمّا الشاهد الثالث ـ ابن حجر ـ فليت اللجنة الحاكمة لم تلخّص كلامه ، ففيما سرده في فتح الباري (٣) (٣ / ٢١٣) ما لا يلائم خطّة اللجنة ، ففيه من أعلام النبوّة ما قدّمنا ذكره من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك النفي والإخراج في سياق يؤدّي أنّ أبا ذر سيكون مضطهداً في ذلك مظلوماً ، ويؤكّد هذا السياق ما أسلفناه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر أنت رجل صالح وسيصيبك بلاءٌ بعدُ». قال : في الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الله» قال : مرحباً بأمر الله. وما كان في الله وبعين الله ويعرّف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحبه بالصلاح ، ويراه في هديه ونسكه وزهده شبيه نبيّ معصوم كعيسى سلام الله عليه ؛ ويأمره بالصبر لا يكون فاسداً ولا تترتّب عليه مفسدة ، إذن فلا أدري أين يكون مقيل نظريّة ابن حجر الملخّصة عند اللجنة من الصدق؟

وممّا ذكره ابن حجر في فتح الباري ما حكاه عن بعض أعلام قومه : الصحيح أنّ إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.

__________________

(١) حلية الأولياء : ٢ / ٣٨ ، صفة الصفوة : ١ / ٣٣٠ [١ / ٧٦١ رقم ١٢٠] ، الصواعق : ص ٨٢ [ص ١٣٩]. (المؤلف)

(٢) أي : من قليل وكثير.

(٣) فتح الباري : ٣ / ٢٧٥.


نعم هذا هو الصحيح كما قدّمناه في صفحة (٣٣٥) ويعرفه كلّ من سبر التاريخ والحديث. إذن فليس من المتسالم عليه ما حاوله ابن حجر في ملخّص قوله وتحرّته اللجنة في حكمها والاستشهاد بكلامه ، مثل هذا الأساس لا تبنى عليه برهنة ، ولا يصحّ به حكم لأيّ إنسان أو عليه ، لكنّ ابن حجر قال ، واللجنة حكمت ؛ والقوّة نفّذت ذلك الحكم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هؤلاء شهود اللجنة الحاكمة ، وقد اختبرت أنت أيّها القارئ حالهم ومقالهم ، إذن فما ظنّك بما ابتنوه على ذلك من شفا جرفٍ هارٍ؟ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (١).

هاهنا أكرّر مخاطبة اللجنة بأنّ دليلها في إثبات شيوعيّة أبي ذر غير ناهضة لإثبات ما ترتئيه ، لأنّ نظريّة أبي ذر على ما ادّعته هي وجوب إنفاق ما فضل عن حاجة الإنسان ، ومقتضاه أنّه يملك التصرّف في قدر الحاجة ، والشيوعيّ لا يقول بذلك وإنّما يحاول إلغاء الملكيّة رأساً ، ثمّ إنّ الحكومة الشيوعيّة تدرّ عليه قدر الحاجة أو بمقدار العمل صوناً لحياته فهو كالأجير عندها يقتات بما يعمل أو كعائلتها تسدّ عيلتها بمقدار خلّتها ، على ما قدّمناه من أنّ رأي أبي ذر لا يستوعب المال كلّه وإنّما يريد الإخراجات الواجبة وما تدعو إليه العاطفة البشريّة والمروءات من الأعطيات المندوبة ، فاللجنة لم تعط النصفة حقّها في إسناد ما أسندته إلى أبي ذر ؛ كما أنّها لم تؤدّ حقّ الردّ على الشيوعيّة الممقوتة ، فهي مائنةٌ فيما تقول خبريّا أو مخبريّا ، وجائرة في حكمها من حيث لا تشعر.

كان حقّا علينا أن ننظر في بقيّة الكلمات المقولة في شيوعيّة أبي ذر على وجه التفصيل ككلمة الخضري في المحاضرات (٢ / ٣٦ ، ٣٧) وعبد الحميد بك العبادي عميد كليّة الآداب في صور من التاريخ الإسلامي (ص ١٠٩ ـ ١١٣) تحت عنوان : أبو ذر

__________________

(١) سورة ق : ٤٥.


الغفاري. وأحمد أمين في فجر إسلامه (١ / ١٣٦) (١) ومحمد أحمد جاد المولى بك في : إنصاف عثمان (ص ٤١ ـ ٤٥) ، وصادق إبراهيم عرجون في : عثمان بن عفّان (ص ٣٥) ، وعبد الوهاب النجّار في : الخلفاء الراشدون (ص ٣١٧) ، ومن حذا حذوهم ممّن اقتحم معارك التاريخ والأبحاث الخطرة من دون مُنّة (٢) علميّة تنقذهم من القحمة وصرعة الاسترسال التي لا تُستقال ، لكنّهم لم يألوا بأكثر ممّا فنّدناه ، غير ما ذكره بعضهم (٣) من أنّ أبا ذر أخذ المبدأ الشيوعيّ من عبد الله بن سبأ استناداً إلى رواية الطبري السابقة في (ص ٣٢٦ و ٣٤٩) عن السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطيّة ، عن يزيد الفقعسي ، وقد عرّفناك هنالك ما في رجالها من أفّاك وضّاع ، أو معتدٍ أثيم ، أو ضعيف متّفق على ضعفه ، أو مجهولٍ لا يُعرف ، وما في متنها من ملامح الكذب وآثار الافتعال.

على أنّ عبد الله بن سبأ المعروف باليهوديّة والإفساد وتفريق كلمة المسلمين الذي عزوا إليه ثورة المصريّين ، وأنّه يمّم الحواضر الإسلاميّة لإلقاح الفتن وإثارة الملأ على خليفة الوقت ، وبثِّ تلكم المبادئ التعيسة ، ولم ينظر إليه رامقٌ شزراً ، ولا وقع عليه قبض من سلطات الوقت ، ولا أصابه نفي عن الأوساط الدينيّة ، وقد تُرك يلهو ويلعب كما تشاء له الميول والشهوات ، لكن النقمات كلّها توجّهت على الأبرار من صحابة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين لهم بإحسان كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وعمّار بن ياسر ، ومالك بن الحارث الأشتر ، وزيد وصعصعة ابني صوحان ، وجندب بن زهير ، وكعب بن عبدة الناسك ، ويزيد الأرحبي العظيم عند الناس ، وعامر بن قيس الزاهد الناسك ، وعمرو بن الحَمِق المعروف بدعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، وعروة البارقي الصحابيّ الجليل ، وكميل بن زياد الثقة الأمين ، والحارث الهمداني الفقيه الثقة (٤) فمن منفيّ هلك

__________________

(١) فجر الإسلام : ص ١١٠.

(٢) المُنّة : القدرة.

(٣) كالخضري وأحمد أمين. (المؤلف)

(٤) سيوافيك حديث أمرهم في الجزء التاسع بإذن الله تعالى. (المؤلف)


في تسييره ، إلى مضروب كسرت أضالعه ، إلى مهان توجّهت إليه لسبات الألسن.

وقبل هؤلاء مولانا أمير المؤمنين صالح الأُمّة ، يراه عثمان أحقّ بالنفي من أولئك كما يأتي حديثه ؛ وأخرجه إلى ينبع مرّة بعد أخرى ليقلّ هتاف الناس باسمه للخلافة ، وقال لابن عبّاس : اكفني ابن عمّك. وقال ابن عبّاس : ابن عمّي ليس بالرجل يُرى له ، ولكنّه يرى لنفسه فأرسلني إليه بما أحببت. قال : قل له فليخرج إلى ماله بينبع فلا أغتم به ولا يغتمّ بي. فأتى عليّا فأخبره ، فقال : «ما اتّخذني عثمان إلاّ ناضحاً» ثم أنشد يقول :

فكيف به إنّي أُداوي جراحَهُ

فيدوى فلا ملّ الدواءُ ولا الداءُ

وقال : «يا ابن عبّاس ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغَرْب (١) أُقبل وأُدبر ، بعث إليّ أن أخرج ، ثمّ بعث إليّ أن أقدم ، ثمّ هو الآن يبعث إليّ أن أخرج والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً» (٢).

فهلاّ كان ابن سبأ وأصحابه بمرأى من الخليفة ومسمع وقد طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد ، وكيف بهضه أمر أولئك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ولا يهمّه قمع تلكم الجرثومة الخبيثة باجتثاث أصلها بإعدام عبد الله بن سبأ ، أو صلبه على جذوع النخل ، أو قطع يده ورجله من خلاف ، أو نفيه من الأرض؟

هلاّ كان واجب الخليفة أن يشاور صلحاء الصحابة في الرجل الضالّ المضلّ ، بدل ما شاور أبناء بيته الساقط في أبي ذر العظيم بقوله القارص : أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين ،

__________________

(١) نضح الجمل الماء : حمله من بئر أو نهر ليسقي به الزرع فهو ناضح. والغرب ـ بالفتح فسكون ـ : الدلو العظيمة ، والكلام تمثيل للتسخير. (المؤلف)

(٢) نهج البلاغة : ١ / ٤٦٨ [ص ٣٥٨ رقم ٢٤٠] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٧٤ [٤ / ١٢١]. (المؤلف)


أو أنفيه من أرض الإسلام (١)؟

نعم ؛ كان عبد الله بن سبأ من جراثيم العيث والفساد ، وجذوم الكفر والإلحاد ، ولم يفتأ يتقلّب بين المسلمين بنواياه السيّئة وإن لم يثبت عنه المبدأ الشيوعيّ قطّ ، ولا إثارة الثائرين على عثمان إلاّ بمكتوبة السري ، عن شعيب ، عن سيف المكذوبة الساقطة التي لا قيمة لها في سوق الاعتبار (٢) فإنّ المسلمين خصوصاً الثائرين على عثمان والمتجمهرين عليه ، وهم جلّ الصحابة ـ لو لم نقل كلّهم ـ كما يأتي تفصيله في الجزء التاسع بإذن الله ـ وخصوصاً من لاث بمولانا أمير المؤمنين من علية الصحابة كأبي ذر وعمّار ومالك الأشتر وابني صوحان وأمثالهم ما كانوا يقيمون وزناً لنعرات أيّ ابن أُنثى تجاه ما اتّخذوه من مستقى الوحي ، فضلاً عن مثل ابن سبأ المعروف عندهم ملكاته ونزعاته في أمسه ويومه ذاك ، فأنّى يصيخون إلى ماله من هلجة وهم رجال الفكرة الصالحة في المجتمع الدينيّ ، ولم يُثبت التاريخ الصحيح اتّصال أحد منهم بهذا الرجل فضلاً عن تأثيره في نفسيّاتهم وإثارة الفتن في المجتمع الدينيّ بأيديهم ، وهلاّ كان خليفة الوقت أراح المسلمين من شرّه بتشتيت شمله وتمزيق جمعه ، كما فعله مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقطع عن أديم الأرض أُصول تلك النزعات الوبيلة بإلقاء الدخان على حامليها ، كما مرّ في الجزء السابع (ص ١٥٦) ، وذكره ابن حزم في الفصل (٤ / ١٨٦).

كلمتنا الأخيرة

لو درست الأساتذة حقيقة الشيوعيّة وما يهتفون به من أصولها وحقيقة أبي ذر العالم الصحابيّ ونظرائه وما يؤثر عنهم من قول وعمل وأحاديث جاءت فيهم عرفوا البون الشاسع بين المبدأين ، وإنّ مثل أبي ذر لا يكون شيوعيّا مهما أسفّ من

__________________

(١) راجع ما مرّ : ص ٢٩٨ ، ٣٠٦ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع : ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨ من هذا الجزء. (المؤلف)


أوج عظمته وانكفأ عن صهوة علمه ، وتنازل عن مبادئه المقدّسة ، وأنّه لا يعتنق ذلك المذهب عالم وإن قلّت بضاعته ، وضعفت مُنّته العلميّة.

أنّى يهتف بالشيوعيّة ويعتنقها من وقف واطّلع على ما جاء به الإسلام المقدّس في تأمين مؤن الفقراء وسدّ عيلتهم ، وما وطّد من مشارع تُخفّف عنهم ما يبهضهم من عبء حزانتهم ، وما شرّع لهم من منابع الحياة الماديّة في أموال الأغنياء ، بقدر ما يسعهم كما أخبر به النبيّ الأعظم بقوله : «إنّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإنّ الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذّبهم عذاباً أليماً» (١). فبعد ترصيف السياسة الماليّة على أحسن نظام وأرقى منهج وتعبئة ما يسدّ خلّة الفقراء ، سدّ عليهم أبواب السؤال والتكدّي وشدّد النكير عليهما بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المسألة لا تصلح إلاّ لثلاث : لذي فقر مُدقع ، أو لذي غرم مُفظع ، أو لذي دم موجع» (٢). ورغّبهم إلى الاستعفاف والاستغناء عن الناس بكلّ ما تيسّر من العمل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لَأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأتي الجبل فيجيء بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» (٣) وقرّر على أهل اليسار للفقراء والمساكين حقوقاً محدودة من شتّى النواحي بعناوين مختلفة كرواتب سنويّة أو كجراية شهريّة تتعلّق بالأنعام والغلاّت والنقدين وأرباح المكاسب والركاز والمعادن

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط [٤ / ٣٥٣ ح ٣٦٠٣] والصغير [١ / ١٦٢] كما في الترغيب والترهيب : ١ / ٢١٣ [١ / ٥٣٨] ، وروي موقوفاً على أمير المؤمنين كما مرّ : ص ٢٥٦. (المؤلف)

(٢) الترغيب والترهيب : ١ / ٢٣٣ [١ / ٥٩١] نقلاً عن أبي داود [في السنن : ٢ / ١٢٠ ـ ١٢١ ح ١٦٤١] ، والبيهقي في السنن [٧ / ٢٥]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ٣٤ [٢ / ٥٣٥ ح ١٤٠١] ، صحيح مسلم : ٣ / ٩٧ [٢ / ٤١٧ ح ١٠٧ كتاب الزكاة] ، سنن البيهقي : ٤ / ١٩٥ ، الترغيب والترهيب : ١ / ٢٣٣ [١ / ٥٩٢]. (المؤلف)


والأنفال وغيرها من الواجب المالي المقرّر ، مضافاً على ما قد يجب على الإنسان حيناً بعد حين لموجب هنالك كالكفّارات والنذور والمظالم.

وأمّا التطوّع بالصدقات والإنفاق ممّا فضل وهو الذي كاد أن يُعدّ من فروض الإنسانيّة فحدّث عنه ولا حرج ، وقد بالغ الصادع الكريم في الحث عليه ومرّ شطر من أحاديثه ، وأخرج مسلم (١) والترمذي (٢) وغيرهما من طريق أبي أمامة مرفوعاً : «يا ابن آدم إنّك إن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شرّ لك ، ولا تُلام على كفاف». الترغيب والترهيب (٣) (١ / ٢٣٢ ، ٢٥٢).

وأخرج مسلم (٤) من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعاً : «من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له». سنن البيهقي (٤ / ١٨٢).

وفي صحيح مرّ في (ص ٣٥٤) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على كلّ نفس في كلّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه».

وللإسلام وراء هذه كلّها آداب وسنن تُعرب عن حرمة من قتر عليه رزقه وعن كرامته في الملأ الدينيّ تصديقاً للإنكار الوارد في قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ* كَلاَّ) (٥). فأمر كتابه المقدّس بالإنفاق من جيّد المال ونفيسه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ٤١٣ ح ٩٧ كتاب الزكاة.

(٢) سنن الترمذي : ٤ / ٤٩٥ ح ٣٣٤٣.

(٣) الترغيب والترهيب : ١ / ٥٩٠ و ٢ / ٤٩.

(٤) صحيح مسلم : ٣ / ٥٦٦ ح ١٨ كتاب اللقطة.

(٥) الفجر : ١٥ ، ١٦ ، ١٧.


الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية (١). وقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢) ونهى عن نهر السائل وإبطال الصدقات بالمنّ والأذى ورياء الناس ، فقال عزّ من قائل : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (٣) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) (٤). وقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٥). وقال : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (٦).

وقال النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله من مُسمعٍ ولا مُراءٍ ولا منّانٍ ، والمتحدّث بصدقته يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يبغي الرياء» (٧).

وأخرج مسلم في صحيحه (٨) مرفوعاً : «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم : المنّان بما أعطى ...». سنن البيهقي (٤ / ١٩١).

وذكر ابن كثير مرفوعاً : «لا يدخل الجنّة عاقّ ، ولا منّان ، ولا مُدمن خمر». تفسير ابن كثير (١ / ٣١٨).

ولقطع أُصول المنّ بالإعطاء وتنزيه نفوس أهل اليسار عن الاستعلاء والترفّع والعُجب بأعطياتهم ، ومن كان غنيّا فليستعفف ، وتطهير قلوب الفقراء الشريفة عمّا

__________________

(١) البقرة : ٢٦٧.

(٢) آل عمران : ٩٢.

(٣) الضحى : ١٠.

(٤) البقرة : ٢٦٤.

(٥) البقرة : ٢٦٢ ، ٢٦٣.

(٦) البقرة : ٢٦٢ ، ٢٦٣.

(٧) إحياء العلوم : ١ / ٢٢٢ [١ / ١٩٤]. (المؤلف)

(٨) صحيح مسلم : ١ / ١٤١ ح ١٧١ كتاب الايمان.


يعتريها من ذلّ المسكنة ، وتطييب خواطرهم من هوان بسط يد الأخذ إلى الأغنياء ، ال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصدقة تقع بيد الله عزَّ وجلَّ قبل أن تقع في يد السائل» (١).

وفي صحيح أخرجه مسلم (٢) (٣ / ٨٥) من طريق أبي هريرة مرفوعاً : «ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ـ ولا يقبل الله إلاّ الطيّب ـ إلاّ أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة ، فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل». الحديث.

فيرى المعطي المسلم وجهه إلى الله وهو محسن أنّه مسلّم إلى الله جلّ وعلا حقّه ممّا خوّله سبحانه بمنّه إيّاه. والفقير يرى أنّه آخذ من الله وباسط كفّه إلى الله ويد الله هي مدرّ الأنعم ، وهي اليد العليا ، وهي الوسيطة بين المعطي والآخذ ، وله المنّ عليهما ، (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٣) (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (٤).

فالشيوعيّ لا يكون شيوعيّا إلاّ ويغمره تيّار الجهل الهائج ، وإنّ سماسرة الشيوعيّة يمنعون قبل كلّ شيء عن تحرّي العلم الصحيح ويسوقون الملأ إلى مستوى الجهل والبساطة ، ولعلّك لا تشكّ في ذلك متى جست خلال الديار في المملكة السوفيتيّة ومن جنح إليها من أقطار الأرض ، فإنّك لا تجد من يُهملج إلى الغاية الشيوعيّة إلاّ الرجرجة الدهماء الذين لم يعطوا من العلم شيئاً ، لكن البلاد الخصبة بالعلم والعلماء كلّها من إسلاميّ وغيره في منتأىً من تلك الخسّة ، وكذلك كلّ من أُوتي نصيباً من العلم لا تدعه عقليّته أن يسفّ إلى تلكم الهوّة الوبيئة ، وكيف بأبي ذر ـ وعاء العلم ـ وأمثاله؟

__________________

(١) أخرجه الدارقطني والبيهقي في شعب الإيمان [٣ / ٢٧٤ ح ٣٥٢٥]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٣٩٧ ح ٦٣ كتاب الزكاة.

(٣) محمد : ٣٨.

(٤) النساء : ١٣٥.


نعم ؛ للبلاد الإسلاميّة خاصّتها في الابتعاد عن هاتيك السفاسف لوجود العلم الصحيح الناجع عند علمائها ـ لا ما جاءت به اللجنة الحاكمة ـ والمواد الحيويّة المبثوثة في دينها الإسلاميّ الحنيف ، فهي وهم سدّان قويّان لدفع ذلك السيل الأتيّ ، فليس لمجابهة الشيوعيّة ومكافحتها شيء أقوى من العلم والدين ، وتنوير فكرة الشعب الإسلاميّ بهما. فمن واجب الدول الإسلاميّة ـ وقد شعرت هي بهذا الواجب ـ توسيع نطاق العلم ، وبثّ نواميس الدين ، وإحياء ناشئة الإنسان الذي خُلق جهولاً بروح الثقافة الدينيّة وتربية أبناء الوطن العزيز في صفوف المدارس الابتدائيّة إلى العالية بدراسة العلوم الناجعة ، والتحفّظ على حقوق ضعفاء الأمّة ، والأخذ بناصر أخي عيلة العائل بإجراء مقرّرات الدين المبين ، وتعظيم العلماء الصالحين ، وتقدير رجالات الوعظ والخطابة لتستمرّ طهارة البلاد عن تلكم الرجاسة ، فحيّا الله العلماء العاملين ، وحيّا الله الحكومات الإسلاميّة ، الناهضين بكلاءة العباد والبلاد.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١).

والحمد لله أوّلاً وآخراً

انتهى الجزء الثامن من كتاب الغدير

ويتلوه الجزء التاسع

يُبتدأ فيه بتتمّة هذه المباحث إن شاء الله فتربَّص حتى حين

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٢)

__________________

(١) الشورى : ١٥.

(٢) سورة طه : ١١٤.


محتويات الكتاب

أبو طالب في الذكر الحكيم................................................... ١١

الاية الأولى............................................................... ١١

الآية الثانية والثالثة........................................................ ١٨

مواقع النظر في رواية نزول الأيتين......................................... ١٩

حديث الضحضاح........................................................... ٣٧

عود إلى بدء أحاديث الغلو في فضائل أبي بكر............................ ٤٦ ـ ٨٨

٢٩ ـ ملك يردّ على شاتم الخليفة............................................... ٤٦

٣٠ ـ خطبة النبيّ صلى الله عليه واله في فضل الخليفة.............................. ٥٠

ثناء أمير المؤمنين عليه السلام على الخليفة.................................. ٥٤

٣٢ ـ ٦٦ ـ أحاديث تعزي إلى أمير المؤمنين عليه السلام في حق أبي بكر............ ٥٦

ليلة الغار والخليفة فيها................................................... ٦٣

الشيطان لا يثمثّل بأبي بكر.............................................. ٧٠

أبو بكر لم بسؤ النبي قط................................................ ٧٢

٧٠ ـ الآيات النازلة في أبي بكر................................................ ٧٤

الغلوّ في فضائل عمر بن الخطّاب...................................... ٨٩ ـ ١٤٢

١ ـ كلمات في علم عمر................................................... ٩١


عمر أقرأ الصحابة وأفقهم..................................................... ٩٣

الشيطان يخاف ويفر من عمر................................................. ٩٦

الغناء في الذكر الحيكم................................................... ١٠٠

الغناء والمعارف في السنّة.................................................. ١٠٣

الغناء في المذاهب الأربعة................................................. ١٠٨

نظرة في الأحاديث المعنونة.............................................. ١١١

رأي عمر في الغناء.................................................... ١١٦

كرامات عمر الاربع........................................................ ١٢٢

٥ ـ تسمية عمر بأمير المؤمنين................................................ ١٢٧

عمر لا يحبّ الباطل........................................................ ١٣٢

الملائكتة تكلمّ عمر بن الخطاب.............................................. ١٣٤

قرطاس في كفن عمر........................................................ ١٣٥

لسان عمرو قلبه........................................................... ١٣٦

١٠ ـ رؤيا رسول الله صلى الله عليه واله في علم عمر............................ ١٣٧

عمر وفرق الشيطان منه.................................................. ١٣٩

الغلوّ في فضائل عثمان بن عفان...................................... ١٤٣ ـ ٤٣٢

١ ـ قضاؤه في امرأة ولدت لستة أشهر......................................... ١٤٣

إتمام عثمان الصلاة في السفر................................................ ١٤٥

نظرة في رأي الخليفة................................................... ١٥٠

النصوص الواردة في صلاة المسافر....................................... ١٦١

الدين عند السلف سياسة وقتية......................................... ١٧٠

إبطال الخليفة الحدود..................................................... ١٧٤

النداء الثالث بأمر الخليفة................................................. ١٨٢


٥ ـ توسيع الخليفة المسجد الحرام.............................................. ١٨٦

رأي الخليفة في متعة الحج.................................................... ١٨٨

تعطيل الخليفة القصاص..................................................... ١٩٠

عذر مفتعل............................................................. ٢٠٢

رأي الخليفة في الجنابة....................................................... ٢٠٥

كتمان الخليفة حديث النبي صلى الله عليه واله................................. ٢١٦

١٠ ـ رأي الخليفة في زكاة الخيل............................................... ٢٢٢

تقديم عثمان الخطبة على الصلاة............................................. ٢٣٠

رأي الخيلفة في القصاص والدّية............................................... ٢٤٠

الطائفة الأولى من النصوص النبوية...................................... ٢٤١

الطائفة الثانية........................................................ ٢٤٦

رأي الخليفة في القراءة.................................................... ٢٤٨

صورة مفصلّة بلفظ أحمد............................................... ٢٥٣

رأي الشافعي......................................................... ٢٥٨

رأي مالك........................................................... ٢٦٠

رأي الحنابلة.......................................................... ٢٦١

رأي الخليفة في صلاة المسافر.............................................. ٢٦٥

١٥ ـ رأي الخليفة في صيد الحرم.............................................. ٢٦٧

لفت نظر............................................................ ٢٧٤

خصومة يرفعها الخليفة الى علي عليه السلام................................. ٢٧٩

رأي الخليفة في عدّة المختلفة............................................... ٢٨٢

رأي الخليفة في امرأة المفقود................................................ ٢٨٦

الخليفة يأخذ حكم الله من أبيّ............................................. ٢٩٣


٢٠ ـ الخليفة يأخذ السنة من امرأة............................................ ٢٩٤

رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات......................................... ٢٩٥

لو لا عليّ لهلك عثمان................................................... ٣٠٢

رأي الخليفة في الجمع بين الأختين بالهلك................................... ٣٠٤

لفظ آخر للبيهقي..................................................... ٣٠٥

قول آخر في الأية المحللّة................................................ ٣١٣

رأي الخليفة في رد الأخوين الأمّ عن الثلث.................................. ٣١٦

٢٥ ـ رأي الخليفة في المعترفة بالزنا............................................. ٣٢١

شراء الخليفة صدقة رسول الله.............................................. ٣٢٦

الخليفة في ليلة وفاة امّ كلثوم............................................... ٣٢٧

اتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه............................................. ٣٣١

إقطاع الخليفة فدك لمروان................................................. ٣٣٤

٣٠ ـ رأي الخليفة في الاموال والصدقات....................................... ٣٣٦

أيادي الخليفة عند الحكم بن أبي العاص.................................... ٣٤١

الحكم وما أدراك ما الحكم............................................. ٣٤٢

لفت نظر............................................................ ٣٤٨

الحكم في القرآن...................................................... ٣٤٩

مصادر ما رويناه...................................................... ٣٥٢

نظرة في كلمتين....................................................... ٣٥٣

المساءلة.............................................................. ٣٥٩

أيادي الخليفة عند مروان.................................................. ٣٦٤

مروان ومامروان....................................................... ٣٦٧

هذا مروان........................................................... ٣٧٦


اقطاع الخليفة وعطيته الحارث........................................... ٣٧٨

حظوة سعيد من عطيّة الخليفة........................................... ٣٨٠

٣٥ ـ هبة الخليفة للوليد من مال المسلمين...................................... ٣٨٣

الوليد ومن ولده...................................................... ٣٨٣

هذا الوالد وما ادراك ما ولد............................................ ٣٨٧

هبة الخليفة لعبدالله من مال المسلمين....................................... ٣٩٠

عطبة الخليفة اباسفيان.................................................... ٣٩٢

عطاء الخليفة من غنائم افر بقية............................................ ٣٩٤

الكنوز المكتزه ببركة الخليفة................................................ ٣٩٨

٤٠ ـ الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن........................................ ٤٠٨

تسير الخليفة أباذر إلى الواردة.............................................. ٤١٣

كلمة أمير المؤمنين عليه السلام لما اخرج أبوذر الى الريده................... ٤٢٣

ايمان ابي ذر وسيرته................................................. ٤٣٣ ـ ٥٣٤

هلم معي الى نظارة الشعب.................................................. ٤٣٣

تعبّد فيل البعثة سيفة في الاسلام ثباته على المبدأ............................... ٤٣٣

حديث علمه.............................................................. ٤٣٧

حديث صدقة وزهده....................................................... ٤٣٩

حديث فضله عهد النبي الأعظم الى ابي ذر.................................... ٤٤٦

هذا ابو ذر................................................................ ٤٤٩

جنابة التاريخ.............................................................. ٤٥٥

البلاذري............................................................... ٤٥٥

ابن جرير الطبري........................................................ ٤٥٧


نظرة قيّمة في تاريخ الطبري............................................. ٤٥٩

ابن الاثير الجزري........................................................ ٤٦١

عماد الدين بن كثير..................................................... ٤٦٤

نظرية ابي ذرّ في الاموال..................................................... ٤٦٩

أبو ذرّ والاشتراكيّة......................................................... ٤٧٨

رواياته في الاموال........................................................... ٤٨٨

نظرة في الكمات الواردة في إطراء أبي ذر....................................... ٤٩٦

ثناء النبيّ صلى الله عليه واله عليه وعهده إليه.................................. ٥٠٠

نظرة في مقال أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر..................................... ٥٠١

لاشيوعيّة في الاسلام....................................................... ٥٠٢

حنّ قدح ليس منها................................................... ٥٠٧

شهود اللجنة......................................................... ٥٠٩

في هذه الكلمة مواقع للنظر............................................ ٥١٠

استشهاد اللجنة بكلمة ابن حجر....................................... ٥٢٥

كلمتنا الأخيرة.......................................................... ٥٢٩

موسوعة الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ٨

المؤلف:
الصفحات: 540