



بسم الله الرحمن الرحيم
سُبحانكَ أنتَ
وَلِيُّنا مِنْ دونِهِمْ ، وَاجعَلْ لَنا مِنْ لَدُنكَ وَلِيّا واجعَلْ لنَا مِنْ
لَدُنكَ نَصيراً ، يا أيّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَنِ
اهتَدى فَإنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فإنَّما يَضِلُّ عَليها وَمَا أنا
عَليكُمْ بِوَكِيلْ ، وَمَا عَلينا إلاَّ البَلاغ ، قَد جاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ
وَكِتابٌ مبِينٌ ، لِيَهلكَ مَنْ هَلكَ عَنْ بَيِّنةٍ ويَحيَى مَن حَيَّ عنْ
بيِّنةٍ ، وَيُحَذِّركُمُ اللهُ نفْسَهُ وَأنْ تَقولوا عَلى اللهِ ما لا تَعْلَمُون
، هذا كِتابٌ أنزَلْناهُ مُبَارَكٌ فاتَّبعوُهُ وَاتَّقُوا لَعلّكُمْ تُرحَمُون ،
وَلقدْ جِئناكُم بِالحَقِّ وَلكِنَّ أكثَركُمْ لِلحَقِّ كارِهُون ، يَعرفونَ
نِعمةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرونَها ، تُحاجّونَ فِيما ليسَ لَكم به عِلمٌ ، إن
تَتَّبِعونَ إلاّ الظَنَّ وَإنْ أنتُمْ إلاَّ تَخرُصُون ، لا تَتَّبِعوا أهواءَ
قومٍ قَدْ ضَلّوا مِنْ قَبلُ وأضَلُّوا كَثيراً ، أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا
الرَّسُول وأُولي الأمْرِ منكُمْ ، الَّذينَ يُنفِقُونَ أمْوالَهُم باللَّيْلِ
وَالنَّهارِ سِرّا وَعَلانيَةً ، وَيُطعِمُونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً
وَيَتِيماً وأسِيراً ، الَّذِينَ آمنُوا وَعَملوُا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خيرُ
البريَّة.
الأميني
شعراء الغدير
في
القرن التاسع
|
١
ـ ابن العرندس الحلّي
٢
ـ ابن داغر الحلّي
٣
ـ الحافظ البرسي الحلّي
|
ـ ٧٢ ـ
ابن العرندس الحلّي
أضحى يميسُ
كغصنِ بانٍ في حُلى
|
|
قمرٌ إذا ما
مرَّ في قلبي حلا
|
سلبَ العقولَ
بناظرٍ في فترةٍ
|
|
فيها حرامُ
السحرِ بان محلّلا
|
وانحلَّ شدُّ
عزائمي لمَّا غدا
|
|
عن خصرِهِ بندُ
القباءِ محلّلا
|
وزها بها كافورُ
سالفِ خدِّه
|
|
لمّا بريحانِ
العذارِ تسلسلا
|
وتسلسلتْ عبثاً
سلاسلُ صدغِه
|
|
فلذاك بتُّ
مقيّداً ومسلسلا
|
قمرٌ قويمُ
قوامِهِ كقناتِهِ
|
|
ولحاظُه في
القتلِ تحكي المنصلا
|
وجناتُه
جوريَّةٌ وعيونُه
|
|
حوريّةٌ تسبي
الغزالَ الأكحلا
|
أهوى فواترَها
المراضَ إذا رنتْ
|
|
وأحبُّ جفنيها
المراضَ الغُزَّلا
|
جارت وما صفحت
على عشّاقه
|
|
فتكاً وعاملُ
قدِّه ما أعدلا
|
ملكت محاسنُهُ
ملوكاً طالما
|
|
أضحى لها الملكُ
العزيزُ مذلّلا
|
كِسرى بعينيه
الصحاحِ وخدُّه
|
|
النعمانُ بالخال
النجاشي خوّلا
|
كتب العليُّ على
صحائفِ خدِّهِ
|
|
نوني قسيِّ
الحاجبين ومَثّلا
|
فرمى بها في
عينِ غنجِ عيونِهِ
|
|
سهمَ السهامِ
أصابَ منِّي المقتلا
|
فاعجب لعينِ
عبيرِ عنبرِ خالِهِ
|
|
في جيمِ جمرةِ
خدِّه لن تشعلا
|
وسَلا الفؤادَ
بحرِّ نيرانِ الجوى
|
|
منِّي فذاب وعن
هواهُ ما سلا
|
فمتى بشيرُ
الوصلِ يأتي منجحاً
|
|
وأبيتُ مسروراً
سعيداً مُقبلا
|
ولقد برى منّي
السقامَ وبتُّ في
|
|
لججِ الغرامِ
معالجاً كربَ البلا
|
وجرت سحائبُ
عبرتي في وجنتي
|
|
كدمِ الحسينِ
على أراضي كربلا
|
الصائمِ
القوّامِ والمتصدّق الطعّامِ
|
|
أفرس من على
فرسٍ علا
|
رجلٌ بصيوانِ
الغمامةِ جدُّهُ
|
|
المختارُ في
حرِّ الهجير تظلّلا
|
وأبوه حيدرةُ
الذي بعلومِهِ
|
|
وبفضلهِ شُرِحَ
الكتابُ تفصّلا
|
والأُمُّ فاطمةُ
المطهَّرةُ التي
|
|
بالمجدِ تاجُ
فخارِها قد كُلّلا
|
نسبٌ كمنبلجِ
الصباحِ يزينه
|
|
حسبٌ شبيه الشمس
زاهي المجتلى
|
السيّدُ السندُ
السعيدُ الساجدُ
|
|
السبطُ الشهيدُ المستضامُ
المبتلى
|
قمرٌ بكت عينُ
السماءِ لأجلِهِ
|
|
أسفاً وقلبُ
الدهرِ باتَ مقلقلا
|
تالله لا أنساه
فرداً ظامياً
|
|
والماءُ ينهلُ
منه ذيبانُ الفلا
|
والسيّدُ
العبّاسُ قد سلبَ العدى
|
|
عنه اللباسَ
وصيّروه مجدّلا
|
والطفلُ شمسُ
حياتِه قد أصبحتْ
|
|
بالخسفِ في
طَفَلٍ وجلّ مؤثّلا
|
وبنو أُميّةَ في
جسومِ صحابِهِ
|
|
قد حطّموا
السمرَ اللدان الذبَّلا
|
شربوا بكاساتِ
القنا خمرَ الفنا
|
|
مُزِجَ البلاءُ
به فأمسوا في البلا
|
وتقاطعتْ
أرحامُهمْ وجسومُهمْ
|
|
كرماً وأوصلتِ
الرؤوسَ الأرجلا
|
وتوارثوا من بعد
سلبِ نفوسِهم
|
|
دارَ المقامةِ
في القيامةِ موئلا
|
والسبطُ شاكٍ ما
له من ناصرٍ
|
|
شاكٍ إلى ربِّ
السمواتِ العلى
|
ظامٍ إلى ماءِ
الفراتِ فإن يَرُم
|
|
نهلاً يرى
البيضَ الصوارمَ منهلا
|
والقومُ محدقةٌ
عليه بجحفلٍ
|
|
كالبحرِ آخرُه
يحاكي الأوَّلا
|
متلاطمٌ سغبتْ به أسيافُهمْ
|
|
فغدا لهم لحمُ
الفوارسِ مأكلا
|
ومن العجائبِ
أنّه يشكو الظما
|
|
وأبوه يسقي في
المعادِ السلسلا
|
__________________
حامت عليه
للحمامِ كواسرٌ
|
|
ظمئت فأشربتِ
الحمام دمَ الطلا
|
أمستْ به سمرُ
الرماحِ وزرقُها
|
|
حمراً وشهبُ
الخيلِ دُهْماً جفَّلا
|
هاتيك بالدمِ قد
صُبغنَ وهذه
|
|
صُبغتْ بنقعٍ
صبغةً لن تنصُلا
|
عقدتْ سنابكُ
صافناتِ خيولِهِ
|
|
من فوقِ هاماتِ
الفوارسِ قسطلا
|
ودجتْ عجاجتُه
ومدَّ سواده
|
|
حتى أعادَ
الصبحَ ليلاً أليلا
|
وكأنَّما لمعُ
الصوارم تحتَهُ
|
|
برقٌ تألّقَ في
غمامٍ فانجلى
|
جيشٌ ملا فوه
الفلا وأتى فلا
|
|
أمست سنابكُ
خيلِه تفلي الفلا
|
أبناءُ من جحدَ
الوصيَّ وكذَّب
|
|
الهادي النبيَّ
وكان حقّا مرسلا
|
بذلوا النفوسَ
وبدَّلوا من جهلِهمْ
|
|
ما ليس في
الإسلام كان مبدَّلا
|
فمحلّلٌ قد
صيّروه محرَّماً
|
|
ومحرَّمٌ قد
غادروه محلّلا
|
وتعمّدوا قتل
الوصيِّ وحرّفوا
|
|
ما كان أحمدُ في
الكتابِ له تلا
|
وأتوا إلى قتلِ
الحسينِ وأجّجوا
|
|
ناراً لهيبُ
ضرامِها لن يُصطلى
|
فسطا عليهمْ
بالنزالِ بعزمةٍ
|
|
تذرُ الحسامَ
المشرفيَّ مفلّلا
|
من فوقِ طرفٍ
أعوجيّ سابحٍ
|
|
كالبرقِ يسبقُ
في سُراه الشمألا
|
فرسٌ حوافرُهُ
بغيرِ جماجمِ ال
|
|
فرسانِ في يومِ
الوغى لن تنعلا
|
أضحى بمبيضِّ
الصباحِ مجلّلا
|
|
وغدا بمسودِّ
الظلام مسربلا
|
__________________
وبكفِّهِ سيفٌ
جُرازٌ باترٌ
|
|
عضبٌ يضمّ
الغمدُ منه جدولا
|
فقرَ الجماجمَ
والطلا بغراره
|
|
من كلِّ كفّارٍ
وأبرى المفصلا
|
فكأنّه وجوادَه
وحسامَه
|
|
يا صاحبيَّ لمن
أراد تأمّلا
|
شمسٌ على
الفلَكِ المدارِ بكفِّهِ
|
|
قمرٌ منازلُهُ
الجماجمُ والطلا
|
والخيلُ محدقةٌ
بجيمِ جمالِه
|
|
وقلوبهُمْ في
الغلي تحكي المرجلا
|
والسبطُ يخترقُ
المواكبَ حاملاً
|
|
بعزيمةٍ تُردي
الخميسَ الجحفلا
|
فبسينِ سمرِ
الخطّ يطعنُ أنجلاً
|
|
وبباءِ بيضِ
الهندِ يضربُ أهدلا
|
فتخالُ طاءَ
الطعنِ أنّى أعجمتْ
|
|
نقطاً وضاد
الضربِ كيف تشكّلا
|
حتى إذا ما
السبطُ آن مماتُهُ
|
|
وعليه سلطانُ
الحِمامِ توكّلا
|
داروا به النفرُ
الطغاةُ بنو الزنا
|
|
ة العاهراتِ
وطبّقوا رحبَ الفلا
|
ورماه بعضُ
المارقين بعيطلٍ
|
|
سهماً فخرَّ على
الصعيد مجدّلا
|
وأتى بغيُّ بني
ضبابٍ صائلاً
|
|
بالقسّ تغميض
القطامي الأجدلا
|
وجثا على صدرِ
الحسين وقلبُهُ
|
|
حقداً وعدواناً
عليه قد امتلا
|
فبرى بسيفِ
البغي رأساً طالما
|
|
لثمَ النبيُّ
ثنيّتيه وقبّلا
|
واسودّ قرصُ
الشمسِ ساعةَ قتلِهِ
|
|
أسفاً وشهبُ
الفلك أمست أُفَّلا
|
ونعاهُ جبريلٌ
وميكالٌ وإس
|
|
رافيلُ والعرشُ
المجيدُ تزلزلا
|
__________________
والطيرُ في
الأغصانِ ناحَ مغرّداً
|
|
والوحشُ في
القيعانِ ناحَ وأعولا
|
وأتى الجوادُ
ولا جوادٌ فوقَهُ
|
|
متوجّعاً
متفجِّعاً متوجّلا
|
عالي الصهيل
بمقلةٍ إنسانُها
|
|
باكٍ يسحّ
الدمعَ نقطاً مهملا
|
فسمعن نسوانُ
الحسينِ صهيلَهُ
|
|
فبرزن من خَلَلِ
المضاربِ ثكّلا
|
ينثون من جَون
العيون مدامعاً
|
|
حمراً على بيض
السوالف هُطّلا
|
حتى إذا قُتِلَ
الحسينُ وأصبحتْ
|
|
من بعدِهِ غرُّ
المدارسِ عُطّلا
|
ومنازلُ
التنزيلِ حلَّ بها العزا
|
|
ومِن الجليسِ
أنيسُ مربعِها خلا
|
بغتِ البغاةُ
جهالةً سبيَ النسا
|
|
وبغت وحقَّ لمن
بغى أن يجهلا
|
نصبوا بمرفوع
القناة كريمةً
|
|
جهراً وجرّوا
للمعاصي أذيُلا
|
وسروا بنسوته
السراةُ بلا ملا
|
|
حسرى يلاحظهنّ
ألحاظُ الملا
|
وغدوا بزينِ
العابدين الساجدِ
|
|
الحبرِ الأمينِ
مقيّداً ومغلّلا
|
وسكينةٌ أمستْ
وساكنُ قلبِها
|
|
متحرّكٌ فيه
الأسى لن يرحلا
|
وبدالِ دمعِ
العينِ منها غرّقتْ
|
|
صاد الصعيدِ
وأنبتت كاف الكلا
|
وديارُهنَّ
الآنساتُ بلاقعٌ
|
|
أقوتْ وكنّ بها الأحبّة نزّلا
|
والصبر عنِّي
ظاعنٌ مترحّلٌ
|
|
لمّا شددن على
المطيّ الأرحلا
|
ومدامعي فوق
الخدودِ نوازلٌ
|
|
لمّا زممن
جمالهنَّ البزَّلا
|
تسري بهنّ إلى
الشآمِ عصابةٌ
|
|
أمويّةٌ تبغي
العطاءَ الأجزلا
|
تُرضي يزيد لكي
يزيد لها العطا
|
|
جهلاً ويتحفها
السؤال معجّلا
|
__________________
فلألعننَّ بني
أُميّةَ ما حدا
|
|
الحادي وما سرتِ
الركائبُ قُفَّلا
|
ولألعننَّ
زيادَها ويزيدَها
|
|
ويزيدُها ربّي
عذاباً منزلا
|
تبّا لهم فعلوا
بآل محمدٍ
|
|
ما ليس تفعله
الجبابرة الألى
|
ولأبكينَّ على
الحسينِ بمدمعٍ
|
|
قانٍ أبلُّ به
الصعيدَ الممحلا
|
يا طفُّ طافَ
على ثراكَ من الحيا
|
|
هامٍ تسير به
السحائب جفّلا
|
ذو هيدبٍ
متراكبٍ مُتلاحمٍ
|
|
عالي البروق
يسحُّ دمعاً مُسبلا
|
يشفيك إذ يسقيك
منه بوابلٍ
|
|
عذبٍ له أرَجٌ
يحاكي المندلا
|
ثمّ السلامُ من
السلامِ على الذي
|
|
نُصبت له في خمّ
راياتُ الولا
|
تالي كتابِ
اللهِ أكرمِ من تلا
|
|
وأجلِّ من
للمصطفى الهادي تلا
|
زوجِ البتولِ
أخِ الرسولِ مطلّقِ
|
|
الدنيا وقاليها
بنيرانِ القلا
|
رجلٌ تسربل
بالعفافِ وحبّذا
|
|
رجلٌ بأثوابِ
العفافِ تسربلا
|
تلقاه يوم السلم
غيثاً مُسبلاً
|
|
وتراه يومَ
الحربِ ليثاً مشبلا
|
ذو الراحة
اليمنى التي حسناتُها
|
|
مدّت على كيوان
باعاً أطولا
|
والمعجزاتُ
الباهراتُ النيرا
|
|
تُ المشرقاتُ
المعذراتُ لمن غلا
|
منها رجوعُ
الشمسِ بعد غروبها
|
|
نبأ تصيرُ له
البصائر ذُهّلا
|
ولسيرِه فوق
البساطِ فضيلةٌ
|
|
أوصافها تُعيي
الفصيحَ المقولا
|
__________________
وخطابُ أهلِ
الكهفِ منقبةٌ غلتْ
|
|
وعلتْ فجاوزتِ
السماكَ الأعزلا
|
وصعودُ غاربِ
أحمدٍ فضلٌ له
|
|
دونَ القرابةِ
والصحابةِ أفضلا
|
هذا الذي حاز
العلومَ بأسرِها
|
|
ما كان منها
مجملاً ومفصّلا
|
هذا الذي
بصَلاتِه وصِلاتِه
|
|
للدينِ والدنيا
أتمّ وأكملا
|
هذا الذي
بحسامِه وقناتِه
|
|
في خيبرٍ صعبُ
الفتوحِ تسهّلا
|
وأبادَ مرحبَ في
النزالِ بضربةٍ
|
|
ألقتْ على
الكفّارِ عبئاً مُثقلا
|
وكتائبُ
الأحزابِ صيّرَ عَمرَها
|
|
بدمائِه فوقَ
الرمالِ مُرمّلا
|
وتبوكُ نازلَ
شوسَها فأبادَهمْ
|
|
ضرباً بصارمِ
عزمةٍ لن يُفللا
|
وبه توسّل آدمُ
لمّا عصى
|
|
حتى اجتباهُ
ربُّنا وتقبّلا
|
وبه دعا نوحٌ
فسارت فلكُه
|
|
والأرضُ
بالطوفانِ مفعمةٌ ملا
|
وبه الخليلُ دعا
فأضحتْ نارُه
|
|
برداً وقد أذكت
حريقاً مُشعلا
|
وبه دعا موسى
تلقّفتِ العصا
|
|
حيّاتِ سحرٍ
كُنَّ قِدماً أحبُلا
|
وبه دعا عيسى
المسيحُ فأنطقَ
|
|
الميتَ الدفينَ
به وقام من البلا
|
وبخمّ واخاه
النبيُّ محمدٌ
|
|
حقّا وذلك في
الكتابِ تنزّلا
|
عذلَ النواصبُ
في هواه وعنّفوا
|
|
فعصيتُهمْ
وأطعتُ فيه من غلا
|
ومدحتُه رغماً
على آنافِهمْ
|
|
مدحاً به ربِّي
صدا قلبي جلا
|
وترابُ نعلِ أبي
ترابٍ كلّما
|
|
مسَّ القذا عيني
يكون لها جلا
|
فعليه أضعافُ
التحيّةِ ما سرى
|
|
سارٍ وما سحَّ
السحابُ وأهملا
|
سمعاً أميرَ
المؤمنين قصائداً
|
|
تزدادُ ما مرَّ
الزمان تجمّلا
|
عربيَّةً نشأت
بحلّةِ بابلٍ
|
|
فغدت تُخجّلُ
بالفصاحة جرولا
|
سادت فشادت
للعرندسِ صالحٍ
|
|
مجداً على هامِ
النجومِ مؤثّلا
|
__________________
وسمت قلوبُ
حواسدي وسمت على
|
|
(نمّ العذارِ بعارضيه وسلسلا)
|
وعلت بمدحِكَ يا
عليُّ ووازنت
|
|
(لم أبك ربعاً للأحبّة قد خلا)
|
ما يتبع الشعر
ذكر شاعرنا ابن
العرندس في قصيدته هذه جملة من مناقب مولانا أمير المؤمنين وقد مرّ تفصيل بعضها ،
وستوافيك كلمتنا الضافية في بعضها الآخر ، ونقتصر في المقام على ما أشار إليه
بقوله :
وصعودُ غاربِ
أحمدٍ فضلٌ له
|
|
دون القرابة
والصحابةِ أفضلا
|
عن عليّ رضى الله
عنه قال : «انطلق بي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الأصنام فقال : اجلس. فجلست إلى جنب الكعبة ثمّ صعد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على منكبي ثمّ قال : انهض بي إلى الصنم. فنهضت به فلمّا
رأى ضعفي تحته قال : اجلس فجلست وأنزلته عنّي وجلس لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ قال لي : يا عليُّ اصعد على منكبي. فصعدت على منكبيه
ثمّ نهض بي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلمّا نهض بي خيّل لي أنّي لو شئت نلت أُفق السماء ، وصعدت
على الكعبة وتنحّى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فألقيت صنمهم الأكبرصنم قريش وكان من نحاس موتداً بأوتاد
من حديد إلى الأرض ، فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : عالجه فعالجته فما زلت أعالجه ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول إيه إيه إيه. فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه. فقال :
دقّه فدققته وكسرته ونزلت».
وفي لفظ : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقذف به. فقذفت به فتكسّر كما تنكسر القوارير ثمّ نزلت.
وفي لفظ : ونزوت من فوق الكعبة».
__________________
وعن جابر بن عبد
الله قال : دخلنا مع النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مكّة وفي البيت وحوله ثلاثمائة وستّون صنماً ، فأمر بها
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأُلقيت كلّها لوجوهها ، وكان على البيت صنم طويل يقال له
: هبل. فنظر النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عليّ وقال له : «يا عليُّ تركب عليَّ أو أركب عليك
لأُلقي هبل عن ظهر الكعبة؟ قلت : يا رسول الله بل تركبني ، فلمّا جلس على ظهري لم
استطع حمله لثقل الرسالة قلت : يا رسول الله بل أركبك. فضحك ونزل وطأطأ لي ظهره
واستويت عليه فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لأمسكتها بيدي
، فألقيت هبل عن ظهر الكعبة فأنزل الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) .
وعن ابن عبّاس قال
: قال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ : «قم بنا إلى الصنم في أعلى الكعبة لنكسره» فقاما
جميعاً ، فلمّا أتياه قال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قم على عاتقي حتى أرفعك عليه» فأعطاه عليٌّ ثوبه فوضعه
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على عاتقه ثمّ رفعه حتى وضعه على البيت فأخذ عليٌّ الصنم
وهو من نحاس ، فرمى به من فوق الكعبة فنادى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «انزل» فوثب من أعلى الكعبة كأنّما كان له جناحان.
هذه الأثارة
أخرجتها أُمّة من الحفّاظ وأئمّة الحديث والتاريخ ، وأخذها منهم رجال التأليف في
القرون المتأخّرة وذكروها في كتبهم مرسلين إيّاها إرسال المسلّم من دون أيّ غمز في
سندها.
وإليك جملة منهم :
١ ـ أسباط بن محمد
القرشي : المتوفّى (٢٠٠) روى عنه أحمد في المسند .
٢ ـ الحافظ أبو
بكر الصنعاني : المتوفّى (٢١١) حكاه عنه السيوطي .
__________________
٣ ـ الحافظ ابن
أبي شيبة : المتوفّى (٢٣٥) حكاه عنه الزرقاني والسيوطي.
٤ ـ إمام الحنابلة
أحمد : المتوفّى (٢٤١) في مسنده (١ / ٨٤) بإسناد
صحيح رجاله كلّهم ثقات.
٥ ـ أبو عليّ أحمد
المازني : المتوفّى (٢٦٣) روى عنه النسائي .
٦ ـ الحافظ أبو
بكر البزّار : المتوفّى (٢٩٢) ، كما في الينابيع .
٧ ـ الحافظ ابن شعيب
النسائي : المتوفّى (٣٠٣) ، في الخصائص (ص ٣١) .
٨ ـ الحافظ أبو
يعلى الموصلي : المتوفّى (٣٠٧) ، في مسنده .
٩ ـ الحافظ أبو
جعفر الطبري : المتوفّى (٣١٠) ، كما في جمع الجوامع .
١٠ ـ الحافظ أبو
القاسم الطبراني : المتوفّى (٣٦٠) ، كما في تاريخ الخميس .
١١ ـ الحافظ
الحاكم النيسابوري : المتوفّى (٤٠٥) ، في المستدرك (٢ / ٣٦٧) وصححه .
١٢ ـ الحافظ أبو
بكر الشيرازي : المتوفّى (٤٠٧ ، ٤١٠) ، في نزول القرآن من طريق جابر.
__________________
١٣ ـ الحافظ أبو
محمد أحمد بن محمد العاصمي في زين الفتى شرح سورة هل أتى.
١٤ ـ الحافظ أبو
نعيم الأصبهاني : المتوفّى (٣٤٠) ، روى عنه الخطيب إملاءً.
١٥ ـ الحافظ أبو
بكر البيهقي : المتوفّى (٤٥٨) ، روى من طريقه الخوارزمي .
١٦ ـ الحافظ الخطيب
البغدادي : المتوفّى (٤٦٣) ، في تاريخه (١٣ / ٣٠٢).
١٧ ـ الفقيه أبو
الحسن ابن المغازلي : المتوفّى (٤٨٣) ، في مناقبه من طريق أبي هريرة .
١٨ ـ الحافظ أبو
عبد الله الفراوي : المتوفّى (٣٥٠) ، كما في كفاية الكنجي .
١٩ ـ أخطب خطباء
خوارزم : المتوفّى (٥٦٨) ، في المناقب (ص ٧٣) من طريق
الحافظين : البيهقي والحاكم.
٢٠ ـ الحافظ أبو
الفرج ابن الجوزي : المتوفّى (٥٩٧) ، في صفة الصفوة (١ / ١١٩).
٢١ ـ الحافظ رضي
الدين أبو الخير الحاكمي في أربعينه في فضائل عليّ عليهالسلام .
٢٢ ـ الحافظ أبو
عبد الله ابن النجّار : المتوفّى (٦٤٣) ، كما في الكفاية .
٢٣ ـ أبو سالم بن
طلحة الشافعي : المتوفّى (٦٥٢) ، في مطالب السؤول (ص ١٢).
٢٤ ـ أبو المظفر
يوسف سبط ابن الجوزي : المتوفّى (٦٥٤) ، في التذكرة .
__________________
٢٥ ـ الحافظ أبو
عبد الله الكنجي : المتوفّى (٦٥٨) ، في الكفاية (ص ١٢٨) . وقال : رواه الحاكم والبيهقي ، وهو حديث حسن ثابت عند أهل
النقل.
٢٦ ـ الحافظ
الصالحاني ، كما في تاريخ الخميس.
٢٧ ـ الحافظ محبّ
الدين الطبري : المتوفّى (٦٩٤) ، في الرياض النضرة (٢ / ٢٠٠) نقلاً
عن أحمد وابن الجوزي والحاكمي.
٢٨ ـ جمال الدين
أبو عبد الله ابن النقيب المتوفّى (٦٩٨) ، في تفسيره والعبر.
٢٩ ـ شيخ الإسلام
الحمّوئي : المتوفّى (٧٢٢) ، في فرائد السمطين .
٣٠ ـ الحافظ شمس
الدين الذهبي : المتوفّى (٧٤٨) ، في تلخيص المستدرك
وقال : إسناده
نظيفٌ والمتن منكرٌ.
قال الأميني : لم
يك يعرف أيّ حافظ هذه النكارة في تلكم القرون الخالية إلى أن جاد الدهر بالذهبي ،
وكوى الحديث بعينه ، فكوّه نار حقده ، غير أنّ تلك النكارة الموهومة دفنت معه ولم
يتّبع أثره فيها أيّ محدّث بعده.
٣١ ـ الحافظ
الزرندي : المتوفّى بضع و (٧٥٠) في نظم درر السمطين .
٣٢ ـ الحافظ جلال
الدين السيوطي : المتوفّى (٩١١) ، في الجامع الكبير كما في ترتيبه (٦ / ٤٠٧) عن ابن
أبي شيبة ، وعبد الرزّاق ، وأحمد ، وابن جرير ، والخطيب
__________________
والحاكم وقال :
صحّحه. وذكره في الخصائص الكبرى (١ / ٢٦٤).
٣٣ ـ الحافظ أبو
العبّاس القسطلاني : المتوفّى (٩٢٣) ، في المواهب اللدنيّة (١ / ٢٠٤) نقلاً
عن ابن النقيب.
٣٤ ـ القاضي
الدياربكري المالكي : المتوفّى (٩٦٦ ، ٩٨٢) ، في تاريخ الخميس (٢ / ٩٥) نقلاً عن
الطبراني والزرندي والصالحاني وابن النقيب المقدسي والمحبّ الطبري وصاحب شواهد
النبوّة فقال : ثمّ إنّ عليّا أراد أن ينزل فألقى نفسه من صوب الميزاب تأدّباً
وشفقةً على النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولمّا وقع على الأرض تبسّم فسأله النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبسّمه ، قال : «لأنِّي ألقيت نفسي من هذا المكان
الرفيع وما أصابني ألم». قال : «كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبريل؟» وقال
الشاعر :
قيل لي قل في
عليٍّ مِدحَاً
|
|
ذكرُه يخمدُ
ناراً موصده
|
قلت لا أُقدم في
مدحِ امرئ
|
|
ضلّ ذو اللبِّ
إلى أن عبده
|
والنبيُّ
المصطفى قال لنا
|
|
ليلةَ المعراجِ
لمّا صعده
|
وضعَ اللهُ
بظهري يدَهُ
|
|
فأحسَّ القلبُ
أن قد برده
|
وعليٌّ واضعٌ
أقدامَهُ
|
|
في محلٍّ وضعَ
اللهُ يده
|
٣٥ ـ نور الدين الحلبي الشافعي :
المتوفّى (١٠٤٤) ، في السيرة الحلبيّة (٣ / ٩٧) .
٣٦ ـ أبو عبد الله
الزرقاني المالكي : المتوفّى (١١٢٢) ، في شرح المواهب (٢ / ٣٣٦) عن ابن أبي شيبة
والحاكم فقال : قد أجاد القائل :
يا ربِّ بالقدمِ
التي أوطأتَها
|
|
من قابِ قوسينِ
المحلَّ الأعظما
|
__________________
وبحرمةِ القدمِ
التي جُعِلتْ لها
|
|
كتفُ المؤيّد
بالرسالةِ سلّما
|
ثبِّت على متنِ
الصراطِ تكرّماً
|
|
قدمي وكن لي
منقذاً ومسلّما
|
واجعلهما ذخري
فمن كانا له
|
|
ذخراً فليس يخاف
قطّ جهنّما
|
٣٧ ـ السيّد أحمد زيني دحلان المكي :
المتوفّى (١٢٣٢) ، في السيرة النبويّة هامش الحلبيّة (٢ / ٢٩٣) فقال : وقد أجاد القائل :
يا ربّ بالقدم التي أوطأتها
إلى آخر الأبيات
المذكورة.
٣٨ ـ شهاب الدين
الآلوسي : المتوفّى (١٢٧٠) ، في شرح العينيّة (ص ٧٥) وقد مرّت كلمته في (٦ / ٢٢).
٣٩ ـ خواجه كلان
القندوزيّ : المتوفّى (١٢٩٣) ، في ينابيع المودّة (ص ١٩٣) عن
البزّار وأبي يعلى الموصلي.
٤٠ ـ الشيخ أبو
بكر بن محمد الحنفي : المتوفّى (١٢٧٠) ، في قرّة العيون المبصرة (١ / ١٨٥).
٤١ ـ السيّد محمود
القراغولي الحنفي ، في جوهرة الكلام (ص ٥٥ ، ٥٩).
الشاعر
الشيخ صالح بن عبد
الوهاب بن العرندس الحلّي الشهير بابن العرندس ، أحد أعلام الشيعة ومن مؤلِّفي
علمائها في الفقه والأصول ، وله مدائح ومراثٍ لأئمة
__________________
أهل البيت عليهمالسلام تنمُّ عن تفانيه في ولائهم ومناوأته لأعدائهم ، ذكر شطراً منها شيخنا الطريحي
في المنتخب ، وجملة منها مبثوثة في المجاميع والموسوعات ، وعقد له
العلاّمة السماوي في الطليعة ترجمة أطراه فيها بالعلم والفضل والتقى والنسك
والمشاركة في العلوم. وأشفع ذلك الخطيب الفاضل اليعقوبي في البابليات ، وأثنى عليه ثناءً جميلاً ، وذكر في الطليعة أنّه توفّي
حدود (٨٤٠) بالحلّة الفيحاء ودفن فيها وله قبر يزار ويتبرّك به.
كان ابن العرندس
يحاول في شعره كثيراً الجناس على نمط الشيخ علاء الدين الشفهيني المترجم في الجزء
السادس (ص ٣٥٦) وتعلوه القوّة والمتانة ، ويعرب عن تضلّعه من العربيّة واللغة ، ولولا
تهالكه على ما تجده في شعره من الجناس الكثير لكان ما ينظمه أبلغ وأبرع ممّا هو
الآن.
ومن شعر شيخنا
الصالح رائية اشتهر بين الأصحاب أنَّها لم تقرأ في مجلس إلاّ وحضره الإمام الحجّة
المنتظر عجّل الله تعالى فرجه ، توجد برمّتها في منتخب شيخنا الطريحي (٢ / ٧٥) وهي :
طوايا نظامي في
الزمان لها نشر
|
|
يعطِّرها من طيب
ذكراكمُ نشرُ
|
قصائدُ ما خابت
لهنَّ مقاصد
|
|
بواطنُها حمدٌ
ظواهرُها شكرُ
|
مطالعُها تحكي
النجومَ طوالعاً
|
|
فأخلاقها زُهرٌ
وأنوارُها زَهرُ
|
عرائس تجلي حين
تُجلى قلوبَنا
|
|
أكاليلُها درٌّ
وتيجانُها تبرُ
|
حسانٌ لها
حسّانُ بالفضلِ شاهدٌ
|
|
على وجهها تبرٌ
يُزان بها التِّبرُ
|
__________________
أُنظِّمها نظم
اللآلي وأسهر الليال
|
|
ي ليحيى لي بها
وبكم ذكرُ
|
فيا ساكني أرضِ
الطفوفِ عليكمُ
|
|
سلامُ مُحبٍّ ما
له عنكمُ صبرُ
|
نشرتُ دواوينَ
الثنا بعد طيِّها
|
|
وفي كلِّ طرسٍ
من مديحي لكمْ سطرُ
|
فطابق شعري
فيكمُ دمع ناظري
|
|
فمبيضُّ ذا نظمٌ
ومحمرُّ ذا نثرُ
|
فلا تتهموني
بالسلوِّ فإنّما
|
|
مواعيدُ سلواني
وحقّكمُ الحشرُ
|
فذلّي بكم عزٌّ
وفقري بكم غنىً
|
|
وعسري بكم يسرٌ
وكسري بكم جبرُ
|
ترقُّ بروقُ
السحبِ لي من ديارِكمْ
|
|
فينهلُّ من دمعي
لبارقِها القطرُ
|
فعيناي
كالخنساءِ تجري دموعُها
|
|
وقلبي شديدٌ في
محبَّتكم صخرُ
|
وقفت على الدار
التي كنتمُ بها
|
|
فمغناكمُ من
بَعد معناكمُ فقرُ
|
وقد درست منها
الدروس وطالما
|
|
بها درّس العلمُ
الإلهيّ والذكرُ
|
وسالت عليها من
دموعي سحائبٌ
|
|
إلى أن تروّى
البانُ بالدمعِ والسدرُ
|
فَراقَ فِراقُ
الروحِ لي بَعد بُعدِكمْ
|
|
ودارَ برسمِ
الدارِ في خاطري الفكرُ
|
وقد أقلعت عنها
السحابُ ولم يَجُد
|
|
ولا درَّ من بعد
الحسين لها دَرُّ
|
إمامُ الهدى
سبطُ النبوّةِ والد الأئمّ
|
|
ة ربّ النهي
مولىً له الأمرُ
|
إمامٌ أبوه
المرتضى علم الهدى
|
|
وصيُّ رسولِ
اللهِ والصنوُ والصهرُ
|
إمامٌ بكته
الإنسُ والجنُّ والسما
|
|
ووحش الفلا
والطيرُ والبرُّ والبحرُ
|
له القبّةُ
البيضاءُ بالطفِّ لم تزل
|
|
تطوفُ بها طوعاً
ملائكةٌ غرُّ
|
وفيه رسولُ
اللهِ قال وقولُه
|
|
صحيحٌ صريحُ ليس
في ذلكمْ نكرُ
|
حُبي بثلاثٍ ما
أحاطَ بمثلِها
|
|
وليٌّ فمن زيدٌ
هناك ومن عمرو
|
__________________
له تربةٌ فيها
الشفاءُ وقبّةٌ
|
|
يجابُ بها
الداعي إذا مسّه الضرُّ
|
وذُريّةٌ
دريَّةٌ منه تسعةٌ
|
|
أئمّةُ حقِّ لا
ثمانٍ ولا عشرُ
|
أيُقتَلُ ظمآناً
حسينٌ بكربلا
|
|
وفي كلّ عضوٍ من
أناملِهِ بحرُ
|
ووالدُه الساقي
على الحوضِ في غدٍ
|
|
وفاطمةٌ ماءُ
الفراتِ لها مهرُ
|
فوا لهفَ نفسي
للحسينِ وما جنى
|
|
عليه غداة
الطفِّ في حربِهِ الشمرُ
|
رماهُ بجيشٍ
كالظلامِ قسيُّه الأ
|
|
هلّةُ والخرصانُ
أنجمُه الزهرُ
|
لراياتِهمْ نصبٌ
وأسيافُهم جزمٌ
|
|
وللنقعِ رفعٌ
والرماحُ لها جرُّ
|
تجمّع فيها من
طغاةِ أُميّةٍ
|
|
عصابةُ غدرٍ لا
يقوم لها عذرُ
|
وأرسلها الطاغي
يزيدُ ليملكَ ال
|
|
عراقَ وما أغنته
شامٌ ولا مصرُ
|
وشدَّ لهم أزراً
سليلُ زيادِها
|
|
فحلَّ به من
شدِّ أزرِهمُ الوزرُ
|
وأمّرَ فيهم
نجلَ سعدٍ لنحسِهِ
|
|
فما طال في
الريِّ اللعينِ له عُمرُ
|
فلمّا التقى
الجمعانِ في أرضِ كربلا
|
|
تباعد فعلُ
الخيرِ واقترب الشرُّ
|
فحاطوا به في
عشرِ شهرِ محرّمٍ
|
|
وبيضُ المواضي
في الأكفِّ لها شَمرُ
|
فقام الفتى لمّا
تشاجرتِ القنا
|
|
وصال وقد أودى
بمهجته الحَرُّ
|
وجال بطرفٍ في
المجالِ كأنَّه
|
|
دجى اللّيلِ في
لألاءِ غرَّتِهِ الفجرُ
|
له أربعٌ للريحِ
فيهنَّ أربعٌ
|
|
لقد زانه كرٌّ
وما شانه الفرُّ
|
ففرّقَ جمَع
القومِ حتى كأنَّهم
|
|
طيوُر بُغاثٍ شتَّ شملَهمُ الصقرُ
|
فأذكرَهمْ ليلَ
الهريرِ فأجمعَ الكلا
|
|
بُ على الليثِ
الهزبرِ وقد هرّوا
|
__________________
هناك فدتْهُ
الصالحون بأنفسٍ
|
|
يُضاعَفُ في
يومِ الحسابِ لها الأجرُ
|
وحادوا عن
الكفّارِ طوعاً لنصرِهِ
|
|
وجاد له بالنفسِ
من سَعدِه الحُرُّ
|
ومدّوا إليه ذُبّلاً
سمهريّةً
|
|
لطولِ حياةِ
السبطِ في مدِّها جزرُ
|
فغادره في مارق الحرب مارقٌ
|
|
بسهمٍ لنحرِ
السبط من وقعه نحرُ
|
فمالَ عن الطرفِ
الجواد أخو الندى
|
|
الجوادُ قتيلاً
حوله يصهلُ المهرُ
|
سِنانُ سنانٍ
خارقٌ منه في الحشا
|
|
وصارمُ شمرٍ في
الوريدِ له شَمرُ
|
تجرّ عليه
العاصفاتُ ذيولَها
|
|
ومن نسجِ أيدي
الصافناتِ له طمرُ
|
فرجّت له السبعُ
الطباقُ وزلزلتْ
|
|
رواسي جبالِ
الأرضِ والتطمَ البحرُ
|
فيا لكَ مقتولاً
بكته السما دماً
|
|
فمغبرُّ وجه
الأرض بالدمِ محمرُّ
|
ملابسُه في
الحربِ حمرٌ من الدما
|
|
وهنَّ غداةَ
الحشرِ من سندسٍ خضرُ
|
ولهفي لزينِ
العابدينَ وقد سرى
|
|
أسيراً عليلاً
لا يفكُّ له أسرُ
|
وآلُ رسولِ
اللهِ تسبى نساؤهم
|
|
ومن حولهنَّ
السترُ يهتَكُ والخدرُ
|
سبايا بأكوارِ
المطايا حواسراً
|
|
يلاحظُهنَّ
العبدُ في الناسِ والحرُّ
|
ورملةُ في ظلّ القصورِ مصونةٌ
|
|
يُناطُ على
أقراطِها الدرُّ والتِّبرُ
|
__________________
ولهذا التشبيب قصّة توجد في معاجم التراجم. (المؤلف)
فويلُ يزيدٍ من
عذابِ جهنّم
|
|
إذا أقبلتْ في
الحشرِ فاطمةُ الطُهرُ
|
ملابسُها ثوبٌ
من السمِّ أسودٌ
|
|
وآخرُ قانٍ من
دمِ السبطِ محمرُّ
|
تنادي وأبصارُ
الأنامِ شواخصٌ
|
|
وفي كلِّ قلبِ
من مهابتها ذُعرُ
|
وتشكو إلى الله
العليِّ وصوتُها
|
|
عليٌّ ومولانا
عليٌّ لها ظهرُ
|
فلا ينطقُ
الطاغي يزيدُ بما جنى
|
|
وأنّى له عذرٌ
ومن شأنه الغدرُ
|
فيؤخذُ منه
بالقصاصِ فيحرم النع
|
|
يم ويُخلى في
الجحيم له قصرُ
|
ويشدو له الشادي
فيطربُه الغنا
|
|
ويسكبُ في
الكاسِ النضارِ له خمرُ
|
فذاك الغنا في
البعثِ تصحيفُه العَنا
|
|
وتصحيفُ ذاك
الخمرِ في قلبِه الجمرُ
|
أيُقرع جهلاً
ثغرُ سبطِ محمدٍ
|
|
وصاحبُ ذاك
الثغرِ يُحمى به الثغرُ
|
فليس لأخذِ
الثارِ إلاّ خليفةٌ
|
|
يكونُ لكسرِ
الدينِ من عدلِهِ جبرُ
|
تحفُّ به
الأملاكُ من كلِّ جانبٍ
|
|
ويقدمُه الإقبال
والعزُّ والنصرُ
|
عوامله في
الدارعين شوارعٌ
|
|
وحاجبه عيسى
وناظره الخضرُ
|
تظلّله حقّا
عمامة جدِّه
|
|
إذا ما ملوكُ
الصيدِ ظلّلها الجبرُ
|
محيطٌ على علمِ
النبوّةِ صدرُه
|
|
فطوبى لعلمٍ
ضمّه ذلك الصدرُ
|
هو ابنُ الإمامِ
العسكريِّ محمدُ الت
|
|
قيُّ النقيُّ
الطاهرُ العلَمُ الحَبرُ
|
سليلُ علي
الهادي ونجلُ محمدِ ال
|
|
جواد ومن في
أرضِ طوسٍ له قبرُ
|
عليّ الرضا وهو
ابن موسى الذي قضى
|
|
ففاح على بغدادَ
من نشرِهِ عطرُ
|
وصادقُ وعدٍ
إنّه نجلُ صادقٍ
|
|
إمامٌ به في
العلمِ يفتخرُ الفخرُ
|
وبهجة مولانا
الإمام محمد
|
|
إمام لعلمِ
الأنبياء له بَقرُ
|
سلالةُ زينِ
العابدين الذي بكى
|
|
فمن دمعِهِ يُبس
الأعاشيبِ مُخضرُّ
|
سليل حسينِ
الفاطمي وحيدر ال
|
|
وصيِّ فمن طُهرٍ
نمى ذلك الطهرُ
|
__________________
له الحسنُ
المسموم عمٌّ فحبّذا الإ
|
|
مامُ الذي عمَّ
الورى جودهُ الغمرُ
|
سميُّ رسولِ
الله وارثُ علمِهِ
|
|
إمامٌ على آبائه
نزلَ الذِكرُ
|
هم النورُ نورُ
اللهِ جلَّ جلالُه
|
|
همُ التينُ
والزيتونُ والشفعُ والوترُ
|
مهابطُ وحيِ
اللهِ خزّانُ علمِهِ
|
|
ميامينُ في
أبياتِهم نزلَ الذِكرُ
|
وأسماؤهم
مكتوبةٌ فوقَ عرشِهِ
|
|
ومكنونةٌ مِن
قبلِ أن يُخلَقَ الذرُّ
|
ولولاهمُ لم
يخلقِ اللهُ آدماً
|
|
ولا كان زيدٌ في
الأنامِ ولا عمرو
|
ولا سُطِحتْ
أرضٌ ولا رُفعت سما
|
|
ولا طلعت شمسٌ
ولا أشرقَ البدرُ
|
ونوحٌ به في
الفلك لمّا دعا نجا
|
|
وغيض به طوفانُه
وقضي الأمرُ
|
ولولاهمُ نارُ
الخليلِ لما غدتْ
|
|
سلاماً وبرداً
وانطفى ذلك الجمرُ
|
ولولاهمُ يعقوبُ
ما زالَ حزنُهُ
|
|
ولا كان عن
أيّوبَ ينكشفُ الضرُّ
|
ولانَ لداودَ
الحديدُ بسرِّهمْ
|
|
فقدَّر في سردٍ
يحير به الفكرُ
|
ولمّا سليمانُ
البساطُ به سرى
|
|
أُسيلت له عينٌ
يفيض له القطرُ
|
وسخّرتِ الريحُ
الرخاءُ بأمرِه
|
|
فغدوتُها شهرٌ
وروحتُها شهرُ
|
وهم سرُّ موسى
والعصا عندما عصى
|
|
أوامرَه فرعونُ
والتقف السحرُ
|
ولولاهمُ ما كان
عيسى بنُ مريمٍ
|
|
لعازر من طيِّ
اللحودِ له نشرُ
|
سرى سرّهمْ في
الكائناتِ وفضلُهمْ
|
|
وكلُّ نبيٍّ فيه
من سرِّهم سرُّ
|
علا بهمُ قدري
وفخري بهم غلا
|
|
ولولاهمُ ما كان
في الناسِ لي ذكرُ
|
مصابكمُ يا آلَ
طه مصيبةٌ
|
|
ورزءٌ على
الإسلامِ أحدثَه الكفرُ
|
سأندبُكمْ يا
عدّتي عند شدّتي
|
|
وأبكيكمُ حزناً
إذا أقبل العَشرُ
|
وأبكيكمُ ما
دمتُ حيّا فإن أمت
|
|
ستبكيكُم بعدي
المراثي والشعرُ
|
عرائسُ فكرِ
الصالحِ بنِ عرندسٍ
|
|
قبولكمُ يا آل
طه لها مهرُ
|
وكيف يحيطُ
الواصفون بمدحِكمْ
|
|
وفي مدحِ آياتِ
الكتابِ لكم ذكرُ
|
ومولدُكمْ
بطحاءُ مكةَ والصفا
|
|
وزمزمُ والبيتُ
المحرَّمُ والحجرُ
|
جعلتكُمُ يومَ
المعادِ وسيلتي
|
|
فطوبى لمن أمسى
وأنتمْ له ذخرُ
|
سيُبلي
الجديدانِ الجديدَ وحبُّكمْ
|
|
جديدٌ بقلبي ليس
يُخلِقُه الدهرُ
|
عليكم سلامُ
اللهِ ما لاح بارقٌ
|
|
وحلّت عقودُ المزنِ
وانتشر القطرُ
|
وله من قصيدة يرثي
بها الحسين عليهالسلام :
باتَ العذولُ
على الحبيبِ مسهّدا
|
|
فأقام عذري في
الغرامِ ومهّدا
|
ورأى العذار
بسالفيه مُسلسلاً
|
|
فأقامَ في سجنِ
الغرامِ مقيّدا
|
هذا الذي أمسى
عذولي عاذري
|
|
فيه وراقدُ
مقلتيه تسّهدا
|
ريمٌ رمى قلبي بسهمِ لحاظِهِ
|
|
عن قوسِ حاجبِه
أصابَ المقصدا
|
قمرٌ هلالُ
الشمسِ فوق جبينِه
|
|
عالٍ تغارُ
الشمسُ منه إذا بدا
|
وقوامُهُ
كالغصنِ رنّحه الصبا
|
|
فيه حمامُ
الحيِّ بات مغرِّدا
|
فإذا أرادَ
الفتكَ كان قوامُهُ
|
|
لدناً وجرَّدتِ
اللحاظُ مُهنّدا
|
تلقاه منعطفاً
قضيباً أمْيَداً
|
|
وتراه ملتفتاً
غزالاً أغيدا
|
في طاء طرّته
وجيم جبينه
|
|
ضدّانِ شأنُهما
الضلالُة والهدى
|
ليلٌ وصبحٌ
أسودٌ في أبيضٍ
|
|
هذا أضلَّ
العاشقين وذا هدى
|
لا تحسبوا داودَ
قدّرَ سردَهُ
|
|
في سين سالفِهِ
فبات مُسرَّدا
|
لكنَّما ياقوتُ
خاءِ خدودِهِ
|
|
نمَ العذارُ به فصار زبرجدا
|
يا قاتلَ
العشّاقِ يا من طرفُهُ
|
|
الرشّاقُ
يرشُقنا سهاماً من ردى
|
__________________
قسماً بثاءِ
الثغرِ منك لأنَّه
|
|
ثغرٌ به جيمُ
الجمان تنضّدا
|
وبراءِ ريقٍ
كالمدامِ مزاجُه
|
|
شهدٌ به تروى
القلوبُ من الصدى
|
إنِّي لقد أصبحت
عبدَك في الهوى
|
|
وغدوتُ في شرح
المحبّةِ سيّدا
|
فاعدل بعبدِك لا
تجُرْ واسمحْ ولا
|
|
تبخلْ بقربٍ من
وفاكَ الأبعدا
|
وابدِ الوفا
ودَعِ الجفا وذَرِ العفا
|
|
فلقد غدوتُ أخا
غرامٍ مُكْمدا
|
وفجعت قلبي
بالتفرُّقِ مثلما
|
|
فجعت أُميّةُ
بالحسينِ محمدا
|
سبط النبيِّ
المصطفى الهادي الذي
|
|
أهدى الأنامَ من
الضلالِ وأرشدا
|
وهو ابن مولانا
عليِّ المرتضى
|
|
بحرِ الندى
مُروي الصدا مُردي العدا
|
أسمى الورى
نسباً وأشرفُهم أباً
|
|
وأجلُّهم حسباً
وأكرمُ محتدا
|
بحرٌ طما ليثٌ
حمى غيثٌ همى
|
|
صبحٌ أضا نجمٌ
هدى بدرٌ بدا
|
السيّد السندُ
الحسينُ أعمُّ أه
|
|
لِ الخافقينِ
ندىً وأسمحُهم يدا
|
لم أنسه في
كربلا متلظّيا
|
|
في الكرب لا
يلقى لماءٍ موردا
|
والمقنب
الأمويُّ حول خبائه
|
|
النبويِّ قد ملأ
الفدافدَ فُدفدا
|
عُصَبٌ عصت غصّت
بخيلهمُ الفضا
|
|
غصبت حقوقَ بني
الوصيِّ وأحمدا
|
حمّت كتائبه
وثارَ عجاجه
|
|
فحكى الخضمَّ
المدلهمَّ المزبدا
|
للنصب فيه
زماجرٌ مرفوعةٌ
|
|
جزمت بها
الأسماء من حرف الندا
|
صامت صوافنُه
وبيضُ صفاحِه
|
|
صلّت فصيّرتِ
الجماجمَ سجّدا
|
نسج الغبارُ على
الأُسود مدارعاً
|
|
فيه فجسّدت
النجيعَ وعسجدا
|
والخيلُ عابسةُ
الوجوهِ كأنَّها
|
|
العقيانُ تخترقُ
العجاجَ الأربدا
|
حتى إذا لمعتْ
بروقُ صفاحِها
|
|
وغدا الجبانُ من
الرواعدِ مُرعدا
|
__________________
صال الحسينُ على
الطغاةِ بعزمِهِ
|
|
لا يختشي من
شربِ كاساتِ الردى
|
وغدا بلامِ
اللدن يطعن أنجلاً
|
|
وبغينِ غربِ
العضبِ يضرب أهودا
|
فأعاد بالضربِ
الحسامَ مفلَّلا
|
|
وثنى السنانَ من
الطعانِ مقصّدا
|
فكأنَّما
فتكاتُهُ في جيشِهمْ
|
|
فتكاتُ حيدر يوم
أُحدٍ في العدى
|
جيشٌ يريدُ رضا
يزيدَ عصابةٌ
|
|
غصبتْ فأغضبتِ
العليَّ وأحمدا
|
جحدوا العليَّ
مع النبيِّ وخالفوا
|
|
الهادي الوصيَّ
ولم يخافوا الموعدا
|
وغواهمُ
شيطانُهمْ فأضلّهمْ
|
|
عمداً فلم يجدوا
وليّا مُرشدا
|
ومن العجائبِ
أنَّ عذب فراتِها
|
|
تسري مسلسلةً
ولن تتقيّدا
|
طامٍ وقلبُ
السبطِ ظامٍ نحوه
|
|
وأبوه يسقي
الناسَ سَلسلَه غدا
|
وكأنَّه والطرف
والبتّار والخر
|
|
صان في ظُللِ
العجاج وقد بدا
|
شمسٌ على فلكٍ
وطوع يمينه
|
|
قمرٌ يقابل في
الظلام الفرقدا
|
والسيّدُ
العباسُ قد سلبَ العدا
|
|
عنه اللباسَ
وصيّروه مجرّدا
|
وابنُ الحسينِ
السبطِ ظمآنُ الحشا
|
|
والماءُ تنهلهُ
الذئاب مُبرّدا
|
كالبدرِ مقطوعُ
الوريدِ له دمٌ
|
|
أمسى على تربِ
الصعيد مُبدّدا
|
والسادةُ
الشهداء صرعى في الفلا
|
|
كلٌّ لأحقافِ الرمال توسّدا
|
__________________
فأولئك القومُ
الذين على هدىً
|
|
من ربِّهم فمن
اقتدى بهمُ اهتدى
|
والسبطُ حرّانُ
الحشا لمصابِهمْ
|
|
حيرانُ لا يلقى
نصيراً مُسعدا
|
حتى إذا اقتربت
أباعيد الردى
|
|
وحياتُه منها
القريبُ تبعّدا
|
دارت عليه علوجُ
آل أُميّةٍ
|
|
من كلّ ذي نقص
يزيد تمرّدا
|
فرموه عن صُفر
القسيِّ بأسهمٍ
|
|
من غير ما جُرم
جناهُ ولا اعتدا
|
فهوى الجوادُ عن
الجوادِ فرجّت
|
|
السبع الشداد
وكان يوماً أنكدا
|
واحتزَّ منه
الشمرُ رأساً طالما
|
|
أمسى له حجرُ
النبوّةِ مرقدا
|
فبكته أملاكُ
السمواتِ العلى
|
|
والدهرُ بات
عليه مشقوقَ الردا
|
وارتدَّ كفُّ
الجود مكفوفاً وطر
|
|
فُ العلمِ
مطروفاً عليه أرمدا
|
والوحشُ صاحَ
لما عراه من الأسى
|
|
والطيرُ ناحَ
على عزاه وعدّدا
|
وسروا بزينِ
العابدينَ الساجدِ
|
|
الباكي الحزينِ
مُقيّداً ومُصفّدا
|
وسكينةٌ سكنَ
الأسى في قلبِها
|
|
فغدا بضامرها مُقيماً مُقعدا
|
وأسال قتلُ
الطفِّ مدمعَ زينبٍ
|
|
فجرى ووسطَ
الخدِّ منها خدّدا
|
ورأيت ساجعةً
تنوحُ بأيكةٍ
|
|
سجعتْ فأخرستِ
الفصيحَ المنشدا
|
بيضاءُ كالصبحِ
المضيءِ أكفُّها
|
|
حمرٌ تطوّقت
الظلامَ الأسودا
|
ناشدتها يا
وِرقُ ما هذا البكا
|
|
ردِّي الجوابَ
فجعتِ قلبي المكمدا
|
والطوقُ فوقَ
بياضِ عنقكِ أسودٌ
|
|
وأكفُّكِ حمرٌ
تحاكي العسجدا
|
لمّا رأت ولهي
وتسآلي لها
|
|
ولهيبَ قلبي
نارُه لن تخمدا
|
__________________
رفعت بمنصوبِ
الغصونِ لها يداً
|
|
جزمت به نوح
النوائح سرمدا
|
قُتِلَ الحسينُ
بكربلا يا ليته
|
|
لاقى النجاةَ
بها وكنتُ له الفدا
|
فإذا تطوّق ذاك
دمعي أحمرٌ
|
|
قانٍ مسحتُ به
يديّ تورّدا
|
ولبستُ فوق
بياضِ عنقي من أسىً
|
|
طوقاً بسينِ
سوادِ قلبي أسودا
|
فالآن ها ذي
قصّتي يا سائلي
|
|
ونجيعُ دمعي
سائلٌ لن يجمدا
|
فاندب معي
بتقرّحٍ وتحرّقٍ
|
|
وابكي وكن لي في
بكائي مُسعدا
|
فلألعننَّ بني
أُميّةَ ما حدا
|
|
حادٍ وما غار
الحجيجُ وأنجدا
|
ولألعننَّ
يزيدَها وزيادَها
|
|
ويزيدُها ربِّي
عذاباً سرمدا
|
ولأبكينَّ عليك
يا ابن محمدٍ
|
|
حتى أُوسَّدَ في
التراب مُلحّدا
|
ولأحلينَّ على
عُلاك مدائحاً
|
|
من درِّ ألفاظي
حساناً خُرَّدا
|
عُرُباً فصاحاً
في الفصاحةِ جاوزت
|
|
قُسّا وبات لها لبيد مُبلّدا
|
قلّدتُها
بقلائدٍ من جودِكمْ
|
|
أضحى بها جيدُ
الزمان مُقلَّدا
|
يرجو بها نجلُ
العرندسِ صالحٌ
|
|
في الخلدِ مع
حورِ الجنانِ تخلّدا
|
وسقى الطفوف
الهامرات من الحيا
|
|
سُحباً تسحُّ
عيونها دمع الندى
|
ثمّ السلام عليك
يا ابن المرتضى
|
|
ما ناح طيرٌ في
الغصون وغرّدا
|
وله قصيدة تناهز
(٥٦) بيتاً يرثي بها الإمام السبط الشهيد صلوات الله عليه ، توجد في المنتخب
لشيخنا الطريحي (٢ / ١٩) طبع بمبي
مطلعها :
نوحوا أيا شيعةَ
المولى أبي حسنِ
|
|
على الحسين
غريبِ الدارِ والوطنِ
|
__________________
ـ ٧٣ ـ
ابن داغر الحلّي
حيّا الإلهُ
كتيبةً مرتادُها
|
|
يطوى له سهلُ
الفلا ووهادُها
|
قصدت أميرَ
المؤمنين بقبّةٍ
|
|
يُبنى على هامِ
السماك عمادُها
|
وفدت على خيرِ
الأنامِ بحضرةٍ
|
|
عند الإلهِ
مكرّمٌ وُفّادُها
|
فيها الفتى وابن
الفتى وأخو الفتى
|
|
أهلُ الفتوّةِ
ربُّها مقتادُها
|
فله الفخارُ
قديمُه وحديثُه
|
|
والفاضلاتُ
طريفُها وتلادُها
|
مولى البريّةِ
بعد فقد نبيِّها
|
|
وإمامُها
وهمامُها وجوادُها
|
وإذا القرومُ
تصادمت في معركٍ
|
|
والخيلُ قد نسج
القتامَ طرادُها
|
وترى القبائلَ
عند مختلفِ القنا
|
|
منه يحذِّر
جمعَها آحادُها
|
والشوسُ تعثرُ
في المجالِ وتحتَها
|
|
جردٌ تجذُّ إلى
القتالِ جيادُها
|
فكأنَّ منتشرَ
الرعالِ لدى الوغى
|
|
زجلٌ تنشّر في
البلادِ جرادُها
|
ورماحُهمْ قد
شظِّيتْ عيدانُها
|
|
وسيوفُهم قد
كسِّرت أغمادُها
|
__________________
والشهب تُغمَدُ
في الرؤوس نصولُها
|
|
والسمرُ تصعد في
النفوسِ صعادُها
|
فترى هناك أخا
النبيِّ محمدٍ
|
|
وعليه من جهدِ
البلاءِ جلادُها
|
متردِّياً عند
اللقا بحسامِهِ
|
|
متصدِّياً
لكماتِها يصطادُها
|
عضَدَ النبيَّ
الهاشميَّ بسيفِهِ
|
|
حتى تقطّعَ في
الوغى أعضادُها
|
واخاهُ دونهمُ
وسدَّ دُوينَه
|
|
أبوابَهمْ
فتّاحُها سدّادُها
|
وحباه في يومِ
الغديرِ ولايةً
|
|
عام الوداع
وكلُّهم أشهادُها
|
فغدا به يومَ
الغدير مفضّلاً
|
|
بركاتُه ما
تنتهي أعدادُها
|
قبلت وصيّة أحمد
وبصدرها
|
|
تخفى لآل محمدٍ
أحقادُها
|
حتى إذا مات
النبيُّ فأظهرت
|
|
أضغانها في
ظلمِها أجنادُها
|
منعوا خلافةَ
ربِّها ووليِّها
|
|
ببصائرٍ عميت
وضلَّ رشادُها
|
واعصوصبوا في
منعِ فاطمَ حقَّها
|
|
فقضتْ وقد شاب
الحياةَ نكادُها
|
وتوفّيت غصصاً
وبعد وفاتِها
|
|
قُتلَ الحسينُ
وذُبِّحت أولادُها
|
وغدا يُسَبُّ
على المنابرِ بعلُها
|
|
في أمّةٍ ضلّت
وطالَ فسادُها
|
ولقد وقفتُ على
مقالةِ حاذقٍ
|
|
في السالفين
فراقَ لي إنشادُها
|
(أعلى المنابرِ تعلنون بسبِّهِ
|
|
وبسيفِهِ نُصبتْ
لكم أعوادُها)
|
يا آلَ بيتِ
محمدٍ يا سادةً
|
|
ساد البريّةَ
فضلُها وسدادُها
|
أنتم مصابيحُ
الظلامِ وأنتمُ
|
|
خيرُ الأنامِ
وأنتمُ أمجادُها
|
فضلاؤها علماؤها
حلماؤها
|
|
حكماؤها
عبّادُها زهّادُها
|
__________________
أمّا العبادُ
فأنتمُ ساداتُها
|
|
أمّا الحروبُ
فأنتمُ آسادُها
|
تلك المساعي
للبريّة أوضحتْ
|
|
نهجَ الهدى ومشت
به عبّادُها
|
وإليكمُ من
شارداتِ (مغامسٍ)
|
|
بكراً يقرُّ
بفضلِها حسّادُها
|
كملت بوزنِ
كمالِكمْ وتزيّنتْ
|
|
بمحاسنٍ من
حسنِكمْ تزدادُها
|
ناديتها صوتاً
فمذ أسمعتها
|
|
لبّتْ ولم يصلدْ
عليَّ زنادُها
|
نفقتْ لديّ
لأنّها في مدحِكمْ
|
|
فلذاك لا يخشى
عليَّ كسادُها
|
رحمَ الإلهُ
مُمِدَّها أقلامَهُ
|
|
ورجاؤه أن لا
يخيب مدادُها
|
فتشفّعوا
لكبائرٍ أسلفتها
|
|
قلقتْ لها نفسي
وقلّ رقادُها
|
جرماً لو انَّ
الراسياتِ حملنَه
|
|
دكّتْ وذاب
صخورُها وصلادُها
|
هيهات تُمنعُ عن
شفاعةِ جدِّكمْ
|
|
نفسٌ وحبُّ أبي
ترابٍ زادُها
|
صلّى الإلهُ
عليكمُ ما أرعدتْ
|
|
سحبٌ وأسبلَ
ممطراً أرعادُها
|
وله قوله من قصيدة
تناهز الاثنين والتسعين بيتاً :
كيف السلامةُ
والخطوبُ تنوبُ
|
|
ومصائبُ الدنيا
الغَرورُ تصوبُ
|
إنَّ البقاءَ
على اختلافِ طبائعٍ
|
|
ورجاء أن ينجو
الفتى لعصيبُ
|
العيشُ أهونُه
وما هو كائنٌ
|
|
حتمٌ وما هو
واصلٌ فقريبُ
|
والدهر أطوارٌ
وليس لأهلِهِ
|
|
إن فكّروا في
حالتيه نصيبُ
|
ليس اللبيب من
استغرّ بعيشِهِ
|
|
إنَّ المفكّرَ
في الأمورِ لبيبُ
|
يا غافلاً
والموتُ ليس بغافلٍ
|
|
عِش ما تشاءُ
فإنّكَ المطلوبُ
|
أبديتَ لهوكَ إذ
زمانُك مقبلٌ
|
|
زاهٍ وإذ غصنُ
الشبابِ رطيبُ
|
فمن النصيرُ على
الخطوبِ إذا أتت
|
|
وَعلا على شرخِ
الشباب مشيبُ
|
علل الفتى من
علمِه مكفوفةٌ
|
|
حتى الممات
وعمرُه مكتوبُ
|
وتراه يكدحُ في
المعاشِ ورزقُه
|
|
في الكائناتِ
مقدّرٌ محسوبُ
|
إنَّ الليالي لا
تزال مجدَّةً
|
|
في الخلقِ
أحداثٌ لها وخطوبُ
|
من سرَّ فيها
ساءه من صرفِها
|
|
ريبٌ له طولُ
الزمانِ مريبُ
|
عصفت بخيرِ
الخلقِ آلِ محمدٍ
|
|
نكباءُ إعصارٌ
لها وهبوبُ
|
أمّا النبيُّ
فخانه من قومِهِ
|
|
في أقربيه
مجانبٌ وصحيبُ
|
من بعد ما
ردُّوا عليه وصاتَه
|
|
حتى كأنَّ
مقالَه مكذوبُ
|
ونسوا رعاية
حقِّه في حيدرٍ
|
|
في خمّ وهو وزيرُه
المصحوبُ
|
فأقام فيهم
برهةً حتى قضى
|
|
في الغيظِ وهو
بغيظِهمْ مغضوبُ
|
ومنها قوله في
رثاء الإمام السبط عليهالسلام :
بأبي الإمامَ
المستضامَ بكربلا
|
|
يدعو وليس لما
يقولُ مجيبُ
|
بأبي الوحيدَ
وما له مِن راحمٍ
|
|
يشكو الظما
والماءُ منه قريبُ
|
بأبي الحبيبَ
إلى النبيِّ محمدٍ
|
|
ومحمدٌ عند
الإله حبيبُ
|
يا كربلاءُ أفيك
يُقتلُ جهرةً
|
|
سبطُ المطهّرِ
إنّ ذا لعجيبُ
|
ما أنتِ إلاّ
كربةٌ وبليّةٌ
|
|
كلُّ الأنامِ
بهولِها مكروبُ
|
لهفي عليه وقد
هوى متعفِّراً
|
|
وبه أُوامٌ
فادحٌ ولغوبُ
|
لهفي عليه بالطفوفِ
مجدّلاً
|
|
تسفي عليهِ
شمألٌ وجنوبُ
|
لهفي عليه
والخيولُ ترضُّهُ
|
|
فلهنَّ ركضٌ
حوله وخبيبُ
|
لهفي له والرأسُ
منه مميّزٌ
|
|
والشيبُ من دمه
الشريفِ خضيبُ
|
لهفي عليه
ودرعُه مسلوبةٌ
|
|
لهفي عليه
ورحلُهُ منهوبُ
|
__________________
لهفي على حُرَمِ
الحسينِ حواسراً
|
|
شعثاً وقد
رِيعتْ لهنَّ قلوبُ
|
حتى إذا قطع
الكريم بسيفِهِ
|
|
لم يثنه خوفٌ
ولا ترعيبُ
|
للهِ كم لطمتْ
خدودٌ عندَهُ
|
|
جزعاً وكم شُقّت
عليه جيوبُ
|
ما أنس إن أنسَ
الزكيّةَ زينباً
|
|
تبكي له
وقناعُها مسلوبُ
|
تدعو وتندبُ
والمصابُ تكظُّها
|
|
بين الطفوفِ
ودمعُها مسكوبُ
|
أَأُخيَّ بعدكَ
لا حييتُ بغبطةٍ
|
|
واغتالني حتفٌ
إليَّ قريبُ
|
أَأُخيَّ بعدَكَ
من يدافعُ جاهلاً
|
|
عنِّي ويسمع
دعوتي ويجيبُ
|
حزني تذوب له
الجبالُ وعنده
|
|
يسلو وينسى
يوسفاً يعقوبُ
|
الشاعر
الشيخ مغامس بن داغر
الحلّي ، طفح بذكر المغامس في حبِّ آل الله صلّى الله عليهم غير واحد من المعاجم
المتأخّرة كالحصون المنيعة للعلاّمة الشيخ علي آل كاشف الغطاء ، والطليعة للعلاّمة
السماوي ، والبابليّات للخطيب اليعقوبي ، وذكر شطراً من شعره شيخنا فخر الدين الطريحي في المنتخب ، والأديب الأصبهاني في التحفة الناصريّة ، وتضمّن غير
واحد من المجاميع قريضه المتدفِّق بمدح أهل بيت الوحي أئمّة الهدى ورثائهم صلوات
الله عليهم حتى جمع منها الشيخ السماوي ديواناً باسم المترجم يربو على ألف
وثلاثمائة وخمسين بيتاً ولعلّ التالف منها أكثر وأكثر.
فهو من شعراء أهل
البيت المكثرين المتفانين في حبّهم وولائهم غير أنَّ الدهر أنسى ذكره الخالد ،
ولعلّ هذا الانقطاع عن غيرهم عليهمالسلام هو الذي قطع اطّراد ذكره في جملة من الموسوعات أو المعاجم
لمن لا يألف إلى ودِّهم كما فعلوا ذلك بالنسبة إلى
__________________
كثيرين من أمثال
المترجم فتركوا ذكره أو أثبتوه بصورة مصغّرة ، وعندهم مكبّرات لذكريات أُناس هم
دون أولئك في الفضيلة والأدب ، وكم للتاريخ من جنايات في الخفض والرفع والجرّ
والنصب لا تستقصى!
كان الشيخ مغامس
من إحدى القبائل العربيّة في ضواحي الحلّة الفيحاء فهبطها للدراسة ، ولم يبارحها
حتى قضى بها نحبه شاعراً خطيباً في أواسط القرن التاسع ، ويعرب شعره عن أنَّه كان
له شوط في مضمار الخطابة كما كان يركض في كلِّ حلبة من حلبات القريض ، قال :
فتارةً أنظمُ
الأشعارَ ممتدحاً
|
|
وتارةً أنثرُ
الأقوالَ في الخطبِ
|
وكان أبوه داغر
شاعراً موالياً وهو الذي علّمه قرض الشعر ومرّنه على ولاء العترة الطاهرة كما يأتي
في قوله :
أعملتُ في
مدحِكمْ فكري فعلّمني
|
|
نظمَ المديحِ
وأوصاني بذاك أبي
|
فحيّى الله الوالد
والولد. وإليك فهرست قصائده التي وقفنا عليها في مجاميع الأدب :
عدد القصائد
|
المطلع
|
عدد الأبيات
|
محبُّ الليالي
في مساعيه متعبُ
|
|
يساق إليه حتفُه
وهو يدأبُ
|
(٩٣) (٢) تذكّرَ ما أحصى الكتابُ فتابا
|
|
وحاذرَ من مسِّ
العذابِ عقابا (٩٢) (٣)
|
أصبحتَ للتقوى
بجهلِكَ تدّعي
|
|
دعواك باطلةٌ
إذا لم تقلعِ (٨١) (٤)
|
هل حين عمّمه
المشيبُ وقنّعا
|
|
أتراه يصنعُ في
الهدايةِ مصنعا (٩٠) (٥)
|
أتطلب دنياً بعد
شيب قذالِ
|
|
وتذكر أيّاماً
مضت وليالي (٩٢)
|
توجد جملة من هذه
القصيدة في المنتخب (٢ / ٤٥) طبع
بمبي.
__________________
فصلتْ صروفُ
الحادثاتِ مفاصلي
|
|
وأصاب سهمُ
النائباتِ مقاتلي
|
قطع الزمان عرى
قواي وكلّ ما
|
|
قطعَ الزمانُ
فما له من واصلِ (٧٧)
|
هذه القصيدة ذكرها
شيخنا الطريحي في المنتخب (٢ / ٣٦)
لغيرِكِ يا دنيا
ثنيتُ عناني
|
|
وذاك لأمر عن
غناكِ عناني (٩٩)
|
توجد هذه القصيدة
برمّتها في المنتخب (٢ / ٥٨).
لبني الهادي مناحي
|
|
في غدوّي ورواحي
|
صاحِ ما قلبي
بصاحِ
|
|
ما لحزني من
براحِ (١٠٥) (٩)
|
هجر الغمضَ
وسادي
|
|
وكوى الحزنُ
فؤادي
|
فحياتي في نكادي
|
|
لقتيلِ ابن
زيادِ (٦٢) (١٠)
|
ليتني كنت فداءً
للحسينْ
|
|
وهو بالطفِّ
قطيعُ الودجينْ
|
ينظرُ الشمرَ
بعينٍ وبعينْ
|
|
ينظر النسوةَ
بين العسكرينْ
|
(١٠٦) (١١) بكيت وما لريعان الشبابِ
|
|
ولا لدروسِ
منزلةٍ خرابِ
|
ولا لفوات عيش
مستطابِ
|
|
ولا لفراق زينب
والربابِ (٨٠) (١٢)
|
صحبتكِ لا أنِّي
بودِّك مغرمُ
|
|
فبيني فغيري في
هواكِ المتيَّمُ
|
(٨٨) (١٣) رحل الشبابُ وإنّه لكريمُ
|
|
وفراغُه عند
النفوسِ عظيمُ (٨١) (١٤)
|
أزال الشباب
الغضَّ عنك مزيلُ
|
|
فهل أنت للبيض
الحسان خليلُ (٧٥)
|
(١٥) يمدح بها النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله :
عرّج على
المصطفى يا سائق النجبِ
|
|
عرِّج على خيرِ
مبعوثٍ وخيرِ نبي
|
عرّج على السيّد
المبعوثِ من مُضرٍ
|
|
عرِّج على
الصادقِ المنعوتِ في الكتبِ
|
عرّج على رحمةِ
الباري ونعمتِهِ
|
|
عرِّج على
الأبطحيِّ الطاهرِ النسبِ
|
__________________
رآه آدمُ نوراً بين أربعةٍ
|
|
لألاؤها فوق ساقِ العرشِ من كثبِ
|
فقال يا ربّ من
هذا فقيل له
|
|
قولَ المحبِّ
وما في القولِ من ريبِ
|
هم أوليائي وهم
ذرّيةٌ لكما
|
|
فقرَّ عيناً
ونفساً فيهمُ وطبِ
|
أما وحقِّهمُ لو
لا مكانُهمُ
|
|
منِّي لما دارتِ
الأفلاكُ بالقطبِ
|
كلاّ ولا كان من
شمسٍ ولا قمرٍ
|
|
ولا شهابٍ ولا
أُفقٍ ولا حجبِ
|
ولا سماءٍ ولا
أرضٍ ولا شجرٍ
|
|
للناس يهمي عليه
واكفُ السحبِ
|
ولا جنانٍ ولا
نارٍ مؤجَّجةٍ
|
|
جعلت أعداءهم
فيها من الحطبِ
|
وقال للملإ
الأعلى ألا أحدٌ
|
|
يُنبي
بأسمائِهمْ صدقاً بلا كذبِ
|
فلم يجيبوا
فأنبا آدمٌ بهمُ
|
|
لها بعلمٍ من
الجبّارِ مُكتسبِ
|
فقال للملإ
الأعلى اسجدوا كملاً
|
|
لآدمٍ وأطيعوا
واتّقوا غضبي
|
وصيّر اللهُ ذاك
النورَ ملتمعاً
|
|
في الوجهِ منه
بوعدٍ منه مرتقبِ
|
وخاف نوحٌ فناجى
ربَّه فنجا
|
|
بهم على دُسُر
الألواحِ والخشبِ
|
وفي الجحيمِ دعا
اللهَ الخليلُ بهمْ
|
|
فأُخمدتْ بعد
ذاك الحرّ واللهبِ
|
وقد دعا اللهَ
موسى إذ هوى صَعِقاً
|
|
بحقِّهمْ فنجا
من شدّة الكربِ
|
فظَلَّ منتقلاً
واللهُ حافظُه
|
|
على تنقّلِهِ من
حادثِ النُوبِ
|
حتى تقسّم في
عبدِ الإلهِ معاً
|
|
وفي أبي طالبٍ
عن عبد مُطّلبِ
|
فأودعَ اللهُ
ذاك القسمَ آمنةً
|
|
يوماً إلى أجلٍ
بالحملِ مقتربِ
|
حتى إذا وضعتْه
انهدَّ من فزعٍ
|
|
ركنُ الضلالِ
ونادى الشركُ بالحربِ
|
وانشقَّ إيوانُ
كسرى وانطفت حذراً
|
|
نيرانُهمْ
وأقرَّ الكفرُ بالغلبِ
|
تساقطت أنجمُ
الأملاكِ مؤذنةً
|
|
بالرجمِ فاحترقَ
الأصنامُ باللهبِ
|
حتى إذا حاز
سنَّ الأربعين دعا
|
|
ربِّي به في
لسانِ الوحي بالكتبِ
|
فقال لبّيك من
داعٍ وأرسلَهُ
|
|
إلى البريّةِ من
عُجمٍ ومن عربِ
|
__________________
فأظهر المعجزاتِ
الواضحاتِ لهم
|
|
بالبيِّنات ولم
يحذرْ ولم يهبِ
|
أراهمُ الآيةَ
الكبرى فوا عجباً
|
|
ما بالهم خالفوا
من أعجب العجبِ
|
رامت بنو عمِّهِ
تبييتَهُ سحراً
|
|
فعاذ منهم رسولُ
اللهِ بالهربِ
|
وبات يفديه خيرُ
الخلقِ حيدرةٌ
|
|
على الفراشِ وفي
يُمناه ذو شطبِ
|
فأدبروا إذ رأوا
غيرَ الذي طلبوا
|
|
وأوغلوا لرسولِ
اللهِ في الطلبِ
|
فرابهمْ عنكبٌ
في الغارِ إذ جعلتْ
|
|
تسدي وتلحم في
أبرادِها القُشبِ
|
حتى إذا ردّهم
عنه الإلهُ مضى
|
|
ذاك النجيبُ على
المهريّة النُّجبِ
|
فحلَّ دارَ
رجالٍ بايعوه على
|
|
أعدائه فدماء
القوم في صَببِ
|
في كلِّ يومٍ
لمولى الخلق واقعةٌ
|
|
منه على عابدي
الأوثان والصلبِ
|
يمشي إلى
حربِهمْ واللهُ ناصرُهُ
|
|
مشيَ العفرناة
في غابِ القنا السلبِ
|
في فتيةٍ
كالأسودِ المحذراتِ لها
|
|
براثنٌ من رماح الخطِّ والقضبِ
|
عافوا المعاقلَ
للبيضِ الحسانِ فما
|
|
معاقلُ القومِ
غيرُ البيض واليلبِ
|
فالحقُّ في فرحٍ
والدينُ في مَرَحٍ
|
|
والشركُ في ترحٍ
والكفرُ في نصبِ
|
حتى استراح
نبيُّ الله قاضيةً
|
|
بهم وراحتُهمْ
في ذلك التعبِ
|
يا من به
أنبياءُ اللهِ قد خُتِموا
|
|
فليس من بعدِهِ
في العالمين نبي
|
إن كنتَ في درجاتِ
الوحيِ خاتمَهم
|
|
فأنت أوّلُهم في
أوّلِ الرُتبِ
|
قد بشّرت بك
رسلُ اللهِ في أُممٍ
|
|
خلتْ فما كنتَ
فيما بينهم بغبي
|
__________________
شهدتُ أنَّك
أحسنتَ البلاغَ فما
|
|
تكون في باطلٍ
يوماً بمنجذبِ
|
حتى دعاك إلهي
فاستجبتَ له
|
|
حبّا ومن
يدْعُهُ المحبوبُ يستجبِ
|
وقد نصبتَ لهم
في دينِهمْ خلفاً
|
|
وكان بعدَكَ
فيهم خيرَ منتصبِ
|
لكنّهم خالفوهُ
وابتغوا بدلاً
|
|
تخيّروه وليس
النبعُ كالغربِ
|
ويقول فيها :
يا راكبَ
الهوجلِ المحبوكِ تحملهُ
|
|
إلى زيارةِ خيرِ
العجمِ والعربِ
|
إذا قضيتَ فروضَ
الحجِّ مكتملاً
|
|
ونلتَ إدراكَ ما
في النفسِ من إربِ
|
وزرتَ قبرَ
رسولِ اللهِ سيَّدِنا
|
|
وسيّدِ الخلقِ
من ناءٍ ومقتربِ
|
قِف موقفي ثمّ
سلّم لي عليه معاً
|
|
حتى كأنِّيَ ذاك
اليومَ لم أغِبِ
|
واثنِ السلامَ
إلى أهلِ البقيعِ فلي
|
|
بها أحبّةُ صبٍّ
دائمِ الوصبِ
|
وبثّهم صبوتي
طولَ الزمانِ لهم
|
|
وقل بدمعٍ على
الخدّين منسكبِ
|
يا قدوةَ الخلقِ
في علمٍ وفي عملٍ
|
|
وأطهرَ الخلقِ
في أصلٍ وفي نسبِ
|
وصلتُ حبلَ
رجائي في حبائلِكمْ
|
|
كما تعلّق في
أسبابِكمْ سببي
|
دنوتُ في الدينِ
منكم والودادِ فلو
|
|
لا دان لم يدنُ
من أحسابِكم حسبي
|
مديحُكمْ مكسبي
والدينُ مكتسبي
|
|
ما عشتُ والظنُّ
في معروفِكمْ نشبي
|
فإن عدَتني
الليالي عن زيارتِكمْ
|
|
فإنَّ قلبيَ
عنكم غيرُ منقلبِ
|
قد سيط لحمي
وعظمي في محبّتِكمْ
|
|
وحبُّكم قد جرى
في المخِّ والعَصبِ
|
هجري وبغضي لمن
عاداكمُ ولكمْ
|
|
صدقي وحبّي وفي
مدحي لكم طربي
|
فتارةً أنظمُ
الأشعارَ ممتدحاً
|
|
وتارةً أنثرُ
الأقوالَ في الخطبِ
|
حتى جعلتُ مقال
الضدِّ من شبهٍ
|
|
إذ صغتُ فيكم
قريضَ القولِ من ذهبِ
|
__________________
أعملتُ في
مدحِكمْ فكري فعلّمني
|
|
نظمَ المديحِ
وأوصاني بذاك أبي
|
فهل أنالُ
مفازاً في شفاعتِكمْ
|
|
ممّا أحتقبتُ له
في سائرِ الحقبِ
|
فيا مغامس احبس
في مدائحِهمْ
|
|
تلك القوافي
وأجرَ اللهِ فاحتسبِ
|
ـ ٧٤ ـ
الحافظ البرسي الحلّي
هو الشمسُ أم
نورُ الضريح يلوحُ
|
|
هو المسكُ أم
طيبُ الوصيِّ يفوحُ
|
وبحرُ ندى أم
روضةٌ حوتِ الهدى
|
|
وآدمُ أم سرُّ
المهيمنِ نوحُ
|
وداودُ هذا أم
سليمانُ بعدَه
|
|
وهارونُ أم موسى
العصا ومسيحُ
|
وأحمدُ هذا
المصطفى أم وصيُّه
|
|
عليٌّ نماه
هاشمٌ وذبيحُ
|
محيطُ سماءِ
المجدِ بدرُ دجنّةٍ
|
|
وفلكُ جمالٍ
للأنام ويوحُ
|
حبيبُ حبيبِ
اللهِ بل سرُّ سرِّه
|
|
وجثمانُ أمرٍ
للخلائقِ روحُ
|
له النصُّ في
يومِ الغديرِ ومدحُه
|
|
من اللهِ في
الذكرِ المبينِ صريحُ
|
إمامٌ إذا ما
المرءُ جاءَ بحبِّه
|
|
فميزانُه يومَ
المعادِ رجيحُ
|
له شيعةٌ مثلُ
النجومِ زواهرٌ
|
|
لها بين كلِّ
العالمينَ وضوحُ
|
إذا قاولتَ
فالحقُّ فيما تقولهُ
|
|
به النورُ بادٍ
واللسانُ فصيحُ
|
وإن جاولتَ أو
جادلتَ عن مرامِها
|
|
تولّى العدوُّ
الجَلْدُ وهو طريحُ
|
عليك سلامُ
اللهِ يا رايةَ الهدى
|
|
سلامُ سليمٍ
يغتدي ويروحُ
|
وتأتي له قصيدة
منها قوله :
مولىً له بغديرِ
خمِّ بيعةٌ
|
|
خضعتْ لها
الأعناق وهي طوائحُ
|
__________________
الشاعر
الحافظ الشيخ رضي
الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلّي ، من عرفاء علماء الإماميّة وفقهائها
المشاركين في العلوم ، على فضله الواضح في فنِّ الحديث ، وتقدّمه في الأدب وقرض
الشعر وإجادته ، وتضلّعه من علم الحروف وأسرارها واستخراج فوائدها ، وبذلك كلّه
تجد كتبه طافحة بالتحقيق ودقّة النظر ، وله في العرفان والحروف مسالك خاصّة ، كما
أنَّ له في ولاء أئمّة الدين عليهم السلام آراء ونظريّات لا يرتضيها لفيف من الناس
، ولذلك رموه بالغلوِّ والارتفاع ، غير أنّ الحقّ أنّ جميع ما يثبته المترجم لهم عليهمالسلام من الشؤون هي دون مرتبة الغلوِّ وغير درجة النبوّة ، وقد جاء عن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام قوله : «إيّاكم والغلوّ فينا ، قولوا : إنّا عبيد مربوبون
، وقولوا في فضلنا ما شئتم» ، وقال الإمام الصادق عليهالسلام : «اجعل لنا ربّا نئوب إليه وقولوا فينا ما شئتم». وقال عليهالسلام : «اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا» .
وأنّى لنا البلاغ
مدية ما منحهم المولى سبحانه من فضائل ومآثر؟ وأنّى لنا الوقوف على غاية ما شرّفهم
الله به من ملكات فاضلة ، ونفسيّات نفيسة ؛ وروحيّات قدسيّة ، وخلائق كريمة ،
ومكارم ومحامد ؛ فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام؟ أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات
ضلّت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصاغرت العظماء ،
وتحيّرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألبّاء ، وكلّت
الشعراء ، وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه ، وفضيلة من فضائله ،
وأقرّت بالعجز والتقصير ؛ وكيف يوصف
__________________
بكلّه؟ أو ينعت
بكنهه؟ أو يفهم شيء من أمره؟ أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟ لا. كيف؟ وأنّى؟
فهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين ، فأين الاختيار من هذا؟ وأين
العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ .
ولذلك تجد كثيراً
من علمائنا المحقّقين في المعرفة بالأسرار يثبتون لأئمة الهدى صلوات الله عليهم
كلّ هاتيك الشؤون وغيرها ممّا لا يتحمّله غيرهم ، وكان في علماء قم من يرمي
بالغلوّ كلّ من روى شيئاً من تلكم الأسرار ، حتى قال قائلهم : إنَّ أوّل مراتب
الغلوّ نفي السهو عن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن جاء بعدهم المحقِّقون وعرفوا الحقيقة فلم يقيموا
لكثير من تلكم التضعيفات وزناً ، وهذه بليّة مُني بها كثيرون من أهل الحقائق
والعرفان ومنهم المترجم ، ولم تزل الفئتان على طرفي نقيض ، وقد تقوم الحرب بينهما
على أشدِّها ، والصلح خير.
وفذلكة المقام
أنَّ النفوس تتفاوت حسب جبلاّتها واستعداداتها في تلقّي الحقائق الراهنة ، فمنها
ما تبهظه المعضلات والأسرار ، ومنها ما ينبسط لها فيبسط إليها ذراعاً ويمدُّ لها
باعاً ، وبطبع الحال إنّ الفئة الأولى لا يسعها الرضوخ لما يعلمون ، كما أنّ
الآخرين لا تبيح لهم المعرفة أن يذروا ما حقّقوه في مدحرة البطلان ، فهنالك تثور
المنافرة ، وتحتدم الضغائن ، ونحن نقدِّر للفريقين مسعاهم لما نعلم من نواياهم
الحسنة وسلوكهم جَدَد السبيل في طلب الحقِّ ونقول :
على المرء أن
يسعى بمقدار جهده
|
|
وليس عليه أن
يكون موفّقا
|
ألا إنَّ الناس
لمعادن كمعادن الذهب والفضّة وقد تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام : «إنَّ أمرنا ، أو حديثنا صعب مستصعب لا يتحمّله إلاّ
نبيٌّ مرسل أو ملك
__________________
مقرّب ، أو مؤمنٌ
امتحن الله قلبه بالإيمان» . إذن فلا نتحرّى وقيعة في علماء الدين ولا نمسُّ كرامة
العارفين ، ولا ننقم من أحد عدم بلوغه إلى مرتبة من هو أرقى منه ، إذ لا يكلّف
الله نفساً إلاّ وسعها. وقال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «لو جلست أحدِّثكم ما سمعت من فم أبي القاسم صلىاللهعليهوآلهوسلم لخرجتم من عندي وأنتم تقولون : إنَّ عليّا من أكذب الكاذبين»
.
وقال إمامنا
السيّد السجاد عليهالسلام : «لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بينهما فما ظنّكم بسائر الخلق» (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى
وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) .
وإلى هذا يشير
سيّدنا الإمام السجّاد زين العابدين عليهالسلام بقوله :
إنِّي لأكتمُ من
علمي جواهرَهُ
|
|
كي لا يرى
الحقَّ ذو جهلٍ فيفتتنا
|
وقد تقدّم في
هذا أبو حسنٍ
|
|
إلى الحسينِ
وأوصى قبله الحسنا
|
فرُبَّ جوهر
علمٍ لو أبوح به
|
|
لقيل لي أنت
ممّن يعبد الوثنا
|
ولاستحلَّ رجال
مسلمون دمي
|
|
يرون أقبح ما
يأتونه حسنا
|
ولسيّدنا الأمين
في أعيان الشيعة (٣١ / ١٩٣ ـ ٢٠٥)
في ترجمة الرجل كلمات لا تخرج عن حدود ما ذكرناه ، وممّا نقم عليه به اعتماده على
علم الحروف والأعداد
__________________
الذي لا تتمّ به
برهنة ولا تقوم به حجّة ، ونحن وإن صافقناه على ذلك ، إلاّ أنّ للمترجم له ومن حذا
حذوه من العلماء كابن شهرآشوب ومن بعده عذراً في سرد هاتيك المسائل ؛ فإنَّها أشبه
شيء بالجدل تجاه من ارتكن إلى أمثالها في أبواب أخرى من علماء الحروف من العامّة
كقول العبيدي المالكي في عمدة التحقيق (ص ١٥٥) : قال بعض
علماء الحروف : يؤخذ دوام ناموس آل الصدِّيق وقيام عزّته إلى انتهاء الدنيا من
سرِّ قوله تعالى : في (ذُرِّيَّتِي). فإنَّ عدّتها
بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وعشرة وهي مظنّة تمام الدنيا كما ذكره بعضهم فلا
يزالون ظاهرين بالعزّة والسيادة مدّة الدنيا ، وقد استنبط تلك المدّة عمدة أهل
التحقيق مصطفى لطف الله الرزنامجي بالديوان المصري من قوله تعالى : (لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً) قال ما لفظه : إذا أسقطنا مكرّرات الحروف كان الباقي (ل ا
ي ب ث و ن خ ف ك ق) أحد عشر حرفاً عددهم بالجمل الكبير ألف وثلاثمائة وتسعة
وتسعين زدنا عليه عدد الحروف وهو أحد عشر صار المجموع وهو ألف وأربعمائة وعشرة وهو
مطابق لقوله تعالى : ذريّتي. وسمعت ختام الأعلام شيخنا الشيخ يوسف الفيشي رحمهالله يقول : قال محمد البكري الكبير : يجلس عقبنا مع عيسى بن مريم على سجّادة
واحدة وهذا يقوّي تصحيح ذلك الاستنباط. انتهى.
ونحن لا ندري ما
ذا يعني سيّدنا الأمين بقوله : وفي طبعه شذوذ وفي مؤلّفاته خبط وخلط وشيء من
المغالاة لا موجب له ولا داعي إليه وفيه شيء من الضرر إن أمكن أن يكون له محل
صحيح. ليت السيّد يوعز إلى شيء من شذوذ طبع شاعرنا الفحل حتى لا يبقى قوله دعوى
مجرّدة. وبعد اعترافه بإمكان محمل صحيح لما أتى به المترجم له فأيّ داعٍ إلى حمله
على الخبط والخلط ، ونسيان حديث : ضع أمر أخيك
__________________
على أحسنه؟ وأيّ
ضرر فيه على ذلك التقدير؟ على أنّا سبرنا غير واحد من مؤلّفات البرسي فلم نجد فيه
شاهداً على ما يقول ، وستوافيك نبذ ممتعة من شعره الرائق في مدائح أهل البيت عليهمالسلام ومراثيهم وليس فيها إلاّ إشادة إلى فضائلهم المسلّمة بين الفريقين أو ثناء
جميل عليهم هو دون مقامهم الأسمى ، فأين يقع الارتفاع الذي رماه به بعضهم؟ وأين
المغالاة التي رآها السيّد؟ والبرسي لا يحذو في كتبه إلاّ حذو شعره المقبول ، فأين
مقيل الخبط والضرر والغلو التي حسبها سيّد الأعيان؟
وأمّا ما نقم به
عليه من اختراع الصلوات والزيارة بقوله : واختراع صلاة عليهم وزيارة لهم لا حاجة
إليه بعد ما ورد ما يغني عنه ولو سلّم أنَّه في غاية الفصاحة كما يقول صاحب الرياض
، فإنّه لا مانع منه إلاّ ما يوهم المخترع أنَّها مأثورة ، وأيّ وازع من إبداء
كلِّ أحد تحيّته بما يجريه الله تعالى على لسانه وهو لا يقصد وروداً ولا يريد
تشريعاً؟ وقد فعله فطاحل العلماء من الفريقين ممّن هو قبل المترجم وبعده ، ولا
تسمع أُذن الدنيا الغمز عليهم بذلك من أيِّ أحد من أعلام الأمّة. وأمّا قول سيّدنا
: وإنَّ مؤلّفاته ليس فيها كثير نفع وفي بعضها ضرر ولله في خلقه شئون سامحه الله
وإيّانا. فإنَّه من شطفة القلم صدر عن المشطف ، سامحه الله وإيّانا.
تآليفه القيّمة :
١ ـ مشارق أنوار
اليقين في حقائق أسرار أمير المؤمنين.
٢ ـ مشارق الأمان
ولباب حقائق الإيمان ألّفه سنة (٨١٣).
٣ ـ رسالة في
الصلوات على النبيّ وآله المعصومين.
٤ ـ رسالة في
زيارة أمير المؤمنين طويلة ، قال شيخنا صاحب الرياض : في
__________________
نهاية الحسن
والجزالة واللطافة والفصاحة [ وهي ] معروفة.
٥ ـ رسالة اللمعة
من أسرار الأسماء والصفات والحروف والآيات والدعوات ، فيها فوائد ولا تخلو من
غرابة كما قاله شيخنا صاحب الرياض .
٦ ـ الدرّ الثمين
، في خمسمائة آية نزلت في مولانا أمير المؤمنين باتّفاق أكثر المفسّرين من أهل
الدين ، ينقل عنه المولى محمد تقي الزنجاني في كتابه : طريق النجاة.
٧ ـ أسرار النبيّ
وفاطمة والأئمّة عليهمالسلام.
٨ ـ لوامع أنوار
التمجيد وجوامع أسرار التوحيد ، في أصول العقائد.
٩ ـ تفسير سورة
الإخلاص.
١٠ ـ رسالة مختصرة
في التوحيد والصلوات على النبيِّ وآله.
١١ ـ كتاب في مولد
النبيّ وعليّ وفاطمة وفضائلهم.
١٢ ـ كتاب في
فضائل أمير المؤمنين غير المشارق.
١٣ ـ كتاب الألفين
في وصف سادة الكونين.
شعره الرائق :
للحافظ البرسي شعر
رائق وجلّه بل كلّه في مدائح النبيّ الأقدس وأهل بيته الطاهر صلوات الله عليهم
ويتخلّص في شعره ب : (الحافظ). ومن شعره يمدح به النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله :
أضاءَ بك
الأُفُقُ المشرقُ
|
|
ودان لمنطقِكَ
المنطقُ
|
وكنتَ ولا آدمٌ
كائناً
|
|
لأنَّك من كونه
أسبقُ
|
__________________
أشار بهذا البيت
إلى ما جاء عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : «كنت أوّل الناس في الخلق وآخرهم في البعث».
أخرجه ابن سعد في الطبقات ، والطبري في تفسيره (٢١ / ٧٩) ، وأبو
نعيم في الدلائل (١ / ٦) ، وذكره ابن كثير في تاريخه (٢ / ٣٠٧) ، والغزالي في
المضنون الصغير هامش الإنسان الكامل (٢ / ٩٧) والسيوطي في الخصائص الكبرى (١ / ٣)
، والزرقاني في شرح المواهب (٣ / ١٦٤).
وفي حديث الإسراء
: إنَّك عبدي ورسولي وجعلتك أوّل النبيّين خلقاً وآخرهم بعثاً . وجاء عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوّل ما خلق الله نوري» . وتواتر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من طرق صحيحة : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين. أو :
بين الروح والجسد. أو : بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».
ولولاك لم تخلق
الكائنات
|
|
ولا بان غربٌ
ولا مشرقُ
|
أشار به إلى ما
أخرجه الحاكم في المستدرك (٢ / ٦١٥) والبيهقي ، والطبراني ، والسبكي ، والقسطلاني ،
والعزامي ، والبلقيني ، والزرقاني وغيرهم من طريق ابن عبّاس قال : أوحى الله إلى
عيسى عليهالسلام : يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمّتك أن يؤمنوا به
، فلو لا محمد ما خلقت آدم ، ولولا محمد ما خلقت الجنّة ولا النار.
ومن طريق عمر بن
الخطّاب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لمّا اقترف آدم
__________________
الخطيئة قال : يا
رب أسألك بحقِّ محمد لمّا غفرت لي. فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟
قال : يا رب لأنَّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على
قوائم العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تضف إلى
اسمك إلاّ أحبَّ الخلق إليك. فقال الله : صدقت يا آدم إنَّه لأحبُّ الخلق إليَّ
ادعني بحقّه قد غفرت لك. ولولا محمد ما خلقتك».
فميمُكَ مفتاحُ
كلِّ الوجودِ
|
|
وميمك بالمنتهى
يغلقُ
|
تجلّيتَ يا
خاتمَ المرسلين
|
|
بشأوٍ من الفضلِ
لا يُلحَقُ
|
فأنت لنا أوّلٌ
آخرٌ
|
|
وباطنُ ظاهرِكَ
الأسبقُ
|
في هذه الأبيات
إشارة إلى أسمائه الشريفة : الفاتح ، الخاتم ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن.
راجع شرح المواهب للزرقاني (٣ / ١٦٣ ، ١٦٤).
تعاليتَ عن صفةِ
المادحين
|
|
وإن أطنبوا فيك
أو أغمقوا
|
فمعناكَ حول
الورى دارةٌ
|
|
على غيبِ
أسرارِها تحدقُ
|
وروحُكَ من
ملكوتِ السماءِ
|
|
تنزّلُ بالأمرِ
ما يُخلقُ
|
ونشرُكَ يسري
على الكائنات
|
|
فكلٌّ على قدرِه
يعبقُ
|
إليك قلوبُ
جميعِ الأنامِ
|
|
تحنُّ وأعناقُها
تعنقُ
|
وفيضُ أياديك في
العالمين
|
|
بأنهارِ
أسرارِها يدفَقُ
|
وآثارُ آياتِكَ
البيِّناتِ
|
|
على جبهاتِ
الورى تشرقُ
|
فموسى الكليمُ
وتوراتُهُ
|
|
يدلاّن عنك إذا
استنطقوا
|
وعيسى وإنجيلُه
بشّرا
|
|
بأنَّك أحمدُ من
يُخلقُ
|
فيا رحمةَ اللهِ
في العالمينَ
|
|
ومن كان لولاه
لم يُخلَقوا
|
لأنَّك وجهُ
الجلالِ المنير
|
|
ووجهُ الجمالِ
الذي يشرقُ
|
وأنت الأمينُ
وأنت الأمانُ
|
|
وأنت ترتِّق ما
يُفتَقُ
|
أتى رجبٌ لك في
عاتقٍ
|
|
ثقيلِ الذنوبِ
فهل تعتقُ؟
|
وله يمدح الإمام
أمير المؤمنين عليهالسلام قوله :
العقلُ نورٌ
وأنت معناهُ
|
|
والكونُ سرٌّ
وأنت مبداهُ
|
والخلقُ في
جمعِهمْ إذا جمعوا
|
|
الكلّ عبدٌ وأنت
مولاهُ
|
أنت الوليُّ
الذي مناقبه
|
|
ما لعلاها في
الخلقِ أشباهُ
|
يا آيةَ اللهِ
في العبادِ ويا
|
|
سرَّ الذي لا
إله إلاّ هو
|
تناقض العالمون
فيك وقد
|
|
حاروا عن
المهتدى وقد تاهوا
|
فقال قومُ
بأنَّه بشرٌ
|
|
وقال قومٌ
بأنَّه اللهُ
|
يا صاحبَ الحشرِ
والمعاد ومن
|
|
مولاه حكمَ
العبادِ ولاّهُ
|
يا قاسم النار
والجنان غداً
|
|
أنت ملاذُ
الراجي ومنجاهُ
|
كيف يخافُ
البرسيُّ حرَّ لظىً
|
|
وأنت عند
الحسابِ غوثاهُ
|
لا يختشي النارَ
عبدُ حيدرةٍ
|
|
إذ ليس في
النارِ من تولاّهُ
|
وله في مدح مولانا
أمير المؤمنين صلوات الله عليه قوله :
أَيّها اللائمُ
دعني
|
|
واستمع من وصف
حالي
|
كلّما ازددتُ
مديحاً
|
|
فيه قالوا لا
تغالِ
|
وإذا أبصرتُ في
الحقِ
|
|
يقيناً لا
أُبالي
|
آيةُ اللهِ التي
في
|
|
وصفها القول حلا
لي
|
كم إلى كم أيّها
العا
|
|
ذل أكثرت جدالي
|
يا عذولي في
غرامي
|
|
خلّني عنك وحالي
|
رُح إلى من هو
ناجٍ
|
|
واطّرحني وضلالي
|
__________________
إنَّ حبِّي
لوصيِّ ال
|
|
مصطفى عينُ
الكمالِ
|
هو زادي في
معادي
|
|
ومعاذي في مآلي
|
وبه إكمالُ ديني
|
|
وبه ختمُ مقالي
|
ومن شعره يمدح
أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله :
بأسمائِك الحسنى
أُروِّحُ خاطري
|
|
إذا هبَّ من
قدسِ الجلالِ نسيمُها
|
لئن سقمتْ نفسي
فأنت طبيبُها
|
|
وإن شقيت يوماً
فمنك نعيمُها
|
رضيت بأن ألقى
القيامَة خائفاً
|
|
دماء نفوسٍ
حاربتك جسومُها
|
أبا حسنٍ لو كان
حبُّكَ مُدخلي
|
|
جحيماً لكان
الفوزَ عندي جحيمُها
|
وكيف يخافُ
النارَ من كان موقناً
|
|
بأنَّك مولاهُ
وأنت قسيمُها
|
فوا عجباً من
أمّةٍ كيف ترتجي
|
|
من اللهِ
غفراناً وأنت خصيمُها
|
ووا عجباً إذ
أخّرتك وقدّمت
|
|
سواكَ بلا جرمٍ
وأنت زعيمُها
|
وقال في مدح
مولانا أبي السبطين سلام الله عليه :
تعالى عليٌّ في
الجلال فرائدٌ
|
|
يعودُ وفي
كفّيهِ منه فرائدُ
|
وواردُ فضلٍ منه
يصدر عزلها
|
|
تضيقُ بها منه
اللها والأواردُ
|
تبارك موصولاً
وبورك واصلاً
|
|
له صلةٌ في كلِّ
نفسٍ وعائدُ
|
روى فضلَه الحسّادُ
من عظمِ شأنِه
|
|
وأعظمُ فضلٍ جاء
يرويه حاسدُ
|
محبّوه أخفوا
فضلَه خيفةَ الهدى
|
|
وأخفاه بغضاً
حاسدٌ ومعاندُ
|
فشاعَ له ما بين
ذين مناقبٌ
|
|
تجلُّ بأن تُحصى
إذا عدَّ قاصدُ
|
إمامٌ له في
جبهةِ المجدِ أنجمٌ
|
|
علت فعلت إن
يدنُ منهنَّ راصدُ
|
لها الفرق من
فرع السماك منابرٌ
|
|
وفي عنق الجوزاء
منها قلائدُ
|
__________________
مناقب إذ جلَّت
جلت كلَّ كربةٍ
|
|
وطابت فطابت من
شذاها المشاهدُ
|
إمامٌ يحارُ
الفكرُ فيه فعابدٌ
|
|
له ومقرٌّ
بالولاء وجاهدُ
|
إمامٌ مبينٌ
كلَّ أُكرومةٍ حوى
|
|
بمدحتهِ
التنزيلُ والذكرُ شاهدُ
|
عليه سلام الله
ما ذكر اسمَهُ
|
|
محبٌّ وفي
البرسيِّ ذلك خالدُ
|
وله في سيّد
العترة أمير المؤمنين عليه وعليهمالسلام :
أبديتَ يا رجب
الغريبْ
|
|
فقيل يا رجب
المرجَّبْ
|
أبديت للسرِّ
المصو
|
|
ن المضمر الخافي
المغيَّبْ
|
وكشفتَ أستاراً
وأس
|
|
ـ راراً عن الأشرارِ
تُحجبْ
|
حلَّ الورى فإذا
الظوا
|
|
هر فضّةٌ
والبطنُ أسربْ
|
إلاّ قليلاً من
رجا
|
|
ل أصلهم زاكٍ
مهذَّبْ
|
وكتبتَ ما
بالنور منهُ
|
|
على خدود الحور
يكتبْ
|
فلذاك أضحى
الناس قل
|
|
باً من قوى
الجهل المركّبْ
|
رجلٌ يحبُّ
ومبغضٌ
|
|
قالٍ وحزب الله
أغلبْ
|
وطويلُ أنفٍ إن
رآ
|
|
نيَ مُقبلاً
ولّى وقطّبْ
|
في أُمِّه شكٌّ
بلا
|
|
شكّ ولو صدقت
لأنجبْ
|
يزورُّ إن سمع
الحدي
|
|
إلى أمير النحل
يُنسبْ
|
وتراه إن كرّرت
ذك
|
|
ـ ر فضائل الكرّار يغضبْ
|
وله رائيّة غرّاء
رنّانة يمدح بها أمير المؤمنين عليهالسلام خمّسها ابن السبعي نذكرها معه :
أعيت صفاتُكَ
أهلَ الرأيِ والنظرِ
|
|
وأوردتْهم حياضَ
العجزِ والخطرِ
|
__________________
أنت الذي دقَّ
معناه لمعتبرِ
|
|
يا آيةَ اللهِ
بل يا فتنةَ البشرِ
|
وحجّةَ اللهِ بل يا منتهى القَدَرِ
عن كشفِ معناه
ذو الفكر الدقيقِ وَهنْ
|
|
وفيك ربُّ العلى
أهلَ العقولِ فتنْ
|
أنَّى بحدِّكَ
يا نورَ الإله فطنْ
|
|
يا من إليه
إشارات العقولِ ومنْ
|
فيه الألبّاءُ تحت العجزِ والخطرِ
ففي حدوثِكَ
قومٌ في هواك غووا
|
|
إن أبصروا منك
أمراً معجزاً فغَلوا
|
حيّرتَ
أذهانَهمْ يا ذا العلى فعَلوا
|
|
هيّمتَ أفكارَ
ذي الأفكارِ حين رأوا
|
آياتِ شأنِكَ في الأيّامِ والعصرِ
أوضحتَ للناسِ
أحكاماً محرَّفةً
|
|
كما أتيت
أحاديثاً مصحّفةً
|
أنت المقدّمُ
أسلافاً وسالفةً
|
|
يا أوّلاً آخراً
نوراً ومعرفةً
|
يا ظاهراً باطناً في العينِ والأثرِ
يا مطعمَ القرصِ
للعافي الأسيرِ وما
|
|
ذاقَ الطعامَ
وأمسى صائماً كرما
|
ومُرجع القرصِ
إذ بحرُ الظلام طما
|
|
لك العبارةُ
بالنطقِ البليغِ كما
|
لك الإشارةُ في الآيات والسورِ
أنوارُ فضلِك لا
تطفى لهنَّ عدا
|
|
ممّا يكتّمه
أهلُ الضلال بدا
|
تخالفت فيك
أفكارُ الورى أبدا
|
|
كم خاض فيك أناس
وانتهى فغدا
|
معناك محتجباً عن كلِّ مقتدرِ
لولاك ما اتّسقت
للطُهرِ ملَّتُهُ
|
|
كلاّ ولا اتّضحت
للناسِ شرعتُهُ
|
ولا انتفت عن
أسيرِ الشكِّ شبهتُهُ
|
|
أنت الدليلُ لمن
حارتْ بصيرتُهُ
|
في طيِّ مشتبكاتِ القولِ واعبرِ
أدركت مرتبةً ما
الوهمُ يدركُها
|
|
وخضتَ من غمراتِ
الحرب مهلكَها
|
مولاي يا مالكَ
الدينا وتاركَها
|
|
أنت السفينةُ
مَن صِدقاً تمسّكَها
|
نجا ومن حادَ عنها خاض في الشررِ
من نورِ فضلِكَ
ذو الأفكارِ مقتبسُ
|
|
ومن معالمِ ربِّ
العلمِ مختلسُ
|
لو لا بيانُكَ
أمرُ الكلِّ ملتبسُ
|
|
فليس قبلكَ
للأفكارِ ملتمسُ
|
وليس بعدك تحقيقٌ لمعتبرِ
جاءت بتأميرِكَ
الآياتُ والصحفُ
|
|
فالبعضُ قد
آمنوا والبعضُ قد وقفوا
|
لولاك ما
اتّفقوا يوماً ولا اختلفوا
|
|
تفرّق الناس
إلاّ فيك وائتلفوا
|
فالبعضُ في جنّةٍ والبعضُ في سقرِ
خيرُ الخليقةِ
قومٌ نهجَكَ اتَّبعتْ
|
|
وشرُّها من على
تنقيصِك اجتمعتْ
|
وفرقةٌ أوّلت
جهلاً لما سمعتْ
|
|
فالناسُ فيك
ثلاثٌ فرقةٌ رفعتْ
|
وفرقةٌ وقعت بالجهلِ والقذرِ
يا ويحَها فرقةً
ما كان يمنعُها
|
|
لو أنَّها
اتَّبعت ما كان ينفعُها
|
يا فرقةً غيُّها
بالشوم موقِعُها
|
|
وفرقةٌ وقعتْ لا
النورُ يرفعُها
|
ولا بصائرُها فيها بذي غورِ
بعظمِ شأنِك
كلُّ الصحفِ تعترفُ
|
|
ومن علومِك ربُّ
العلمِ يقترفُ
|
لولاك ما
اصطلحوا يوماً وما اختلفوا
|
|
تصالحَ الناسُ
إلاّ فيك واختلفوا
|
إلاّ عليك وهذا موضعُ الخطرِ
جاءت بتعظيمِكَ
الآياتُ والسورُ
|
|
فالبعضُ قد
آمنوا والبعضُ قد كفروا
|
والبعض قد وقفوا
جهلاً وما اختبروا
|
|
وكم أشاروا وكم
أبدوا وكم ستروا
|
والحقّ يظهر من بادٍ ومستترِ
أقسمتُ بالله
باري خلقِنا قسما
|
|
لولاك ما سمَكَ
الله العليُّ سما
|
يا من له اسمٌ
بأعلى العرشِ قد رُسِما
|
|
أسماءك الغرُّ
مثل النيّرات كما
|
صفاتك السبع كالأفلاك ذي الأكرِ
أنت العليمُ إذا
ربُّ العلومِ جهلْ
|
|
إذ كلُّ علمٍ
فشا في الناس عنك نقلْ
|
وأنت نجمُ الهدى
تهدي لكلِّ مضلْ
|
|
وولدك الغرُّ
كالأبراج في فلك الْ
|
معنى وأنتَ مثالُ الشمسِ والقمرِ
أئمّةٌ سورُ
القرآن قد نطقتْ
|
|
بفضلِهمْ وبهم
طرقُ الهدى اتَّسقتْ
|
طوبى لنفسٍ بهم
لا غيرهم وثقتْ
|
|
قومٌ هم الآلُ
آلُ اللهِ من علقتْ
|
بهم يداه نجا من زلّة الخطرِ
عليهمُ محكمُ
القرآنِ قد نزلا
|
|
مفصّلاً من
معاني فضلهمْ جملا
|
هم الهداةُ فلا
تبغي لهم بدلا
|
|
شطر الأمانة
معراج النجاة إلى
|
أوجِ العلومِ وكم في الشطرِ من غيرِ
بلطف سرِّك موسى
فجّرَ الحجرا
|
|
وأنت صاحبُه إذ
صاحبَ الخضرا
|
وفيك نوحٌ نجا
والفُلْكُ فيه جرى
|
|
يا سرَّ كلِّ
نبيٍّ جاءَ مشتهرا
|
وسرَّ كلِّ نبيٍّ غيرِ مشتهرِ
يلومني فيك ذو
جهلٍ أخو سفهِ
|
|
ولا يضرُّ محقّا
قولُ ذي شُبَهِ
|
ومن تنزَّه عن
ندٍّ وعن شَبهِ
|
|
أُجلُّ وصفَكَ
عن قدرٍ لمشتبهِ
|
وأنت في العينِ مثلُ العينِ في الصورِ
ولهُ قوله يمدح به
أمير المؤمنين عليهالسلام :
يا منبعَ
الأسرارِ يا
|
|
سرَّ المهيمن في
الممالكْ
|
يا قطبَ دائرةِ
الوجو
|
|
د وعين منبعِهِ
كذلكْ
|
والعينَ والسرَّ
الذي
|
|
منه تلقّنتِ
الملائكْ
|
ما لاح صبحٌ في
الدجى
|
|
إلاّ وأسفرَ عن
جمالكْ
|
يا ابن الأطايبِ
والطوا
|
|
هرِ والفواطم
والعواتِكْ
|
أنت الأمانُ من
الردى
|
|
أنت النجاةُ من
المهالكْ
|
أنت الصراطُ
المستقي
|
|
م قسيمُ جنّاتِ
الأرائكْ
|
والنارُ مفزعُها
إلي
|
|
ك وأنت مالكُ
أمرِ مالكْ
|
__________________
يا من تجلّى
بالجمالِ
|
|
فشقَّ بردةَ
كلِّ حالكْ
|
صلّى عليكَ
اللهُ من
|
|
هادٍ إلى خيرِ
المسالكْ
|
والحافظ البرسيّ
لا
|
|
يخشى وأنت له
هنالكْ
|
وله أبيات في أهل
البيت خمّسها الشاعر المفلق الشيخ أحمد بن الحسن النحوي نذكرها مع تخميسها :
ولائي لآلِ
المصطفى وبنيهمُ
|
|
وعترتهم أزكى
الورى وذَويهمُ
|
بهم سمةٌ من
جدِّهم وأبيهمُ
|
|
همُ القومُ
أنوارُ النبوّةِ فيهمُ
|
تلوحُ وآثارُ الإمامةِ تُلمَحُ
نجومُ سماءِ
المجدِ أقمارُ تمِّهِ
|
|
معالمُ دينِ
اللهِ أطوادُ حلمهِ
|
منازلُ ذكرِ
اللهِ حكّامُ حكمهِ
|
|
مهابطُ وحيِ
اللهِ خزّانُ علمهِ
|
وعندهمُ سرُّ المهيمن مودعُ
مديحُهمُ في
محكمِ الذكرِ محكمُ
|
|
وعندَهمُ ما قد
تلقّاه آدمُ
|
فدَع حكمَ باقي
الناسِ فهو تحكّمُ
|
|
إذا جلسوا للحكم
فالكلُّ أبكمُ
|
وإن نطقوا فالدهرُ أُذنٌ ومسمعُ
بحبِّهمُ
طاعاتُنا تُتَقبّلُ
|
|
وفي فضلِهمْ
جاءَ الكتابُ المنزَّلُ
|
يعمُّ شذاهمُ
كلَّ أرضٍ ويشملُ
|
|
وإن ذكروا
فالكون نَدٌّ ومندلُ
|
لهم أرجٌ من طيبهم يتضوعُ
دعا بهمُ موسى
ففُرِّجَ كربُهُ
|
|
وكلّمه من جانب
الطور ربُّهُ
|
إذا حاولوا
أمراً تسهّلَ صعبُهُ
|
|
وإن برزوا
فالدهرُ يخفقُ قلبُهُ
|
لسطوتِهمْ والأُسدُ في الغابِ تفزعُ
فلولاهمُ ما سار
فلكٌ ولا جرى
|
|
ولا ذرأَ اللهُ
الأنامَ ولا برا
|
__________________
كرامٌ متى
مازرتهم عجّلوا القِرى
|
|
وإن ذُكر
المعروفُ والجودُ في الورى
|
فبحرُ نداهم زاخرٌ يتدفَّعُ
أبوهم أخو
المختار طه ونفسُهُ
|
|
وهم فرعُ دوحٍ
في الجلالةِ غرسُهُ
|
وأُمّهمُ
الزهراءُ فاطمُ عرسُهُ
|
|
أبوهم سماءُ
المجدِ والأُمُّ شمسُهُ
|
نجومٌ لها برجُ الجلالةِ مطلعُ
لهم نسبٌ أضحى
بأحمدَ مُعرِقا
|
|
رقا منه
للعلياءِ أبعدَ مرتقى
|
وزادهمُ من
رونقِ القدسِ رونقا
|
|
فيا نسباً
كالشمسِ أبيضَ مشرقا
|
ويا شرفاً من هامةِ النجمِ أرفعُ
كرامٌ نماهم
طاهرٌ متطهِّرُ
|
|
وبُثَّ بهم من
أحمد الطهرِ عنصرُ
|
وأُمُّهمُ
الزهراءُ والأبُ حيدرُ
|
|
فمن مثلُهم في
الناس إن عُدّ مفخرُ
|
أعد نظراً يا صاح إن كنت تسمعُ
عليٌّ أميرُ
المؤمنين أميرُهمْ
|
|
وشُبّرُهمْ أصلُ
التُقى وشبيرُهمْ
|
بَهاليلُ
صوّامون فاحَ عبيرُهمْ
|
|
ميامينُ قوّامون
عزَّ نظيرُهمْ
|
هداةٌ ولاةٌ للرسالةِ منبعُ
مناجيبُ ظلُّ
اللهِ في الأرضِ ظلُّهمْ
|
|
وهم معدنٌ للعلم
والفضلِ كلُّهمْ
|
وفضلهمُ أحيا
البرايا وبذلهمْ
|
|
فلا فضلَ إلاّ
حين يُذكر فضلُهمْ
|
ولا علم إلاّ علمُهم حين يرفعُ
إليهم يفرُّ
الخاطئون بذنبهمْ
|
|
وهم شفعاءُ
المذنبين لربِّهمْ
|
فلا طاعةٌ ترضى
لغيرِ محبّهمْ
|
|
ولا عملٌ ينجي
غداً غيرُ حبِّهم
|
إذا قام يومُ البعثِ للخلقِ مجمعُ
حلفتُ بمن قد
أمّ مكّةَ وافدا
|
|
لقد خابَ من قد
كان للآلِ جاحدا
|
ولو أنّه قد
قطّع العمرَ ساجدا
|
|
ولو أنَّ عبداً
جاء للهِ عابدا
|
بغيرِ ولا أهلِ العبا ليس ينفعُ
بني أحمدٍ مالي
سواكم أرى غدا
|
|
إذا جئتُ في
قيدِ الذنوبِ مقيَّدا
|
أُناديكمُ يا
خيرَ من سمعَ الندا
|
|
أيا عترةَ
المختارِ يا رايةَ الهدى
|
إليكم غداً في موقفي أتطلّعُ
فو الله لا أخشى
من النارِ في غدِ
|
|
وأنتم وُلاةُ
الأمرِ يا آلَ أحمدِ
|
وها أنا قد
أدعوكمُ رافعاً يدي
|
|
خذوا بيدي يا
آلَ بيتِ محمدِ
|
فمن غيرُكم يوم القيامة يشفعُ
وهذه القصيدة
خمّسها الشيخ هادي المتوفّى (١٢٣٥) ، ابن الشيخ أحمد النحوي المخمِّس المذكور أوّل
تخميسه :
بنو أحمدٍ قد
فاز من يرتضيهمُ
|
|
أئمّةُ حقٍّ
للنجا يرتضيهمُ
|
وطوبى لمن في
هديه يقتضيهمُ
|
|
همُ القومُ
أنوارُ النبوّةِ فيهمُ
|
تلوح وآثارُ الإمامة تلمعُ
وله في العترة
الطاهرة صلوات الله عليهم قوله :
فرضي ونفلي
وحديثي أنتمُ
|
|
وكلُّ كلّي
منكمُ وعنكمُ
|
وأنتمُ عندَ
الصلاةِ قبلتي
|
|
إذا وقفتُ نحوكم
أُيمّمُ
|
خيالُكم نصبٌ
لعيني أبداً
|
|
وحبُّكم في
خاطري مخيِّمُ
|
يا سادتي وقادتي
أعتابكم
|
|
بجفنِ عيني
لثراها ألثمُ
|
وقفاً على
حديثِكم ومدحِكم
|
|
جعلتُ عمري
فاقبلوه وارحموا
|
مُنّوا على الحافظ
من فضلِكمْ
|
|
واستنقذوه في
غدٍ وأنعموا
|
وله في أهل البيت
الطاهر سلام الله عليهم قوله :
يا آل طه أنتمُ
أملي
|
|
وعليكمُ في
البعث متّكلي
|
إن ضاق بي ذنبٌ
فحبُّكمُ
|
|
يوم الحساب هناك
يوسع لي
|
بولائكم وبطيبِ
مَدحِكمُ
|
|
أرجو الرضا
والعفوَ عن زللي
|
رجبُ المحدّثُ
عبد عبدِكمُ
|
|
والحافظ البرسيّ
لم يزلِ
|
لا يختشي في
الحشرِ حرَّ لظى
|
|
إذ سيِّداه
محمدٌ وعلي
|
سيثقلان وزان
صالحه
|
|
ويُبيِّضان
صحيفة العملِ
|
لم ينشعبْ فيكون
منطلقاً
|
|
من ضلّةٍ للشعبِ
ذي الظللِ
|
وله مسمِّطاً فيهم
صلوات الله عليهم قوله :
سرُّكمُ لا
تنالُه الفِكَرُ
|
|
وأمرُكُم في
الورى خطرُ
|
مستصعبٌ فكُّ
رمزِه خطرُ
|
|
ووصفُكم لا
يطيقُه البشرُ
|
ومدحُكم شرُفت به السورُ
وجودُكم للوجودِ
علّتُه
|
|
ونورُكم
للظُهورِ آيتُه
|
وأنتمُ للوجودِ
قبلتُه
|
|
وحبُّكم للمحبِّ
كعبتُه
|
يسعى بها طائفاً ويعتمرُ
لولاكمُ ما
استدارت الأكرُ
|
|
ولا استنارت
شمسٌ ولا قمرُ
|
ولا تدلّى غصنٌ
ولا ثمرُ
|
|
ولا تندّى ورقٌ
ولا خضرُ
|
ولا سرى بارقٌ ولا مطرُ
عندكمُ في
الإيابِ مجمعُنا
|
|
وأنتمُ في
الحسابِ مفزعُنا
|
وقولُكم في
الصراطِ مرجعُنا
|
|
وحبُّكم في
النشورِ ينفعُنا
|
به ذنوبُ المحبِّ تُغتفرُ
يا سادةً قد زكت
معارفهمْ
|
|
وطاب أصلاً وساد
عارفُهمْ
|
وخاف في بعثِه
مخالفهمْ
|
|
إن يختبرْ للورى
صيارفُهمْ
|
فأصلُهم بالولاءِ يُختبرُ
أنتم رجائي
وحبُّكم أملي
|
|
عليه يوم المعاد
متَّكلي
|
فكيف يخشى حرَّ
السعير ولي
|
|
وشافعاه محمدٌ
وعلي
|
أو يعتريه من شرِّها شررٌ
عبدُكمُ الحافظُ
الفقيرُ على
|
|
أعتابِ
أبوابِكمْ يروم فلا
|
تخيّبوه يا
سادتي أملا
|
|
وأقسموه يوم
المعاد إلى
|
ظلٍّ ظليلٍ نسيمُه عَطرُ
صلّى عليكم ربُّ
السماء كما
|
|
أصفاكمُ
واصطفاكمُ كرما
|
وزاد عبداً
والاكمُ نعما
|
|
ما غرّد الطير
في الغصونِ وما
|
ناح حمامٌ وأورق الشجرُ
وله في العترة
الطاهرة وسيّدهم صلوات الله عليه وعليهم قوله :
إذا رمتَ يومَ
البعثِ تنجو من اللظى
|
|
وَيُقبلُ منك
الدينُ والفرضُ والسننْ
|
فوالِ عليّا
والأئمّةَ بعدَه
|
|
نجومَ الهدى
تنجو من الضيقِ والمحنْ
|
فهم عترةٌ قد
فوّضَ اللهُ أمرَه
|
|
إليهم لما قد
خصّهم منه بالمننْ
|
أئمّةُ حقٍّ
أوجبَ اللهُ حقَّهمْ
|
|
وطاعتُهم فرضٌ
بها الخلقُ تمتحنْ
|
نصحتُكَ أن
ترتاب فيهم فتنثني
|
|
إلى غيرهم من
غيرهم في الأنام منْ
|
فحبُّ عليٍّ
عدّةٌ لوليِّه
|
|
يلاقيه عند
الموتِ والقبر والكفنْ
|
كذلك يومَ
البعثِ لم ينجُ قادمٌ
|
|
من النارِ إلاّ
من تولّى أبا الحسنْ
|
وله في رثاء
الإمام السبط الشهيد صلوات الله عليه قوله :
يميناً بنا حادي
السرى إن بدت نجدُ
|
|
يميناً فللعاني
العليل بها نجدُ
|
وعُج فعسى من
لاعجِ الشوقِ يشتفي
|
|
غريمُ غرامٍ
حشوُ أحشائِه وقدُ
|
وسر بي لسربٍ
فيه سربُ جآذر
|
|
لسربيَ من جهد
العهاد بهم عهدُ
|
ومُر بي بليلٍ
في بَليلِ عراصها
|
|
لأروى بريّا
تربةٍ تربُها نَدُّ
|
وقف بي أُنادي
واديَ الأيكِ علّني
|
|
هناك أرى ذاك
المساعدَ يا سعدُ
|
فبالربع لي من عهد
جَيرون جيرةٌ
|
|
يُجيرون إن جارَ
الزمانُ إذا استعدوا
|
همُ الأهلُ إلاّ
أنَّهم لي أهلّةٌ
|
|
سوى أنَّهم قصدي
وأنّي لهم عبدُ
|
عزيزون رُبعُ
العمر في ربعِ عزِّهمْ
|
|
تقضّى ولا روعٌ
عراني ولا جهدُ
|
وربعيَ مُخضرٌّ
وعيشيَ مُخضِلُ
|
|
ووجهيَ مُبيضٌّ
وفودي مُسودُّ
|
وشمليَ مَشمولٌ
وبُردُ شبيبتي
|
|
قشيبٌ وبردُ
العيش ما شانه نكدُ
|
معالمُ
كالأعلامِ معلمةُ الربى
|
|
فأنهارُها تجري
وأطيارها تشدو
|
طوت حادثات
الدهر منشور حسنها
|
|
كما رسمت في
رسمها شمألٌ تغدو
|
وأضحت تجرُّ
الحادثاتُ ذيولَها
|
|
عليه ولا دَعدٌ
هناك ولا هِندُ
|
ولا غروَ إن
جارت ومارت صروفها
|
|
وغارت وأغرت
واعتدت واغتدت تشدو
|
فقد غدرتْ
قِدماً بآل محمدٍ
|
|
وطاف عليهم
بالطفوفِ لها جندُ
|
وجاشت بجيشٍ جاش
طامٍ عرمرمٍ
|
|
خميسٍ لهامٍ
حامَ يحمومه أسدُ
|
وعمّت بأشرارٍ
عن الرشدِ قد عَموا
|
|
وهل يسمع الصمُّ
الدعاءَ إذا صدّوا
|
فيا أمّةً قد
أدبرتْ حين أقبلتْ
|
|
فرافقَها نحسٌ
وفارقَها سعدُ
|
أبت إذ أتت تنأى
وتنهى عن النهى
|
|
وولّت وألوتْ
حين مال بها الجدُّ
|
سرت وسرت بغياً
وسرّت بِغيِّها
|
|
بغيّا دعاها إذ
عداها به الرشدُ
|
عصابة عصبٍ أوسعت إذ سعت إلى
|
|
خطاء خطاها
والشقاءُ بها يحدو
|
أثاروا وثاروا
ثارَ بدرٍ وبادروا
|
|
لحربِ بُدورٍ من
سناها لهم رشدُ
|
بغت فبغت عمداً
قتالَ عميدِها
|
|
صدورُ طغاةِ في
الصدورِ لها حقدُ
|
__________________
وساروا يسنّون
العنادَ وقد نسوا ال
|
|
معادَ فهم من
قومِ عادٍ إذا عُدّوا
|
فيا قلبُ قلب
الدينِ في يوم أقبلوا
|
|
إلى قتلِ مأمولٍ
هو العَلَمُ الفردُ
|
فركنَ الهدى
هدّوا وقدَّ العلى قدّوا
|
|
وأزرَ الهوى
شدّوا ونهجَ التقى سدّوا
|
كأنِّي بمولاي
الحسينِ ورهطِهِ
|
|
حيارى ولا عونٌ
هناك ولا عضدُ
|
بكربِ البلا في
كربلاء وقد رُمي
|
|
بعادٍ وشطّت
دارُهمْ وسطتْ جندُ
|
وقد حدقتْ عينُ
الردى حين أحدقت
|
|
عتاةُ عداةٍ ليس
يُحصى لهم عدُّ
|
وقد أصبحوا
حِلاّ لهم حين أصبحوا
|
|
حُلولاً ولا
حَلٌّ لديهم ولا عقدُ
|
فنادى ونادى
الموتُ بالخطب خاطب
|
|
وطير الفنا يشدو
وحادي الردى يحدو
|
يسائلهم هل
تعرفوني مسائلاً
|
|
وسائل دمع العين
سالَ به الخدُّ
|
فقالوا نعم أنت الحسين
بن فاطمٍ
|
|
وجدّك خير
المرسلين إذا عُدّوا
|
وأنت سليل المجد
كهلاً ويافعاً
|
|
إليك إذا عُدّ
العلى ينتهي المجدُ
|
فقال لهم إذ
تعلمون فما الذي
|
|
دعاكم إلى قتلي
فما عن دمي بُدُّ
|
فقالوا إذا رمتَ
النجاة من الردى
|
|
فبايع يزيداً
إنَّ ذاك هو القصدُ
|
وإلاّ فهذا
الموت عبّ عبابه
|
|
فخض ظامياً فيه
تروحُ ولا تغدو
|
فقال ألا بُعداً
بما جئتمُ به
|
|
ومن دونه بيضٌ
وخطِّيةٌ مَلدُ
|
فضربٌ لهشمِ
الهامِ تترى بنظمِه
|
|
فمن عقدِه حَلٌّ
وفي حلِّه عقدُ
|
فهل سيّدٌ قد
شيّدَ الفخرُ بيتَهُ
|
|
حذارَ الردى
يشقى لعبدٍ له عبدُ
|
وما عذرُ ليثٍ
يرهبُ الموتُ بأسَهُ
|
|
يذلُّ ويضحى
السيد يرهبه الأُسدُ
|
إذا سام منّا
الدهرُ يوماً مذلّةً
|
|
فهيهات يأبى
ربُّنا وله الحمدُ
|
وتأبى نفوسٌ
طاهراتٌ وسادةٌ
|
|
مواضيهمُ هامُ
الكماةِ لها غمدُ
|
__________________
لها الدمُ وردٌ
والنفوسُ قنائصٌ
|
|
لها القَدم
قِدمٌ والنفوس لها جندُ
|
ليوثُ وغىً
ظِلُّ الرماح مقيلُها
|
|
مغاويرُ طعمُ الموتِ
عندهمُ شهدُ
|
حماةٌ عن
الأشبالِ يومَ كريهةٍ
|
|
بدور دجىً سادوا
الكهولَ وهم مُردُ
|
إذا افتخروا في
الناس عزَّ نظيرُهم
|
|
ملوكٌ على
أعتابِهم يسجدُ المجدُ
|
أيادي عطاهم لا
تُطاوَلُ في الندى
|
|
وأيدي علاهم لا
يطاقُ لها ردُّ
|
مَطاعيمُ للعافي
مَطاعينُ في الوغى
|
|
مُطاعينَ إن قالوا لهم حججٌ لُدُّ
|
مفاتيح للداعي
مصابيح للهدى
|
|
معاليمُ للساري
بها يهتدي النجدُ
|
نزيلهمُ حرمٌ
مُنازلهم لقىً
|
|
مَنازلهمْ أمنٌ
بهم يُبلَغُ القصدُ
|
فضائلُهمْ جلّتْ
فواضلُهمْ جلتْ
|
|
مدائحُهمْ شهدٌ
منائحهمْ نَدُّ
|
مَرابعُهم تسقى
مُرابعُهم تُلقى
|
|
مُطالعُهم يُكفى
مَطالعهم سعدُ
|
كرامٌ إذا عافٍ
عفى منه معهدٌ
|
|
وصَوّحَ من
خضرائِه السَّبط والجَعدُ
|
وآملُهم راجٍ
وأمَّ لهم رجاً
|
|
وحلَّ بناديهم
أحلّ له الرفدُ
|
زكوا في الورى
أُمّا وجدّا ووالداً
|
|
وطابوا فطاب
الأُمُّ والأب والجدُّ
|
بأسمائِهم
يُستجلب البرُّ والرضا
|
|
بذكرِهمُ
يُستدفعُ الضرُّ والجهدُ
|
__________________
ومال إلى
فتيانهِ ورجالِه
|
|
يقول لقد طاب
الممات ألا اشتدّوا
|
فسارَ لأخذِ
الثارِ كلُّ شمردلٍ
|
|
إذا هاج قدحٌ
للهياج له زندُ
|
وكلُّ كميٍّ
أريحيٍّ غشمشمٍ
|
|
تجمّعَ فيه
الفضلُ وانعدمَ الضدُّ
|
إذا ما غدا يوم
الندا أسر العدى
|
|
ولمّا بدا يوم
الندى أُطلق الوعدُ
|
ليوثُ نزالٍ بل
غيوثٌ نوازلٌ
|
|
سراةٌ كأُسدِ
الغابِ لا بل هم الأُسدُ
|
إذا طُلبوا
راموا وإن طَلبوا رموا
|
|
وإن ضُربوا
صَدّوا وإن ضَربوا قدّوا
|
فوارس أُسد
الغيل منها فرائسٌ
|
|
وفتيان صدقٍ
شأنها الطعن والطردُ
|
وجوهُهُمُ بيضٌ
وخضرٌ ربُوعهمْ
|
|
وبيضُهمُ حمرٌ إذا النقعُ مُسودُّ
|
إذا ما دُعوا
يوماً لدفعِ مُلمّةٍ
|
|
غدا الموتُ
طوعاً والقضاءُ هو العبدُ
|
بها كلُّ ندبٍ
يسبق الطرفَ طِرفُه
|
|
جوادٌ على ظهرِ
الجوادِ له أفدُ
|
كأنّهمُ نبتُ
الربى في سروجِهمْ
|
|
لشدّة حزمٍ لا
بحُزمٍ لها شُدّوا
|
لباسُهمُ نسجُ
الحديدِ إذا بدوا
|
|
جبالاً وأقيالاً
تقلُّهمُ الجردُ
|
إذا لبسوا فوقَ
الدروعِ قلوبَهمْ
|
|
وصالوا فَحرُّ
الكرِّ عندهمُ بَردُ
|
__________________
يخوضون تيّارَ الحِمام
ظوامياً
|
|
وبحرُ المنايا
بالمنايا لها مدُّ
|
يرون المنايا
نيلُها غايةُ المنى
|
|
إذا استشهدوا
مُرُّ الردى عندهم شَهدُ
|
إذا فُلّلتْ
أسيافُهمْ في كريهةٍ
|
|
غدا في رءوسِ
الدارعين لها حَدُّ
|
فمن أبيضٍ يلقى
الأعادي بأبيضٍ
|
|
ومن أسمرٍ في
كفّه أسمرٌ صلدُ
|
يذبّون عن سبط
النبي محمدٍ
|
|
وقد ثارَ عالي
النقعِ واصطخب الوقدُ
|
يُخال بَريقُ
البيضِ برقاً سجالُه ال
|
|
دماءُ وأصواتُ
الكماةِ لها رعدُ
|
إلى أن تدانى
العمرُ واقترب الردى
|
|
وشأنُ الليالي
لا يدومُ لها عهدُ
|
أعدّوا نفوساً
للفناء وما اعتدوا
|
|
فطوبى لهم نالوا
البقاءَ بما عَدّوا
|
أحلّوا جسوماً
للمواضي وأحرموا
|
|
فحلّوا جنانَ
الخلدِ فيها لهم خلدُ
|
أمامَ الإمامِ
السبطِ جادوا بأنفسٍ
|
|
بها دونه جادوا
وفي نصرِهِ جدّوا
|
شروا عندما
باعوا نفوساً نفائساً
|
|
ففي هجرِها وصلٌ
وفي وصلِها نقدُ
|
قضوا إذ قضوا
حقَّ الحسينِ وفارقوا
|
|
وما فرّقوا بل
وافقوا السعدَ يا سعدُ
|
فلمّا رأى
المولى الحسينُ رجالَه
|
|
وفتيانَه صرعى
وشادي الردى يشدو
|
غدا طالباً
للموتِ كالليثِ مغضباً
|
|
يُحامي عن
الأشبالِ يشتدُّ إن شدّوا
|
وإن جمعوا سبعين
ألفاً لقتلِه
|
|
فيحملُ فيهم وهو
بينهمُ فردُ
|
إذا كرَّ فرّوا
من جريحٍ وواقعٍ
|
|
ذبيحٍ ومهزومٍ
به طوّح الهدُّ
|
ينادي ألا يا
عصبةً عصت الهدى
|
|
وخانت فلم يُرعَ
الذمامُ ولا العهدُ
|
فبعداً لكم يا
شيعةَ الغدرِ إنَّكمْ
|
|
كفرتم فلا قلبٌ
يلين ولا وُدُّ
|
ولايتنا فرضٌ
على كلِّ مسلمٍ
|
|
وعصيانُنا كفرٌ
وطاعتنا رشدُ
|
فهل خائفٌ يرجو
النجاةَ بنصرنا
|
|
ويخشى إذا
اشتدّت سعيرٌ لها وَقدُ
|
ويرنو لنحوِ
الماء يشتاقُ وردَه
|
|
إذا ما مضى يبغي
الورودَ له رَدُّ
|
فيحملُ فيهم
حملةً علويّةً
|
|
بها للعوالي في
أعالي العدى قصدُ
|
__________________
كفعلِ أبيه
حيدرٍ يومَ خيبرٍ
|
|
كذلك في بدرٍ
ومن بعدِها أُحدُ
|
إذا ما هوى في
لبّةِ الليثِ عضبُه
|
|
فمن نحرِه بحرٌ
ومن جزرِه مَدُّ
|
وعادَ إلى
أطفالهِ وعياله
|
|
وغربُ المنايا
لا يُفلُّ لها حَدُّ
|
يقول عليكنَّ
السلام مودِّعاً
|
|
فها قد تناهى
العمر واقترب الوعدُ
|
ألا فاسمعي يا
أُخت إن مسّني الردى
|
|
فلا تلطمي وجهاً
ولا يُخمش الخدُّ
|
وإن برحت فيك
الخطوبُ بمصرعي
|
|
وجلَّ لديك
الحزنُ والثكلُ والفقدُ
|
فأرضي بما يرضى
إلهكِ واصبري
|
|
فما ضاع أجرُ
الصابرين ولا الوعدُ
|
وأوصيكِ
بالسجّاد خيراً فإنَّه
|
|
إمامُ الهدى
بعدي له الأمرُ والعهدُ
|
فضجَّ عيالُ
المصطفى وتعلّقوا
|
|
به واستغاثَ
الأهلُ بالندبِ والولدُ
|
فقالَ وكربُ
الموتِ يعلو كأنَّه
|
|
ركامٌ ومن عظمِ
الظما انقطع الجهدُ
|
ألا قد دنا
الترحالُ فاللهُ حسبُكمْ
|
|
وخيرُ حسيبٍ
للورى الصمَدُ الفردُ
|
وعاد إلى حربِ
الطغاةِ مجاهداً
|
|
وللبيضِ
والخرصانِ في قَدِّه قَدُّ
|
إلى أن غدا
مُلقىً على الترب عارياً
|
|
يُصافح منه إذ
ثوى للثرى خدُّ
|
وشمّر شِمرُ
الذيلَ في حزّ رأسه
|
|
ألا قُطعتْ منه
الأناملُ والزندُ
|
فوا حزنَ قلبي
للكريمِ علا على
|
|
سِنانِ سنانٍ
والخيولُ لها وَخدُ
|
تزلزلت السبعُ
الطباقُ لفقدِهِ
|
|
وكادت لهُ شمُّ
الشماريخِ تنهدُّ
|
__________________
وأرجف عرشُ
اللهِ من ذاك خيفةً
|
|
وضجّت له
الأملاكُ وانفجرَ الصلدُ
|
وناحت عليه
الطيرُ والوحشُ وحشةً
|
|
وللجنِّ إذ جنَّ
الظلامُ به وَجدُ
|
وشمسُ الضحى
أمستْ عليه عليلةً
|
|
علاها اصفرارٌ
إذ تروحُ وإذ تغدو
|
فيا لك مقتولاً
بكته السما دماً
|
|
وثُلّ سريرُ
العزِّ وانهدمَ المجدُ
|
شهيداً غريباً
نازحَ الدارِ ظامياً
|
|
ذبيحاً ومن قاني
الوريدِ له وردُ
|
بروحي قتيلاً
غسله من دمائِهِ
|
|
سليباً ومن سافي
الرياح له بُردُ
|
ترضُّ خيولُ
الشركِ بالحقدِ صدرَه
|
|
وترضخ منه الجسم
في ركضها جردُ
|
ومذ راحَ لمّا
راحَ للأهلِ مهرُه
|
|
خليّا يخدُّ
الأرضَ بالوجهِ إذ يعدو
|
برزن حيارى
نادباتٍ بذلّةٍ
|
|
وقلبٍ غدا من
فارطِ الحزن ينقدُّ
|
فحاسرةٌ بالردنِ
تستر وجهَها
|
|
وبرقعُها وَقدٌ
ومدمعُها رفدُ
|
ومن ذاهلٍ لم
تدرِ أين مُعزُّها
|
|
تضيقُ عليها
الأرضُ والطرقُ تنسدُّ
|
وزينب حسرى
تندبُ الندبَ عندها
|
|
من الحزنِ
أوصابٌ يضيق بها العدُّ
|
تنادي أخي يا
واحدي وذخيرتي
|
|
وعوني وغوثي
والمؤمّلُ والقصدُ
|
ربيعَ اليتامى
يا حسينُ وكافلُ ال
|
|
أيامى رمانا بعد
بُعدكم البعدُ
|
أخي بعد ذاك
الصونِ والخدرِ والخبا
|
|
يُعالجنا علجٌ
ويسلبُنا وَغدُ
|
بناتك يا ابن
الطهر طه حواسرٌ
|
|
ورحلُكَ منهوبٌ
تقاسمه الجندُ
|
لقد خابتِ
الآمالُ وانقطع الرجا
|
|
بموتك مات
العلمُ والدينُ والزهدُ
|
وأضحت ثغورُ
الكفرِ تبسمُ فرحةً
|
|
وعينُ العلى
ينخدُّ من سحِّها الخدُّ
|
وصوّح نبتُ
الفضلِ بعد اخضرارِه
|
|
وأصبح بدرُ
التمِّ قد ضمّه اللحدُ
|
تُجاذبنا أيدي
العدا فضلةَ الرِّدا
|
|
كأن لم يكن خير
الأنام لنا جَدُّ
|
فأين حصوني
والأُسود الأُلى بهمْ
|
|
يُصالُ على ريبِ
الزمان إذا يعدو
|
__________________
إذا غربت يا ابن
النبيِّ بدورُكمْ
|
|
فلا طلعتْ شمسٌ
ولا حلّها سعدُ
|
ولا سحبت سحبٌ
ذيولاً على الربى
|
|
ولا ضحكَ
النوّارُ وانبعق الرعدُ
|
وساروا بآلِ
المصطفى وعيالِهِ
|
|
حيارى ولم يُخش
الوعيدُ ولا الوعدُ
|
وتطوي المطايا
الأرض سيراً إذا سرت
|
|
تجوبُ بعيد
البيدِ فيها لها وَخدُ
|
تأمُّ يزيداً نجل
هندٍ إمامَها
|
|
ألا لُعنت هندٌ
وما نجلت هندُ
|
فيا لكَ من رزءٍ
عظيمٍ مصابُه
|
|
يُشقُّ الحشا
منه ويُلتدمُ الخدُّ
|
أيُقتل ظمآناً
حسينٌ بكربلا
|
|
ومن نحرِه
البيضُ الصقالُ لها وردُ
|
وتضحى كريماتُ
الحسينِ حواسراً
|
|
يلاحظُها في
سيرِها الحرُّ والعبدُ
|
فليس لأخذ
الثارِ إلاّ خليفةٌ
|
|
هو الخلفُ
المأمولُ والعَلمُ الفردُ
|
هو القائم
المهديُّ والسيّد الذي
|
|
إذا سار أملاكُ
السماءِ له جُندُ
|
يُشيِّد ركنَ
الدين عند ظهورِهِ
|
|
علوّا وركنُ
الشركِ والكفرِ ينهدُّ
|
وغصنُ الهدى
يضحى وريقاً ونبته
|
|
أنيقاً وداعي الحقِّ
ليس له ضدُّ
|
لعلَّ العيونَ
الرمدَ تحظى بنظرةٍ
|
|
إليه فتجلى
عندها الأعينُ الرمدُ
|
إليك انتهى سرُّ
النبيّين كلِّهمْ
|
|
وأنت ختامُ
الأوصياءِ إذا عُدّوا
|
بني الوحي يا
أُمَّ الكتابِ ومن لهم
|
|
مناقبُ لا تحصى
وإن كثر العدُّ
|
إليكم عروساً
زفّها الحزنُ ثاكلاً
|
|
تنوحُ إذا
الصبُّ الحزينُ بها يشدو
|
لها عبرةٌ في
عشرِ عاشورَ أرسلت
|
|
إذا أنشدتْ حادي
الدموع بها تحدو
|
رجا (رجبٌ) رَحب
المقام بها غداً
|
|
إذا ما أتى
والحشرُ ضاقَ به الحشدُ
|
بذلت اجتهادي في
مديحِكمُ وما
|
|
قدارُ مديحي بعد
أن مَدح الحمدُ
|
ولي فيكمُ نظمٌ
ونثرٌ غَناؤه
|
|
فقيرٌ وهذا جهد
من لا له جهدُ
|
مصابي وصوبُ
الدمع فيكم مجدّد
|
|
وصبري وسلواني
به أخلق الجهدُ
|
__________________
تذكّرني يا ابن
النبيِّ غداً إذا
|
|
غدا كلُّ مولىً
يستجير به العبدُ
|
فأنتم نصيبُ
المادحين وإنَّني
|
|
مدحتُ وفيكم في
غدٍ يُنجَزُ الوعدُ
|
إذا أصبح الراجي
نزيلَ ربوعِكمْ
|
|
فقد نجحتْ منه
المطالبُ والقصدُ
|
فإن مالَ عنكم
يا بني الفضلِ راغبٌ
|
|
يظلُّ ويضحى عند
من لا له عندُ
|
فيا عدّتي في
شدّتي يوم بعثتي
|
|
بكم غلّتي من
عِلّتي حرُّها بردُ
|
عُبَيدكُمُ (البرسيُّ)
مولى فخارِكم
|
|
كفاه فخاراً
أنَّه لكمُ عبدُ
|
عليكم سلامُ
الله ما سكبَ الحيا
|
|
دموعاً على روضٍ
وفاح لها نَدُّ
|
وله في رثاء
الإمام السبط الشهيد صلوات الله عليه قوله :
دمعٌ يبدّده
مقيمٌ نازحُ
|
|
ودمٌ يبدِّده
مقيمٌ نازحُ
|
والعين إن أمست
بدمعٍ فجّرتْ
|
|
فجرت ينابيعٌ
هناك موانحُ
|
أظهرت مكنونَ
الشجون فكلّما
|
|
شجّ الأمون سجا
الحَرون الجامحُ
|
وعليَّ قد جعل
الأسى تجديده
|
|
وقفاً يُضاف إلى
الرحيبِ الفاسحُ
|
وشهود ذلِّي مع
غريم صبابتي
|
|
كتبوا غرامي
والسقام الشارحُ
|
أوهى اصطباري
مطلقٌ ومقيّدٌ
|
|
غربٌ وقلبٌ
بالكآبة بائحُ
|
فالجفنُ منسجمٌ
غريقٌ سائحٌ
|
|
والقلبُ مضطرم
حريقٌ قادحُ
|
والخدُّ خدّده
طليقٌ فاترٌ
|
|
والوجدُ جدّده
مُجدٌّ مازحُ
|
أصبحتُ تخفضني
الهمومُ بنصبِها
|
|
والجسمُ مُعتلٌّ
مثالٌ لائحُ
|
حلّتْ له حلل
النحولِ فبردُهُ
|
|
بُرد الذبولِ
تحلُّ فيه صفائحُ
|
وخطيبُ وجدي فوق
منبرِ وحشتي
|
|
لفراقِهمْ لهو
البليغُ الفاصحُ
|
__________________
ومحرّمٌ حزني
وشوّال العنا
|
|
والعيد عندي
لاعجٌ ونوائحُ
|
ومديد صبري في
بسيط تفكّري
|
|
هزجٌ ودمعي
وافرٌ ومُسارحُ
|
ساروا فمعناهم
ومغناهم عفا
|
|
واليومَ فيه
نوائحٌ وصوائحُ
|
درس الجديدُ
جديدَها فتنكّرت
|
|
ورنا بها للخطبِ
طرفٌ طامحُ
|
نسج البلى منه
محقّق حسنِه
|
|
ففناؤه ماحي
الرسوم الماسحُ
|
فطفقتُ أندبه
رهينَ صبابةٍ
|
|
عدم الرفيقُ
وغاب عنه الناصحُ
|
وأقول والزفراتُ
تذكي جذوةً
|
|
بين الضلوعِ لها
لهيبٌ لافحُ
|
لاغروَ إن غدر
الزمانُ بأهلِهِ
|
|
وجفا وحان وخانَ
طرفٌ لامحُ
|
فلقد غوى في
ظلمِ آلِ محمدٍ
|
|
وعوى عليهم منه
كلبٌ نابحُ
|
وسطا على البازي
غرابٌ أسحمٌ
|
|
وشبا على
الأشبالِ زنجٌ ضابحُ
|
وتطاول الكلبُ
العقورُ فصاول ال
|
|
ليثَ الهصورَ
وذاك أمرٌ فادحُ
|
وتواثبت عرجُ
الضباع وروّعت
|
|
والسيد أضحى
للأسود يكافحُ
|
آلُ النبيِّ بنو
الوصيِّ ومنبعُ
|
|
الشرفِ العليِّ
وللعلومِ مفاتحُ
|
خزّانُ علمِ
اللهِ مهبطُ وحيهِ
|
|
وبحارُ علمٍ
والأنامُ ضحاضحُ
|
التائبونَ
العابدونَ الحامدو
|
|
نَ الذاكرونَ
وجنحُ ليلٍ جانحُ
|
__________________
الصائمون
القائمونَ المطعمو
|
|
نَ المؤثرونَ
لهم يدٌ ومَنائحُ
|
عند الجدى سحبٌ
وفي وقت الهدى
|
|
سمتٌ وفي يوم
النزال جَحاجحُ
|
هم قبلةٌ
للساجدينَ وكعبةٌ
|
|
للطائفينَ
ومَشعرٌ وبَطائحُ
|
طرقُ الهدى
سُفنُ النجاة محبُّهمْ
|
|
ميزانُه يومَ
القيامةِ راجحُ
|
ما تبلغُ
الشعراءُ منهم في الثنا
|
|
واللهُ في السبع
المثاني مادحُ
|
نسبٌ كمنبلجِ
الصباحِ ومنتمىً
|
|
زاكٍ له يعنو
السماك الرامحُ
|
الجدُّ خيرُ
المرسلين محمدُ ال
|
|
هادي الأمينُ
أخو الختامِ الفاتحُ
|
هو خاتمٌ بل
فاتحٌ بل حاكمٌ
|
|
بل شاهدٌ بل
شافعٌ بل صافحُ
|
هو أوّل
الأنوارِ بل هو صفوة ال
|
|
جبّارِ والنشرُ
الأريج الفائحُ
|
هو سيّدُ
الكونين بل
|
|
هو أشرف الثقلين
حقّا والنذير الناصحُ
|
لولاك ما خُلقَ
الزمانُ ولا بدت
|
|
للعالمين مساجدٌ
ومصابحُ
|
والأُمُّ فاطمةُ
البتولُ وبضعةُ ال
|
|
هادي الرسولِ
لها المهيمنُ مانحُ
|
حوريةٌ إنسيّةٌ
لجلالِها
|
|
وجمالِها الوحيُ
المنزّلُ شارحُ
|
والوالد الطهر
الوصيُّ المرتضى
|
|
عَلمُ الهدايةِ
والمنارُ الواضحُ
|
مولىً له النبأُ
العظيمُ وحبُّه
|
|
النهجُ القويمُ
به المتاجرُ رابحُ
|
مولىً له بغديرِ
خمٍّ بيعةٌ
|
|
خضعتْ لها
الأعناقُ وهي طوامحُ
|
القسوَرُ
البتّاكُ والفتّاكُ والس
|
|
فّاكُ في يومِ
العراكِ الذابحُ
|
أسدُ الإلهِ
وسيفُهُ ووليُّه
|
|
وشقيقُ أحمَد
والوصيُّ الناصحُ
|
وبعضدِهِ
وبعضبِه وبعزمهِ
|
|
حقّا على
الكفّارِ ناحَ النائحُ
|
__________________
يا ناصرَ
الإسلامِ يا بابَ الهدى
|
|
يا كاسرَ
الأصنامِ فهي طوامحُ
|
يا ليتَ عينَكَ
والحسينُ بكربلا
|
|
بين الطغاةِ عن
الحريمِ يكافحُ
|
والعادياتُ
صواهلٌ وجوائلٌ
|
|
بالشوسِ في بحر
النجيع سوابحُ
|
والبيضُ والسمرُ
اللدان بوارقٌ
|
|
وطوارقٌ ولوامعٌ
ولوائحُ
|
يلقى الردى بحرُ
الندى بين العدا
|
|
حتى غَدا مُلقىً
وليس مُنافحُ
|
أفديه محزوزَ
الوريدِ مرمّلاً
|
|
ملقىً عليه
التربُ سافٍ سافحُ
|
والماءُ طامٍ
وهو ظامٍ بالعرا
|
|
فردٌ غريبٌ
مستضامٌ نازحُ
|
والطاهراتُ
حواسرٌ وثواكلٌ
|
|
بين العدا
ونوادبٌ ونوائحُ
|
في الطفّ
يَسحبنَ الذُيولَ بذلّةٍ
|
|
والدهرُ سهمَ
الغدرِ رامٍ رامحُ
|
يسترنَ
بالأردانِ نورَ محاسنٍ
|
|
صوناً وللأعداءِ
طَرفٌ طامحُ
|
لهفي لزينبَ وهي
تندبُ نَدبَها
|
|
في نَدبِها
والدمعُ سارٍ سارحُ
|
تدعو أخي يا
واحدي ومؤمّلي
|
|
من لي إذا ما
ناب دهرٌ كالحٌ
|
من لليتامى
راحمٌ من للأيامى
|
|
كافلٌ من للجفاة
مناصحُ
|
حزني لفاطمَ
تلطمُ الخدّين من
|
|
عظمِ المصابِ
لها جوىً وتبارحُ
|
__________________
أجفانُها
مقروحةٌ ودموعُها
|
|
مسفوحةٌ والصبرُ
منها جامحُ
|
تهوى لتقبيلِ
القتيلِ تضمُّه
|
|
بفتيلِ مِعجرِها
الدماءُ نَواضحُ
|
تحنو على النحر
الخضيب وتلثمُ
|
|
الثغر التريب
لها فؤادٌ قادحُ
|
أسفي على حرَمِ
النبوّةِ جئن مط
|
|
روحاً هنالك
بالعتاب تطارحُ
|
يندبن بدراً غاب
في فلَكِ الثرى
|
|
وهزبرَ غابٍ
غيّبتهُ ضرائحُ
|
هذي أخي تدعو
وهذي يا أبي
|
|
تشكو وليس لها
وليٌّ ناصحُ
|
والطهرُ مشغولٌ
بكربِ الموتِ من
|
|
ردِّ الجوابِ
وللمنيّةِ شابحُ
|
ولفاطم الصغرى
نحيبٌ مقرحٌ
|
|
يذكي الجوانحَ
للجوارحِ جارحُ
|
عِلجٌ يعالجُها
لسلبِ حليِّها
|
|
فتظلُّ في جهدِ
العفافِ تطارحُ
|
بالردنِ تسترُ
وجهَها وتمانع ال
|
|
ملعون عن نهبِ
الرِّدا وتكافحُ
|
تستصرخُ المولى
الإمامَ وجدَّها
|
|
وفؤادُها بعد
المسرّةِ نازحُ
|
يا جدُّ قد بلغَ
العدى ما أمّلوا
|
|
فينا وقد شمتَ
العدوُّ الكاشحُ
|
يا جدُّ غابَ
وليُّنا وحميُّنا
|
|
وكفيلُنا
ونصيرُنا والناصحُ
|
ضيّعتمونا
والوصايا ضُيِّعت
|
|
فينا وسهمُ
الحورِ سارٍ سارحُ
|
يا فاطمَ
الزهراءَ قومي وانظري
|
|
وجهَ الحسينِ له
الصعيدُ مصافحُ
|
أكفانه نسجُ
الغبار وغُسلُه
|
|
بدمِ الوريدِ
ولم تنحْهُ نوائحُ
|
وشبوله نهبُ
السيوفِ تزورُها
|
|
بين الطفوفِ
فراعلٌ وجوارحُ
|
__________________
وعلى السنانِ
سنانٌ رافعٌ رأسَهُ
|
|
ولجسمِه خيلُ
العداةِ روامحُ
|
والوحشُ يندبُ
وحشةً لفراقِهِ
|
|
والجنُّ إن جنَّ
الظلامُ نوائحُ
|
والأرضُ ترجفُ
والسماءُ لأجلِه
|
|
تبكي معاً
والطيرُ غادٍ رائحُ
|
والدهر من عظم
الشجى شقّ الردا
|
|
أسفاً عليه
وفاضَ جفنٌ دالحُ
|
يا للرجالِ
لظلمِ آلِ محمدٍ
|
|
ولأجل ثارهمُ
وأين الكادحُ
|
يضحى الحسينُ
بكربلاءَ مرمّلاً
|
|
عريانَ تكسوه
الترابُ صحاصحُ
|
وعيالُه فيها
حيارى حسّرٌ
|
|
للذلِّ في
أشخاصِهنَّ ملامحُ
|
يُسرى بهم أسرى
إلى شرِّ الورى
|
|
من فوق أقتابِ
الجمالِ مضايحُ
|
ويُقاد زين
العابدين مغلّلاً
|
|
بالقيدِ لم
يُشفِقْ عليه مسامحُ
|
ما يكشف الغمّاء
إلاّ نفحةٌ
|
|
يُحيي بها
الموتى نسيمٌ نافحُ
|
نبويّةٌ علويّةٌ
مهديّةٌ
|
|
يشفى بريّاها
العليلُ البارحُ
|
يضحى مناديها
ينادي يا لثا
|
|
راتِ الحسينِ
وذاك يومٌ فارحُ
|
والجنُّ
والأملاكُ حول لوائِه
|
|
والرعبُ يقدمُ
والحتوفُ تُناوحُ
|
و... و... في
جذعيهما
|
|
خفضاً ونصب
الصلب رفع فاتحُ
|
و... و...
والإثم وال
|
|
عدوان في ذلِّ
الهوانِ شوائحُ
|
لعنوا بما
اقترفوا وكلُّ جريمةٍ
|
|
شبّت لها منهم
زنادٌ قادحُ
|
__________________
يا ابن النبيِّ
صبابتي لا تنقضي
|
|
كمداً وحزني في
الجوانح جانحُ
|
أبكيكمُ بمدامعٍ
تترى إذا
|
|
بخلَ السحابُ
لها انصبابٌ سافحُ
|
فاستجلِ من
مولاك عبد ولاك من
|
|
لولاك ما جادت
عليه قرائحُ
|
برسيّةً كملتْ
عقودُ نظامِها
|
|
حلّيةً ولها
البديعُ وشائحُ
|
مدّتْ إليك يداً
وأنت منيلُها
|
|
يا ابن النبيِّ
وعن خطاها صافحُ
|
يرجو بها (رجبُ)
القبولَ إذا أتى
|
|
وهو الذي بك
واثقٌ لك مادحُ
|
أنت المعاذُ لدى
المعادِ وأنت لي
|
|
إن ضاق بي رَحبُ
البلادِ الفاسحُ
|
صلّى عليك اللهُ
ما سكبَ الحيا
|
|
دمعاً وما هبَّ
النسيمُ الفائحُ
|
وله في رثاء الإمام
السبط صلوات الله عليه قوله :
ما هاجني ذكرُ
ذاتِ البانِ والعلمِ
|
|
ولا السلامُ على
سلمى بذي سلمِ
|
ولا صبوتُ لصبٍّ
صابَ مدمعُه
|
|
من الصبابةِ
صبَّ الوابلِ الرزمِ
|
ولا على طللٍ
يوماً أطلتُ بهِ
|
|
مخاطباً لأُهيل
الحيِّ والخيمِ
|
ولا تمسّكتُ
بالحادي وقلت له
|
|
إن جئتَ سلعاً
فسل عن جيرةِ العلمِ
|
لكن تذكّرتُ
مولاي الحسينَ وقد
|
|
أضحى بكربِ
البلا في كربلاءَ ظمي
|
ففاضَ صبري وفاض
الدمعُ وابت
|
|
عد الرّقاد
واقترب السهاد بالسقمِ
|
وهامَ إذ هَمتِ
العبراتُ من عدمٍ
|
|
قلبي ولم أستطعْ
مع ذاك منعَ دمي
|
__________________
لم أنسَهُ
وجيوشُ الكفرِ جائشةٌ
|
|
والجيشُ في أملٍ
والدينُ في ألمِ
|
تطوفُ بالطفِّ
فرسانُ الضلالِ به
|
|
والحقُّ يسمعُ
والأسماعُ في صممِ
|
وللمنايا
بفرسانِ المنى عجلٌ
|
|
والموتُ يسعى
على ساقٍ بلا قدمِ
|
مسائلاً ودموعُ
العينِ سائلةٌ
|
|
وهو العليمُ
بعلمِ اللوحِ والقلمِ
|
ما اسم هذا
الثرى يا قومُ فابتدروا
|
|
بقولِهم يوصلونَ
الكلمَ بالكلمِ
|
بكربلا هذه
تُدعى فقال أجل
|
|
آجالُنا بين تلك
الهضبِ والأكمِ
|
حطّوا الرحالَ
فحال الموتُ حلَّ بنا
|
|
دون البقاءِ
وغير الله لم يدمِ
|
يا للرجالِ
لخطبٍ حلَّ مخترم ال
|
|
آجالِ معتدياً
في الأشهرِ الحرمِ
|
فها هنا تصبحُ الأكبادُ
من ظمأ
|
|
حرّى وأجسادُها
تروى بفيض دمِ
|
وهاهنا تصبحُ
الأقمارُ آفلةً
|
|
والشمسُ في
طَفَلٍ والبدرُ في ظُلَمِ
|
وهاهنا تملكُ
الساداتِ أعبدُها
|
|
ظلماً ومخدومُها
في قبضةِ الخدمِ
|
وهاهنا تصبحُ
الأجسادُ ثاويةً
|
|
على الثرى
مَطعماً للبوم والرخمِ
|
وهاهنا بعد بُعد
الدار مدفنُنا
|
|
وموعدُ الخصمِ
عند الواحدِ الحكمِ
|
وصاح بالصحبِ
هذا الموتُ فابتدروا
|
|
أُسداً فرائسُها
الآسادُ في الأجَمِ
|
من كل أبيضَ
وضّاحِ الجبينِ فتىً
|
|
يغشي صلى الحربِ
لا يخشى من الضرمِ
|
من كلِّ منتدبٍ
لله محتسبٍ
|
|
في اللهِ مُنتجبٍ
باللهِ مُعتصمِ
|
وكلِّ مصطلِمِ
الأبطالِ مصطلمِ ال
|
|
آجال مُلتمسِ
الآمالِ مُستلمِ
|
وراح ثَمّ جوادُ
السبطِ يندبُه
|
|
عالي الصهيلِ
خليّا طالبَ الخيمِ
|
فمذ رأته
النساءُ الطاهراتُ بدا
|
|
يكادمُ الأرضَ في خدٍّ له وفمِ
|
برزن نادبةً
حسرى وثاكلةً
|
|
عبرى ومعلولةً
بالمدمعِ السجمِ
|
__________________
فجئن والسبطُ
ملقىً بالنصالِ أبت
|
|
من كفّ مُستلمٍ
أو ثغرِ ملتثمِ
|
والشمرُ ينحرُ
منه النحرَ من حنقٍ
|
|
والأرضُ ترجفُ
خوفاً من فعالهمِ
|
فتستر الوجهَ في
كمٍّ عقيلتُه
|
|
وتنحني فوقَ
قلبٍ والهٍ كلمِ
|
تدعو أخاها
الغريبَ المستضامَ أخي
|
|
يا ليت طرفَ
المنايا عن علاك عمي
|
من اتّكلتَ عليه
في النساء ومن
|
|
أوصيت فينا ومن
يحنو على الحرمِ
|
هذي سكينةُ قد
عزّتْ سكينتُها
|
|
وهذه فاطمٌ تبكي
بفيض دمِ
|
تهوي لتقبيلِهِ
والدمعُ منهمرٌ
|
|
والسبطُ عنها
بكربِ الموتِ في غممِ
|
فيمنع الدمُ
والنصلُ الكسيرُ به
|
|
عنها فتنصلُّ لم
تبرح ولم ترمِ
|
تضمُّه نحوها
شوقاً وتلثمُه
|
|
ويخضبُ النحرُ منه
صدرَها بدمِ
|
تقول من عظمِ
شكواها ولوعتِها
|
|
وحزنُها
غيرمنقضٍ ومنفصمِ
|
أخي لقد كنتَ
نوراً يستضاءُ به
|
|
فما لنور الهدى
والدين في ظلمِ
|
أخي لقد كنتَ
غوثاً للأراملِ يا
|
|
غوثَ اليتامى
وبحرَ الجودِ والكرمِ
|
يا كافلي هل ترى
الأيتامَ بعدَكَ في
|
|
أسر المذلّةِ
والأوصابِ والألمِ
|
يا واحدي يا ابن
أُمِّي يا حسينُ لقد
|
|
نال العدى ما
تمنّوا من طلابهم
|
وبرّدوا غلل
الأحقادِ من ضغنٍ
|
|
وأظهروا ما
تخفّى في صدورهم
|
أين الشفيقُ وقد
بان الشقيقُ وقد
|
|
جار الرفيقُ
ولجُّ الدهر في الأزمِ
|
مات الكفيلُ
وغابَ الليثُ فابتدرتْ
|
|
عُرْجُ الضباعِ
على الأشبال في نهمِ
|
وتستغيثُ رسولَ
اللهِ صارخةً
|
|
يا جدُّ أين
الوصايا في ذوي الرحمِ
|
__________________
يا جدُّ لو
نظرتْ عيناك من حزنٍ
|
|
للعترةِ الغرِّ
بعد الصونِ والحشمِ
|
مشرّدين عن
الأوطانِ قد قهروا
|
|
ثكلى أسارى
حيارى ضُرِّجوا بدمِ
|
يُسرى بهنَّ
سبايا بعد عزِّهمُ
|
|
فوق المطايا
كَسَبي الرومِ والخدمِ
|
هذا بقيّةُ آلِ
الله سيّدُ أه
|
|
ل الأرضِ زينُ
عبادِ اللهِ كلِّهم
|
نجلُ الحسينِ
الفتى الباقي ووارثُه
|
|
والسيّدُ
العابدُ السجّادُ في الظلمِ
|
يُساق في الأسر
نحو الشام مهتضماً
|
|
بين الأعادي فمن
باكٍ ومبتسمِ
|
أين النبيُّ
وثغرُ السبطِ يقرعُه
|
|
يزيدُ بغضاً
لخيرِ الخلق كلّهم
|
أينكتُ الرجسُ
ثغراً كان قبّلَهُ
|
|
من حبِّه الطهرُ
خيرُ العربِ والعجمِ
|
ويدّعي بعدها
الإسلامَ من سفهٍ
|
|
وكان أكفرَ من
عادٍ ومن ارمِ
|
يا ويلَهُ حين
تأتي الطُهرُ فاطمةٌ
|
|
في الحشرِ
صارخةً في موقفِ الأممِ
|
تأتي فيُطرقُ
أهلُ الجمعِ أجمعُهمْ
|
|
منها حياءً
ووجهُ الأرض في قتمِ
|
وتشتكي عن يمينِ
العرشِ صارخةً
|
|
وتستغيثُ إلى
الجبّارِ ذي النقمِ
|
هناك يظهرُ حكمُ
اللهِ في ملاً
|
|
عصَوا وخانوا
فيا سحقاً لفعلهم
|
وفي يديها قميصٌ
للحسينِ غدا
|
|
مضمّخاً بدمٍ
قرناً إلى قَدمِ
|
أيا بني الوحيِ
والذكرِ الحكيمِ ومن
|
|
ولاهمُ أملي
والبرءُ من ألمي
|
حزني لكم أبداً
لا ينقضي كمداً
|
|
حتى المماتِ
وردِّ الروحِ في رممِ
|
حتى تعود إليكم
دولةٌ وُعدِتْ
|
|
مهدّيةً تملأُ
الأقطارَ بالنعمِ
|
فليس للدين من
حامٍ ومُنتصرٍ
|
|
إلاّ الإمامُ
الفتى الكشّافُ للظلمِ
|
القائمُ الخلفُ
المهديُّ سيّدُنا
|
|
الطاهرُ العلمُ
ابنُ الطاهرِ العلمِ
|
بدرُ الغياهبِ
تيّارُ المواهبِ مَن
|
|
ـ صورُ الكتائبِ حامي
الحلِّ والحرَمِ
|
__________________
يا ابن الإمامِ الزكيّ العسكريّ فتى
ال
|
|
هادي التقيّ عليِّ الطاهرِ الشيمِ
|
يا ابن الجوادِ
ويا نجل الرضاءِ ويا
|
|
سليلَ كاظم غيظٍ
مَنبعِ الكرمِ
|
خليفةَ الصادقِ
المولى الذي ظهرت
|
|
علومُه فأنارتْ
غيهبَ الظلَمِ
|
خليفةَ الباقرِ
المولى خليفةَ زي
|
|
ن العابدين
عليٍّ طيِّب الخيمِ
|
نجلَ الحسينِ
شهيدِ الطفِّ سيّدِنا
|
|
وحبّذا مفخرٌ
يعلو على الأممِ
|
نجلَ الحسينِ
سليلَ الطُهرِ فاطمةٍ
|
|
وابن الوصيّ
عليٍّ كاسِر الصنمِ
|
يا بنَ النبيِّ
ويا ابن الطُهرِ حيدرةٍ
|
|
يا ابن البتولِ
ويا ابن الحلِّ والحرمِ
|
أنت الفخارُ
ومعناه وصورتُه
|
|
ونقطةُ الحكمِ
لا بل خطّةُ الحكمِ
|
أيّامُكَ البيضُ
خضرٌ فهي خاتمةُ
|
|
الدنيا وختمُ
سعودِ الدينِ والأممِ
|
متى نراك فلا
ظلمٌ ولا ظُلَمُ
|
|
والدينُ في
رغَدٍ والكفرُ في رغمِ
|
أقبل فسبلُ
الهدى والدينِ قد طمستْ
|
|
ومسَّها نصَبٌ
والحقُّ في عدمِ
|
يا آلَ طه ومن
حبّي لهم شرفٌ
|
|
أعدُّه في الورى
من أعظمِ النعمِ
|
إليكمُ مِدحةً
جاءت منظّمةً
|
|
ميمونةً صغتُها
من جوهرِ الكلمِ
|
بسيطةً إن شذَتْ
أو أُنشدَتْ عطرتْ
|
|
بمدحِكمْ كبساطِ
الزهرِ منخرمِ
|
بكراً عروساً
ثكولاً زفّها حزنٌ
|
|
على المنابرِ
غيرَ الدمعِ لم تسمِ
|
يرجو بها (رجبٌ)
رحبَ المقامِ غداً
|
|
بعد العناءِ
غناءً غيرَ منهدمِ
|
يا سادةَ الحقِّ
ما لي غيرَكم أملٌ
|
|
وحبُّكم عدّتي
والمدحُ معتصمي
|
ما قدرُ مدحيَ
والرحمنُ مادحُكمْ
|
|
في هل أتى قد
أتى مع نون والقلمِ
|
حاشاكم تحرموا
الراجي مكارمَكمْ
|
|
ويرجعُ الجارُ
عنكم غيرَ محترمِ
|
أو يختشي
الزلّةَ (البرسيُّ) وهو يرى
|
|
ولاكمُ فوق ذي
القربى وذي الرحمِ
|
إليكمُ تحفُ
التسليمِ واصلةٌ
|
|
ومنكمُ وبكم
أنجو من النقمِ
|
صلّى الإلهُ
عليكم ما بدا نسمٌ
|
|
وما أتت نسماتُ
الصبحِ في الحرمِ
|
__________________
وله قوله :
أما والذي
لِدَمي حلّلا
|
|
وخصَّ أُهيل
الولا بالبلا
|
لئن أُسقَ فيه
كؤوسَ الحمامِ
|
|
لما قال قلبي
لساقيه لا
|
فموتي حياتي وفي
حبِّهِ
|
|
يلذُّ افتضاحيَ
بين الملا
|
فمن يسلُ عنه
فإنَّ الفؤا
|
|
دَ تسلّى وما
قطُّ آناً سلا
|
مضت سنّةُ اللهِ
في خلقِهِ
|
|
بأنَّ المحبَّ
هو المبتلى
|
وله قوله :
لقد أظهرتَ يا
حاف
|
|
ظُ سرّا كان
مخفيّا
|
وأبرزتَ من
الأنوا
|
|
رِ نوراً كان
مطويّا
|
به قد صرت عند
الله
|
|
والساداتِ
علويّا
|
ومقبولاً
ومسعوداً
|
|
ومحسوداً
ومرضيّا
|
فطبْ نفساً
وعِشْ فرداً
|
|
وكن طيراً
سماويّا
|
غريباً يألف
الخلو
|
|
ةَ لا يقربُ
إنسيّا
|
غدا في الناس
بالخلو
|
|
ةِ والوحدة
منسيّا
|
وإن أصبحت مرفوضاً
|
|
بسهمِ البغض
مرميّا
|
فلم يبغضك إلاّ
من
|
|
أبوه الزنجُ
بصريّا
|
عمانيّا مراديّا
|
|
مجوسيّا يهوديّا
|
لهذا قد غدا يبغ
|
|
ـ ض ذاك الطينَ كوفيّا
|
وفي المولدِ
والمحت
|
|
ـ د برسيّا وحلّيا
|
وله في الغزل قوله
:
لقد شاع عنّي
حبُّ ليلى وإنَّني
|
|
كلفتُ بها عشقاً
وهمتُ بها وجدا
|
__________________
وأصبحت أُدعى
سيّداً بين قومِها
|
|
كما أنَّني
أصبحتُ فيهم لها عبدا
|
ألاقي الورى في
حبِّها في تنكّرٍ
|
|
فذا مانحٌ صدّا
وذا صاعرٌ خدّا
|
وذا عابسٌ وجهاً
يطوِّل أنفَهُ
|
|
عليَّ كأنّي قد
قتلتُ له ولدا
|
ولا ذنبَ لي في
هجرِهم لي وهجرهم
|
|
سوى أنَّني
أصبحتُ في حبِّها فردا
|
ولو عرفوا ما قد
عرفتُ ويمّموا
|
|
حماها كما
يمّمتُه أعذروا حدّا
|
وظنّوا وبعضُ
الظنِّ إثمٌ وشنّعوا
|
|
بأنّ امتداحي
جاوزَ الحدَّ والعدّا
|
فو اللهِ ما
وصفي لها جاز حدَّهُ
|
|
ولكنّها في
الحسنِ قد جازت الحدّا
|
هذه جملة ما وقفنا
عليه من شعر شيخِنا الحافظ البرسي وهي (٥٤٠) بيتاً ، ولا يوجد فيها كما ترى شيء
ممّا يرمى به من الارتفاع والغلوّ ، فالأمر كما قال هو :
وظنّوا وبعض
الظنِّ إثمٌ وشنّعوا
|
|
بأنَّ امتداحي
جاوز الحدّ والعدّا
|
فو الله ما وصفي
لها جاز حدّه
|
|
ولكنَّها في
الحسن قد جازت الحدّا
|
توجد ترجمته في أمل الآمل ، ورياض العلماء ، ورياض الجنّة في الروضة
الرابعة ، وروضات الجنات ، وتتميم الأمل للسيّد ابن أبي شبانة ، والكنى والألقاب ،
وأعيان الشيعة ، والطليعة ، والبابليات.
ولم نقف على تاريخ
ولادة شاعرنا الحافظ ووفاته ، غير أنَّه أرّخ بعض تآليفه بقوله : إنَّ بين ولادة
المهدي عليهالسلام وبين تأليف هذا الكتاب خمسمائة وثمانية عشر سنة. فيوافق
(٧٧٣) ، أخذاً برواية (٢٥٥) في ولادة الإمام المنصور صلوات الله عليه ، ومرَّ في
تاريخ بعض كتبه أنّه أرخه ب (٨١٣) ، ولعلّه توفّي حدود هذا التاريخ والله العالم.
__________________
المغالاة في الفضائل
لمّا وقع غير واحد
من شعراء الغدير نظراء المترجم ـ البرسي ـ في شبك النقد والاعتراض ، ورُموا
بالغلوِّ ؛ وجاء غير واحد من المؤلّفين فشنَّ عليهم الغارات بالقذف والسباب المقذع فيهمّنا إيقاف
الباحث على هذا المهمِّ حتى لا يستهويه اللغب والصخب ، ولا يصيخ إلى النعرات
الطائفية الممقوتة ، وقول الزور ، فنقول :
الغلوّ على ما
صرّح به أئمّة اللغة كالجوهري والفيّومي والراغب وغيرهم هو تجاوز الحدِّ ، ومنه
غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل غلوّا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت
الشباب فجاوزت لِداتها ، قال الحرث بن خالد المخزومي :
خمصانةٌ قلقٌ
موشّحُها
|
|
رَودُ الشبابِ
غلا بها عظمُ
|
ومنه قوله رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تغالوا في النساء فإنَّما هنَّ سقيا الله» وقول عمر : لا
تغالوا في مهور النساء . والغلوُّ ممقوت لا محالة أينما كان وحيثما كان في أيِ
__________________
أمر كان ، ولا
سيّما في الدين وعليه ينزّل قوله تعالى في موضعين من الذكر الحكيم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ) ويعني في ذلك كما ذكره المفسّرون غلوّ اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلوّ النصارى فيه
حتى جعلوه ربّا ؛ فالإفراط والتقصير كلّه سيّئة. والحسنة بين السيِّئتين كما قاله
مطرف بن عبد الله ، وقال الشاعر :
وأوفِ ولا
تستوفِ حقَّكَ كلَّهُ
|
|
وصافحْ فلم
يستوفِ قطُّ كريمُ
|
ولا تغلُ في
شيءٍ من الأمرِ واقتصد
|
|
كلا طرفي قصدِ
الأُمور ذميمُ
|
وقال آخر :
عليكَ بأوساطِ
الأُمور فإنَّها
|
|
نجاةٌ ولا تركب
ذلولاً ولا صعبا
|
وقال مولانا أمير
المؤمنين : «إنَّ دين الله بين المقصّر والغالي فعليكم بالنمرقة الوسطى فبها يلحق
المقصّر ، ويرجع إليها الغالي» غير أنّ من الواجب تعيين الحدِّ الذي لا يجوز في الدين أن
يتجاوزه الإنسان لاستلزام الغلوِّ والكذب تارة ، والإغراء بالجهل أخرى ، وبخس
الحقوق الواجبة آونة ، لا ما دأبت عليه أمّة من الرمي بالغلوِّ كلّ قائل ما لا
يروقها ، وتحدوها العصبيّة العمياء إلى التجهّم أمام القول بما لا يلائم ذوقها ،
ومن هذا الباب أكثر ما تُرمى به الشيعة الإماميّة من الغلوِّ لاعتقادهم أو روايتهم
فضائل لأئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، وقد طفحت بها الصحاح والمسانيد ، وتدفّقت بنقلها الكتب
والمؤلّفات ، حيث لم يُقِم من نَبزَهم به لأئمّة الهدى وزناً تقيمه الحقيقة
ويقتضيه مقامهم الأسمى ، ذلك المقام الشامخ المستنبط من الكتاب والسنّة والاعتبار
الصحيح والقضايا الخارجية الصادقة المتسالم عليها بين الأمّة ، لو لا أنّ هناك من
يتعامى أو يتصامم عن رؤية هذه وسماع هاتيك ، أو تقصر منّته العلمية عن تحليل
__________________
الفلسفة الصحيحة ،
أو يقصر باعه عن الإحاطة بالكائنات التاريخيّة ، من الذين استأسرهم الهوى وتدهور
بهم الجهل إلى هوّة التيه والضلال ، فعدّوا من الغلوِّ الفاحش القول بعلم الغيب
فيهم ، أو إخبارهم عمّا في الضمير ، أو تكلّم الموتى معهم ، أو علمهم بمنطق الطير
والحيوانات ، أو إحياء الله الموتى بدعائهم ، أو استجابة دعواتهم في برء الأكمه
والأبرص ، وبلّ كلّ ذي عاهة ، أو القول بالرجعة لهم ، أو ظهور كرامة لهم تخرق
العادة ، أو الشخوص إلى زيارة قبورهم والتوسّل بهم ، والتبرّك بتربتهم ، والدعاء
والصلاة عند مراقدهم ، أو التلهّف والتأسّف على ما انتابهم من المصائب ، إلى كثير
من أمثال هذه من مبادئ تراها الشيعة في العترة الهادية من فضائلهم المدعومة
بالبرهنة الصحيحة والحجج القويّة ممّا أنكرته أبناء حزم وجوزيّ وتيميّة وقيّم
وكثير ومن حذا حذوهم ولفّ لفّهم.
ولعلّ لهم العذر
في ذلك بأنَّ الذي يرتئونه في الخليفة لا يزيد على أنَّه رجل يقطع السارق ويقتصُّ
من القاتل ، ويحفظ الثغور ، ويدحر الهرج في الأوساط ، ويجمع الفيء ويقسم ، إلى
أمثال هذه ممّا هو شأن الملوك والأمراء في الأمم والأجيال ، وتُعرب عنه خطب أبي
بكر وعمر لمّا استخلفا ، واستخلاف عثمان ومعاوية وابنه الطاغي ، وهلمّ جرّا ،
وحديث عبد الله بن عمر وحميد بن عبد الرحمن كما يأتي بيانه.
وهم لا يوجبون في
الخليفة قوّةً في النفس منبعثةً عن نزاهة وقداسة وعصمة يتصرّف بها صاحبها في
الكائنات كيفما اقتضته المصلحة ، ويبصر المغيَّب بعين بصيرته ، أو بنور بصره الذي
لا يقلُّ عن أشعّة (رنتجن) التي يبصر صاحبها الأمعاء من وراء الجلد الغليظ وتُري
ما في قبضة الماسك بيده من ظهر اليد ، وبلغت بها القوّة حتى أخذت بها الصورة
الشمسيّة من وراء سياج الصندوق الحديدي.
والذي يخبت في
القوى النفسيّة إلى مثل التنويم المغناطيسي الصناعي ، أو
__________________
استحضار الأرواح
واستخدامها للجواب عن كلِّ مسألة يريدها الإنسان ممّا في وراء عالم الشهود بقوّة
نفسه ، كيف يسعه إنكار ردّ الأرواح إلى الأجسام بإذن ربِّها لدعاء وليٍّ ، أو
مقدرة صدِّيق موهوبة له من بارئ كيانه؟ وليس على الله بعزيز (هُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ) .
وكذلك من يشهد :
أنَّ الطائرات الجوّية تطوي مئات من الفراسخ في آونة قصيرة ، وكان يستدعي ذلك
إشغال أشهر من الزمن يوم كانوا يطوونها على الظهور ، أنّى يُسيغ له حِجاه أن ينكر
طيّ الأرض لمن يحمل بين جنبيه قوىً مفاضةً من المبدأ الحقِّ سبحانه : (وَتَرَى
الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) .
ومثله : الذي يبصر
المذياع وهو ينقل الأصوات من أبعد المسافات فيسمعها كأنَّه يتلو القرآن الكريم ،
أو يُلقي خطابته ، أو يسرد أخباره ، أو يغنّي بأهازيجه إلى جنبه ، فهو لا يسعه
إنكار ما يشابه ذلك في إمام حقّ مؤيَّد من عند الله (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) .
ونظيره : المتكلّم
الذي تُمثَّل له بالقوى الممثِّلة صورةُ من يخاطبه ويتكلّم معه في الهاتف من صقعٍ
شاسعٍ كأنّه يراه وينظر إليه من كَثَب (وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .
وأمثال هذه في
المكتشفات الحديثة من آثار الكهرباء وغيره كثيرة ذلّلت فيهم المعضلات التي كانت
تقصر عنها العقول السذّج قبل هذا اليوم ، ولعلّ في المستقبل الكشّاف يكون ما هو
أعظم وأعظم من هذه كلّها ، فإنَّ العلم لم يقف على حدّ ،
__________________
ولا دلّت البرهنة
على وصول الكشف إلى غايته المحدودة ، فمن الجائز أن يتدرّج إلى الأمام كما تدرّج
في هذه القرون الأخيرة جلّت قدرة بارئها.
أنا لا أُحاول جعل
تلكم المعاجز وكرامات الأولياء من قبيل ما ذكرته من مجاري الناموس الطبيعيِّ ، ولو
أنَّها لا يعدوها الإعجاز حتى لو كانت على تلك المجاري ، لأنَّها حدثت يوم لم تكن
هذه الآثار مكتشفة ، ولا عرفها أحدٌ من الناس ، حتى إنَّه لو فاهَ بها أحدٌ لما
كانوا يحفلون به إلاّ بالهزء والسخريّة معتقدين بأنّه يلهج بالمحال ، فصدورها من
إنسان هذا ظرفه وتلك أحوال أمّته ، ولم يعهد أنّه دخل كلِّية أو تخرّج على يد
أستاذ لا يعدوه أن تكون معجزة ، لكنّا نعتقد أنَّ أولئك الأئمّة ـ بما أنَّهم
مقيّضون لإصلاح الأمّة ولا يكون إلاّ بخضوعها لهم. وأقوى الحجج لاستلانة جماحها
لذلك الخضوع هو صدور المعجزات والخوارق ـ لهم صلة بالمبدأ الأقدس يسدّدهم بها من
فوق عالم الطبيعة ، وهو لازم اللطف الواجب على الله سبحانه من تقريب البعيد إلى ما
ذكرناه من الاكتشافات الحديثة لتقريب الأذهان وشحذها ، وإيقاف المنصف على الحقائق.
وقد فصّلنا القول في بعض الموضوع في الجزء الخامس (ص ٥٢ ، ٦٥).
فهلمَّ معي إلى
أُناس يشنِّعون على الشيعة بإثبات تلكم النسب ، ويقذفونهم بالغلوِّ والكفر والشرك
وهم يثبتونها لغير واحد من أوليائهم ، وذكروا أضعاف ما عند الشيعة من تلكم الفضائل
المرميّة بالغلوِّ في تراجم العاديِّين من رجالهم ، ونشروها في الملأ واتّخذوها
تاريخاً صحيحاً من دون أيِّ غمز وإنكار في السند ، ومن غير مناقشة ونظرةٍ صحيحة في
المتون ، كلّ ذلك حبّا وكرامة لأولئك الرجال ، وحبُّ الشيء يعمي ويصمّ ، وهذه
السيرة مطّردة فيهم منذ القرن الأول حتى اليوم ، ولا يسع لأيِّ باحثٍ رميُ أولئك
المؤلِّفين الحفّاظ بالضلال والشرك والغلوِّ وخروجهم عمّا أجمعت عليه الأمّة
الإسلاميّة كما
هم رموا الشيعة
بذلك ، على أنّ الباحث يجد فيما لفّقته يد الدعاية والنشر ، ونسجته أكفُّ المخرقة
والغلوِّ في الفضائل ، عجائب وغرائب أو قل : سفاسف وسفسطات ، تبعد عن نطاق العقل
السليم ، فضلاً عن أن تكون مشروعة أو غير مشروعة. وإليك البيان :
الغلوّ في أبي بكر
ليس من العسير
الشديد عرفان حدود أيِّ فرد شئت من الصحابة ، إذ التاريخ ـ مع ما فيه من الخبط
والخلط ، مع ما نسجت عليه أيدي المعرّة الأثيمة ، مع ما طمس صحيحه بالفتن المظلمة
في أدوارها وقرونها الخالية ، مع ما لعبت به الأهواء المضلّة بالتحريف والاختلاق ،
مع ما دسَّ فيه عباقرة الإفك والافتعال ، مع ما سوِّدت صفحاته بآراء تافهة ،
ونظريّات سخيفة ، ومبادئ فاسدة ، ونعرات طائفيّة ، ومخاريق قوميّة ، وجنايات
شعوبيّة ـ فيه رمز من الحقيقة ، لا يختلط للناقد البصير زُبده بخاثره ، وصحيحه
بسقيمه ، ويسع له أن يستخرج المحض بالمخض ، يتّخذ منه دروس الحقائق ، ويعرف به
حدود الرجال ، ومقاييس السلف ، ومقادير الأمم الغابرة.
ومن اللازم
المحتوم علينا النظرة في تراجم الشخصيّات البارزة من رجال الإسلام سلفاً وخلفاً
بعين الإكبار دون عين رمصة ، ولا سيّما من عُرف منهم بالخلافة الراشدة بين الملأ
الدينيِّ ولو بالانتخاب الدستوري الذي ليس له أيّ قيمة وكرامة في سوق الاعتبار
وميزان العدل : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ
وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)
__________________
(لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) (وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) . (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
فصاحب النبيّ
الأعظم في الغار ، والمهاجر الوحيد معه في الرعيل الأوّل من المهاجرين السابقين
يهمّنا إكباره وإعظامه ، ويُعَدُّ من الجنايات الفاحشة بخس حقّه ، والتقصير في
تحديد نفسيّاته ، والخروج عن قضاء العدل فيها ، والنزول على حكم العاطفة.
ونحن لا نحوم حول
موضوع الخلافة وأنّها كيف تمّت؟ كيف صارت؟ كيف قامت؟ كيف دامت؟ وأنّ الآراء فيها هل
كانت حرّة؟ ووصايا المشرِّع الأعظم هل كانت متّبعة؟ أو كانت للأهواء والشهوات يوم
ذاك حكومة جبّارة هي تبطش وتقبض ، وهي ترفع وتخفض ، وهي ترتق وتفتق ، وهي تنقض
وتبرم ، وهي تحلُّ وتعقد.
لا يهمّنا البحث
عن هذه كلّها بعد ما سمعت أُذن الدنيا حديث السقيفة مجتمع الثويلة ، وقُرِّطت بنبإ
تلك الصاخّة الكبرى ، والتحارش العظيم بين المهاجرين والأنصار ، (إِذا
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ* خافِضَةٌ رافِعَةٌ) .
ما عساني أن أقول؟
والتاريخ بين يدي الباحث يدرسه بأنّ كلّ رجل من سواد الناس يوم ذاك كان يرى الفوز
والسلامة لنفسه في عدم التحزّب بأحد من تلكم الأحزاب المتكثّرة ، وترك الاقتحام في
تلك الثورات النائرة ، وكانت الخواطر تهدِّده بالقتل مهما أبدى الشقاق ، أو
التحيّز إلى فئة دون فئة ، بعد ما رأت عيناه فِرند الصارم
__________________
المسلول ، وسمعت
أُذناه نداء محزّ يتوعّد بالقتل كلَّ قائل بموت رسول الله ، ويقول : لا أسمع
رجلاً يقول : مات رسول الله إلاّ ضربته بسيفي. أو يقول : من قال : إنَّه مات علوت
رأسه بسيفي ، وإنّما ارتفع إلى السماء .
يصيح من قالَ
نفسُ المصطفى قُبِضت
|
|
عَلَوتُ هامته
بالسيف أبريها
|
بعد ما تشازرت
الأمّة وتلاكمت وتكالمت وقام الشيخان يعرض كلٌّ منهما البيعة لصاحبه قبل أخذ الرأي
من أيّ أحد ، كأنَّ الأمر دبّر بليل ، فيقول هذا لصاحبه : ابسط يدك فلأبايعك.
ويقول آخر : بل أنت. وكلٌّ منهما يريد أن يفتح يد صاحبه ويبايعه ، ومعهما أبو
عبيدة الجرّاح حفّار القبور بالمدينة يدعو الناس إليهما ، والوصيُّ الأقدس والعترة الهادية وبنو هاشم ألهاهم
النبيّ الأعظم وهو مسجّىً بين يديهم وقد أغلق دونه الباب أهله ، وخلّى أصحابه صلىاللهعليهوآلهوسلم بينه وبين أهله فوَلوا إجنانه ومكث ثلاثة أيّام لا يُدفن أو من يوم الاثنين إلى يوم
__________________
الأربعاء أو ليلته
فدفنه أهله ولم يله إلاّ أقاربه دفنوه في الليل أوفي آخره ، ولم يعلم به القوم إلاّ بعد سماع صريف المساحي وهم في
بيوتهم من جوف الليل ولم يشهد الشيخان دفنه صلىاللهعليهوآلهوسلم .
بعد ما رأى الرجل
عمر بن الخطّاب محتجراً يهرول بين يدي أبي بكر وقد نبر حتى أزبد شدقاه .
بعد ما قرعت سمعه
عقيرة صحابيّ بدريّ عظيم ـ الحباب بن المنذر ـ وقد انتضى سيفه على أبي بكر ويقول :
والله لا يردُّ عليَّ أحدٌ ما أقول إلاّ حطمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك وعُذيقها المرجّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد يُعزى إلى
__________________
الأسد ، فيقال
عليه : إذن يقتلك الله. فيقول : بل إياك يقتل. أو : بل أراك تقتل ، فأخذ ووُطِئ في بطنه ، ودُسَّ في فيه التراب .
بعد ما شاهد
ثالثاً يخالف البيعة لأبي بكر وينادي : أما والله أرميكم بكلِّ سهم في كنانتي من
نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأُقاتلكم مع من معي
من أهلي وعشيرتي .
بعد ما رأى رابعاً
يتذمّر على البيعة ويشبُّ نار الحرب بقوله : إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم .
__________________
بعد ما نظر إلى
مثل سعد بن عبادة أمير الخزرج وقد وقع في ورطة الهون يُنزى عليه ، ويُنادى عليه
بغضب : اقتلوا سعداً قتله الله إنّه منافق. أو : صاحب فتنة. وقد قام الرجل على
رأسه ويقول : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. أو تندر عيونك .
بعد ما شاهد قيس
بن سعد قد أخذ بلحية عمر قائلاً : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.
أو : لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة .
بعد ما عاين
الزبير وقد اخترط سيفه ويقول : لا أغمده حتى يبايع عليّ. فيقول عمر : عليكم بالكلب
، فيؤخذ سيفه من يده ويُضرب به الحجر ويُكسر .
بعد ما بصر
مقداداً ذلك الرجل العظيم وهو يدافع في صدره ، أو نظر إلى الحباب ابن المنذر وهو
يحطَّم أنفه ، وتُضرب يده. أو إلى اللائذين بدار النبوّة ، مأمن الأمّة ، وبيت
شرفها ، بيت فاطمة وعليٍّ ـ سلام الله عليهما ـ وقد لحقهم الإرهاب والترعيد ، وبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطّاب وقال له : إن أبوا
فقاتلهم. فأقبل
__________________
عمر بقبس من نار
على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة فقالت : «يا ابن الخطّاب أجئت لتحرق دارنا؟» قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمّة .
بعد ما رأى هجوم
رجال الحزب السياسي دار أهل الوحي وكشف بيت فاطمة ، وقد علت عقيرة قائدهم بعد ما دعا بالحطب : والله
لتحرقنَّ عليكم أو لتخرجنَّ إلى البيعة. أو لأحرقنّها على من فيها. فيقال للرجل :
إنَّ فيها فاطمة. فيقول : وإن !
بعد قول ابن شحنة
: إنَّ عمر جاء إلى بيت عليٍّ ليحرقه على من فيه فلقيته فاطمة فقال : ادخلوا فيما
دخلت فيه الأمّة. تاريخ ابن شحنة هامش الكامل (٧ / ١٦٤).
بعد ما سمع أنّةً
وحنّةً من حزينة كئيبة ـ بضعة المصطفى ـ وقد خرجت عن خدرها وهي تبكي وتنادي بأعلى
صوتها : «يا أبت يا رسول الله ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة؟» .
__________________
بعد ما رآها وهي
تصرخ وتولول ومعها نسوة من الهاشميّات تنادي : «يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على
أهل بيت رسول الله ، والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله». شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٣٤ ، ٢ / ١٩).
بعد ما شاهد هيكل
القداسة والعظمة ـ أمير المؤمنين ـ يُقاد إلى البيعة كما يقاد الجمل المخشوش ، ويُدفع ويُساق سوقاً عنيفاً واجتمع الناس ينظرون ،
ويُقال له : بايع.
فيقول : «إن أنا
لم أفعل فمه؟» فيقال : إذن والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك فيقول : «إذن
تقتلون عبد الله وأخا رسوله» .
بعد ما رأى صنو
المصطفى عليّا لاذ بقبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يصيح ويبكي ويقول : «يا ابن أُمّ إنَّ القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني» .
بعد نداء أبي
عبيدة الجرّاح لعليّ عليهالسلام يوم سيق إلى البيعة : يا ابن عمّ إنَّك حديث السنِّ وهؤلاء
مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على
هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ؛ فإنَّك
إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليقٌ وبه حقيقٌ في فضلك ودينك وعلمك وفهمك
وسابقتك ونسبك وصهرك .
بعد رفع الأنصار
عقيرتهم في ذلك اليوم العصبصب بقولهم : لا نبايع إلاّ عليّا.
__________________
وبعد صياح
بدريِّهم : منّا أميرٌ ومنكم أميرٌ ، وقول عمر له : إذا كان ذلك فمت إن استطعت .
بعد قول أبي بكر
للأنصار : نحن الأُمراء وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفان كشقِّ
الأبلمة ـ يعني الخوصة .
مدّت لها الأوسُ
كفّا كي تناولها
|
|
فمدّت الخزرجُ
الأيدي تباريها
|
وظنَّ كلُّ فريق
أنّ صاحبَهم
|
|
أولى بها وأتى
الشحناء آتيها
|
بعد قول أمّ مسطح
بن أثاثة واقفةً عند قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي تنادي : يا رسول الله :
قد كان بعدك
أنباءٌ وهنبثةٌ
|
|
لو كنتَ شاهدَها
لم تكثر الخطبُ
|
__________________
إنّا فقدناك فقدَ
الأرضِ وابلَها
|
|
واختلَّ قومك
فاشهدهمْ ولا تغب
|
هذه كلّها كانت
تهدّد السواد ، وتروّع عامّة الناس وما كان لأحد في إصلاح القوم مطمع ، ولا لأيّ
من الأمّة بعد ما شاهد الحال يوم ذاك حسبان حرمة ولا كرامة لنفسه يقوم بها تجاه
ذلك التيّار المتدفّق.
وكانت هناك أمّة
تراها سكرى ـ وما هي بسكرى ـ من حراجة الموقف تسارّها هواجسها بالتربّص إلى حين ،
حتى تضع الغائلة أوزارها ، ويتّضح مآل أمر دبّر بليل ، ويتبيّن الرشد من الغيِّ ،
وهواجس تجعل جماعة كالنزيعة تجهش وتحنُّ وتقرع سنّ الأسف ، وكم حنون لا يجديه حنينه.
وما عساني أن أقول
في تلك الخلافة بعد ما رآها أبو بكر وعمر بن الخطّاب فلتة كفلتة الجاهليّة وقى
الله شرّها ؟
بعد ما حكم عمر
بقتل من عاد إلى مثل تلك البيعة .
بعد قوله يوم
السقيفة : من بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه
تغرّة أن يقتلا .
__________________
بعد قوله لابن
عباس : لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر .
بعد قوله : إنّا
والله ما فعلناه عن عداوة ولكن استصغرناه ، وحسبنا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش
لما قد وترها.
بعد قول ابن عبّاس
له في جوابه : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره ، أفتستصغره أنت وصاحبك ؟
بعد قول عمر لابن
عبّاس : يا ابن عبّاس ما أظنُّ صاحبك إلاّ مظلوماً. وقول ابن عبّاس له : والله ما
استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر. شرح ابن أبي الحديد (٢ / ١٨).
بعد قول أبي
السبطين أمير المؤمنين : «أنا عبد الله وأخو رسول الله ، أنا أحقُّ بهذا الأمر
منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي» ، فيقول عمر : لستَ متروكاً حتى تبايع
، فيقول عليّ : «احلب يا عمر حلباً لك شطره» .
بعد قوله عليهالسلام : «الله الله يا معشر المهاجرين ألاّ تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره ،
وقعر بيته إلى دوركم ، وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر
المهاجرين فنحن أحقُّ الناس به لأنّا أهل البيت ونحن أحقُّ بهذا الأمر
__________________
منكم ، ما كان
فينا القارئ لكتاب الله ، العالم بسنن الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع عنهم
الأمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنَّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى
فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقِّ بعدا» .
بعد قوله عليهالسلام : «لمّا مضى ـ المصطفى ـ لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده ، فو الله ما كان
يُلقى في روعي ، ولا يخطر على بالي أنَّ العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل
بيته ، ولا أنَّهم مُنحّوه عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على أبي
بكر ، وإجفالهم إليه ليبايعوه ، فأمسكت يدي ، ورأيت أنِّي أحقُّ بمقام محمد في
الناس ممّن تولّى الأمر من بعده» .
بعد ما خرج عليّ
كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا
يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنَّ زوجك وابن عمّك
سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : «أفكنت أدع رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بيته لم أدفنه ، وأخرج أُنازع سلطانه؟ فقالت فاطمة : ما
صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم» .
بعد قوله عليهالسلام : «أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنَّه ليعلم أنَّ محلّي منها
محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها
ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء ، أو أصبر على
طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى
ربَّه ،
__________________
فرأيت أنَّ الصبر
على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى
الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده.
ثمّ تمثّل بقول
الأعشى :
شتّان ما يومي
على كورها
|
|
ويوم حيّان أخي
جابر
|
فيا عجباً يستقيلها
في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة
خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسُّها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها
كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمُني الناس ـ لعمر الله ـ
بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة حتى إذا مضى
لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب فيَّ مع
الأوّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النظائر ، لكنِّي أسففت إذا سفّوا ، وطرت إذا
طاروا ، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ ، إلى أن قام ثالث
القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة
الإبل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته».
الحديث.
كلمتنا حول هذه
الخطبة :
هذه الخطبة تسمّى
بالشقشقيّة ، وقد كثر الكلام حولها فأثبتها مَهرَة الفنِّ من الفريقين ورأوها من
خطب مولانا أمير المؤمنين الثابتة التي لا مغمز فيها ، فلا يُسمع إذن قول الجاهل
بأنَّها من كلام الشريف الرضي ، وقد رواها غير واحد في القرون الأولى قبل أن تنعقد
للرضي نطفته ، كما جاءت بإسناد معاصريه والمتأخِّرين عنه من غير طريقه ، وإليك
أمّة من أولئك :
١ ـ الحافظ يحيى
بن عبد الحميد الحِمّاني : المتوفّى (٢٢٨) ، كما في طريق الجلودي في العلل والمعاني .
٢ ـ أبو جعفر دعبل
الخزاعي : المتوفّى (٢٤٦) ، رواها بإسناده عن ابن عبّاس كما في أمالي شيخ الطائفة (ص ٢٣٧) ، ورواها
عنه أخوه أبو الحسن عليّ.
٣ ـ أبو جعفر أحمد
بن محمد البرقي : المتوفّى (٢٧٤ ، ٢٨٠) ، كما في علل الشرائع .
٤ ـ أبو علي
الجبّائي شيخ المعتزلة : المتوفّى (٣٠٣) ، كما في الفرقة الناجية للشيخ إبراهيم
القطيفي ، والبحار للعلاّمة المجلسي (٨ / ١٦١).
٥ ـ وجدت بخطّ
قديم عليه كتابة الوزير أبي الحسن عليّ بن الفرات : المتوفّى (٣١٢) ، كما في شرح
ابن ميثم .
٦ ـ أبو القاسم
البلخي أحد مشايخ المعتزلة : المتوفّى (٣١٧) ، كما في شرح ابن أبي الحديد (١ / ٦٩).
٧ ـ أبو أحمد عبد
العزيز الجلودي البصري : المتوفّى (٣٣٢) ، كما في معاني الأخبار .
__________________
٨ ـ أبو جعفر بن
قبة تلميذ أبي القاسم البلخي المذكور ، رواها في كتابه الإنصاف كما في شرح ابن أبي
الحديد (١ / ٦٩) ، وشرح
ابن ميثم .
٩ ـ الحافظ سليمان
بن أحمد الطبراني : المتوفّى (٣٦٠) ، كما في طريق القطب الراوندي في شرح النهج .
١٠ ـ أبو جعفر بن
بابويه القمي : المتوفّى (٣٨١) ، في كتابيه : علل الشرائع ومعاني الأخبار .
١١ ـ أبو أحمد
الحسن بن عبد الله العسكري : المتوفّى (٣٨٢) ، حكى عنه شيخنا الصدوق شرح الخطبة في
معاني الأخبار والعلل .
لفت نظر :
عدّه السيّد
العلاّمة الشهرستاني في ما هو نهج البلاغة (ص ٢٢) ممّن روى الشقشقيّة فأرّخ وفاته
بسنة (٣٩٥) ، وذكره في (ص ٢٣) فقال : من أبناء القرن الثالث. لا يتمُّ هذا ولا
يصحّ ذاك ، وقد خفي عليه أنَّ الحسن بن عبد الله العسكري راوي الشقشقية هو أبو
أحمد صاحب كتاب الزواجر وقد توفّي سنة (٣٨٢) وولد (٢٩٣) ، وحسبه أبا هلال الحسن بن
عبد الله العسكري صاحب كتاب الأوائل تلميذ أبي أحمد العسكري ، والتاريخ الذي ذكره
تاريخ فراغه من كتابه الأوائل لا تاريخ وفاته. توجد
__________________
ترجمة كلا الحسنين
العسكريين في معجم الأدباء (٨ / ٢٣٣ ـ ٢٦٨) ، وبغية الوعاة : (ص ٢٢١).
١٢ ـ أبو عبد الله
المفيد : المتوفّى (٤١٢) ، أستاذ الشريف الرضي رواها في كتابه الإرشاد (ص ١٣٥).
١٣ ـ القاضي عبد
الجبّار المعتزلي : المتوفّى (٤١٥) ، ذكر في كتابه المغني تأويل بعض جمل الخطبة ومنع دلالتها على الطعن في خلافة من
تقدّم على أمير المؤمنين من دون أيّ إيعاز إلى الغمز في إسنادها.
١٤ ـ الحافظ أبو
بكر بن مردويه : المتوفّى (٤١٦) ، كما في طريق الراوندي في شرح النهج .
١٥ ـ الوزير أبو
سعيد الآبي : المتوفّى (٤٢٢) ، في كتابه نثر الدرر ونزهة الأدب .
١٦ ـ الشريف
المرتضى أخو الشريف الرضي الأكبر : توفّي سنة (٤٣٦) ، ذكر جملة منها في الشافي (ص ٢٠٣) فقال :
مشهور. وذكر صدرها في (ص ٢٠٤) فقال : معروف.
١٧ ـ شيخ الطائفة
الطوسي : المتوفّى (٤٦٠) ، رواها في أماليه (ص ٣٢٧) عن
__________________
السيّد أبي الفتح
هلال بن محمد بن جعفر الحفّار المترجم في مستدرك العلاّمة النوري (٣ / ٥٠٩) من
طريق الخزاعيّين ، وفي تلخيص الشافي .
١٨ ـ أبو الفضل
الميداني : المتوفّى (٥١٨) ، في مجمع الأمثال (ص ٣٨٣) قال : ولأمير
المؤمنين عليّ رضى الله عنه خطبة تعرف بالشقشقيّة ، لأنّ ابن عبّاس قال له حين قطع
كلامه : يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك من حيث أفضيت. فقال : هيهات يا ابن
عبّاس تلك شقشقةٌ هدرت ثمّ قرّت.
١٩ ـ أبو محمد عبد
الله بن أحمد البغدادي الشهير بابن الخشاب : المتوفّى (٥٦٧) ، قرأها عليه أبو
الخير مصدّق الواسطي النحوي ، وسيوافيك بُعيد هذا كلامه فيها.
٢٠ ـ أبو الحسن
قطب الدين الراوندي : المتوفّى (٥٧٣) ، رواها في شرح نهج البلاغة من طريق الحافظين : ابن مردويه والطبراني وقال : أقول :
وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرضي بمدّة ، أحدهما : أنَّها مضمنة كتاب
الإنصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة وكانت وفاته
قبل مولد الرضي. الثاني : وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن عليّ بن محمد
بن الفرات وكان وزير المقتدر بالله ، وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستّين سنة ، والذي
يغلب على ظنّي أنَّ تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة.
٢١ ـ أبو منصور
الطبرسي أحد مشايخ ابن شهرآشوب : المتوفّى (٥٨٨) في كتابه الاحتجاج (ص ٩٥) فقال : روى
جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عبّاس.
__________________
٢٢ ـ أبو الخير
مصدّق بن شبيب الصلحي النحوي : المتوفّى (٦٠٥) ، قرأها على أبي محمد بن الخشّاب
وقال : لمّا قرأت هذه الخطبة على شيخي أبي محمد بن الخشّاب ووصلت إلى قول ابن
عبّاس : ما أسفت على شيء قطُّ كأسفي على هذا الكلام. قال : لو كنت حاضراً لقلت
لابن عبّاس : وهل ترك ابن عمّك في نفسه شيئاً لم يقله في هذه الخطبة؟ فإنّه ما ترك
لا الأوّلين ولا الآخرين. قال مصدّق : وكانت فيه دعابة ، فقلت له : يا سيّدي
فلعلّها منحولةٌ إليه. فقال : لا والله إنّي أعرف أنَّها من كلامه كما أعرف أنّك
مصدّق. قال فقلت : إنَّ الناس ينسبونها إلى الشريف الرضي. فقال : لا والله ، ومن
أين للرضي هذا الكلام وهذا الأُسلوب ، فقد رأينا كلامه في نظمه ونثره لا يقرب من
هذا الكلام ولا ينتظم في سلكه ، ثمّ قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب
صُنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف
خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي. راجع
شرح ابن ميثم . وشرح ابن أبي الحديد (١ / ٦٩).
٢٣ ـ مجد الدين
أبو السعادات ابن الأثير الجزري المتوفّى (٦٠٦) ، أوعز إليها في كلمة شقشق في
النهاية (٢ / ٢٤٩) فقال :
ومنه حديث عليّ في خطبة له : تلك شقشقة هدرت ثم قرّت.
٢٤ ـ أبو المظفّر
سبط ابن الجوزي : المتوفّى (٦٥٤) في تذكرته (ص ٧٣) من طريق
شيخه أبي القاسم النفيس الأنباري بإسناده عن ابن عبّاس فقال : تُعرف بالشقشقيّة ،
ذكر بعضها صاحب نهج البلاغة وأخلَّ بالبعض وقد أتيت بها مستوفاة. ثمّ ذكرها مع
اختلاف ألفاظها.
__________________
٢٥ ـ عزّ الدين
ابن أبي الحديد المعتزلي : المتوفّى (٦٥٥) قال في شرح النهج (١ / ٦٩) : قلت :
وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام
البغداديّين من المعتزلة وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.
ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإماميّة وهو
الكتاب المشهور بكتاب الإنصاف ، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم
البلخي رحمهالله تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمهالله تعالى موجوداً.
٢٦ ـ كمال الدين
بن ميثم البحراني : المتوفّى (٦٧٩) ، حكاها عن نسخة قديمة عليها خطُّ الوزير عليّ
بن الفرات : المتوفّى (٣١٢) ، وعن كتاب الإنصاف لابن قبة ، وذكر كلمة ابن الخشّاب
المذكورة وقراءة أبي الخير إيّاها عليه.
٢٧ ـ أبو الفضل
جمال الدين بن منظور الإفريقي المصري : المتوفّى (٧١١) قال في مادّة : شقشق من
كتابه لسان العرب (١٢ / ٥٣) : وفي حديث
عليّ رضوان الله عليه في خطبة له : تلك شقشقةٌ هدرت ثمّ قرّت.
٢٨ ـ مجد الدين
الفيروزآبادي : المتوفّى (٨١٦ ، ٨١٧) أوعز إليها في القاموس (٣ / ٢٥١) قال :
والخطبة الشقشقية العلويّة لقوله لابن عبّاس لمّا قال له : لو اطّردت مقالتك من
حيث أفضيت ، يا ابن عبّاس هيهات تلك شقشقةٌ هدرت ثمّ قرّت.
ثمّ ما عساني أن
أقول بعد ما يعربد شاعر النيل اليوم ، ويؤجّج النيران الخامدة ويُجدّد تلكم الجنايات
المنسيّة ـ لاها الله لا تُنسى مع الأبد ـ ويعدّها ثناء على
__________________
السلف ، ويرفع
عقيرته بعد مضي قرون على تلكم المعرّات ، ويتبهّج ويتبجّح بقوله في القصيدة
العمريّة تحت عنوان : عمر وعليّ :
وقولةٍ لعليٍّ
قالها عُمرُ
|
|
أكرم بسامعها
أعظِم بملقيها
|
حرّقتُ دارَكَ
لا أُبقي عليك بها
|
|
إن لم تبايعْ
وبنتُ المصطفى فيها
|
ما كان غيرُ أبي
حفصٍ يفوهُ بها
|
|
أمامَ فارسِ
عدنانٍ وحاميها
|
ما ذا أقول بعد ما
تحتفل الأمّة المصريّة في حفلة جامعة في أوائل سنة (١٩١٨) بإنشاد هذه القصيدة
العمريّة التي تتضمّن ما ذكر من الأبيات؟ وتنشرها الجرائد في أرجاء العالم ، ويأتي
رجال مصر نظراء أحمد أمين ، وأحمد الزين ، وإبراهيم الأبياري ، وعلي الجارم ، وعلي أمين ، وخليل مطران ، ومصطفى الدمياطي بك وغيرهم ويعتنون بنشر ديوانٍ هذا شعره ، وبتقدير شاعر هذا شعوره ،
ويخدشون العواطف في هذه الأزمة ، في هذا اليوم العصبصب ، ويعكِّرون بهذه النعرات
الطائفيّة صفو السلام والوئام في جامعة الإسلام ، ويشتّتون بها شمل المسلمين ،
ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
وتراهم يجدّدون
طبع ديوان الشاعر وقصيدته العمريّة خاصّة مرّة بعد أخرى ، ويعلِّق عليها شارحها
الدمياطي قوله في البيت الثاني : المراد أنَّ عليّا لا يعصمه من
__________________
عمر سكنى بنت
المصطفى في هذه الدار.
وقال في (ص ٣٩) من
الشرح : وفي رواية لابن جرير الطبري قال : حدّثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن
كليب قال : أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وبه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين
فقال : والله لأحرقنَّ عليكم أو لتخرجنَّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتاً
بالسيف فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه. فإن كان زياد هذا هو الحنظلي أبو
معشر الكوفي فهو موثّق. والظاهر أنَّ حافظاً رحمهالله عوّل على هذه الرواية. انتهى.
وتراهم بالغوا في
الثناء على الشاعر وقصيدته هذه كأنَّه جاء للأمّة بعلم جمّ ، أو رأي صالح جديد ،
أو أتى لعمر بفضيلة رابية تسرُّ بها الأمّة ونبيُّها المقدّس ، فبشرى بل بشريان
للنبيّ الأعظم بأنَّ بضعته الصدِّيقة لم تكن لها أيّ حرمة وكرامة عند من يلهج بهذا
القول ، ولم يكن سكناها في دار طهّر الله أهلها يعصمهم منه ومن حرق الدار عليهم.
فزهٍ زهٍ بانتخاب هذا شأنه ، وبخٍ بخٍ ببيعة تمّت بذلك الإرهاب ، وقضت بتلك
الوصمات.
لا تهمّنا هذه
كلّها وإنَّما يهمّنا الساعة ـ بعد أن درسنا تاريخ حياة الخليفة الأوّل فوجدناه
لدة غيره من الناس العاديِّين في نفسيّاته قبل إسلامه وبعده ، وإنَّما سنّمه عرش
الخلافة الانتخاب فحسب ـ البحث في موضوعين ، ألا وهما : فضائله المأثورة وملكاته
النفسيّة.
ـ ١ ـ
فضائله المأثورة
هل صحّ عن النبيّ
الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه حديث فضيلة؟ وهل صحيح ما رووه فيه من الثناء الكثير
الحافل؟ نحن هاهنا نقف موقف المستشفّ للحقيقة ، ولا ننبس
في القضاء ببنتِ
شفة ، غير ما ننقله عن أئمة فنّ الحديث المميّزين بين صحيحه وسقيمه. ثمّ نردفه
بالاعتبار الذي يساعده.
قال الفيروزآبادي
في خاتمة كتابه سفر السعادة المطبوع : خاتمة الكتاب في الإشارة إلى أبواب روي فيها أحاديث
وليس منها شيء صحيح ، ولم يثبت منها عند جهابذة علماء الحديث شيءٌ. ثمّ عدَّ
أبواباً إلى أن قال :
باب فضائل أبي بكر
الصدّيق رضى الله عنه. أشهر المشهورات من الموضوعات أنَّ الله يتجلّى للناس عامّة
ولأبي بكر خاصّة. وحديث : ما صبَّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصبّه في صدر أبي بكر.
وحديث : كان صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا اشتاق الجنّة قبّل شيبة أبي بكر. وحديث : أنا وأبو بكر
كفرسي رهان. وحديث : إنَّ الله لمّا اختار الأرواح اختار روح أبي بكر. وأمثال هذا
من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل. انتهى.
وعدَّ العجلوني في
كتابه كشف الخفاء (ص ٢ / ٤١٩ ـ ٤٢٤) مائة باب من أبواب الفقه وغيره فقال : لم يصحّ
فيه حديث. أو : ليس فيه حديث صحيح. وما يقاربهما وقال في (ص ٤١٩) : باب فضائل أبي
بكر الصدّيق رضى الله عنه أشهر المشهورات من الموضوعات كحديث : إن الله يتجلّى
للناس عامّة ولأبي بكر خاصّة. إلى آخر عبارة الفيروزآبادي المذكورة.
وذكر السيوطي في
اللآلئ المصنوعة (١ / ٢٨٦ ـ ٣٠٢) ثلاثين حديثاً من أشهر فضائل أبي بكر ممّا أتخذه
المؤلِّفون في القرون الأخيرة من المتسالم عليه ، وأرسلوه إرسال المسلّم بلا أيِّ
سند أو أيِّ مبالاة وزيّفها وحكم فيها بالوضع وذكر رأي الحفّاظ فيها.
__________________
كان السيوطي يهملج
وراء القوم فبهظه أن لا يستصحّ حتى حديثاً واحداً من تلكم الثلاثين فقال في (ص ٢٩٦)
فيما عزا إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : عُرج بي إلى السماء فما مررت بسماء إلاّ وجدت
فيها مكتوباً : محمد رسول الله ، أبو بكر الصدّيق من خلفي بعد ما حكم عليه بالوضع
لمكان عبد الله بن إبراهيم الغفاري الوضّاع. ومكان شيخه عبد الرحمن بن زيد المتّفق على ضعفه
بنصّ منه عليهما بذلك ما لفظه :
قلت : الذي أستخير
الله فيه الحكم على هذا الحديث بالحسن لا بالوضع ولا بالضعف لكثرة شواهده. ثمّ ذكر
شواهد عن طرق لا يصحُّ شيء منها ، وفي كلِّ واحد منها وضّاع أو كذّاب ، أو من
اتّفق على ضعفه ، أو مجهول لا يُعرف يروي عن مجهول مثله ، وقد عزب عنه أنَّ
الاستخارة لا تقلّب الشر خيراً ، ولا يعيد السقيم صحيحاً ولا المنكر معروفاً.
وراحت إلى
العطار تبغي شبابها
|
|
فهل يُصلح
العطار ما أفسد الدهرُ
|
والله سبحانه لا
يجازف في إسداء الخير ، والشواهد المكذوبة لا تقوّي الضعف مع نصِّ الحفّاظ على كلّ
واحد منها بالوضع أو الضعف ، وإليك بيان طرق تلك الشواهد.
١ ـ طريق الخطيب
البغدادي ، مرَّ في الجزء الخامس (ص ٣٠٣ ، ٣٢٥) الطبعة الثانية.
٢ ـ طريق البزّار
في مسنده وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري الوضّاع ، وشيخه عبد الرحمن بن زيد
المتّفق على ضعفه كما في تهذيب التهذيب (٦ / ١٧٨) ،
واللآلئ المصنوعة (١ / ٢٩٦).
__________________
٣ ـ طريق ابن
شاهين في السنّة وهو طريق الخطيب البغدادي وحديثه ، وقد حكم الذهبي وابن حجر ببطلانه كما مرَّ في الجزء الخامس.
٤ ـ طريق
الدارقطني في الأفراد ، قال السيوطي في اللآلئ (١ / ٢٩٧) بعد ذكره : قال الدارقطني
: تفرّد به محمد بن فضيل عن ابن جريج لا أعلم أحداً حدّث به غير هذين. وأورده
المؤلّف في الواهيات من طريق السري وقال : لا يصحّ. قال ابن حبّان : لا يحلُّ الاحتجاج بالسري بن عاصم.
قال الأميني :
السري بن عاصم راوي الحديث أحد الكذّابين مرّت ترجمته في الجزء الخامس (ص ٢٣١) ،
وللدارقطني طريق آخر وفيه عمر بن إسماعيل بن مجالد أحد الكذّابين وبهذا الطريق ذكره السيوطي في اللآلئ (١ / ٣٠٩) فقال : لا
يصحُّ ، آفته عمر كذّاب.
٥ ـ طريق الديلمي
في مسند الفردوس ، فيه بعد رجال مجاهيل عبد المنعم بن بشير أبو الخير الكذّاب
الوضّاع الذي له مائتا حديث كذب ، وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم المجمع على ضعفه كما مرَّ.
٦ ـ طريق الختلي
في ديباجه عن نصر بن حريش عن أبي سهل مسلم الخراساني عن عبد الله بن إسماعيل عن
الحسن البصري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
__________________
مكتوب على ساق
العرش : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، محمد رسول الله ، ووزيراه أبو بكر
الصدّيق وعمر الفاروق.
قال الدارقطني كما
في تاريخ بغداد (١٣ / ٢٨٦) : هذا إسناد ضعيف لا يثبت ، أبو سهل ونصر بن حريش
ضعيفان. وقال العقيلي كما في لسان الميزان (٣ / ٢٦) : عبد
الله بن إسماعيل منكر الحديث لا يُتابع على شيء من حديثه. والحديث مع هذا مرسل
والحسن البصري لا يروي عن رسول الله ولم يدركه وللخطيب طريق بهذا اللفظ ليست فيه
كلمة : ساق ، ووزيراه. وفي إسناده أحمد بن رجاء بن عبيدة ، قال الخطيب في تاريخه (٤
/ ١٥٨) : مجهول.
٧ ـ طريق ابن
عساكر فيه عبد العزيز الكتاني ، ليّنه الذهبي كما في لسان الميزان (٤ / ٣٣) ، وفيه
الحارث بن زياد المحاربي ، قال الذهبي وغيره : ضعيف مجهول كما في اللسان (٢ / ١٤٩) ، وفيه
من لا يُعرف ولا توجد له ترجمة في المعاجم.
ولابن عساكر طريق آخر بالإسناد عن محمد بن عبد بن عامر المعروف بوضع
الحديث عن عصام بن يوسف ضعّفه ابن سعد ، وخطّأه ابن حبّان ، وقال
__________________
ابن عدي : روى أحاديث لا يُتابع عليها. كما في لسان الميزان (٤ / ١٦٨).
ويرشدك إلى صحّة
قول الفيروزآبادي والعجلوني ما أوضحناه في الجزء الخامس (ص ٢٩٧ ـ ٣٣٢) من تفنيد
مائة منقبة مكذوبة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مختلقة لأبي بكر ولزبائنه بحكم الأئمّة والحفّاظ. وكذا ما
زيّفناه من خمس وأربعين رواية موضوعة في الخلافة في صفحة (٣٣٣ ـ ٣٥٦) كلُّ ذلك
بقضاء من رجالات الفنِّ نظراء : ابن عديّ ، الطبراني ، ابن حبّان ، النسائي ،
الحاكم ، الدارقطني ، العقيلي ، ابن المديني ، أبو عمر ، الجوزقاني ، المحبّ
الطبري ، الخطيب البغدادي ، ابن الجوزي ، أبو زرعة ، ابن عساكر ، الفيروزآبادي ،
إسحاق الحنظلي ، ابن كثير ، ابن القيِّم ، الذهبي ، ابن تيميّة ، ابن أبي الحديد ،
ابن حجر الهيثمي ، ابن حجر العسقلاني ، الحافظ المقدسي ، السيوطي ، الصغاني ،
الملاّ علي القاري ، العجلوني ، ابن درويش الحوت ، وغيرهم.
ويشهد لبطلان تلكم
الروايات الجمّة في فضائل الخليفة الأوّل خلوُّ الصحاح الستة والسنن والمسانيد
القديمة منها ، فلو كان مؤلّفوها يجدون على شيء منها مسحة من الصحّة بل لو كانوا
واقفين عليها ولو على واحدة منها لما أجمعوا على تركها فيرويها متحرّو الزوايا ،
ونبّاشة الدفائن ، فيبرزونها إلى الملأ من تحت غبار الهجر ، أو وراء نسج عناكب
النسيان ، فيرشدنا ذلك إلى أنَّ مواليد هذه الروايات متأخر تاريخها عن عهد أرباب
الصحاح وحسبها ذلك مهانة وضعة. كما أنَّ ما في الصحاح من النزر اليسير ولائد
متأخِّرة عن عهد النبيِّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
على أنَّ الخليفة
نفسه لو كان على ثقة من صدور شيء من تلكم الأحاديث ولو يسيراً منها من قائلها صلىاللهعليهوآلهوسلم لما كان يرى مثل أبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور أولى
__________________
منه بالخلافة ،
ولما قدّمه على نفسه ، ولما ترك الاحتجاج بها يوم كانت حاجته إليه مسيسة ، ويوم
كان الحوار في أمر الخلافة قائماً على قدمٍ وساق ، وطفق كلُّ ذي فضل يُدلي بحججه ،
وقد احتدم الجدال حتى كاد أن يكون جلاداً ، واستحرَّ الحجاج حتى عاد لجاجاً ، لكن
الرجل لم يكن عنده حجّة ولا لزبانيته إلاّ أنَّه صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأنَّه أكبر القوم سنّا ـ وكان
أبوه أكبر منه لا محالة ـ وقد اختارته الجماعة وانعقدت له البيعة بعد هوس وهياج
ركوناً إلى أمثال هذه ممّا لا تثبت بها حجّة ، ولا يخضع لها ذو مسكة ، ولا يصلح
بها شأن الأمّة ، ولا يجمع بها شمل ، ولا يتمُّ بها الأمر.
نعم ؛ روي عن أبي
بكر أنَّه ذكر في الحجاج له أشياء حذفتها الرواة ولم يذكروا منها إلاّ أنَّه أوّل
من أسلم. أو : أوّل من صلّى. عن أبي سعيد الخدري قال : قال أبو بكر : ألست أحقّ
الناس بها؟ ألست أوّل من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا؟
وعن أبي نضرة قال : لمّا أبطأ الناس عن أبي بكر قال : من أحقّ بهذا
الأمر منِّي؟ ألست أوّل من صلّى؟ ألست؟ ألست؟ ألست؟ فذكر خصالاً فعلها مع النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم .
__________________
ونحن لا نعرف
شيئاً ممّا حذفوه من فضائله المزعومة أو اختلقوا نسبته إليه إذ من الممكن ـ بل
المحقّق ـ أنَّه لم يقل شيئاً ، وإنما اصطنعوا له هذه الصورة لإيهام أنَّه كانت له
يوم ذاك فضائل مسلّمة ، لكن نعطف النظرة على المذكور من تلك المناقب وهو كون
الخليفة أوّل من أسلم. أو : أوّل من صلّى ، ولم يكن كذلك. والقول به يخالف رأي
النبيّ الأعظم ونصوص الصحابة ، وقد فصّلنا القول فيه في الجزء الثالث (ص ٢١٩ ـ ٢٤٣)
وذكرنا مائة نصّ عن النبيّ الأقدس وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما ، وعن
الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان على أنَّ أوّل من أسلم وأوّل من صلى من ذكر
هو مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام. وأوضحنا هنالك أنَّ أبا بكر ليس أوّل من أسلم. أو : صلّى.
بل في صحيحة الطبري : أنَّه أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً ، فراجع.
ولو كانت الصحابة
الأوّلون يعرفون شيئاً من تلكم الموضوعات الجمّة لمَا تركوا الاحتجاج به يوم ذاك
في إخضاع الناس بدلاً عن إشفاع الدعوة بالإرهاب والترعيد ، ولما اقتصر عمر بن
الخطّاب يوم السقيفة بقوله : من له مثل هذه الثلاث : ثاني اثنين إذ هما في الغار ،
إذ يقول لصاحبه لا تحزن ، إنَّ الله معنا.
وبقوله : إنَّ
أولى الناس بأمر نبيّ الله ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأبو بكر السبّاق
المسنُّ.
وبقوله يوم بيعة
العامّة : إنَّ أبا بكر صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار .
__________________
ولما قال سلمان
للصحابة : أصبتم ذا السنّ منكم ولكنكم أخطأتم أهل بيت نبيّكم
ولما اكتفى عثمان
بن عفّان في الدعوة إلى أبي بكر بقوله : إنَّ أبا بكر الصدّيق أحقّ الناس بها ،
إنّه لصدّيق وثاني اثنين وصاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولما فاه المغيرة
بن شعبة بمقاله لأبي بكر وعمر : تلقوا العبّاس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيباً ،
فيكون له ولعقبه ، فتقطعوا به من ناحية عليّ ويكون لكم حجّة عند الناس على عليّ
إذا مال معكم العبّاس.
ولما دخل أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة والمغيرة على العبّاس ليلاً ، ولما قال أبو بكر له : لقد جئناك
ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت
عمّ رسول الله .
ولما تمّ الأمر له
ببيعة اثنين فحسب : عمر وأبي عبيدة. أو : ببيعة أربعة : هما مع أسيد وبشر. أو
بخمسة : هم مع سالم مولى أبي حذيفة كما يأتي تفصيله.
ولما تخلّف عن
بيعته رءوس المهاجرين والأنصار : عليّ وابناه السبطان ، والعبّاس وبنوه في بني
هاشم ، وسعد بن عبادة وولده وأسرته ، والحباب بن المنذر وتابعوه ، والزبير ، وطلحة
، وسلمان ، وعمّار ، وأبو ذرّ ، والمقداد ، وخالد بن سعيد ، وسعد بن أبي وقّاص ،
وعتبة بن أبي لهب ، والبراء بن عازب ، وأُبيّ بن كعب ،
__________________
وأبو سفيان بن حرب
وغيرهم .
ولما كان مجال
لقول محمد بن إسحاق : كان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنَّ عليّا صاحب
الأمر بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٨).
ولما قال عتبة بن
أبي لهب يوم ذاك بملإ من مدّعي الفضائل :
ما كنت أحسبُ
أنّ الأمرَ منصرفٌ
|
|
عن هاشمٍ ثمّ
منها عن أبي حسنِ
|
عن أوّلِ الناسِ
إيماناً وسابقةً
|
|
وأعلمِ الناسِ
بالقرآن والسننِ
|
وآخر الناس
عهداً بالنبيّ ومن
|
|
جبريلُ عونٌ له
في الغسل والكفنِ
|
من فيه ما فيهمُ
لا يمترون به
|
|
وليس في القوم
ما فيه من الحسنِ
|
ما ذا الذي
ردّكم عنه فنعلمه
|
|
ها إنَّ بيعتكم
من أوّل الفتنِ
|
ولما قال قصيّ يوم
ذاك :
بني هاشم لا
تُطمعوا الناسَ فيكمُ
|
|
ولا سيّما تيم
بن مرّة أو عدي
|
فما الأمرُ إلاّ
فيكمُ وإليكمُ
|
|
وليس لها إلاّ
أبو حسنٍ علي
|
أبا حسنٍ فاشدد
بها كفَّ حازمٍ
|
|
فإنَّك بالأمر
الذي يُرتجى ملي
|
وإنَّ امرأً
يرمي قصيٌّ وراءه
|
|
عزيز الحمى
والناس من غالبٍ قصي
|
__________________
ـ ٢ ـ
ملكاته ونفسيّاته
يهمّنا النظر إلى
ملكات الخليفة وما انحنت عليه أضالعه من علوم أو نفسيّات حتى نعلم أنَّها هل تجعل
له صلة بفضيلة؟ أو تقرّب مبوّأه من التأهّل لهاتيك المرويّات؟ أو تعيِّن له حدّا
يكون التفريط به إجحافاً به ، وبخساً بحقِّه ، وتحطيماً لمقامه؟ أو يعرف الغلوُّ
بالإفراط فيه؟
أمّا هو قبل
الإسلام فلا نفيض عنه قولاً لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله ، فلا التفات إذن إلى ما
جاء به عكرمة من قوله : كان أبو بكر رضى الله عنه يقامر أُبيّ بن خلف وغيره من
المشركين وذلك قبل أن يحرّم القمار. ذكره الإمام الشعراني في كتابه كشف الغمّة (٢
/ ١٥٤).
وقال الإمام أبو
بكر الجصّاص الرازي الحنفي المتوفّى (٣٧٠) في أحكام القرآن (١ / ٣٨٨) : لا
خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأنَّ المخاطرة من القمار ، قال ابن عبّاس :
إنَّ المخاطرة قمار ، وإنَّ أهل الجاهليّة كانوا يخاطرون على المال والزوجة وقد
كان ذلك مباحاً إلى أن ورد تحريمه ، وقد خاطر أبو بكر الصدّيق المشركين حين نزلت :
الم غلبت الروم.
كما لا يلتفت إلى
ما ذكره أبو بكر الإسكافي في الردّ على الرسالة العثمانيّة للجاحظ من أنَّ أبا بكر كان قبل إسلامه مذكوراً ورئيساً معروفاً ،
يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار ، ويتذاكرون الأخبار ، ويشربون الخمر
، وقد سمع
__________________
دلائل النبوّة
وحجج الرسالة ، وسافر إلى البلدان ، ووصلت إليه الأخبار.
وأخرج الفاكهي في
كتاب مكّة بإسناده عن أبي القموص ، قال : شرب أبو بكر الخمر في الجاهليّة فأنشأ يقول :
تحيّي أُمَّ
بكرٍ بالسلامِ
|
|
وهل لي بعد قومك
من سلامِ
|
الأبيات
فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقام يجرُّ إزاره حتى دخل ، فتلقّاه عمر وكان مع أبي بكر ،
فلمّا نظر إلى وجهه محمرّا قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والله لا يلج لنا رأساً أبداً ، فكان أوّل من حرّمها على
نفسه.
وذكره الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول (ص ٦٦) فقال : هو
ممّا تنكره القلوب ، فكأنَّ الحكيم وجد الحديث دائراً سائراً في الألسن غير أنَّه
رأى القلوب تنكره.
وذكره ابن حجر في
الإصابة (٤ / ٢٢) فقال : واعتمد نفطويه على هذه الرواية فقال : شرب أبو بكر الخمر
قبل أن تُحرَّمَ ورثى قتلى بدر من المشركين.
وحديث أبي القموص
هذا أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٠٣) ، وفي
طبعة (٢١١) عن ابن بشار ، عن عبد الوهّاب ، عن عوف ، عن أبي القموص زيد
__________________
ابن عليّ قال : أنزل الله عزّ وجلّ في الخمر ثلاث مرّات ، فأوّل ما
أنزل قال الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك حتى
شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يهجران كلاماً لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله
عزّ وجلّ فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فشربها من شربها منهم وجعلوا يتّقونها عند الصلاة حتى
شربها فيما زعم أبو القموص رجلٌ فجعل ينوح على قتلى بدر :
تحيّي بالسلامة
أمّ عمرو
|
|
وهل لك بعد رهطك
من سلامِ
|
ذريني أصطبح
بكراً فإنِّي
|
|
رأيت الموتَ
نقَّب عن هشامِ
|
وودَّ بنو
المغيرةِ لو فدوهُ
|
|
بألفٍ من رجالٍ
أو سوامِ
|
كأنّي بالطويِّ
طويِّ بدرٍ
|
|
من الشيزى يكلّل
بالسنامِ
|
كأنّي بالطويِّ
طويِّ بدرٍ
|
|
من الفتيان
والحللِ الكرامِ
|
قال : فبلغ ذلك
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء فزعاً يجرُّ رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلمّا
عاينه الرجل فرفع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً كان بيده ليضربه قال : أعوذ بالله من غضب الله
ورسوله ، والله لا أطعمها أبداً فأنزل الله تحريمها : (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ
وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ). إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) . فقال عمر بن الخطّاب رضى الله عنه : انتهينا. انتهينا .
__________________
وأخرج البزّار عن
أنس بن مالك قال : كنت ساقي القوم تيناً وزبيباً خلطناهما جميعاً ، وكان في القوم
رجلٌ يقال له : أبو بكر ، فلمّا شرب قال :
أحيّي أُمّ بكر
بالسلامِ
|
|
وهل لك بعد قومك
من سلامِ
|
يحدّثُنا
الرسولُ بأنَّ سحتاً
|
|
وكيف حياة أصلٍ
أو هشامِ
|
فبينا نحن كذلك
والقوم يشربون إذ دخل علينا رجلٌ من المسلمين فقال : ما تصنعون؟ إنَّ الله تبارك
وتعالى قد نزّل تحريم الخمر. الحديث.
وقال ابن حجر في
فتح الباري (١٠ / ٣٠) ،
والعيني في عمدة القاري (٢٠ / ٨٤) : من
المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس : أنّ أبا بكر وعمر كانا فيهم. وهو منكر مع نظافة
سنده ، وما أظنّه إلاّ غلطاً.
وقد أخرج أبو نعيم
في الحلية في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت : حرّم أبو بكر الخمر
على نفسه فلم يشربها في جاهليّة ولا إسلام.
ويحتمل ـ إن كان
محفوظاً ـ أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم . ثمّ وجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس قال : كنت
__________________
ساقي القوم وكان
في القوم رجلٌ يقال له أبو بكر ، فلمّا شرب قال :
تحيّي بالسلامة أمّ بكر
فدخل علينا رجل من
المسلمين فقال : قد نزل تحريم الخمر. الحديث. وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب ؛
فظنَّ بعضهم أنَّه أبو بكر الصدّيق وليس كذلك ، ولكنّ قرينة ذكر عمر تدلُّ على عدم
الغلط في وصف الصدّيق فحصّلنا تسمية عشرة. انتهى.
قال الأميني : ترى
ابن حجر يتلعثم في ذكر الحديث ، فلا يدعه حبّه للخليفة أن يقبله ، ولا تخلّيه
صحّته أن يصفح عنه ، فجاء يستغرب أوّلاً ثمّ يستنكره مع الحكم بنظافة سنده ،
ويظنّه غلطاً تارةً ويراه محفوظاً أخرى ، وبالأخير يأخذه صدق النبأ وصحّته فيتخلّص
منه بالحكم بأنّ المذكور فيه هو أبو بكر الصدّيق بقرينة عمر ، فيعدُّهما من الأحد
عشر الذين كانوا يشربون الخمر في دار أبي طلحة.
وابن حجر يعلم
بأنّ ما أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة لا يقاوم هذا النبأ الثابت
المرويّ بالطرق الصحيحة عن رجال الصحاح ، ذكر أبو نعيم حديثه في الحلية (٧ / ١٦٠)
من طريق عبّاد بن زياد الساجي عن ابن عدي عن شعبة عن محمد ابن عبد الرحمن أبي
الرجال عن أُمّه عمرة عن عائشة. وقال : غريب من حديث شعبة لم نكتبه إلاّ من حديث
عباد بن أبي عدي. انتهى. وفيه :
عباد بن زياد
الساجي ، يتهم بالقدر. قال موسى بن هارون : تركت حديثه ، وقال ابن عدي : هو من أهل الكوفة الغالين في التشيّع له أحاديث مناكير
في الفضائل. تهذيب التهذيب (٥ / ٢٩٤).
__________________
وفيه : شعبة عن
محمد بن عبد الرحمن أبي الرجال. قال الخطيب : هذا وهمٌ شعبة لم يرو عن أبي الرجال
شيئاً ، وكذلك من قال فيه عن شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أُمّه عمرة. تهذيب
التهذيب (٩ / ٢٩٥).
وقال ابن حجر
والعيني : وقع عند عبد الرزّاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس : أنَّ
القوم كانوا أحد عشر رجلاً .
نادي الخمر هذا
كان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة بالمدينة المشرّفة في دار أبي طلحة زيد بن سهل ،
وكانت السقاية لأنس كما في صحيح البخاري كتاب التفسير في سورة المائدة في آية الخمر ، وفي صحيح
مسلم في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر ، وقال السيوطي في الدرّ المنثور (٢ / ٣٢١) : أخرجه
عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أنس.
وأخرجه أحمد في
المسند (٣ / ١٨١ ، ٢٢٧) ،
والطبري في تفسيره (٧ / ٢٤) ،
والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ٢٨٦ ، ٢٩٠) وابن كثير في تفسيره (٢ / ٩٣ ، ٩٤).
وكان عدّة الحضور
في ذلك النادي كما مرّت عن معمر وقتادة أحد عشر رجلاً ، ذكر منهم ابن حجر في فتح
الباري (١٠ / ٣٠) عشرة أنفس ، وقال كما مرّ
__________________
(ص ٩٨) : فحصّلنا
تسمية عشرة ، وهم :
١ ـ أبو بكر بن
أبي قحافة ، وكان يوم ذاك ابن ثمان وخمسين سنة.
٢ ـ عمر بن
الخطّاب ، وكان يوم ذاك ابن خمس وأربعين سنة.
٣ ـ أبو عبيدة
الجرّاح ، وكان ابن ثمان وأربعين سنة.
٤ ـ أبو طلحة زيد
بن سهل صاحب النادي ، وكان له أربع وأربعون سنة ، قال ابن الجوزي في الصفوة (١ / ١٩١ : توفي
سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة.
٥ ـ سهيل بن بيضاء
، توفّي بعد القضيّة وهو كبير السنّ.
٦ ـ أُبيّ بن كعب.
٧ ـ أبو دجانة
سماك بن خرشة.
٨ ـ أبو أيوب
الأنصاري.
٩ ـ أبو بكر بن
شغوب .
١٠ ـ أنس بن مالك
ساقي القوم ، كان يوم ذاك ابن ثمانية عشر عاماً على الأصحّ ، وفي صحيحة مسلم في
الأشربة في باب تحريم الخمر ، والبيهقي في السنن (٨ / ٢٩٠) عن أنس أنَّه قال :
إنّي لقائم أسقيهم وأنا أصغرهم.
وقد عزب عن ابن
حجر حادي عشر القوم وهو : معاذ بن جبل ، كما ورد في حديث قتادة عن أنس. أخرجه ابن
جرير في تفسيره (٧ / ٢٤) ،
والهيثمي في مجمع
__________________
الزوائد (٥ / ٥٢)
، والعيني في عمدة القاري (٨ / ٥٨٩) ،
والسيوطي في الدرّ المنثور (٢ / ٣٢١) نقلاً
عن ابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه ، والنووي في شرح مسلم هامش إرشاد القسطلاني (٨ / ٢٣٢).
وكان معاذ يوم ذاك
ابن ثلاث وعشرين سنة إذ توفّي سنة (١٨) وله (٣٣) عاماً كما ذكره ابن الجوزي في صفة
الصفوة .
وهؤلاء المذكورون
من الذين كانوا يشربون الخمر بعد نزول الآيتين فيها بتأويل فيهما كما مرّ في الجزء
السادس (ص ٢٥١) ، إلى أن نزل آية المائدة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) إلى قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) وكان ذلك في عام الفتح ، فلمّا رأوا غضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلموا من الآية الثالثة التحذير والوعيد انتهوا وقال عمر
: انتهينا ، انتهينا.
قال الآلوسي في
تفسيره (٢ / ١١٥) : شربها كبار الصحابة بعد نزولها ـ يعني آية الخمر في البقرة ـ وقالوا
: إنّما نشرب ما ينفعنا ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة. انتهى.
وأخرج ابن أبي
حاتم من حديث أنس أنّه قال : كنّا نشرب الخمر فأُنزلت : (يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية. فقلنا : نشرب منها ما ينفعنا. فأُنزلت في المائدة :
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) ، الآية. فقالوا : اللهمّ قد انتهينا .
__________________
وأخرج عبد بن حميد
عن عطاء أنّه قال : أوّل ما نزل في تحريم الخمر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها التي فيها. وقال
آخرون : لا خير في شيء فيه إثم ، ثمّ نزل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية ، فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا. وقال
آخرون : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين. فنزلت (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. فانتهوا .
ولتعدّد آيات
الخمر واختلاف السلف فيها وتأويل جمع منهم آيتي البقرة والنساء من تلكم الآيات وقع
الخلاف في تاريخ حرمتها على أقوال :
١ ـ الأخذ بما
أخرجه الطبراني من طريق معاذ بن جبل ؛ من أنّ أوّل ما نهى عنه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حين بعث : شرب الخمر وملاحاة الرجال فتحريم الخمر كان
في أوليات الهجرة إن لم تكن في أوليات البعثة ، ويساعده ما صحّ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر ويبرمه النظر في آيات الخمر ؛ فالآية الأولى منها من سورة
البقرة ، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، والآية الثانية في سورة النساء وقد نزلت في أوائل الهجرة
.
ولعلّ هذا رأي كلّ
من رأى حرمة الخمر بآية البقرة ، قالت عائشة : لمّا نزلت
__________________
سورة البقرة نزل
فيها تحريم الخمر ، فنهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك ، وقد نزلت سورة البقرة بعد زواج عائشة كما مرَّ في الجزء
السادس (ص ١٩٧).
واختار الجصّاص حرمة الخمر بآية البقرة كما أسلفنا كلامه في الجزء السادس
صفحة (٢٥٤) ، وقال القرطبي في تفسيره (٣ / ٦٠) : قال
قوم من أهل النظر : حرّمت الخمر بهذه الآية يعني التي في سورة البقرة ، وقال
الرازي في تفسيره (٢ / ٢٢٩) : إنَّ
هذه الآية ـ يعني آية البقرة ـ دالّة على تحريم شرب الخمر. وذكر في (ص ٢٣١) في وجه
دلالتها عليه وجوهاً.
٢ ـ رأى البلاذري
أنّه كان سنة أربع من الهجرة كما في الإمتاع للمقريزي (ص ١٩٣) ، وذكر ابن إسحاق :
أنّه كان في وقعة بني النضير سنة أربع على الراجح ، وقال ابن هشام في سيرته (٢ / ١٩٢) : نزل
ببني النضير وذلك في شهر ربيع الأوّل ـ سنة أربع ـ فحاصرهم فيها ستّ ليال ، ونزل
تحريم الخمر. وذكره ابن سيّد الناس في عيون الأثر (٢ / ٤٨).
ويؤيّد هذا الرأي
ما أخرجه ابن مردويه عن جابر أنّه قال : حرّمت الخمر بعد أُحد ، وقد وقعت غزوة أُحد في سنة ثلاث فبعدها تكون سنة أربع
تقريباً.
٣ ـ جزم الدمياطي
على أنّ تحريم الخمركان في سنة الحديبيّة سنة ستّ كما في
__________________
فتح الباري (١٠ /
٢٤) وعمدة القاري (١٠ / ٨٢).
٤ ـ حرمتها في سنة
الفتح عام ثمانية من الهجرة يوم الندوة المذكورة المنعقدة في دار أبي طلحة بآية
المائدة التي فيها الإرهاب والتحذير ، وبها كفَّ عمر ومن كان معه في تلك الندوة عن
الشرب وقال : انتهينا ، انتهينا.
وهذا القول غير
مدعوم بحجّة ، وليس إلاّ لتصحيح شرب أولئك الرجال من الصحابة وجعله قبل التحريم ،
فترى مثل ابن حجر لا يحكم به حكماً باتّا بل يستظهره من حديث أحمد ، قال في فتح الباري (٨ / ٢٧٤) : الذي
يظهر أنّ تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة
، قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال : كان لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه بمكة عام الفتح براوية خمر
يهديها إليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أبا فلان أما علمت أنَّ الله حرّمها؟ فأقبل الرجل على
غلامه فقال : اذهب فبعها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أبا فلان بما ذا أمرته؟ قال : أمرته أن يبيعها ، قال
: إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها. فأمر بها فأُفرغت في البطحاء.
وقصارى ما في هذا
الحديث أنّ تحريم الخمر بلغ الرجل في عام الفتح لا أنَّها حُرّمت فيه ، لأنّ الرجل
كان في منتأىً عن مستوى تبليغ الأحكام ، متخبّطاً بين أعراب البوادي ، غير عارف
حتى بأصول المراودة والتحابب ، ويشهد لذلك إهداؤه الخمر لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنَّها على فرض عدم حرمتها ليست ممّا يُهدى إلى مثله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكن الرجل كان من دهماء الناس ، وجرى على ما هو المطّرد
بين الرعرعة والساقة.
__________________
الخليفة في
الإسلام :
وأمّا هو ـ أبو
بكر ـ في الإسلام فلم نعهد له نبوغاً في علم ، أو تقدّماً في جهاد ، أو تبرّزاً في
الأخلاق ، أو تهالكاً في العبادة ، أو ثباتاً على مبدأ.
أمّا نبوغه في علم
التفسير فلم يؤثر عنه في هذا العلم شيء يُحفل به ، فدونك كتب التفسير والحديث فلا
تكاد تجد فيها عنه ما يُروي غُلّة صادٍ ، أو يُنجع طلبة طالب.
نعم ؛ يروى عنه
أنَّه شارك صاحبه ـ عمر بن الخطّاب ـ في عدم المعرفة لمعنى الأبّ الذي عرفه كلّ عربيّ صميم حتى أعراب البادية ، وليس من
البدع أن يعرفه حتى الساقة من الناس ؛ فإنّه لا يعدوه أن يكون لدة بقيّة الكلمات
العربيّة التي لا تزال العرب تلهج بها في كلّ حلّ ومرتحل ، ولا هو الدخيل حتى يُعذر فيه الجاهل به ، ولا من شواذّ الكلم التي قلّما
تتعاطاه الجامعة العربيّة حتى يشذّ عرفانه عن بعضهم.
وإن تعجب فعجب
اعتذار من جنح إليه بأنّه كان يلتزم الحائطة في تفسير القرآن ، ولذلك تورّع عن
الإفاضة في معنى الأبّ ، لكن عرف من عرف أنّ الحائطة إنّما تجب في بيان مغازي
القرآن الكريم وتعيين إرادته ، وتبيين مجمله ، وتأويل
__________________
متشابهه ، وما
يجري مجرى ذلك ممّا يحظر في الدين التسرّع إليه من دون تثبّت وتوقيف ، وأمّا معاني
ألفاظه العربيّة للعريق في لغة الضاد ، فأيّ حائطة تضرب على يده عن أن يفهمها وهو
يعرفها بطبعه وجبلّته؟
وهب أنّ الرجل لم
يُحِط خُبراً بلغة قومه فهلاّ تروّى في الذكر الحكيم في ذيل الآية الكريمة من قوله
سبحانه : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) بياناً للفاكهة
والأبّ؟ ليعلم أنّه سبحانه وتعالى امتنّ على الناس بالفاكهة ليأكلوها ، وبالأبّ
لترعاه أنعامهم ، فتلك فاكهة ، وهذا العشب.
أخرج أبو القاسم
البغوي عن ابن أبي مليكة قال : سُئل أبو بكر عن آيةٍ فقال : أيّ أرض تسعني ـ أو
أيّ سماء تظلّني ـ إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله؟
وأخرج أبو عبيدة
عن إبراهيم التيمي قال : سُئل أبو بكر عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً
وَأَبًّا) فقال : أيّ سماء تظلّني ـ أو أيّ أرض تقلّني ـ إن قلت في
كتاب الله ما لا أعلم؟
وفي لفظ القرطبي :
أيّ سماء تظلّني؟ وأي أرض تقلّني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع؟ إذا قلت في حرف من كتاب
الله بغير ما أراد تبارك وتعالى.
ذكره القرطبي في تفسيره (١ / ٢٩) ، ابن تيميّة في مقدمة أصول
التفسير (ص ٣٠) ، الزمخشري في الكشّاف (٣ / ٢٥٣) ، ابن كثير في تفسيره (١ / ٥)
وصحّحه في (ص ٦) ، ابن القيّم في أعلام الموقّعين (ص ٢٩) وصحّحه ، الخازن في
تفسيره (٤ / ٣٧٤) ،
__________________
أبو السعود في
تفسيره هامش الرازي (ص ٣٨٩) ، السيوطي في الدرّ المنثور (٦ / ٣١٧) نقلاً عن أبي
عبيد في فضائله وعبد بن حميد ، ابن حجر في فتح الباري (١٣ / ٢٣٠) ، وأوعز إليه ابن
جزي الكلبي في تفسيره (٤ / ١٨٠).
الكلالة :
وتجد الخليفة على
شاكلة صنوه في عدم العلم بالكلالة النازلة في آية الصيف آخر سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الآية.
أخرج أئمّة الحديث
بإسناد صحيح رجاله ثقات عن الشعبي قال : سُئل أبو بكر رضى الله عنه عن الكلالة؟
فقال : إنِّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأ فمنّي ومن
الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف
عمر رضى الله عنه قال : إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر.
أخرجه سعيد بن منصور ، عبد الرزّاق ، ابن أبي شيبة ، الدارمي في
سننه (٢ / ٣٦٥) ، وابن جرير الطبري في تفسيره (٦ / ٣٠) ، ابن المنذر ، البيهقي في
السنن الكبرى (٦ / ٢٢٣) ، وحكى عنهم السيوطي في الجامع الكبير كما في ترتيبه (٦ /
٢٠) ، وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ٤٦٠) ، والخازن في تفسيره (١ / ٣٦٧) ، وابن
القيِّم في أعلام الموقّعين (ص ٢٩).
قال
الأميني : هذا رأيه الثاني
وكان أوّلاً يرى أنّ الكلالة من لا ولد له خاصّة ، وكان يشاركه في رأيه هذا عمر بن
الخطّاب ثمّ رجعا عنه إلى ما سمعت ثمّ اختلفا
__________________
فيها ، قال ابن عبّاس
كنت آخر الناس عهداً بعمر بن الخطّاب قال : اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة والقول
ما قلت ، وفي صحيحة البيهقي والحاكم والذهبي وابن كثير عن ابن عبّاس قال : كنت آخر الناس عهداً بعمر فسمعته يقول
: القول ما قلت. قلت : وما قلت؟ قال : قلت : الكلالة ما لا ولد له.
هذا القول كان من
عمر لمّا طعن بعد قوله لمّا استخلف : إنّي لاستحيي أن أُخالف فيه أبا بكر كما مرّ.
وبعد قوله : أتى عليّ زمان لا أدري ما الكلالة ، وإذا الكلالة من لا أب له ولا ولد
، وبعد هذه كلّها قال ما قال وهو على ما يقول بصير.
أنا لا أدري أين
ولّت تلك الحائطة التي التزمها الخليفة الأوّل في معنى الأبّ لتلك الحدّة والشدّة؟
وأيّ سماء أظلّته؟ وأيّ أرض أقلّته؟ وأين ذهب؟ وكيف صنع لمّا قال في دين الله برأي
لا يعرف غيّه من رشده ، ولا يعلمه أمن الله أم منه ومن الشيطان؟ وكيف خفيت عليه
آية الصيف؟ وقد رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها الكفاية في عرفان الكلالة كما مرّ (٦ / ١٢٧) ، وكيف
عزب عنه قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ولِم لم يسأل ولم يتعلّم ولم يعبأ بأهل الذكر وهو يعرفه لا
محالة؟ فكأنّ الأحكام ليست بتوقيفيّة ، وكأنَّها منوطة بالحظّ والنصيب ولكلّ إنسان
ما رأى ، ولو صدقت هذه الأحلام فيسع كلّ امرئ أن يُفتي برأيه فيما يُسأل عنه من
الكتاب والسنّة ويقول : إن كان صواباً فمن الله ، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان.
نعم هذا الإفتاء
بالرأي يفتقر إلى جرأة على الله وعلى رسوله ، وتلك لا تتأتّى
__________________
لأيّ أحد فتخصّ لا
محالة بجماعة دون أخرى ، وكأنّ هذا هو معنى الاجتهاد عند القوم لا استنباط الأحكام
من أدلّتها التفصيليّة من الكتاب والسنّة. ومن هنا يرون نظراء عبد الرحمن بن ملجم
قاتل مولانا أمير المؤمنين .
وأبي الغادية قاتل
الصحابيِّ العظيم عمّار بن ياسر سلام الله عليه .
ومعاوية بن أبي
سفيان قاتل آلاف من الأبرياء والأزكياء .
وعمرو بن النابغة
، العاصي ابن العاصي .
وخالد بن الوليد ،
قاتل مالك ظلماً والزاني بامرأته .
وطلحة والزبير ، الخارجين على الإمام الحقّ الثابت إمامته بالنصّ
والاختيار. ويزيد الخمور والفجور صاحب الطامّات والصحائف السوداء .
مجتهدين في دين
الله متأوّلين في تلكم الآراء الشاذّة عن حكم الإسلام وشرعة الحقّ ، مأجورين في
تلك المظالم العادية. وقال ابن حجر في الإصابة (٤ / ١٥١) : والظنّ بالصحابة في تلك
الحروب أنّهم كانوا فيها متأوّلين وللمجتهد المخطئ أجر ، وإذا ثبت هذا في حقّ آحاد
الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأَولى. انتهى.
مرحباً مرحباً
بهذا الدين ، وبخٍ بخٍ ما أكثر المجتهدين من أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى
__________________
أصبحت غوغاء الشام
، وطغام الأمّة ، وحثالة الأعراب ، وأجلاف الأحزاب ، وأبناء الطلقاء مجتهدين
متأوّلين.
وزهٍ زهٍ بأولئك
المتحلّين بأبراد الاجتهاد جراثيم الفساد ، قتلة الصفوة الأبرار ، الهاجمين على
ناموس الإسلام ، وقدس صاحب الرسالة ، الخارجين عن طوع الكتاب والسنّة ، الفئة
الباغية الطاغية ، المدرّبين بالشرّ والفساد وبغض العترة الطاهرة تحت راية الطليق
ابن الطليق ، اللعين ابن اللعين بلسان النبيّ الأعظم ، صدق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله : «آفة الدين ثلاثة : فقيه فاجر ، وإمام جائر ،
ومجتهد جاهل» .
وحسب الإسلام
عاراً وشناراً أولئك الأعلام أصحاب هذه الآراء المضلّة والأقلام المسمومة التي
تنزّه ساحة المجرمين عن دنس الفجور والنفاق ، وتجعل المحسن والمسيء والمبطل والمحق
، والطيّب والخبيث ، عكمَي بعير ، وتضلّ الأمّة عن رشدها بأمثال هذه الكلم التافهة ،
والدعاوى الفارغة ، والآراء الساقطة ، وتصغّر في عين المجتمع الديني تلكم الجنايات
العظيمة على الله وعلى رسوله وكتابه وسنّته وخليفته وعترته ومواليهم. (كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) . (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .
وأوّل من فتح باب
التأويل والاجتهاد ، وقدّس ساحة المجرمين بذينك ، وحابى رجال الجرائم والمعرّات
بهما هو الخليفة الأوّل ، فقد نزّه بهذا العذر المفتعل ذيل خالد ابن الوليد عن دنس
آثامه الخطيرة ، ودرأ عنه الحدّ بذلك كما سنوقفك على تفصيله إن شاء الله تعالى.
__________________
هذا أنموذج من
تقدّم الخليفة في علم التفسير على قلّة ما روي عنه في ذلك. قال الحافظ جلال الدين
السيوطي في الإتقان (٢ / ٣٢٨) :
اشتهر بالتفسير من
الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وأُبيّ بن كعب ، وزيد
بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير. أمّا الخلفاء فأكثر من روي
عنه منهم عليّ بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة نزرة جدّا ، وكان السبب في ذلك
تقدّم وفاتهم ، كما أنّ ذلك هو السبب في قلّة رواية أبي بكر رضى الله عنه للحديث ،
ولا أحفظ عن أبي بكر رضى الله عنه في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جدّا لا تكاد
تجاوز العشرة.
وأمّا عليّ فروي
عنه الكثير ، وقد روى معمر ، عن وهب بن عبد الله ، عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّا
يخطب وهو يقول : «سلوني فو الله لا تسألون عن شيء إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب
الله ، فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في
جبل».
وأخرج أبو نعيم في
الحلية عن ابن مسعود قال : إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف ما
منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.
وأخرج أيضاً من طريق أبي بكر بن عيّاش ، عن نصير بن سليمان
الأحمسي ، عن أبيه ، عن عليّ قال : «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت
وأين أُنزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً».
قال
الأميني : ما هذا التهافت
في كلام السيوطي هذا؟ ألا مسائل الرجل عن أنّ
__________________
الذي لم يجد له هو
نفسه وهو ذلك المتتبّع الضليع عشرة أحاديث في علم التفسير ، كيف عدّه ممّن اشتهر
بالتفسير من الصحابة؟ نعم راقه ألاّ يفرّق بينه وبين مولانا أمير المؤمنين وقد روى
فيه ما روى ذاهلاً عن قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) .
تقدّم الخليفة في
السنّة :
أمّا تقدّمه في السنّة
فكلّ ما أثبته عنه إمام الحنابلة أحمد في المسند (١ / ٢ ـ ١٤)
ثمانون حديثاً ، ويربو المتكرّر منها على العشرين ، فلم يصف منها إلاّ ما يقرب
الستّين حديثاً ، وقد التقط ما في مسنده من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ،
وكان يحفظ ألف ألف حديث .
وجمع ابن كثير بعد
جهود جبّارة أحاديثه في اثنين وسبعين حديثاً وسمّى مجموعه : مسند الصدّيق .
واستدرك ما جمعه
ابن كثير جلال الدين السيوطي بعد تصعيد وتصويب ومع تضلّع وإحاطة بالحديث ، فأنهى
أحاديثه إلى مائة وأربعة ، وذكرها برمّتها في تاريخ الخلفاء (ص ٥٩ ـ ٦٤).
وقد يروى أنّ له
مائة واثنين وأربعين حديثاً اتّفق الشيخان على ستّة أحاديث
__________________
منها. وانفرد
البخاري بأحد عشر ، ومسلم بواحد .
وفي وسع الباحث
المناقشة في غير واحد من تلك الأحاديث سنداً أو متناً ، فإنّ من جملتها ما ليس
بحديث وإنّما هو قول قاله كقوله للحسن السبط سلام الله عليه : بأبي شبيه بالنبيّ
ليس شبيهاً بعليّ.
وقوله : شاور رسول
الله في أمر الحرب.
وقوله : إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهدى جملاً لأبي جهل.
ومنها ما هو محكوم
عليه بالوضع ، أو يخالف الكتاب والسنّة ، ويكذّبه العقل والمنطق والطبيعة مثل قوله
:
١ ـ لو لم أُبعث
فيكم لبُعث عمر.
٢ ـ وقوله : ما
طلعت الشمس على رجل خير من عمر.
٣ ـ وقوله : إنّ
الميت يُنضح عليه الحميم ببكاء الحيّ.
٤ ـ وقوله : إنّما
حرّ جهنّم على أمّتي مثل الحمّام.
أمّا الأوّل فله
عدّة طرق لا يصحّ شيء منها. الطريق الأوّل لابن عدي وفي إسناده
١ ـ زكريّا بن
يحيى الوكّار. أحد الكذّابين الكبار ، مرّت ترجمته في سلسلة الكذّابين في الجزء
الخامس (ص ٢٣٠).
٢ ـ بشر بن بكر.
قال الأزدي : منكر الحديث ولا يعرف. لسان الميزان (٢ / ٢٠).
__________________
٣ ـ أبو بكر بن
عبد الله بن أبي مريم الغسّاني. قال أحمد : ضعيف ، كان عيسى بن يونس لا يرضاه ، وعن أبي داود عن
أحمد : إنّه ليس بشيء. وقال أبو حاتم : سألت ابن معين
عنه فضعّفه. وقال أبو زرعة : ضعيف منكر الحديث. وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث طرقه
لصوص فأخذوا متاعه فاختلط . وقال الجوزقاني : ليس بالقوي. وقال النسائي : ضعيف. وقال ابن سعد : كان كثير الحديث ضعيفاً. وقال الدارقطني : متروك .
الطريق الثاني
لابن عدي أيضاً ، وفي إسناده :
١ ـ مصعب بن سعيد
، أبو خيثمة المصّيصي. قال ابن عدي : يحدّث عن الثقات بالمناكير ويصحّف. وقال : والضعف على
رواياته بيّن. وقال ابن حبّان : كان مدلّساً ، وقال صالح جزرة : شيخ ضرير لا يدري ما
يقول. وذكر الذهبي له أحاديث فقال : ما هذه إلاّ مناكير وبلايا .
٢ ـ عبد الله بن
واقد. قال ابن عدي والجوزقاني والنسائي : متروك الحديث.
__________________
وقال غيرهما : ليس
بشيء. وقال الأزدي : عنده مناكير. وقال أحمد : أظنّه كان يدلّس. وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث لا يحدّث
عنه. وقال البخاري : تركوه ، منكر الحديث. وقال ابن حبّان : وقع المناكير في حديثه فلا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال
صالح جزرة ضعيف مهين. وقال أبو أحمد الحاكم : حديثه ليس بالقائم .
٣ ـ مشرح بن عاهان
. قال ابن عدي وابن حبّان : لا يحتجّ به. وقال غيرهما : يروي عن عقبة مناكير لا
يتابع عليهما. وقال آخرون : الصواب ترك ما انفرد به .
أورده بهذين
الطريقين ابن الجوزي في الموضوعات فقال : هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أمّا الأوّل : فإنّ زكريّا بن يحيى كان من الكذّابين.
قال ابن عدي : كان يضع الحديث. وأمّا الثاني : فقال أحمد ويحيى : عبد الله بن واقد ليس بشيء. وقال النسائي : متروك. وقال
ابن حبّان : انقلبت على مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به. انتهى .
__________________
الطريق الثالث :
لأبي العبّاس الزوزني في كتاب شجرة العقل بلفظ : لو لم أُبعث لبعثت يا عمر ، وفي
إسناده :
١ ـ عبد الله بن
واقد. وقد مرّ في الطريق الثاني.
٢ ـ راشد بن سعد
الحمصي ، ذكر الحاكم أنّ الدارقطني ضعّفه ، وكذا ضعّفه ابن حزم ، وذكر البخاري أنّه شهد صفّين مع معاوية ، فالرجل من الفئة الباغية بنصّ من النبيّ الأعظم ، وذكره
الصغاني فقال : موضوع. كما في كشف الخفاء (٢ / ١٦٣).
الطريق الرابع
للديلمي : عن أبي هريرة بلفظ : لو لم أُبعث فيكم لبعث عمر. أيّد
الله عمر بملكين يوفّقانه ويسدّدانه ، فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً.
في إسناده : إسحاق
بن نجيح الملطي أبو صالح الأزدي. قال أحمد : من أكذب الناس. وقال ابن معين : كذّاب عدوّ الله رجل سوء خبيث. كان ببغداد قوم يضعون
الحديث منهم إسحاق الملطي. وقال ابن أبي مريم عنه : من المعروفين بالكذب ووضع
الحديث. وقال عليّ بن المديني : ليس بشيء وضعّفه ، روى عجائب. وقال عمر بن علي :
كذّاب كان يضع الحديث. وقال الجوزقاني : غير ثقة ولا من أوعية الأمانة ، وقال :
كذّاب وضّاع لا يجوز قبول خبره ولا الاحتجاج بحديثه ويجب بيان أمره. وقال الجهضمي
والبخاري : منكر الحديث. وقال النسائي : كذّاب متروك الحديث.
__________________
وقال ابن عدي : أحاديثه موضوعات وضعها هو وعامّة ما أتى عن ابن جريج
بكلّ منكر ووضعه عليه ، وهو بيّن الأمر في الضعفاء ، وهو ممّن يضع الحديث. وقال
ابن حبّان : دجّال من الدجاجلة يضع الحديث صراحاً. وقال البرقي : نسب
إلى الكذب. وقال أبو سعيد النقّاش : مشهور بوضع الحديث. وقال ابن طاهر : دجّال
كذّاب. وقال ابن الجوزي : أجمعوا على أنّه كان يضع الحديث .
قال الديلمي بعد
ذكر الحديث بالطريق المذكور : وتابعه راشد بن سعد عن المقدام بن معدي كرب عن أبي
بكر الصدّيق والله أعلم.
قال الأميني :
عرفت في الطريق الثالث ضعف راشد ، وأنَّ الصغاني حكم على حديثه هذا بالوضع ،
وأقرّه العجلوني وزيّفه في كشف الخفاء (٢ / ١٥٤ ، ١٦٣). وذكره السيوطي في اللآلئ
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (١ / ٣٠٢) غير أنّه عدّه بهذا الطريق الوعر في
تاريخ الخلفاء من أحاديث أبي بكر ، ولا تخفى عليه تراجم هؤلاء الرجال
أمثال إسحاق الملطي. نعم ، راقه أن يكثّر عدد أحاديث الخليفة ولو بمثل هذا ، وقد
حذف الأسانيد منها حتى لا يقف القارئ على ما فيها من الوضع والاختلاق والله من
ورائه حسيب.
أمّا الحديث
الثاني :
فأخرجه الحاكم في
المستدرك (٣ / ٩٠) بإسناده
عن عبد الله بن داود الواسطي التمّار عن عبد الرحمن ابن أخي محمد بن المنكدر ، عن
محمد بن المنكدر ، عن جابر رضى الله عنه
__________________
قال : قال عمر بن
الخطّاب ذات يوم لأبي بكر الصدّيق : يا خير الناس بعد رسول الله ، فقال أبو بكر :
أما إنّك إن قلت ذلك سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر.
عقّبه الذهبي في
تلخيص المستدرك فقال : قلت : عبد الله ضعّفوه ، وعبد الرحمن متكلَّم فيه ، والحديث
شبه موضوع. وقال في ميزان الاعتدال (٢ / ١٢٣) : رواه
عبد الله بن داود التمّار وهو هالك ، عن عبد الرحمن ابن أخي محمد [ بن ] المنكدر
لا يكاد يُعرف ، ولا يتابع على حديثه ، وقال الترمذي : ليس إسناده بذلك.
قال
الأميني : أمّا عبد الله بن
داود التمّار فقال البخاري : فيه نظر. وقال أبو حاتم ليس بقويّ ، في حديثه مناكير. وقال الحاكم أبو أحمد : ليس
بالمتين عندهم ، وقال النسائي : ضعيف. وقال ابن حبّان : منكر الحديث جدّا يروي المناكير عن المشاهير ، لا يجوز
الاحتجاج بروايته. وقال الدارقطني : ضعيف .
وأمّا عبد الرحمن
فقال يحيى بن معين : ما أعرف عبد الرحمن. فقرأه إبراهيم بن الجنيد الحديث ، فقال
يحيى : ما أعرف عبد الرحمن. وأنكر الحديث ولم يعرفه .
جاء العلاّمة
الحريفيش في القرن الثامن وأتى في كتابه الروض الفائق (ص ٣٨٨)
__________________
بحديث مختلق في
فضيلة مولانا أمير المؤمنين وأبي بكر وجعل هذه الرواية في فضل أبي بكر عن لسان
عليّ عليهالسلام ، قال : روى أبو هريرة : أنّ أبا بكر الصدّيق وعليّ بن أبي
طالب قدما يوماً إلى حجرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : عليّ لأبي بكر : تقدّم فكن أوّل قارع يقرع الباب
وألحّ عليه ، فقال أبو بكر : تقدّم أنت يا عليّ ، فقال عليّ : ما كنت بالذي يتقدّم
على رجل سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول في حقّه : ما طلعت الشمس ولا غربت من بعدي على رجل
أفضل من أبي بكر الصدّيق. فقال أبو بكر : ما كنت بالذي يتقدّم على رجل قال في حقّه
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أعطيت خير النساء لخير الرجال. إلى آخره. وفيه مناقب ستّ
لأبي بكر ، على لسان عليّ وكذلك لعليّ على لسان أبي بكر لم يذكر السيوطي شيئاً
منها في عدّ أحاديث أبي بكر مع اهتمامه بإكثار عددها وذلك لبداهة الكذب فيه ،
وركّة لفظه ، ووضوح الاختلاق في معانيه وألفاظه ، وظهور التهافت بين جمله كما ترى.
نعم لكلّ من الوضّاعين في وضع الحديث ذوق ، ولكلّ واحد منهم طريقة وسليقة ، وليس
أمرهم سُلكى .
أمّا الحديث
الثالث :
فمن المنكر الواضح
وهو لِدة ما سبق عن عمر في الجزء السادس صفحة (١٦٢) من قوله : إنّ الميّت يعذّب
ببكاء الحيِّ. وقد أنكرته عليه عائشة ، وهو مخالف للكتاب المجيد حيث يقول : (وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وأمثالها ، وقد فصّلنا القول فيه تفصيلاً في الجزء
السابق فراجع (ص ١٥٩ ـ ١٦٧).
ومخالف للعدل ؛
فإنّ تعذيب أيّ أحد لما اجترحه غيره من سيّئة ـ بعد تسليم كون البكاء عليه سيّئة ـ
يرفضه ناموس العدل الإلهي ، وتلفظه العقول السليمة ، ويتوجّه إلى قائله اللوم من
كلّ ذي مسكة ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيراً.
__________________
أمّا الحديث
الرابع ـ إنما حرّ جهنم على أمّتي مثل الحمّام :
فإنّه أشبه شيء
بمخاريق المعتوهين ، أو من يريد تحطيماً من عظمة أمر المولى سبحانه ، أو إغراءً
لبسطاء الأمّة على اقتحام الجرائر ، بحسبان أنّ حرّ الجحيم الشديد الذي أوقده
المنتقم الجبّار للعصاة عامّة لا يصيب هذه الأمّة ، وإنّما هو للأمم السابقة ومن
لم يعتنق الإسلام من الموجودين ، وأنت إذا تأمّلت في : (نارُ
اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) ، (الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ، (يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) ، (وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ) ، (وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) ، (تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) ، (كَلاَّ إِنَّها لَظى
* نَزَّاعَةً لِلشَّوى) ، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) ، (وَما أَدْراكَ ما
سَقَرُ* لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ* لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ* عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، قالوا (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) ، (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ
الْحَمِيمِ) .
__________________
أو تأمّلت فيما
هدّد به المولى سبحانه المتثاقلين عن النفر للجهاد في الحرِّ بقوله : (قُلْ
نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) ومن يأكل أموال اليتامى بقوله : (إِنَّما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) إلى كثير من أمثال هذه لا ترتاب في أنّ الأمم كلّها
بالنسبة إليها شرع سواء ، بل إنّ توجيه تلكم الخطابات إلى الأمّة المرحومة المعنيّة
بالتهذيب وإيقافها عن المعصية بالتهديد أولى من توجيهها إلى الأمم البائدة التي
جرى عليها ما جرى من عاقبة طاعة ، أو مغبّة عصيان ، فذهبوا رهائن أعمالهم ، وبه
يتمّ اللطف ، وتحسن التربية ، وهو الذي كان يُبكي الصالح ، ويُفجع المتّقين ،
ويدرّ عبرات الأولياء ، ويجعل سيّدهم أمير المؤمنين يتململ في جنح الليل البهيم
تململ السليم قابضاً على لحيته ، يبكي بكاء الحزين وهو يقول :
«يا ربّنا! يا
ربّنا! ـ يتضرّع إليه ـ ثمّ يقول للدنيا : إليّ تغرّرت؟ إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات
، غرّي غيري قد بتتُّكِ ثلاثاً ، فعمركِ قصير ، ومجلسكِ حقير ، وخطركِ يسير ، آهٍ
آهٍ من قلّة الزاد ، وبُعد السفر ، ووحشة الطريق» .
ثمّ أي مشابهة بين
ذلك اللهب المصطلم وبين الحمّام الذي لا يكون الحرّ فيه إلاّ صحيّا ، تُزاح به
الأوساخ ، وتعرق به الأبدان ، وترفع به الأتعاب ، وترتاح به الأجسام؟ وهل يهدّد بمثله
عصاة البشر الذي خُلق ظلوماً جهولاً جموحاً ، البشر الذي هذا عقله ورشده وحديثه؟
__________________
غاية جهد الباحث :
هذه غاية جهد
الباحث عن علم الخليفة بالسنّة وهذه سعة اطّلاعه عليها ، فنحن إذا قسنا مجموع ما
ورد عن الخليفة من الصحيح والموضوع في التفسير والأحكام والفوائد من المائة وأربعة
أحاديث أو المائة واثنين وأربعين حديثاً إلى ما جاء عن النبيّ الأقدس من السنّة
الشريفة لتجدها كقطرة من بحر لجِّي ، لا تقام بها قائمة للإسلام ، ولا تدعم بها
أيّ دعامة للدين ، ولا تُروى بها غلّة صادٍ ، ولا تنحلّ بها عقدة أيّة مشكلة. هذا
أبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن العبّاس ، وعبد الله
بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وو ويروون آلافاً من السنّة النبويّة ،
فقد أخرج تقيّ بن مخلد في مسنده من حديث أبي هريرة فحسب خمسة آلاف وثلاثمائة حديث
وكسراً ، وأبو هريرة لم يصحب النبيّ إلاّ ثلاث سنين.
وهذا أحمد بن
الفرات كتب ألف الف وخمسمائة ألف حديث ، وانتخب منها ثلاثمائة ألف في التفسير
والأحكام والفوائد. خلاصة التهذيب (ص ٩).
وهذا حرملة بن
يحيى أبو حفص المصري صاحب الشافعي يروي عن طريق ابن وهب فحسب مائة ألف حديث. خلاصة
التهذيب (ص ٦٣).
وهذا أبو بكر
الباغندي يجيب عن ثلاثمائة ألف مسألة في حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. تاريخ بغداد (٣ / ٢١٠).
__________________
وهذا الحافظ روح
بن عبادة القيسي له أكثر من مائة ألف حديث. ميزان الاعتدال (١ / ٣٤٢).
وهذا الحافظ مسلم
صاحب الصحيح عنده ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. طبقات الحفّاظ (٢ / ١٥١).
وهذا الحافظ أبو
محمد عبدان الأهوازي يحفظ مائة ألف حديث. تاريخ ابن عساكر (٧ / ٢٨٨).
وهذا الحافظ أبو
بكر بن الأنباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن ، وكان يحفظ مائة وعشرين
تفسيراًبأسانيدها. شذرات الذهب (٢ / ٣١٦).
وهذا الحافظ أبو
زرعة حفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد ، ويقال : سبعمائة ألف
حديث. تاريخ ابن كثير (١١ / ٣٧) ، تهذيب
التهذيب (٧ / ٣٣).
وهذا الحافظ ابن
عقدة يجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت عليهمالسلام وبني هاشم حدّث بها عنه الدارقطني. تذكرة الحفّاظ (٣ / ٥٦).
وهذا الحافظ أبو
العبّاس أحمد بن منصور الشيرازي كتب عن الطبراني
__________________
ثلاثمائة ألف
حديث. تذكرة الحفّاظ (٣ / ١٢٢).
وهذا الحافظ أبو
داود السجستاني كتب عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم خمسمائة ألف حديث. تذكرة الحفّاظ (٢ / ١٥٤).
وهذا عبد الله ابن
إمام الحنابلة أحمد سمع من أبيه مائة ألف وبضعة أحاديث. طبقات الحفّاظ (٢ / ٢١٤).
وهذا ثعلب
البغدادي سمع من القواريري مائة ألف حديث. طبقات الحفّاظ (٢ / ٢١٤).
وهذا أبو داود
الطيالسي يملي من حفظه مائة ألف حديث. شذرات الذهب (٢ / ١٢).
وهذا أبو بكر
الجعابي يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها ويذاكر ستمائة ألف حديث ، ويحفظ
من المراسيل والمقاطيع والخطابات قريباً من ذلك. تاريخ ابن كثير (١١ / ٢٦١).
وهذا إمام
الحنابلة أحمد عنده أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً. راجع آخر الجزء الأوّل من مسنده
.
__________________
وهذا الحافظ أبو
عبد الله الختّلي يحدّث من حفظه بخمسين ألف حديث. تاريخ ابن كثير (١١ / ٢١٧).
وهذا يحيى بن يمان
العجلي يحفظ عن سفيان أربعة آلاف حديث في التفسير فقط. تاريخ بغداد (١٤ / ١٢٢).
وهذا الحافظ ابن
أبي عاصم يملي من ظهر قلبه خمسين ألف حديث بعد ما ذهبت كتبه. تذكرة الحفّاظ (٢ / ١٩٤).
وهذا الحافظ أبو
قلابة عبد الملك حدّث من حفظه ستّين ألف حديث. طبقات الحفّاظ (٢ / ١٤٣).
وهذا أبو العبّاس
السرّاج كتب لمالك سبعين ألف مسألة. تاريخ بغداد (١ / ٢٥١)
وهذا الحافظ ابن
راهويه يملي سبعين ألف حديث من حفظه. تاريخ ابن عساكر
(٢ / ٤١٣).
وهذا الحافظ إسحاق
الحنظلي يحفظ سبعين ألف حديث. تاريخ الخطيب (٦ / ٣٥٢).
وهذا إسحاق بن
بهلول التنوخي يحدّث من حفظه خمسين ألف حديث. تاريخ الخطيب (٦ / ٣٦٨).
وهذا محمد بن عيسى
الطبّاع كان يحفظ نحواً من أربعين ألف حديث. تاريخ بغداد (٢ / ٣٩٦).
__________________
وهذا الحافظ ابن
شاهين يكتب من حفظه بعد ما ذهبت كتبه عشرين أو ثلاثين ألف حديث. تاريخ بغداد (١١ /
٢٦٨).
وهذا الحافظ يزيد
بن هارون يحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بأسنادها. شذرات الذهب (٢ / ١٦).
فهلمّ معي نر أنّ
إسلاماً هذه سعة نطاق علمه ، وكثرة طقوسه وسننه ، وغزارة فنونه وعلومه ، ونبيّا
هذا حديثه وسنّته ، وهذه ودائعه المصلحة لأمّته ، وهذا شأن الأعلام أُمناء ودائع
العلم والدين ، وهذه سيرة حفظة السنّة الشريفة ، كيف يجب أن يتحلّى خليفة ذلك
النبيّ الأقدس بأبراد علوم الكتاب والسنّة؟ وكيف يحقّ أن يكون حاملاً لأعباء علوم
مستخلفه ومعالمه ، وارثاً مآثره وآثاره؟ أفهل يُقتصر منه على مائة وأربعة أحاديث؟
أو تقبل الأمّة المسكينة أو تُجديها هذه الكميّة اليسيرة من ذلك الحوش الحائش؟ أو
يسدّ ذلك الفراغ ، ويمثّل تلك العلوم الإسلاميّة الجمّة من هذا شأنه وشعاره ، وهذه
سيرته وسنّته ، وهذا علمه وحديثه؟ أو يُتلقّى بالقبول عذر المدافع عن الخليفة بأنّ
قلّة حديثه لقصر مدّة خلافته؟
أيّ صلة بين قصر
العمر بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقلّة الرواية؟ فإنّ رواة الأحاديث على العهد النبويّ ما
كان حجر عليها ، ولم يكن عقال في ألسن أولئك الصحابة الأوّلين ، ولا على الأفواه
أوكية عن بثّ العلم من الكتاب والسنّة طيلة حياة النبيّ الأقدس.
ولم يكن المكثرون
من الرواية قصروا أحاديثهم على ما بعد أيّامه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقلّة حديث الرجل إن هي إلاّ لقلّة تلقّيه ، وقصر حفظه ،
إنّما الإناء ينضح بما فيه ، والأوعية إذا طفحت فاضت.
__________________
ثمّ أنّى يسوغ
للخليفة أن تُثقله أعباء الخلافة ، وتعييه معضلات المسائل ويتترّس بمثل قوله : أيّ
سماء تظلّني. إلخ؟ أو قوله : سأقول فيها برأيي.
أو يخطب بعد أيّام
قلائل من خلافته وقد أحرجته المواقف ، ويتطلّب الفوز منها بقوله : لوددت أنّ هذا
كفانيه غيري ، ولئن أخذتموني بسنّة نبيّكم صلىاللهعليهوآلهوسلم لا أُطيقها ، إن كان لمعصوماً من الشيطان ، وإن كان لينزل
عليه الوحي من السماء .
أو بقوله : أما
والله ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً ، ولوددت أنّ فيكم من يكفيني ، أفتظنّون
أنّي أعمل فيكم بسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ إذن لا أقوم بها. إنّ رسول الله كان يُعصم بالوحي ، وكان
معه ملك ، وإنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني أن لا أؤثر في أشعاركم
وأبشاركم ، ألا فراعوني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني.
وفي لفظ ابن سعد :
ألا وإنّما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم فراعوني ، فإذا رأيتموني استقمت
فاتّبعوني وإن رأيتموني زغت فقوّموني ، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا
رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم .
__________________
أو بقوله : إنّي
ولّيت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على الحقّ فأعينوني وإن رأيتموني على
الباطل فسدّدوني .
وفي لفظ ابن
الجوزي في صفة الصفوة (١ / ٩٨) : قد وُلّيت
أمركم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن زغت فقوّموني.
وهل الخليفة حريّ
بأن ترعاه أمّته ورعيّته فتعينه وتسدّده وتقوّمه عند الخطأ والزيغ؟ وكيف لا يؤاخذ
الخليفة بالسنّة وهو وارث علم النبيّ وحامل سنّته؟ وقد أكمل الله دينه وأوحى إلى
نبيّه ما تحتاج إليه أمّته ، وبلّغ صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ ما جاء حتى حقّ له أن ينهى عن الرأي والقياس في دين
الله ، أو يقول : «ما تركت شيئاً ممّا أمركم الله به إلاّ وقد أمرتكم به ، ولا
تركت شيئاً ممّا نهاكم عنه إلاّ وقد نهيتكم عنه» .
وقد فتح الخليفة
لقصر باعه في علوم الكتاب والسنّة باب القول بالرأي بمصراعيه بعد ما سدّه النبيّ
الأعظم على أمّته ، ولم تكن عند الخليفة مندوحة سواه ، قال ابن سعد في الطبقات ، وأبو عمر في كتاب العلم (٢ / ٥١) ، وابن
القيّم في أعلام
__________________
الموقّعين (ص ١٩) : إنّ أبا
بكر نزلت به قضيّة فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ، ولا في السنّة أثراً ،
فاجتهد رأيه ثمّ قال : هذا رأيي فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأً فمنّي
وأستغفر الله. وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء عن ابن سعد (ص ٧١).
وقال ميمون بن
مهران : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم فإن وجد في الكتاب أو علم من رسول الله ما
يقضي بينهم قضى به ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال : أتاني كذا وكذا فهل علمتم
أنّ رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلّهم يذكر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه قضاءً ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من
يحفظ على نبيّنا ، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على
أمر قضى به .
هكذا كان شأن
الخليفة في القضاء ، وهذا مبلغ علمه ، وهذه سيرته في العمل بالرأي المجرّد وقد قال
عمر بن الخطّاب : أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلّتت
منهم أن يرووها ، فاشتقّوا الرأي ، أيّها الناس إنّ الرأي إنما كان من رسول الله
مصيباً ؛ لأنّ الله كان يريه ، وإنّما هو منّا الظنّ والتكلّف .
ثمّ ما المسوّغ
لمن سدّ فراغ النبيّ وأشغل منصّته أن يسأل الناس عن السنّة الشريفة ، ويأخذها ممّن
هو خليفة عليه؟ ولما ذا خالف سيرته هذه لمّا سُئل عن الأبّ
__________________
والكلالة وترك
سؤال الصحابة واستشارتهم فأفتى برأيه ما أفتى ، وقال بحريّته ما قال.
وفيما اتّفق لأبي
بكر من القضايا غير ما مرّ مع قلّته غنية وكفاية في عرفان مبلغ علمه ، وإليك منها
:
ـ ١ ـ
رأي الخليفة في الجدّة
عن قبيصة بن ذؤيب
قال : جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه تسأله عن ميراثها ، فقال لها
أبو بكر : مالك في كتاب الله شيء ، وما علمت لك في سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس. فقال المغيرة بن شعبة : حضرت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر : هل معك غيرك؟ فقام محمد بن
مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة. فأنفذه لها أبو بكر رضى الله عنه. الحديث
.
فانظر إلى ما عزب
عنه علم الخليفة في مسألة تكثر بها البلوى ويطّرد الحكم فيها ، حتى اضطرّته الحاجة
إلى الركون إلى رواية مثل المغيرة أزنى ثقيف وأكذب الأمّة ، وكان من تغييره للسنّة ولعبه بها أنّه صلّى صلاة العيد
يوم عرفة مخافة أن يعزل سنة أربعين ، وكان ينال من أمير المؤمنين عليهالسلام كلّما رقى صهوة المنبر .
__________________
ـ ٢ ـ
رأي الخليفة في الجدّتين
عن القاسم بن محمد
أنّه قال : أتت الجدّتان إلى أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه فأراد أن يجعل السدس
للتي من قبل الأُمّ ، فقال له رجلٌ من الأنصار : أما إنّك تترك التي لو ماتت وهو
حيّ كان إيّاها يرث ، فجعل أبو بكر السدس بينهما.
لفظ آخر :
إنّ جدّتين أتتا
أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه أُمّ الأُمّ وأُمّ الأب ، فأعطى الميراث أُمّ الأُمّ
دون أُمّ الأب ، فقال له عبد الرحمن بن سهيل ـ سهل ـ أخو بني حارثة : يا خليفة رسول
الله لقد أعطيت التي لو أنّها ماتت لم يرثها. فجعله أبو بكر بينهما يعني ، السدس.
راجع موطّأ مالك (١ / ٣٣٥) ، سنن البيهقي (٦ / ٢٣٥) ، بداية
المجتهد (٢ / ٣٤٤) ، الاستيعاب (٢ / ٤٠٠) ، الإصابة (٢ / ٤٠٢) وقال : رجاله ثقات ،
كنز العمّال (٦ / ٦) نقلاً عن مالك ، وسعيد بن منصور ، وعبد الرزّاق ، والدارقطني
، والبيهقي.
قال
الأميني : أوَلا تعجب من جهل الرجل بحكم إرث الجدّتين ، وسرعة انقلابه
عمّا ارتآه أوّلاً بنقد رجل من الأنصار أو أخي بني حارثة؟ وكان ذلك النقد يستدعي
حرمان الجدّة من قبل الأمّ لكنّه شركهما في الميراث واتّخذته الفقهاء مصدراً
لحكمهم ، وأصل الحكم مأخوذ من رواية المغيرة المخصوصة بالجدّة الواحدة فانظر
واعتبر.
__________________
وأمّا رأي الرجل
الأنصاري في الجدّة الذي زحزح الخليفة عن حكمه فلم يكن أخذاً بالكتاب والسنّة بل
كان مخالفاً لهما وفقاً لقول الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا
وبناتُنا
|
|
بنوهنّ أبناء
الرجال الأباعدِ
|
فخصّ القوم به قول
الله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لعقب الأبناء دون من عقبته البنات ، وذهبوا إلى عدم شمول
أحكام الأولاد في الفروض وغيرها على وليد بنت الرجل محتجّين بقول الشاعر.
قال ابن كثير في
تفسيره (٢ / ١٥٥) : قالوا : إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنّه يختص بذلك
بنوه لصلبه وبنو بنيه واحتجّوا بقول الشاعر :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتُنا
|
|
بنوهنّ أبناء
الرجال الأباعدِ
|
وقال البغدادي في
خزانة الأدب (١ / ٣٠٠) : هذا
البيت لا يُعرف قائله مع شهرته في كتب النحاة وغيرهم. قال العيني : هذا البيت
استشهد به النحاة على جواز تقديم الخبر ، والفرضيّون على دخول أبناء الأبناء في
الميراث ، وأنّ الانتساب إلى الآباء ، والفقهاء كذلك في الوصيّة ، وأهل المعاني
والبيان في التشبيه ، ولم أرَ أحداً منهم عزاه إلى قائله.
وقال : رأيت في
شرح الكرماني في شواهد شرح الكافية للخبيصي أنّه قال : هذا البيت قائله أبو فراس همام الفرزدق بن غالب
ثمّ ترجمه والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
__________________
سبحانك اللهمّ ما
أجرأهم على هذا الرأي ـ السياسي ـ في دين الله لإخراج آل الله عن بنوّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم! ما قيمة قول الشاعر تجاه قول الله تعالى (فَقُلْ
تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) فهو نصّ صريح على أنّ الحسنين السبطين ابني النبيّ الأقدس.
وقد سمّى الله
سبحانه أسباط نوح ذريّة له ، وليست الذريّة إلاّ ولد الرجل كما في القاموس (٢ / ٣٤) فقال
سبحانه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ
وَسُلَيْمانَ) ـ إلى قوله ـ : (وَيَحْيى وَعِيسى) فعدّ عيسى من ذريّة نوح وهو ابن بنته مريم.
قال الرازي في
تفسيره ، (٢ / ٤٨٨) : هذه الآية ـ يعني آية قل تعالوا ـ دالّة على
أن الحسن والحسين عليهماالسلام كانا ابني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعد أن يدعو أبناءه ، فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن
يكونا ابنيه ، وممّا يؤكّد هذه قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله : (وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى وَعِيسى) ، ومعلوم أنّ عيسى عليهالسلام إنّما انتسب إلى إبراهيم عليهالسلام بالأمّ لا الأب ، فثبت أنّ ابن البنت قد يُسمّى ابناً
والله أعلم.
وقال القرطبي في
تفسيره (٤ / ١٠٤) : فيها
ـ يعني آية تعالوا ـ دليل على أنّ أبناء البنات يسمّون أبناءً. وقال (٧ / ٣١) : عُدّ
عيسى من ذريّة إبراهيم وإنّما هو ابن البنت ، فأولاد فاطمة ذريّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبهذا تمسّك من رأى أنّ ولد البنات يدخلون في اسم الولد.
قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف وقفاً على ولده وولد ولده
__________________
أنّه يدخل فيه ولد
ولده ، وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنت ،
والقرابة عند أبي حنيفة كلّ ذي رحم مَحْرَم. إلى أن قال :
وقال مالك : لا
يدخل في ذلك ولد البنات ، وقد تقدّم نحو هذا عن الشافعي (٤ / ١٠٤) ،
والحجّة لهما قوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلاّ ولد الصلب وولد الابن خاصّة. إلى أن
قال : وقال ابن القصّار : وحجّة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليهالسلام للحسن بن عليّ : «إنّ ابني هذا سيّد». ولا نعلم أحداً يمتنع أن يقول في ولد
البنات لأنّهم ولد لأبي أُمّهم. والمعنى يقتضي ذلك ؛ لأنّ الولد مشتقّ من التولّد
وهم متولّدون عن أبي أمّهم لا محالة ، والتولّد من جهة الأمّ كالتولّد من جهة الأب
، وقد دلّ القرآن على ذلك ، قال الله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) فجعل عيسى من
ذريّته وهو ابن بنته. انتهى.
وأخرج ابن أبي
حاتم ؛ بإسناده عن أبي حرب بن الأسود قال : أرسل الحجّاج إلى يحيى بن يعمر فقال :
بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذريّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوّله إلى آخره فلم
أجده. قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ) حتى بلغ : (وَيَحْيى وَعِيسى)؟ قال بلى. قال :
أليس عيسى من ذرّية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت.
فلهذا إذا أوصى
الرجل لذريّته أو وقف على ذريّته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم. إلخ. تفسير ابن
كثير (٢ / ١٥٥).
فبعد كون ذريّة
الرجل ولده على الإطلاق ودخل فيهم أولاد البنات لا ينبغي
__________________
التفكيك في
الأحكام عندئذٍ بين الذريّة والأولاد ، ولا يسع لأيّ أحد أن يرى أبناء البنات
أبناء الرجال الأباعد خارجين عن ولد الرجل على الحقيقة ، ويصحّ له مع ذلك عدُّهم
من ذريّته ، وليست إلاّ ولد الرجل.
ويشهد على لغة
القرآن المجيد ، وأنّ ولد البنت ابن أبيها على الحقيقة ، قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
١ ـ «أخبرني جبريل
: أنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل. وفي لفظ : إنّ أمّتي ستقتل ابني هذا» .
طبقات ابن سعد ،
مستدرك الحاكم (٣ / ١٧٧) ، أعلام النبوّة للماوردي (ص ٨٣) ، ذخائر العقبى (ص ١٤٨)
، الصواعق (ص ١١٥).
٢ ـ وقوله : «ابني
هذا يُقتل بأرض من العراق».
دلائل النبوّة
لأبي نعيم (٣ / ٢٠٢) ، ذخائر
العقبى (ص ١٤٦).
٣ ـ وقوله للحسن
السبط : «ابني هذا سيّد».
المستدرك (٣ / ١٧٥)
، أعلام الماوردي (ص ٨٣) ، تفسير
ابن كثير (٢ / ١٥٥).
٤ ـ وقوله لعلي : «أنت
أخي وأبو ولدي».
ذخائر العقبى (ص
٦٦).
٥ ـ وقوله : «إنّ
جبريل أخبرني أنّ الله قتل بدم يحيى بن زكريّا سبعين ألفاً وهو قاتل بدم ولدك
الحسين سبعين ألفاً».
ذخائر العقبى (ص
١٥٠).
__________________
٦ ـ وقوله : «المهدي
من ولدي وجهه كالكوكب الدرّي».
ذخائر العقبى (ص
١٣٦).
٧ ـ «هذان ابناي
من أحبّهما فقد أحبّني» الحسن والحسين.
المستدرك (٣ / ١٦٦)
، تاريخ ابن عساكر (٤ / ٢٠٤) ، كنز العمّال (٦ / ٢٢١).
٨ ـ وقوله لفاطمة
الصدّيقة : «ادعي لي ابنيَّ».
تاريخ ابن عساكر (٤ / ٣١٦).
٩ ـ وقوله لأنس : «ادع
لي ابني».
تاريخ ابن كثير (٨ / ٢٠٥).
١٠ ـ وقوله : «ادعوا
ابني» ، فأتى الحسن بن عليّ.
ذخائر العقبى (ص
١٢٢).
١١ ـ وقوله : «اللهم
إنّ هذا ابني ـ الحسن ـ وأنا أحبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه»
تاريخ ابن عساكر (٤ / ٢٠٣).
١٢ ـ وقوله لعليّ
: «أيّ شيء سمّيت ابني؟ قال : ما كنت لأسبقك بذلك ، فقال : وما أنا السابق ربّي
فهبط جبريل فقال : يا محمد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : عليّ منك بمنزلة
هارون من موسى لكن لا نبيّ بعدك ، فسمّ ابنك هذا باسم ولد هارون».
ذخائر العقبى (ص
١٢٠).
__________________
١٣ ـ وقوله : «أروني
ابني ما سمّيتموه» . قاله لمّا ولد الحسن ، وفي ولادة الحسين ، وكذلك في ولادة
محسن بن عليّ.
المستدرك (٣ / ١٨٠)
، كنز العمّال (٧ / ١٠٧ ، ١٠٨) عن الدارقطني ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير
، وابن حبّان ، والدولابي ، والبيهقي ، والحاكم والخطيب.
١٤ ـ وقوله : «اطلبوا
ابنيَّ» لمّا ضلّ الحسن والحسين.
كنز العمّال (٧ / ١٠٨).
١٥ ـ وقوله : «إنّ
ابنيَّ هذين ريحانتاي من الدنيا» ، يعني الحسنين.
الصواعق (ص ١١٤) ،
كنز العمّال (٦ / ٢٢٠ ، ٧ / ١٠٩).
١٦ ـ وقوله : «ابني
ارتحلني» .
أخرجه أحمد.
والبغوي. والطبراني. والحاكم. والبيهقي. وسعيد بن منصور. وابن عساكر في تاريخه (٤
/ ٣١٧) ، وابن كثير في تاريخه (٨ / ٣٦) ، وراجع كنز العمّال (٦ / ٢٢٢ و ٧ / ١٠٩).
__________________
١٧ ـ وقوله : «هاتوا
ابنيَّ أعوّذهما بما عوّذ به إبراهيم ابنيه».
تاريخ ابن عساكر (٤ / ٢٠٩).
١٨ ـ وقوله لأنس :
«ويحك يا أنس دع ابني وثمرة فؤادي ـ يعني الحسن».
كنز العمّال (٦ / ٢٢٢).
١٩ ـ وقوله : «ابناي
هذان : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».
الصواعق لابن حجر (ص ١١٤).
٢٠ ـ وقوله في
عليّ : «هذا أخي وابن عمّي وصهري وأبو ولدي».
كنز العمّال (٦ / ١٥٤).
٢١ ـ وقوله : «سمّيت
ابنيَّ هذين باسم ابني هارون شبّر وشبير» .
الصواعق (ص ١١٥) ،
كنز العمّال (٦ / ٢٢٢).
٢٢ ـ وقوله : «لو
لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من ولدي
اسمه كاسمي».
فقال سلمان : من
أيّ ولدك يا رسول الله؟ قال : «من ولدي هذا ، وضرب بيده على الحسين».
ذخائر العقبى (ص
١٣٦).
__________________
٢٣ ـ وقول الحسن
السبط سلام الله عليه في خطبة له : «أنا الحسن بن علي ، وأنا ابن النبيّ ، وأنا
ابن البشير ، وأنا ابن النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير» .
المستدرك (٣ / ١٧٢)
، ذخائر العقبى (ص ١٣٨ ، ١٤٠) ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ١١) ، مجمع الزوائد (٩ /
١٤٦) ، إتحاف الشبراوي (ص ٥).
٢٤ ـ وقوله لأبي
بكر وهو في منبر جدّه الأقدس : «إنزل عن مجلس أبي». فقال أبو بكر : صدقت إنّه مجلس
أبيك. وفي لفظ : «إنزل عن منبر أبي». فقال أبو بكر : منبر أبيك لا منبر أبي .
الرياض النضرة (١
/ ١٣٩) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ١٧) ، الصواعق (ص ١٠٨) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص
٥٤) ، كنز العمّال (٣ / ١٣٢).
٢٥ ـ وقوله في
وصيّته : «ادفنوني عند أبي» ـ يعني المصطفى.
إتحاف الشبراوي (ص ١١).
٢٦ ـ وقول الحسين
السبط عليهالسلام لعمر : «إنزل عن منبر أبي». فقال عمر : منبر أبيك لا منبر
أبي ، من أمرك بهذا؟
تاريخ ابن عساكر (٤ / ٣٢١).
__________________
٢٧ ـ وقول ابن
عبّاس : هذان ـ الحسن والحسين ـ ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
تاريخ ابن عساكر (٤ / ٢١٢ ، ٣٢٢).
٢٨ ـ وقول زهير بن
القين مخاطباً الحسين عليهالسلام : قد سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك. جمهرة خطب العرب (٢ / ٤٠).
٢٩ ـ وقول الإمام
السبط الحسن الزكيّ كما في الإتحاف للشبراوي (ص ٤٩):
خيرةُ اللهِ من
الخلقِ أبي
|
|
بعد جدّي وأنا
ابن الخيرتين
|
فضّةٌ قد صُيغت
من ذهب
|
|
فأنا الفضّة ابن
الذهبين
|
٣٠ ـ وقوله كما في الإتحاف (ص ٥٧):
أنا ابن الذي قد
تعلمون مكانَه
|
|
وليس على الحقّ
المبينِ طحاءُ
|
أليس رسولُ
اللهِ جدّي ووالدي
|
|
أنا البدرُ إن
حلّ النجومَ خفاءُ
|
٣١ ـ وقول الفرزدق في مدح الإمام
السجّاد عليّ بن الحسين عليهماالسلام :
هذا ابنُ خيرِ
عبادِ اللهِ كلِّهمُ
|
|
هذا التقيُّ
النقيُّ الطاهرُ العلَمُ
|
٣٢ ـ وقول ابن بشر في زيد بن الحسن بن
عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام يمدحه :
إذا نزل ابنُ
المصطفى بطنَ تلعةٍ
|
|
نفى جدبَها
واخضرّ بالنبتِ عودُها
|
وزيدٌ ربيعُ
الناس في كلّ شتوةٍ
|
|
إذا أخلفتْ
أبراقُها ورعودُها
|
__________________
٣٣ ـ وقول أبي
عاصم بن حمزة الأسلمي يمدح الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهمالسلام ، كما في زهر الآداب للحصري القيرواني (١ / ٨٠):
ستأتي مدحتي
الحسنَ بنَ زيدٍ
|
|
وتشهدُ لي
بصفّينَ القبورُ
|
قبورٌ لم تزلْ
مُذ غابَ عنها
|
|
أبو حسنٍ
تعاديها الدهورُ
|
قبورٌ لو بأحمدَ
أو عليٍ
|
|
يلوذُ مجيرُها
حُمِي المجيرُ
|
هما أبواك من
وضعا فضعه
|
|
وأنت برفعِ من
رفعا جديرُ
|
٣٤ ـ وقول إبراهيم بن عليّ بن هرمة
لمّا نصحه الحسن بن زيد المذكور كما في زهر الآداب (١ / ٨١):
نهاني ابنُ
الرسولِ عن المدامِ
|
|
وأدّبني بآدابِ
الكرامِ
|
٣٥ ـ وقول أبي تمام الطائي :
فعلتمْ بأبناءِ
النبيِّ ورهطِهِ
|
|
أفاعيلَ أدناها
الخيانةُ والغدرُ
|
٣٦ ـ وقول دعبل الخزاعي :
فكيف ومن أنّى
بطالبِ زلفةٍ
|
|
إلى اللهِ بعد
الصومِ والصلواتِ
|
سوى حبّ أبناءِ
النبيِّ ورهطِه
|
|
وبغضِ بني
الزرقاءِ والعبلاتِ
|
٣٧ ـ وقوله :
ألم يحزنْكَ
أنَّ بني زيادٍ
|
|
أصابوا بالترات
بني النبيِ
|
__________________
٣٨ ـ وقول
الحِمّاني :
قومٌ لماءِ
المعالي في وجوههمُ
|
|
عند التكرّم
تصويبٌ وتصعيدُ
|
يدعون أحمد إن
عُدّ الفخارُ أباً
|
|
والعودُ يُنسَبُ
في أفنائه العودُ
|
٣٩ ـ وقول التنوخي :
من ابن رسولِ
اللهِ وابنِ وصيِّهِ
|
|
إلى مدخلٍ في
عقبةِ الدينِ ناصبِ
|
٤٠ ـ وقول الزاهي :
بنو المصطفى
تفنون بالسيف عنوةً
|
|
ويسلمني طيفُ
الهجوعِ فأهجعُ
|
٤١ ـ وقول الناشئ :
بني أحمدٍ قلبي
بكم يتقطّعُ
|
|
بمثل مصابي
فيكمُ ليس يُسمعُ
|
٤٢ ـ وقول الصاحب بن عبّاد :
ما لعليّ العلى
أشباهُ
|
|
لا والذي لا إله
إلاّ هو
|
مبناه مبنى
النبيّ تعرفُه
|
|
وابناهُ عند
التفاخر ابناهُ
|
٤٣ ـ وقوله :
أيُجَزُّ رأسُ
ابنِ النبيّ وفي الورى
|
|
حيٌّ أمام
ركابِه لم يقتلِ
|
٤٤ ـ وقوله :
محمد ووصيّه
وابنيهما
|
|
وبعابدٍ
وبباقرين وكاظمِ
|
٤٥ ـ وقوله :
بمحمد ووصيِّه
وابنيهما
|
|
الطاهرين وسيّد
العبّادِ
|
٤٦ ـ وقول الصوري :
فلهذا أبناء
أحمد أبنا
|
|
ء عليٍّ طرائدُ
الآفاقِ
|
٤٧ ـ وقول مهيار الديلمي :
بأيّ حكمٍ بنوهُ
يتبعونكمُ
|
|
وفخركم أنَّكم
صحبٌ له تَبعُ
|
٤٨ ـ وقوله :
فيومُ السقيفةِ
يا ابن النبيّ
|
|
طرَّق يومك في
كربلا
|
٤٩ ـ وقول ابن جابر :
جعلوا لأبناءِ
الرسولِ علامةً
|
|
إنَّ العلامةَ
شأنُ من لم يشهرِ
|
٥٠ ـ وقال الشبراوي :
يا ابن الرسول
بأمّك الزهرا البتولِ
|
|
وجدّك المأمول
عند الناسِ
|
وغدوت في
الأشراف يا ابن المصطفى
|
|
كالعقل أو
كالروح أو كالراسِ
|
فما المبرّر
عندئذٍ للخليفة في صفحه عمّا في كتاب الله وسنّة نبيّه وتلقّيه بالقبول قول
الأنصاريّ الشاذّ عن الكتاب والسنّة؟
وما عذر فقيه أو
حافظ اتّخذ رأي الأنصاري ديناً محتجّا بقول شاعرٍ لم يُعرف بعدُ ، وبين يديه
القرآن والحديث والأدب؟
__________________
ـ ٣ ـ
رأي الخليفة في قطع السارق
عن صفيّة بنت أبي
عبيد : أنَّ رجلاً سرق على عهد أبي بكر رضى الله عنه مقطوعة يده ورجله فأراد أبو
بكر رضى الله عنه أن يقطع رجله ويدع يده يستطيب بها ويتطهّر بها ، وينتفع بها ،
فقال عمر : لا والذي نفسي بيده لتقطعنّ يده الأخرى. فأمر به أبو بكر رضى الله عنه
فقطعت يده. وعن القاسم بن محمد : أنّ أبا بكر رضى الله عنه أراد أن يقطع رجلاً بعد
اليد والرجل ، فقال عمر رضى الله عنه : السنّة اليد .
إنّ من موارد
الحيرة أنّ الخليفة لا يعلم حدّ السارق الذي هو من أهمّ ما تجب عليه معرفته لحفظ
الأمن العامّ ، وتهدئة الحالة ، وقطع جرثومة الفساد ، ومن المحيّر أيضاً تسرّعه
إلى الحكم قبل ما عزي إليه فيما مرّ (ص ١١٩) من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ثم
الاستعلام من الصحابة ثمّ المشورة.
ثمّ إنّ الذي
سدّده في هذه القضيّة لِمَ نسي الحكم إبّان خلافته فأراد عين ما أراده صاحبه؟ راجع
الجزء السادس (ص ١٣٦).
ـ ٤ ـ
رأي الخليفة في الجدّ
عن ابن عبّاس
وعثمان وأبي سعيد وابن الزبير قالوا : إنّ أبا بكر جعل الجدّ أباً ، يعنون أنّه كان يحجب الأخوة بالجدّ ولم يشرك بينهما كما
أنّ الأب يحجب الأخوة والأخوات.
__________________
قال
الأميني : لم يكن رأي
الخليفة هذا متّخذاً من الكتاب والسنّة ، ولم يكن يعمل به أحد من الصحابة طيلة
حياته ، وما اتّفق لجدّ يرث في أيّامه حتى يؤيّد رأيه ويقال : إنّ أحداً من
الصحابة لم يخالف أبا بكر في حياته في رأيه هذا كما قاله البخاري والقرطبي . وأوّل جدّ كان في الإسلام وأراد أن يأخذ المال كلّه مال
ابن ابنه دون أخوته هو عمر بن الخطّاب ، فأتاه عليّ وزيد فقالا : ليس لك ذلك إنّما
كنت كأحد الأخوين ، وقد فصّلنا القول فيه في الجزء السادس (ص ١١٥ ـ ١١٨). فأوّل
رجل خالف الخليفة في الجدّ هو خليفته بعده ، وقد اتّفق عليّ وعمر وعثمان وعبد الله
بن عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود على خلاف الخليفة على توريث الأخوة مع الجدّ وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وابن أبي
ليلى .
وافتعل القوم
للخليفة عذراً بأنّه كان يرى الجدّ أباً لمكان قوله تعالى : (مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) وقوله : (يا بَنِي آدَمَ) بتقرير إطلاق
الأب على الجدّ على الحقيقة. ولا يخفى على أيّ أحد أنّ صحّة هذا الإطلاق لا توجب
اتّحاد الأب والجدّ في جميع الأحكام ، ألا ترى أنّ صحّة إطلاق الأمّ على الجدّة
على الحقيقة وقولهم في تعريف الجدّة : إنّها الأمّ العليا لا تستدعي الاشتراك في النصيب فيرون مع هذه للجدّة السدس
بالاتّفاق. وفريضة الأمّ هي الثلث بالكتاب والسنّة.
على أنّ الصحابة
الأوّلين لم يكن عندهم أيّ إيعاز إلى هذا العذر المنحوت ، ولو
__________________
كان لرأي الخليفة
قيمة وكرامة لأباحه أحد منهم ، وفاهَ به عندما خالف عليّ وزيد عمر بن الخطّاب
ونهياه عن إعمال هذا الرأي.
بل فيما رواه
الدارمي عن الحسن من أنّ الجدّ قد مضت سنّته ، وأنّ أبا بكر جعل الجدّ أباً ، ولكن
الناس تخيّروا . إيعاز إلى أنّ السنّة في الجدّ ماضية ثابتة وقد خالفها
الخليفة ، وتخيّر الناس فخالفوه وعملوا بالسنّة الشريفة.
ـ ٥ ـ
رأي الخليفة في تولية المفضول
قال الحلبي في
السيرة النبويّة (٣ / ٣٨٦) : إنّ
أبا بكر رضى الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه ، وهو الحقّ
عند أهل السنّة لأنّه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين ، وأعرف
بتدبير الأمر ، وما فيه انتظام حال الرعيّة.
أجاب الحلبي بهذا
عن تقديم أبي بكر عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة الجرّاح على نفسه في الخلافة وقوله :
بايعوا أيّ الرجلين إن شئتم.
وقال الباقلانيّ
في التمهيد (ص ١٩٥) عند الجواب عن قول أبي بكر : وليتكم ولست بخيركم : يمكن أن
يكون قد اعتقد أنّ في الأمّة أفضل منه إلاّ أنّ الكلمة عليه أجمع والأمّة بنظره
أصلح ، لكي يدلّهم على جواز إمامة المفضول عند عارض يمنع من نصب الفاضل ، ولهذا
قال للأنصار وغيرهم : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أحدهما : عمر بن
الخطّاب وأبا عبيدة الجرّاح ، وهو يعلم أنّ أبا عبيدة دونه ودون عثمان وعليّ في
الفضل ، غير أنّه قد رأى أنّ الكلمة تجتمع عليه ، وتنحسم الفتنة بنظره. وهذا أيضاً
ممّا لا جواب لهم عنه.
__________________
قال
الأميني : الذي نرتئيه في
الخلافة أنَّها إمرة إلهيّة كالنبوّة ، وإن كان الرسول خُصّ بالتشريع والوحي
الإلهي ، وشأن الخليفة التبليغ والبيان ، وتفصيل المجمل ، وتفسير المعضل ، وتطبيق
الكلمات بمصاديقها ، والقتال دون التأويل كما يُقاتل النبيّ دون التنزيل ، وإظهار ما لم يتسنّ
للنبيّ الإشادة به إمّا لتأخّر ظرفه ، أو لعدم تهيّؤ النفوس له ، أو لغير ذلك من
العلل ، فكلّ منهما داخل في اللطف الإلهيّ الواجب عليه بمعنى تقريب العباد إلى
الطاعة وتبعيدهم عن المعصية ، ولذلك خلقهم واستعبدهم وعلّمهم ما لم يعلموا ، فلم
يدع البشر كالبهائم ليأكلوا ويتمتّعوا ويُلهيهم الأمل. ولكن خلقهم ليعرفوه ،
وليمكّنهم من الحصول على مرضاته ، وسهّل لهم الطريق إلى ذلك ببعث الرسل ، وإنزال
الكتب ، وتواصل الوحي في الفينة بعد الفينة.
وبما أنّ أيّ نبيّ
لم يُنط عمره بمنصرم الدنيا ، ولا قُدّر له البقاء مع الأبد ، وللشرائع ظروف مديدة
، كما أنّ للشريعة الخاتمة أمد لا منتهى له ، فإذا مات الرسول ولشريعته إحدى
المدّتين وفي كلّ منهما نفوس لم تكمل بعد ، وأحكام لم تُبلّغ وإن كانت مشرّعة ،
وأخرى لم تأت ظروفها ، ومواليد قدّر تأخير تكوينها ، ليس من المعقول بعد أن تترك
الأمّة سُدى والحالة هذه ، والناس كلّهم في شمول ذلك اللطف الواجب عليه سبحانه شرع
سواء ، فيجب عليه جلّت عظمته أن يقيّض لهم من يكمل الشريعة ببيانه ، ويزيح شبه
الملحدين ببرهانه ، ويجلو ظلم الجهل بعرفانه ، ويدرأ عن الدين عادية أعدائه بسيفه
وسنانه ، ويقيم الأمت والعوج بيده ولسانه.
ومهما كان للمولى
جلّت مننه عناية بعبيده ، وقد ألزم نفسه بإسداء البرّ إليهم ،
__________________
وأن لا يوليهم
إلاّ الخير والسعادة ، فعليه أن يختار لهم من ينوء بذلك العبء الثقيل ويمثّل
مخلّفه الرسول في الوظائف كلّها ، فينصّ عليه بلسان ذلك النبيّ المبعوث ، ولا يجوز
أن يخلي سربهم ، ويتركهم سُدى ، ألا ترى أنّ عبد الله بن عمر قال لأبيه : إنّ
الناس يتحدّثون أنّك غير مستخلف ، ولو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاء وترك
رعيّته رأيت أن قد فرّط ـ لرأيت أن قد ضيّع ـ ورعيّة الناس أشدّ من رعية الإبل
والغنم ، ما ذا تقول لله إذ لقيته ولم تستخلف على عباده ؟
وقالت عائشة لابن
عمر : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع أمّة محمد بلا راعٍ ، استخلف عليهم
ولا تدعهم بعدك هملاً ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ، فترك الناس مهملين فيه خشية الفتنة عليهم.
وقال عبد الله بن
عمر لأبيه : لو استخلفت. قال : من؟ قال : تجتهد فإنّك لست لهم بربّ تجتهد ، أرأيت لو أنّك بعثت إلى قيّم أرضك ألم تكن تحبّ أن
يستخلف مكانه حتى يرجع إلى الأرض؟ قال : بلى. قال : أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك ألم
تكن تحبّ أن يستخلف رجلاً حتى يرجع ؟
وهذا معاوية بن
أبي سفيان يتمسّك بهذا الحكم العقليّ المسلّم في استخلاف يزيد ويقول : إنّي أرهب
أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها .
__________________
ليت شعري هذا
الدليل العقليّ المتسالم عليه لِمَ أهملته الأمّة في استخلاف النبيّ الأعظم
واتّهمته بالصفح عنه؟ أنا لا أدري.
ولا يجوز أيضاً
توكيل الأمر إلى أفراد الأمّة ، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم لأنّ ممّا أوجبه
العقل السليم أن يكون الإمام مكتنفاً بشرائط بعضها من النفسيّات الخفيّة والملكات
التي لا يعلمها إلاّ العالم بالسرائر كالعصمة والقداسة الروحيّة ، والنزاهة النفسيّة لتبعده عن
الأهواء والشهوات ، والعلم الذي لا يضلّ معه في شيء من الأحكام إلى كثير من
الأوصاف التي تقوم بها النفس ، ولا يظهر في الخارج منها إلاّ جزئيّات من المستصعب
الحكم باستقرائها على ثبوت كليّاتها : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) و (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) .
فالأمّة المنكفئ
علمها عن الغيوب لا يمكنها تشخيص من تحلّى بتلك الصفات ، فالغالب على خيرتها الخطأ
، فإذا كان نبيّ كموسى على نبيّنا وآله وعليهالسلام تكون وليدة اختياره من الآلاف المؤلّفة سبعين رجلاً ،
وأنّهم لمّا بلغوا الميقات قالوا : أرنا الله جهرة فما ظنّك بأفراد عاديّين
واختيارهم؟ وأناس ماديّين وانتخابهم؟ وما عساهم أن ينتخبوا غير أمثالهم ممّن هو
وإيّاهم سواسية كأسنان المشط في الحاجة إلى المسدّد؟ وليس من المأمون أن يقع
انتخابهم على عائث ، أو يكون التياثهم بمشاغب ، أو يكون انثيالهم وراء من يسرّ على الأمّة حسواً
في ارتغاء أو يقع
__________________
اختيارهم على جاهل
يرتبك في الأحكام فيرتكب العظام ، ويأتي بالجرائم ، ويقترف المآثم وهو لا يعلم ،
أو يعلم ولا يكترث لأن يقول زوراً ، ويحكم غروراً ، فيفسدوا من حيث أرادوا أن
يصلحوا ، ويقعوا في الهلكة وهم لا يشعرون ، كما وقعت أمثال ذلك في البيعة لمعاوية
ويزيد وخلفاء الأمويّين.
فعلى البارئ الذي
يكره كلّ ذلك في خلقه أن لا يجعل لأحد من خلقه الخيرة فيها وقد خلقه ظلوماً جهولاً
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) في الأمر (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً) .
وقد أخبر به
النبيّ الأعظم من أوّل يومه يوم عرض نفسه على القبائل فبلغ بني عامر بن صعصعة
ودعاهم إلى الله ، فقال له قائلهم : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله
على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «إنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء»
.
أنّى تسوغ أن تكون
للخلق خيرة في الأمر مع شيوع الغايات والأغراض والدعاوي والميول والشهوات في الناس
حول الانتخاب ، مع اختلاف الأنظار وتضارب الآراء والمعتقدات في تحليل نفسيّات
الرجال والشخصيّات البارزة ، مع كثرة
__________________
الأحزاب والفرق
والأقوام والطوائف المتشاكسة ، مع شقاق القوميّة والطائفية والشعوبيّة الذائع
الشائع في المسكين ابن آدم من أوّل يومه.
وقد اقترن
الانتخاب من بدء بدئه بالتحارش والتلاكم والتكالم والتشازر والتصاخب والتخاصم حتى
قدّت برود يمانيّة ووقع البرح براحاً وكم بالانتخاب هُتكت حرمات وأهينت مقدّسات ، وأضيعت حقائق
، ودُحض الحقّ الثابت ، ودُحس الصالح العالم ، واختلّ الوئام ، وأقلق السلام ،
وسفحت دماء زكيّة ، وتشلشلت أشلاء الإسلام الصحيح ، فجاء يطمع في الأمر من لا خلاق
له من سوقي برديّ ، أو مبرطش ألهاه الصفق بالأسواق ، أو بزّاز يحمل بني أبيه على
رقاب الناس ، أو حفّار قبور لا يعرف عرضه من طوله ، أو طليق غاشم ، أو خمّار سكّير
، أو مستهتر مشاغب ، من الذين اتّخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله نحلاً ، وكتاب
الله دغلاً ، ودين الله حولاً.
ومقتضى هذا البيان
الضافي أن يكون الخليفة أفضل الخليقة أجمع في أمّته ، لأنّه لو كان في وقته من
يماثله في الفضيلة أو من ينيف عليه استلزم تعيينه الترجيح بلا مرجّح أو التطفيف في
كفّة الرجحان.
على أنّ الإمام لو
قصر في شيء من تلك الصفات لأمكن حصول حاجته إلى المورد الذى نبا عنه علمه ، أو
تضاءلت عنه بصيرته ، أو ضعفت عنه منّته ، فعندئذٍ الطامّة الكبرى من الفتيا
المجرّدة ، والرأي لا عن دليل ، أو الأخذ عمّن يسدّده ، وفي الأوّل العيث والفشل ،
وفي الثاني سقوط المكانة ، وقد أخذ في الإمام مثل النبي أن يكون بحيث يُطاع (وَما
أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) وقرنت طاعة الإمام بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى : (أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)
__________________
وذلك ليمكنه إقامة
الحدود الإلهيّة ، ودحض الأباطيل ، وربما تسرّبت الشبهة عن جهله إلى نفس الدعوة
وحقيقة الدين إن كان عميده الداعي إليه يقصر عن الدفاع عنه وإزاحة الشكوك
المتوجّهة إليه.
فكلّ هذا يستدعي
كماله في الصفات الكماليّة كلّها فيفضل على الأمّة جمعاء ، (قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) (أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
الخلافة عند القوم
:
نعم ؛ الخلافة
التي تقول بها الجماعة لا تستدعي كلّ ما ذكرنا ، فإنَّهم يحسبون الخليفة أيّ
مستحوذٍ على الأمّة يقطع السارق ، ويقتصّ القاتل ، ويكلأ الثغور ، ويحفظ الأمن
العام إلى ما يشبه هذه ، ولا يخلع بفسق ، ولا ينتقد بفاحشة مبيّنة ، ولا يعاب بجهل
، ولا يُؤاخذ بعثرة ، ولا يُشترط فيه أيّ من الملكات الكريمة ، وله العتبى في كلّ
ذلك ، وليس عليه من عتب.
كلمة الباقلانيّ :
قال الباقلانيّ في
التمهيد (ص ١٨١) باب الكلام في صفة الإمام الذي يلزم العقد له : فإن قال قائل :
فخبِّرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم؟ قيل لهم : يجب أن يكون على أوصاف :
منها أن يكون قرشيّا من الصميم ، ومنها : أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون
قاضياً من قضاة المسلمين ، ومنها : أن يكون ذا بصيرة بأمر
__________________
الحرب ، وتدبير
الجيوش والسرايا ، وسدّ الثغور ، وحماية البيضة ، وحفظ الأمّة ، والانتقام من
ظالمها ، والأخذ لمظلومها ، وما يتعلّق به من مصالحها.
ومنها : أن يكون
ممّن لا تلحقه رقّة ولا هوادة في إقامة الحدود ولا جزع لضرب الرقاب والأبشار.
ومنها : أن يكون
من أمثلهم في العلم وسائر هذه الأبواب التي يمكن التفاضل فيها ، إلاّ أن يمنع عارض
من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفضول ، وليس من صفاته أن يكون معصوماً ، ولا عالماً
بالغيب ، ولا أفرس الأمّة وأشجعهم ، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من
قبائل قريش.
وقال في صفحة
(١٨٥) : فإن قالوا : فهل تحتاج الأمّة إلى علم الإمام وبيان شيء خُصّ به دونهم ،
وكشف ما ذهب علمه عنهم؟ قيل لهم : لا ؛ لأنّه هو وهم في علم الشريعة وحكمها سيّان.
فإن قالوا : فلما ذا يقام الإمام؟ قيل لهم : لأجل ما ذكرناه من قبل من تدبير
الجيوش ، وسدّ الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وإقامة الحدود ، وقسم
الفيء بين المسلمين والدفع بهم في حجّهم وغزوهم ، فهذا الذي يليه ويُقام لأجله ،
فإن غلط في شيء منه ، أو عدل به عن موضعه كانت الأمّة من ورائه لتقويمه والأخذ له
بواجبه.
وقال في (ص ١٨٦) :
قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب
الأموال ، وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرّمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود
، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من
معاصي الله ، واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا
بالأموال ، وأنّه قال عليهالسلام : اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ، ولو لعبد حبشيّ ، وصلّوا
وراء كلّ برّ وفاجر. وروي أنّه قال : أطعهم وإن أكلوا مالك ، وضربوا
ظهرك ، وأطيعوهم
ما أقاموا الصلاة. في أخبار كثيرة وردت في هذا الباب ، وقد ذكرنا ما في هذا الباب
في كتاب إكفار المتأوّلين ، وذكرنا ما روي في معارضتها وقلنا في تأويلها بما يغني
الناظر فيه إن شاء الله.
وقال في (ص ١٨٦) :
وليس ممّا يوجب خلع الإمام حدوث فضل في غيره ويصير به أفضل منه ، وإن كان لو حصل
مفضولاً عند ابتداء العقد لوجب العدول عنه إلى الفاضل ، لأنّ تزايد الفضل في غيره
ليس بحدث منه في الدين ، ولا في نفسه يوجب خلعه ، ومثل هذا ما حكيناه عن أصحابنا
أنّ حدوث الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه ، وإن كان ما لو حدث فيه عند ابتداء
العقد لبطل العقد له ووجب العدول.
قال
الأميني : وممّا أوعز إليه
الباقلانيّ من الأخبار الكثيرة الدالّة على وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا
بالأموال ، ولا ينعزل الإمام بالفسق ما يلي :
١ ـ عن حذيفة بن
اليمان قال : قلت : يا رسول الله إنّا كنّا بشرٍّ ، فجاء الله بخير فنحن فيه ، فهل
من وراء هذا الخير شرّ؟ قال : نعم. قلت : وهل وراء هذا الشرّ خير؟ قال : نعم. قلت
: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال : نعم. قلت : كيف يكون؟ قال : يكون بعدي أئمّة لا
يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في
جثمان إنس. قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير
وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع!
صحيح مسلم (٢ / ١١٩) ، سنن
البيهقي (٨ / ١٥٧).
٢ ـ عن عوف بن
مالك الأشجعي قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : خيار أئمّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم ، وتصلّون
عليهم ويصلّون عليكم ، وشرار أئمّتكم
__________________
الذين تبغضونهم
ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، قال : قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم عند
ذلك؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا ومن ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من
معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يداً من طاعة.
صحيح مسلم (٢ / ١٢٢) ، سنن
البيهقي (٨ / ١٥٩).
٣ ـ سأل سلمة بن
يزيد الجعفي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقّهم
ويمنعوننا حقّنا فما تأمرنا؟ قال : فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم سأله فقال : اسمعوا وأطيعوا
فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم. صحيح مسلم (٢ / ١١٩) ، سنن البيهقي : (٨ / ١٥٨).
٤ ـ عن المقدام :
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أطيعوا أمراءكم ما كان ، فإن أمروكم بما حدّثتكم به
فإنّهم يؤجرون عليه وتؤجرون بطاعتكم ، وإن أمروكم بشيء ممّا لم آمركم به فهو عليهم
وأنتم منه برآء ، ذلك بأنّكم إذا لقيتم الله قلتم : ربّنا لا ظلم. فيقول : لا ظلم.
فتقولون : ربّنا أرسلت إلينا رسلاً فأطعناهم بإذنك. واستخلفت علينا خلفاء فأطعناهم بإذنك. وأمّرت علينا أُمراء فأطعناهم. قال :
فيقول : صدقتم هو عليهم وأنتم منه برآء. سنن البيهقي (٨ / ١٥٩).
٥ ـ عن سويد بن
غفلة ، قال : قال لي عمر بن الخطّاب رضى الله عنه : يا أبا أميّة لعلّك أن تخلف
بعدي ، فأطع الإمام وإن كان عبداً حبشيّا ، إن ضربك فاصبر ، وإن أمرك بأمر فاصبر ،
وإن حرمك فاصبر ، وإن ظلمك فاصبر ، وإن أمرك بأمر ينقص دينك فقل : سمع وطاعة ، دمي
دون ديني .
__________________
وأخذاً بهذه
الأحاديث قال الجمهور بعدم عزل الإمام بالفسق ، قال النووي في شرح مسلم هامش إرشاد الساري (٨ / ٣٦) في ذيل هذه الأحاديث المذكورة
عن صحيح مسلم : ومعنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم
إلاّ أن تروا منهم منكراً محقّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك
فأنكروه عليهم ، وقولوا بالحقّ حيث ما كنتم ، وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرام
بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقةً ظالمين ، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته ،
وأجمع أهل السنّة أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق ـ إلى أن قال ـ : فلو طرأ على
الخليفة فسق قال بعضهم : يجب خلعه إلاّ أن تترتّب عليه فتنة وحرب ، وقال جماهير
أهل السنّة من الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين : لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل
الحقوق ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه.
قال
الأميني : فما عذر عائشة
وطلحة والزبير ومن تبعهم من الناكثين والمارقين في الخروج على مولانا أمير
المؤمنين؟ هبه صلوات الله عليه آوى قتلة عثمان ، وعطّل الحدود معاذ الله فأين
العمل بهذه الأحاديث التي أخذتها الأمّة المسكينة سنّة ثابتة مشروعة؟ أنا لا أدري.
كلمة التفتازاني :
وقال التفتازاني
في شرح المقاصد (٢ / ٢٧١) : ولا
يشترط أن يكون الإمام هاشميّا ولا معصوماً ولا أفضل من يولّى عليهم.
وقال في (ص ٢٧٢) :
إذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس
بشوكته انعقدت الخلافة له ، وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر إلاّ أنّه
يُعصى فيما فعل ، ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم
__________________
الشرع ، سواء كان
عادلاً أو جائراً.
كلمة القاضي
الإيجي :
قال في المواقف : الجمهور على أنّ أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع
ليقوم بأمور الدين ، ذو رأي ليقوم بأمور الملك ، شجاع ليقوى على الذبّ عن الحوزة ،
وقيل : لا يشترط هذه الصفات لأنّها لا توجد فيكون اشتراطها عبثاً أو تكليفاً بما
لا يطاق ، ومستلزماً للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها.
نعم ؛ يجب أن يكون
عدلاً لئلاّ يجور ، عاقلاً ليصلح للتصرفات ، بالغاً لقصور عقل الصبيّ ، ذكراً إذ
النساء ناقصات عقل ودين ، حرّا لئلاّ يشغله خدمة السيّد ، ولئلاّ يُحتقر فيعصى ،
فهذه الصفات مشروطة بالإجماع.
وهاهنا صفات في
اشتراطها خلاف :
الأولى
: أن يكون قرشيّا.
الثانية
: أن يكون هاشميّا
، شرطه الشيعة.
الثالثة
: أن يكون عالماً
بجميع مسائل الدين ، وقد شرطه الإماميّة.
الرابعة
: ظهور المعجزة على
يده إذ به يعلم صدقه في دعوى الإمامة ، والعصمة وبه قال الغلاة. ويبطل الثلاثة
أنّا ندلّ على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء ممّا ذكر .
الخامسة
: أن يكون معصوماً
شرطها الإماميّة والإسماعيليّة ، ويبطله أنّ أبا بكر لا تجب عصمته اتّفاقاً .
__________________
كلمة أبي الثناء :
قال في مطالع
الأنظار (ص ٤٧٠) : صفات الأئمّة هي تسع :
الأولى : أن يكون
الإمام مجتهداً في أصول الدين وفروعه.
الثانية : أن يكون
ذا رأي وتدبير ، يدير الوقائع ، أمر الحرب والسلم وسائر الأمور السياسيّة.
الثالثة
: أن يكون شجاعاً
قويّ القلب لا يجبن عن القيام بالحرب ، ولا يضعف قلبه عن إقامة الحدّ ولا يتهوّر
بإلقاء النفوس في التهلكة. وجمع تساهلوا في الصفات الثلاث وقالوا : إذا لم يكن
الإمام متّصفاً بالصفات الثلاث ينيب من كان موصوفاً بها.
الرابعة
: أن يكون الإمام
عدلاً ؛ لأنّه متصرّف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم ، فلو لم يكن عدلاً لا يؤمن
تعدّيه.
الخامسة
: العقل.
السادسة
: البلوغ.
السابعة
: الذكورة.
الثامنة
: الحريّة.
التاسعة
: أن يكون قرشيّا.
ولا يشترط فيه
العصمة خلافاً للإسماعيليّة والاثني عشريّة. دليلنا إمامة أبي بكر والأمّة اجتمعت على كونه غير واجب العصمة ، لا أقول إنّه
غير معصوم!
__________________
ما تنعقد به
الإمامة :
قال القاضي عضد
الإيجي في المواقف : المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة : أنّها تثبت بالنص
من الرسول ، ومن الإمام السابق بالإجماع ، وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً
للشيعة ؛ دليلنا ثبوت إمامة أبي بكر رضى الله عنه بالبيعة .
وقال : إذا ثبت
حصول الإمامة بالاختيار والبيعة ، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع ، بل الواحد
والاثنان من أهل الحلّ والعقد كافٍ لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا
بذلك كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا اجتماع من
في المدينة فضلاً عن إجماع الأمّة. هذا ولم ينكر عليهم أحد ، وعليه انطوت الأعصار
إلى وقتنا هذا.
وقال بعض الأصحاب
: يجب كون ذلك بمشهد بيّنة عادلة كفّا للخصام في ادّعاء من يزعم عقد الإمامة له
سرّا قبل من عقد له جهراً ، وهذا من المسائل الاجتهاديّة.
ثمّ إذا اتّفق
التعدد تفحص عن المتقدّم فأُمضي ، ولو أصرّ الآخر فهو من البغاة ، ولا يجوز العقد
لإمامين في صقع متضايق الأقطار ، أمّا في متّسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو
محل الاجتهاد. انتهى ما في المواقف. وقد أقرّه شرّاحه وهم : السيّد الشريف
الجرجاني ، والمولى حسن چلبي ، والشيخ مسعود الشيرواني. راجع شرح المواقف (٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٧).
__________________
كلمة الماوردي :
وقال الماوردي في
الأحكام السلطانيّة (ص ٤) : اختلفت
العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة : لا تنعقد
إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضاء به عامّا ، والتسليم
لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضى الله عنه على الخلافة
باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى
: أقلّ من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضى
الأربعة استدلالاً بأمرين :
أحدهما : أنّ بيعة
أبي بكر رضى الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم :
عمر بن الخطّاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، وأُسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وسالم
مولى أبي حذيفة.
الثاني : أنّ عمر
رضى الله عنه جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء
والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من
علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين
كما يصحّ عقد النكاح بوليّ وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى
: تنعقد بواحد ؛ لأنّ العبّاس قال لعليّ : امدد يدك أُبايعك فيقول الناس : عمّ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حُكم وحكم
الواحد نافذ.
__________________
كلمة الجويني :
قال إمام الحرمين
الجويني المتوفّى (٤٧٨) في الإرشاد (ص ٤٢٤) : باب في
الاختيار وصفته وذكر ما تنعقد الإمامة به :
اعلموا أنّه لا
يشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع الأُمّة على عقدها ،
والدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ، ولم
يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر ،
ولم يحمله على التريّث حامل ، فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة ، لم يثبت عدد
معدود ، ولا حدّ محدود ، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ
والعقد.
ثمّ قال بعض
أصحابنا : لا بدّ من جريان العقد بمشهد من الشهود ، فإنّه لو لم يشترط ذلك لم نأمن
أن يدّعي مدّع عقداً سراً متقدّماً على الحق المظهر المعلن ، وليست الإمامة أحطّ
رتبة من النكاح ، وقد شرط فيه الإعلان ، ولا يبلغ القطع ، إذ ليس يشهد له عقل ،
ولا يدلّ عليه قاطع سمعيّ ، وسبيله سبيل سائر المجتهدات. انتهى.
وقال الإمام ابن
العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي (١٣ / ٢٢٩) : لا يلزم في عقد البيعة للإمام أن
تكون من جميع الأنام ، بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد على الخلاف المعلوم فيه.
كلمة القرطبي :
وقال القرطبي في
تفسيره (١ / ٢٣٠) : فإن
عقدها واحد من أهل الحلّ والعقد
__________________
فذلك ثابت ويلزم
الغير فعله ، خلافاً لبعض الناس حيث قال : لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ
والعقد ، ودليلنا أنّ عمر رضى الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من
الصحابة ذلك ، ولأنّه عقد فوجب ألاّ يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر
العقود ، قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا
يجوز خلعه من غير حدث وتغيّر أمر ، قال : وهذا مجمع عليه.
قال الأميني : فما
المبرّر عندئذٍ لتخلّف عبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد ، وسعد ابن أبي وقاص ،
وأبي موسى الأشعري ، وأبي مسعود الأنصاري ، وحسّان ابن ثابت ، والمغيرة بن شعبة ،
ومحمد بن مسلمة وبعض آخر من ولاة عثمان على الصدقات وغيرها عن بيعة مولانا أمير
المؤمنين بعد إجماع الأمّة عليها؟ وما عذر تأخّرهم عن طاعته في حروبه ، وقد عُرفوا
بين الصحابة وسمّوا المعتزلة لاعتزالهم بيعة عليّ ؟
رأي الخليفة
الثاني في الخلافة وأقواله فيها :
عن عبد الرحمن بن
أبزي قال : قال عمر : هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثمّ في أهل أحد ما
بقي منهم أحد ، وفي كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح
شيء. طبقات ابن سعد (٣ / ٢٤٨). وفي
كلمة له ذكرها ابن
__________________
حجر في الإصابة (٢
/ ٣٠٥) : إنّ هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء.
وقال : لو أدركني
أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبي عبيدة
الجرّاح. ولو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى .
وقال لمّا طُعن :
إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق الأجلح المستقيم ، يعني عليّا. فقال له ابن عمر :
ما يمنعك أن تقدّم عليّا؟ قال : أكره أن أحملها حيّا وميّتاً.
الأنساب للبلاذري (٥
/ ١٦) ، الاستيعاب لأبي عمر (٢ / ٤١٩).
وقال : لو ولّيتها
عثمان لحمل آل أبي معيطٍ على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا
أن يسيروا إليه حتى يجزّوا رأسه. فقالوا : عليّ؟ قال : رجل قُعدد ، قالوا : طلحة؟ قال : ذاك رجل فيه بأو ، قالوا : الزبير؟ قال : ليس هناك ، قالوا : سعد؟ قال :
صاحب فرس وقوس ، فقالوا : عبد الرحمن بن عوف؟ قال : ذاك فيه إمساك شديد ، ولا يصلح
لهذا الأمر إلاّ معط في غير سرف ، وممسك في غير تقتير.
أخرجه القاضي أبو
يوسف الأنصاري المتوفّى (١٨٢) في كتابه الآثار نقلاً
__________________
عن شيخه إمام
الحنفيّة أبي حنيفة.
هذه الكلمات وما
يتلوها سلسلة بلاء تشذّ عن الحقّ والمنطق غير أنّا نمرّ بها كراماً.
وعن ابن عبّاس قال
: قال عمر : لا أدري ما أصنع بأمّة محمد؟ وذلك قبل أن يُطعن ، فقلت : ولِمَ تهتمّ
وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال : أصاحبكم؟ يعني عليّا ، قلت : نعم ، هو أهل لها
في قرابته برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر : إنّ فيه بطالة وفكاهة.
قلت : فأين أنت عن طلحة؟ قال : أين الزهو والنخوة؟ قلت : عبد الرحمن بن عوف؟ قال :
هو رجل صالح على ضعف. قلت : فسعد؟ قال : ذاك صاحب مقنب وقتال ، لا يقوم بقرية لو
حمّل أمرها. قلت : فالزبير؟ قال : لقيس مؤمن الرضى كافر الغضب شحيح. إنّ هذا الأمر
لا يصلح إلاّ لقويّ في غير عنف ، رفيق في غير ضعف ، جواد في غير سرف. قلت : فأين
عن عثمان؟ قال : لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ، ولو فعلها لقتلوه.
ذكره البلاذري في
الأنساب (٥ / ١٦) ، وفي لفظ آخر له (ص ١٧) : قيل : طلحة؟ قال : أنفه في السماء
واسته في الماء.
نظرة في الخلافة
التي جاء بها القوم :
قال
الأميني : هذا ما جاء به
القوم من الخلافة الإسلاميّة والإمامة العامّة ، فهي عندهم ليست إلاّ رئاسة عامّة
لتدبير الجيوش ، وسدّ الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وإقامة الحدود ،
وقسم الفيء بين المسلمين ، والدفع بهم في حجّهم وغزوهم ، ولا يشترط فيها نبوغ في
العلم زائداً على علم الرعيّة ، بل هو والأمّة في علم الشريعة سيّان ، ويكفي له من
العلم ما يكون عند القضاة ، وهؤلاء القضاة بين يديك وأنت جدّ عليم بعلمهم ويسعك
إمعان النظر فيه من كثب ، ولا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه
وجوره وفجوره ،
ويجب على الأمّة طاعته على كلّ حال برّا كان أو فاجراً ، ولا يسوغ لأحد مخالفته
ولا القيام عليه والتنازع في أمره.
فعلى هذا الأساس
كان يزحزح خلفاء الانتخاب الدستوري في القضاء والإفتاء عن حكم الكتاب والسنّة ولم
يكن هناك أيّ وازع ، ولم يكن يوجد قطّ أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؛ خوفاً
ممّا افتعلته يد السياسة ؛ وجعلت به على الأفواه أوكية .
من حديث عرفجة
مرفوعاً : ستكون هنات وهنات ؛ فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جميع فاضربوه
بالسيف كائناً من كان .
ورواية عبد الله
مرفوعاً : ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا : يا رسول الله كيف تأمر من أدرك
منّا ذلك؟ قال : تؤدّون الحقّ الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم. صحيح مسلم (٢ / ١١٨)
وعلى هذا الأساس
تمكّن معاوية بن أبي سفيان من أن يجلس بالكوفة للبيعة ويبايعه الناس على البراءة
من عليّ بن أبي طالب. البيان والتبيين (٢ / ٨٥).
وعلى هذا الأساس
أقرّ عبد الله بن عمر بيعة يزيد الخمور ، قال نافع : لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن
معاوية جمع ابن عمر حشمه ومواليه. وفي رواية سليمان : حشمه وولده وقال : إنّي سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة». زاد الزهراني :
قال : وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم
من أن تبايع رجلاً على بيعة الله ورسوله ثمّ تنصب له القتال ، وإنّي لا أعلم أحداً
منكم خلع ولا بايع في هذا الأمر إلاّ كانت الفيصل فيما بيني وبينه.
__________________
وفي لفظ : إنّ عبد
الله بن عمر جمع أهل بيته حين انتزى أهل المدينة مع عبد الله ابن الزبير ، وخلعوا
يزيد بن معاوية ، فقال : إنّا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإنّي سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّ الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال : هذه
غدرة فلان ، وإنّ من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلاً على بيع
الله ورسوله ، ثمّ ينكث بيعته ، ولا يخلعن أحد منكم يزيد ، ولا يشرفن أحد منكم في
هذا الأمر فيكون صيلماً بيني وبينه .
وعلى هذا الأساس
جاء عن حميد بن عبد الرحمن أنّه قال : دخلت على يُسَير الأنصاري الصحابيّ حين
استخلف يزيد بن معاوية فقال : إنّهم يقولون : إنّ يزيد ليس بخير أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا أقول ذلك ، ولكن لَأن يجمع الله أمر أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أحبّ إليّ من أن يفترق ، قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يأتيك في الجماعة إلاّ خير .
وعلى هذا الأساس
تكلّمت عائشة فيما رواه الأسود بن يزيد قال : قلت لعائشة : ألا تعجبين من رجل من
الطلقاء ينازع أصحاب محمد في الخلافة؟ قالت : وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله
يؤتيه البرّ والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة .
وعلى هذا الأساس
يوجّه قول مروان بن الحكم ، قال : ما كان أحد أدفع عن عثمان من عليّ ، فقيل له :
ما لكم تسبّونه على المنابر؟ قال : إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك
__________________
وعلى هذا الأساس
صحّ قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد لمّا أراد البيعة ليزيد ، أنّه خطب أهل الشام
وقال لهم : يا أهل الشام إنّه قد كبرت سنّي ، وقرب أجلي ، وقد أردت أن أعقد لرجل
يكون نظاماً لكم ، إنّما أنا رجل منكم فروا رأيكم ؛ فأصقعوا واجتمعوا وقالوا :
رضينا عبد الرحمن بن خالد فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه ، ثمّ إنّ عبد الرحمن
مرض فأمر معاوية طبيباً عنده يهوديّا وكان عنده مكيناً أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله
بها ، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات ، ثمّ دخل أخوه المهاجر ابن خالد دمشق
مستخفياً هو وغلام له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلاً من عند معاوية فهجم عليه ومعه
قوم هربوا عنه ، فقتله المهاجر.
ذكره أبو عمر في
الاستيعاب (٢ / ٤٠٨) فقال :
وقصّته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها. ذكرها عمر بن
شبّه في أخبار المدينة ، وذكرها غيره ، وذكرها ابن الأثير في أُسد الغابة (٣ / ٢٨٩).
وعلى هذا الأساس
يتمّ اعتذار شمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام السبط في ما رواه أبو إسحاق ، قال : كان
شمر بن ذي الجوشن يصلّي معنا ثمّ يقول : اللهم إنّك شريف تحبّ الشرف ، وإنّك تعلم
أنّي شريف فاغفر لي. قلت : كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ قال : ويحك فكيف نصنع؟ إنّ أُمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر
فلم نخالفهم ، ولو خالفناهم كنّا شرّا من هذه الحمر الشقاة .
__________________
وفي لفظ : اللهم
اغفر لي فإنّي كريم لم تلدني اللئام. فقلت له : إنّك لسيّئ الرأي والفكر تسارع إلى
قتل ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتدعو بهذا الدعاء؟ فقال : إليك عنّي ، فلو كنّا كما تقول
أنت وأصحابك لكنّا شرّا من الحمر في الشعاب.
وعلى هذا الأساس
جرى ما جرى على أبي بكر الطائي وأصحابه. قال سليمان ابن ربوة : اجتمعت أنا وعشرة
من المشايخ في جامع دمشق فيهم أبو بكر بن أحمد بن سعيد الطائي فقرأنا فضائل عليّ
بن أبي طالب رضى الله عنه ، فوثب علينا قريب من مائة يضربوننا ويسحبوننا إلى
الوالي ، فقال لهم أبو بكر الطائي : يا سادة اسمعوا لنا إنّما قرأنا اليوم فضائل
عليّ وغداً نقرأ فضائل أمير المؤمنين معاوية رضى الله عنه ، وقد حضرتني أبيات فإن
رأيتم أن تسمعوها ، فقالوا له : هات ، فأنشأ بديهاً :
حبُّ عليّ كلّهُ
ضربُ
|
|
يرجف من خيفته
القلبُ
|
ومذهبي حبُّ
إمامِ الهدى
|
|
يزيدَ والدينُ
هو النَّصبُ
|
من غيرَ هذا قال
فهو امرؤ
|
|
ليس له عقلٌ ولا
لبُ
|
والناسُ مَن
يغدُ لأهوائِهمْ
|
|
يسلم وإلاّ
فالقضا نهبُ
|
قال : فخلّوا
عنّا. تمام المتون للصفدي (ص ١٨٨).
وعلى هذا الأساس
هتكت حرمات آل الله ، وأُضيعت مقدّسات العترة الهادية ، وسُفكت دماء الأبرياء
الأزكياء من شيعة أهل البيت الطاهر ، وشاع وذاع لعن سيّد العترة نفس النبيّ الأقدس
، والمطهّر بلسان الله على صهوات المنابر ، واتّخذه خلفاء بني أُميّة سنّة متّبعة
في أرجاء العالم الإسلامي ، حتى وبّخ معاوية سعد بن أبي وقاص لسكوته عن سبّ أبي
السبطين مولانا أمير المؤمنين حتى تمكّن عبد الله بن
__________________
الوليد بن عثمان
بن عفّان من أن قام إلى هشام بن عبد الملك عشيّة عرفة وهو على المنبر فقال : يا
أمير المؤمنين إنّ هذا يوم كانت الخلفاء تستحبّ فيه لعن أبي تراب .
وقال سعيد بن عبد
الله لهشام بن عبد الملك : يا أمير المؤمنين إنّ أهل بيتك في مثل هذه المواطن
الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب ، فالعنه أنت أيضاً .
وعلى هذا الأساس
من معنى الخلافة لا عسف ولا حزازة في رأي الخليفة الأوّل ومن حذا حذوه من صحّة
اختيار المفضول على الفاضل ، وتقديم المتأخّر على المتقدّم بأعذار مفتعلة ، وأوهام
مختلقة ، ومرجّحات واهية ، وسياسة وقتيّة ، إذ الأمر الذي لا يشترط في صاحبه شيء
من القداسة الروحيّة ، والملكات الفاضلة ، والخلائق الكريمة ، والنفسيّات الشريفة
، ومعالم ومعارف ، ومدارج ومراتب ، ولا يؤاخذ هو بما فعل ، ولا يخلع بتعطيل
الأحكام ، وترك إقامة الحدود ، ولا ينابذ ما دام يقيم في أمّته الصلاة ، كما سمعت
تفصيل ذلك كلّه ، لا وازع عندئذٍ من أن يكون أمثال أبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور
حاملاً لهذا العبء الثقيل ، متحلّياً بأبراد الخلافة ولا مانع من تقديم الخليفة
الأوّل إيّاه أو صاحبه على نفسه في بدء الأمر ، ولا حاجز من اختيار أيّ مستأهل
لتنفيذ ما ذكر (ص ١٣٨) ممّا يُقام له الإمام ولو بمعونة سماسرته وجلاوزته ومن
يهمّه أمره ، بل من له الشدّة والفظاظة والعنف والتهوّر إلى أمثالها ربّما يكون
أولى من غيره مهما اقتضته السياسة الوقتيّة.
واتّبع الأكثرون
الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل ، قال القاضي في المواقف : جوّز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، إذ لعلّه
أصلح للإمامة من الفاضل ، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر معرفة مصالحه ومفاسده ،
وقوّة القيام
__________________
بلوازمه ، وربّ
مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف ، وبشرائطها أقوم ، وفصّل قوم فقالوا : نصب
الأفضل إن أثار فتنة لم يجب وإلاّ وجب. وقال الشريف الجرجاني : كما إذا فرض أنّ
العسكروالرعاية لاينقادون للفاضل بل للمفضول شرح المواقف (٣ / ٢٧٩).
قال
الأميني : إنّا لا نريد
بالأفضل إلاّ الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر لا الأفضليّة
في صفة دون أُخرى ، فيكون حينئذٍ الأفقه مثلاً هو الأبصر بشؤون السياسة ، والأعرف
بمصالح الأمور ومفاسدها ، والأثبت في إدارة الصالح العامّ ، والأبسل في مواقف
الحروب ، والأقضى في المحاكمات ، والأخشن في ذات الله ، والأرأف بضعفاء الأمّة ،
والأسمح على محاويج الملأ الديني ، إلى أمثالها من الشرائط والأوصاف ، إذن فلا
تصوير لما حسبوه من أنّ المفضول قد يكون أقدر وأعرف وأقوم.
وعلى المولى
سبحانه أن لا يخلي الوقت عن إنسان هو كما قلناه ، بعد أن أثبتنا أنّ تقييضه من
اللطف الواجب عليه سبحانه ، وهو عديل القرآن الكريم ، ولا يفترقا حتى يردا على
النبيّ الحوض.
وأمّا من لا ينقاد
له من الجيش وغيره فهو كمن لا ينقاد لصاحب الرسالة ، لا يزحزح بذلك صاحب الأمر
عمّا قيّضه الله له من الولاية الكبرى ، بل يجب على بقيّة الأمّة إخضاعهم كما
أخضعوا أهل الردّة أو من حسبوه منهم ، وأن يفوّقوا إليه سهم الجنّ كما فوّقوه إلى
سعد بن عبادة أمير الخزرج.
ولم تكن للخليفة
مندوحة عن رأيه في تقديم المفضول ، وما كان إلاّ تصحيحاً لخلافة نفسه ، ولتقدّمه
على من قدّسه المولى سبحانه في كتابه العزيز ، ورآه نفس النبيّ
__________________
الأقدس وقرن طاعته
بطاعته ، وولايته بولايته ، وأكمل به الدين ، وأتمّ به النعمة ، وأمر نبيّه
بالبلاغ وضمن له العصمة من الناس ، وهتف هاتف الوحي بولايته وأولويّته بالمؤمنين
من أنفسهم في محتشد رهيب بين مائة ألف أو يزيدون قائلاً : «يا أيّها الناس إنّ
الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم من كنت مولاه فعليّ
مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه».
ولم تكن تخفى لأيّ
أحد فضائل أبي السبطين وملكاته وروحيّاته ، وطيب عنصره ، وطهارة محتده ، وقداسة
مولده ، وعظمة شأنه ، وبُعد شأوه في حزمه وعزمه وسبقه في الإسلام ، وتفانيه في ذات
الله ، وأفضليته في العلم والفضائل كلّها.
نعم ؛ على رأي
الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل وقع الانتخاب من أوّل يومه ، فبويع أبو بكر
بعقد رجلين ليس إلاّ : عمر بن الخطّاب وأبي عبيدة الحفّار ابن الجرّاح ، وكان
الأمر أمر نهار قضي ليلاً ، مدبّراً بين أولئك الرجال مؤسّسي الانتخاب الدستوري ،
وما اتّبعهما يوم ذاك إلاّ أُسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، ثمّ دَرْدَب الناس لمّا
عضّه الثقاف واتّسع الخرق على الراقع ، وما أُدركت القويمة حتى أكلتها
الهويمة ، وأصبح المصلح الهضيم يقول : دع الرجل واختياره ، وإنّ في الشرّ خياراً ، ولا يجتنى من الشوك العنب.
بويع أبو بكر ودبّ
قمله ، وقسمت الوظائف الدينيّة من أوّل يومه بين ثلاث : له الإمامة ، وقال عمر :
وإليّ القضاء. وقال أبو عبيدة : وإليّ الفيء. وقال عمر : فلقد
__________________
كان يأتي عليّ
الشهر ما يختصم إليّ فيه اثنان ، ولم يكن هناك من يزعم أو يفوه بأفضليّة أبي بكر وعمر من
مولانا أمير المؤمنين ، هذا أبو بكر ينادي على صهوات المنابر : ولّيت ولست بخيركم
، ولي شيطان يعتريني. ويطلب من أمّته العون له على نفسه وإقامة أمته وعوجه .
وهذا عمر بن
الخطّاب ونصوصه بين يديك. على أنّ الأمر كان لعليّ غير أنّهم زحزحوه عنه لحداثة
سنّه والدماء التي عليه ، أو لِما قاله لمّا عزم على الاستخلاف : لله أبوك لو لا
دعابة فيك ، كما في الغيث المنسجم للصفدي (١ / ١٦٨) ، وكان
يدعو الله ربّه أن لا يبقيه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن ، ويرى أنّ عليّا لولاه
لضلّ هو ، ولولاه لهلك هو ، ولولاه لافتضح هو ، وعقمت النساء أن
يلدن مثل عليّ. إلى كثير ممّا مرّ عنه في الجزء السادس في نوادر الأثر ، ولم يكن
قط يختلج في هواجس ضميره ولن يختلج ـ وأنّى يختلج؟ ـ أنّه كان يماثل مولانا عليّا
في إحدى فضائله ، أو يدانيه في شيء منها ، أو يبعد عنه بقليل.
وبعد ما عرفت معنى
الخلافة عند القوم ، ووقفت على رأي سلفهم فيها وفي مقدّمهم الخليفة الأوّل ، هلمّ
معي إلى التهافت بين تلكم الكلمات وبين مزاعم أخرى جنح إليها لفيف آخر : (وَلَوْ
كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .
قال أحمد بن محمد
الوتري البغدادي في روضة الناظرين (ص ٢) : اعلم أنّ جماهير أهل السنّة والجماعة
يعتقدون أنّ أفضل الناس بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أبو بكر ثمّ
__________________
عمر ثمّ عثمان ثمّ
عليّ رضي الله تعالى عنهم ، وأنّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضيلة
لاستحالة تقديم المفضول على الفاضل لأنّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل ، والدليل
عليه أنّ أبا بكر رضى الله عنه لما نصّ على عمر رضى الله عنه قام إليه طلحة رضى
الله عنه فقال له : ما تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظاً غليظاً؟ قال أبو بكر رضى
الله عنه : فركت لي عينيك ، ودلكت لي عقبيك ، وجئتني تكفّني عن رأيي ، وتصدّني عن
ديني أقول له إذا سألني : خلّفت عليهم خير أهلك. فدلّ على أنّهم كانوا يُراعون
الأفضل فالأفضل. انتهى.
وأنت ترى أنّ هذه
المزعمة فيها دجل لإغراء البسطاء من الأمّة المسكينة وهي تصادم رأي الجمهور
ونظريّات علماء الكلام منهم ، وعمل الصحابة ونصوصهم ، وقبل كلّ شيء رأي الخليفة
أبي بكر ، وكأنّ ما حسبه من الاستحالة قد خفي على الخليفة وعلى من آزره على أمره ،
واعتنق إمامته في القرون والأجيال من بعده.
وكأنّ أفضليّة
الرجل الفظّ الغليظ كانت تخفى على الصحابة ، ولم يكن يعلمها أحد فأعرب عنها أبو
بكر ، وكأنّ التاريخ ونوادر الأثر لم تكن بين يدي الوتري حتى يعرف مقادير الرجال ،
ولا يغلو فيهم ، ولا يتحكّم ولا يجازف في القول ولا يسرف في الكلام ويعلم بأنّ عمر
لو كان خير الأمّة وتلك سيرته ونوادر أثره فعلى الإسلام السلام.
نعم ؛ إنّما هي
أهواء وشهوات أخذ كلّ بطرف منها ، وفتاوى مجرّدة هملج وراءها كلّ حسب ميوله ، ونحن
نضع عقلك السليم مقياساً بين هذين الإمامين : من نصفه نحن ، ومن يقول به هؤلاء.
فراجعه إلى أيّهما يجنح ، وأيّا منهما يتّخذه وسيلة بينه وبين ربّه سبحانه ،
وأيّهما يحقّ له أن يستحوذ على رقاب المسلمين ونفوسهم ونواميسهم وأحكامهم في
دنياهم وأخراهم؟ إن لم تكن في ميزان نصفته عين. فويل للمطفّفين.
ـ ٦ ـ
رأي الخليفة في القَدَر
أخرج اللالكائي في
السنّة عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنا بقدر؟
قال : نعم. قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال : نعم ، يا ابن اللخناء ،
أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك .
قال الأميني : أترى
الخليفة عرف معنى القدر الصحيح؟ بمعنى ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الالهي ،
مع إعطاء القدرة على الفعل والترك ، مع تعريف الخير والشرّ وتبيان عاقبة الأوّل
ومغبّة الأخير.
(إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) (وَمَنْ شَكَرَ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) .
كلّ ذلك مع تكافؤ
العقل والشهوة في الإنسان ، مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن
عاملٍ بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترفٍ للمعصية بسوء الخيرة.
(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (فَمَنِ
اهْتَدى
__________________
فَإِنَّما
يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (فَمَنِ اهْتَدى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (فَمَنْ أَبْصَرَ
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ
جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
فالقدَر لا يستلزم
جبراً وعلم المولى سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين ويأتون به من العمل
من خير أو شرّ لا ينافي التكليف. كما لا أثر له في اختيار المكلّفين ، ولا يقبح
معه العقاب على المعصية ، ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (فَكَيْفَ
__________________
إِذا
جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) .
فهل الخليفة عرف
هذا المعنى من القدَر ، فأجاب بما أجاب؟ لكن السائل لم يفهم ما أراده فانتقده بما
انتقد؟ غير أنّه لو كان يريد ذلك لَما جابَه المنتقد بالسباب المقذع والتمنِّي بأن
يكون عنده من يجأ أنفه قبل بيان المراد فيفيء الرجل إلى الحقّ.
أو أنّ الخليفة لم
يكن يعرف من القدَر إلاّ ما ارتفعت به عقيرة جماهير من أشياعه من القول بخلق
الأعمال؟ فيتّجه إذن ما قاله المنتقد سبّه الخليفة أو لم يسبّه.
والذي يؤثر عن
ابنته عائشة هو الجنوح إلى المعنى الثاني يوم اعتذرت عن نهضتها على مولانا أمير
المؤمنين ، وتبرّجها عن خدرها المضروب لها تبرّج الجاهليّة الأولى بعد أن ليمت على
ذلك ، بأنّها كانت قدَراً مقدوراً وللقدَر أسباب. أخرجه الخطيب البغدادي بإسناده
في تاريخه (١ / ١٦٠).
وإن كان يوقفنا
موقف السادر ما يؤثر عنها فيما أخرجه الخطيب أيضاً في تاريخه (٩ / ١٨٥) عن عروة
قال : ما ذكرت عائشة مسيرها في وقعة الجمل قطّ إلاّ بكت حتى تبلّ خمارها وتقول :
يا ليتني كنت نسياً منسيّا . قال سفيان الثوري : النسي المنسي الحيضة الملقاة.
كأنّها كانت ترى
مسيرها حوباً كبيراً جديراً أن تبكي عليه مدى الدهر ، وتبلّ بدمعها خمارها ،
وتتمنّى ما تمنّت ، وهذا ينافي ذلك الاعتذار البارد المأخوذ أصله عن
__________________
رأي أبيها الخليفة
الذي لم يجد مساغاً في دفع ما يتّجه عليه إلا السباب.
ـ ٧ ـ
ترك الخليفة الضحيّة مخافة أن تُستنَ
قد مرّ في الجزء
السادس (ص ١٦٧) من الصحيح الوارد في أنّ أبا بكر وعمر كانا لا يضحّيان كراهة أن
يقتدى بهما ، فيظنّ فيها الوجوب. وقد استوفينا حقّ القول هناك فراجع.
ـ ٨ ـ
ردّة بني سليم
عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ، قال : كان في بني سليم ردّة ، فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد ، فجمع
رجالاً منهم في الحظائر ثمّ أحرقها عليهم بالنار ، فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال
: تدع رجلاً يعذّب بعذاب الله عزّ وجلّ. فقال أبو بكر : والله لا أشيم سيفاً سلّه
الله على عدوّه حتى يكون هو الذي يشيمه ، ثمّ أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة.
الرياض النضرة (١ / ١٠٠)
ليس في هذا الجواب
مخرج عن اعتراض عمر فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى : (إِنَّما
جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) .
وصحّ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم النهي عن الإحراق وقوله : «لا يُعذّب بالنار إلاّ ربّ النار».
__________________
وقوله : «إنّ
النار لا يعذّب بها إلاّ الله» ، وقوله : «لا يعذّب بالنار إلاّ ربّها» ، وقوله : «من
بدّل دينه فاقتلوه» ، وقوله : «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله إلاّ الله
وأنّ محمداً رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : زناً بعد إحصان فإنّه يرجم ، ورجل يخرج
محارباً لله ورسوله فإنّه يُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض ، أو يقتل نفساً
فيُقتل بها».
سنن أبي داود (٢ /
٢١٩) ، مصابيح السنّة (٢ / ٥٩) ، مشكاة المصابيح (ص ٣٠٠) .
وأمّا فعل أمير
المؤمنين عليهالسلام بعبد الله بن سبأ وأصحابه فلم يكن إحراقاً ولكن حفر لهم
حفائر ، وخرق بعضها إلى بعض ، ثمّ دخّن عليهم حتى ماتوا كما قال عمّار الدهني ،
فقال عمرو بن دينار : قال الشاعر :
لترمِ بي
المنايا حيث شاءت
|
|
إذا لم ترمِ بي
في الحفرتينِ
|
إذا ما أجَّجوا
حطباً وناراً
|
|
هناك الموت
نقداً غير دينِ
|
وأمّا قول أبي بكر
: لا أشيم سيفاً. الخ. فهو تحكّم تجاه النصّ النبويّ ، وما كان السيف أنطق من
القول ، ومتى شهر الله سبحانه هذا السيف صاحب الدواهي الكبرى
__________________
والطامّات في يومه
هذا؟ ويومه الآخر المخزي في بني حنيفة ومع مالك بن نويرة وأهله؟ ويومه قبلهما مع
بني جذيمة الذي تبرّأ فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من عمله؟ إلى غيرها من المخاريق والمخازي التي تغمد بها
هذا السيف.
ـ ٩ ـ
حرق الخليفة الفجاءة
قدم على أبي بكر
رجل من بني سليم يقال له الفجاءة ، وهو إياس بن عبد الله ابن عبد ياليل بن عميرة
بن خفاف فقال لأبي بكر : إنّي مسلم وقد أردت جهاد من ارتدّ من الكفّار فاحملني
وأعنّي ، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحاً ، فخرج يستعرض الناس المسلم
والمرتدّ يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ومعه رجل من بني الشريد يقال له نجبة
بن أبي الميثاء. فلمّا بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز : إنّ عدوّ الله
الفجاءة أتاني يزعم أنّه مسلم ويسألني أن أقوّيه على من ارتدّ عن الإسلام فحملته
وسلّحته ثمّ انتهى إليّ من يقين الخبر أنّ عدوّ الله قد استعرض الناس المسلم
والمرتدّ يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله
أو تأخذه فتأتيني به فسار إليه طريفة ، فلمّا التقى الناس كانت بينهم الرميّا
بالنبل فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رُمي به ، فلمّا رأى الفجاءة من المسلمين
الجدّ قال لطريفة : والله ما أنت بأولى بالأمر منّي أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره
، فقال له طريفة : إن كنت صادقاً فضع السلاح وانطلق إلى أبي بكر فخرج معه ، فلمّا
قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز فقال : اخرج به إلى هذا البقيع فحرّقه فيه
بالنار. فخرج به طريفة إلى المصلّى فأوقد له ناراً فقذفه فيها.
وفي لفظ الطبري :
فأوقد له ناراً في مصلّى المدينة على حطب كثير ثمّ رمي فيها مقموطاً.
وفي لفظ ابن كثير
: فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرّقه وهو مقموط .
قال الأميني :
القول في هذا كالذي سبقه من عدم جواز الإحراق بالنار والتعذيب بها ، على أنّ
الفجاءة كان متظاهراً بالإسلام وتلقّاه الخليفة بالقبول يوم أعطاه ظهراً وسلّحه ،
وإن كان فاسقاً بالجوارح على ما انتهى إلى الخليفة من يقين الخبر ، ولم يكن سيف
الله مشهوراً هاهنا حتى يتورّع عن إغماده ، ولا يُدّعى مثله لطريفة حتى يكون
معذّراً في مخالفة النصّ الشريف ، ولعلّ لذلك كلّه ندم أبو بكر نفسه يوم مات عن
فعله ذلك كما في الصحيح الآتي إن شاء الله تعالى. فإلى الملتقى.
والعجب كلّ العجب
من دفاع القاضي عضد [ الدين ] الإيجي عن الخليفة بقوله في المواقف : إنّ أبا بكر مجتهد ، إذ ما من مسألة في الغالب إلاّ وله
فيها قول مشهور عند أهل العلم ، وإحراق الفجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته ، لأنّه
زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصحّ.
وجاء بعده القوشجي
مدافعاً عن الخليفة بقوله في شرح التجريد (ص ٤٨٢) : إحراقه فجاءة بالنار من غلطة
في اجتهاده ، فكم مثله للمجتهدين!
إقرأ واضحك أو ابك
، زه زه بالاجتهاد تجاه نصّ الكتاب والسنّة ، ومرحباً بمجتهد يخالف دين الله.
__________________
ـ ١٠ ـ
رأي الخليفة في قصّة مالك
سار خالد بن
الوليد يريد البطاح حتى قدمها فلم يجد بها أحداً ، وكان مالك بن نويرة قد فرّقهم
ونهاهم عن الاجتماع وقال : يا بني يربوع إنّا دُعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه
فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه
الناس ، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرّقوا وادخلوا في هذا الأمر ، فتفرّقوا
على ذلك ، ولمّا قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه
بكلّ من لم يُجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا
ويقيموا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم وأقاموا فكفّوا عنهم ، وإن لم يفعلوا فلا
شيء إلاّ الغارة ثمّ تقتلوا كلّ قتلة ، الحرق فما سواه ، وإن أجابوكم إلى داعية
الإسلام فسائلوهم فإن أقرّوا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شيء إلاّ الغارة
، ولا كلمة ، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع ومن
عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلف السريّة فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد
أنّهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة
باردة لا يقوم لها شيء وجعلت تزداد برداً ، فأمر خالد منادياً فنادى : ادفئوا
أسراكم. وكانت في لغة كنانة القتل ، فظنّ القوم أنّه أراد القتل ولم يرد إلاّ
الدفء فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا
منهم فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه. وتزوّج خالد أمّ تميم امرأة مالك ، فقال
أبو قتادة : هذا عملك ، فزبره خالد فغضب ومضى.
وفي تاريخ أبي
الفداء : كان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين ، فكلّما خالداً في أمره
، فكره كلامهما. فقال مالك : يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا.
فقال خالد : لا أقالني الله إن أقلتك وتقدّم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.
فقال عمر لأبي بكر
: إنّ سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه في ذلك ، فقال : يا عمر تأوّلَ فأخطأ فارفع
لسانك عن خالد فإنّي لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين.
وفي لفظ الطبري وغيره : أنّ أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم
داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذاناً للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما
الذي نقموا ، وإن لم تسمعوا أذاناً فشنّوا الغارة فاقتلوا وحرّقوا. وكان ممّن شهد
لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعيّ ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد
بن الوليد حرباً أبداً بعدها ، وكان يحدّث أنّهم لمّا غشوا القوم راعوهم تحت الليل
فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا : إنّا المسلمون. فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا
: فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا : فما بال السلاح معكم؟ قلنا : فإن كنتم كما
تقولون فضعوا السلاح. قال : فوضعوها ثمّ صلّينا وصلّوا ، وكان خالد يعتذر في قتله
أنّه قال وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلاّ وقد كان يقول كذا وكذا. قال : أو ما
تعدّه لك صاحباً. ثمّ قدّمه فضرب عنقه وعنق أصحابه.
فلمّا بلغ قتلهم
عمر بن الخطّاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال : عدوّ الله عدا على امرئ مسلم
فقتله ثمّ نزا على امرأته ، وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه
قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهماً ، فلمّا أن
دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّها ثمّ قال : أرئاء؟ قتلت
امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه خالد ابن
الوليدو لا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتى دخل على أبي بكر ،
فلمّا أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان
__________________
في حربه تلك. قال
: فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر ، وعمر جالس في المسجد فقال خالد : هلمّ إليّ يا
ابن أمّ شملة. قال فعرف عمر أنّ أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلّمه ودخل بيته.
وقال سويد : كان
مالك بن نويرة من أكثر الناس شَعراً ، وإنّ أهل العسكر أثفّوا برءوسهم القدور ،
فما منهم رأس إلاّ وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً فإنّ القِدر نضجت وما نضج
رأسه من كثرة شعره ، وقى الشعر البشَر حرّها أن يبلغ منه ذلك.
وقال ابن شهاب :
إنّ مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس ، فلمّا قتل أمر خالد برأسه فنصب إثفية لقِدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شئون رأسه.
وقال عروة : قدم
أخو مالك متمّم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له بردّ السبي
، وألحّ عليه عمر في خالد أن يعزله ، وقال : إنّ في سيفه رهقاً. فقال : لا يا عمر
لم أكن لأُشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين.
وروى ثابت في
الدلائل : إنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال ، فقال مالك بعد ذلك
لامرأته : قتلتني. يعني : سأُقتل من أجلك .
وقال الزمخشري
وابن الأثير وأبو الفداء والزبيدي : إنّ مالك بن نويرة رضى الله عنه قال لامرأته
يوم قتله خالد بن الوليد : أقْتَلْتِني. أي عرّضتني بحسنِ وجهكِ للقتل لوجوب الدفع
عنكِ ، والمحاماة عليك ، وكانت جميلة حسناء تزوّجها خالد بعد قتله ، فأنكر
__________________
ذلك عبد الله بن
عمر. وقيل فيه :
أفي الحق أنّا لم
تجفّ دماؤنا
|
|
وهذا عروساً
باليمامة خالدُ
|
وفي تاريخ ابن
شحنة هامش الكامل (٧ / ١٦٥) : أمر
خالد ضراراً بضرب عنق مالك ، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني.
وكانت في غاية الجمال ، فقال خالد : بل قتلك رجوعك عن الإسلام. فقال مالك : أنا
مسلم. فقال خالد : يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه ، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :
ألا قل لحيّ
أُوطِئوا بالسنابكِ
|
|
تطاولَ هذا
الليلُ من بعد مالكِ
|
قضى خالدٌ بغياً
عليه بعرسِهِ
|
|
وكان له فيها
هوىً قبل ذلكِ
|
فأمضى هواهُ
خالدٌ غيرَ عاطفٍ
|
|
عنانَ الهوى عنها
ولا متمالكِ
|
وأصبح ذا أهلٍ
وأصبحَ مالكٌ
|
|
إلى غير أهلٍ
هالكاً في الهوالكِ
|
فلمّا بلغ ذلك أبا
بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالداً قد زنى فاجلده. قال أبو بكر : لا ، لأنّه
تأوّل فأخطأ ، قال : فإنّه قتل مسلماً فاقتله. قال : لا ، إنّه تأوّل فأخطأ. ثمّ
قال : يا عمر ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم ، ورثى مالكاً أخوه متمّم بقصائد
عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفداء أيضاً في تاريخه (١ / ١٥٨).
وفي تاريخ الخميس (٢ / ٢٣٣) : اشتدّ
في ذلك عمر وقال لأبي بكر : ارجم خالداً فإنّه قد استحلّ ذلك. فقال أبو بكر :
والله لا أفعل ، إن كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ ، وفي شرح المواقف : فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصاً ، فقال
__________________
أبو بكر : لا أغمد
سيفاً شهره الله على الكفار. وقال عمر لخالد : لئن وليتُ الأمر لأقيدنّك به.
وفي تاريخ ابن
عساكر (٥ / ١١٢) : قال عمر : إنّي ما عتبت على خالد إلاّ في تقدّمه وما كان يصنع
في المال. وكان خالد إذا صار إليه شيء قسّمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر
حسابه ، وكان فيه تقدّم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر ، وأقدم
على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، وصالح أهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة
، فكره ذلك أبو بكر ، وعرض الدية على متمّم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك
ولم ير أن يعزله ، وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد.
نظرة في القضية :
قال
الأميني : يحقّ على الباحث
أن يمعن النظرة في القضيّة من ناحيتين :
الأولى
: ما ارتكبه خالد
بن الوليد من الطامّات والجرائم الكبيرة التي تُنزّه عنها ساحة كلّ معتنق للإسلام
، وتضادّ نداء القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، ويتبرّأ منها وممّن اقترفها من آمن
بالله ورسوله واليوم الآخر (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) .
بأيّ كتاب أم
بأيّة سنّة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكيّة من الذين آمنوا بالله ورسوله
واتّبعوا سبيل الحقّ وصدّقوا بالحسنى ، وأذّنوا وأقاموا وصلّوا وقد علت عقيرتهم
بأنّا مسلمون ، فما بال السلاح معكم؟ (لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
__________________
وَيُحِبُّونَ
أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) .
ما عذر الرجل في
قتل مثل مالك الذي عاشر النبيّ الأعظم ، وأحسن صحبته ، واستعمله صلىاللهعليهوآلهوسلم على صدقات قومه ، وقد عُدّ من أشراف الجاهليّة والإسلام ،
ومن أرداف الملوك (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) .
وما ذا أحلّ للرجل
شنّ الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء وإيذائهم وسبيهم بغير ما
اكتسبوا إثماً ، أو اقترفوا سيّئة ، أو ظهر منهم فساد في الملأ الدينيّ؟ (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) .
ما هذه القسوة
والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الإسلام ، وتعذيب رءوس أمّة مسلمة ، وجعلها
إثفيةً للقدر وإحراقها بالنار؟ (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) .
ما خالد وما خطره
بعد ما اتّخذ إلهه هواه ، وسوّلته له نفسه ، وأضلّته شهوته ، وأسكره شبقه؟ فهتك
حرمات الله ، وشوّه سمعة الإسلام المقدّس ، ونزا على زوجة مالك قتيل غيّه في ليلته
(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ
سَبِيلاً) ، ولم يكن قتل
__________________
الرجل إلاّ لذلك
السفاح ، وكان أمراً مشهوداً وسرّا غير مستسرّ ، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته
بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إيّاها : أقْتَلْتِني. فقُتل الرجل مظلوماً غيرةً
ومحاماةً على ناموسه. وفي المتواتر : «من قتل دون أهله فهو شهيد» . وفي الصحيحة : «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» .
والعذر المفتعل من
منع مالك الزكاة لا يُبرّئ خالداً من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة
ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيّه الأقدس ،
يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون
، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحاً من الزمن؟ لاها الله.
أيوجب الردّة
مجرّد امتناع الرجل المسلم الموحّد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا
الإنسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة؟ أو يُحكم عليه بالقتل عندئذٍ؟ وقد صحّ
عن المشرّع الأعظم قوله : «لا يحلّ دم رجل يشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّي رسول
الله ، إلاّ بإحدى ثلاثة : النفس بالنفس ، والثيّب الزاني ، والتارك لدينه المفارق
للجماعة» .
__________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ باحدى ثلاث : رجل كفر بعد
إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس» .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ،
فإذا قالوها منعوا منّي دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله» .
وعهد أبو بكر نفسه
لسلمان بقوله : من صلّى الصلوات الخمس فإنّه يصبح في ذمّة الله ويمسي في ذمّة الله
تعالى ، فلا تقتلنّ أحداً من أهل ذمّة الله فتخفر الله في ذمّته فيكبّك الله في
النار على وجهك .
أيسلب امتناع
الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال
أولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبيّ الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ ويحكم عليهم
بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون ،والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟
وأمّا ما مرّ من
الاعتذار بأنّ خالداً قال : ادفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة :
القتل. فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم. فلا يفوه به إلاّ معتوه استأسر هواه
عقله ، وسفه في مقاله ، لما ذا قتل ضرار مالكاً بتلك الكلمة وهو لم يكن من كنانة
ولا من أهل لغتها؟ بل هو أسديّ من بني ثعلبة ، ولم يكن أميره يتكلّم قبل ذلك اليوم
بلغة كنانة.
__________________
وإن صحّت المزعمة
فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من
كثب ، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب؟
ولما ذا اعتذر
خالد بأنّ مالكاً قال : ما إخال صاحبكم إلاّ قال كذا وكذا؟ وهذا اعتراف منه بأنّه
قتله غير أنّه نحت على الرجل مقالاً ، وهو من التعريض الذي لا يجوّز القتل ـ بعد
تسليم صدوره منه ـ عند الأمّة الإسلاميّة جمعاء ، والحدود تُدرأ بالشبهات.
ولما ذا رآه عمر
عدوّا لله ، وقذفه بالقتل والزنا؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة أبي بكر.
ولما ذا هتكه عمر
في ملأ من الصحابة بقوله إيّاه : قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ، والله
لأرجمنّك بأحجارك؟
ولما ذا رأى عمر
رَهَقاً في سيف خالد وهو لم يقتل مالكاً وصحبه وإنّما قتلتهم لغة كنانة؟
ولما ذا سكت خالد
عن جوابه؟ وما أخرسه إلاّ عمله ، (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) .
ولما ذا صدّق أبو
بكر عمر بن الخطّاب في مقاله ووقيعته على خالد وما أنكر عليه غير أنّه رآه
متأوّلاً تارةً ، ونَحَت له فضيلةً أخرى؟
ولما ذا أمر خالد
بالرؤوس فنصبت إثفيةً للقدور ، وزاد وصمة على لغة كنانة؟
__________________
ولما ذا نزا على
امرأة مالك ، وسبى أهله ، وفرّق جمعه ، وشتّت شمله ، وأباد قومه ، ونهب ماله؟ أكلّ
هذه معرّة لغة كنانة؟
ولما ذا ذكر
المؤرّخون أنّ مالكاً قُتل دون أهله محاماةً عليها؟
ولما ذا أثبت
المترجمون ذلك القتل الذريع على خالد دون لغة كنانة ، وقالوا في ترجمة ضرار وعبد بن الأزور : إنّه هو الذي أمره خالد بقتل مالك بن نويرة . وقالوا في ترجمة مالك : إنّه قتله خالد. أو : قتله ضرار
صبراً بأمر خالد . هذه أسئلة توقف المعتذر موقف السَّدِر ، ولم يحر جواباً.
ما شأن أبناء
السلف وقد غرّرت بهم سكرة الشبق ، وغالتهم داعية الهوى ، وجاؤوا لا يرقبون في مؤمن
إلاّ ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون؟ فترى هذا يقتل مثل مالك ويأتي بالطامّات رغبةً
في نكاح أمّ تميم.
وهذا يقتل سيّد
العترة أمير المؤمنين شهوةً في زواج قطام.
وآخر شنّ الغارة على حيّ من بني أسد ، فأخذ امرأة جميلة فوطأها
بهبة من أصحابه ، ثمّ ذكر ذلك لخالد فقال : قد طيّبتها لك ـ كأنّ تلكم الجنود كانت
مجنّدة لوطء النساء وفضّ ناموس الحرائر ـ فكتب إلى عمر ، فأجاب برضخه بالحجارة .
__________________
وهذا يزيد بن
معاوية يدسّ إلى زوجة ريحانة رسول الله الحسن السبط الزكيّ السمّ النقيع لتقتله
ويتزّوجها ، أو فعله معاوية لغاية له كما يأتي.
ووراء هؤلاء
المعتدين قوم ينزّهون ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد ـ وليتهما لم يكونا
ـ وتخطئة لغة كنانة ، والله يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون ، (وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
الناحية الثانية :
الثانية من
الناحيتين التي يهمّنا أن نولّي شطرها وجه البحث ؛ تسليط الخليفة أوّلاً أمثال
خالد وضرار بن الأزور شارب الخمور وصاحب الفجور على الأنفس والدماء ، على الأعراض ونواميس الإسلام ، وعهده
إلى جيوشه في حرق أهل الردّة وقد عرفت النهي عنه في السنّة الشريفة (ص ١٥٥). وصفحه
ثانياً عن تلكم الطامّات والجنايات الفاحشة كأن لم تكن شيئاً مذكوراً ، فما سمعت
أُذن الدنيا منه حولها ركزاً ، وما حُكيت عنه في الإنكار عليها ذأمة ، وما رأى أحد
منه حولاً.
لِم لَم يؤاخذ
الخليفة خالداً بقتل مالك وصحبه المسلمين الأبرياء ، وقد ثبت عنده كما يلوح ذلك عن
دفاعه عنه ومحاماته عليه؟
لِمَ لم يقتصّ منه
قصاص القاتل؟ ولم يُقم عليه جلدة الزاني؟ ولم يضربه حدّ المفتري؟ ولم يعزّره تعزير
المعتدي على ما ملكته أيدي أولئك المسلمين؟
لِمَ لم يرَ عزل
خالد وقد كره ما فعله ، وعرض الدية على متمّم بن نويرة أخي
__________________
مالك؟ وأمر خالداً
بطلاق امرأة مالك كما في الإصابة (١ / ٤١٥).
دع هذه كلّها ولا
أقلّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتوبيخ الرجل وعتابه على تلكم الجرائم
، وأقلّ الإنكار كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة».
ما للخليفة يتلعثم
ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته؟ فيرى تارة أنّه تأوّل وأخطأ ، ويعتذر أُخرى
بأنّه سيف من سيوف الله ، وينهى عمر بن الخطّاب عن الوقيعة فيه ، ويأمره بالكفّ
عنه وصرف اللسان عن مغايظته ، ويغضب على أبي قتادة لإنكاره على خالد كما في شرح
ابن أبي الحديد (٤ / ١٨٧).
ونحن نقتصر في
البحث عن هذا الجانب على توجيه القارئ إليه ، ولم نذهب به قصاه ، ولم نبتغ فيه
مداه ، إذ لم نر حداً تخفى عليه حزازة أيّ من العذرين ، هلاّ يعلم متشرّع في
الإسلام أنّ تلكم الطامّات والجرائم الخطيرة لا يتطرّق إليها التأوّل والاجتهاد؟
ولا يسوغ لكلّ فاعل تارك أن يتترّس بأمثالهما في معرّاته ، ويتدرّع بها في أحناته
، ولا تُدرأ بها الحدود ، ولا تطلّ بها الدماء ، ولا تحلّ بها حرمات الحرائر ؛ ولا
يرفض بها حكم الله في الأنفس والأعراض والأموال ، ولم يُصخ الحاكم لمدّعيها كما
ادّعى قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنّه تأوّل واجتهد فأقام عمر عليه الحدّ
وجلده ولم يقبل منه العذر. كما في سنن البيهقي (٨ / ٣١٦) وغيره.
وأخرج ابن أبي
شيبة وابن المنذر عن محارب بن دثار : أنّ ناساً من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شربوا الخمر بالشام وقالوا : شربنا لقول الله (لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ
__________________
آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية. فأقام عمر عليهم الحدّ .
وجلد أبو عبيدة
أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأوّلاً لقوله تعالى : (لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية. كما في
الروض الأُنف للسهيلي (٢ / ٢٣١).
وهل يرتاب أحد في
أنّ سيفاً سلّه المولى سبحانه لا يكون فيه قطّ رهق ولا شغب ، ولا تسفك به دماء
محرّمة ، ولا تُهتك به حرمات الله ، ولا يُرهف لنيل الشهوات ، ولا يُنضى للشبق ،
ولا يُفتك به ناموس الإسلام ، ولا يحمله إلاّ يد أناس طيّبين ، ورجال نزيهين عن
الخنابة والعيث والفساد؟
فما خالد وما خطره
حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفاً سلّه الله على أعدائه ، وهو
عدوّ الله بنصّ من الخليفة الثاني كما مرّ (ص ١٥٩). أليست هذه كلّها تحكّماً
وسرفاً في الكلام ، وزوراً في القول ، واتّخاذ الفضائل في دين الله مهزأةً ومجهلةً؟
كيف يسعنا أن نعدّ
خالداً سيفاً من سيوف الله سلّه على أعدائه؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا :
أنّه كان جبّاراً فاتكاً ، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه ، ولقد
وقع منه في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مع بني جذيمة بالغميصاء أعظم ممّا وقع منه في حق مالك بن نويرة ، وعفا عنه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن غضب عليه مدّة وأعرض عنه ، وذلك العفو هو الذي
أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح .
__________________
إن كان عفو النبيّ
الأعظم عن الرجل بعد ما غضب عليه وأخذه بذنبه ، وأعرض عنه ردحاً من الزمن أطمعه
حتى فعل ما فعل ، فانظر ما ذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أيّ غضب عليه وإعراض
عنه ، وما الذي يؤثّر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة ، في نفس الرجل ونفوس مشاكليه
من أناس العيث والفساد ، وشعب الشغب والفتن؟
أنّى لنا أن نرى
خالداً سيفاً سلّه الله على أعدائه وفي صفحة التاريخ كتاب أبي بكر إليه وفيه قوله
: لعمري يا ابن أمّ خالد إنّك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من
المسلمين لم يجفف بعدُ ؟ كتبه إليه لمّا قال خالد لمجاعة : زوّجني ابنتك فقال له
مجاعة : مهلاً إنّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك. قال : أيّها الرجل زوّجني.
فزوّجه ، فبلغ ذلك أبا بكر. فكتب إليه الكتاب ، فلمّا نظر خالد في الكتاب جعل يقول
: هذا عمل الأعيسرة ـ يعني عمر بن الخطّاب.
وليست هذه بأوّل
قارورة كسرت في الإسلام بيد خالد ، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتبرّأ صلىاللهعليهوآلهوسلم من صنيعه. قال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله ، ولم يأمرهم بقتال ،
وكان ممّن بعث خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ، ولم يبعثه
مقاتلاً ، ومعه قبائل من العرب فوطأوا بني جذيمة بن عامر ، فلمّا رآه القوم أخذوا
السلاح ، فقال خالد : ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا.
قال : حدّثني بعض
أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال : لمّا أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل
منّا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد ، والله
__________________
ما بعد وضع السلاح
إلاّ الإسار ، وما بعد الإسار إلاّ ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً ، قال
: فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا إنّ الناس قد أسلموا
، ووضعوا السلاح ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس ، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ،
ووضع القوم السلاح لقول خالد ، فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتّفوا ،
ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : «اللهمّ إنِّي أبرأ إليك
ممّا صنع خالد ابن الوليد». قال أبو عمر في الاستيعاب (١ / ١٥٣) : هذا
من صحيح الأثر.
قال ابن هشام : حدّث بعض أهل العلم عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رأيت كأنّي لقمتُ لقمة من حَيسْ فالتذذت طعمها ، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها ،
فأدخل عليّ يده فنزعه» فقال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه : يا رسول الله ، هذه
سريّة من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحبّ ، ويكون في بعضها اعتراض ، فتبعث
عليّا فيسهّله.
قال ابن إسحاق :
ثمّ دعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال : «يا عليّ اخرج
إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهليّة تحت قدميك». فخرج عليّ
حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فودى لهم الدماء وما أُصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي
لهم ميلغة الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دمٍ ولا مال إلاّ وداه ،
بقيت معه بقية من المال. فقال لهم عليّ رضوان الله عليه حين فرغ منهم : هل بقي لكم
بقيّة من دم أو مال لم يودَ لكم؟ قالوا : لا. قال :
__________________
فإنّي أعطيكم هذه
البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا لا يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثمّ رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره الخبر ، فقال : «أصبت وأحسنت» قال : ثمّ قام رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنّه ليرى ما تحت
منكبيه يقول : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرّات.
وقد كان بين خالد
وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : عملت بأمر
الجاهلية في الإسلام . وفي الإصابة : أنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي
حذيفة. وقد تُعدّ هذه الفضيحة أيضاً من جنايات لغة كنانة كما في الإصابة (٢ / ٨١).
فهذا الرهق والسرف
في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهليّة ، وهذه سيرته من أوّل
يومه ، فأنّى لنا أن نعدّه سيفاً من سيوف الله وقد تبرّأ منه نبيّ الإسلام الأعظم
غير مرّة ، مستقبل القبلة شاهراً يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب؟
ـ ١١ ـ
ثلاثة وثلاثة وثلاثة
عن عبد الرحمن بن
عوف قال : إنّه دخل على أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه في مرضه الذي توفّي فيه
فأصابه مهتّماً ، فقال له عبد الرحمن : أصبحت والحمد لله بارئاً ، فقال أبو بكر
رضى الله عنه : أتراه؟ قال : نعم. قال : إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي ، فكلّكم
ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا
تقبل ، وهي مقبلة
__________________
حتى تتّخذوا ستور
الحرير ، ونضائد الديباج ، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن
ينام على حسك ، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في
غمرة الدنيا ، وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالاً ،
يا هادي الطريق إنّما هو الفجر أو البجر. فقلت له : خفّض عليك رحمك الله ، فإنّ
هذا يهيضك في أمرك ، إنّما الناس في أمرك بين رجلين : إمّا رجل رأى ما رأيت فهو
معك. وإمّا رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحبّ ، ولا نعلمك أردت إلاّ خيراً
، ولم تزل صالحاً مصلحاً ، وإنّك لا تأسى على شيءٍ من الدنيا.
قال أبو بكر رضى
الله عنه : أجل إنّي لا آسي على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ وددت أنّي
تركتهنّ. وثلاث تركتهنّ وددت أنّي فعلتهنّ. وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فأمّا الثلاث
اللاتي وددت أنّي تركتهنّ : فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد
غلقوه على الحرب. ووددت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأنّي كنت قتلته سريحاً ،
أو خلّيته نجيحاً. ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد
الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً.
وأما اللاتي
تركتهنّ فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيّل
إليّ أنّه لا يرى شرّا إلاّ أعان عليه. ووددت أنّي حين سيّرت خالد بن الوليد إلى
أهل الردّة كنت أقمت بذي القصّة فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإن هُزموا كنت بصدد
لقاء أو مدد. ووددت أنّي إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجّهت عمر بن
الخطّاب إلى العراق ، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. ومدّ يديه.
ووددت أنّي كنت
سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ،
ووددت أنّي كنت
سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ
والعمّة فإنّ في نفسي منهما شيئاً.
أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص ١٣١) ، والطبري في تاريخه (٤ / ٥٢)
، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة (١ / ١٨) ، والمسعودي في مروج الذهب (١ / ٤١٤)
وابن عبد ربّه في العقد الفريد (٢ / ٢٥٤).
والإسناد صحيح
رجاله كلّهم ثقات أربعة منهم من رجال الصحاح الستّة.
قال الأميني : إنّ
في هذا الحديث أموراً تسعة ، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها ، وقد
بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها. وأمّا تمنّي قذف الأمر في عنق أحد الرجلين
فإنّه ينمّ عن أنّ الخليفة انكشف له في أُخريات أيّامه أنّ ما ناء به من الأمر لم
يكن على القانون الشرعيّ في الخلافة والوصيّة ؛ لأنّ المخلّف والموصي يجب أن يكون
هو المعيِّن لمن ينهض بأمره من بعده ، وهو الذي تنبّه له الخليفة الثاني بعد ردحٍ
من الزمن فقال : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهليّة وقى الله شرّها فمن عاد
إلى مثلها فاقتلوه .
ولا أدري أنّ ما
تنبّها له هل هو قصور في المختار ـ بالفتح ـ أو فيه ـ بالكسر ـ أو فيهما معاً؟ أو
في كون الاختيار موجباً لتعيين الخليفة؟ وأيّا ما أراد فلنا فيه المخرج. وهؤلاء
زمر الأنبياء والرسل لم يعدُهم التنصيص بالخليفة من بعدهم ولم تنتخب أُممهم خلفاء
لهم.
وهل هنالك ذو حجىً
يزعم أنّ وصاية الفقيد المبيحة للتصرّف فيما تركه من
__________________
بعده موكولة إلى
أناس أجانب لا يعرفون ما يرتئيه في شئونه ، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله
وأهله ، والفقيد عاقل رشيد يعرف الصالح من غيره ، ويعلم بنوايا من يلتاث به ، ومن يحدوه الجشع ، وترقل به النهمة ، ويستفزّه الطمع ، أفتراه والحالة هذه يترك
الوصيّة فيدع ما تركه أكلة للآكل ومطمعاً للناهب؟ لا.
لا يفعل ذلك وهو
يريد خيراً بآله وصلاحاً في ماله ، وعلى ذلك جرت سنّة المسلمين منذ عهد الصحابة
إلى يومنا الحاضر ، وأقرّته الشريعة الإسلاميّة ، وشرّعت للوصايا أحكاماً ، وجاء
في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «ما حقّ امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت
ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده». كذا في لفظ البخاري ، وفي لفظ مسلم : «يبيت ثلاث ليال» ، قال ابن عمر : ما مرّت عليّ ليلة منذ
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ذلك إلاّ وعندي وصيّتي. قال النووي في رياض الصالحين (١٥٦) : متّفق عليه.
وصّى الإلهُ
وأوصتْ رسلُه فلذا
|
|
كان التأسّي بهم
من أفضلِ العملِ
|
لو لا الوصيّةُ
كان الخلقُ في عمهٍ
|
|
وبالوصيّةِ دام
الملكُ في الدولِ
|
فاعمل عليها ولا
تهمل طريقتَها
|
|
إنّ الوصيّةَ
حكمُ اللهِ في الأزلِ
|
ذكرت قوماً بما
أوصى الإلهُ به
|
|
وليس إحداثُ
أمرٍ في الوصيّةِ لي
|
__________________
فإذا كانت الوصية
ثابتة في حطام زائل ، فما بالها تنفى في خلافة راشدة ، وشريعة خالدة ، متكفّلة
بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسلام والوئام؟
ومن المسلّم قصور الفهم البشريّ العادي عن غايات تلكم الشؤون فلا منتدح والحالة
هذه عن أن يعيّن الرسول الأمين عن ربّه خليفته من بعده ليقتصّ أثره في أمّته.
وقد مرّ في صفحة
(١٣٢) رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأنّ راعي إبل أو غنم أو
قيّم أرض لأيّ أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملاً ، ورعية الناس أشدّ من رعية الإبل
والغنم فالأمّة لما ذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها؟ ولما
ذا نبأت عنه الأسماع ، وخرست الألسُن؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك ، ثمّ حدّث به
الناس ونبّأته الأمّة؟ ولما ذا ترك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمّته سدىً هملاً ، وفتح بذلك أبواب الفتن المضلّة
المدلهمّة ، واستحقر أمّته ورأى رعيتها أهون من رعية الإبل والغنم؟ حاشا النبيّ
الأعظم عن هذه الأوهام ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وصّى واستخلف ونصّ
على خليفته وبلّغ أُمّته غير أنّه عهد إلى وصيّه من بعده : إنّ الأمّة ستغدر به
بعده كما ورد في الصحيح . وقال له أيضاً : «أما إنّك ستلقى بعدي جهداً» ، قال عليّ
: «في سلامة من ديني» ، قال : «في سلامة من دينك» . وقال لعلي : «ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلاّ من
بعدي» . وقال له : «يا عليّ إنّك ستبتلى
__________________
بعدي فلا تقاتلنّ».
كنوز الدقائق للمناوي (ص ١٨٨).
ثمّ إنّ الخليفة
النادم لما ذا تمنّى التسلّل عن الأمر يوم السقيفة؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين :
أبي عبيدة أو عمر؟ أكان ندمه عن حقّ وقع؟ فالحقّ لا ندم فيه. وإن كان عن باطل سبق؟
فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة.
ثمّ الذي ودّه من
قذفه إلى عنق أحد الرجلين فإنّا لا نعرف وجهاً لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم
وذوو فضائل لا يبلغ الرجلان شأو أيّ منهم ، وهذان ـ بالنظر إلى ما عرفناه من أحوال
الصحابة ـ إن لم نقل إنّهما من ساقتهم ، فإنّا نقول بكلّ صراحة إنّهما لم يكونا من
الأعالي منهم وفيهم من فيهم ، وقبل جميعهم سيّدنا أمير المؤمنين عليهالسلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغَناء والعناء ، وصاحب يوم الغدير
، والأيام المشهودة ، والمواقف المشهورة ، نفس النبيّ الأعظم بنصّ من الكتاب
العزيز المطهّر من كلّ رجس بآية التطهير .
فهلاّ ودّ أن
يقذفه إليه؟ فيسير بالأمّة سيراً سجحاً ، ويحملهم على المحجّة البيضاء ، ويأخذ بهم
الطريق المستقيم ، ويجدونه هادياً مهديّا ، يدخلهم الجنّة. كما أخبر بهذه كلّها
النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد مرّ شطر منها في الجزء الأوّل صفحة (١٢ ، ١٣).
وأمّا كشف بيت
فاطمة سلام الله عليها فإنّه لا يروقنا هاهنا خدش العواطف بتلكم النوائب ، غير
أنّه سبق منّا بعض القول في الجزء الثالث (ص ١٠٢ ـ ١٠٤) وفي هذا الجزء (ص ٧٧ ، ٨٦).
وفذلكة ذلك النبأ
العظيم أنّ الصدّيقة سلام الله عليها قضت وهي واجدة على
__________________
من ارتكبه ، وكانت
صلوات الله عليها تدعو عليه بعد كلّ صلاة صلّتها .
وإن تعجب فعجب أنّ
القوم ارتكب ما ارتكب من تلكم الفظائع وارتبك فيها وملء الأسماع هتاف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : «من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة
منّي ، وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ ، فمن آذاها فقد آذاني».
وبقوله : «فاطمة
بضعة منّي يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها».
وبقوله : «فاطمة
بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني».
وبقوله : «فاطمة
بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها» .
وبقوله : «فاطمة
بضعة مني يسرّني ما يسرّها» .
وبقوله : «يا
فاطمة إنّ الله يغضب لغضبكِ ، ويرضى لرضاكِ» .
وبهذا الهتاف تعلم
أنّ ندم الخليفة كان في محلّه ، غير أنّه نَدم ولات حين مندم ، ندم وقد قضى الأمر
ووقع ما وقع ، ندم والصدّيقة الطاهرة مقبورة وملء إهابها موجدة.
الثلاثة الوسطى :
وأمّا الثلاثة من
هاتيك الأمور التسعة التي ندم عليها الخليفة على تركها فإنّها تعرب عن أنّه ارتكب
ما ارتكب فيها لا عن تروٍّ أو بصيرة في الأمر ، أو استناد إلى
__________________
حكم شرعيّ ، حتى
كشف له الخطأ فيها جمعاء ، وقد وقعت فيها عظائم ، وأعقبتها طامّات ، وخليفة
المسلمين يجب أن لا يرتكب ما يستتبعها ، ولا يفعل ما يوجب الندم في مغبّته ، وقصّة
الأشعث بن قيس تعرب عن أنّ ندم الخليفة كان في محلّه ، فإنّ الرجل بعد ما ارتدّ
وأتى بمعرّات وقاتل المسلمين وأُخذ وأُتي به أسيراً إلى الخليفة فقال : ما ذا
تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت. قال : تمنّ عليّ فتفكّني من الحديد ،
وتزوّجني أختك ، فإنّي قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر : قد فعلت فزوّجه أمّ فروة
ابنة أبي قحافة ، فاخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلاّ
عرقبه ، فصاح الناس : كفر الأشعث. فلمّا فرغ طرح سيفه وقال : إنّي والله ما كفرت
ولكن زوّجني هذا الرجل أخته ولو كنّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه ، يا أهل
المدينة كلوا ، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا شرواها ، فكان ذلك اليوم قد شبّه بيوم
الأضحى ، وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي :
لقد أولم
الكنديُّ يوم ملاكه
|
|
وليمةَ حمّالٍ
لثقل الجرائمِ
|
لقد سلّ سيفاً
كان مُذ كان مغمداً
|
|
لدى الحرب منها
في الطلا والجماجمِ
|
فأغمده في كلّ
بكرٍ وسابحٍ
|
|
وعيرٍ وبغلٍ في
الحشا والقوائمِ
|
فقل للفتى
الكنديّ يوم لقائِهِ
|
|
ذهبت بأسنى مجد
أولاد آدمِ
|
وقال الأصبغ بن
حرملة الليثي متسخّطاً لهذه المصاهرة :
أتيت بكنديّ قد
ارتدّ وانتهى
|
|
إلى غاية من نكث
ميثاقه كفرا
|
فكان ثوابُ
النكثِ إحياءَ نفسِهِ
|
|
وكان ثوابُ الكفر
تزويجَه البكرا
|
ولو أنّه يأبى
عليك نكاحَها
|
|
وتزويجَها منه
لأمهرته مهرا
|
ولو أنّه رام
الزيادةَ مثلَها
|
|
لأنكحته عشراً
وأتبعته عشرا
|
فقل لأبي بكر
لقد شنتَ بعدَها
|
|
قريشاً وأخملتَ
النباهة والذكرا
|
أما كان في تيمِ
بنِ مرّةَ واحدٌ
|
|
تُزوّجه لو لا
أردت به الفخرا
|
ولو كنت لمّا أن
أتاك قتلته
|
|
لأحرزتها ذكراً
وقدّمتها ذخراً
|
فأضحى يرى ما قد
فعلتَ فريضةً
|
|
عليك فلا حمداً
حويتَ ولا أجرا
|
الثلاثة الأخر :
أمّا الثلاثة
الأُخر التي تمنّى الخليفة أن يكون استعلمها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّها تنبئنا بقصوره في علم الدين ، وأنّه كان نابياً في
فقهه ، لا يعرف أحكام المواريث التي يكثر ابتلاء خليفة المسلمين بها طبعاً ، وأنّه
كان شاكّا في أصل الخلافة هل هي بالنصّ أو الاختيار؟ وعلى الثاني هل تخصّ
المهاجرين فحسب؟ أو أنّه يشاركهم فيها الأنصار؟ وعلى أيّ فهو في تسنّمه عرش
الخلافة غير متيقّن بالرشد من أمره ، ولا نُحكّم هاهنا غير ضميرك الحرّ ، وليس في
الحقّ مغضبة.
ثمّ إنّي لا أعرف
لهذا التمنّي محصّلاً ، لأنّه لو كان سأله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك لما كان يجيبه إلاّ بمثل قوله : «من كنت مولاه
فعليّ مولاه». راجع الغدير الجزء الأول.
وقوله : «إنّي
تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» .
وقوله : «إنّي
تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي» .
وقوله : «عليّ
منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». الغدير (٣ / ١٩٩).
وقوله لعلّي : «أما
ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّك لست
__________________
بنبيّ ، إنّه لا
ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي». الغدير (٣ / ١٩٦).
وقوله : «أوحي
إليّ في عليّ ثلاث : أنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين».
مستدرك الحاكم (٣ / ١٣٨).
وقوله : «إنّ الله
اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباكِ فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار
بعلكِ فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً». الغدير (٢ / ٣١٨ و ٣ / ٢٣).
وقوله : «عليّ
الصدّيق الأكبر وفاروق هذه الأمّة ، يفرق بين الحقّ والباطل ، ويعسوب المؤمنين ،
وهو بابي الذي أوتى منه ، وهو خليفتي من بعدي». الغدير (٢ / ٣١٣).
وقوله : «عليٌّ
راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، والكلمة التي ألزمتها المتّقين ،
من أحبّه أحبّني ومن أبغضه أبغضني». الغدير (٣ / ١١٨).
وقوله : «عليّ أخي
ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي». الغدير (٢ / ٢٧٩ ـ ٢٨١).
وقوله : «عليٌّ
سيّد مبجّل ، مؤمل المسلمين ، وأمير المؤمنين ، وموضع سرّي وعلمي ، وبابي الذي
يؤوى إليه وهو الوصيّ على أهل بيتي ، وعلى الأخيار من أمّتي ، وهو أخي في الدنيا
والآخرة». الغدير (٣ / ١١٦).
وقوله : «عليّ أخي
ووزيري وخير من أترك بعدي». الغدير (٢ / ٣١٣)
وقوله : «عليّ مع
الحقّ والحقّ مع علي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». الغدير (٣ / ١٧٧).
__________________
وقوله : «عليّ مع
الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ». الغدير (٣ / ١٧٨).
وقوله : «عليّ مع
القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض». الغدير (٣ / ١٨٠).
وقوله : «عليّ
منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي». الغدير (٣ / ٢٢ ، ٢١٥)
وقوله : «عليّ
مولى كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة». الغدير (١ / ١٥ ، ٥١).
وقوله : «عليّ
أنزله الله منّي بمنزلتي منه». الغدير (١ / ٢٢).
وقوله : «عليّ
وليّي في كلّ مؤمن بعدي». مسند أحمد (١ / ٢٣١).
وقوله : «عليّ مني
بمنزلتي من ربّي». السيرة الحلبيّة (٣ / ٣٩١).
وقوله : «عليّ
وليّ المؤمنين من بعدي». تاريخ الخطيب (٤ / ٣٣٩).
وقوله : «من كان
الله ورسوله وليّه فعليّ وليّه». الغدير (١ / ٣٨).
وقوله : «لا
يُبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي». الغدير (٦ / ٣٣٨ ـ ٣٥٠).
وقوله : «ما من
نبيّ إلاّ وله نظير في أمّته وعليّ نظيري». الغدير (٣ / ٢٣).
وقوله : «أنا
وعليّ حجّة على أُمّتي يوم القيامة». تاريخ الخطيب (٢ / ٨٨).
وقوله : «من أطاع
عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني». مستدرك الحاكم (٣ / ١٢١ ، ١٢٨).
كيف تمنّى الخليفة
ما تمنّى مع هذه النصوص؟ أو كان في الآذان وقر يوم
__________________
هتف صلىاللهعليهوآلهوسلم بهاتيك الكلم الجامعة المعربة عن الخلافة بكلّ ما يمكن من
التعبير؟ أم أنّ في القوم من تصامم عنها لأمر دُبّر بليل؟
أوَلم يكفِ
الخليفة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا عرض نفسه على القبائل وكان معه عليّ أمير المؤمنين
ومعهما أبو بكر وبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله فقال له قائلهم : أرأيت إن
نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال
: «إنّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» ؟
أفكان يزعم
الخليفة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي أناط الأمر بعده إلى المولى سبحانه ومشيئته كان لو
سأله عن ذلك أجابه بالترديد بين اختيار الأمّة ولو لم تكتمل فيه شرائط الإجماع
والانتخاب الصحيح كما في البيعة الأولى ، وبين وصيّة الخليفة واستخلافه كما وقع في
أمر الثاني ، وبين الشورى مع إرهاب المخالف بالقتل كما كان في منتهى الثلاثة؟
لكنّه لو كان يحسب
ذلك لما ودّ أن لو كان سأله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان يعلم أيضاً أنّ الترديدفي الجواب على فرضه إغراء
للأمّة بالفوضى ، وفي ذلك مسرح لكل مدّع محقّ أو مبطل ، ولاحتجّ به كلّ ناعب وناعق
حتى تنتهي النوبة إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء أمثال معاوية ويزيد وهلمّ جرّا.
تحفّظ على كرامة :
حذف أبو عبيد من
الحديث ذكر الأمر الأوّل من الثلاثة الأُوَل وهو : كشف بيت فاطمة ، وجعل مكانه
قوله : فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ـ لخلّة ذكرها ـ فقال : لا أريد أذكرها.
وما حرّف ما حرّف إلاّ تحفّظاً على كرامة الخليفة ، والأسف على أنّ غيره ما شاركه
فيما فعل ، فظهرت خيانته على ودائع التاريخ.
__________________
ـ ١٢ ـ
سؤال يهوديّ أبا بكر
عن أنس بن مالك
قال : أقبل يهوديّ بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال : أريد أن أسألك
عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، قال أبو بكر : سل عمّا بدا لك.
قال اليهودي :
أخبرني عمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند الله ، وعمّا لا يعلمه الله. فقال أبو بكر :
هذه مسائل الزنادقة يا يهوديّ ، وهمّ أبو بكر والمسلمون باليهوديّ ، فقال ابن
عبّاس رضى الله عنه : ما أنصفتم الرجل. فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلّم به؟ فقال
ابن عبّاس : إن كان عندكم جوابه وإلاّ فاذهبوا به إلى عليّ رضى الله عنه يجيبه ،
فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لعليّ بن أبي طالب : «اللهمّ اهدِ قلبه ، وثبّت لسانه».
قال : فقام أبو
بكر ومن حضره حتى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه فقال أبو بكر : يا أبا
الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال عليّ : ما تقول يا يهودي؟ قال :
أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ. فقال له : قل ، فردّ اليهودي
المسائل. فقال عليّ رضى الله عنه : أمّا ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر
اليهود : إنّ العُزَير ابن الله ، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك :
أخبرني بما ليس عند الله. فليس عنده ظلم للعباد ، وأما قولك : أخبرني بما ليس لله
فليس له شريك. فقال اليهوديّ : أشهد أن لا اله إلا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ،
وأنّك وصيّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ عليهالسلام : يا مفرّج الكرب. المجتنى لابن دريد (ص ٣٥).
قال
الأميني : إقرأ واحكم.
__________________
ـ ١٣ ـ
وفد النصارى وأسئلتهم
أخرج الحافظ
العاصمي عن سلمان الفارسي رضى الله عنه ، قال : لمّا قبض النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اجتمعت النصارى إلى قيصر ملك الروم فقالوا له : أيّها
الملك إنّا وجدنا في الإنجيل رسولاً يخرج من بعد عيسى اسمه أحمد وقد رمقنا خروجه
وجاءنا نعته فأشر علينا فإنّا قد رضيناك لديننا ودنيانا.
قال : فجمع قيصر
من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يخفوا عليه من
أمورهم شيئاً وقال : انطلقوا إلى هذا الوصيّ الذي من بعد نبيّهم فسلوه عمّا سئل
عنه الأنبياء عليهمالسلام ، وعمّا أتاهم به من قبل ، والدلائل التي عرفت بها
الأنبياء. فإن أخبركم فآمنوا به وبوصيّه واكتبوا بذلك إليّ ، وإن لم يخبركم
فاعلموا أنّه رجل مطاعٌ في قومه ، يأخذ الكلام بمعانيه ، ويردّه على مواليه ،
وتعرّفوا خروج هذا النبيّ.
قال : فسار القوم
حتى دخلوا بيت المقدس ، واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى
بقيصر ، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل.
قال سلمان :
فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة وأبو بكر رضى الله عنه قاعد في المسجد يفتي الناس ، فدخلت
عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه ، فدخل عليه رأس
جالوت فقال :
__________________
يا أبا بكر إنّا
قوم من النصارى واليهود جئناكم لنسألكم عن فضل دينكم فإن كان دينكم أفضل من ديننا
قبلناه ، وإلاّ فديننا أفضل الأديان.
قال أبو بكر : سل
عمّا تشاء أجبك إن شاء الله. قال : ما أنا وأنت عند الله؟ قال أبو بكر : أمّا أنا
فقد كنت عند الله مؤمناً وكذلك عند نفسي إلى الساعة ولا أدري ما يكون من بعد. فقال
اليهودي : فصف لي صفة مكانك في الجنّة ، وصفة مكاني في النار ، لأرغب في مكانك
وأزهد عن مكاني.
فقال : فأقبل أبو
بكر ينظر إلى معاذ مرّة وإلى ابن مسعود مرّة ، وأقبل رأس جالوت يقول لأصحابه بلغة
أمّته : ما كان هذا نبيّا.
قال سلمان : فنظر
إليّ القوم ، قلت لهم : أيّها القوم ابعثوا إلى رجل لو ثنيتم الوسادة لقضى لأهل
التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل الزبور بزبورهم ، ولأهل القرآن
بقرآنهم ، ويعرف ظاهر الآية من باطنها ، وباطنها من ظاهرها.
قال معاذ : فقمت
فدعوت عليّ بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى ، فأقبل حتى جلس في
مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال ابن مسعود : وكان علينا ثوب ذلّ ، فلمّا جاء عليّ بن
أبي طالب كشفه الله عنّا. قال عليّ : «سلني عمّا تشاء أخبرك إن شاء الله». قال
اليهودي : ما أنا وأنت عند الله؟
قال : «أمّا أنا
فقد كنت عند الله وعند نفسي مؤمناً إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعد. وأمّا أنت
فقد كنت عند الله وعند نفسي إلى الساعة كافراً ولا أدري ما يكون بعد»
قال رأس جالوت :
فصف لي صفة مكانك في الجنّة وصفة مكاني في النار
فأرغب في مكانك
وأزهد عن مكاني.
قال عليّ : «يا
يهودي لم أر ثواب الجنّة ولا عذاب النار فأعرف ذلك ، ولكن كذلك أعدّ الله للمؤمنين
الجنّة وللكافرين النار ، فإن شككت في شيء من ذلك فقد خالفت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولست في شيء من الإسلام.
قال : صدقت رحمك
الله ؛ فإنّ الأنبياء يوقنون على ما جاءوا به فإن صدقوا آمنوا ، وإن خولفوا كفروا.
قال : فأخبرني ؛ أعرفت الله بمحمد أم محمداً بالله؟
فقال عليّ : «يا
يهودي ما عرفت الله بمحمد ولكن عرفت محمداً بالله ؛ لأنّ محمداً محدود مخلوق وعبد
من عباد الله اصطفاه الله واختاره لخلقه وألهم الله نبيّه كما ألهم الملائكة
الطاعة ، وعرّفهم نفسه بلا كيف ولا شبه».
قال : صدقت. قال :
فأخبرني : الربّ في الدنيا أم في الآخرة؟
فقال عليّ : «إنّ (في)
وعاء ، فمتى ما كان بفي كان محدوداً ، ولكنه يعلم ما في الدنيا والآخرة ، وعرشه في
هواء الآخرة وهو محيط بالدنيا ، والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر ،
وإن أخرجته لم يستقم ، مكانه هناك ، فكذلك الدنيا وسط الآخرة».
قال : صدقت. قال :
فأخبرني : الربّ يحمل أو يحمل؟
قال عليّ بن أبي
طالب : «يَحمل».
قال رأس جالوت :
فكيف وإنّا نجد في التوراة مكتوباً ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذٍ ثمانية؟
قال عليّ : «يا
يهوديّ : إن الملائكة تحمل العرش ، والثرى يحمل الهواء ، والثرى
موضوع على القدرة
وذلك قوله تعالى : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)» .
قال اليهوديّ :
صدقت رحمك الله. الحديث. زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي.
هلمّ معي إلى
الغلو :
هذه جملة ممّا
وقفنا عليه من فتاوى أبي بكر وآرائه وهي على قلّتها تدلّك على مكانته من علم
الكتاب ، وعرفان السنّة ، وفقه الشريعة ، وأحكام الدين ، أوَليس من المغالاة إذن
أن يقال : عَلِم كلّ ذي حظّ من العلم أنّ الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما
كان عند عليّ منه ؟
أليس من المغالاة
أن يقال : إنّ المعروف أنّ الناس قد جمعوا الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر
وعمر وعثمان وعليّ فوجدوا أصوبها وأدلّها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثمّ عمر ،
ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نصّ يخالفها عن عمر أقلّ ممّا وجد عن عليّ ،
وأمّا أبو بكر فلا يكاد يوجد نصّ يخالفه؟
أليس من المغالاة
أن يقال : لم يكن أبو بكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصّان عليّا بسؤال ،
والمعروف : أنّ عليّا أخذ العلم عن أبي بكر ؟
أليس من المغالاة
أن يقال : إنّ أبا بكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق ، قاله
ابن حجر في الصواعق (ص ١٩).
__________________
أليس من المغالاة
أن يقال : إنّ أبا بكر أعلم الصحابة وأذكاهم ، وكان مع ذلك أعلمهم بالسنّة كما رجع
إليه الصحابة في غير موضع ، يبرز عليهم بنقل سنن عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم؟ وكيف لا
يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من أوّل البعثة إلى الوفاة ؟
أليس من المغالاة
ما عزوه إلى النبيّ الأقدس من قيله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ صببته في صدر أبي بكر ؟
أليس من المغالاة
ما رووه عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : رأيت كأنّي أعطيت عسّا مملوّا لبناً. فشربت منه
حتى امتلأت ، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ، ففضلت منها فضلة فأعطيتها
أبا بكر ، قالوا : يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله ، حتى إذا امتلأت فضلت فضلة
فأعطيتها أبا بكر ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : قد أصبتم؟ الرياض النضرة (١ / ١٠١).
أليس من المغالاة
ما جاء به ابن سعد عن ابن عمر من أنّه سُئل عمّن كان يفتي في زمن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : أبو بكر وعمر ولا أعلم غيرهما؟
راجع : أُسد الغابة (٣ / ٢١٦) ، الصواعق (ص ١٠ ، ٢٠) ، تاريخ
الخلفاء للسيوطي (ص ٣٥).
قال
الأميني : ليتني أدري وقومي
ما بال القوم في نحت هذه الدعاوي الفارغة ، واختلاق هذه الأكاذيب المكردسة ، وزعق بسطاء الأمّة إلى المزالق والطامّات ،
__________________
وردعهم عن مهيع
الحقّ ، وجدد الصدق في عرفان الرجال ، ومقادير السلف؟
أليست هذه الآراء
تضادّ نداء المشرّع الأقدس وقوله لفاطمة : «أما ترضين أنّي زوّجتكِ أوّل المسلمين
إسلاماً وأعلمهم علماً»؟
وقوله لها : «زوّجتكِ
خير أمّتي أعلمهم علماً»؟
وقوله : «إنّ
عليّا لأوّل أصحابي إسلاماً وأكثرهم علماً»؟
وقوله : «أعلم
أمّتي من بعدي عليّ»؟
وقوله : «أنا
مدينة العلم وعليّ بابها»؟
وقوله : «عليّ
وعاء علمي»؟
وقوله : «عليّ باب
علمي»؟
وقوله : «عليّ
خازن علمي»؟
وقوله : «عليّ
عيبة علمي»؟
وقوله : «أنا دار
الحكمة وعليّ بابها»؟
وقوله : «أنا دار
العلم وعليّ بابها»؟
وقوله : «أنا
ميزان العلم وعليّ كفّتاه»؟
وقوله : «أنا
ميزان الحكمة وعليّ لسانه»؟
وقوله : «أقضى
أمّتي عليّ»؟
وقوله : «أقضاكم
عليّ»
؟ إلى أمثال هذه
من الكثير الطيّب.
أليست تلكم الآراء
المجرّدة تخالف ما أسلفناه في الجزء الثالث (ص ٩٥ ـ ١٠١) وفي نوادر الأثر في الجزء
السادس من أقوال الصحابة الأوّلين والتابعين بإحسان في علم عليّ نظراء عائشة ،
وعمر ، ومعاوية ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ، وعديّ بن حاتم ، وسعيد بن المسيب ،
وهشام بن عتبة ، وعطاء ، وعبد الله بن حجل؟
__________________
أنّى يسوغ القول
بأعلمية أيّ أحد من الأمّة غير عليّ أمير المؤمنين بعد ما مرّ في الجزء الثالث (ص
١٠٠) من إجماع أهل العلم على أنّ عليّا عليهالسلام هو وارث علم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دونهم. وما أسلفناه هناك من الصحيح الوارد عن مولانا أمير
المؤمنين من قوله : «والله إنّي لأخوه ووليّه وابن عمّه ووارث علمه ، فمن أحقّ به
منّي؟».
ثمّ أيّ نُجفةٍ من
العلم كانت آيةَ فضلةِ عسٍّ شربها الخليفة من يد النبيّ الأعظم إن صحّت الأحلام؟
أقوله في الأبّ؟ أم رأيه في الكلالة والجدّ والجدّتين والخلافة وغيرها؟ أبمثل هذه
كان هو وصاحبه يفتيان في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
وأيّ صدرٍ هذا لم
يك ينضح بشيء من العلم ـ والإناء ينضح بما فيه ـ بعد ما صبّ فيه رسول الله كلّ ما
صبّ الله في صدره صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
وأنت جدّ عليم
بأنّ الأخذ بمجامع تلكم الصحاح المأثورة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقوال الصحابة والتابعين في علم أمير المؤمنين عليهالسلام والجمع بينها وبين تلكم الآراء في علم أبي بكر يستلزم القول بأعلميّته من
رسول الله أيضاً بعد كونه وعليّ صلى الله عليهما وآلهما صنوين في الفضائل ، بعد
كون عليّ رديف أخيه الأقدس ونفسه في مآثره ، بعد كونه وارث علمه وبابه وعيبته
ووعاءه وخازنه ، ولا أحسب كلّ القوم ولا جلّهم يقول بذلك.
نعم ؛ من لم
يتحاشَ عن الغلوّ في أبي حنيفة والقول بأعلميّته من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في القضاء كما مرّ في الجزء الخامس (ص ٢٧٩) لا يكترث للقول
بذلك في أبي بكر الأفضل من أبي حنيفة.
هذا هو الغلوّ
الممقوت الذي تصكّ به المسامع لا ما تقول به الشيعة يا أتباع أبناء حزم وتيميّة
وكثير وجوزيّة!
مظاهر علم الخليفة
:
وأوّل مظهر من
مظاهر علم الخليفة عند الباقلانيّ من المتقدّمين كما في تمهيده (ص ١٩١) ، وعند
السيّد أحمد زيني دحلان من المتأخّرين كما في سيرته هامش الحلبيّة (٣ / ٣٧٦) هو
إعلامه الناس بموت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحجاجه عمر بن الخطّاب بقول العزيز الحكيم (وَما
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) .
ما أذهل الرجلين
عن أنّ الأمر لم يعضل على أيّ امرئٍ من الصحابة ، وحاشاهم عن أن يكون هذا مبلغ
علمهم ، وقد كان حملة القرآن الكريم بأسرهم على علم من موته صلىاللهعليهوآلهوسلم أخذاً بما أجرى الله بين البشر من الطبيعة المطّردة و (قَضى
أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) ، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وتمسّكاً بالقرآن العظيم ، ونصوصه صلىاللهعليهوآلهوسلم الكثيرة عليه في مواقف لا تحصى ، أحفلها حجّة الوداع ومن
هنا سُمّيت تلك الحجّة بحجّة الوداع.
ولم يكن إنكار عمر
موته صلىاللهعليهوآلهوسلم لجهله بذلك ، وقد قرأ عمرو بن زائدة عليه وعلى الصحابة في
مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الآية المذكورة قبل تلاوة أبي بكر إيّاها وأشفعها بقوله
تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فضرب الرجل عنها وعن قارئها صفحاً ، وعمرو بن زائدة صحابيّ
عظيم استخلفه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على المدينة ثلاث
__________________
عشرة مرّة في
غزواته كما في الإصابة (٢ / ٥٢٣).
وإنّما كان إنكاره
ذلك وإرهابه الناس لسياسة مدبّرة ، وذلك صرف فكرة الشعب عن الفحص عن الخليفة إلى
أن يحضر أبو بكر وكان غائباً بالسُّنْح خارج المدينة ، وكان الأمر دُبّر بليل.
ألا ترى أنّ غير
واحد من أعلام القوم قد اعتذروا ، عن إنكار عمر موته صلىاللهعليهوآلهوسلم بغير الجهل ، فمنهم من قال : إنّ ذلك كان لتشوّش البال ،
واضطراب الحال ، والذهول عن جليّات الأحوال ومنهم من اعتذر بقوله : خبل عمر في وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فجعل يقول : إنّه والله ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه .
المظهر
الثاني : وجاء ابن حجر من علم الخليفة بمظاهر أخرى واحتجّ بها على كونه أعلم
الصحابة على الإطلاق. منها : ما أخرجه البخاري في صحيحه في صلح الحديبيّة عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال :
فأتيت نبيّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقلت : يا نبيّ الله ألست نبيّ الله حقّا؟ قال : «بلى».
قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : «بلى». قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة
في ديننا إذاً؟ قال : «إنّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري». قلت : أوَليس
كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : «بلى ، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟»
قال : قلت : لا. قال : «فإنّك آتيه ومطَّوِّف به». قال :
__________________
فأتيت أبا بكر رضى
الله عنه فقلت : يا أبا بكر : أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا
على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟
فقال : أيّها الرجل إنّه لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولن يعصي ربّه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فو الله إنّه
على الحقّ. فقلت : أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطَّوَّف به؟ قال : بلى ،
أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنّك آتيه ومطّوِّف به.
قال الأميني : هل
في هذه الرواية غير أنّ أبا بكر كان مؤمناً بنبوّة رسول الله ، وبطبع الحال أنّ
كلّ من اعتنق هذا المبدأ يرى أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يعصي ربّه وهو ناصره ، وأنّ كلّ ميعاد جاء به لا بدّ
وأن يقع في الأجل المضروب له إن كان موقّتاً وإلاّ فهو يقع لا محالة في ظرفه
الخاصّ به ، فلا يخالجه شكّ إذا لم يعجّل.
هذه غاية ما يوصف
به أبو بكر بهذا الحديث ، وهو معنى يشترك فيه جميع المسلمين ، وليس من خاصّته ،
فأيّ دلالة فيه على كون أبي بكر أعلم الصحابة على الإطلاق؟ ولو كان عمر يسأل أيّ
صحابيّ بسؤاله هذا لما سمع إلاّ لِدة ما أجاب به أبو بكر ومثل ما أجاب به رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكذلك المسلمون كلّهم إلى منصرم الدنيا ، فإنّك لا تجد
عند أحدهم ضميراً غير هذا ، وإذا فاتحته بالكلام عن مثله فلا تسمع جواباً غيره ،
فهل فاتح عمر به غير أبي بكر أحداً من الصحابة وسمع جواباً غير ما أجاب به حتى
يُستدلّ به على أعلميّته على الإطلاق أو على التقييد؟
وهل كان رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم في صدد بيان غامض من علومه لمّا أجاب عمر ، حتى يكون إذا
وافقه أبو بكر في الجواب يصبح به أعلم الصحابة على الإطلاق؟
وابن حجر يعلم ذلك
كلّه ، ولذلك تعمّد إسقاط لفظ الرواية ، وقال في الصواعق (ص ١٩) : هو ـ أبو
بكر ـ من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على
__________________
الإطلاق للأدلّة
الواضحة على ذلك ، منها : ما أخرجه البخاري وغيره أنّ عمر في صلح الحديبيّة سأل
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك الصلح وقال : علام نعطي الدنيّة في ديننا. فأجابه
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ ذهب إلى أبي بكر فسأله عمّا سأل عنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من غير أن يعلم بجواب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأجابه بمثل ذلك الجواب سواء بسواء.
يوهم ابن حجر أنّ
هناك معضلة كشفها أبو بكر ، أو عويصة من العلوم حلّها ممّا يُعدّ الخوض فيه من
الأدلّة الواضحة على أعلميّة صاحبه من الصحابة على الإطلاق ، فليفعل ابن حجر ما
شاء ، فإنّ نظّارة التنقيب رقيبة عليه ، والله من ورائه حسيب.
المظهر
الثالث : ومن الأدلّة
الواضحة عند ابن حجر على أنّ الخليفة أعلم الصحابة على الإطلاق ما روى في الصواعق (ص
١٩) عن عائشة مرسلاً أنّها قالت : لمّا توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ اشرأبّ النفاق ـ أي رفع رأسه ـ وارتدّت العرب ، وانحازت
الأنصار ، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها ـ أي فتّتها ـ فما اختلفوا
في لفظة إلاّ طار أبي بعبئها وفصلها ، قالوا : أين ندفن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : ما من نبيّ يقبض إلاّ دفن تحت مضجعه الذي مات فيه. واختلفوا
في ميراثه ، فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّا معشر الأنبياء لا نُورَث ما تركنا صدقة.
ثمّ قال : قال بعضهم : وهذا أوّل اختلاف وقع بين الصحابة فقال
بعضهم : ندفنه بمكّة مولده ومنشئه ، وبعضهم بمسجده ، وبعضهم بالبقيع ، وبعضهم ببيت
المقدس مدفن الأنبياء ، حتى أخبرهم أبو بكر بما عنده من العلم ، قال ابن زنجويه :
وهذه سنّة تفرّد بها الصدّيق من بين المهاجرين والأنصار ورجعوا إليه فيها.
__________________
قال
الأميني : غاية ما في هذه
المرسلة عن عائشة أنّ أبا بكر روى حديثين عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شذّت روايتهما عن الحضور في ذينك الموقفين ، فإن يكن بهما
أبو بكر أعلم الصحابة على الإطلاق حتى من لم يحضرهما ولو بنحو من التهجّم والرجم
بالغيب ، فكيف بمن روى آلافاً مؤلّفة من الأحاديث شذّت عن أبي بكر روايتها جمعاء
أو رواية أكثرها؟ ومع ذلك لا يُعدّ أحد منهم أعلم الصحابة أو أعلم من أبي بكر على
الأقلّ.
أليس هو صاحب
نادرة الأبّ والكلالة والجدّ والجدّتين إلى نوادر أخرى؟ أليس هو الآخذ بالسنّة
الشريفة من نظراء المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن سهيل إلى أناس
آخرين عاديّين؟
كأنّ ابن حجر يقيس
الناس إلى نفسه ويحسبهم ولائدَ حَجَر لا يعقلون شيئاً وهم يسمعون ، ألا يقول الرجل
ما الذي فهمه الصحابة من هتاف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم هتف بقوله :
١ ـ «ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض الجنّة».
٢ ـ وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة».
٣ ـ وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما بين حجرتي إلى منبري روضة من رياض الجنّة».
٤ ـ وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنّة».
٥ ـ وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من سرّه أن يصلّي في روضة من رياض الجنّة فليصلّ بين
قبري ومنبري».
وهذه الأحاديث
أخرجها باللفظ الأول : البخاري ، وأحمد ، وعبد الرزّاق ،
__________________
وسعيد بن منصور ،
والبيهقي في شعب الإيمان ، والخطيب ، والبزّار ، والطبراني ، والدارقطني ، وأبو
نعيم ، وسمويه ، وابن عساكر من طريق جابر ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الله بن عمر
، وأبو سعيد الخدري.
راجع تاريخ الخطيب (١١ / ٢٢٨ ، ٢٩٠) ، إرشاد الساري للقسطلاني (٤
/ ٤١٣) وصحّح إسناد البزّار وقال : عند البزّار بسند رجاله ثقات ، كنز العمّال (٦
/ ٢٥٤) ، شرح النووي لمسلم هامش الإرشاد (٦ / ١٠٣) ، تحفة الباري في ذيل الإرشاد (٤
/ ٤١٢) ، وحكاه السمهودي في وفاء الوفا (١ / ٣٠٣) عن الصحيحين ، وصحّحه من طريق
البزّار.
وأخرجها باللفظ الثاني : البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأحمد ،
والدارقطني ، وأبو يعلى ، والبزّار ، والنسائي ، وعبد الرزّاق ، والطبراني ، وابن
النجّار ، من طريق جابر وعبد الله بن عمر ، وعبد الله المازني ، وأبي بكر.
راجع : صحيح البخاري كتاب الصلاة : باب فضل ما بين القبر
والمنبر ، وكتاب الحجّ ، وصحيح مسلم كتاب الحج ، باب : فضل ما بين قبره صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنبره ، تيسير الوصول (٣ / ٣٢٣) ، تمييز الطيّب (ص ١٣٩) ،
فقال : متّفق عليه ، كنوز الدقائق
__________________
(ص ١٢٩) ، كنز
العمّال (٦ / ٢٥٤) ، الجامع الصغير وصحّحه وقال : حديث متواتر كما في الفيض القدير
(٥ / ٤٣٣) ، تحفة الباري في ذيل الإرشاد (٤ / ٤١٢) ، وفاء الوفا (١ / ٣٠٢ ، ٣٠٣)
وصحّحه بإسناد أحمد والبزّار.
وأخرجه باللفظ الثالث : أحمد ، والشاشي ، وسعيد بن منصور ،
والخطيب من طريق جابر وعبد الله المازني كما في تاريخ الخطيب (٣ / ٣٦٠) ، وكنز
العمّال (٦ / ٢٥٤) ، وشرح النووي لمسلم هامش الإرشاد (٦ / ١٠٣).
واللفظ الرابع : تجده في الأوسط للطبراني من طريق أبي سعيد الخدري كما في
إرشاد الساري (٤ / ٤١٣) ، ووفاء الوفا (١ / ٣٠٣).
والخامس منها
أخرجه : الديلمي من طريق عبيد الله بن لبيد كما في كنز العمّال (٦ / ٢٥٤).
وقال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ١٩٣) : قلت :
كيف اختلفوا في موضع دفنه وقد قال لهم : «فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير
قبري»؟ وهذا تصريح بأنّه دفن في البيت الذي جمعهم فيه وهو بيت عائشة.
وهذا الحديث أخرجه
: ابن سعد ، وابن منيع ، والحاكم ، والبيهقي ، والطبراني في الأوسط من طريق
ابن مسعود كما في الخصائص الكبرى للحافظ السيوطي (٢ / ٢٧٦).
__________________
أيرى ابن حجر أنّ
الصحابة بعد تلكم الأحاديث كانوا غير عارفين تلك الروضة المقدّسة التي أنبأهم بها
نبيّهم الأقدس ، وأمرهم بالصلاة عليها؟ أو يراهم أنّهم عرفوا القبر والمنبر وما
بينهما من الروضة ، ووقفوا على حدودها من كَثَب أخذاً منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ اختلفوا في المدفن الشريف ، فباح به أبو بكر فأصبح
بذلك أعلمهم على الإطلاق؟
على أنّه لو صحّت
رواية الدفن لوجب أن يبوح بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن أوصاه بغسله ودفنه ، لمن ولي غسله وكفنه وإجنانه ، لمن يعلم أنّه يباشر دفنه ويلي إجنانه في منتصف الليل من دون حضور غير أهله كما مرّ في (ص ٧٥) ،
لا الذي يغيب عن ذلك المشهد ، وغلبت على أجفانه عند ذاك سنة الكرى ، وتعيين المدفن
من أهمّ ما يوصى به عند كلّ أحد فضلاً عن سيّد البشر ، وهذا الاعتبار يعاضد ما أخرجه
أبو يعلى من حديث عائشة أيضاً ، وإن يعارض حديثها عن أبيها. قالت :
اختلفوا في دفنه صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال عليّ : «إنّ أحبّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه
نبيّه». الخصائص الكبرى (ص ٢ / ٢٧٨).
ولعلّ تجاه هذا
الحديث اختُلقت رواية الدفن.
ولو كان عند دفن
جثمان القداسة حوار كما يصفه ابن حجر لتناقلته الألسن وتداولته السير والمدوّنات
نقلاً عن الصحابة الحضور يوم ذاك الواقفين على الجلبة ، والمستمعين للّغط ، ولما
اختصّت بوصفه صفحات الصواعق أو ما يشاكله من كتب المتأخرين ، ولا تفرّدت برواية
شيء منها عائشة ، وكيف تفرّدت بها! وهي التي
__________________
تقول : ما علمنا
بدفن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل .
ثمّ إنّ أوّل
مفنّد لهذه السنّة المزعوم اطّرادها هو مدفن أوّل الأنبياء آدم عليهالسلام ، فإنّه توفّي بمكة ودفن عند الجبل الذي أهبط منه في الهند ، وقيل بجبل أبي
قبيس بمكّة .
وقد اشترى إبراهيم
الخليل على نبيّنا وآله وعليهالسلام مغارة في حبرون من عفرون بن صخر ، فدفن فيها سارة ثمّ دُفِن فيها هو وابنه
إسحاق.
وتوفّي يعقوب عليهالسلام في مصر ، واستأذن يوسف سلام الله عليه ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند
أهله ، فأذن له ، وخرج معه أكابر مصر ، فدفنه في المغارة بحبرون .
المظهر
الرابع : أمّا رواية الإرث
؛ فسرعان ما ناقض ابن حجر فيها نفسه ؛ فتراه يحسب هاهنا في (ص ١٩) : أنّها مختصّة
بأبي بكر ، وهي من الأدلّة الواضحة على أعلميّته ، وهو يعتقد في صفحة (٢١) : أنّه
رواها عليّ والعبّاس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وأمّهات المؤمنين
وقال : كلّهم كانوا يعلمون أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ذلك ، وأنّ أبا بكر إنّما انفرد باستحضاره أوّلاً ثمّ
استحضره الباقون.
__________________
ما هذا التهافت
بين كلامي الرجل؟ وما أذهله أخيراً عمّا جاء به أوّلاً؟ وهل الأعلميّة مترشّحة من
محض الاستحضار أوّلاً؟ أو السبق إلى الهتاف به؟ وكلّ منهما كما ترى لا يفيد مزيّة
إلاّ في الحفظ دون العلم.
ثمّ لو كان رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ذلك لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدّعون الوراثة
منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنّة
الشريفة ، فلا يكون هناك صخب وحوار تتعقّبهما محن وإحن ، ولا تموت بضعته الطاهرة
وهي واجدة على أصحاب أبيها ، ويكون ذلك كلّه مثاراً للبغضاء والعداء في الأجيال
المتعاقبة بين أشياع كلّ من الفريقين ، وقد بُعث هو صلىاللهعليهوآلهوسلم لكسح تلكم المعرّات وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد.
ألم يكن صلىاللهعليهوآلهوسلم على بصيرة ممّا يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف
أهله وذويه على هذا الحكم المختصّ به صلىاللهعليهوآلهوسلم المخصّص لشرعة الإرث؟ حاشاه. وعنده علم المنايا والبلايا
والقضايا والفتن والملاحم.
وهل ترى أنّ دعوى
الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصدّيقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما
على أبي بكر ما استولت عليه يده ممّا تركه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنّة المزعومة
صفحاً منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر؟
نحن نقدّس ساحتهما ـ أخذاً بالكتاب والسنّة ـ عن علم بسنّة ثابتة والصفح عنها ،
وعن جهل يربكهما في الميزان.
ولما ذا يصدّق أبو
بكر في دعواه الشاذّة عن الكتاب والسنّة ، فيما لا يُعلم إلاّ من قِبَل ورثته صلىاللهعليهوآلهوسلم ووصيّه الذي هتف صلىاللهعليهوآلهوسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية
__________________
والمجتمعات ، ولم تكن أُذنٌ واعية لدعوى الصدّيقة وزوجها الطاهر بكون
فدك نِحلة لها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي لا تُعلم إلاّ من قبلهما؟
قال مالك بن جعونة
عن أبيه أنّه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جعل لي فدك فأعطني إيّاها» ، وشهد لها عليّ بن أبي طالب ،
فسألها شاهداًآخر فشهدت لها أُمّ أيمن : فقال : قد علمت يا بنت رسول الله أنّه لا
تجوز إلاّ شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، فانصرفت.
وفي رواية خالد بن
طهمان ؛ أنّ فاطمة قالت لأبي بكر رضى الله عنه : «أعطني فدك فقد جعلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لي» ، فسألها البيّنة ، فجاءت بأمّ أيمن ورباح مولى النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم فشهدا لها بذلك ، فقال : إنّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلاّ
شهادة رجل وامرأتين .
ثمّ مِمّ كان غضب
الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الأقدس : «إنّ الله
يرضى لرضاها ويغضب لغضبها» أمن حكم صدع به والدها؟ (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) وحاشاها. أم لأنّ ذلك الحكم الباتّ رواه عنه صدّيق أمين
يريد بثّ حكم الشريعة وتنفيذه وهي غير مصدّقة له؟ نحاشي ساحة البضعة الطاهرة بنصّ
آية التطهير عن هذه الخزاية ، فلم يبق إلاَّ شقّ ثالث وهو أنّها كانت تتّهم الراوي
، أو تعتقد خللاً في الرواية ، وتراه حكماً خلاف الكتاب والسنّة ، وهذا الذي دعاها
إلى أن لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم
__________________
مشيتها مشية رسول
الله ، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت
دونها ملاءة ، ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت
هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّ وجلّ
والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثمّ قالت ما قالت وفيما قالت : «أنتم الآن تزعمون أن لا
إرث لنا ، (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ؟ يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرِث أبي؟ لقد جئت شيئاً
فريّا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحَكَم الله ، والزعيم محمد
، والوعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون». ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت :
قد كان بعدك
أنباءٌ وهنبثةٌ
|
|
لو كنت شاهدها
لم تكثرِ الخطبُ
|
إنّا فقدناك
فقدَ الأرضِ وابلَها
|
|
واختلّ قومكَ
فاشهدهم ولا تغب
|
فليت بعدك كان
الموتُ صادفَنا
|
|
لمّا قضيت وحالت
دونك الكثبُ
|
وهذا الذي تركها
غضبى على من خالفها وتدعو عليه بعد كلّ صلاة حتى لفظت نفسها الأخير صلّى الله
عليها كما سيوافيك تفصيله.
وهل هذا الحكم
مطّرد بين الأنبياء جميعاً؟ أو أنّه من خاصّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ والأوّل ينقضه الكتاب العزيز بقوله تعالى (وَوَرِثَ
سُلَيْمانُ داوُدَ) .
وقوله سبحانه عن
زكريّا : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا*
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) .
__________________
ومن المعلوم أنّ
حقيقة الميراث انتقال ملك الموروث إلى ورثته بعد موته بحكم المولى سبحانه ، فحمل
الآية الكريمة على العلم والنبوّة كما فعله القوم خلاف الظاهر لأنّ النبوّة والعلم
لا يورثان ، والنبوّة تابعة للمصلحة العامّة ، مقدّرة لأهلها من أوّل يومها عند
بارئها ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، ولا مدخل للنسب فيها كما لا أثر للدعاء
والمسألة في اختيار الله تعالى أحداً من عباده نبيّا ، والعلم موقوف على من يتعرّض
له ويتعلّمه.
على أنّ زكريّا
سلام الله عليه ـ إنّما سأل وليّا من ولده يحجب مواليه ـ كما هو صريح الآية ـ من
بني عمّه وعصبته من الميراث ، وذلك لا يليق إلاّ بالمال ، ولا معنى لحجب الموالي
عن النبوّة والعلم.
ثمّ إنّ اشتراطه عليهالسلام في وليّه الوارث كونه رضيّا بقوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا) لا يليق بالنبوّة ، إذ العصمة والقداسة في النفسيّات
والملكات لا تفارق الأنبياء ، فلا محصّل عندئذٍ لمسألته ذلك. نعم ، يتمّ هذا في
المال ومن يرثه فإنّ وارثه قد يكون رضيّا وقد لا يكون.
وأمّا كون الحكم
من خاصّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الإرث مثل قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ
اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
وقوله سبحانه : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) .
وقوله العزيز : (إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) .
__________________
ولا يسوغ تخصيص
الكتاب إلاّ بدليل ثابت مقطوع عليه ، لا بالخبر الواحد الذي لم يصحّ الأخذ بعموم
ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الأنبياء الماضين صلوات الله على نبيّنا وآله
وعليهم.
لا بالخبر الواحد
الذي لم يخبت إليه صدّيقة الأمّة وصدّيقها الذي ورث علم نبيّها الأقدس ، وعدّه
المولى سبحانه في الكتاب نفساً لنبيّه صلى الله عليهما وآلهما.
لا بالخبر الواحد
الذي لم يُنبّأ عنه قطّ خبير من الأمّة وفي مقدّمها العترة الطاهرة وقد اختصّ
الحكم بهم وهم الذين زُحزحوا به عن حكم الكتاب والسنّة الشريفة ، وحرموا من وراثة
أبيهم الطاهر ، وكان حقّا عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخبرهم بذلك ، ولا يؤخّر بيانه عن وقت حاجتهم ، ولا
يكتمه في نفسه عن كلّ أهله وذويه وصاحبته وأمّته إلى آخر نَفَس لفظه.
لا بالخبر الواحد
الذي جرّ على الأمّة كلّ هذه المحن والإحن ، وفتح عليها باب العداء المحتدم
بمصراعيه ، وأجّج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية ، وشقّ عصا
المسلمين من أوّل يومهم ، وأقلق من بينهم السلام والوئام وتوحيد الكلمة. جزى الله
محدّثه عن الأمّة خيراً.
ثمّ إن كان أبو
بكر على ثقة من حديثه فِلمَ ناقضه بكتاب كتبه لفاطمة الصدّيقة سلام الله عليها ،
بفدك؟ غير أنّ عمر بن الخطّاب دخل عليه فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة
بميراثها من أبيها. فقال : ممّا ذا تنفق على المسلمين ، وقد حاربتك العرب كما ترى؟
ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه. ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية (٣ / ٣٩١).
__________________
وإن كان صحّ الخبر
وكان الخليفة مصدّقاً فيما جاء به فما تلكم الآراء المتضاربة بعد الخليفة؟ وإليك
شطراً منها :
١ ـ لمّا ولي عمر
بن الخطّاب الخلافة ردّ فدكاً إلى ورثة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فكان عليّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطّلب يتنازعان
فيها. فكان عليّ يقول : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جعلها في حياته لفاطمة». وكان العبّاس يأبى ذلك ويقول : هي
ملك رسول الله وأنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر ، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول :
أنتما أعرف بشأنكما أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما.
راجع صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب فرض الخمس (٥ / ٣ ـ ١٠)
، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء ، الأموال لأبي عبيد (ص ١١) ذكر
حديث البخاري وبتره ، سنن البيهقي (٦ / ٢٩٩) ، معجم البلدان (٦ / ٣٤٣) ، تفسير ابن
كثير (٤ / ٣٣٥) ، تاريخ ابن كثير (٥ / ٢٨٨) ، تاج العروس (٧ / ١٦٦).
لفت نظر :
نحن لانناقش فيما
نجده من المخازي في أحاديث الباب كأصل التنازع المزعوم بين عليّ والعبّاس ، وما
جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العبّاس لعمر : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين
هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.
أهكذا كان العبّاس
يقذف سيّد العترة الطاهر المطهّر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها
ممّا نزل في عليّ أمير المؤمنين في آي الكتاب العزيز؟ فما
__________________
العبّاس وما خطره
عندئذ؟ وبما ذا يُحكم عليه أخذاً بقول النبيّ الطاهر : «من سبّ عليّا فقد سبّني ،
ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله كبّه الله على منخريه في النار» ؟
لاها الله ؛ نحن
نحاشي العبّاس عن هذه النسب المخزية ، ونرى القوم راقهم سبّ مولانا أمير المؤمنين
فنحتوا هذه الأحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة والله يعلم ما تكنّ صدورهم
وما يعلنون. وإلى الله المشتكى.
٢ ـ أقطع مروان بن
الحكم فدكاً في أيّام عثمان بن عفان كما في سنن البيهقي (٦ / ٣٠١) وما كان إلاّ
بأمر من الخليفة.
٣ ـ لمّا ولي
معاوية بن أبي سفيان الأمر أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن
عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن عليّ ، فلم
يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيّام خلافته فوهبها لعبد العزيز ابنه
فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.
٤ ـ ولمّا ولي عمر
بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال : إنّ فدك كانت ممّا أفاء الله على رسوله ولم يوجف
المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فسألته إيّاها فاطمة فقال : ما كان لك أن تسأليني وما
كان لي أن أعطيك فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل ، ثمّ ولي أبو بكر وعمر
وعثمان وعليّ فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي
ولعبد الملك فصارت لي وللوليد وسليمان ، فلمّا ولي الوليد سألته حصّته منها فوهبها
لي ، وسألت سليمان حصّته منها فوهبها لي فاستجمعتها ، وما كان لي من مال أحبّ إليّ
منها ، فاشهدوا أنّي قد رددتها إلى ما كانت عليه.
٥ ـ فكانت فدك بيد
أولاد فاطمة مدّة ولاية عمر بن عبد العزيز ، فلمّا ولي يزيد
__________________
ابن عبد الملك
قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم.
٦ ـ ولمّا ولي أبو
العباس السفّاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين.
٧ ـ ثمّ لمّا ولي
أبو جعفر المنصور قبضها من بني حسن.
٨ ـ ثمّ ردّها
المهدي بن المنصور على ولدِ فاطمة سلام الله عليها.
٩ ـ ثمّ قبضها
موسى بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون.
١٠ ـ ردّها المأمون
على الفاطميّين سنة (٢١٠) وكتب بذلك إلى قُثم بن جعفر عامله على المدينة :
أمّا بعد : فإنّ
أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم والقرابة به ، أولى من استنّ بسنّته ، ونفّذ أمره ، وسلّم
لمن منحه منحةً ، وتصدّق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين
وعصمته ، وإليه ـ في العمل بما يقرّبه إليه ـ رغبته ، وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدك ، وتصدّق بها عليها ، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً
لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم تزل تدّعي منه ما هو أولى به من صُدّق عليه ، فرأى
أمير المؤمنين أن يردّها إلى ورثتها ، ويسلّمها إليهم تقرّباً إلى الله تعالى
بإقامة حقّه وعدله ، وإلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بتنفيذ أمره وصدقته ، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه ،
والكتاب إلى عمّاله ، فلئن كان ينادى في كلّ موسم بعد أن قبض الله نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يذكر كلّ من كانت له صدقة أو هبة أوعدة ذلك ، فيُقبل
قوله ، وتنفّذ عدته ، إنّ فاطمة لأولى بأن يصدّق قولها فيما جعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لها.
وقد كتب أمير
المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره بردّ فدك على ورثة فاطمة
بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها ، وما فيها من الرقيق
والغلاّت وغير ذلك ، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد ابن عليّ بن
الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن
عليّ بن أبي طالب ، لتولية أمير المؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها.
فاعلم ذلك من رأي
أمير المؤمنين ، وما ألهمه الله من طاعته ، ووفّقه له من التقرّب إليه وإلى رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأعلمه من قِبَلك ، وعامل محمد بن يحيى ومحمد ابن عبد
الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري ، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها
ووفور غلاّتها إن شاء الله ، والسلام.
وكتب يوم الأربعاء
لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة (٢١٠ ه).
١١ ـ ولمّا استخلف
المتوكّل على الله أمر بردّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.
راجع : فتوح البلدان للبلاذري (ص ٣٩ ـ ٤١) ، تاريخ اليعقوبي (٣
/ ٤٨) ، العقد الفريد (٢ / ٣٢٣) ، معجم البلدان (٦ / ٣٤٤) ، تاريخ ابن كثير (٩ /
٢٠٠) وله هناك تحريف دعته إليه شنشنة أعرفها من أخزم ، شرح ابن أبي الحديد (٤ /
١٠٣) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٥٤) ، جمهرة رسائل العرب (٣ / ٥١٠) ، أعلام
النساء (٣ / ١٢١١).
كلّ هذه تضادّ ما
جاء به الخليفة من خبره الشاذّ عن الكتاب والسنّة ، فأنّى لابن حجر ومن لفّ لفّه
أن يعدّه من الأدلّة الواضحة على علمه وهذا شأنه (فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) .
__________________
التمسّك بالأفائك
:
والعجب العجاب قول
ابن حجر في الصواعق (ص ٢٠) : لا يقال
بل عليّ أعلم من أبي بكر للخبر الآتي في فضائله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها». لأنّا
نقول : سيأتي أنّ ذلك الحديث مطعون فيه ، وعلى تسليم صحّته أو حسنه فأبو بكر
محرابها. ورواية فمن أراد العلم فليأتِ الباب لا تقتضي الأعلميّة ، فقد يكون غير
الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإيضاح والبيان والتفرّغ للناس بخلاف الأعلم. على
أنّ تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر
حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعليّ بابها. فهذه صريحة في أنّ أبا بكر أعلمهم ،
وحينئذٍ فالأمر بقصد الباب إنّما هو لنحو ما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قبله لما
هو معلوم ضرورة أنّ كلاّ من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب. انتهى.
قال
الأميني : إنّ الطعن في
حديث «أنا مدينة العلم» لم يصدر إلاّ من ابن الجوزي ومن يشاكله من رماة القول على
عواهنه ، وقد عرفت في الجزء السادس (ص ٦١ ـ ٨١) نصوص العلماء على صحّة الحديث ،
واعتبار قوم حسنه ، وتقرير آخرين ما صدر ممّن تقدّمهم إلى ذينك الوجهين وتزييف ما
ارتآه ابن الجوزي.
وأمّا ما ذكره من
رواية الفردوس فلا يختلف اثنان في ضعفها وضعف ما يقاربها في اللفظ ممّا تدرّج نحته
في الأزمنة المتأخرة تجاه ما يثبته هتاف النبيّ الأعظم من فضيلة العلم الرابية
لمولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، وابن حجر نفسه من أولئك الذين زيّفوه وحكموا عليه بالضعف
كما في كتابه الفتاوى الحديثيّة (ص ١٩٧) فقال :
حديث ضعيف ، ومعاوية حلقتها فهو ضعيف أيضاً. فأذهله لجاجه في حجاجه عن
__________________
حكمه ذاك ، ورأى
ما حكم عليه بالضعف نصّا في أعلميّة أبي بكر.
وقال العجلوني في
كشف الخفاء (١ / ٢٠٤) : روى الديلمي في الفردوس بلا إسناد عن ابن مسعود رفعه : أنا مدينة العلم ، وأبو بكر
أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها ، وعليّ بابها. وروى أيضاً عن أنس مرفوعاً :
أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها ، ومعاوية حلقتها. قال في المقاصد : وبالجملة فكلّها ضعيفة وألفاظ أكثرها ركيكة.
وقال السيّد محمد
درويش الحوت في أسنى المطالب (ص ٧٣) : أنا
مدينة العلم ، وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها. وذلك لا ينبغي ذكره في كتب العلم
لا سيّما مثل ابن حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيّد من مثله. انتهى.
فلم يبق إذن مجال
للمناقشة بالتعبير بالباب لمولانا صلوات الله عليه وبالأساس والحيطان والسقف
والحلقة لغيره ، حسب المسكين ناحِتُ هذه المهزأة مدينة خارجيّة يرمق إليها ،
ويتجوّل بين جدرانها ، ويتفيّأ تحت سقفها ، ويدقّ بابها بالحلقة ، وقد عزب عنه
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يريد أنّ السبب الوحيد للاستفادة من علوم النبوّة هو
خليفته مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، كما أنّ المدخل الوحيد للمدينة بابها ، فهو معنىً كنائي
جيء به لإفادة ما ذكرناه ، والأساس لا فضيلة له غير أنّه يقوم عليه سياج المدينة
المشاد للوقاية عن الغارات والسرقات ، وأمّا معنويّات المدينة فلا صلة لها بشيء من
ذلك ، والاستفادة بالسقف على فرض تصويره في المدن ليس إلاّ الاستظلال
__________________
ودفع عائدة الحرّ
والقرّ ولذلك لا يسقف إلاّ المحالّ التي يتصوّر فيها ذلك كالبيوت والحمّامات
والحوانيت والربط وأمثالها. فقاصد المدينة للاستفادة ممّا فيها من علم أو ثروة أو
أيّ من أقسام النفع معنويّة وماديّة لا يتوصّل بها إلاّ بالدخول من الباب ، فهو
أهمّ ممّا جاء به ابن حجر من الأساس والجدار والسقف. وأمّا الحلقة فيُحتاج إليه
لفتح الباب وسدّه والدقّ إذا كان مرتجاً غير أنّ باب علم النبوّة غير موصود ، ولا
يزال مفتوحاً على البشر بمصراعيه أبد الدهر.
ثمّ إنّ من الواضح
أنّ المراد من التعبير بالباب ليس الولوج والخروج فحسب وإنّما هو الاستفادة والأخذ
، ولا يتمّ هذا إلاّ أن يكون عنده كلّ علم النبوّة الذي أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم سوق الأمّة إليه ، وحصر الطريق إلى ذلك بمن عبّر عنه
بالباب تأكيداً للحصر ثمّ زاد في التأكيد بقوله : فمن أراد المدينة فليأتِ الباب.
فعليّ أمير
المؤمنين هو الباب المبتلى به الناس ، ومن عنده كلّ علم النبوّة وكلّ ما يحتاج
إليه البشر من فقه أو عظة أو خلق أو حكم أو حِكم أو سياسة أو حزم أو عزم ، فهو
أعلم الناس لا محالة ، وأمّا زيادة الإيضاح والبيان والتفرّغ للناس ، فلا يجوز أن
تنفكّ عمّن سيق إليه البشر لغاية التفهّم ، وإزاحة الجهل ، لا لمحض البيان وجودة
السرد ، لأنّ وضوح البيان بمجرّده غير واف بالغرض ، لارتباك صاحبه عند الجهل بما
يقدّم إليه من المعضلات ، كارتباك الأعلم عند التفهيم إذا أعوزه البيان عن الإفهام
، فمن الواجب أن يجتمعا في إنسان واحد هو مرجع الأمّة جمعاء ، وهو قضيّة اللطف
الواجب عليه سبحانه ، فذلك الإنسان هو عِدل الكتاب العزيز وهما الثقلان خليفتا
النبيّ الأقدس لا يتفرّقان حتى يردا عليه الحوض ، (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) .
__________________
ـ ٣ ـ
شجاعة الخليفة
لم يؤثر عن
الخليفة قبل الإسلام مشهد يدلّ على فروسيّته ، كما أنّه لم نجد له في مغازي النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم مع كثرتها وشهوده فيها موقفاً يشهد له بالبسالة ، أو وقفة
تخلّد له الذكر في التاريخ ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب الدامية تُعرب عن
شيء من هذا الجانب الهامّ غير ما كان في واقعة خيبر من فراره عن مناضلة مرحب
اليهودي كصاحبه عمر بن الخطّاب.
قال عليّ وابن
عبّاس : بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزماً ومن معه ، فلمّا كان من
الغد بعث عمر فرجع منهزماً يُجبِّن أصحابَه ويُجبِّنه أصحابُه.
أخرجه الطبراني
والبزّار كما في مجمع الزوائد (٩ / ١٢٤) ورجال إسناد البزّار رجال الصحيح غير محمد
بن عبد الرحمن ومحلّه الصدق ، وذكر انهزام الرجلين يوم خيبر القاضي عضد [ الدين ]
الإيجي في المواقف وأقرّه شرّاحه كما في شرحه (٣ / ٢٧٦) ، وذكره
القاضي البيضاوي في طوالع الأنوار كما في المطالع (ص ٤٨).
ويُعرب عن فرارهما
يوم ذاك قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ما فرّا : «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله
ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرّار». وفي لفظ : «كرّار
غير فرّار». وفي لفظ : «والذي كرّم وجه محمد لأعطينّها رجلاً لا يفرّ» ، وفي لفظ :
«لأدفعنّ إلى رجل لن يرجع حتى يفتح الله له». وفي لفظ :
__________________
«لا يولّي الدبر» .
وقال ابن أبي
الحديد المعتزلي فيما يعزى إليه من القصيدة العلويّة :
وما أنس لا أنس
اللذَين تقدّما
|
|
وفرَّهما
والفرُّ قد علما حوبُ
|
وللراية العظمى
وقد ذهبا بها
|
|
ملابسُ ذلٍّ
فوقها وجلابيبُ
|
يشلُّهما من آلِ
موسى شمردلُ
|
|
طويلُ نجادِ
السيفِ أجيدُ يعبوبُ
|
يمجُّ منوناً
سيفُه وسِنانُه
|
|
ويلهبُ ناراً
غمدُه والأنابيبُ
|
أحضرُهما أم
حضرُ أخرجَ خاضبٍ
|
|
وذانِ هما أم
ناعمُ الخدّ مخضوبُ
|
عذرتكما إنّ
الحِمامَ لمبغَضٌ
|
|
وإنّ بقاءَ
النفسِ للنفسِ محبوبُ
|
ليُكره طعمَ
الموتِ والموتُ طالبٌ
|
|
فكيفَ يلذُّ
الموتُ والموتُ مطلوبُ
|
__________________
وممّا ينبئنا عن
هذا الجانب حديث كعّ الخليفة عن ذي الثدية لمّا أمره رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتله وهو في صلاته غير شاك السلاح ، فرأى مخالفة الأمر
النبويّ أهون من قتل الرجل ، فآب إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم معتذراً بما سيوافيك تفصيله إن شاء الله.
نعم ؛ يراه ابن
حزم في كتاب المفاضلة بين الصحابة ومن لفّ لفّه أشجع الصحابة على الإطلاق ونحتوا له حديثاً
على أمير المؤمنين أنّه قال : أخبروني من أشجع الناس؟ فقالوا : أنت ، قال : أما
إنّي ما بارزت أحداً إلاّ انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا : لا نعلم ،
فمن؟ قال : أبو بكر ، إنّه لمّا كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عريشاً فقلنا : من يكون مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لئلاّ يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منّا أحد
إلاّ أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي إليه أحد إلاّ هوى إليه ،
فهو أشجع الناس. الحديث .
ليت القوم لم
يحذفوا سند هذه الأثارة المفتعلة وكانوا يروونها بالإسناد حتى نعرّف الملأ العلمي
بالذي اختلقها ، وحسبنا أنّ الحافظ الهيثمي ذكرها بلا إسناد في مجمع الزوائد (٩ /
٤٦) وضعّفه وقال : فيه من لم أعرفه.
وتكذّبها صحيحة
ابن إسحاق قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي
فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متوشّح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يخافون عليه كرّة العدوّ .
ثمّ إنّ حراسة
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم تكن تنحصر بيوم بدر ولا بأبي بكر بل في كلّ موقف من
مواقفه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتعهّد أحد من الصحابة بحراسته ، فكانت الحراسة لسعد
__________________
ابن معاذ ليلة بدر
وفي يومه لأبي بكر على ما ذكره الحلبي في السيرة (٣ / ٣٥٣) ،
ولمحمد بن مسلمة يوم أُحد ، وللزبير بن العوّام يوم الخندق ، وللمغيرة بن شعبة يوم
الحديبيّة ، ولأبي أيوب الأنصاري ليلة بنى بصفيّة ببعض طرق خيبر ، ولبلال وسعد ابن
أبي وقّاص وذكوان بن عبد قيس بوادي القرى ، ولابن أبي مرثد الغنوي ليلة وقعة حنين .
وكانت هذه السيرة
في الحراسة مستمرّة إلى أن نزل قوله تعالى في حجّة الوداع (وَاللهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك الحرس فأبو بكر رديف أولئك الحرسة بعد تسليم ما جاء في حراسته.
ولو صدق النبأ
وكانت يوم بدر لأبي بكر تلك الأهميّة الكبرى لكان هو أولى وأحقّ بنزول القرآن فيه
يوم ذاك دون عليّ وحمزة وعبيدة لمّا نزل فيهم ذلك اليوم : (هذانِ
خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) .
__________________
ولو صحّت المزعمة
لما خُصّ عليّ وحمزة وعبيدة بقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُو اللهَ عَلَيهِ) .
ولما نزل في عليّ
أمير المؤمنين قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ، ولما ورد فيها ما ورد عن النبيّ الأعظم ممّا أسلفناه في
الجزء الثاني (ص ٤٦ ـ ٥١).
ولما خصّ بمولانا
عليّ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، كما ذكره القرطبي في تفسيره (٣ / ٢١) وفصّلنا
القول فيه في الجزء الثاني (ص ٤٧ ـ ٤٩).
وكان حقّا على
رضوان منادي الله يوم بدر بقوله :
لا سيف إلاّ ذو
الفقا
|
|
ر ولا فتى إلاّ
علي
|
أن ينوّه باسم أبي
بكر وبسيفه المشهور على رأس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ هل تنحصر
مغازي النبيّ الأعظم وحروبه الدامية ببدر؟ وهل العريش كان في بدر فحسب دون سائر
الغزوات؟ وهل سيّد العريش النبيّ الأعظم كان يلازم عريشه ولم يحضر قطّ في ميادين
القتال؟ أو كان ينزل بالمعارك ويستخلف صاحبه على العريش؟
ما أعوز النبيّ
الأعظم يوم خيبر مجاهداً كرّاراً غير فرّار لا يولّي الدبر ، وكان
__________________
معه الخليفة
الأشجع؟ أكان فرّاراً غير كرّار؟ ومن المعنيّ في قول المؤرّخين من أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً ، فدفعه
إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً؟ أهذا الرجل وصاحبه نكرتان لا يُعرفان؟
لاها الله.
وأين كان الأشجع
يوم خرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر ، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في موقفه ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمسى مهموماً ؟
ولما ذا بعث صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم ذاك ـ وكان الأشجع معه ـ سلمة بن الأكوع إلى عليّ وكان
قد تخلّف بالمدينة لرمد عينيه ، وكان لا يبصر موضع قدمه ، فذهب إليه سلمة وأخذ
بيده يقوده ؟ وملء المسامع قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لأُعطينّ الراية إلى رجل كرّار غير فرّار».
أكان الأشجع في
العريش يوم خيبر لمّا قاتل المصطفى بنفسه يومه ذلك أشدّ القتال وعليه درعان وبيضة
ومغفر ، وهو على فرس يقال له : الظرب وفي يده قناة وترس؟ كما في السيرة الحلبيّة (٣ / ٣٩).
أكان الأشجع في
العريش يوم أحد يوم بلاء وتمحيص؟ حتى خلص العدوّ إلى
__________________
رسول الله فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقّه فأُصيبت رباعيته ، وشجّ في وجهه ،
وكلمت شفته ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم ويقول : «كيف يفلح قوم
خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم» .
أكان الأشجع في
العريش يوم قال فيه عليّ : «لما تخلّى الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم أُحد نظرت في القتلى فلم أرَ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقلت : والله ما كان ليفرّ وما أراه في القتلى ، ولكن الله
غضب علينا بما صنعنا ، فرفع نبيّه ، فما فيّ خير من أن أُقاتل حتى أُقتل ، فكسرت
جفن سيفي ثمّ حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم». وقد أصابت عليّا
يوم ذاك ست عشرة ضربة ، كلّ ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلاّ جبريل؟ أُسد
الغابة (٤ / ٢٠).
أكان الأشجع في
العريش يوم وقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون
وهم لا يعلمون ، فأخذ عليّ بن أبي طالب بيده صلىاللهعليهوآلهوسلم واحتضنه ورفعه طلحة حتى استوى قائماً ؟
أكان الأشجع في
العريش يوم رأى رسول الله في ميدان النزال وهو لابس درعين : درعه ذات الفضول ودرعه
فضة ، أو يوم حنين وله درعان : درعه ذات الفضول والسعديّة؟ شرح المواهب للزرقاني (٢
/ ٢٤).
أكان الأشجع في
العريش يوم ضُرب وجه النبيّ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله
__________________
شرّها كلها؟
المواهب اللدنيّة (١ / ١٢٤)
أكان الأشجع في
العريش يوم بايع رسول الله على الموت ثمانية ، هم : عليّ ، والزبير ، وطلحة ، وأبو
دجانة ، والحارث بن الصمّة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ،
ورسول الله يدعوهم في أخراهم؟ الإمتاع للمقريزي (ص ١٣٢).
أكان الأشجع في
العريش يوم كان عليّ يذبّ عن رسول الله من ناحية ، وأبو دجانة مالك بن خرشة من
ناحية ، وسعد بن أبي وقّاص يذبّ طائفة ، والحباب بن المنذر يحوش المشركين كما
تُحاش الغنم؟ الإمتاع للمقريزي (ص ١٤٣)
أكان الأشجع في
العريش يوم حمي الوطيس ، وجلس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت راية الأنصار ، وأرسل إلى عليّ أن قدّم [ الراية ]
فقدّم عليّ وهو يقول : أنا أبو القصم ؟
أكان الأشجع في
العريش يوم انتهى رسول الله إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : «اغسلي عن هذا
دمه يا بنيّة فو الله صدقني اليوم»؟ يوم ملأ عليّ درقته ماء من المهراس فجاء به
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم وصبّ على رأسه ، وأخذت
فاطمة ـ سلام الله عليها ـ قطعة حصير فأحرقته فألصقته عليه فاستمسك الدم ؟
أكان الأشجع في
العريش لمّا ملأ الفضاء نداء جبرئيل :
لا سيف إلاّ ذو
الفقا
|
|
ر ولا فتى إلاّ
علي
|
__________________
أكان الأشجع في
العريش يوم نظم حسّان بن ثابت :
جبريل نادى
معلناً
|
|
والنقع ليس
بمنجلي
|
والمسلمون
أحدقوا
|
|
حول النبيّ
المرسلِ
|
لا سيف إلاّ ذو
الفقا
|
|
ر ولا فتى إلاّ
علي
|
أكان الأشجع في
العريش يوم حمراء الأسد ، وقد خرج صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو مجروح في وجهه ، مشجوج في جبهته ، ورباعيّته قد شظيت ،
وشفته السفلى قد كلمت في باطنها ، وهو متوهّن منكبه الأيمن من ضربة ابن قميئة ،
وركبتاه مجحوشتان؟
طبقات ابن سعد ،
رقم التسلسل (٥٥٣).
أكان الأشجع في
العريش يوم حنين؟ لمّا حمي الوطيس وفرّ الناس عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يبق معه إلاّ أربعة : ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم
: عليّ بن أبي طالب والعبّاس وهما بين يديه ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان ،
وابن مسعود من جانبه الأيسر ، ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ قتل؟ السيرة الحلبيّة (٣ / ١٢٣).
أكان الأشجع في
العريش يوم الأحزاب؟ وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ينقل مع صحبه من تراب الخندق وقد وارى التراب بياض بطنه
ويقول :
لا همّ لو لا
أنت ما اهتدينا
|
|
ولا تصدّقنا ولا
صلّينا
|
فأنزلن سكينةً
علينا
|
|
وثبّت الأقدام
إن لاقينا
|
إنّ الأُلى لقد
بغوا علينا
|
|
إذا أرادوا
فتنةً أبينا
|
__________________
طبقات ابن سعد رقم
التسلسل (٥٧٥) ، تاريخ ابن كثير (٤ / ٩٦).
أكان الأشجع في
العريش يوم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين» ، وفي لفظ : «قتل
عليّ لعمرو أفضل من عبادة الثقلين» وفي لفظ : «لمبارزة عليّ لعمرو بن ودّ أفضل من
أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة» ؟
نعم ؛ للرجل موقف
يوم أُحد لمّا طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وكان من المشركين ـ فقال : من
يبارز وارتجز يقول :
لم يبق إلاّ
شكّة ويعبوب
|
|
وصارم يقتل
ضلاّل الشيب
|
فنهض إليه أبو بكر
رضى الله عنه وهو يقول : أنا ذلك الأشيب ثمّ ارتجز فقال :
لم يبق إلاّ
حسبي وديني
|
|
وصارم تقضي به
يميني
|
فقال له عبد
الرحمن : لو لا أنّك أبي لم أنصرف. الإمتاع (ص ١٤٤).
حجاج بالعريش :
قال المحاملي :
كنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يكتب لبدر ، وعنده جمع فيهم أبو بكر الداودي وأحمد
بن خالد المادرائي ، فذكر قصّة مناظرته مع الداودي في التفضيل. إلى أن قال : فقال
الداودي : والله ما نقدر نذكر مقامات عليّ مع هذه العامّة. قلت : أنا والله أعرفها
: مقامه ببدر ، وأُحد ، والخندق ، ويوم حنين ، ويوم خيبر. قال :
__________________
فإن عرفتها ينفعني
أن تقدّمه على أبي بكر وعمر؟ قلت : قد عرفتها ومنه قدّمت أبا بكر وعمر عليه. قال :
من أين؟ قلت : أبو بكر كان مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس والرئيس ينهزم به
الجيش ، وعليّ مقامه مقام مبارز ، والمبارز لا ينهزم به الجيش.
ذكره الخطيب في
تاريخه (٨ / ٢١) ، وابن الجوزي في المنتظم (٦ / ٣٢٧) ، وأحسب
أنّ مبتدع هذه الباكورة ، ومؤسّس فكرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ
، قال في خلاصة كتاب العثمانيّة (ص ١٠) : والحجّة العظمى للقائلين بتفضيل عليّ عليهالسلام قتله الأقران ، وخوضه الحروب ، وليس له في ذلك كبير فضيلة ، لأنّ كثرة القتل
والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلاً على
الرئاسة والتقدّم ، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد ابن مسلمة وابن عفراء
والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم! لأنّه لم يقتل إلاّ رجلاً واحداً ولم يحضر الحرب يوم بدر
ولا خالط الصفوف ، وإنّما كان معتزلاً عنهم في العريش ومعه أبو بكر.
وأنت ترى الرجل
الشجاع قد يقتل الأقران ، ويجندل الأبطال ، وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز
وهو الرئيس ، أو ذو الرأي والمستشار في الحرب ، لأنّ للرؤساء من الاكتراث
والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقّد ما ليس لغيرهم ، ولأنّ الرئيس هو المخصوص
بالمطالبة وعليه مدار الأمور ، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر ، وباسمه ينهزم العدوّ
، ولو لم يكن له إلاّ أنّ الجيش لو ثبت وفرّ هو لم يغن ثبوت وكانت الدولة له ،
ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة إلاّ إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول
الله يوم بدر أعظم من جهاد عليّ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش. انتهى.
__________________
قال
الأميني : نحن لا ننبس في
الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة ببنت شفة ، وإنّما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر
الإسكافي المعتزلي البغدادي المتوفّى (٢٤٠) ، قال في الردّ عليها :
لقد أعطي أبو
عثمان مقولاً وحرم معقولاً ، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجدّ ، ولم يذهب به مذهب
اللعب واللهو ، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوّة والسلاطة وذلاقة
اللسان وحدّة الخاطر والقوّة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أشجع البشر وأنّه خاض الحروب وثبت في المواقف التي
طاشت فيها الألباب ، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فرّ
المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلاّ أربعة : عليّ ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ،
فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سِية قوسه ، وانقطع وتره ، فأمر عكاشة ابن محصن أن يوترها ،
فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : أوتر ما بلغ. قال عكاشة : فوالذي بعثه
بالحقّ لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبراً على سِية القوس ، ثمّ أخذها فما زال
يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطّمت ، وبارز أُبيّ بن خلف ، فقال له أصحابه : إن
شئت عطف عليه بعضنا فأبى ، وتناول الحربة من الحارث بن الصمّة ثم انتفض بأصحابه
كما ينتفض البعير ، قالوا : فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور ، ولو لم يدلّ على
ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلاّ قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) فكونه صلىاللهعليهوآلهوسلم في أُخراهم وهم يصعدون ولا يلوُون هاربين ؛
__________________
دليل على أنّه ثبت
ولم يفرّ. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين ، وقد فرّ المسلمون كلّهم
والنفر التسعة محدقون به ، العبّاس آخذ بحَكَمَةِ بغلته ، وعليّ بين يديه مصلت سيفه ، والباقون حول بغلته
يمنةً ويسرةً ، وقد انهزم المهاجرون والأنصار ، وكلّما فرّوا أقدم هو صلىاللهعليهوآلهوسلم وصمّم مستقدماً يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره ، ثمّ أخذ
كفّا من البطحاء وحصب المشركين وقال : «شاهت الوجوه» ، والخبر المشهور عن عليّ وهو
أشجع البشر : «كنّا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولذنا به». فكيف يقول الجاحظ : إنّه ما خاض الحروب ولا
خالط الصفوف؟ وأيّ فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الإحجام واعتزال الحرب؟ ثمّ أيّ مناسبة بين أبي بكر
ورسول الله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والملّة ، والملحوظ بين
أصحابه وأعدائه بالسيادة ، وإليه الإيماء والإشارة ، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب
، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم ، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم ، ثمّ وترهم فيما
بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم ، وحقّ لمثله إذا تنحّى عن الحرب واعتزلها أن يتنحّى
ويعتزل ، لأنّ ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم ، فمتى
هلك الملك هلك الجيش ، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه ، وإن عطب جيشه
فإنّه يستجدّ جيشاً آخر ، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه ، وخطّئوا
الإسكندر لمّا بارز فوسر ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب
والحزم ، فليقل لنا الجاحظ : أيّ مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه
من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلاّ واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد
الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتاً ، وأشرف منه
مركباً ، والعيون إليه أطمح ، والعدوّ عليه أحنق وأكلب. ولو قُتل أبو بكر في بعض
تلك المعارك هل كان يؤثّر قتله في الإسلام ضعفاً؟ أو يحدث فيه وهناً؟ أو يخاف على
الملّة لو قُتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتُعفّى آثارها وتنطمس منارها؟
ليقول الجاحظ : إنّ أبا بكر كان حكمه حكم
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد
علم العقلاء كلّهم ممّن له بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف كانت ، وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان ،
ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب ، وجلوسه في العريش يوم جلس ، وأنّ وقوفه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقوف رئاسةٍ
وتدبير ، ووقوف ظهر وسند ، يتعرّف أُمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من
ورائهم وتخلّفه عن التقدّم في أوائلهم ، لأنّهم متى علموا أنّه في أُخراهم اطمأنّت
قلوبهم ولم تتعلّق بأمره نفوسهم ، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوّهم ، ولا يكون لهم
فئة يلجئون إليها وظهر يرجعون إليه ، ويعلمون أنّه متى كان خلفهم تفقّد أُمورهم
وعلم مواقفهم وآوى كلّ إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكرّ
والحملة ، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم ، وأحمى وأحرس لبيضتهم ، ولأنّه المطلوب
من بينهم ، إذ هو مدبّر أُمورهم ووالي جماعتهم ، ألا ترون أنّ موقف صاحب اللواء
موقف شريف؟ وأنّ صلاح الحرب في وقوفه ، وأنّ فضيلته في ترك التقدّم في أكثر حالاته
، فللرئيس حالات :
الأولى : حالة
يتخلّف ويقف آخراً ليكون سنداً وقوّة وردأً وعُدّة ، وليتولّى تدبير الحرب ويعرف
مواضع الخلل.
والحالة الثانية :
يتقدّم فيها في وسط الصفّ ليقوى الضعيف ويُشجّع الناكس.
وحالة ثالثة : وهي
إذا اصطدم الفيلقان ، وتكافح السيفان ، اعتمد ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث
يستصلح ، أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنّها آخر المنازل ، وفيها تظهر شجاعة الشجاع
النجد وفسالة الجبان المموّه.
فأين مقام الرئاسة
العظمى لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وأين منزلة أبي بكر ليسوّي بين المنزلتين ، ويناسب بين
الحالتين؟
__________________
ولو كان أبو بكر
شريكاً لرسول الله في الرسالة وممنوحاً من الله بفضيلة النبوّة ، وكانت قريش
والعرب تطلبه كما تطلب محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم لكان للجاحظ أن يقول ذلك ، فأمّا وحاله حاله ، وهو أضعف
المسلمين جناناً ، وأقلّهم عند العرب ترةً ، لم يَرمِ قَطّ بسهمٍ ، ولا سلّ سيفاً ، ولا أراق دماً ،
وهو أحد الأتباع ، غير مشهور ولا معروف ، ولا طالب ولا مطلوب ، فكيف يجوز أن يجعل
مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أُحد
فرآه أبو بكر ، فقام مغيظاً عليه ، فسلّ من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا أبا بكر شِم سيفك وأمتعنا بنفسك». ولم يقل له : «وامتعنا
بنفسك» ، إلاّ لعلمه بأنّه ليس أهلاً للحرب وملاقاة الرجال وأنّه لو بارز لقُتل.
وكيف يقول الجاحظ
: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك؟ وهل قامت عمد الإسلام
إلاّ على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقرّ إلاّ بذلك؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى (إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) ؟ والمحبَّة من الله تعالى هي إرادة الثواب ، فكلّ من كان
أشد ثبوتاً في هذا الصفّ وأعظم قتالاً ، كان أحبّ إلى الله ، ومعنى الأفضل هو
الأكثر ثواباً ، فعليّ عليهالسلام إذ هو أحبّ المسلمين إلى الله لأنّه أثبتهم قدماً في الصفّ
المرصوص ، لم يفرّ قطّ بإجماع الأمّة ، ولا بارزه قرن إلاّ قتله ، أوَتراه لم يسمع
قول الله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى
الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ؟ وقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ؟
__________________
ثمّ قال سبحانه
مؤكّداً لهذا البيع والشراء : (وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ
وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، وقال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) ، فمواقف الناس في الجهاد على أحوال ، وبعضهم في ذلك أفضل
من بعض ، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنّة ، كان أثقل على أكتاف
الأعداء لشدّة نكايته فيهم ، ممّن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم ، وكذلك من وقف
في المعركة ، وأعان ولم يقدم ؛ إلاّ أنّه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناءً ،
وأفضل ممّن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضعيف والجبان يستحقّان الرئاسة بقلّة
بسط الكفّ وترك الحرب ، وأنّ ذلك يشاكل فعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكان أوفر الناس حظّا في الرئاسة وأشدّهم لها استحقاقاً
حسّان بن ثابت. وإن بطل فضل عليّ في الجهاد ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أقلّهم قتالاً ـ كما زعم الجاحظ ـ ليبطلنّ على هذا
القياس فضل أبي بكر في الإنفاق ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أقلّهم مالاً ، وأنت إذا تأمّلت أمر العرب وقريش ،
ونظرت السير ، وقرأت الأخبار ، عرفت أنها تطلب محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقصد قصده ، وتروم قتله ، فإن أعجزها وفاتها طلبت عليّا
وأرادت قتله ، لأنّه كان أشبههم بالرسول حالاً ، وأقربهم منه قرباً ، وأشدّهم عنه
دفعاً ، وأنّهم متى قصدوا عليّا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكسروا شوكته ، إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوّة
والشجاعة والنجدة والإقدام والبسالة. ألا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر وقد
خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفراً من الأنصار ،
فاستنسبوهم فانتسبوا لهم ، فقالوا : ارجعوا إلى قومكم ، ثمّ نادوا : يا محمد أخرج
إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهله الأدنين : «قوموا يا بني هاشم فانصروا حقّكم الذي
آتاكم الله على
__________________
باطل هؤلاء ، قم
يا عليّ قم يا حمزة قم يا عبيدة» ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أُحد
لأنّه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها
ما كان لِي عن
عُتبةٍ من صبر
|
|
أبي وعمّي وشقيق
صدري
|
أخي الذي كان
كضوءِ البدرِ
|
|
بهم كَسرتَ يا
عليُّ ظهري
|
وذلك لأنّه قتل
أخاها الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل أبيها عتبة ، وأمّا عمّها شيبة فإنّ حمزة
تفرّد بقتله.
وقال جبير بن مطعم
لوحشي مولاه يوم أُحد : إن قتلت محمداً فأنت حرّ ، وإن قتلت عليّا فأنت حرّ ، وإن
قتلت حمزة فأنت حرّ. فقال : أمّا محمد فسيمنعه أصحابه ، وأمّا عليّ فرجل حذِر كثير
الالتفات في الحرب ، ولكنّي سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
ولِما قلنا من
مقاربة حال عليّ في هذا الباب لحال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومناسبتها إيّاه ما وجدناه في السير والأخبار ، من إشفاق
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحذره عليه ، ودعائه له بالحفظ والسلامة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الخندق ، وقد برز عليّ إلى عمرو ، ورفع يديه إلى
السماء بمحضر من أصحابه : «اللهمّ إنّك أخذت منّي حمزة يوم أُحد ، وعبيدة يوم بدر
، فاحفظ اليوم عَليَّ عليّا ، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين». ولذلك ضنّ
به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً ، في كلّها يُحجمون ويقدم
عليّ ، فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّه عمرو!» فقال : «وأنا عليّ». فأدناه وقبّله وعمّمه
بعمامته وخرج معه خطوات كالمودّع له ، القلق لحاله ، المنتظر لما يكون منه. ثمّ لم
يزل صلىاللهعليهوآلهوسلم رافعاً يديه إلى السماء
__________________
مستقبلاً لها
بوجهه والمسلمون صموت حوله كأنّما على رءوسهم الطبر ، حتى ثارت الغبرة ، وسمعوا
التكبير من تحتها فعلموا أنّ عليّا قتل عمراً. فكبّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكبّر المسلمون تكبيرة سمعها مَنْ وراء الخندق من عساكر
المشركين. ولذلك قال حذيفة بن اليمان : لو قُسمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق
بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَكَفَى
اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ؛ قال : بعليّ بن أبي طالب. انتهى.
الغريق يتشبّث
بكلّ حشيش :
أعيت القوم شجاعة
الخليفة ، وأضلّتهم عن المذاهب ، وجعلتهم في الرُّونة ، وأركبتهم على الزحلوقة تسفّ بهم تارةً وتُعلّيهم أُخرى ،
فلم يجدوا مهيعاً يوصلهم إلى ما يرومون من إثباتها له مهما وجدوا غضون التاريخ
خاليةً عن كلّ عين وأثر يسعهم الركون إليه في الحجاج لها ، فتشبّثوا بالتفلسف فيها
، فهذا يبني فلسفة العريش ، والآخر ينسج نسج العناكيب ويعدّ ثباته في موت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم تضعضعه في تلك الهائلة دليلاً على كمال شجاعته. قال
القرطبي في تفسيره (٤ / ٢٢٢) في سورة
آل عمران : ١٤٤ عند قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) : هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصدّيق وجرأته ، فإنّ
الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فظهرت عنده شجاعته وعلمه. وقال الناس : لم يمت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى عليّ ، واضطرب الأمر
فكشفه الصدّيق بهذه الآية حين
__________________
قدومه من مسكنه
بالسُّنح .
وهذا الاستدلال
أقرّه الحلبي في سيرته (٣ / ٣٥) وقال :
لمّا توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طاشت العقول ؛ فمنهم من خبَل ، ومنهم من أقعد ولم يطق
القيام ، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام ، ومنهم من أضنى ، وكان عمر رضى الله عنه
ممّن خبل ، وكان عثمان رضى الله عنه ممّن أخرس ، فكان لا يستطيع أن يتكلّم ، وكان
عليّ رضى الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرّك ، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات
كمداً ، وكان أثبتهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. إلى أن قال : قال القرطبي :
وهذا أدلّ دليل على كمال شجاعة الصدّيق. إلى آخره.
قال
الأميني : يوهم القرطبي أنّ
في كتاب الله العزيز ما يدلّ على شجاعة الخليفة وعلمه ، وليس فيما جاء به أكثر من
أنّه استدلّ بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأيّ صلة لها بشجاعة الرجل؟! وأيّ قسم فيها من أنحاء
الدلالة الثلاثة فضلاً عن أن تكون أدلّ دليل؟ فإن يكن هناك شيء من الدلالة ـ وأين
وأنّى ـ فهو في ثبات جأشه وتمسّكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.
ثمّ كيف خفي على
الرجل وعلى من تبعه الفرق بين ملكتي الشجاعة والقسوة؟ وأنّ هذا النسج الذي أوهن من
بيت العنكبوت إنّما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك ، فخبّلوا عمر بن الخطّاب ـ
وحاشاه الخبل ـ تصحيحاً لإنكاره موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنّه كان من ذلك لقلق كما مرّ في (ص ١٨٤) ، وأقعدوا عليّا
لإيهام العذر في تخلّفه عن البيعة ، وأخرسوا عثمان لأنّه لم ينبس في ذلك الموقف
ببنت شفة.
على أنّ ما جاء به
القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً ، إذ لم يُرو عن أبي بكر في رزيّة النبيّ الأعظم
أكثر من أنّه كشف عن وجه النبيّ وقبّله وهو يبكي وقال : طبت حيّا وميتاً وقد فعل صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر وأكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون ؛ فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم انكبّ عليه ثلاث مرّات مرّةً بعد أُخرى وقبّله باكياً عليه
وعيناه تذرفان والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيق ، وشتّان بين عثمان بن مظعون وبين سيّد البشر روح الخليقة
وعلّة العوالم كلّها ، وشتّان بين المصيبتين.
كما يستدعي مقياس
الرجل كون عمر بن الخطّاب أشجع من النبيّ الأقدس لحزنه العظيم في موت زينب وبكائه
عليها ، وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط ، كما مرّ في الجزء
السادس (ص ١٥٩) ، فضلاً عن عدم تأثّره بتلك الرزيّة.
وعلى هذا الميزان
يغدو عثمان بن عفّان أشجع من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لوجده صلىاللهعليهوآلهوسلم لموت إحدى بنتيه : رقية أو أمّ كلثوم زوجة عثمان ، وبكائه
عليها ، وعثمان غير متأثر به ولا بانقطاع صهره من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، غير مشغول بذلك عن مقارفة بعض نسائه في ليلة وفاتها كما
في صحيحة أنس .
__________________
وقبل هذه كلّها ما
ذكره أعلام القوم في موت أبي بكر من طريق ابن عمر من قوله : كان سبب موت أبي بكر
موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ ما زال جسمه يجري حتى مات. وقوله : كان سببَ موته كمد
لحقه على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما زال يذيبه حتى مات. وفي لفظ القرماني : ما زال جسمه
ينقص حتى مات.
راجع مستدرك الحاكم (٣ / ٦٣) ، أُسد الغابة (٣ / ٢٢٤) ، صفة
الصفوة (١ / ١٠٠) ، الرياض النضرة (١ / ١٨٠) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٣) ، حياة
الحيوان للدميري (١ / ٤٩) ، الصواعق (ص ٥٣) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٥٥) ،
أخبار الدول للقرماني هامش الكامل (١ / ١٩٨) ، نزهة المجالس للصفوري (٢ / ١٩٧) ،
مصباح الظلام للجرداني (٢ / ٢٥).
كأنّ هذا الحديث
عزب عن القرطبي والحلبي ، فأخذاً بهذا مشفوعاً بكلامهما المذكور في شجاعة أبي بكر
يكون هو شاكلة عبد الله بن أنيس في موته كمداً على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم ينبّئ قطّ خبير بموت أحدٍ من الصحابة غيرهما بموته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا دليل على ضعف قلبهما عند حلول المصائب ، فهما أجبن
الصحابة على الإطلاق إذا وزنا بميزان القرطبي وفيه عين.
ووراء هذه
المغالاة في شجاعة الخليفة وعدّه أشجع الصحابة ما عزاه القوم إلى ابن مسعود من
أنّه قال : أوّل من أظهر الإسلام بسيفه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبو بكر والزبير ابن العوام . وما يُعزى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من أنّه قال : لو لا أبو بكر الصدّيق لذهب الإسلام
__________________
قال
الأميني : لقد كانت على
الأبصار غشاوة عن رؤية هذا السيف الذي كان بيد الخليفة ، فلم يُؤثر أنّه تقلّده
يوماً ، أو سلّه في كريهة ، أوهابه إنسان في معمعة ، حتى يقرن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي كان منذ بعث سيفاً لله تعالى مجرّداً.
إنّ الرسولَ
لنورٌ يُستضاءُ به
|
|
مُهنّدٌ من
سيوفِ اللهِ مسلولُ
|
أو يقرن بمثل
الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزبون فشكرته ، وقد سجّل التاريخ مواقفه المشهودة
، وسجّل للخليفة يوم خيبر وأمثاله.
وأنا لا أدري بأيّ
خصلة في الخليفة نيط بقاء الإسلام ، أبشجاعته هذه؟ أم بعلمه الذي عرفت كميّته؟ أم
بما ذا؟ فظُنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.
ـ ٤ ـ
ثبات الخليفة على المبدأ
عن أبي سعيد
الخدري : أنّ أبا بكر جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله إنّي مررت بوادي كذا وكذا ، فاذا رجل
متخشّع حسن الهيئة يصلّي ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذهب إليه فاقتله» ، قال : فذهب اليه أبو بكر ، فلمّا
رآه على تلك الحالة كره أن يقتله فجاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعمر : «اذهب إليه فاقتله» : قال فذهب عمر فرآه على تلك
الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع ، فقال : يا رسول الله إنّي رأيته
متخشّعاً فكرهت أن أقتله ، قال : «يا عليّ اذهب فاقتله». فذهب علي فلم يره فرجع ،
فقال : «يا رسول الله إنّي لم أره». فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون
من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثمّ لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فُوقه
فاقتلوهم هم شرّ البريّة» .
__________________
وعن أنس بن مالك
قال : كان في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده ، وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم باسمه فلم يعرفه ، فوصفناه بصفته فلم يعرفه ، فبينا نحن
نذكره إذ طلع الرجل قلنا : هو هذا. قال : «إنّكم لتخبروني عن رجل إنّ في وجهه
لسفعة من الشيطان» فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلّم. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أنشدك الله هل
قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل منّي أو خير منّي؟» قال : اللهمّ
نعم. ثمّ دخل يصلّي فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من يقتل الرجل؟» فقال أبو بكر : أنا ، فدخل عليه فوجده
قائماً يصلّي ، فقال : سبحان الله أقتل رجلاً يصلّي؟ وقد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قتل المصلّين ، فخرج. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما فعلت؟» قال : كرهت أن أقتله وهو يصلّي وأنت قد نهيت
عن قتل المصلّين. قال : «من يقتل الرجل؟» قال عمر : أنا. فدخل فوجده واضعاً جبهته.
فقال عمر : أبو بكر أفضل منّي ، فخرج فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «مَه؟» قال :
وجدته واضعاً وجهه لله فكرهت أن أقتله. فقال : «من يقتل الرجل؟» فقال عليّ : أنا.
فقال : «أنت إن أدركته». فدخل عليه فوجده قد خرج. فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : «مَه؟» قال : وجدته قد خرج. قال : «لو قُتل ما
اختلف من أمّتي رجلان كان أوّلهم وآخرهم» .
صاحب القصّة هو ذو
الثُّديّة رأس الفتنة يوم النهروان قتله أمير المؤمنين الإمام عليّ يوم ذاك كما في
صحيح مسلم وسنن أبي داود ، قال الثعالبي في ثمار القلوب
__________________
(ص ٢٣٢): ذو
الثُديّة شيخ الخوارج وكبيرهم الذي علّمهم الضلال ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بقتله وهو في الصلاة ، فكعّ عنه أبو بكر وعمر ، فلمّا
قصده عليّ رضى الله عنه لم يره ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أما إنّك لو قتلته لكان أوّل فتنة وآخرها» ، ولمّا كان
يوم النهروان وُجد بين القتلى ، فقال عليّ رضى الله عنه : ائتوني بيده المخدجة ،
فأُتي بها فأمر بنصبها.
قال
الأميني : هلمّ معي نسائل
الرجلين ممّن أخذا أنّ الصلاة تحقن دم صاحبها؟ هل أخذاها عن شريعةٍ غابَ الصادع
بها ، فارتبكا بين قوليه؟ أليست هي الشريعة المحمديّة وصاحبها هو الذي أمر بقتل
الرجل؟ وهو ينظر إليه من كَثب ، ويعلم أنّه يصلّي ، وقد أخبرته الصحابة وفيهم
الرجلان بخضوعه وخشوعه في صلاته ، وإعجابهم بتعبّده واجتهاده ، وفي المخبرين أبو
بكر نفسه ، غير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عرف بواسع علمه النبويّ أنّ كلّ ذلك عن دهاء وتصنّع يريد
به إغراء الدهماء للحصول على أُمنيّته الفاسدة التي لم يتمكّن منها إلاّ على عهد
الخوارج فأراد صلىاللهعليهوآلهوسلم قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله ، ولقد أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم تعريف الناس بالرجل وإيقافهم على ما انطوت عليه أضالعه
فاستحفاه عمّا دار في خَلَده حين وقف على القوم وفيهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأراد أن يعلموا أنّه يجد نفسه خيراً أو أفضل منهم ومنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أيّ كافر هذا يجب
قتله لا سيّما بعد قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ في وجهه لسفعة من الشيطان»؟ وأيّ شقيّ هذا يقف على
المنتدى وقد ضمّ صدره نبيّ العظمة ولم يسلّم؟ وأيّ صفيق يُعرب عن سوء ما هجس في
ضميره بكلّ صراحة ، غير محتشم عن موقفه ، ولا مكترث لمقاله؟.
نعم ؛ لذلك كلّه
أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتله وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، لكنّ
الشيخين رأفا به حين وجداه يصلّي تثبّتاً على المبدأ ، وتحفّظاً على كرامة الصلاة
ومن أتى بها ، وزاد عمر : إنّ أبا بكر خير منّي ولم يقتله. أو لم يكن النبيّ الآمر
بقتله خيراً منهما؟ أو لم يكن هو مشرّع الصلاة والآتي بحرمتها؟ أو لم يكن مصدّقاً
لدى الصدّيق
وصاحبه في قوله حول الرجل وإعرابه عن نواياه؟
كان خيراً للشيخين
أن يتركا هذا التعلّل الواضح فساده ويتعلّلا بما في لفظ أبي نعيم في الحلية من
أنّهما هابا أن يقتلاه ، وبما أسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من أنّهما كعّا عن
الرجل. أي جبنا وضعفا وتهيّبا الرجل ، وإن كان مصلّياً غير شاك السلاح ، فلعلّه
يكون معذّراً لهما عن ترك الامتثال ، فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، لكنّهما
يوم عرفا نفسهما كذلك والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لما ذا أقدما على
قتل الرجل ، ففوّتا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طلبته وعلى الأمّة السلام والأمن ولو بعد لأي من عمر الدهر
عند ثورات الخوارج؟ وأبو بكر هذا هو الذي يحسبه ابن حزم والمحبّ الطبري والقرطبي
والسيوطي أشجع الناس كما مرّ (ص ٢٠١) وقد يهابه ظلّ الرجال في مصلاّهم!
وللرجل ـ ذي
الثُديّة ـ سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم غنيمة هوازن ، قال ذو الثديّة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لم أرك عدلت! أو : لم تعدل هذه قسمة ما أُريد بها وجه
الله! فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : «ويحك إذا لم يكن العدل ، عندي فعند من يكون؟» فقال
عمر : يا رسول الله ألا أقتله؟ قال : «لا ، سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من
الدين كما يخرج السهم من الرميّة لا يجاوز إيمانهم تراقيهم». تاريخ أبي الفداء (١
/ ١٤٨) ، الإمتاع للمقريزي (ص ٤٢٥).
ـ ٥ ـ
تهالك الخليفة في العبادة
لم يؤثر عن
الخليفة دأب على العبادة على العهد النبويّ أو بعده غير أشياء لا تُنجع من أثبتها
له إلاّ بعد تمحّل متطاول ، أو تفلسف في القول لو أجْدَت الفلسفة على لا شيء.
روى المحبّ الطبري
في الرياض النضرة (١ / ١٣٣) : أنّ
عمر بن الخطّاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته ، فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته
ما كانت ، فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ، ثمّ قالت : إلاّ إنّه كان
في كلّ ليلة جمعة يتوضّأ ويصلّي [ العشاء ] ثمّ يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه ، فإذا كان وقت
السحر رفع رأسه وتنفّس الصعداء ، فيشمّ في البيت روائح كبدٍ مشويٍ. فبكى عمر وقال
: أنّى لابن الخطّاب بكبدٍ مشويّ.
وفي مرآة الجنان (١
/ ٦٨) : جاء أنّ أبا بكر كان إذا تنفّس يشمّ منه رائحة الكبد المشويّة.
وفي عمدة التحقيق
للعبيدي المالكي (ص ١٣٥) : لمّا
مات أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه واستخلف عمر رضى الله عنه كان يتبع آثار الصدّيق
رضى الله عنه ، ويتشبّه بفعله ، فكان يتردّد كلّ قليل إلى عائشة وأسماء رضي الله
تعالى عنهما ويقول لهما : ما كان يفعل الصدّيق إذا خلا بيته ، ليلاً؟ فيقال له :
ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام ، إنّما كان إذا جنّه الليل يقوم عند السحر
ويقعد القرفصاء ، ويضع رأسه على ركبتيه ثمّ يرفعها إلى السماء ويتنفّس الصعداء
ويقول : أخ ، فيطلع الدخان من فيه ، فيبكي عمر ويقول : كلّ شيء يقدر عليه عمر إلا
الدخان. فقال :
وأصل ذلك أن شدّة
خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه ، فكان جليسه يشمّ منه رائحة الكبد المشوي ،
وسببه أنّ الصدّيق لم يتحمل أسرار النبوّة الملقاة إليه ، وفي الحديث : «أنا
أعلمكم بالله وأخوفكم منه» ، فالمعرفة التامّة تكشف عن جلال المعروف وجماله ،
وكلاهما أمر عظيم جدّا ، تتقطّع دونه الغايات ، ولولا أنّ الله تعالى
__________________
ثبّت من أراد
ثباته وقوّاه على ذلك ، ما استطاع أحد الوقوف ذرّة على كليهما جلالاً وجمالاً ،
والغاية في الطرفين قد نالها الصدّيق رضى الله عنه ، فقد ورد : ما صُبّ في صدري
شيء إلاّ صببته في صدر أبي بكر. ولو صبّه جبريل عليهالسلام في صدر أبي بكر ما أطاقه ، لعدم مجراه من المماثل ، لكن
لما صبّ في صدر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو من جنس البشريّة ، فجرى في قناة مماثلة للصدّيق ،
فبواسطتها أطاق حمله ، ومع ذلك احترق قلبه.
وروى الترمذي
الحكيم في نوادر الأصول (ص ٣١ و ٢٦١) ، عن
بكر بن عبد الله المزني قال : لم يفضل أبو بكر رضى الله عنه الناس بكثرة صوم ولا
صلاة ، إنّما فضلهم بشيء كان في قلبه. وذكر أبو محمد الأزدي في شرح مختصر صحيح
البخاري (٢ / ٤١ ، ١٠٥ و ٣ / ٩٨ و ٤ / ٦٣) ، والشعراني في اليواقيت والجواهر (٢ / ٢٢١) ،
واليافعي في مرآة الجنان (١ / ٦٨) ، والصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٨٣) : أنّ في الحديث
: ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره.
قال
الأميني : لو صحّ حديث
الكبد المشوي لوجب اطّراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيّد المرسلين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيّين أخوفهم ،
ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشدّ وأنشر ، فإنّ الخوف فرع الهيبة المسبّبة عن إحاطة
العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة ، وينبئنا عن ذلك قوله تعالى : (إِنَّما
يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال ابن عبّاس : يريد إنّما يخافني من خلفي من علم جبروتي
وعزّتي وسلطاني. وقيل : عظّموه وقدّروا قدره ، واخشوه حقّ خشيته ، ومن ازداد به
علماً ازداد به خشية. تفسير الخازن (٣ / ٥٢٥).
__________________
وفي الحديث : «أعلمكم
بالله أشدّكم له خشية». تفسير ابن جزي (٣ / ١٥٨).
وفي خطبة له صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فو الله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية» .
وفي خطبة أخرى له صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» .
وقال مولانا أمير
المؤمنين : «أعلمكم أخوفكم». غرر الحكم للآمدي (ص ٦٢).
وقال مقاتل : أشدّ
الناس خشية لله أعلمهم. تفسير الخازن (٣ / ٥٢٥).
وقال الشعبي
ومجاهد : إنّما العالم من خشي الله .
وقال الربيع بن
أنس : من لم يخش الله تعالى فليس بعالم .
ومن هنا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي أعلمكم بالله وأخشاكم لله» ولذلك تجد أنّ
أزلف الناس إلى السلطان يتهيّبه أكثر ممّن دونه في الزلفة. فترى الوزير يكبره
ويخافه أبلغ ممّن هو أدنى منه ، والأمر على هذه النسبة في رجال الوظائف ، حتى
تنتهي إلى أبسطها كالشرطي مثلاً ، ثمّ إلى سائر أفراد الرعية.
وهلمّ معي إلى
الأولياء والمقرّبين والمتهالكين في الخشية من الله والمتفانين في
__________________
العبادة وفي
مقدّمهم سيّدهم مولانا أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام الذي كان في حلك الظلام يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء
الحزين ، ويتأوّه ويتفوّه بما ينمّ عن غاية الخوف والخشية ، وهو قسيم الجنة والنار
بنصّ من الرسول الأمين كما مرّ في الجزء الثالث (ص ٢٩٩) ، وكان يُغشى عليه عدّة
غشوات في كلّ ليلة ، ولم يشم أحد منه ولا منهم رائحة الكبد المشوي.
ولو اطّرد ما
يزعمونه لوجب تكيّف الفضاء من لدن آدم إلى عهد الخليفة بتلك الرائحة المنتشرة من
تلكم الأكباد المشويّة ، ولاسودّ وجه الدنيا بذلك الدخان المتصاعد من الأكباد
المحترقة.
أيحسب راوي هذه
المهزأة أنّ على كبد المختشي ناراً موقدة يعلوها ضرم ، ويتولّد منها دخان؟ فلِمَ
لم تُحرق ما في الحشا كلّه ويكون إنضاجها مقصوراً على الكبد فحسب؟ وهل للكبد حال
المعذّبين الذي كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلوداً أخرى؟ وإلاّ فالعادة قاضية بفناء
الكبد بذلك الحريق المتواصل.
وإن تعجب فعجب
بقاء الإنسان بعد فناء كبده ، ولعلّك إذا أحفيت الراوي السؤال عن هذه لأجابك
بأنّها كلّها معاجز تخصّ بالخليفة.
وأحسب أنّ صاحب
المزاعم من المتطفّلين على موائد العربيّة ؛ فإنّ العربيّ الصميم جدّ عليم بكثير
الكناية والاستعارة في لغة الضاد ، فإذا قالوا : إنّ نار الخوف أحرقت فلاناً لا
يريدون لهباً متّقداً يصعد منه الدخان أو تشمّ منه رائحة شيّ الأكباد ، وإنّما
يعنون لهفةً شديدة ، وحرقةً معنويّة تشبّه بالنيران.
وأمّا ما سرده
العبيدي من فلسفة ذلك الحريق في كبد الخليفة فإنّها من الدعاوي الفارغة وفيها
الغلوّ الفاحش ، وإن شئت قلت : إنّما هي أوهام لم تقم لها حجّة ، وليس من السهل أن
يدعمها ببرهنة يمسكها عن التزحزح ، فهي كالريشة في
مهبّ الريح تجاه
حجاج المجادل ، وو جاه سيرة الخليفة نفسه ، وما عزاه إلى الرواية من حديث خرافة :
ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر. فهو على تنصيص العلماء على
وضعها كما مرّ في (٥ / ٣١٦) لا يلزم به الخصم ، ولا يثبت به المدّعى ، وفيه من سرف
القول ما لا يخفى على العارف بالرجال وتاريخهم.
ـ ٦ ـ
تبرّز الخليفة في الأخلاق
لم نقف من
أخلاقيّات الخليفة على شيء يرفع الإنسان من هذه الناحية عدا ما في صحيح البخاري في
كتاب التفسير من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال : قدم ركب من بني
تميم على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمّر
الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي ، فقال عمر : ما أردت
خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
وأخرج البخاري من
طريق ابن أبي مليكة أيضاً ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا
أصواتهما عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس
أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع : لا أحفظ اسمه. فقال أبو بكر لعمر
: ما أردت إلاّ خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل
الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
__________________
أَعْمالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) .
قال
الأميني : ألا تعجب من
الرجلين أنّهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظّم صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يحدُهما التأثّر بأخلاقه الكريمة إلى الحصول على أدب
محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لا سيّما هذا العظيم ، العظيم خلقه بنصّ الذكر
الحكيم ، وما عرفا أنّ الكلام بين يديه لا بدّ أن يكون تخافتاً وهمساً إكباراً
لمقامه وإعظاماً لمرتبته. وأن لا يتقدّم أحد إليه بالكلام إلاّ أن يكون جواباً عن
سؤال ، أو ما ينمّ عن امتثال أمر ، أو إخباراً عن مهمّة ، أو سؤالاً عن حكم
لكنّهما تقدّما بالكلام الخارج عن ذلك كلّه ، وتماريا واحتدم الحوار بينهما ،
وارتفعت أصواتهما في ذلك ، وكاد الخيّران أن يهلكا حتى جعلا أعمالهما في مظنّة
الإحباط ، فنزلت الآية الكريمة.
وما أخرجه ابن
عساكر عن المقدام أنّه قال : استبّ عقيل بن أبي طالب وأبو بكر وكان أبو بكر
سبّاباً. وكأنّ ابن حجر استشعر من هذه الكلمة ما لا يروقه فقال : سبّاباً أو
نسّاباً ، لكن الرجل أنصف في الترديد وقد جاء بعده السيوطي فحذف كلمة : سبّاباً
وجعلها نسّاباً بلا ترديد ، والمنقّب يعلم أنّ لفظة (نسّاباً) لا صلة لها بقوله
استبّا بل المناسب كونه سبّاباً ، وكأن الراوي يريد بذلك أنّه فاق عقيلاً بالسبّ
لأنّه كان مَلَكة له ، وإن كان يسع المحوّر أن يقول بإرادة كونه نسّاباً أنّه كان
عارفاً بحلقات الأنساب ومواقع الغمز فيها ، فكان إذا استبّ يطعن مستابّه في عرضه
ونسبه ، لكنّه لا يجدي المتمحّل نفعاً فإنّه من أشنع مصاديق السبّ ، وفيه القذف
وإشاعة الفحشاء.
__________________
ويظهر من لفظ
الحديث كما في الخصائص الكبرى (٢ / ٨٦) ؛ أنّ
السباب بين أبي بكر وعقيل كان بمحضر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان ذلك في أخريات أيّامه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن شواهد كونه
سبّاباً ـ وسباب المسلم فسوق ـ ما مرّ في صفحة (١٥٣) من قوله للسائل عن القدر : يا ابن
اللخناء. وقوله لعمر : ثكلتك أمّك وعدمتك يا ابن الخطّاب ، لمّا بلّغه طلب الأنصار
أن يولّي عليهم رجلاً أقدم سنّا من أسامة ، فأخذ بلحيته فقال : استعمله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتأمرني أن أنزعه .
على أنّه وهم في
قوله هذا من ناحيتين :
إحداهما : أنّ الذي
يجب أن لا يعزل من منصوبي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الخليفة فحسب لا يتسرّب إليه الرأي والمقاييس ، كما لا
يتطرّقان إلى الأحكام والسنن المشرّعة ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم نصبه يوم نصب بأمر من المولى سبحانه رئيساً عالميّا مدى
أمد حياته ، كما أنّه شرّعها أحكاماً عالميّة مدى أمد الدهر. بخلاف أُمراء الجنود
والولاة والعمّال فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يولّيهم الأمر لمصالح وقتيّة بعد الفراغ من تأهّلهم
للإمارة والولاية والعمل ، وإذا انقضى ظرف المصلحة أو تبدّلت بأخرى أو سلب التأهّل
من أحدهم كان يزحزحه من عمل إلى عمل ، أو يسقطه عن الوظيفة نهائيّا ، أو إلى أمد
تعود بعده إليه جدارته ، وكذلك شأن الخليفة من بعده فإنّه قائم مقامه صلىاللهعليهوآلهوسلم وله
__________________
النصب والنزع ،
والخفض والرفع ، ولذلك أمّر أبو بكر نفسه خالد بن سعيد على مشارق الشام في الردّة
، وكان قد استعمله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما بين زمع وزبيد إلى حدّ نجران أو على صدقات مذحج
ومات صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو على عمله.
واستعمل أبو بكر
نفسه أيضاً يعلى بن أُميّة على حلوان ، ثمّ عمل لعمر على بعض اليمن ، ثمّ استعمله
عثمان على صنعاء ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد استعمله على الجند وتوفّي وهو على عمله.
واستعمل أبو بكر
عكرمة على عمان ثمّ عزله واستعمل عليها حذيفة بن محصن وكان قد استعمل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عمرو بن العاص على عمان فمات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو أميرها ، واستعمل عكرمة على صدقات هوازن عام وفاته.
واستعمل عمر عثمان
بن أبي العاص على عمان والبحرين سنة (١٥) ، وكان قد استعمله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على الطائف وأقرّه أبو بكر بعد وفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واستعمل عمر عبد
الله بن قيس أبا موسى الأشعري على البصرة ، ثمّ عزله عثمان وأقرّه على الكوفة ،
ثمّ عزله عليّ عليهالسلام عنها ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولاّه مخاليف اليمن.
وقال أبو الفدا في
تاريخه (١ / ١٦٦) : أقرّ عثمان ولاة عمر سنةً ؛ لأنّه كان أوصى بذلك ثمّ عزل
المغيرة بن شعبة عن الكوفة ، وولاّها سعد بن أبي وقاص ثمّ عزله ، وولّى الكوفة
الوليد بن عقبة وكان أخا عثمان من أُمّه.
راجع : تاريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، والاستيعاب ،
وأُسد الغابة ، وتاريخ أبي الفداء ، وتاريخ ابن كثير ، والإصابة ، وغيرها من كتب
التاريخ ومعاجم التراجم.
__________________
وكم وكم لهؤلاء
الولاة المذكورين من نظير ، فليس أُسامة ببدع من هؤلاء ، وإنّما هو كأحدهم ، له
مالهم وعليه ما عليهم.
فاقتصار الخليفة
في الحِجاج بنصب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أسامة في غير محلّه ، إلاّ أن يقيّده بأنّ ما ارتآه صلىاللهعليهوآلهوسلم من المصلحة يوم ذلك باقية بعد من غير حاجة إلى أيّ من
القول والفعل اللذين ارتكبهما.
الناحية
الثانية : أنّ طلبة الأنصار
هذه متّخذه عن عمل الخليفة نفسه وصاحبيه ، حيث قدّماه يوم السقيفة بكبر سنّه
وشيبته كما مرّ في صفحة (٩١ ، ٩٢) فلا غضاضة على الأنصار إذن أن يتحرّوا للإمارة
عليهم من هو أقدم سنّا من أُسامة تأسّيا بالخلافة.
وإذا كان تولية
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أُسامة للقيادة مانعة عن نزعه فما بال منصوبه صلىاللهعليهوآلهوسلم للخلافة يوم غدير خمّ بمشهد من مائة ألف أو يزيدون ، وفي
مواقف أُخرى متكثّرة يعزل عن الأمر؟ ولا منكر يصاخ إليه ، ولا وازع يسمع منه ، هب
أنّ قيساً أخذ بلحية عمر يوم ذاك كما أخذ بها أبو بكر يوم أُسامة ، واحتجّ آخرون
لأمير المؤمنين عليهالسلام واحتدم الحوار ، لكن : لا رأي لمن لا يطاع.
نعم ، أخرج ابن
حبّان في خلق الخليفة من طريق إسماعيل بن محمد الكذّاب الوضّاع مرفوعاً عن جبرئيل
أنّه قال : أبو بكر لفي السماء أشهر منه في الأرض ، فإنّ الملائكة لتسمّيه حليم
قريش. انتهى. وقد أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٣٤٤) وبينّا هناك بأنه كذب موضوع.
ولو كان الخليفة
حليم قريش أو كان يرث النبيّ الأعظم شيئاً في خلقه العظيم ؛ لما توفّيت بضعته
الطاهرة سلام الله عليها وهي واجدة علية من جرّاء ما تلقّت منه من
__________________
غلظةٍ وعنف في
كشفِ بيتها الذي تمنّى تركه عند وفاتهِ ولم يكن يأمر بقتال من فيه ، الى هناتٍ وهنات.
أخرج البخاري في
باب فرض الخمس (٥ / ٥) ، عن
عائشة : أنّ فاطمة عليهاالسلام ابنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سألت أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقسم لها ميراثها ، ما ترك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا نُورَث ، ما تركنا صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرتهُ حتى توفّيت.
وأخرج في الغزوات
باب غزوة خيبر (٦ / ١٩٦) ، عن
عائشة قالت : إنّ فاطمة ... إلى أن قالت : فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها
شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت ، وعاشت
بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلاً ، ولم
يؤذِن بها أبا بكر ، وصلّى عليها.
ويوجد الحديث في صحيح مسلم (٢ / ٧٢) ، مسند أحمد (١ / ٦ ، ٩) ، تاريخ
الطبري (٣ / ٢٠٢) ، مشكل الآثار للطحاوي (١ / ٤٨) ، سنن البيهقي (٦ / ٣٠٠ ، ٣٠١) ،
كفاية الطالب (ص ٢٢٦) ، تاريخ ابن كثير (٥ / ٢٨٥). وقال في (٦ / ٣٣٣) : لم تزل
فاطمة تبغضه مدّة حياتها ، وذكره بلفظ الصحيحين الدياربكري في تاريخ الخميس (٢ /
١٩٣).
ولأيّ الأُمورِ
تُدفنُ ليلاً
|
|
بَضعةُ المصطفى
ويُعفى ثراها
|
__________________
بلغت من موجدتها
أنّها أوصت بأن تُدفَن ليلاً ، وأن لا يدخل عليها أحد ، ولا يصلّي عليها أبو بكر ،
فدفنت ليلاً ولم يشعر بها أبو بكر ، وصلّى عليها عليّ وهو الذي غسّلها مع أسماء
بنت عميس .
وقال الواقدي كما
في السيرة الحلبيّة (٣ / ٣٩٠) : ثبت
عندنا أنّ عليّا ـ كرّم الله وجهه دفنها ليلاً وصلّى عليها ومعه العبّاس والفضل ،
ولم يُعلموا بها أحداً.
وقال ابن حجر في
الإصابة (٤ / ٣٧٩) ، والزرقاني في شرح المواهب (٣ / ٢٠٧) : روى الواقدي من طريق
الشعبي قال : صلّى أبو بكر على فاطمة. وهذا فيه ضعف وانقطاع ، وقد روى بعض
المتروكين عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه نحوه ووهّاه الدارقطني وابن عدي ، وقد روى البخاري عن عائشة : أنّها لمّا توفّيت دفنها
زوجها عليّ ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلّى عليها.
قال
الأميني : حديث مالك عن
جعفر بن محمد أسلفناه في الجزء الخامس صحيفة (٣٥٠) ولفظه : توفّيت فاطمة ليلاً ،
فجاء أبو بكر وعمر وجماعة كثيرة ، فقال أبو بكر لعليّ : تقدّم فصلِّ. قال : لا
والله لا تقدّمت وأنت خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتقدّم أبو بكر
فصلّى أربعاً. وقد بيّنا هنالك أنّه من موضوعات عبد الله بن محمد القدامي المصّيصي
كما عدّه الذهبي في الميزان (٢ / ٧) من
مصائبه.
__________________
ومن جرّاء تلك
الموجدة منعت عن أن تدخلها يوم ذاك عائشة كريمة أبي بكر فضلاً عن أبيها ، فجاءت
تدخل فمنعتها أسماء فقالت : لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر وقالت : هذه الخثعميّة
تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فوقف أبو بكر على الباب وقال : يا أسماء ما حملك على أن
منعت أزواج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يدخلن على بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد صنعتِ لها هودج العروس؟ قالت : هي أمرتني أن لا يدخل
عليها أحد ، وأمرتني أن أصنع لها ذلك.
راجع : الاستيعاب (٢ / ٧٧٢) ، ذخائر العقبى (ص ٥٣) ، أُسد
الغابة (٥ / ٥٢٤) ، تاريخ الخميس (١ / ٣١٣) ، كنز العمّال (٧ / ١١٤) ، شرح صحيح
مسلم للسنوسي (٦ / ٢٨١) ، شرح الآبي لمسلم (٦ / ٢٨٢) ، أعلام النساء (٣ / ١٢٢١)
اعتذار الخليفة
إلى الصدّيقة :
هذه المذكورات
كلّها وبعض سواها تكذّب ما اختلقته رماة القول على عواهنه من رواية الشعبي أنّه
قال : جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتدّ مرضها فاستأذن عليها فقال لها عليّ : هذا
أبو بكر على الباب يستأذن فإن شئت أن تأذني له؟ قالت : أوَذاك أحبّ إليك؟ قال :
نعم. فدخل فاعتذر إليها وكلّمها فرضيت عنه.
وعن الأوزاعي قال
: بلغني أنّ فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم غضبت على أبي بكر فخرج أبو بكر حتى قال على بابها في يوم
حارّ ، ثمّ قال : لا أبرح مكاني حتى ترضى عنّي بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدخل عليها عليّ فأقسم عليها لترضى ، فرضيت .
__________________
ما قيمة هذه الرواية
تجاه تلكم الصحاح؟ ولا يوجد لها أثر في أيّ أصل من أصول الحديث ومسانيد الحفّاظ ،
وقد بلغت إلى الأوزاعي المتوفّى (١٥٧) وأرسل بها الشعبي المتوفّى (١٠٤ ، ١٠٧ ، ١٠٩
، ١١٠) ولا يعرف من بلّغها ، ومن أتى بها ، ومن أوحاها إلى الرجلين.
نعم ؛ تساعد نصوص الصحاح
ما أتى به ابن قتيبة والجاحظ ؛ قال الأوّل : إنّ عمر قال لأبي بكر : انطلق بنا إلى
فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما
فأتيا عليّا فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط
، فسلّما عليها ، فلم تردّ عليهماالسلام ، فتكلّم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله والله إنّ
قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنّكِ لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت
يوم مات أبوكِ أنّي متّ ولا أبقى بعده ، أفتُراني أعرفكِ وأعرف فضلكِ وشرفكِ
وامنعكِ حقّكِ وميراثكِ من رسول الله؟ إلاّ أنّي سمعت أباك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : لا نُورَث ، ما تركنا فهو صدقة. فقالت : «أرأيتكما
إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تعرفانه وتفعلان به؟» فقالا : نعم : فقالت : «نشدتكما الله
ألم تسمعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ
فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟»
قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. قالت : «فإنّي أُشهدُ الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما
أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه». فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله
تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة. ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق ،
وهي تقول : «والله لأدعونّ عليك في كلّ صلاة أُصلّيها» ، ثمّ خرج باكياً فاجتمع
الناس إليه ، فقال لهم : يبيت كلّ رجل [ منكم ] معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا
__________________
فيه ، لا حاجة لي
في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي .
وقال الجاحظ في
رسائله (ص ٣٠٠): وقد زعم
أناس أنّ الدليل على صدق خبرهما ـ يعني أبا بكر وعمر ـ في منع الميراث وبراءة
ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النكير عليهما .. قد يقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلاً
على صدقهما ، إنّ ترك النكير على المتظلّمين والمحتجّين عليهما والمطالبين لهما
دليل على صدق دعواهم ، أو استحسان مقالتهم ، ولا سيّما وقد طالت المناجاة وكثرت
المراجعة والملاحاة ، وظهرت الشكيّة ، واشتدّت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة
أنّها أوصت أن لا يصلّي عليها أبو بكر. ولقد كانت قالت له حين أتته مطالبة بحقّها
ومحتجّة لرهطها : «من يرثك يا أبا بكر إذا متّ؟» قال : أهلي وولدي. قالت : «فما
بالنا لا نرث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟» فلمّا منعها ميراثها ، وبخسها حقّها واعتلّ عليها ، وجلح
أمرها ، وعاينت التهضّم ، وأيست في التورّع ، ووجدت نشوة الضعف وقلّة الناصر ،
قالت : «والله لأدعونّ الله عليك». قال : والله لأدعونّ الله لك. قالت : «والله لا
كلّمتك أبداً» قال : والله لا أهجركِ أبداً. فإن يكن ترك النكير على أبي بكر
دليلاً على صواب منعها ، فإنّ في ترك النكير على فاطمة دليلاً على صواب طلبها؟
وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن
الخطأ ، ورفع قدرها عن البذاء ، وأن تقول هجراً ، وتجوّر عادلاً ، أو تقطع واصلاً
، فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأُمور واستوت الأسباب ،
والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم.
فإن قالوا : كيف
تظنّ به ظلمها والتعدّي عليها ، وكلّما ازدادت عليه غلظة ازداد
__________________
لها ليناً ورقّةً؟
حيث تقول له : «والله لا أكلّمك أبداً» فيقول : والله لا أهجركِ أبداً. ثمّ تقول :
«والله لأدعونّ الله عليك». فيقول : والله لأدعُوَنّ الله لكِ. ثمّ يتحمّل منها
هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة
الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة ، ثمّ لم يمنعه ذلك عن
أن قال معتذراً متقرّباً كلام المعظّم لحقّها ، المكبّر لمقامها ، الصائن لوجهها ،
المتحنّن عليها : ما أحد أعزّ عليّ منك فقراً ، ولا أحبّ إليّ منكِ غنى ، ولكن
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نُورَث ما تركناه فهو صدقة.
قيل لهم : ليس ذلك
بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء
الماكر إذا كان أرباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم ، وذلّة المنتصف ،
وحدب الوامق ، ومقت المحقّ. وكيف جعلتم ترك النكير حجّة قاطعة ودلالةً واضحة؟ وقد
زعمتم أنّ عمر قال على منبره : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : متعة النساء ومتعة الحجّ ، أنا أنهى عنهما وأُعاقب
عليهما ، فما وجدتم أحداً أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا
خطّأه في معناه ، ولا تعجّب منه ولا استفهمه.
وكيف تقضون بترك
النكير؟ وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «الأئمّة من قريش» ثمّ قال في شكايته
: لو كان سالم حيّا ما تخالجني فيه الشكّ ، حين أظهر الشكّ في استحقاق كلّ واحد من الستّة الذين
__________________
جعلهم شورى وسالم
عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه ، ثمّ لم ينكر ذلك من قوله منكر ،
ولا قابل إنسان بيّن قوله ولا تعجّب منه ، وإنّما يكون ترك النكير على من لا رغبة
ولا رهبة عنده دليلاً على صدق قوله وصواب عمله ، فأمّا ترك النكير على من يملك
الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجّة تشفي
ولا دلالة تضيء. انتهت كلمة الجاحظ.
نظرة في كلمة
قارصة :
لا يسعنا أن نفوه
في الدفاع عن الخليفة بما قال ابن كثير في تاريخه (٥ / ٢٤٩) من أنّ
فاطمة حصل لها ـ وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة ـ عتب وتغضّب ، ولم تكلّم
الصدّيق حتى ماتت. وقال في (ص ٢٨٩) : وهي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون ،
وليست بواجبة العصمة ، مع وجود نصّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومخالفة أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه.
أنّى لنا السرف
والمجازفة في القول بمثل هذا تجاه آية التطهير في كتاب الله العزيز النازلة فيها
وفي أبيها وبعلها وبنيها؟
أنّى لنا بذلك وبين
يدينا هتاف النبيّ الأقدس صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني».
وفي لفظة : «فاطمة
بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ، ويغضبني ما أغضبها».
وفي لفظة : «فاطمة
بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها».
وفي لفظة : «فاطمة
بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ، وينصبني ما أنصبها» في تاج العروس : أي يتعبني ما أتعبها.
__________________
وفي لفظة : «فاطمة
بضعة منّي يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها».
وفي لفظة : «فاطمة
بضعة منّي يسعفني ما يسعفها» ، في تاج العروس : أي ينالني ما ينالها ، ويلمّ بي ما يلمّ بها.
وفي لفظة : «فاطمة
شجنة منّي يبسطني ما يبسطها ، ويقبضني ما يقبضها».
وفي لفظة : «فاطمة
مضغة منّي فمن آذاها فقد آذاني».
وفي لفظة : «فاطمة
مضغة منّي يقبضني ما قبضها ، ويبسطني ما بسطها».
وفي لفظة : «فاطمة
مضغة منّي يسرّني ما يسرّها».
أخرجها على اختلاف
ألفاظها أئمّة الصحاح الستّة ، وعدّة أخرى من رجال الحديث في السنن والمسانيد
والمعاجم ، وإليك جملة ممّن رواها :
١ ـ ابن أبي مليكة
: المتوفّى (١١٧) ، كما في رواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود وأحمد والحاكم
.
٢ ـ عمرو بن دينار
المكي : المتوفّى (١٢٥ ، ١٢٦) كما في صحيحي البخاري ومسلم .
٣ ـ الليث بن سعد
المصري : المتوفّى (١٧٥) ، كما في إسناد ابن ماجة وابن داود وأحمد .
__________________
٤ ـ أبو محمد بن
عيينة الكوفي : المتوفّى (١٩٨) ، كما في الصحيحين .
٥ ـ أبو النضر
هاشم البغدادي : المتوفّى (٢٠٥ ، ٢٠٧) وأبي كما في مسند أحمد .
٦ ـ أحمد بن يونس
اليربوعي : المتوفّى (٢٢٧) ، كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود .
٧ ـ الحافظ أبو
الوليد الطيالسي : المتوفّى (٢٢٧) ، كما في صحيح البخاري .
٨ ـ أبو المعمر
الهذلي : المتوفّى (٢٣٦) كما في صحيح مسلم .
٩ ـ قتيبة بن سعيد
الثقفي : المتوفّى (٢٤٠) ، روى عنه مسلم وأبو داود .
١٠ ـ عيسى بن
حمّاد المصري : المتوفّى (٢٤٨ ، ٢٤٩) ، روى عنه ابن ماجة
١١ ـ إمام
الحنابلة أحمد : المتوفّى (٢٤١) في مسنده (٤ / ٣٢٣ ، ٣٢٨).
١٢ ـ الحافظ
البخاري أبو عبد الله : المتوفّى (٢٥٦) ، في صحيحه في المناقب
(٥ / ٢٧٤).
١٣ ـ الحافظ مسلم
القشيري : المتوفّى (٢٦١) ، في صحيحه في الفضائل (٢ / ٢٦١).
__________________
١٤ ـ الحافظ أبو
عبد الله بن ماجة : المتوفّى (٢٧٢) ، في سننه (١ / ٢١٦).
١٥ ـ الحافظ أبو
داود السجستاني : المتوفّى (٢٧٥) ، في سننه (١ / ٣٢٤).
١٦ ـ الحافظ أبو
عيسى الترمذي : المتوفّى (٢٧٥) ، في جامعه (٢ / ٣١٩).
١٧ ـ الحكيم أبو
عبد الله الترمذي ، المحدّث : المتوفّى (٢٨٥) ، في نوادر الأصول (٣٠٨).
١٨ ـ الحافظ أبو
عبد الرحمن النسائي : المتوفّى (٣٠٣) ، في خصائصه (ص ٣٥).
١٩ ـ أبو الفرج
الأصبهاني : المتوفّى (٣٥٦) ، في الأغاني (٨ / ١٥٦).
٢٠ ـ الحاكم أبو
عبد الله النيسابوري : المتوفّى (٤٠٥) ، في المستدرك (٣ / ١٥٤ ، ١٥٨ ،
١٥٩).
٢١ ـ الحافظ أبو
نعيم الأصبهاني : المتوفّى (٤٣٠) ، في حلية الأولياء (٢ / ٤٠)
٢٢ ـ الحافظ أبو
بكر البيهقي : المتوفّى (٤٥٨) ، في السنن الكبرى (٧ / ٣٠٧)
٢٣ ـ أبو زكريّا
الخطيب التبريزي : المتوفّى (٥٠٢) ، في مشكاة المصابيح (ص ٥٦٠).
__________________
٢٤ ـ الحافظ أبو
القاسم البغوي : المتوفّى (٥١٠ ، ٥١٦) ، في مصابيح السنّة (٢ / ٢٧٨).
٢٥ ـ القاضي أبو
الفضل عياض : المتوفّى (٥٤٤) ، في الشفا (٢ / ١٩).
٢٦ ـ أخطب الخطباء
الخوارزمي : المتوفّى (٥٦٨) ، في مقتله (١ / ٥٣).
٢٧ ـ الحافظ أبو
القاسم ابن عساكر : المتوفّى (٥٧) ، في تاريخه (١ / ٢٩٨)
٢٨ ـ أبو القاسم
السهيلي : المتوفّى (٥٨١) ، في الروض الأُنف (٢ / ١٩٦)
وقال : إنّ أبا
لبابة رفاعة بن عبد المنذر ربط نفسه في توبته ، وإنّ فاطمة أرادت حلّه حين نزلت
توبته فقال : قد أقسمت ألا يحلّني إلاّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ فاطمة مضغة منّي».
فصلّى الله عليه
وعلى فاطمة ، فهذا حديث يدلّ على أنّ من سبّها فقد كفر ، ومن صلّى عليها فقد صلّى
على أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٢٩ ـ ابن أبي
الحديد المعتزلي : المتوفّى (٥٨٦) ، في شرح النهج (٢ / ٤٥٨)
٣٠ ـ أبو الفرج بن
الجوزي المتوفّى (٥٩٧) ، في صفة الصفوة (٢ / ٥).
٣١ ـ الحافظ أبو
الحسن بن الأثير الجزري : المتوفّى (٦٣٠) ، في أُسد الغابة (٥ / ٥٢١).
٣٢ ـ أبو سالم بن
طلحة الشافعي : المتوفّى (٦٥٢) ، في مطالب السؤول (ص ٦ ـ ٧).
__________________
٣٣ ـ سبط ابن
الجوزي الحنفي : المتوفّى (٦٥٤) ، في التذكرة (ص ١٧٥).
٣٤ ـ الحافظ الكنجي
الشافعي : المتوفّى (٦٥٨) ، في الكفاية (ص ٢٢٠).
٣٥ ـ الحافظ محبّ
الدين الطبري : المتوفّى (٦٩٤) ، في ذخائر العقبى (ص ٣٧)
٣٦ ـ الحافظ أبي
محمد الأزدي الأندلسي : المتوفّى (٦٩٩) ، في شرح مختصر صحيح البخاري (٣ / ٩١).
٣٧ ـ الحافظ
الذهبي الشافعي : المتوفّى (٧٤٧) ، في تلخيص المستدرك .
٣٨ ـ القاضي
الإيجي: المتوفّى (٧٥٦) ،في المواقف كما في شرحه (٣ / ٢٦٨).
٣٩ ـ جمال الدين
محمد الزرندي الحنفي : المتوفّى في (بضع و ٧٥٠) ، في درر السمطين .
٤٠ ـ أبو السعادات
اليافعي : المتوفّى (٧٦٨) ، في مرآة الجنان (١ / ٦١).
٤١ ـ الحافظ زين
الدين العراقي : المتوفّى (٨٠٦) ، في طرح التثريب (١ / ١٥٠).
٤٢ ـ الحافظ نور
الدين الهيثمي : المتوفّى (٨٠٧) ، في مجمع الزوائد (٩ / ٢٠٣)
٤٣ ـ الحافظ ابن
حجر العسقلاني : المتوفّى (٨٥٢) ، في تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٤١).
٤٤ ـ الحافظ جلال
الدين السيوطي : المتوفّى (٩١١) ، في الجامع الصغير والكبير .
__________________
٤٥ ـ الحافظ أبو
العبّاس القسطلاني : المتوفّى (٩٢٣) ، في المواهب اللدنيّة (١ / ٢٥٧).
٤٦ ـ القاضي
الديار بكري المالكي : المتوفّى (٩٦٦ ، ٩٨٢) ، في الخميس
(١ / ٤٦٤).
٤٧ ـ ابن حجر الهيتمي
: المتوفّى (٩٧٤) ، في الصواعق (ص ١١٢ ، ١١٤)
٤٨ ـ صفيّ الدين
الخزرجي : المتوفّى (٠٠٠) ، في الخلاصة (ص ٤٣٥).
٤٩ ـ زين الدين
المناوي : المتوفّى (١٠٣١ ، ١٠٣٥) ، في كنوز الدقائق (ص ٩٦).
وقال في شرح
الجامع الصغير (٤ / ٤٢١) : استدلّ به السهيلي على أنّ من سبّها كفر ، لأنّه يغضبه
، وأنّها أفضل من الشيخين ، قال الشريف السمهودي : ومعلوم أنّ أولادها بضعة منها
فيكونون بواسطتها بضعة منه ، ومن ثمّ لمّا رأت أمّ الفضل في النوم أنّ بضعة منه
وضعت في حجرها أوّلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن تلد فاطمة غلاماً فيوضع في حجرها ، فولدت الحسن فوضع
في حجرها ، فكلّ من يشاهد الآن من ذرّيتها بضعة من تلك البضعة ، وإن تعدّدت
الوسائط ، ومن تأمّل ذلك انبعث من قلبه داعي الإجلال لهم وتجنّب بغضهم على أيّ حال
كانوا عليه.
قال ابن حجر :
وفيه تحريم أذى من يتأذّى المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم بتأذّيه ، فكلّ من وقع منه في حقّ فاطمة شيء فتأذّت به ،
فالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يتأذّى به بشهادة هذا الخبر ،
__________________
ولا شيء أعظم من
إدخال الأذى عليها من قِبَل ولدها ، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك
بالعقوبة في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشدّ.
٥٠ ـ الشيخ أحمد
المغربي المالكي : المتوفّى (١٠٤١) في فتح المتعال (ص ٣٨٥). قال في
قصيدة كبيرة يمدح بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
فما كسبطَي
رسولِ اللهِ من أحدٍ
|
|
ولا يضاهيهما في
الفخرِ مفتخرُ
|
وهل كفاطمةَ
الزهراءِ أُمِّهما
|
|
بنتِ النبيِّ
المصطفى بشرُ
|
فإنّها بَضعةٌ
منه وما أحدٌ
|
|
كبَضعةِ المصطفى
إن حُقّقَ النظرُ
|
٥١ ـ الشيخ أحمد با كثير المكي
الشافعي : المتوفّى (١٠٤٧) في وسيلة المآل .
٥٢ ـ أبو عبد الله
الزرقاني المالكي : المتوفّى (١١٢٢) في شرح المواهب (٣ / ٢٠٥) فقال : استدلّ به
السهيلي على أنّ من سبّها كفر ، وتوجيهه أنّها تغضب ممّن سبّها وقد سوّى بين غضبها
وغضبه ومن أغضبه كفر.
٥٣ ـ الزبيدي
الحنفي : المتوفّى (١٢٠٥) ، في تاج العروس (٥ / ٢٢٧ و ٦ / ١٣٩).
٥٤ ـ القندوزيّ
الحنفي : المتوفى (١٢٩٣) ، في ينابيع المودّة (ص ١٧١).
٥٥ ـ الحمزاوي
المالكي : المتوفّى (١٣٠٣) ، في النور الساري هامش البخاري (٥ / ٢٧٤).
٥٦ ـ الشيخ مصطفى
الدمشقي في مرقاة الوصول (ص ١٠٩).
٥٧ ـ السيّد حميد
الدين الآلوسي : المتوفّى (١٣٢٤) ، في نثر اللآلئ (ص ١٨١)
__________________
٥٨ ـ السيّد محمود
القراغولي البغدادي الحنفي ، في جوهرة الكلام (ص ١٠٥).
٥٩ ـ عمر رضا
كحالة ، في أعلام النساء (٣ / ١٢١٦).
ثمّ أنّى لنا
القول بمقال ابن كثير وملء الأسماع قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيّ فمن آذاها فقد آذاني» . وقوله : «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها». أو : «إنّ
الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» قاله لفاطمة؟
راجع : معجم الطبراني ، مستدرك الحاكم (٣ / ١٥٤) وصحّحه ، مسند
ابن النجّار ، مقتل الخوارزمي (١ / ٥٢) ، تذكرة السبط (ص ١٧٥) ، كفاية الطالب
للكنجي (ص ٢١٩) ، ذخائر العقبى للمحبّ الطبري (ص ٣٩) ، ميزان الاعتدال (٢ / ٧٢) ،
مجمع الزوائد (٩ / ٢٠٣) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٤٣) ، كنز العمّال (٧ / ١١١) ،
أخبار الدول هامش الكامل (١ / ١٨٥) ، كنوز الدقائق للمناوي (ص ٣٠) ، شرح المواهب
للزرقاني (٣ / ٢٠٥) ، الإسعاف (ص ١٧١) ، ينابيع المودّة (ص ١٧٣ ، ١٧٤) ، الشرف
المؤبّد (ص ٥٩).
هذه مطلقات تشمل
جميع موجبات الرضا والغضب من الصدّيقة ـ سلام الله عليها ـ حتى المباحات شأن أبيها
الأقدس كما فهمه القسطلاني والحمزاوي في شرح البخاري ، وذلك يكشف عن أنّها ـ صلوات
الله عليها ـ لا ترضى إلاّ لما فيه مرضاة
__________________
المولى سبحانه ،
ولا تغضب إلاّ على ما يغضبه ، حتى إنّها لو رضيت أو غضبت على أمر مباح فإنّ هناك
جهة شرعيّة تدخله في الراجحات ، أو يجعله من المكروهات ، فلن تجد منها في أيّ من
الرضا والغضب وجهة نفسيّة أو صيغة شهويّة ، وذلك معنى العصمة التي نفاها المتحذلق
ـ ابن كثير ـ بعد أن تصامم أو تعامى عن دلالة آية التطهير النازلة فيها وفي أبيها
وبعلها وبنيها : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
__________________
بِسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
أحاديث الغلوّ أو قصص الخرافة
هذه أبحاث مجملة
تمثّل لنا نفسيّات الخليفة ، وملكاته الفاضلة ، نقتصر بها في هذه العجالة وإن لم
تزحفنا ولم يتأتّ بها القصوى ، غير أنّ فيها بلغة في إيقاف الباحث
على حدّ الخليفة ، ومقياساً يُعرف به القالي له من الغالي فيه ، والمقتصد فيه من
القاسط عليه ، ويمتاز به سرف القول في امتداحه عن جزاف الامتداح عليه ، فيهمُّنا
عندئذ ذكر نزرٍ يسير ممّا سرده القوم من فضائله التي فيها من الغلوّ الفاحش ما لا
يخفى على أيّ أحد ، ثمّ نشفعه بما جاء في غيره حتى يُعرف أهل الغلوّ في الفضائل.
ـ ١ ـ
الشمس على العجلة
ذكر الشيخ إبراهيم
العبيدي المالكي في كتابه عمدة التحقيق في بشائر آل الصدّيق نقلاً عن كتاب العقائق ، والصفوري في نزهة المجالس (٢ /
١٨٤) نقلاً عن عيون المجالس ، قالوا :
روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال يوماً لعائشة : إنّ الله تعالى لمّا خلق الشمس خلقها
من لؤلؤة بيضاء بقدر الدنيا مائة وأربعين مرّة وجعلها على عجلة ، وخلق
__________________
للعجلة ثمانمائة وستّين عروة ، وجعل في كلّ عروة سلسلة من الياقوت الأحمر ،
وأمر ستّين ألفاً من الملائكة المقرّبين أن يجرّوها بتلك السلاسل مع قوّتهم التي
اختصّهم الله بها ، والشمس مثل الفلك على تلك العجلة وهي تدور في القبّة الخضراء ،
وتجلو جمالها على أهل الغبراء ، وفي كلّ يوم تقف على خطّ الاستواء فوق الكعبة
لأنّها مركز الأرض وتقول : يا ملائكة ربّي إنّي لأستحي من الله عزّ وجلّ إذا وصلت
إلى محاذاة الكعبة التي هي قبلة المؤمنين أن أجوز عليها ، والملائكة تجرّ الشمس
لتعبر على الكعبة بكلّ قوّتها فلا تقبل منهم وتعجز الملائكة عنها ، فالله تعالى يوحي
إلى الملائكة وحي إلهام فينادون : أيّتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على
وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كنت فيه من السير ، فإذا سمعت ذلك تحرّكت بقدرة
المالك.
فقالت عائشة : يا
رسول الله من هو الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟ قديم أنّه يخلق الهواء ، ويخلق على
الهواء هذه السماء ، ويخلق بحراً من الماء ، ويخلق عليه عجلة كما يشاء ، ويجعل
العجلة مركباً للشمس المشرقة على الدنيا ، وأنّ الشمس تتمرّد على الملائكة إذا
وصلت إلى الاستواء ، وأنّ الله تعالى قدّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّا مفضّلاً
على الأنبياء وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء ، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره
أعني أبا بكر صدّيق المصطفى ، فإذا أقسمت الملائكة عليها به زالت الشمس ، وعادت
إلى سيرها بقدرة المولى ، وكذلك إذا مرّ العاصي من أُمّتي على نار جهنّم وأرادت
النار على المؤمن أن تهجم ، فلحرمة محبة الله في قلبه ونقش اسمه على لسانه ترجع
النار إلى ورائها هاربة ، ولغيره طالبة.
قال
الأميني : إنّ ممّا يغمرني
في الحيرة أنّ هذه العجلة ، لِمَ لم يكشف عنها علماء الهيئة قديماً وحديثاً ، مع
توفّر أدوات الكشف ومحصّلاته لأهل الهيئة الجديدة خاصّة؟
__________________
وأنّهم لما ذا
استقرّت آراؤهم بعد تقدّم العلم واستفحال أمره وكثرة اكتشافاته على دوران الأرض
على الشمس.
وتُعلمنا الرواية
عن أنّ البخار لم يكن مستخدماً عند إنشاء تلك العجلة فيمدّها الله سبحانه به حتى
لا يشعر بإرادة مريد ، ولا حياء من يستحي ، فيمضي بالعجلة ويوصلها في أسرع وقت إلى
حيث شِيءَ لها قدما ، ولكنّ العجب أنّ الله سبحانه لم يستبدل الملائكة بالبخار بعد
اكتشافه فيطلق سراح أولئك الآلاف المؤلّفة المقيّدة بسلاسل بلاء العجلة ، ويعتقهم
من مكابدة تمرّد الشمس في كلّ يوم!
وهناك مسألة لا
أدري من المجيب عنها وهي : أنّ إرادة الله سبحانه الفائقة على كلّ قوّة جامحة وهي
تمسك السماء بغير عمد ترونها ، وتسيّر الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب ،
صنع الله الذي أتقن كلّ شيء ، لِمَ لم تقم مقام أولئك المسخّرين لجرّ الشمس حتى لا
يوقفها تمرّد ، ولا تحتاج إلى عرى وسلاسل ، أو الإقسام بمن كتب اسمه عليها؟ وما
الذي أحوج المولى سبحانه في تسيير الشمس إلى هذه الأدوات من العجلة والعرى
والسلاسل ، وخلق أولئك الجمّ الغفير من الملائكة واستخدامهم بالجرّ الثقيل ، وهو
الذي إذا أراد شيئاً أن يكون يقول له كن فيكون؟
ثمّ إنّ الشمس
هلاّ كانت تعلم أنّ إرادة الله سبحانه ماضية عليها بجريها إلى الغاية المقصودة؟
فما هذا التوقّف والتمرّد؟ والله تعالى أعلم بعظمة الكعبة وشرفها منها وقد جعلها
في خطّة سيرها. أنّى للشمس أن تجهل بها ، وهي هي الشاعرة بخطّ الاستواء ، ومحاذاة
الكعبة ووصولها إلى تلك النقطة المقدّسة ، وهي العارفة بمقامات الصدّيق ، وأنّ
اسمه منقوش عليها ، وأنّ من واجبها أن تنقاد ولا تجمح على من أقسم به عليها.
ومن عويصات لا
تنحلّ : تجديد الشمس تمرّدها كلّ يوم (وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا
__________________
اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .
وأعوص من ذلك
إنشاد الملائكة إيّاها في كلّ نهار تلك الأُنشودة الضخمة ووحي الله إليهم بها طيلة
عمر الدنيا.
هكذا تشوّه رواة
السوء سمعة السنّة الشريفة ، وهي مقدّسة عن هذه الأوهام الخرافيّة ، وأنّ هذه
كلّها من جرّاء الغلوّ الممقوت في الفضائل ، ولو كان مختلق هذه المرسلة المقطوعة
عن الإسناد يعلم ما ذكرناه من الفضائح المترتبة على افتعالها لما اقتحم هذا
الاقتحام المزري.
ـ ٢ ـ
التوسّل بلحية أبي بكر
ذكر اليافعي في
روض الرياحين عن أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه أنّه قال : بينما نحن
جلوس بالمسجد وإذا نحن برجل أعمى قد دخل علينا وسلّم فرددنا عليهالسلام وأجلسناهُ بين يدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : من يقضيني حاجة في حبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه : ما حاجتك يا شيخ؟ فقال : إنّ
لي أهلاً ولم يكن عندي ما نقتات به ، وأريد من يدفع لنا شيئاً نقتات به في حبّ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : فنهض أبو بكر الصدّيق رضياللهعنه وقال : نعم أنا أعطيك ما يقوم بك في حبّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثمّ قال : هل من حاجة أخرى؟ فقال : نعم إنّ لي ابنة اريد
من يتزوّج بها في حياتي حبّا في محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال أبو بكر : أنا أتزوّج بها في حياتك حبّا في رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، هل من
__________________
حاجة أخرى؟ فقال :
نعم اريد أن أضع يدي في شيبة أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه حبّا في محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. فنهض أبو بكر رضى الله عنه ووضع لحيته في يد الأعمى وقال
: امسك لحيتي في حبّ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. قال : فقبض الأعمى بلحية أبي بكر الصدّيق صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا ربّ أسألك بحرمة شيبة أبي بكر إلاَّ رددت عليّ
بصري. قال : فردّ الله عليه بصره لوقته ، فنزل جبريل عليهالسلام على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا محمد السلام يقرئك السلام ، ويخصّك بالتحيّة
والإكرام ، ويقول لك : وعزّته وجلاله لو أقسم عليّ كل أعمى بحرمة شيبة أبي بكر
الصدّيق لرددت عليه بصره ، وما تركت على وجه الأرض أعمى ، وهذا كلّه ببركتك وعلوّ
قدرك وشأنك عند ربّك.
قال
الأميني : إنّها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. حقّا إنّ هذا الضرير قد عمي قلبه قبل
بصره ، فلم يعقل أنّ القسَم بشيبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أولى من شيبة أبي بكر ، فهي مقدّمة قداسةً وشرفاً وزلفةً
عند الله سبحانه ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أكبر من أبي بكر سنّا وأكثر شيبة ، فما أعمى الرجل عنها إن
كان يريد مقسماً به يبرّ الله سبحانه به قسمه؟ أو أنّه كان له في شيبة أبي بكر
غاية لم نعرفها؟ ثمّ أين عن هذه الشيبة عميان أهل السنّة؟ وما أغفلهم عن الوحي
المنزل فيها؟ فيقسمون على الله بها فيكشف عن أبصارهم ، وما بال الحفّاظ وأئمّة
الحديث أرجأوا نشر هذه الرواية إلى القرن الثامن عهد اليافعي؟ هل بخلوا على عميان
الأمّة بمثل هذا النجاح الباهر وفي الوحي المزعوم قوله سبحانه : وعزّتي وجلالي لو
أقسم عليّ كل أعمى. إلى آخره؟ أو أنّهم وجدوا مولد هذا الحديث بعد عصورهم فلم
يشيدوا بذكره؟ أو رأوا فيه غلوّا فاحشاً بتقديم لحية أبي بكر على شيبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فطووا عن روايته كشحاً؟ أو عقلوا فيه مهزأة بالله ووحيه
وأمينه ونبيّه فضربوا عنه صفحاً؟
وللقوم حول شيبة
أبي بكر روايات منها ما أسلفناه في الجزء الخامس (ص ٣١٧) من أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا اشتاق إلى الجنّة قبّل شيبة أبي بكر. ومرّ هنالك
أنّها
من أشهر المشهورات
من الموضوعات ، ومن المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل كما قاله الفيروزآبادي
والعجلوني .
ومنها ذكره
العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٣٣) من أنّ لإبراهيم الخليل وأبي بكر الصدّيق شيبة
في الجنّة.
ثمّ قال في
المقاصد نقلاً عن شيخه ابن حجر : لم يصحّ أنّ للخليل في الجنّة
لحية ولا للصدّيق ، ولا أعرف ذلك في شيء من كتب الحديث المشهورة ولا الأجزاء
المنثورة. ثمّ قال : وعلى تقدير ثبوت وروده فيظهر لي أنّ الحكمة في ذلك : أمّا في
حقّ الخليل فلكونه مُنزّلاً منزلة الوالد للمسلمين ، لأنّه الذي سمّاهم بالمسلمين
وأُمروا باتّباع ملّته ، وأمّا في حقّ الصدّيق فلأنّه كالوالد الثاني للمسلمين ،
إذ هو الفاتح لهم باب الدخول إلى الإسلام.
قال
الأميني : إنّ الذي سمّى
الأمّة المرحومة بالمسلمين هو الله سبحانه كما في قوله تعالى : (وَجاهِدُوا
فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هذا) .
وإن أمكنت التسمية
من إبراهيم من قبل فإنّها غير ممكنة منه في هذا وهو القرآن الكريم ، وإنّما وقع
ذكر ملّة إبراهيم في البين امتناناً منه سبحانه على الأمّة بجعل الإسلام شريعة
سهلة لا حرج فيها ترغيباً في الدخول فيه. فالقول بأنّ إبراهيم سمّاهم مسلمين لا
يتمّ مع قوله تعالى : (وَفِي هذا) يعني في القرآن.
قال القرطبي : هذا
__________________
القول مخالف لقول
عظماء الأمّة. وقال الطبري : هذا لا وجه له لأنّه من المعلوم أنّ إبراهيم لم يسمّ هذه
الأمّة في القرآن مسلمين.
وقال ابن عبّاس :
الله سمّاكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدّمة وفي الذّكر. وكذا قال مجاهد وعطاء
والضحّاك والسدي ومقاتل وقتادة وابن مبارك.
وتدلّ على تعيّن
هذا القول قراءة أُبيّ بن كعب : (الله سمّاكم المسلمين) كما في تفسير البيضاوي ، (٢
/ ١١٢) ، وكشّاف الزمخشري (٢ / ٢٨٦) ، وتفسير الرازي (٦ / ٢١٠) وتفسير ابن جزّي
الكلبي (٣ / ٤٧).
واستقرَبه الرازي
في تفسيره فقال : لأنّه تعالى قال : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فبيّن أنّه سمّاهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلاّ
بالله.
واستصوبه ابن كثير
في تفسيره (٣ / ٢٣٦) وقال : لأنّه تعالى قال : (هُوَ اجْتَباكُمْ
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثمّ حثّهم
وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله عليه بأنّه ملّة أبيهم الخليل ، ثمّ ذكر
منّته تعالى على هذه الأمّة بما نوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر
وقديم الزمان في كتب الأنبياء يُتلى على الأحبار والرهبان فقال : (هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ). أي من قبل هذا القرآن. (وَفِي هذا).
وبهذا تعرف قيمة
ما حسبه المتفلسف من أنّ تنزيل إبراهيم منزلة الأب للمسلمين لمحض التسمية فإنّه
ممّا لا يُقام له وزن وإلاّ لوجب اتّخاذ من سمّى أحداً باسمٍ أباً تنزيليّا ، ومن
المعلوم بطلانه ، وإنّما سمّاه الله أباً للمسلمين لأنّه عليهالسلام أب الرسول الأمين ، وأنّ قريشاً من ذريّته ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أبو الأمّة ، وأمّته في حكم أولاده ،
__________________
وأزواجه أمّهاتهم
كما ورد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : «إنّما أنا لكم كالوالد ، أو : مثل الوالد» .
أنا لا أدري ما هي
الخاصّة في الأب التنزيليّ لأمّة خاصّة أن تكون له لحية في الجنّة دون الأب
الحقيقيّ للأمم جمعاء ، وهو أبو البشر آدم عليهالسلام ، ولا لحية له؟ مع ما ورد عن كعب الأحبار أنّه قال : ليس
أحد في الجنة له لحية إلاّ آدم ، له لحية سوداء إلى سرّته. ذكره ابن كثير في
تاريخه (١ / ٩٧).
وإن كانت الحكمة
في لحية إبراهيم الخليل وأبي بكر ما زعمه العجلوني من الأُبوّة فما الحكمة في لحية
موسى بن عمران؟ وقد جاء في الحديث : ليس أحد يدخل الجنّة إلاّ جرد مرد إلاّ موسى
بن عمران فإنّ لحيته إلى سرّته. السيرة الحلبيّة (١ / ٤٢٥).
ثمّ إنّ للأُمّة
المسلمة أباً تنزيليّا روحيّا هو أحقّ بالأبوّة من الخليل عليهالسلام وهو نبيّها الأقدس محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم كما مرّ حديثه ، وبها حياتها الحقيقيّة ، وهو الذي يدعوهم
لما يحييهم ، ومنه كيانها المستقرّ ، وعزّها الخالد ، فهو أولى باللحية من أبيه
الخليل وصاحبه أبي بكر.
والعجب كلّ العجب
في عدّ أبي بكر أباً ثانياً للأمّة لأنّه فتح لها باب الدخول إلى الإسلام ، وأنّ
الذي فتح باب الإسلام بمصراعيه لدخول الأُمم فيه ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً ، هو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بدعوته الكريمة ، وبراهينه الصادقة ، ومعاجزه المعلومة ،
ونواميسه المقدّسة ، وخلائقه الرضيّة ، ومغازيه الدامية فهو أولى بأن تكون له لحية
في الجنّة.
__________________
على أنّ الأمّة
قطّ لم تعرف باباً فتحه الخليفة لها إلى الإسلام ، ولم يدر أيّ أحد أنّه متى فتحه؟
وأين فتحه؟ ولما ذا فتحه؟ وأيّ باب هو؟
نعم ؛ لا تخفى على
الأُمّة جمعاء أنّه غلّق باباً عليها وحرمها من خير أهله وعلمه ورشده وهداه ، ألا
وهو باب مدينة علم النبيّ مولانا أمير المؤمنين بالنصّ المتواتر ، وهو الباب الذي
منه يؤتى إلى الله ، وإليه يتوجّه الأولياء.
فلو لا انتزاع
الأمر منه لانتشرت علومه ، وزهرت معالمه ، وتبلّغت حكمه ، وعُمِل بأحكامه ، فأكل
الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ،
لكنّه عليهالسلام مُنع عن حقّه فجهلت العباد ، وأجدبت البلاد ، وصوّحت
المرابع ، وظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ، وإلى الله المشتكى.
وإن أراد القائل
من فتح الباب بدأة الفتوح في أيام الخليفة ، فالخليفة الثاني على ذلك أجدر باللحية
منه ، لأنّ عمدة الفتوح وقعت في أيّامه.
نعم ؛ إن يكن هناك
من يحقّ أن يعدّ للأُمّة أباً ثانياً تنزيلاً بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام الذي به كان تمام الدعوة والنجاح في المغازي ، وهو نفس
النبيّ القدسيّة وخليفته المنصوص عليه ، ولذلك جاء من طريق أنس بن مالك عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله : «حقّ عليّ على هذه الأمّة كحقّ الوالد على الولد» ،
ومن طريق عمّار وأبي أيّوب الأنصاري قوله : «حقّ عليّ على كلّ مسلم حقّ الوالد على
ولده» .
__________________
ـ ٣ ـ
شهادة أبي بكر وجبرئيل
ذكر النسفي : أنّ
رجلاً مات بالمدينة ، فأراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يصلّي عليه فنزل جبريل وقال : يا محمد لا تُصلّ عليه.
فامتنع فجاء أبو بكر فقال : يا نبيّ الله صلّ عليه فما علمتُ منه إلاّ خيراً. فنزل
جبريل وقال : يا محمد صلّ عليه ، فإنّ شهادة أبي بكر مقدّمة على شهادتي. مصباح
الظلام للجرداني) (٢ / ٢٥ ، نزهة
المجالس (٢ / ١٨٤).
قال
الأميني : هلمّ معي نناقش
راوي هذه السفسطة الحساب بعد أن لم نقف لها على إسناد نناقش رجاله ، ونسائله عن
أنّ ما أدّاه جبريل من الشهادة أكان من عند نفسه ، ولم يكن لأمين الله على وحيه أن
يأتي رسوله بشيء من قِبَل نفسه فحابى أبا بكر بتقديم شهادته؟ أم كان وحياً من
المولى سبحانه ـ وهو المطّرد في كلّ هبوط له إلى الرسول الأمين ـ فأبطل ذلك الوحي
المبين مجازفةً لمحض أنّ أبا بكر شهد بضدّ ما جاء به؟ وأيّا ما كان فإنّ إخباره
كان لا محالة عن عدم تأهّل الرجل في الواقع للصلاة عليه في صورة نهي مفيد للتحريم
، ومؤدّاه أنّ الله سبحانه يبغض أن تُرفع إليه صلاة على مثله من نبيّه المحبوب ،
فهل يكون قول أبي بكر بتأهّله المستنبط من ظاهر الحال الذي يخطئ ويصيب ، ولا شكّ
أنّه مخطئ في هذا المورد بالخصوص لنزول الوحي بخلافه ، فهل يكون قول هذا شأنه
مبطلاً للوحي المبين؟ تبصّر واحكم.
ـ ٤ ـ
خاتم النبيّ وسجلّه
روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دفع خاتمه الى أبي بكر وقال : اكتب عليه : لا إله إلاّ
الله ، فدفعه أبو بكر إلى النقّاش وقال : اكتب عليه : لا إله إلاّ الله ، محمد
رسول الله. فكتب
__________________
عليه. فلمّا جاء
به أبو بكر إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وجد عليه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ، أبو بكر
الصدّيق. فقال : ما هذه الزيادة يا أبا بكر؟ فقال : ما رضيت أن أُفرّق اسمك عن اسم
الله ، وأمّا الباقي فما قلته ، فنزل جبريل وقال : إنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
إنّي كتبت اسم أبي بكر لأنّه ما رضي أن يفرّق اسمك عن اسمي ، فأنا ما رضيت أن
أُفرّق اسمه عن اسمك. نزهة المجالس للصفوري (٢ / ١٨٥) نقلاً عن تفسير الرازي ،
مصباح الظلام للجرداني (ص ٢٥).
قال
الأميني : المتسالم عليه
بين المحدّثين أنّ نقش خاتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان : محمد رسول الله بلا أيّ زيادة ، ففي الصحاح عن أنس
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم صنع خاتماً من ورِق ونقش فيه : محمد رسول الله. وقال : فلا ينقش أحد على نقشه.
صحيح البخاري (٨ /
٣٠٩) ، صحيح مسلم (٢ / ٢١٤ ، ٢١٥) ، صحيح الترمذي (١ / ٣٢٤) ، سنن ابن ماجة (٢ /
٣٨٤ ، ٣٨٥) ، سنن النسائي (٨ / ١٧٣) .
وفي رواية البخاري
والترمذي عن أنس قال : كان نقش الخاتم ثلاثة أسطر : محمد سطر ، ورسول سطر. والله ،
سطر. صحيح البخاري (٨ / ٣٠٩) ، صحيح
الترمذي (١ / ٣٢٥).
وروى ابن سعد في
طبقاته من مرسل ابن سيرين ؛ أنّ نقشه كان : باسم الله
__________________
محمد رسول الله. وقال
ابن حجر : ولم يتابع على هذه الزيادة. ذكره عنه الزرقاني في شرح المواهب (٥ / ٣٩).
وأخرج أبو الشيخ
في الأخلاق النبويّة من رواية عرعرة بن البرند ، عن أنس قال : كان مكتوباً على فصّ
خاتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله.
قال : ابن حجر في
فتح الباري ١٠ / ٢١٠ : عرعرة ضعّفه ابن المديني وزيادته هذه شاذة. وقال
الزرقاني في شرح المواهب ٥ / ٣٩ : كان نقش الخاتم النبوي كما في الصحيحين وغيرهما
: محمد رسول الله. فلا عبرة بهذه الرواية كرواية أنه كان فيه كلمتا الشهادة معاً ،
ورواية ابن سعد عن أبي العالية أنّ نقشه : صدق الله. ثمّ ألحق الخلفاء :
محمد رسول الله.
فما قيمة ما جاء
به من النقش صوّاغ القرون المتأخّرة ، وصاغته يد الإفك والغلوّ بعد لأيٍ من وفاة
النبيّ الأعظم وانقطاع الوحي عنه ، ولا يوجد في تآليف الأوّلين منه عين ولا أثر؟
وأنت ترى السلف حاكمين في حديث زيادة كلمة الإخلاص والبسملة بالشذوذ وأنّه لا عبرة
به ولا يُتابع عليه ، ولا يبحث أيّ متضلع في الفنّ عن هذه الزيادة المختلقة التي
لا صلة لها بالموضوع ، وليست هي إلاّ استهزاءً بالله ونبيّه ووحيه وأمين وحيه.
ثمّ قد صحّ عند
القوم أنّ ذلك الخاتم المنقوش الخاصّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وكان يتختّم به ويختم صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يكن له خاتم غيره ولم يحتمل التعدّد قطّ أحد في رفع
اختلاف أحاديث النقش ـ كان عند أبي بكر في يمينه بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعده في يد عمر ، وبعده عند عثمان في يمينه وسقط سنة
ثلاثين من يده أو : من يد غيره في بئر
__________________
أريس واتّخذ له خاتماً آخر ، وفي رواية ابن سعد عن الأنصاري كما في فتح الباري (١٠ / ٢٧٠) وسنن
النسائي (٨ / ١٧٩) : أنّه
كان في يد عثمان ستّ سنين من عمله. فلو كانت تلكم الأسطورة صحيحة وكان اسم الخليفة
منقوشاً في خاتم كان يلبسه النبيّ الأقدس طيلة حياته وتنظر إليه الصحابة من كثب
وترى بريقه في خنصره كما في صحيح البخاري (٨ / ٣٠٨ ، ٣٠٩) ،
كان حقّا على الخليفة والخاتم بيده أن يحتجّ بها يوم تسنّم عرش الخلافة ، وكان
هناك حوار وصخب ، لكنّه لم يحتج لأنّ ذلك الخاتم ما كان مصوغاً بعد ولا منقوشاً ،
ولم يُعطَ من المغيّب أنّه يُستنحت له ذلك بعد قرون متطاولة. وكان حقّا على
الصحابة الملتاثين به أن يحتجّوا بذلك النقش المصنوع في عالم الملكوت ، فإنّ
الاحتجاج به أولى من الاحتجاج بكبر السنّ وأمثاله ، لكنّهم تركوا الحجاج لأنّ هذا
المولود لم يكن يولد بعد ، وإنّما ولدته أمّ الغلوّ في الفضائل في آخر الدهر.
ولا يتأتّى لأحد
عرفان سرّ ما جاء به جبريل الخيالي من القران بين اسم النبيّ الأعظم وبين اسم أبي
بكر في ذلك النقش المصوغ في عالم الغيب ، أكان أبو بكر نفس النبيّ الأعظم بنصّ
القرآن الكريم؟ أم كان قرينه في العصمة والقداسة في الذكر
__________________
الحكيم؟ أم نزلت
فيه آية التبليغ مع ذلك الإرهاب؟ أم أكمل الله به الدين ، وأتمّ به النعمة كما بدأ
بالنبيّ الطاهر؟ أم كان رديف النبيّ الأقدس في الإسلام والدعوة إلى الله من أوّل
يومه ، أم كان وصيّه وخليفته المنصوص عليه من بدء الدعوة؟ أم قُرنت طاعته بطاعته
ومعصيته بمعصيته كما في صحاح جاءت عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ أم كان نظيره في أُمّته بنصّ منه صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ أم؟ أم؟ إلى مائة أم. لما ذا ذلك القران؟ أنا لا أدري ،
ومختلق الرواية أيضاً لا يدري.
ـ ٥ ـ
عرض جنّة أبي بكر
قال الصفوري في
نزهة المجالس (٢ / ١٨٣) : رأيت في الحديث : أنّ الملائكة اجتمعت تحت شجرة طوبى
فقال ملك : وددت أنّ الله تعالى أعطاني قوّة ألف ملك ، وكساني ريش ألف طير ، فأطير
حول الجنّة حتى أبلغ طرفها ، فأعطاه الله ذلك ، فطار ألف سنة حتى ذهبت قوّته
وتساقط ريشه ، ثمّ أعطاه الله تعالى قوّةً وأجنحة ، فطار ألف سنة ثانية حتى ذهبت
قوّته وتساقط ريشه ، ثمّ أعطاه الله تعالى قوّة وأجنحة ، فطار ألف سنة ثالثة حتى
ذهبت قوّته وتساقط ريشه ، فوقع على باب قصر باكياً ، فأشرفت عليه حوراء فقالت :
أيّها الملك مالي أراك باكياً وليست هذه بدار بكاء وحزن ، وإنّما هي دار فرح وسرور؟
فقال : لأنّي عارضت الله في قدرته ، ثمّ أعلمها بحديثه. فقالت له : لقد خاطرت
بنفسك ، أتدري كم طرت في هذه الثلاثة آلاف سنة؟ قال : لا. قالت : وعزّة ربّي ما
طرت أكثر من جزء واحد من عشرة آلاف جزء ممّا أعدّه الله تعالى لأبي بكر الصدّيق
رضى الله عنه. وذكره الجرداني في مصباح الظلام (٢ / ٢٥).
قال
الأميني : فمجموع ما أعدّه
الله تعالى لأبي بكر في الجنّة هو مسير ثلاثين
__________________
ألف ألف سنة لطائر
يطير بقوّة ألف ملك وريش ألف طير! جلّت قدرة الباري.
أنا أكِل حساب هذه
الرواية إلى الشباب النابه العصري المتخرّج من المدارس العالية في أرجاء العالم.
كما أرى النظرة في رجال سندها من وظائف رجال الغيب إذ من المستحيل أن يقف عليه
متتبّع ، ويعرفه حافظ ضليع ، أو محدّث بعيد الظن أو رجاليّ واسع الخطوة من رجال
عالم الشهود.
ـ ٦ ـ
الله يستحيي من أبي بكر
عن أنس بن مالك
قال : جاءت امرأة من الأنصار فقالت : يا رسول الله رأيت في المنام كأنّ النخلة
التي في داري وقعت ، وزوجي في السفر. فقال : يجب عليك الصبر فلن تجتمعي به أبداً.
فخرجت المرأة باكيةً فرأت أبا بكر ، فأخبرته بمنامها ولم تذكر له قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : اذهبي فإنّك تجتمعين به في هذه الليلة. فدخلت إلى
منزلها وهي متفكّرة في قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقول أبي بكر. فلمّا كان الليل وإذا بزوجها قد أتى ، فذهبت
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبرته بزوجها ، فنظر إليها طويلاً فجاء جبريل وقال : يا
محمد الذي قلته هو الحقّ ، ولكن لمّا قال الصدّيق : إنّكِ تجتمعين به في هذه
الليلة استحيا الله منه أن يجري على لسانه الكذب ، لأنّه صدّيق فأحياه كرامةً له.
نزهة المجالس (٢ / ١٨٤).
قال
الأميني : ليتنا كنّا نقف
على رجال هذا الخيال النبهاء الذين أرادوا كسح معرّة الكذب عن ساحة الصدّيق
فجرّوها إلى الساحة النبويّة ، فكأنّ الله لم يبالِ بأن يجري الكذب على لسان نبيّه
الصادق المصدّق ، حيث إنّه لم يخبر عن موت الرجل وإنّما أخبر امرأته بأنّها لن
تجتمع به أبداً بكلمة لن المفيدة لتأبيد النفي المؤكّد بقوله أبداً فظهر خلافه ،
لكنّه استحى من أبي بكر بعد أن رجم بالغيب إفكاً ظاهراً ، فأراد أن
يرحض عنه ذلك
بإحياء الرجل وعدم إماتته كرامة له ، وهل يرحضه ذلك بعد أن وقع الكذب؟ أنا لا
أدري.
وهل كانت كرامة
أبي بكر على الله أعظم من كرامة رسول الله عليه؟ حيث لم يرضَ بظهور الكذب عليه
ورضيه على مصطفاه ، ولم يكن في انتشاره عنه كسر للإسلام لكن انتشاره عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فتّ في عضد الدين.
ثمّ اعجب من تعليل
الرواية بأنّ أبا بكر كان صدّيقاً. أو لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سيّد الصدّيقين أجمع؟ وهب أنّ وحي هذه المزعمة خفّف عن
ساحة النبوّة شيئاً يمكن أن يفوه به من اختلقها بأنّ الأمر كان كما أخبر به رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لكن أحيا الله الرجل للغاية التي ذكرها فلا كذب صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكن يدفعه ما قدّمناه من أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يخبر عن موت الرجل وإنّما أخبر عن أنّها لن تجتمع به
أبداً وقد وقع خلاف ما أنبأ به. نعم ؛ لعلّ ما مرّ من رأي الخليفة من جواز تقديم
المفضول على الفاضل ، أو الغلوّ في الفضائل ، يرخّصان بكلّ ما ذكر.
ـ ٧ ـ
كرامة دفن أبي بكر
أخرج ابن عساكر في
تاريخه قال : روي أن أبا بكر رضى الله عنه لمّا حضرته الوفاة قال
لمن حضره : إذا أنا متّ وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه
قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقفوا بالباب وقولوا : السلام عليك يا رسول الله هذا أبو
بكر يستأذن ، فإن أذن لكم بأن فتح الباب وكان الباب مغلقاً بقفل فأدخلوني وادفنوني
، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به ، فلمّا وقفوا على الباب
وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتف يهتف من القبر : أدخلوا الحبيب
إلى الحبيب ، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
__________________
وذكره الرازي في تفسيره (٥ / ٣٧٨) ، والحلبي في السيرة النبويّة (٣
/ ٣٩٤) ، والديار بكري في تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٤) ، والقرماني في أخبار الدول هامش
الكامل (١ / ٢٠٠) ، والصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٩٨).
قال
الأميني : أراد رواة هذه
الرواية تصحيح عمل القوم في دفن الخليفة في موطن القداسة حجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن أعيتهم المشكلة وعجزوا عن الجواب ، فإنّ الحجرة
الشريفة إمّا أن تكون باقية على ملكه صلىاللهعليهوآلهوسلم كما هو الحقّ المبين. أو أنّها عادت صدقة يؤول أمرها إلى
المسلمين أجمع؟ وعلى الأوّل كان يشترط فيه رضاء أولاد وارثته الوحيدة السبطين
الإمامين وأخواتهما ولم يستأذن منهم أحد. وعلى الثاني كان يجب على الخليفة أو على من
تولّى الأمر بعده أن يستأذن الجامعة الإسلاميّة ولم يكن من أيّ منهما شيء من ذلك ،
فبقي الدفن هنالك خارجاً عن ناموس الشريعة. وإن قيل : إنّه دفن بحقّ ابنته ، فأيّ
حق لها بعد ما جاء به أبوها من قوله : إنّا معاشر الأنبياء لا نُورَث ما تركناه
صدقة؟ على أنّا أسلفنا في الجزء السادس (ص ١٩٠) : أنّه لم يكن لأمّهات المؤمنين
إلاّ السكنى في حجرهنّ كالمعتدّة ولم يكن لهنّ ترتيب آثار الملك على شيء منها.
وقدّمنا هنالك أيضاً أنّ على فرض الميراث وعلى تقدير الإرث من العقار فإنّ لعائشة
تسع الثمن من حجرتها لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم توفّي عن تسع ، ومساحة المحلّ لا يسع تسع ثمنها جثمان
إنسان مهما كبرت الحجرة ، على أنّ حقّها كان مشاعاً وليس لها التصرّف فيه بغير إذن
شريكاتها في الميراث.
أراد القوم
التفصّي عن هذه المشكلات فكوّنوا ما يستتبع مشكلةً بعد مشكلة وهي : أنّ الخليفة هل
قال ما قاله بعهد من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو أنّه أحاط علماً بالمغيّب؟ أمّا الثاني فلا أحسب أحداً
يدّعي له ذلك بعد ما أحطنا خُبراً بكلّ ما قيل في فضائله ،
__________________
وبعد ما أوقفناك
على مبلغ علمه في المشهودات ، فأين هو عن الغيوب؟
وأمّا الأوّل فلو
كان ذلك لما كان لترديده بين الدفن في الحجرة إن فتح الباب وسقط القفل ، وبين
الذهاب به إلى البقيع إن لم يكن ذلك [ أي معنى ] ، فإنّ ما أخبر به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بدّ أن يكون ، فلا ترديد فيه.
نعم ؛ من المحتمل
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يعهد ذلك لنفس أبي بكر وإنّما رواه عنه من لا يثق به
الخليفة ولذلك نوّه بما قال بالترديد ، أو أنّ الرواية لا صحّة لها ، ولذلك لم
تنتشر في الصحاح والمسانيد إلى عهد الحافظ ابن عساكر ، وهي على فرض صحّتها مكرمة
عظمى وقعت بمشهد الصحابة ومزدحم المهاجرين والأنصار يوم شيّعوه إلى مقرّه الأخير ،
وكان يجب والحالة هذه أن يتواصل الهتاف بها ، وبذلك الهتاف المسموع من القبر
الشريف منذ ذلك العهد إلى منصرم الدهر ، ولم يكن يوم ذاك في الأبصار غشاوة ، ولا
في الآذان وقر ، ولا في الألسنة بكم ، لكنه ويا للأسف لم ينبس أحد عنها ببنت شفة ،
وما ذلك إلاّ لأنّ المكرمة لم تقع ، والقفل ما سقط ، والباب ما انفتح ، والهتاف لم
يكن ، وأدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق مهزأة نشأت من
الغلوّ في الفضائل تنبىء عن روح التصوّف في مختلق الرواية. نعم :
ما كلّ من زار
الحمى سمع الندا
|
|
من أهله أهلاً
بذاك الزائرِ
|
هذه الكرامة
المنحوتة المنحولة ذكرها الرازي ومن بعده مرسلين إيّاها إرسال المسلّم ، محتجّين
بها عداد فضائل أبي بكر ، غير مكترثين لما في إسنادها من العلل أو جاهلين بها ،
وإنّما أخرجها ابن عساكر من طريق أبي طاهر موسى بن محمد بن عطاء المقدسي عن عبد
الجليل المدني عن حبّة العرني فقال : هذا منكر ، وأبو الطاهر
__________________
كذاب ، وعبد
الجليل مجهول. وفي لسان الميزان (٣ / ٣٩١) : خبر
باطل.
وأبو الطاهر
المقدسي ؛ كذّبه أبو زرعة وأبو حاتم . وقال النسائي ليس بثقة. وقال ابن حبّان : لا تحلّ الرواية عنه كان يضع الحديث. وقال ابن عدي : كان يسرق الحديث. وقال العقيلي : يحدّث عن الثقات بالبواطيل والموضوعات ، منكر الحديث
وقال منصور بن إسماعيل : كان يضع الحديث على مالك. راجع المصادر المذكورة (٥ / ٢٦٧)
ـ ٨ ـ
جبريل يسجد مهابة من أبي بكر
حدّث عالم الأُمّة
الشيخ يوسف الفيشي المالكي قال : كان جبريل إذا قدم أبو بكر على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يحادثه يقوم إجلالاً للصدّيق دون غيره ، فسأله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك؟ فقال جبريل : أبو بكر له عليّ مشيخة في الأزل ،
وما ذاك إلاّ أنّ الله تعالى لمّا أمر الملائكة بالسجود لآدم ، حدّثتني نفسي بما
طُرد به إبليس فحين قال الله تعالى : اسجدوا ؛ رأيت قبّة عظيمة عليها مكتوب : أبو
بكر ، أبو بكر مراراً وهو يقول : اسجد. فسجدت من هيبة أبي بكر ، فكان ما كان.
ذكره العبيدي
المالكي في عمدة التحقيق هامش روض الرياحين (ص ١١١) فقال :
وحدّثني أيضاً شيخنا الأستاذ محمد زين العابدين البكري بما يقارب ما قاله الفيشي ،
وسمعتها من غالب مشايخنا بالأزهر.
__________________
قال
الأميني : عجباً لهؤلاء
القوم لم يسلم منهم حتى أمين الله على وحيه ـ جبرائيل ـ المعصوم من الزلل من أوّل
يومه فجعلوه في عداد إبليس اللعين الطريد لو لا أنّ أبا بكر تدارك أمره!
عجباً لهذا الملك
المزعوم يأتمنه المولى سبحانه ثمّ يرتاب في أمره ، ولا يُصلح ذلك الشنار القول
بأنّه إنّما ائتمنه بعد زلّته تلك ، فإنّه سبحانه لا يأتمن من يمكن في حديث نفسه
الكفر ، فلعلّ تلك الخاطرة دبّت فيه ولم يحصل من يسدّده فتعود هاجسته كفراً
صريحاً.
عجباً لهذا الملك
المقرّب تروعه هيبة أبي بكر ولا تأخذه هيبة الإله العظيم فيطيع أبا بكر وهو يهم أن
يطيع الله في أمره بالسجدة ، وأيّ سجدة هذه وما قيمتها من مثل جبرئيل وقد وقعت من
هيبة أبي بكر لا بصفة القربان إلى المولى سبحانه والزلفى لديه والامتثال لأمره؟
فكأن هيبة أبي بكر في الملأ الأعلى أعظم وأفخم من هيبة بارئه جلّت عظمته!
ثمّ أين كانت قبّة
أبي بكر من مستوى عالم الملكوت؟ ومن الأحرى أن تضرب هنالك قبّة نبيّ العظمة حتى
يسدّد فيها من شارف الزلّة لا قبّة إنسان من الممكن أن تكتنفه المآثم ، وتموت بضعة
المصطفى وهي واجدة عليه.
ومن أين علم أبو
بكر بهاجسة جبرئيل وحديث نفسه؟ أو هل كان يعلم الغيب؟ أو أُوحي إليه بواسطة غير
أمين الوحي؟ لك الحكم في هذه كلّها أيّها القارئ الكريم.
ثمّ العجب من
مشايخ الأزهر الذين أخبتوا إلى هذه الخزاية فأثبتوها في الكتب ولهجوا بها في
الأندية ، وخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى فنشروها في الملأ
العلمي وشوّهوا بها صفحة التاريخ وسمعة الاسلام المقدّس ، نعم : أرادوا نحت فضيلة
للخليفة فأعماهم الغلوّ في الفضائل فنحتوها رذيلةً لجبرئيل
الأمين ، كلّ ذلك
لأنّهم افتعلوها من غير بصيرة في الدين ، أو رويّة شاعرة في المبادئ الإسلاميّة.
وأحسب أنّ من
اختلق هذه الرواية أراد إثباتها تجاه ما يروى لمولانا أمير المؤمنين عليهالسلام من تسديده لجبرئيل يوم خاطبه الله سبحانه : من أنا ومن أنت؟ فتروّى قليلاً
وقد أخذته هيبة الجليل سبحانه حتى أدركته نورانيّة مولانا الإمام عليهالسلام ، فعلّمه أن يقول : أنت الجليل وأنا عبدك جبرئيل. وقد نظم ذلك الشاعر المبدع
الشيخ صالح التميمي من قصيدة له في مدح مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام وخمّسها الشاعر المفلق عبد الباقي أفندي العمري كما في ديوانه (ص ١٢٦) وفي
ديوان صاحب الأصل (ص ٤) قالا :
روضةٌ أنت
للعقول ودوحُ
|
|
يُجتنى من طوباك
رشدٌ ونصحُ
|
ومتى هبَّ من
عبيرك نفحُ
|
|
شمل الروح من
نسيمك روحُ
|
حين من ربّه أتاه النداءُ
طالما للأملاك
كنتَ دليلا
|
|
ولناموسهم هديتَ
سبيلا
|
يوم نادى ربّ
السما جبرئيلا
|
|
قائلاً من أنا
فروّى قليلا
|
وهو لولاك فاته الاهتداء
لك شكلٌ نتيجةٌ
للقضايا
|
|
لك قلبٌ
للعالمين مرايا
|
لك فعلٌ حوى
رفيع المزايا
|
|
لك اسمٌ رآه خير
البرايا
|
مذ تدلّى وضمّه الإسراءُ
وليست هذه كقصّة
أبي بكر ؛ فليس فيها أنّ جبريل نوى ما نواه إبليس من المروق عن أمره سبحانه ، ولا
فيها أنّ أمير المؤمنين أنبأ عن مغيّب ، ولا أنّ هيبته غلبت هيبة الله العظيم ،
ولا أنّ جبريل سجد من هيبته ، ولا أنّ له هنالك قبّة عظيمة
__________________
مكتوب عليها :
عليّ عليّ ، ولا أنّه هتف مخاطباً لجبرئيل بقوله : اسجد. وروّعه بذلك ، ليست فيها
هذه كلّها لأنّ الشيعة في المنتأى عن الغلوّ في الفضائل.
ـ ٩ ـ
قصّة فيها كرامة لأبي بكر
أخبر أبو العبّاس
بن عبد الواحد ، عن الشيخ الصالح عمر بن الزغبي قال : كنت مجاوراً بالمدينة المشرّفة على مشرّفها أفضل
الصلاة والسلام فخرجت يوم عاشوراء الذي تجتمع فيه الإمامية في قبّة العباس وقد
اجتمعوا في القبّة. قال : فوقفت أنا على باب القبّة وقلت : أريد في محبّة أبي بكر
شيئاً ، فخرج إليّ شيخ منهم ، وقال : اجلس حتى نفرغ ونعطيك ، فجلست حتى فرغوا ،
ثمّ خرج إليّ ذلك الرجل وأخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأدخلني الدار وأغلق ورائي
الباب ، وسلّط عليّ عبدين فكتّفاني وأوجعاني ضرباً ، ثمّ أمرهما بقطع لساني فقطعاه
، ثمّ أمرهما فحلاّ كتافي ، وقال : اخرج إلى الذي طلبت في محبّته ليردّ إليك
لسانك. قال : فخرجت من عنده إلى الحجرة الشريفة النبويّة وأنا أبكي من شدّة الوجع
والألم ، فقلت في نفسي : يا رسول الله قد تعلم ما أصابني في محبّة أبي بكر ، فإن
كان صاحبك حقّا فأحبّ أن يرجع إليّ لساني. وبتّ في الحجرة قلقاً من شدّة الألم
فأخذتني سنة من النوم فنمت فرأيت في منامي أنّ لساني قد عاد إلى حاله كما كان ،
فاستيقظت فوجدته في فيّ صحيحاً كما كان وأنا أتكلّم ، فقلت : الحمد لله الذي ردّ
عليّ لساني ، وازددت محبّة في أبي بكر رضى الله عنه.
فلمّا كان العام
الثاني في يوم عاشوراء اجتمعوا على عادتهم فخرجت إلى باب القبّة وقلت : أريد في
محبّة أبي بكر ديناراً ، فقام إليّ شابّ من الحاضرين وقال لي : اجلس حتى نفرغ.
فجلست ، فلمّا فرغوا خرج إليّ ذلك الشابّ وأخذ بيدي ومضى بي إلى تلك الدار فأدخلني
فيها ووضع بين يديّ طعاماً ، فلمّا فرغنا قام الشابّ وفتح
__________________
عليّ باباً على
بيت في الدار وجعل يبكي ، فقمت لأنظر ما سبب بكائه فرأيت في البيت قرداً مربوطاً ،
فسألته عن قضيّته فزاد بكاءً ، فسكّنته حتى سكن ، فقلت له : بالله أخبرني عن حالك.
فقال : إن حلفت لي أن لا تخبر أحداً من أهل المدينة أخبرتك ، فحلفت له ، فقال :
اعلم أنّه أتانا في عام أوّل رجل وطلب في محبّة أبي بكر رضى الله عنه شيئاً في
قبّة العبّاس يوم عاشوراء ، فقام إليه أبي وكان من أكابر الإماميّة والشيعة ، فقال
له : اجلس حتى نفرغ. فلمّا فرغوا أتى به إلى هذه الدار وسلّط عليه عبدين فضرباه ،
وأمر بقطع لسانه فقطع ، وأخرجه فمضى لسبيله ولم نعرف له خبراً ، فلمّا كان الليل
ونمنا صرخ أبي صرخة عظيمة فاستيقظنا من شدّة صرخته فوجدناه قد مسخه الله قرداً
ففزعنا منه وأدخلناه هذا البيت وربطناه ، وأظهرنا للناس موته ، وهو ذا نبكي عليه
بكرة وعشيّا. فقلت له : إذا رأيت الذي قطع أبوك لسانه تعرفه؟ قال : لا والله :
فقلت : أنا هو والله ، أنا الذي قطع أبوك لساني ، وقصصت عليه القصّة فأكبّ عليّ
يقبّل رأسي ويدي ، ثمّ أعطاني ثوباً وديناراً ، وسألني كيف ردّ الله عليّ لساني؟
فأخبرته وانصرفت.
مصباح الظلام
للجرداني (ص ٢٣) من الطبعة
الرابعة المصريّة المطبوعة بمطبعة الرحمانيّة بمصر سنة (١٣٤٧ ه) ، ونزهة المجالس
للصفوري (٢ / ١٩٥).
قال
الأميني : ما أحوج القوم
إلى اختلاق هذه الأساطير المشمرجة وهي لا يصدّقها أيّ قارٍ وبادٍ مهما يُقرّها قصّاص في أُذنيه ، ولا يصير بها الأمر إلى
قراره مهما حبكت نسقه يد الإفك ، وأبدعت في نسجه مهرة الافتعال.
أنّى يصدّق ذو
مسكة بأنّ رجلاً شهيراً يُعدّ من عِلْية قوم ومن أكابر أُمّة يُمسَخُ
__________________
ويُربط في داره
وهو بعدُ مجهول لا يعرف اسمه ، ولا ينبّئ عنه خبير ، ويسع لخلفه إخفاء أمره بدعوى
موته ، ولم يُسأل أهله عن تجهيزه وتشييعه ودفنه ومقبره وسبب موته ، وتتأتّى لولده
الغشية عليها عن أعين الناس وأسماعهم كأنّ في آذانهم صمماً وفي أبصارهم عمى.
ولما ذا أخذ ابن
الجاني ـ الذي لم يُخلق بعد لا هو ولا أبوه ـ ضيفه إلى والده وهو لا يعرف الرجل
ولم يخش من الفضيحة ، ولما ذا أوقفه على أمر أبيه وعواره وقد كان يستخفيه ويُظهر
للناس موته؟
وأنّى يُصدَّق
بأنّ رجلاً قُطع لسانه دون مبدئه وحبّه لخليفته قد استخفى قصّته ، وما أشاع بها ،
وما صاح وما باح بمظلمته ، وما أبان أمره عند قومه ، وما أفاض عن شأنه بكلمة ، ولا
يمّم قاضياً ولا حاكماً ولا الدوائر الحكوميّة الصالحة للنظر في مظلمته من عدليّة
أو دائرة شرطة ، وعقيرته مرفوعة من شدّة الألم ، ولم يزل القوم يتربّص الدوائر على
الشيعة ، ويختلق عليهم طامّات كهذه.
وأنّى يُصدّق أنّه
لمّا خرج من دار من جنى عليه وهو مقصوص اللسان وقد ملأ فمه دمه ، ولاذ بالحجرة
الشريفة باكياً قلقاً من شدّة الألم ، ما باه له أيّ أحد ، وما عرفت مع هذه كلّها
من أمره قُذَعْمِلة ، ولا تنبّه لأمره سدنة الحضرة الشريفة؟
وما بال الرجل لم
يُمط الستر في وقته عن جناية عدوّ خليفته ، ولم يُفش سرّه ، ولم يُعلن كرامة
الصدّيق ، ولم يفضح عدوّه ، ولم يُعرب عن هذه المكرمة الغالية ، ولم يقرّط الآذان
بسماعها ، وينبس أمره ولم ينبشه ، كأنّ لسانه بعدُ مقطوع ، وأنّه لم يجده في فيه
صحيحاً؟ أو رضي بأن يفشفش بعده أعلام قومه؟
وإن تعجب فعجب عود
هذا الشحّاذ الجريء إلى سؤاله مرّة ثانية في سنته
__________________
القابلة بعد أن
رأى ما رأى قبل أن أعوم ، ووقوفه في ذلك الموقف الخطر في قبّة العبّاس يوم عاشوراء
، ومضيّه من دون أيّ تحاشٍ إلى تلك الدار التي وقعت فيها واقعته الخطرة الهائلة ،
ودخوله فيها رابطاً جأشه ، وإلقاؤهُ نفسه إلى التهلكة ، ولم يكن يعرف شيئاً من
قصّة الشيعيّ ومسخه ، ولا من حنوّ الشابّ وعطفه ، وقد قال الله تعالى (وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) .
ولعلّه كان في هذه
كلّها على ثقة وطمأنينة من أنّه قطّ لا يبقى بلا لسان ، وأنّ لسانه مهما قُطع
يُردّ إليه كما كان من بركة الخليفة ، وهو في حسبانه هذا وقدومه إلى المهالك مجتهد
وله أجره وإن أخطأ كاجتهاد سلفه.
وقد أنصف الشيخ
الصالح المدني في اختلاق هذه القصّة على شيعيّ كبير لم يولد بعد ولم تسمّه أُمّه.
وجاء غيره بأسطورة معتوه قموص الحنجرة وافتجر في القول وأفجس ألا وهو الشيخ عليا المالكي ، قال الشيخ إبراهيم العبيدي
المالكي في عمدة التحقيق المطبوع بمصر في هامش روض الرياحين (ص ١٣٣) : سمعت خالي
العالم الشيخ عليا المالكي يقول : إنّ الرافضيّ إذا أشرف على الموت يقلب الله صورة
وجهه وجه خنزير ، فلا يموت إلاّ إذا مسخ وجهه وجه خنزير ، ويكون ذلك علامة على
أنّه مات على الرفض ، فيستبشرون بذلك الروافض ، وإن لم يقلب وجهه عند الموت يحزنون
ويقولون : إنّه مات سنّياً. انتهى.
وتخرّق بعض الثقات
في تاريخ حلب شاهداً على هذه المخرقة فقال : لمّا مات ابن
__________________
منير خرج جماعة من شبّان حلب يتفرّجون ، فقال بعضهم لبعض : قد
سمعنا أنّه لا يموت أحد ممّن كان يسبّ أبا بكر وعمر إلاّ ويمسخه الله تعالى في
قبره خنزيراً ، ولا شكّ أنّ ابن منير كان يسبّهما ، فأجمعوا رأيهم على المضيّ إلى
قبره ، فمضوا ونبشوه ، فوجدوا صورته خنزيراً ووجهه منحرفاً عن جهة القبلة إلى جهة
الشمال ، فأخرجوه على قبره ليشاهده الناس ، ثمّ بدا لهم أن يحرقوه فأحرقوه بالنار
وأعادوه في قبره وردّوا عليه التراب وانصرفوا.
وذكره العلاّمة
الجرداني في مصباح الظلام المؤلّف سنّة (١٣٠١) والمطبوع بمصر سنة (١٣٤٧) وقرّظه جمع
من الأعلام ألا وهم كما في آخر الكتاب : العالم العفيف السيّد محمود أنسي الشافعي
الدمياطي ، والعلاّمة الشيخ محمد جودة ، والعلاّمة الأوحد الشيخ محمد الحمامصي ،
وحضرة الفاضل اللبيب الشيخ عطية محمود قطارية ، والعالم العامل الشيخ محمد القاضي
، وحضرة الشاعر اللبيب محمد أفندي نجل العلاّمة الشيخ محمد النشّار.
ليست هذه النفثات
إلاّ كتيت الإحن ، ونغران الشحناء. وإن شئت قلت : إنّها سكرة الحبّ ، وسرَف
المغالاة. قد أعمت الأهواء بصائر أولئك الرجال فجاؤوا بهذه المخاريق المخزية ،
والأفائك المزخرفة ، بيّتوها غير مكترثين لمغبّة صنيعهم ، ولا متحاشين عن معرّة
قيلهم ، وشتّان بينها وبين أدب الدين ، أدب العلم ، أدب التأليف ، أدب العفّة ، أدب
الدعاية والنشر : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً)
__________________
(وَلا يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) .
كأنّ هؤلاء
يحدّثون عن أُمّة بائدة لم يُبقِ لها الملوان من يشاهده أحد من الأجيال الحاضرة ،
أو ليست الشيعة هؤلاء الذين هم مبثوثون في أرجاء العالم وأجواء الأمم ، يشاهدهم
كلّ ذي بصر وبصيرة أحياءً وأمواتاً؟ فمن ذا الذي شهد أحدهم أنّه انقلب عند موته
خنزيراً غير أولئك الشبّان الموهومين الذين شاهدوا ابن منير في قبره؟ وهل الشيخ
عليا المالكي هو وجد أحداً من الشيعة كما وصفه؟ أو رُوي له ذاك الإفك فوثق به كما
وثق العبيدي؟ وهل كان يمكنه أن يقف على الموتى جميعاً أو أكثرهم وليس هو بمغسّل
الموتى أو من حفّاري القبور ولا من نبّاشيها؟
على أنّ التشيّع
ليس من ولائد تلكم العصور وإنّما بدأ به منذ العهد النبويّ ، فهل كان السلف
الشيعيّ من الصحابة والتابعين يموتون كذلك وكان فيهم من يعرف بالتشيّع كأبي ذر
وسلمان وعمّار والمقداد وأبي الطفيل؟ فهل يسحب هذا الرجل ذيل مزعمته إلى ساحة
أُولئك الأعاظم؟ قطعت جهيزة قول كلّ خطيب .
ـ ١٠ ـ
أبو بكر شيخ يُعرف والنبيّ شابّ لا يُعرف
عن أنس بن مالك
قال : أقبل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة ، وأبو بكر شيخ يُعرف والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شابّ لا يُعرف ؛ فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر من هذا الذي
__________________
بين يديك؟ فيقول :
يهديني السبيل ، فيحسب الحاسب أنّه يهديه الطريق وإنّما يعني سبيل الخير.
وفي لفظ : إنّ أبا
بكر كان رديف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان أعرف بذلك الطريق فيراه الرجل يعرفه فيقول : يا أبا
بكر من هذا الغلام بين يديك؟ وفي لفظ أحمد : كانوا يقولون : يا أبا بكر ما هذا
الغلام بين يديك؟ فيقول : هذا يهديني السبيل. وفي لفظ : قالوا : يا أبا بكر من هذا
الذي تعظّمه هذا الإعظام؟ قال : هذا يهديني الطريق وهو أعرف به منّي.
وفي رواية : ركب
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وراء أبي بكر ناقته. وفي التمهيد لابن عبد البرّ : أنّه
لمّا أُتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يركب ويردفه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : بل أنت اركب وأردفك أنا فإنّ الرجل أحقّ بصدر دابّته ،
فكان إذا قيل له : من هذا وراءك؟ قال : هذا يهديني السبيل.
وفي لفظ : لمّا
قدم صلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة تلقّاه المسلمون ، فقام أبو بكر للناس ، وجلس
النبيّ صامتاً ، وأبو بكر شيخ والنبيّ شابّ ، فطفق من جاء من الأنصار ممّن لم ير
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يجيء أبا بكر فيعرّفه بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه برادئه ، فعرفه الناس عند
ذلك.
صحيح البخاري باب
هجرة النبيّ (٦ / ٥٣) ، سيرة ابن هشام (٢ / ١٠٩) ، طبقات ابن سعد (١ / ٢٢٢) ، مسند
أحمد (٣ / ٢٨٧) ، معارف ابن قتيبة (ص ٧٥) ، الرياض النضرة (١ / ٧٨ ، ٧٩ ، ٨٠) ،
المواهب اللدنيّة (١ / ٨٦) ، السيرة الحلبية (٢ / ٤٦ ، ٦١) .
__________________
قال
الأميني : ما أنزل الدهر
نبيّ الإسلام حتى قيل : إنّه شابّ لا يُعرف. كأنّه غلام نكرة اتّخذه شيخ انتشر
صوته كصيته بين الناس دليلاً في مسيره يرتدفه تارة ويمشّيه بين يديه أخرى ، ومهما
سئل عنه يقول : هذا يهديني الطريق وهو أعرف به منّي ، كأنّ نبي الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن ذلك الذي كان يعرض نفسه على القبائل في كلّ موسم
فعرفوه على بَكرة أبيهم من آمن منهم ومن لم يؤمن ، خصوصاً الأنصار المدنيين منهم
وفيهم رجال الأوس والخزرج ، وقد بايعوه عند العقبة الأولى مرة ، وبايعه منهم مرّة
ثانية عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان.
وكأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن ذلك الذي أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة قبله ،
وكان بتلك الهجرة غلّقت أبواب ، وخلت دور أُناس من السكنى وهاجر أهلها رجالاً
ونساءً وكان في مقدّم المهاجرين ما يناهز ستّين رجلاً ، فلم يبق في مكة المعظّمة
من أسلم معه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ أمير المؤمنين وأبو بكر وكأنّ المدينة ليست بدار بني
النجّار وهم خؤولة النبيّ الأقدس.
وكأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن الذي اتّخذ المدينة قاعدة ملكه ، وعاصمة حكومته ،
ومعسكر نهضته ، فبثّ فيها رجاله وخاصّته من أهلها ومن المهاجرين ، فكانوا يرقبون
مقدمه الشريف في كلّ حين حتى إذا وافوه مقبلاً عليهم استقبلوه بقضّهم وقضيضهم
وفيهم أهل البيعتين ومن تقدّمه من المهاجرين وكلّهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ،
وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مكث في قباء عند بني عمرو بن عوف أيّاماً وليالي حتى أسّس
مسجده الشريف فيها ، فعرفه كلّ من في قباء ممّن لم يكن يعرفه قبل من رجال الأوس
والخزرج ، واتّصل به كلّ من قدمها من المدينة فعرفوه جميعاً ، وقد صلّى الجمعة في
قباء وفي بطن الوادي وادي رانونا وائتمّ به من حضر من المسلمين عامّة.
وبقضاء من الطبيعة
أنّ الناس عند التطلّع إلى رؤيته صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يومي إليه كلّ عارف ، ويسأل عنه كلّ جاهل ، ويتقدّم
المبايعون إلى التعرّف به والتزلّف إليه ، فلا
يبقى في المجتمع
جاهل به حتى يسأل أبا بكر عنه في انتقاله من بني عمرو بقوله : من هذا الغلام بين
يديك يا أبا بكر؟
فكأنّ القادم رجل
عادي ما دوّخ صيته الأقطار ، ولم يره بشر من ذلك الجمع الحافل ، ولم يحتفل به ذلك
الاحتفال ، ولا احتفي به تلك الحفاوة ، وما صعدت ذوات الخدور على الأجاجير وما هزجت الصبيان والولائد بقولهنّ :
طلع البدر علينا
|
|
من ثنّيات
الوداعِ
|
وجب الشكر علينا
|
|
ما دعا لله داع
|
أيُّها المبعوث
فينا
|
|
جئت بالأمر
المطاعِ
|
وكأنّه قدم في
صورة منكرة بلا أيّ تقدمة إلى بلد لا يعرفه فيه أحد حتى خصّ السؤال عنه بأبي بكر
فحسب.
ثمّ ما هذه
التعمية في جواب أبي بكر بقوله : إنّه يهديني السبيل. يريد سبيل السعادة فيحسب
الحاسب أنّه يهديه الطريق؟ ألخوف كانت ولم يَرِد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ على العدّة والعدد والمتعة والعزّة ، وقد بايعته
الأنصار على التفاني دونه؟ أو كان يخاف أبو بكر قريشاً وهو في حصن الدين المنيع
ودرعه الحصينة؟ أم كانت لغير ذلك؟ فاسأل عنه خبيراً. والعجب كلّ العجب أنّ رجلاً
هذه سيرته في التقيّة عن الناس في عاصمة الإسلام بين فرسان المهاجرين والأنصار كيف
صحّ عنه ما جاء عن ابن مسعود وما روي عن مجاهد مرسلاً من قولهم : إنّ أوّل من أظهر
الاسلام سبعة : رسول الله ، وأبو بكر إلى آخره .
__________________
على أنّ الحالة
كانت تقتضي أن يُسأل كلّ قادم إلى المدينة يوم ذاك عن شخص رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوان نزوله بها لا عن الغلام بين أيدي أبي بكر.
والعجب أنّ الجهل
برسول الله في مزعمة هذا الراوي كان مستمرّا بين مستقبليه ـ وكلّهم نفوسهم نزّاعة
إلى عرفانه والتبرّك برؤيته ـ حتى ظلّله أبو بكر بردائه فعرفه الناس عند ذلك.
ومتى كان أبو بكر
شيخاً والنبيّ شابّا وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أكبر منه بسنتين وعدّة أشهر كما يأتي تفصيله إن شاء الله؟
وابن قتيبة أخذ هذا الحديث بظاهره فقال في المعارف (ص ٧٥):
هذا الحديث يدلّ على
أنّ أبا بكر كان أسنّ من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمدّة طويلة ، والمعروف عند أهل الأخبار ما حكيناه. انتهى.
وحكى قبل هذا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هو أكبر سنّا من أبي بكر.
نعم ؛ عرف شرّاح
البخاري من المتأخّرين موضع الغمز ، فأوّلوا كون أبي بكر شيخاً بظهور الشيب في
لحيته ، وكون النبيّ شابّا بسواد كريمته ، والعارف بأساليب الكلام يعلم أنّه تمحّل
محض ، وأنّ المفهوم من تلك كما فهمه ابن قتيبة ؛ كون أبي بكر شيخاً ورسول الله
شابّا لا غير ذلك. وإلاّ فما معنى قولهم : ما هذا الغلام بين يديك؟ أو : من هذا
الغلام بين يديك؟ ومن المعلوم أنّ الغلام لا يطلق على من عمره خمسون سنة تقريباً
مهما اسودّ عارضه.
وعلى صحّة هذا
التأويل أين المؤوّلون من صحيحة ابن عبّاس ، قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد
شبت. قال : «شيّبتني هود والواقعة» الحديث. وروى مثله الحفّاظ عن ابن مسعود ، وفي
لفظ أبي جحيفة : قالوا : يا رسول الله نراك قد شبت.
__________________
قال : «شيّبتني
هود وأخواتها» .
فهذه الصحيحة تعرب
عن أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد بان فيه الشيب على خلاف الطبيعة ، وأسرع فيه حتى
أصبح مسؤولاً عنه وعمّا أثّره فيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأين منها ذلك التأويل البارد؟
وربما يُقال في
حلّ مشكلة ـ يُعرف ولا يُعرف ـ : إنّ أبا بكر كان تاجراً عرفه الناس في المدينة
عند اختلافه إلى الشام ، لكنّه على فرض تسليم كونه تاجراً ، وعلى تقدير تسليم سفره
إلى الشام ودون إثباته خرط القتاد ، مقابل بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً كان يحاول التجارة يستطرق المدينة إلى الشام ، فلو
كانت التجارة بمجرّدها تستدعي معرفة الناس بالتاجر فهو في النبيّ الأعظم أولى لأنّ
شرفه المكتسب ، وشهرته بالأمانة ، وعظمته في النفوس ، وتحلّيه بالفضائل ، وبروز
عصمته وقداسته عند الناس من أوّل يومه ، وشرفه الطائل في نسبه ؛ أجلب لتوجّه
النفوس إليه ، بخلاف التاجر الذي هو خلو من كلّ ذلك.
على أنّ التاجر
متى هبط مصراً فعارفوه رجال معدودون ممّن شاركوه في الحرفة ، أو شارفوه في
المعاملة ، وهذا التعارف يخصّ بأُناس تُعدّ بالأنامل لا عامّة الناس كما حسبوه.
وأنّى هذا من سفر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة وأبو بكر يوم ذاك يرضع من ثدي أُمّه ، خرجت به
صلىاللهعليهوآلهوسلم [ أمّه ] لمّا بلغ ستّ سنين من عمره إلى أخواله بني عدي بن
النجّار بالمدينة تزور به أخواله ومعه أمّ أيمن ، فنزلت به في دار النابغة
__________________
رجل من بني عديّ
بن النجار فأقامت به شهراً. وممّا وقع في تلك السفرة :
قالت أُمّ أيمن :
أتاني رجلان من اليهود يوماً نصف النهار بالمدينة فقالا : أخرجي لنا أحمد. فأخرجته
ونظرا إليه وقلّباه مليّا ثمّ قال أحدهما لصاحبه : هذا نبيّ هذه الأُمّة ، وهذه
دار هجرته ، وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم. قالت أُمّ أيمن : وعيت
ذلك كلّه من كلامهما . أبعد هذه كلّها ، وبعد تلكم الإرهاصات للنبوّة التي ملأت
بين الخافقين ، وبعد ذلك الصيت الطائل الذي دوّخ الأقطار ، وبعد مضيّ خمسين سنة من
عمره الشريف صلىاللهعليهوآلهوسلم رسول الله شابّ لا يُعرف وأبو بكر شيخ يُعرف ، يُسأل عنه :
من هذا الغلام بين يديك؟
ولإيضاح هذه الجمل
من الحريّ أن نسرد كيفيّة هجرته صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى تزيد بصيرة القارئ على موقع الإفك من هذه المجهلة
المأثورة في الصحاح والمسانيد الصادرة عن الغلوّ في الفضائل عمياً وصمّا. فأقول :
الأنصار في
البيعتين :
كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يعرض نفسه على القبائل في المواسم إذ كان يدعوهم إلى الله
ويخبرهم أنّه نبيّ مرسل فعرض نفسه على كندة ، وعلى بني عبد الله بطن من كلب ، وعلى
بني حنيفة ، وعلى بني عامر بن صعصعة ، وعلى قوم من بني عبد الأشهل. فلمّا أراد
الله عزّ وجلّ إظهار دينه ، وإعزاز نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنجاز موعده له ، خرج صلىاللهعليهوآلهوسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على
قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم ، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج
أراد الله بهم خيراً وفيهم : أسعد بن زرارة أبو أُمامة النجاري ، وعوف بن الحرث بن
عفراء ، ورافع بن مالك ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر
بن عبد الله.
__________________
فكلّمهم رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن
فأجابوه فيما دعا إليهم ثمّ انصرفوا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدّقوا.
فلمّا قدموا
المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور
الأنصار إلاّ وفيها ذكر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا
عشر رجلاً فلقوه بالعقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب ، وهم :
أبو أُمامة أسعد بن زرارة ، وعوف بن عفراء ، ومعاذ بن عفراء ، ورافع بن مالك ،
وذكوان بن عبد قيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، والعبّاس بن عبادة ،
وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وأبو الهيثم بن التيّهان ، وعويم بن ساعدة.
قال عبادة بن
الصامت : بايعنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلة العقبة الأولى : على أن لا نشرك بالله شيئاً ، ولا
نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا
، ولا نعصيه في معروف.
فلمّا انصرف القوم
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلّمهم الإسلام ، ويفقّههم في
الدين ، ويقيم فيهم الجمعة والجماعة ، وكان مصعب يسمّى بالمدينة : المقرئ ، وكان
منزله على أسعد ابن زرارة أبي أُمامة النجاري. وكان يصلّي بهم الجمعة والجماعة
فأقام عنده يدعوان الناس الى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها
رجال ونساء مسلمون.
ثمّ إنّ مصعب بن
عمير رجع إلى مكّة ، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجّاج
قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكّة فواعدوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم العقبة من أوسط أيّام التشريق. قال كعب : فلمّا فرغنا من
الحجّ وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام
__________________
أبو جابر سيّد من
ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا ، ثمّ دعوناه إلى الإسلام فأسلم وشهد معنا
العقبة ، وكان نقيباً ، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث
الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً
، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب أمّ عمارة ، وأسماء بنت عمرو أمّ منيع.
قال : فتكلّم رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثمّ قال : «أبايعكم
على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم». فأخذ البراء بن معرور بيده ثمّ
قال : نعم والذي بعثك بالحقّ لنمنعنّك عمّا نمنع منه أُزُرَنا فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحروب ، وأهل
الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم
بما فيهم». فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وهم :
١ ـ أبو أمامة
أسعد بن زرارة الخزرجي.
٢ ـ سعد بن الربيع
بن عمرو الخزرجي.
٣ ـ عبد الله بن
رواحة بن امرئ القيس الخزرجي.
٤ ـ رافع بن مالك
بن العجلان الخزرجي.
٥ ـ البراء بن
معرور بن صخر الخزرجي.
٦ ـ عبد الله بن
عمرو بن حرام الخزرجي.
٧ ـ عبادة بن
الصامت بن قيس الخزرجي.
٨ ـ سعد بن عبادة
بن دُليم الخزرجي.
٩ ـ المنذر بن
عمرو بن خنيس الخزرجي.
١٠ ـ أسيد بن حضير
بن سماك الأوسي.
__________________
١١ ـ سعد بن خيثمة
بن الحرث الأوسي.
١٢ ـ رفاعة بن عبد
المنذر بن زنبر الأوسي. وقد يعدّ بمكانه أبو الهيثم بن التّيهان.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للنقباء : «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة
الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي ـ يعني المسلمين ـ». قالوا : نعم.
قال العبّاس بن
عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا
: نعم. قال : إنّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون
أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً ، وأشرافكم قتلاً اسلمتموه فمن الآن ، فهو والله إن
فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة
الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا : فإنّا نأخذه على
مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : «الجنّة».
قالوا : ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه.
فقال له العبّاس
بن عبادة : والله الذي بعثك بالحقّ إن شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا. قال
: فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لم نُؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم». فرجعوا إلى
مضاجعهم. فلمّا قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على
دينهم من الشرك. وكان أهل بيعة العقبة الآخرة ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين وهم :
أُسيد بن حُضير
النقيب ، أبو الهيثم بن التيّهان النقيب ، سلمة بن سلامة الأسهلي ، ظهير بن رافع
الخزرجي ، أبو بردة بن نِيار بن عمرو ، نُهَير بن الهيثم الحارثي ، سعد بن خيثمة
النقيب ، رفاعة بن عبد المنذر النقيب ، عبد الله بن جبير
ابن النعمان ، معن
بن عديّ بن الجد ، عويم بن ساعدة الأوسي ، أبو أيّوب خالد الأنصاري ، معاذ بن
الحارث الأنصاري ، أسعد بن زرارة النقيب ، سهيل بن عتيك النجاري ، أوس بن ثابت
الخزرجي ، أبو طلحة زيد بن سهل ، قيس بن أبي صعصعة النجاري ، عمرو بن غزية الخزرجي
، سعد بن الربيع النقيب ، خارجة بن زيد الخزرجي ، عبد الله بن رواحة النقيب ، بشير
بن سعد الخزرجي ، خلاّد بن سويد الخزرجي ، عقبة بن عمرو الخزرجي ، زياد بن لبيد
الخزرجي ، فروة بن عمرو الخزرجي ، خالد بن قيس الخزرجي ، رافع بن مالك النقيب ،
ذكوان بن عبد قيس الخزرجي ، عبادة بن قيس الخزرجي ، الحارث بن قيس الخزرجي ،
البراء بن معرور النقيب ، بشر بن البراء الخزرجي ، سنان بن صيفي الخزرجي ، الطفيل
بن النعمان الخزرجي ، معقل بن المنذر الخزرجي ، يزيد بن المنذر الخزرجي ، مسعود بن
يزيد الخزرجي ، الضحّاك بن حارثة الخزرجي ، يزيد بن خزام الخزرجي ، جبار بن صخر
الخزرجي ، الطفيل بن مالك الخزرجي ، كعب بن مالك الخزرجي ، سليم بن عمرو الخزرجي ،
قطبة بن عامر الخزرجي ، يزيد بن عامر الخزرجي ، كعب بن عمرو الخزرجي ، صيفي بن
سواد الخزرجي ، ثعلبة بن غنمة السلمي ، عمرو بن غنمة السلمي ، عبد الله بن أنيس
السلمي ، خالد بن عمرو السلمي ، عبد الله بن عمر النقيب ، جابر بن عبد الله السلمي
، ثابت بن ثعلبة السلمي ، عمير بن الحارث السلمي ، خديج ابن سلامة بن الفرافر ،
معاذ بن جبل الخزرجي ، أوس بن عباد الخزرجي ، عبادة بن الصامت النقيب ، غنم بن عوف
الخزرجي ، العبّاس بن عبادة الخزرجي ، أبو عبد الرحمن بن يزيد الخزرجي ، عمرو بن
الحرث الخزرجي ، رفاعة بن عمرو الخزرجي ، عقبة بن وهب الجشمي ، سعد بن عبادة
النقيب ، المنذر بن عمرو النقيب ، عوف بن الحارث الأنصاري ، معوذ بن الحارث
الأنصاري ، عمارة بن حزم الأنصاري ، عبد الله بن زيد مناة الخزرجي.
نبأ الهجرة :
فلمّا عتت قريش
على الله عزّ وجلّ ، وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذّبوا نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعذّبوا ونفوا من عبده ووحّده وصدّق نبيّه واعتصم بدينه
أذن الله عزّ وجلّ لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في القتال فنزل قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ثمّ الآية أنزل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) .
فلمّا أذن الله
تعالى له صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحرب وتابعه هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام والنصرة
له ولمن اتّبعه ، وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكّة من المسلمين
بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : إنّ
الله عزّ وجلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها. فخرجوا أرسالاً وأقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربّه في الخروج من مكّة والهجرة إلى
المدينة ، فهاجر بنو جحش فغلّقت دورهم هجرة تخفق أبوابها يَبابا ، ليس فيها ساكن
خلاء من أهلها. وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرةً
نساءهم ورجالهم ، ثمّ تتابع المهاجرون وفيهم :
أبو سلمة بن عبد
الأسد ، عامر بن ربيعة الكعبي ، عبد الله بن جحش ، عبد بن جحش أبو أحمد ، عكاشة بن
محصن ، شجاع بن وهب ، عقبة بن وهب ، عربد بن حمير ، منقذ بن نباتة ، سعيد بن رُقيش
، محرز بن نضلة ، يزيد بن رُقيش ، قيس بن
__________________
جابر ، عمرو بن
محصن ، مالك بن عمرو ، صفوان بن عمرو ، ثقف بن عمرو ، ربيعة بن أكثم ، الزبير بن
عبيدة ، تمام بن عبيدة ، سخبرة بن عبيدة ، محمد بن عبد الله بن جحش ، عمر بن
الخطّاب ، عياش بن أبي ربيعة ، زيد بن الخطّاب ، عمرو بن سراقة ، عبد الله بن
سراقه ، خنيس بن حذافة ، إياس بن البكير ، عاقل بن البكير ، عامر بن البكير ، خالد
بن البكير ، طلحة بن عبيد الله ، حمزة بن عبد المطّلب ، صهيب بن سنان ، زيد بن
حارثة ، كنار بن حصين ، عبيدة بن الحارث ، الطفيل بن الحارث ، الحصين بن الحرث ،
مسطح بن أثاثة ، سويبط بن سعد ، طليب بن عمير ، خبّاب مولى عتبة ، عبد الرحمن بن
عوف ، الزبير بن عوام ، أبو سبرة بن أبي رهم ، مصعب بن عمير ، أبو حذيفة بن عتبة ،
سالم مولى أبي حذيفة ، عتبة بن غزوان ، عثمان بن عفان ، أنسة مولى رسول الله ، أبو
كبشة مولى رسول الله.
وأقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.
ولم يتخلّف معه بمكّة أحد من المهاجرين إلاّ من حُبس أو فُتن ، إلاّ عليّ بن أبي
طالب وأبو بكر بن أبي قحافة حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الهجرة والخروج
من مكّة من بين ظهري قومه ، وما كان يعلم بخروجه صلىاللهعليهوآلهوسلم أحد حين خرج إلاّ عليّ بن أبي طالب وأبو بكر الصدّيق وآل
أبي بكر ، أما عليّ فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبره بخروجه وأمره أن يتخلّف بعده بمكّة ، حتى يؤدّي عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الودائع التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس بمكّة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده لما يعلم
من صدقه وأمانته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فلمّا أجمع رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخروج خرج ومعه أبو بكر ثمّ عمدا إلى غارٍ بثور ـ جبل
بأسفل مكّة ـ فدخلاه فأقام فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثلاثاً ومعه صاحبه.
ثمّ خرج بهما
دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكّة ثمّ مضى بهما على
الساحل أسفل من
عُسفان ثمّ سلك بهما على أسفل أمج ثمّ استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز
قُدَيداً ثمّ أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرّار ثمّ سلك بهما ثنيّة المرة ، ثمّ سلك بهما لقفاً ، ثمّ استبطن بهما مدلجة مجاج ثمّ سلك بهما مرجح مجاج ثمّ تبطّن بهما مرجح من ذي العضوين ـ الغضوين ـ ثمّ بطن ذي كشر ثمّ أخذ بهما على الجداجد ثمّ على الأجرد ثمّ سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مدلجة تعهن ثمّ على العبابيد ثمّ أجاز بهما الفاجة ثمّ هبط بهما العرْج ، فحمل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل له ـ يقال له :
ابن الرداء ـ إلى المدينة ، وبعث معه غلاماً له ، يقال له مسعود بن هُنيدة ، ثمّ
خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنيّة
__________________
العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رئم ثمّ قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف حين اشتدّ الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
ولمّا دنوا من
قباء بعثوا رجلاً من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار ، فثار
المسلمون إلى السلاح واستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار فوافوه وهو مع أبي بكر في
ظلّ نخلة ، ثمّ قالوا لهما : اركبا آمنين مطاعين. فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل
بقباء في دار بني عمرو بن عوف ، فأقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم
الأربعاء ويوم الخميس وأسّس مسجده ، وقد يقال كما في سنن أبي داود (١ / ٧٤) : إنّه
أقام في قباء أربع عشرة ليلة ، وحكى موسى ابن عقبة اثنتين وعشرين ليلة. وقال
البخاري : بضع عشرة ليلة ، وبقباء كانت منازل الأوس والخزرج.
ثمّ أخرجه الله من
بين أظهرهم يوم الجمعة فأدركت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاّها في المسجد الذي في بطن
الوادي وادي رانوناء ، فكانت أوّل جمعة صلاّها بالمدينة.
قال عبد الرحمن بن
عويم : حدّثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
قالوا : لمّا
سمعنا بمخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكّة وتوكّفنا قُدومه كنّا نخرج إذا صلّينا الصبح إلى ظاهر حرّتنا ننتظر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم
نجد ظلاّ دخلنا ، وذلك في أيّام حارّة.
فلمّا قدم رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة وصلّى الجمعة أتاه عتبان بن مالك وعبّاس بن عبادة
بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا في العدد
والعُدّة والمنعة. قال : «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» ـ يعني ناقته ـ فخلّوا
سبيلها. فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بني بياضة ، تلقّاه زياد بن لبيد ، وفروة بن
عمرو في رجال من بني بياضة ، فقالوا : يا رسول الله هلمّ إلينا إلى العَدَد
والعدّة والمنعة. قال : «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» ، فخلّوا سبيلها. فانطلقت ،
حتى إذا مرّت بدار بني ساعدة ، اعترضه سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو في رجال من
بني ساعدة ، فقالوا : يا رسول الله هلمّ إلينا إلى العَدَد والعُدّة والمنعة. قال
: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» ، فخلّوا سبيلها. فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بني
الحرث بن الخزرج اعترضه سعد ابن الربيع ، وخارجة بن زيد ، وعبد الله بن رواحة في
رجال من بني الحرث بن الخزرج ، فقالوا : يا رسول الله هلمّ إلينا إلى العَدَد
والعُدّة والمنعة. قال : «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة». فخلّوا سبيلها. فانطلقت ،
حتى إذا مرّت بدار بني عديّ بن النجار اعترضها سليط بن قيس ، وأبو سليط أسيرة بن
أبي خارجة في رجال من بني عديّ فقالوا : يا رسول الله هلمّ إلى أخوالك إلى العَدَد
والعُدّة والمنعة. قال : «خلّوا سبيلها ، فإنّها مأمورة». فخلّوا سبيلها. فانطلقت
، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار ، بركت على باب مسجده صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجّار : سهل وسهيل ابني عمرو ،
فلمّا بركت ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليها لم ينزل وثبَتْ ، فسارت غير
__________________
بعيد ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثمّ التفتت إلى خلفها
فرجعت إلى مبركها أوّل مرّة ، فبركت فيه ، ثمّ تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاحتمل أبو أيّوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته ونزل
عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء : هو يا
رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي ، وسأرضيهما منه فاتّخذه مسجداً.
راجع سيرة ابن هشام (٢ / ٣١ ـ ١١٤) ، تاريخ الطبري (٢ / ٢٣٣ ـ ٢٤٩)
، طبقات ابن سعد (١ / ٢٠١ ـ ٢٢٤) ، عيون الأثر (١ / ١٥٢ ـ ١٥٩) ، الكامل لابن
الأثير (٢ / ٣٨ ، ٤٤) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ١٣٨ ـ ٢٠٥) ، تاريخ أبي الفدا (١ /
١٢١ ـ ١٢٤) ، الإمتاع للمقريزي (ص ٣٠ ـ ٤٧) ، السيرة الحلبيّة (٢ / ٣ ـ ٦١).
ـ ١١ ـ
أبو بكر أسنّ من النبيّ
عن يزيد بن الأصم : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لأبي بكر : أنا أكبر أو أنت؟ قال : لا بل أنت أكبر
منّي وأكرم وخير منّي ، وأنا أسنّ منك.
__________________
أخرجه ابن الضحّاك
، وذكره أبو عمر في الاستيعاب (٢ / ٢٢٦) ، والمحبّ الطبري في الرياض النضرة (١ / ١٢٧) ،
والسيوطي في تاريخ الخلفاء (ص ٧٢) نقلاً عن
خليفة بن خيّاط ، وأحمد بن حنبل ، وابن عساكر .
قال الأميني : أو
لا تعجب من أُكذوبة تُعدّ أُكرومة؟ متى تصحّ رواية يزيد بن الأصم عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يُدركه ، فإنّ الرجل توفّي سنة (١٠١ ، ١٠٣ ، ١٠٤) وهو
ابن ثلاث وسبعين سنة ، فولادته بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بدهر.
ثمّ متى كان أبو
بكر أسنّ من النبيّ وقد وُلد صلىاللهعليهوآلهوسلم في عام الفيل ، ووُلد أبو بكر بعد عام الفيل بثلاث سنين.
وقال سعيد بن المسيب : استكمل أبو بكر بخلافته سنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتوفّي وهو بسنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن ثلاث وستين سنة. راجع :
المعارف لابن قتيبة (ص ٧٥) وقال : اتّفقوا على أنّ عمره ثلاث وستون
سنة ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أسنّ من أبى بكر بمقدار سنّي خلافته. صحيح الترمذي (٢ / ٢٨٨) وفيه :
أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم توفّي وهو ابن خمس وستين سنة ، سيرة ابن هشام (١ / ٢٠٥) ،
تاريخ الطبري (٢ / ١٢٥ و ٤ / ٤٧)
، الاستيعاب (١ / ٣٣٥) وقال :
لا يختلفون أنّ سنّه انتهت إلى حين وفاته ثلاثاً وستّين سنة إلاّ ما لا يصحّ ،
وأنّه استوفى بخلافته بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال في الجزء الثاني (ص ٦٢٦) بعد ذكر حديث يزيد الأصم :
هذا الخبر لا يعرف إلاّ بهذا الإسناد ، وأحسبه وهماً لأنّ
__________________
جمهور أهل العلم
بالأخبار والسير والآثار يقولون : إنّ أبا بكر استوفى بمدّة خلافته سنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. توفّي وهو ابن ثلاث وستين سنة . الكامل (١ / ١٨٥ و ٢ / ١٧٦) ، أُسد الغابة (٣ / ٢٢٣) ،
مرآة الجنان (١ / ٥٦ ، ٦٩) ، مجمع الزوائد (٩ / ٦٠) ، عيون الأثر (١ / ٤٣) ،
الإصابة (٢ / ٣٤١ ، ٣٤٤) ، السيرة الحلبيّة (٣ / ٣٩٦).
نعم : هذه
المساءلة وقعت بينه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين سعيد بن يربوع المخزومي كما رواها البغوي وابن مندة ، وابن يربوع توفّي سنة (٥٤) وله (١٢٠) سنة. وقيل : وزيادة
أربع. ولمّا كانت شيبة أبي بكر وكبر سنّه هي الحجّة الوحيدة على مخالفيه يوم السقيفة
فأيّدها المغالون في فضائله بأمثال هذه المخاريق المفتعلة ، وتحريف التاريخ عن
مواضعه والله يعلم إنَّهم لكاذبون.
ـ ١٢ ـ
إسلام أبي بكر قبل ولادة عليّ
عن شبابة عن فرات
بن السائب قال : قلت لميمون بن مهران : أبو بكر الصدّيق أوّل إيماناً بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أم عليّ بن أبي طالب؟ قال : والله لقد آمن أبو بكر بالنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم زمن بحيرا الراهب ، واختلف فيما بينه وبين خديجة حتى
أنكحها إيّاه ، وذلك كلّه قبل أن يولد عليّ بن أبي طالب.
وعن ربيعة بن كعب قال : كان إسلام أبي بكر شبيهاً بالوحي من السماء وذلك
أنّه كان تاجراً بالشام فرأى رؤيا فقصّها على بحيرا الراهب ، فقال له : من أين أنت؟
فقال : من مكّة. فقال : من أيّها؟ قال : من قريش. قال : فأيّ شيء أنت؟ قال :
__________________
تاجر. قال : إن
صدّق الله رؤياك فإنّه يُبعث نبيّ من قومك تكون وزيره في حياته وخليفته من بعد
وفاته. فأسرّ ذلك أبو بكر في نفسه حتى بُعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاءهُ فقال : يا محمد ما الدليل على ما تدّعي؟ قال :
الرؤيا التي رأيت بالشام ، فعانقه وقبّل بين عينيه وقال : أشهد أن لا إله إلاّ
الله ، وأشهد أنّك رسول الله.
وقال الإمام النووي
: كان أبو بكر أسبق الناس إسلاماً ، أسلم وهو ابن عشرين سنة ، وقيل : خمس عشرة
سنة.
راجع الرياض النضرة (١ / ٥١ ، ٥٤) ، أُسد الغابة (١ / ١٦٨) ،
تاريخ ابن كثير (٩ / ٣١٩) ، الصواعق المحرقة (ص ٤٥) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٢٤)
، الخصائص الكبرى (١ / ٢٩) ، نزهة المجالس (٢ / ١٨٢).
قال
الأميني : هلمّ معي ننظر
إلى هذه المراسيل هل توجد فيها مسحة من الصدق؟ أمّا رواية ابن مهران سنداً :
١ ـ فشبابة بن
سوار أبو عمرو المدائني : قال أحمد : تركته لم أكتب عنه للإرجاء وكان داعية ، وقال
ابن خراش : كان أحمد لا يرضاه وهو صدوق في الحديث ، وقال الساجي وابن عبد الله
وابن سعد والعجلي وابن عدي : إنّه كان يقول بالإرجاء.
وقبل هذه كلّها
يظهر ممّا رواه أبو علي المدائني : أنّه كان يبغض أهل بيت
__________________
النبيّ صلوات الله
عليهم ، وضربه الله بالفالج لدعاء من دعا عليه بقوله : اللهمّ إن كان شبابة يبغض
أهل نبيّك فاضربه الساعة بالفالج ، ففلج في يومه ومات. ميزان الاعتدال (١ / ٤٤٠).
تهذيب التهذيب (٤ / ٣٠٢).
٢ ـ فرات بن
السائب الجزري : قال البخاري : منكر الحديث. وقال يحيى بن معين : ليس بشيء ، منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره : متروك. وقال أحمد بن حنبل : قريب من محمد بن زياد
الطحان في ميمون يتّهم بما يتّهم به ذاك. ومحمد بن زياد هو اليشكري أحد الكذّابين
الوضّاعين كما مرّ في (٥ / ٢٥٨) ، ففرات عند إمام الحنابلة كذّاب وضّاع. وقال أبو
حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث. وقال الساجي : تركوه. وقال النسائي : متروك
الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث. وقال ابن عدي : له أحاديث غير محفوظة وعن ميمون مناكير. ميزان الاعتدال (٢ / ٣٢٥) ، لسان
الميزان (٤ / ٤٣٠).
٣ ـ ميمون بن
مهران : حسبه ما مرّ في رواية فرات عنه ، أضف إلى ذلك قول العجلي : إنّه كان يحمل
على عليّ. كما في تهذيب ابن حجر (١٠ / ٣٩١). هب
أنّه وثَّقه من وثّقه ، فما قيمته وقيمة حديثه بعد تحامله على عليّ أمير المؤمنين
صلوات الله عليه.
ثمّ قد أتى ميمون
في حديثه بأمرين : إسلام أبي بكر زمن بحيرا ، واختلافه في
__________________
زواج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خديجة. أمّا اختلافه بينه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين خديجة فلم ينبّئ عنه قطّ خبير. وليس من الجائز أن
يكون الوسيط في قران رجل عظيم كمحمد وامرأة من بيت مجد وسؤدد ورئاسة كخديجة ، شابّ
حدث ابن اثنتين وعشرين سنة وللزوج أعمام أشراف أعاظم كالعبّاس وحمزة وأبي طالب وهو
بينهم وفي بيتهم ، وكان عمّه أبو طالب كما يأتي يحبّه حبّا شديداً لا يحبّ أولاده
مثله ، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه ، ويخرجه معه حين يخرج وكان هو الذي كلّم خديجة حتى وكّلت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بتجارتها ، كما في الامتاع للمقريزي (ص ٨).
والذي جاء في
السير والتاريخ في أمر هذا القِران أنّ خديجة بعثت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورغبت في زواجه لقرابته وأمانته وحسن خلقه وصدق حديثه ،
وعرضت نفسها عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فذكر ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأعمامه فخرج معه عمّه حمزة وفي لفظ ابن الأثير : خرج معه
حمزة وأبو طالب وغيرهما من عمومته. حتى دخل على خويلد بن أسد ، أو على عمرو بن أسد
عمّ خديجة فخطبها إليه فتزوّجها عليه وآله الصلاة والسلام ، وخطب أبو طالب عليهالسلام خطبة النكاح ، فقال :
الحمد لله الذي
جعلنا من ذريّة إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضئ معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته ، وسوّاس حرمه ، وجعل
لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكّام على الناس ، ثمّ إنّ ابن أخي
هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً ، فإن
كان في المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل ، وأمر حائل ، ومحمد من قد عرفتم قرابته ،
وقد خطب خديجة بنت خويلد ، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا ، وهو
والله بعد هذا له نبأ عظيم ، وخطر جليل. فزوّجها.
__________________
راجع طبقات ابن سعد (١ / ١١٣) ، تاريخ الطبري (٢ / ١٢٧) ، أعلام
الماوردي (ص ١١٤) ، الصفوة لابن الجوزي (١ / ٢٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ١٥) ،
تاريخ ابن كثير (٢ / ٢٩٤) ، تاريخ الخميس (١ / ٢٩٩) ، عيون الأثر (١ / ٤٩) ، أُسد
الغابة (٥ / ٤٣٥) ، الروض الأنف (١ / ١٢٢) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٧٢) ، المواهب
اللدنيّة (١ / ٥٠) ، السيرة الحلبيّة (١ / ١٤٩ ، ١٥٠) ، شرح المواهب للزرقاني (١ /
٢٠٠) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ١١٤).
فأين مزعمة ابن
مهران من هذا التاريخ الصحيح المتواتر؟
وأمّا إسلام أبي
بكر قبل ولادة عليّ أمير المؤمنين زمن بحيرا الراهب فإنّه مأخوذ ممّا أخرجه ابن
مندة من طريق عبد الغني بن سعيد الثقفي عن ابن عبّاس : أنّ أبا بكر الصدّيق صحب
النبيّ وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ ابن عشرين وهم يريدون الشام في تجارة ، حتى
إذا نزل منزلاً فيه سدرة قعد في ظلّها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له : بحيرا
يسأله عن شيء.
هذه الرواية
ضعّفها غير واحد من الحفّاظ. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (٢ / ٢٤٣) : عبد
الغني ضعّفه ابن يونس. وأقرّ ضعفه ابن حجر في لسانه (٤ / ٤٥) ، وقال
في الإصابة (١ / ١٧٧) : أحد الضعفاء المتروكين.
__________________
وذكره السيوطي في
الخصائص الكبرى (١ / ٨٦) فقال :
سند ضعيف ، وضعّفه القسطلاني في المواهب (١ / ٥٠) ،
والحلبي في السيرة النبويّة (١ / ١٣٠)
وأفظع من هذا
رواية أخرجها الحفّاظ من طريق أبي نوح قراد عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي
بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبي موسى قال : خرج ، أبو طالب إلى الشام ومعه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أشياخ من قريش ، فلمّا أشرفوا على الراهب ـ يعني بحيرا
ـ هبطوا فحلّوا رحالهم فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلا يخرج ولا
يلتفت إليهم ، قال : فنزل وهم يحلّون رحالهم ، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربّ العالمين ، هذا
يبعثه الله رحمةً للعالمين ، إلى أن قال :
فبايعوه وأقاموا
معه عنده ، فقال الراهب : أنشدكم الله أيّكم وليّه؟ قالوا : أبو طالب. فلم يزل
يناشده حتى ردّه ، وبعث معه أبو بكر بلالاً ، وزوّده الراهب من الكعك والزيت.
أخرجه الترمذي في صحيحه (٢ / ٢٨٤) فقال : حسن غريب لا نعرفه إلاّ
من هذا الوجه ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦١٦) ، وأبو نعيم في الدلائل (١ / ٥٣) ،
والبيهقي في الدلائل ، والطبري في تاريخه (٢ / ١٩٥) ، وابن عساكر في تاريخه (١ /
٢٦٧) ، وابن كثير في تاريخه (٢ / ٢٨٤) ، نقلاً عن الحافظ أبي بكر الخرائطي
والحفّاظ المذكورين ،
__________________
وابن سيّد الناس
في عيون الأثر (١ / ٤٢) ، والقسطلاني في المواهب (١ / ٤٩).
رجال الرواية :
١ ـ أبو نوح قراد
عبد الرحمن بن غزوان : قال عبّاس الدوري : ليس في الدنيا أحد يحدّث بهذا الحديث
غير قراد أبي نوح ، وقد سمعه منه أحمد ويحيى لغرابته وانفراده. تاريخ ابن كثير (٢ / ٢٨٥).
وقال الذهبي في
الميزان (٢ / ١١٣) : كان
يحفظ ، قوله مناكير ، وأنكر ما له حديث عن يونس ـ وذكر شطراً من الحديث ـ فقال :
وممّا يدلّ على أنّه باطل قوله : وبعث معه أبو بكر بلالاً ، وبلال لم يكن خُلق بعد
، وأبو بكر كان صبيّا.
وقال في تلخيص
المستدرك تعليقاً على تصحيحه : قلت : أظنّه موضوعاً فبعضه باطل. وقال ابن حجر في
التهذيب (٦ / ٢٤٨) : ذكره
ابن حبّان في الثقات وقال : كان يخطئ يتخالج في القلب منه لروايته عن الليث
قصّة المماليك. وقال أحمد : هذا ـ يعني حديث المماليك ـ باطل ممّا وضع الناس. وقال
الدارقطني : قال أبو بكر : أخطأ فيه قراد.
٢ ـ يونس بن أبي
اسحاق : ضعّف أحمد حديثه عن أبيه ، وقال : حديثه عن أبيه مضطرب. وقال أبو
حاتم : كان صدوقاً إلاّ أنّه لا يُحتجّ بحديثه. وقال أبو أحمد الحاكم : ربّما وهم
في روايته. تهذيب التهذيب (١١ / ٤٣٤). وقال
أبو حاتم : صدوق
__________________
لا يحتج به. وقال
ابن خراش : في حديثه لين. وقال ابن حزم في المحلّى : ضعّفه يحيى وأحمد جداً. وقال
أحمد : حديثه مضطرب. ميزان الاعتدال (٣ / ٣٣٩).
٣ ـ أبو إسحاق
السبيعي : قال ابن حبّان : مدلّس ، وذكره الكرابيسي في المدلّسين ، وقال معن : أفسد
حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق للتدليس. تهذيب التهذيب (٨ / ٦٦) .
٤ ـ أبو بكر بن
أبي موسى توفّي سنة (١٠٦) ، ضعّفه ابن سعد ، وقال أحمد : لم يسمع من أبيه. تهذيب التهذيب (١٢ / ٤١).
٥ ـ أبو موسى
الأشعري المتوفّى سنة (٤٢ ، ٥٠ ، ٥١ ، ٥٣) : وهو ابن (٦٣) سنة بلا خلاف أجده ، وقد
وقعت الواقعة بعد عام الفيل بتسع سنين أو اثني عشر عاماً قبل ولادة أبي موسى
الأشعري (١٧ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٥) عاماً ، فإن كان أبو موسى هو الشاهد للقصّة قبل مولده
فحبّذا ، وإن كان يرويها عمّن شاهدها فمن هو حتى ننظر في حاله؟ هذا شأن الرواية
سنداً.
أهذه كلّها تخفى
على مثل الترمذي ومن بعده من الحفّاظ فيحكمون فيها بالحسن؟ أو بالصحّة كما فعله
ابن حجر والحلبي؟ أنا لا أدري. نعم ؛ الحبّ يُعمي أو يُصمّ.
__________________
وأمّا متن الرواية
فهو يكفي في تكذيبها ، إذ سفر أبي طالبعليهالسلام إلى الشام وأخذه معه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان وقد مضى من عمره صلىاللهعليهوآلهوسلم تسع سنين على ما قاله أبو جعفر الطبري والسهيلي وغيرهما ،
أو اثنا عشر عاماً على ما قاله آخرون وكان أبو بكر يوم ذاك ابن ستّ أو تسع سنين ، فأين كان هو؟
وما ذا كان يصنع بالشام؟ وأيّ اختيار كان له بين شيوخ قريش؟ ولم تكن تنعقد نطفة
بلال يوم ذاك أخذاً بقول من قال : إنّه توفّي سنة (٢٥) وله بضع وستون سنة أو أنّه ولد في تلكم السنين أخذاً بقول ابن الجوزي في
الصفوة (١ / ١٧٤) من أنّه
مات سنة عشرين وهو ابن بضع وستّين سنة. كأنّ أبا بكر وُلد وهو شيخ وبلال عتيقه ،
وكان معه من أوّل يومه ، وكان من يوم ولد له الحلّ والعقد!
ثمّ أيّ بيعة كانت
يوم ذاك؟ وما معنى قول أبي موسى الأشعري : فبايعوه وأقاموا معه عنده؟ وأيّ إيمان
وإسلام على زعم رواة هذه الأفيكة ، وكان قبل البعثة بإحدى وثلاثين سنة ، أو ثمانية
وعشرين عاماً ، أو اثنين وعشرين ، أو سبع عشرة سنة على زعم النووي؟ ولم تكن للنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم يومئذٍ دعوة ، ولا كلّف أحداً بالإيمان به ، فلا يُقال لمن
عرف شيئاً من إرهاصات النبوّة إنّه أسلم يوم عرف وإلاّ لكان بحيرا الراهب ونسطور
وأمثالهما من الرهبان والكهنة أقدم إسلاماً من أبي بكر ، وكم هنالك أُناس عرفوا
أمر الرسالة قبلها وبشّروا بها ثمّ بعد البعثة عاندوا وحسدوا ، فمنهم من مات
مشركاً ، ومنهم من أدركته الهداية بعد حين كما يأتي في كعب الأحبار بُعيد هذا.
وكيف أثبت ذلك اليوم إيماناً لأبي بكر وصار بذلك أقدم الناس إسلاماً ولم يُثبت
لأبي
__________________
طالب لا ذاك ولا
غيره؟ وأبو موسى لم يستثنِ أبا طالب من أولئك الذين بايعوا يوم ذاك نظراء أبي بكر
وبلال الخيالي.
قال الحافظ
الدمياطي : في هذا الحديث وهمان : الأوّل : قوله : فبايعوه وأقاموا معه. والثاني :
قوله : وبعث معه أبو بكر بلالاً ، ولم يكونا معه ، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو
بكر ، بل كان أبو بكر حينئذ لم يبلغ عشر سنين ، ولم يملك أبو بكر بلالاً إلاّ بعد
ذلك بأكثر من ثلاثين سنة. وكذا ضعّفه الذهبي .
وقال الزركشي في
الإجابة (ص ٥٠) : هذا من الأوهام الظاهرة لأنّ بلالاً إنّما اشتراه أبو بكر بعد
مبعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعد أن أسلم بلال وعذّبه قومه ، ولمّا خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام مع عمّه أبي طالب كان له من العمر اثنتا عشرة
سنة وشهران وأيّام ، ولعلّ بلالاً لم يكن بعدُ ولد.
وقال ابن كثير في
تاريخه (٢ / ٢٨٥) : إنّ
قوله : وبعث أبو بكر معه بلالاً إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك اثنتي
عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشراً ، وعمر بلال أقلّ من ذلك ،
فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثمّ أين كان بلال؟ كلاهما غريب ، اللهمّ إلاّ أن يقال :
إنّ هذا كان ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كبير ، إمّا بأن يكون سفره بعد هذا ، أو إن كان القول بأنّ
عمره كان إذ ذاك اثنتي عشرة سنة غير محفوظ ، فإنّه إنّما ذكره مقيّداً بهذا الواقدي ، وحكى السهيلي عن
بعضهم أنّه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين ، والله أعلم.
قال
الأميني : إنّ ابن كثير غضّ
البصر عمّا في الرواية من خرافة البيعة كأن لم
__________________
يكن شيئاً
مذكوراً. ثمّ أتى في تصحيح بعث أبي بكر بلالاً بما لا يخفى عليه فساده ، إذ لم يزد
سفر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام مع أبي طالب عليهالسلام على المرّة الواحدة ، وكون عمره صلىاللهعليهوآلهوسلم اثني عشر عاماً محفوظ عند ابن سعد وابن جرير وابن عساكر
وابن الجوزي ، ولم ينحصر بالواقدي كما حسبه. وقد سافر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام مرّة ثانية سنة خمس وعشرين من عام الفيل مع
ميسرة غلام السيّدة خديجة سلام الله عليها ، وليس هناك أيّ ذكر عن بحيرا وإنّما
فيه قضيّة نسطور الراهب .
وقال ابن سيّد
الناس في عيون الأثر (١ / ٤٣) مثل
مقالة الدمياطي المذكورة ، وكذلك الحلبي في السيرة النبويّة (١ / ١٢٩) ،
والحديث أخرجه ابن الجوزي في صفة الصفوة (١ / ٢١) من طريق
داود بن الحصين وليس فيه أثر من الوهمين ولا ذكر عن أبي بكر.
نظرة في حديث كعب
:
وأمّا رواية كعب ؛
فإنّي لم أجدها في أصل من أصول الحديث ، ولم أرَ لها سنداً قطّ ، وفي ذكر كعب وهو
كعب الأحبار من رجال سندها كفاية ، وحسبنا في كعب ما أخرجه البخاري من حديث الزهري
عن حميد بن عبد الرحمن أنّه سمع معاوية يحدّث رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب
الأحبار ، فقال : إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدّثون عن أهل الكتاب
وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب .
__________________
وقال ابن أبي
الحديد في شرحه (١ / ٣٦٢) : روى
جماعة من أهل السير أنّ عليّا كان يقول في كعب الأحبار : «إنّه الكذّاب» وكان كعب
منحرفاً عن عليّ عليهالسلام.
وأخرج ابن أبي
خيثمة ، بإسناد حسّنه ابن حجر ، عن قتادة قال : بلغ حذيفة أنّ كعباً يقول : إنّ
السماء تدور على قطب كالرحى. فقال : كذب كعب ، إنّ الله يقول : (إِنَّ
اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) .
على أنّ كعباً لو
كان يصدّق نفسه فيما أخبره من الإرهاصات والبشائر لما كان يبقى على دين اليهود
طيلة حياة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وما كان يؤخّر إسلامه إلى عهد عمر بن الخطّاب ، ولما كان
يتعلّل عندما سُئل عمّا منعه عن إسلامه في العهد النبويّ بقوله : إنّ أبي كان كتب
لي كتاباً من التوراة فقال : اعمل بهذا ، وختم على سائر كتبه ، وأخذ عليّ بحقّ
الوالد على الولد أن لا أفضّ الختم عنها. فلمّا رأيت ظهور الإسلام قلت : لعلّ أبي
غيّب عنّي علماً ، ففتحتها فإذا صفة محمد وأمّته ، فجئت الآن مسلماً . وكان له يوم توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم اثنان وثمانون عاماً ، وأثر الكذب لائح في جلّ ما جاء به كعب ، وحسبه ما أخرجه
ابن عساكر في تاريخه (٥ / ٢٦٠) من حديث
ذي قربات الذي حكم الحفّاظ بعدم صحّته ، وما جاء به السيوطي في الخصائص الكبرى (١ / ٣١) من حديث
إخباره عمر وعثمان بأنّهما مذكوران بالخلافة في التوراة ، وفيها أنّ
__________________
عثمان يُقتل
مظلوماً. ومع هذه كلّها لم يُعلم صدور هذه البشارة منه في أيّام إسلامه ، ولعلّه
كان قبله فلا يُقبل قوله ولا يصدّق في حديثه.
على أنّ الأحلام
إن صحّت وصدقت فلم لم يحدّث أبو بكر أحداً من الصحابة بما أخبره بحيرا من البشارة
في نفسه من أنّه يكون وزيراً وخليفة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى يدور حديثه في دور النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ألسنتهم ، وتخبت إليه أفئدتهم ، وتزهر بمذاكرته
أنديتهم؟ أو أنّه حدّث بها لكن الصحابة ضربوا عنها صفحاً فلم تُنْهَ إلى المحدّثين
، ولا انتهت إلى أحد من أرباب الصحاح والمسانيد حتى انتهت النوبة إلى الغلاة في
الفضائل من المتأخّرين فأرسلوها إرسال المسلّم تجاه الحقائق الراهنة.
ولو كان أبو بكر
أوّل من أسلم بتلكم التقاريب فأين كان هو إلى منتهى سبع سنين من البعثة التي يقول
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها : «لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنين ،
لأنّا كنّا نصلّي وليس معنا أحد يصلّي غيرنا» ؟
في أوّليّة أمير
المؤمنين في الإسلام أحاديث صحيحة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام قدّمناها في الجزء الثالث ، وأسلفنا هناك ما يربو على ستّين
حديثاً من الصحابة والتابعين في أنّ عليّا أوّل الناس إسلاماً وأوّل من صلّى وآمن
من ذَكر. وقد مرّت هناك صحيحة الطبري أنّ أبا بكر أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً ،
ولو كان أبو بكر أوّل من أسلم وقد آمن به صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل ولادة عليّ عليهالسلام فأين كان هو يوم قال العبّاس لعبد الله بن مسعود : ما على
وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة : محمد وعليّ وخديجة؟
تاريخ ابن عساكر (١ / ٣١٨).
فلا يحق آنئذ لأيّ
مُغالٍ في الفضائل أن يدع تلكم الصحاح عن النبيّ الأعظم ووصيّه الأقدس والصحابة الأوّلين
والتابعين لهم بإحسان ، ويأخذ تجاهها برواية
__________________
كعب ، وإن هو إلاّ
كعب ليس إلاّ ، ولا يثبت الحقّ بالكعاب! (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ
وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ، (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) .
ـ ١٣ ـ
أبو بكر أسنّ أصحاب النبيّ
أخرج ابن سعد والبزّار بسند حسن ، عن أنس قال : كان أسنّ أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبو بكر الصدّيق وسهيل بن عمرو بن بيضاء.
وأخرجه أبو عمر في
الاستيعاب (١ / ٥٧٦) ، وابن
الأثير في أُسد الغابة (٢ / ٣٧٠) وذكره
الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٦٠) فقال : رواه البزّار وإسناده حسن ، ورواه
ابن حجر في الإصابة (٢ / ٨٥). وفيه : سهل ، بدل : سهيل ، وهو أخوه أو هو هو ،
والسيوطي في تاريخ الخلفاء (ص ٧٣) نقلاً عن
ابن سعد والبزّار.
قال
الأميني : كنّا نعتقد أنّ
المغالاة يمكن أن تقع في النفسيّات التي لا تدرك بالحواس الظاهرة كالعلم والتقوى
وأمثالهما ، وأمّا الغلوّ في المشهودات فلم يَدَع المنطق له مساغاً ، فسرعان ما
يظهر فيه كذب الغالي ، ويفتضح به المائن حتى أوقفنا السير على أمثال هذه الأقاويل
، فرأينا الرجل يقول بملء فيه : إنّ أبا بكر أسنّ أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو يجد في معاجم الصحابة كثيرين هم أسنّ منه بكثير ،
وإليك أسماء أمّة منهم :
__________________
١ ـ أماناة بن قيس
بن شيبان الكندي : أسلم وقد عاش دهراً ، ويقال : إنّه عاش ثلاثمائة وعشرين سنة.
كما في الإصابة (١ / ٦٣).
٢ ـ أمد بن أبد
الحضرمي : أدرك هشام بن عبد مناف وأُميّة بن عبد شمس ويقال : إنّه كان في عهد
معاوية له ثلاثمائة سنة. الإصابة (١ / ٦٣).
٣ ـ أنس بن مدرك
أبو سفيان الخثعمي : قتل مع عليّ ، كان سيّد خثعم في الجاهليّة عاش مائة وأربعاً
وخمسين سنة. الإصابة (١ / ٧٢).
٤ ـ أوس بن حارثة
الطائي والد خريم ، صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : عاش مائتي سنة ، وأكثر هذه المدّة من أيّام الجاهليّة.
الإصابة (١ / ٨٢).
٥ ـ ثور ـ ثوب ـ بن
تلدة : أنشد له ابن الكلبي :
وإن امرأً قد
عاش تسعين حجّة
|
|
إلى مائتين
كلّما هو ذاهب
|
قال : ولا أدري ما
عاش بعد ما أنشد هذا لمعاوية. وقد يقال : إنّه كان له يوم بدر عشرون ومائة عامٍ.
الإصابة (١ / ٢٠٦).
٦ ـ الجعد بن قيس
المرادي : أسلم ، وكان قد بلغ مائة سنة. الإصابة (١ / ٢٣٥).
٧ ـ حسّان بن ثابت
الأنصاري : عاش في الجاهليّة ستّين وفي الإسلام ستّين عاماً. الإصابة (١ / ٣٢٦).
٨ ـ حكيم بن حزام
الأسدي ابن أخي خديجة زوج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : ولد قبل عام الفيل بثلاث وعشرين سنة ، وتوفّي وهو ابن
عشرين ومائة سنة. الإصابة (١ / ٣٤٩).
٩ ـ حمزة بن عبد
المطلّب عمّ النبيّ الأعظم : ولد قبله صلىاللهعليهوآلهوسلم بسنتين أو بأربع. الإصابة (١ / ٣٥٣).
١٠ ـ حنيفة بن
جبير بن بكر التميمي : أدرك أحفاده النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولهم صحبة وكانوا يوم ذاك ذا لحى ، كما في الإصابة (١ /
٣٥٩).
١١ ـ حويطب بن عبد
العزّى بن أبي قيس العامري ، المتوفّى سنة (٥٤) : له مائة وعشرون عاماً. الإصابة (١
/ ٣٦٤).
١٢ ـ حيدة بن
معاوية العامري ، مات وهو عمّ ألف رجل وأمرأة وأدرك عبد المطّلب بن هاشم جدّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان بالغاً مبلغ الرجال. الإصابة (١ / ٣٦٥).
١٣ ـ خنابة بن كعب
العبسي : كان له على عهد معاوية بن أبي سفيان مائة وأربعون سنة ، وله قوله في
الإصابة (١ / ٤٦٣):
حويت من الغايات
تسعين حِجّة
|
|
وخمسين حتى قيل
أنت المقزّع
|
١٤ ـ خويلد بن مرّة الهذلي ، أبو خراش
: أدرك الاسلام شيخاً كبيراً. الإصابة (١ / ٤٦٥).
١٥ ـ ربيعة بن
الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم ، أبو أروى الهاشمي. كان أسنّ من عمّه العبّاس
الآتي ذكره. الإصابة (١ / ٥٠٦).
١٦ ـ سعيد بن
يربوع القرشي المخزومي ، المتوفّى (٥٤) : وله (١٢٠ ، ١٢٤) عاماً. الإصابة (٢ / ٥٢).
١٧ ـ سلمة السلمي
: أقبل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأسلم وهو شيخ كبير.
١٨ ـ سلمان أبو
عبد الله الفارسي ، مات سنة (٣٢ ، ٣٣ ، ٣٦) : روى أبو الشيخ عن العباس بن يزيد
أنّه قال : أهل العلم يقولون : عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة ، فأمّا مائتان
وخمسون فلا يشكّون فيها. الإصابة (٢ / ٦٢).
١٩ ـ أبو سفيان
القرشي الأموي : كان أسنّ من أبي بكر باثني عشر عاماً وعدّة أشهر. الإصابة (٢ /
١٧٩).
٢٠ ـ صرمة بن أنس
أبو قيس الأوسي : أدرك الإسلام فأسلم وهو شيخ كبير ، عاش نحواً من مائة وعشرين
عاماً ، وهو القائل كما في الإصابة (٢ / ١٨٣):
بدا ليَ أنّي
عشت تسعين حِجّةً
|
|
وعشراً وما
بعدها لي ثمانيا
|
فلم ألفها لمّا
مضت وعددتها
|
|
يحسّبها في الدهر إلاّ لياليا
|
٢١ ـ صرمة بن مالك الأنصاري : أدرك
الإسلام فأسلم وهو شيخ كبير. الإصابة (٢ / ١٨٣).
٢٢ ـ طارق بن
المرقع الكناني : كان في حجّة الوداع شيخاً كبيراً. الإصابة (٢ / ٢٢١).
٢٣ ـ الطفيل بن
زيد الحارثي : هو الذي أخبر عمر بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجاهليّة ، وكان يوم ذاك قد أتت عليه مائة وستون سنة.
الإصابة (٢ / ٢٢٤).
٢٤ ـ عاصم بن عديّ
العجلاني : توفّي سنة خمس وأربعين ، وله مائة وعشرون سنة. الإصابة (٢ / ٢٤٦).
٢٥ ـ العبّاس بن
عبد المطّلب عمّ النبيّ الأعظم : ولد قبل رسول الله بسنتين أو ثلاث. الإصابة (٢ /
٢٧١).
٢٦ ـ عبد الله بن
الحارث بن أُميّة : أدرك الاسلام وهو شيخ كبير. الإصابة (٢ / ٢٩١).
٢٧ ـ عدي بن حاتم
الطائي : مات بعد الستّين وبلغ مائة وثمانين كما قاله أبو حاتم السجستاني ، أو
مائة وعشرين كما في قول خليفة. الإصابة (٢ / ٤٦٨).
٢٨ ـ عدي بن وداع
الدوسي : من رجال الجاهليّة ، أدرك الإسلام فأسلم
__________________
وغزا ، وتوفّي وله
ثلاثمائة سنة. الإصابة (٢ / ٤٧٢).
٢٩ ـ عمرو بن
المُسبّح الطائي : مات وله مائة وخمسون عاماً. قال ابن قتيبة : لست
أدري أقبض قبل وفاة النبيّ أم بعده. الإصابة (٣ / ١٦).
٣٠ ـ فضالة بن زيد
العدواني : سأله معاوية : كم أتت لك يا فضالة؟ قال : عشرون ومائة سنة. الإصابة (٣
/ ٢١٤).
٣١ ـ قباث بن أشيم
: سأله عثمان بن عفان : أنت أكبر أم رسول الله؟ فقال : رسول الله أكبر منّي وأنا
أسنّ منه. الإصابة (٣ / ٢٢١).
٣٢ ـ قردة بن
نفاثة السلولي : أدرك الإسلام وهو شيخ كبير ، وعاش مائة وخمسين سنة ، وله كما في
الإصابة (٣ / ٢٣١) من أبيات :
بانَ الشبابُ
فلم أحفلْ به بالا
|
|
وأقبلَ الشيبُ والإسلامُ
إقبالا
|
٣٣ ـ لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي
الجعفري : توفّي سنة (٤١) وهو ابن مائة وأربعين أو مائة وسبع وخمسين سنة أو مائة
وستين سنة. الإصابة (٣ / ٣٢٦).
٣٤ ـ اللجلاج
الغطفاني : وفد إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ابن سبعين وعاش مائة وعشرين سنة. الإصابة (٣ / ٣٢٨).
٣٥ ـ المستوعز بن
ربيعة بن كعب : كان من فرسان العرب في الجاهليّة ، عاش إلى أيّام معاوية وكان له
٣٢٠ / ٣٣٠ سنة. الإصابة (٣ / ٤٩٢).
٣٦ ـ معاوية بن
ثور البكائي : أسلم بيد النبيّ وهو شيخ كبير. الإصابة (١ / ١٥٦) وفي بعض المعاجم :
كان ابن مائة سنة.
__________________
٣٧ ـ منقذ بن عمرو
الأنصاري : كان قد أتى عليه مائة وثلاثون في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما في أُسد الغابة .
٣٨ ـ النابغة
الجعدي : عاش في الجاهليّة مائتي سنة ، ومات وهو ابن ٢٢٥ / ٢٣٠ عاماً ، وهو القائل
كما في الإصابة (٣ / ٥٣٨):
ألا زعمت بنو
أُسدٍ بأنّي
|
|
أبو ولدٍ كبيرُ
السنِّ فاني
|
فمن يك سائلاً
عنِّي فإنّي
|
|
من الفتيان
أيّام الخنانِ
|
أتت مائةٌ لعام
ولدتُ فيه
|
|
وعشرٌ بعد ذاك
وحِجّتانِ
|
وقد أبقت صروفُ
الدهرِ منّي
|
|
كما أبقت من
السيفِ اليماني
|
وقال أبو حاتم :
عاش مائتي سنة ، وهو القائل :
قالت أمامة كم
عمرت زمانه
|
|
وذبحت من عنزٍ
على الأوثانِ
|
ولقد شهدتُ
عكاظَ قبل محلّها
|
|
فيها وكنت
أُعدُّ من الفتيانِ
|
والمنذرَ بنَ
محرّقٍ في ملكِهِ
|
|
وشهدتُ يوم
هجائنِ النعمانِ
|
وعمرتُ حتى جاءَ
أحمدُ بالهدى
|
|
وقوارعٌ تُتلى
من القرآنِ
|
ولبستُ في
الإسلامِ ثوباً واسعاً
|
|
من سيبِ لا حرمٍ
ولا منّانِ
|
٣٩ ـ نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب الهاشمي
ابن عمّ النبيّ الطاهر : كان أسنّ من أسلم من بني هاشم حتى من عمّيه حمزة والعبّاس
المذكورين. الإصابة (٣ / ٥٧٧).
٤٠ ـ نوفل بن
معاوية بن عروة الدؤلي : كان ممّن عاش في الجاهليّة ستين وفي الإسلام ستين سنة.
الإصابة (٣ / ٥٧٨).
وقبل هؤلاء كلّهم
أبو قحافة والد الخليفة ؛ فإنّه كان أكبر سنّا من الخليفة
__________________
لا محالة إن لم
تُصغّره المعاجز من ابنه كما صغّرت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعلته غلاماً
وشابّا لا يُعرف بين يدي أبي بكر وهو أكبر منه!
راجع في تراجم
هؤلاء المذكورين المعارف لابن قتيبة ، معجم الشعراء للمرزباني ، الاستيعاب لأبي
عمر ، أُسد الغابة لابن الأثير ، تاريخ ابن كثير ، الإصابة لابن حجر ، مرآة الجنان
لليافعي ، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي.
هؤلاء جملة ممّن
وقفنا على أسمائهم ممّن أربوا على أبي بكر في السنّ من الصحابة الأوّلين ، وهب
أنّا غضضنا الطرف عن كلّ ذلك فهلاّ نسائل القوم عن وجه الفضيلة في كبر السنّ؟ أو
ليس في الأمم والأجيال من طعنوا في السنّ فبلغوا من العمر عتيّا ، وفيهم الحالي
بالفضائل والعاطل عنها ، وإذا مُدح أحدهم فإنّما يُمدح بمآثره لا بطول عمره ،
ومهما طال عمر الخليفة فإن أكثره انقضى في الجاهليّة ، بُعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وللخليفة ثمان وثلاثون سنة ، وقد مرّ في الجزء الثالث (ص
٢٢٠) أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم صلّى سبع سنين ولم يصلّ معه غير عليّ أمير المؤمنين. إذن
فلأبي بكر عند إسلامه خمسة وأربعون عاماً وتوفّي وهو ابن ثلاثة وستّين ، فقد أشغل
في الإسلام ثماني عشرة سنة ، وهذه المدّة الأخيرة هي التي يمكن أن تزدان بشيء من
المناقب ، فهل ازدانت أو لا؟
وفي الغاية أحسب
أنّه ليس للقوم غاية يعتدّ بها في كبر السنّ والاهتمام بذلك غير أنّهم جعلوا الحجر
الأساس للخلافة الراشدة أشياء منها : أنّ أبا بكر قُدّم على أمير المؤمنين لأنّه
شيخ محنّك لا تِرَة لأحد عنده فيُبَغض ؛ وعلى هذا الأساس جعلوه تارة أكبر سنّا من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد عرفت حاله في صفحة (٢٧٠) وأُخرى أنّه كان شيخاً
يُعرف والنبيّ شابّا لا يُعرف ، وأوقفناك على حقيقة الحال في (ص ٢٥٧). وآونة أنّه
أسنّ الصحابة ليحسموا مادّة النقض بشيوخ في الصحابة كلّهم أكبر من الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام وفيهم رؤساء وأعاظم ، وما عرفوا أنّ المستقبل الكشّاف
سيوقف الباحثين على أناس هم أكبر من الرجل سنّا ، وأوفر علماً ، وأبلغ حنكةً ،
وأقدم شرفاً ، وأسبق إسلاماً.
ـ ١٤ ـ
أبو بكر في كفّة الميزان
أخرج الخطيب في
تاريخه (١٤ / ٧٨) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل عن الهذيل عن مطرح بن يزيد عن
عبيد الله بن زحر عن عليّ بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة ؛ قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة بين يديّ. فقلت : ما هذا؟
قال : بلال ، فمضيت فإذا أكثر أهل الجنّة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين ، ولم
أرَ فيها أحداً أقلّ من الأغنياء والنساء. إلى أن قال : ثمّ خرجنا من أحد أبواب
الجنّة الثانية ، فلمّا كنت عند الباب أُتِيتُ بكفّة فوُضِعتُ فيها ووضعت أُمّتي
في كفّة فرجحت بها ، ثمّ أُتي بأبي بكر فوُضِع في كفّة وجيء بجميع أُمّتي فوضعوا
في كفّة فرجح أبو بكر ، ثمّ أتي بعمر فوُضِع في كفّة وجيء بجميع أُمّتي فوُضِعوا
فرجح عمر ، ثمّ رُفع الميزان إلى السماء. وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص ٢٨٨).
رجال الرواية :
١ ـ مطرح بن يزيد
الكوفي : قال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، وقال أبو حاتم
: ليس بالقويّ ضعيف الحديث يروي أحاديث عن ابن زحر عن عليّ بن يزيد ، فلا
أدري البلاء منه أو من عليّ بن يزيد ،
__________________
وقال الآجري عن
أبي داود : زعموا أنّ البليّة من قِبَل عليّ بن يزيد ، وقال النسائي : ضعيف ليس بشيء ، وقال ابن عدي : يجانب روايته عن ابن زحر والضعف على حديثه بيّن. ميزان
الاعتدال (٣ / ١٧٤) ، تهذيب
التهذيب (١٠ / ١٧١).
٢ ـ عبيد الله بن
زحر الإفريقي : مُجمَع على ضعفه كما في الميزان . ضعّفه أحمد . وقال ابن معين : ليس بشيء كلّ حديثه عندي ضعيف. وقال ابن المديني : منكر
الحديث. وقال الحاكم : ليّن الحديث. وقال ابن عدي : يقع في أحاديثه مالا يتابع عليه. وقال أبو مسهر : صاحب
كلّ معضلة. وقال الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن حبّان : يروي الموضوعات عن الأثبات ، فإذا روى عن عليّ بن يزيد
أتى بالطامّات ، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبد الله بن زحر وعليّ بن يزيد والقاسم
بن عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر إلاّ ما عملته أيديهم .
قال
الأميني : هذه الرواية ممّا
اجتمع فيه هؤلاء الثلاثة فهو ممّا عملته أيديهم.
٣ ـ عليّ بن يزيد
الألهاني : قال ابن معين : عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ضعاف كلّها.
وقال يعقوب : واهي الحديث كثير المنكرات. وقال الجوزجاني : رأيت غير واحد من
الأئمّة ينكر أحاديثه التي يرويها عنه عبيد الله بن زحر. وقال
__________________
أبو زرعة : ليس
بالقويّ. وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث أحاديثه منكرة ، وقال البخاري : منكر الحديث ضعيف. وقال النسائي : ليس بثقة متروك الحديث. وقال الأزدي والدارقطني والبرقي : متروك. وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث.
وقال الساجي : اتّفق أهل العلم على ضعفه. وقال أبو نعيم : منكر الحديث. وقال ابن
حجر : متّهم.
ميزان الاعتدال (٢ / ٢٤٠) : تهذيب
التهذيب (٧ / ١٣ ، ٣٦٩).
٤ ـ القاسم بن عبد
الرحمن الشامي : قال أحمد : هذه المناكير التي يرويها عنه جعفر وبشر ومطرح مناكير
ممّا يرويها الثقات أنّها من قِبَل القاسم. وقال الأثرم : حملها أحمد على القاسم.
وقال : ما أرى هذا إلاّ من قِبَل القاسم. وقال الحرّاني : قال أحمد : ما أرى
البلاء إلاّ من القاسم. وقال الغلابي : منكر الحديث. وقال ابن حبّان : يروي عن الصحابة المعضلات. ميزان الاعتدال (٢ / ٣٤) ، تهذيب
التهذيب (٨ / ٣٢٣).
وهذا الحديث ذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٥٩) فقال : رواه أحمد والطبراني وفيهما : مطرح بن زياد وعليّ بن يزيد الألهاني وكلاهما
مجمع على ضعفه.
__________________
قال
الأميني : هذا شأن الرواية
سنداً ورجاله كما ترى ، واستدلّ الهيثمي على ضعفه بما في متنه. راجع مجمع الزوائد (٩
/ ٥٩).
ـ ١٥ ـ
توسّل الشمس بأبي بكر
قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : عُرض عليّ كلّ شيء ليلة المعراج ، حتى الشمس ، فإنّي
سلّمت عليها وسألتها عن كسوفها ، فأنطقها الله تعالى وقالت : لقد جعلني الله تعالى
على عجلة تجري حيث يريد ، فأنظر إلى نفسي بعين العجب فتزلّ بي العجلة فأقع في
البحر ، فأرى شخصين أحدهما يقول : أحد أحد. والآخر يقول : صدق صدق. فأتوسّل بهما
إلى الله تعالى فينقذني من الكسوف ، فأقول : يا ربّ من هما؟ فيقول : الذي يقول :
أحد أحد هو حبيبي محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والذي يقول : صدق صدق هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه.
نزهة المجالس (٢ / ١٨٤).
أنا لا أحكّم في
هذه الرواية إلاّ علماء علم الفلك سواء في ذلك القدماء منهم والمحدثون. وقد
تكلّمنا في صحيفة (٢٣٨) عن العجلة التي حملت الشمس وبحثنا عنها بحثاً ضافياً ،
وليت الهيئيّين درسوا هذه الرواية فأخذوا عنها علماً غزيراً ، وعرفوا أنّ الكسوف
يكون بغمس الشمس في البحر عقوبة على نظرها إلى نفسها بعين العجب وإنّ انجلاءها
يتمّ بالتوسّل ، ولعلّ المستقبل الكشّاف يأتي بمن يعلّم الأُمّة بسرّ خسوف القمر
وتتأتّى به للمجالس نزهة بعد نزهة.
وهنا أسئلة جمّة :
١ ـ ليس الكسوف
يخصّ بهذه الأمّة فحسب ، ولا بأيّام حياة أبي بكر خاصّة ، فمن ذا الذي كان يقول :
صدق صدق. قبل ميلاد أبي بكر؟ ومن ذا الذي يقولها بعد وفاته؟ وبمن كانت الشمس
تتوسّل قبل ذلك؟ وبمن تتوسّل بعده؟
٢ ـ أين كان يقول
أبو بكر : صدق صدق؟ أيقولها وهو في محلّه بمرأى من الناس ومسمع فيُسمعها الشمس
بالإعجاز؟ أو كان يحضر على ذلك البحر الذي لم يحدّد بأيّ ساحل فيغيب عن الناس
وتطوى له المسافة بخرق العادات؟ فَلِمَ لم يُحدّث عنه ذلك ولو مرّة واحدة؟ أو أنّه
يذهب هو ويدع قالبه المثالي بين الناس فيحسبونه هو هو؟ أو أنّه يثبت في مكانه
فيرسل قالبه ذلك فتحسبه الشمس أنّه هو؟.
٣ ـ هب أنّ الشمس
تحمل حياة روحيّة ، فهل تحمل معها نفساً أمّارة بالسوء بها تعجب بنفسها؟ أنا لا
أدري. وعلى فرض ثبوت النفس الأمّارة ، فما بالها تدأب على المعصية وهي ترى استمرار
العقوبة مع كلّ عصيان؟ فهل هي تتوب بعد كلّ معصية ثمّ تعود إليها بنسيان العقاب أو
غلبة الشهوة؟ ومن المعلوم أنّ الكسوف لم ينقطع ليلة المعراج فهو من الكائنات
المتجدّدة إلى انقراض العالم ، فكأنّ الشمس حينئذٍ كانت تخبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بتصميمها على الاستمرار على المعصية منذ كلّ كسوف ، فمتى
تتوب هذه العاصية الشاعرة؟ أنا لا أدري. وفي ذمّة الصفوري صاحب الكتاب الخروج عن
عهدة هذه الأسئلة. فهل يخرج؟ أنا لا أدري ، وهذا أيضاً من الغلوّ في الفضائل
والحبّ المعمي والمصمّ.
ـ ١٦ ـ
كلبة من الجنّ مأمورة
عن أنس بن مالك
قال. كنّا جلوساً عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ أقبل إليه رجل من أصحابه وساقاه تشخبان دماً ، فقال
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما هذا؟ قال : يا رسول الله ، مررت بكلبة فلان المنافق
فنهشتني. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : اجلس ، فجلس بين يدي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. فلمّا كان بعد ذلك بساعة إذ أقبل إليه رجل آخر من أصحابه
وساقاه تشخبان دماً مثل الأوّل ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما هذا؟ فقال : يا رسول الله إنّي مررت بكلبة فلان
المنافق فنهشتني ، قال : فنهض النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : وقال لأصحابه : هلمّوا بنا إلى هذه الكلبة نقتلها ،
فقاموا كلّهم وحمل
كلّ واحد منهم سيفه. فلمّا أتوها وأرادوا أن يضربوها بالسيوف وقعت الكلبة بين يدي
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقالت بلسان طَلِق ذَلِق : لا تقتلني يا رسول الله فأني
مؤمنة بالله ورسوله ، فقال : ما بالك نهشتِ هذين الرجلين؟ فقالت : يا رسول الله
إنّي كلبة من الجنّ مأمورة أن أنهش من سبّ أبا بكر وعمر. فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا هذين أما سمعتما ما تقول الكلبة؟ قالا : نعم يا رسول
الله إنّا تائبان إلى الله عزّ وجلّ. عمدة التحقيق للعبيدي المالكي (ص ١٠٥).
قال
الأميني : ما أعظم شأن هذه
الكلبة وأثبتها في ميدان البسالة حتى استدعى أمرها أن يتجهّز لحربها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحمل عليها أصحابه شاهرين السيوف! فهل هي كلبة أو أسد
ضارٍ؟ أو عفرنى باسل؟ أو حَشِد لُهام؟ وأحسب أنّ اللذين نهشتهما كانا من هيّابة الصحابة ،
فإنّ شجعانهم ما كانوا يبالون بالضراغم فضلاً عن الكلاب.
وأين كانت هذه
الكلبة عمّن كان ينال من أبي بكر غير الرجلين في ذلك العهد وبعد العهد النبويّ
وهلمّ جرّا؟ فلم تُشهد لها نهشة ، ولا سُمع لها عواء ، فليتهيّأ صاحب عمدة التحقيق
لتحليل هذه المسائل وذلك بعد الغضّ عن إسناده الموهوم.
ثمّ ما أخرس ألسنة
أولئك الصحابة الحضور يوم أطلق الله لسان تلك الكلبة الطلقة الذلقة عن بثّ هذه
الفضيلة الرابية؟ ومثلها تتوفّر الدواعي لنقلها ، وما أذهل الحفّاظ وأئمة الحديث
وأرباب السير عن روايتها؟ فلا يجدها الباحث في المسانيد والصحاح والفضائل ومعاجم
السير وأعلام النبوّة ودلائلها ، إلى أن بشّر بها العبيدي آل الصدّيق بعد لأي من
عمر الدهر وقذف بهذه الأكذوبة أنس بن مالك.
__________________
أهكذا تكون
المغالاة في الفضائل؟ ... لعلّها تكون.
نعم ؛ لله كلاب
مفترسة وأُسود ضارية سلّطها الله على أعدائه بدعاء نبيّه الأعظم أو أحد من أولاده
الصادقين صلوات الله عليه وعليهم ، منها : كلب سلّطه الله على لهب بن أبي لهب
بدعاء النبي الأقدس كما مرّ في الجزء الأوّل (ص ٢٦١). ومنها ، كلب أخذ برأس عتبة
بدعاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما مرّ في (١ / ٢٦١).
قال الحلبي في
السيرة النبويّة (١ / ٣١٠): ووقع
مثل ذلك لجعفر الصادق ، قيل له : هذا فلان ينشد الناس هجاءكم ـ يعني أهل البيت ـ بالكوفة
، فقال لذلك القائل : «هل علقت من قوله بشيء» قال : نعم. قال : فأنشد. فأنشد :
صلبنا لكم زيداً
على جذعِ نخلةٍ
|
|
ولم أرَ مهديّا
على الجذع يصلبُ
|
وقستم بعثمان
عليّا سفاهةً
|
|
وعثمانُ خيرٌ من
عليّ وأطيبُ
|
فعند ذلك رفع جعفر
يديه وقال : «اللهمّ إن كان كاذباً فسلّط عليه كلباً من كلابك» ، فخرج ذلك الرجل
فافترسه الأسد. وإنّما سمّي الأسد كلباً لأنّه يشبه الكلب في أنّه إذا بال رفع
رجله.
قال
الأميني : الشاعر المفترس
هو الحكيم الأعور أحد الشعراء المنقطعين إلى بني أُميّة بدمشق ، وقصّته هذه من
المتسالم عليه ، غير أنّ في معجم الادباء كما مرّ في الجزء الثاني (ص ١٩٧) من كتابنا هذا : أنّ
الداعي على الرجل هو عبد الله ابن جعفر وأحسبه تصحيف أبي عبد الله جعفر ، فعلى كلّ
قد وقع من أهله في محلّه.
__________________
ـ ١٧ ـ
هبة أبي بكر لمحبّيه
عن عكرمة عن ابن
عبّاس قال : قال عليّ رضى الله عنه : كنت جالساً مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وليس معنا ثالث إلاّ الله عزّ وجلّ ، فقال : يا عليّ تريد
أن أُعرّفك بسيّد كهول أهل الجنّة وأعظمهم عند الله قدراً ومنزلة يوم القيامة؟
فقلت : إي وعيشك يا رسول الله. قال : هذان المقبلان. قال عليّ. فالتفتّ فإذا أبو
بكر وعمر ، ثمّ رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تبسّم ثمّ قطّب وجهه حتى ولجا المسجد ، فقال أبو بكر : يا
رسول الله لمّا قربنا من دار أبي حنيفة تبسّمت لنا ثمّ قطّبت وجهك ، فلِمَ ذلك يا رسول الله؟ فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لمّا صرتما لجانب دار أبي حنيفة عارضكما إبليس ونظر في وجوهكما ثمّ رفع يديه إلى السماء
أسمعه وأراه وأنتما لا تسمعانه ولا تريانه وهو يدعو ويقول : اللهمّ إنّي أسألك
بحقّ هذين الرجلين أن لا تعذّبني بعذاب باغضي هذين الرجلين. قال أبو بكر : ومن هو
الذي يبغضنا يا رسول الله ، وقد آمنّا بك وآزرناك وأقررنا بما جئت به من عند ربّ
العالمين؟ قال : نعم يا أبا بكر ، قوم يظهرون في آخر الزمان يقال لهم الرافضة ،
يرفضون الحقّ ويتأوّلون القرآن على غير صحّته ، وقد ذكرهم الله في كتابه العزيز
وهو قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) . فقال : يا رسول الله فما جزاء من يبغضنا عند الله؟ قال :
يا أبا بكر حسبك أنّ إبليس لعنه الله تعالى يستجير بالله تعالى أن لا يعذّبه بعذاب
باغضيكما. قال : يا رسول الله هذا جزاء من قد أبغض فما جزاء من قد أحبّ؟ فقال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أن تهديا له هديّة من أعمالكما. فقال : أبو بكر رضى الله
عنه : يا رسول الله أُشهدك وأشهد الله وملائكته
__________________
أنّي قد وهبت لهم
ربع أجري ـ أي عملي ـ منذ آمنت بالله إلى أن نلقاه. فقال عمر رضى الله عنه : وأنا
مثل ذلك يا رسول الله. قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فضعا خطّكما بذلك. قال عليّ كرّم الله وجهه : فأخذ أبو
بكر زجاجة وقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اكتب ، فكتب :
بسم الله الرحمن
الرحيم. يقول عبد الله عتيق بن أبي قحافة : إنّي قد أشهدتُ الله ورسوله ومن حضر من
المسلمين أنّي قد وهبت ربع عملي لمحبّيّ في دار الدنيا منذ آمنت بالله إلى أن
ألقاه ، وبذلك وضعت خطّي.
قال : وأخذ عمر
وكتب مثل ذلك. فلمّا فرغ القلم من الكتابة هبط الأمين جبريل عليهالسلام وقال : يا رسول الله الربّ يُقرئك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام ، ويقول
لك : هات ما كتبه صاحباك. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : هذا هو. فأخذه جبريل وعرج به إلى السماء ثمّ إنّه عاد
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أين ما أخذت يا جبريل منّي؟ قال : هو عند الله تعالى وقد
شهد الله فيه ، وأشهد حملة العرش وأنا وميكائيل وإسرافيل. وقال الله تعالى : هو
عندي حتى يفي أبو بكر وعمر بما قالا يوم القيامة. عمدة التحقيق للعبيدي المالكي (ص ١٠٥ ـ ١٠٧).
قال
الأميني : أنا لا أحاول
إطناباً في تفنيد هذه الرواية الشبيهة بأساطير القصّاصين أو الروايات الخياليّة ،
فإنّ كلّ فصل منها شاهد صدق على عدم صحّتها.
أنا لا أخدش في
كهولة الشيخين بما مرّ في الجزء الخامس (ص ٣١٣) من القول المعزوّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عليّ أتحبّ هذين الشيخين؟ ولا بما مرّ في هذا الجزء (ص
٢٤١) من أنّ أبا بكر له شيبة في الجنّة وليست لأحد لحية هناك إلاّ هو وإبراهيم
الخليل ولا بما مرّ (ص ٢٤١) من أنّ رسول الله كان يقبّل شيبة أبي بكر. ولا بما مرّ
في
__________________
صفحة (٢٥٧) من أنّ
أبا بكر كان يوم هجرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المدينة شيخاً والنبيّ شابّا. ولا بما مرّ في (ص ٢٧٠)
من أنّ أبا بكر كان أكبر من النبيّ. ولا بما مرّ في (ص ٢٨٠) من أنّه كان أسنّ
أصحاب النبيّ.
ولا أتكلّم في
عذاب باغضي أبي بكر وعمر ، وأنّه ما الذي أربى به على عذاب من تكبّر وتجبّر تجاه
المولى سبحانه وعانده وخالف أمره وهو من من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يغوي
عباد الله ويضلّهم عن سبيل الحقّ؟
ولا أُناقش في أنّ
إبليس كيف كان يصحّ له أن يتعوّذ بالله من عذاب باغضيهما؟ أكان يحبّهما فلما ذا هو؟
أو كان يبغضهما كما يبغض كلّ مؤمن بالله؟ فالدعاء لما ذا؟ وما ذا ينتج له وهو يعلم
عذاب مبغضيهما وهو يبغضهما ولا يزال يغري الناس ببغضهما؟
ولا أمدّ يراعي
إلى الزجاجة المكتوبة فيها تلك الهبة الموهومة لئلاّ تنكسر فتحرم الأمّة المرحومة
من تلك البضاعة الغالية.
ولا أُسائل رواة
هذه المهزأة عن تلكم الشهادات من الله إلى حملة عرشه إلى أمين وحيه إلى ميكائيل
وإسرافيل. لما ذا هي كلّها؟ وما الذي أحوج المولى سبحانه إلى ذلك الاهتمام البالغ
في استحكام ذلك الصكّ؟ وما الذي أهمّ ادّخاره عند الله حتى يفي أبو بكر وعمر بما
قالا يوم القيامة؟
ولا أقول : لما ذا
تركت الأئمّة وحفّاظ الحديث هذه الفضيلة العظيمة إلى قرن العبيدي المالكي ـ القرن
الحادي عشر ـ وفيها بشارة كبيرة لمحبّ الشيخين وإرشاد للأُمّة إلى ما فيه نجاتهم
ونجاحهم والمثوبة الجزيلة بجزاء ربُعَي أعمالهما؟ ولما ذا شحّ أُولئك الحفظة على
الأمّة وسمع العبيدي؟
ولكن هلمّ معي إلى
مفاد الآية الكريمة فهي في موضعين من القرآن الكريم :
١ ـ (مِنَ
الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا
وَعَصَيْنا) .
٢ ـ (وَلَقَدْ
أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً
حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) .
ألا تعجب من تحريف
الكلم بإسناد ما ناء به اليهود وبنو إسرائيل بنصّ القرآن الحكيم إلى قوم لم يأتوا
بعدُ وسيضمنهم الزمان في أخرياته؟ حاشا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقول ذلك ، ولكنّها ورطات القالة ، وأهواء وشهوات ،
حبّذت الوقيعة في قوم مؤمنين اتّبعوا النبيّ الأمين ، وهُدوا إلى الصراط المستقيم
، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
ـ ١٨ ـ
أبو بكر في قاب قوسين
بلغنا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا كان قاب قوسين أو أدنى أخذته وحشة فسمع في حضرة الله
تعالى صوت أبي بكر رضى الله عنه فاطمأنّ قلبه واستأنس بصوت صاحبه.
ذكره العبيدي
المالكي في عمدة التحقيق (ص ١٥٤) فقال :
هذه كرامة للصدّيق انفرد بها رضي الله تعالى عنه.
__________________
قال
الأميني : لما ذا تلك
الوحشة؟ ولما ذا ذلك الأُنس؟ وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم في ساحة القدس الربوبيّ ، وكان لا يأنس إلاّ بالله ، وكانت
نفسه القدسيّة في كلّ آنائه منعطفة إليها ، فهل هو يستوحش إذا حصل فيها؟ وهي أزلف
مباءة إلى المولى سبحانه لا تقلّ غيره. حتى أنّ جبرئيل الأمين انكفأ عنها فقال : إن تجاوزت احترقت بالنار. لمّا جذبه الله
تعالى إليها وحفّته قداسة إلهية تركته مستعدّا لتلقّي الفيض الأقدس ، وهل هناك
وحشة لمثله صلىاللهعليهوآلهوسلم يسكّنها صوت أبي بكر؟! وهل كانت له صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في مقام الفناء لفتة إلى غيره جلّت عظمته حتى يأنس
بصوته؟ لاها الله ، وما كان قلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يقلّ غيره سبحانه فهو مستأنس به ومطمئنّ بآلائه ، فلا مدخل
فيه لأيّ أحد يطمئنّ به ، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، ولقد رآه بالأُفق
المبين ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمارونه على ما يرى؟
ولقد رآه نزلةً أُخرى عند سدرة المنتهى ، ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات
ربّه الكبرى ، ولم تبرح نفسه الكريمة مطمئنّة ببارئها حتى خوطب بقوله سبحانه : (يا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً
مَرْضِيَّةً)
هذا مبلغ الرواية
من نفس الأمر لكن الغلوّ في الفضائل آثر أن يعدّوها من فضائل الخليفة وإن كانت
مقطوعةً عن الإسناد.
ـ ١٩ ـ
الدين وسمعه وبصره
عن حذيفة بن
اليمان ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : لقد هممت أن أبعث إلى الآفاق رجالاً يُعلّمون الناس
السنن والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريّين. قيل له : فأين أنت عن أبي بكر
وعمر؟ قال : إنّه لا غنى بي عنهما إنّهما من
__________________
الدين كالسمع
والبصر. أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ٧٤) فقال :
هذا حديث تفرّد به حفص بن عمر العدني عن مسعر. وقال الذهبي في تلخيصه : هو واهٍ.
قال
الأميني : قال النسائي : حفص بن عمر ليس بثقة. وقال ابن عديّ : عامّة حديثه غير محفوظ. وقال ابن حبّان : كان ممّن يقلّب الأسانيد لا يجوز الاحتجاج به إذا. انفرد
وقال ابن معين : رجل سوء ، ليس بثقة. وقال مالك بن عيسى : ليس بشيء ،
وقال العقيلي : يحدّث بالأباطيل ، وقال أحمد : كان مع حمّاد في تلك البلايا ، وقال أبو داود : منكر الحديث ، وقال
الدارقطني : ضعيف ، ليس بقويّ ، متروك .
هذا على ما فرّق
جمع بينه وبين حفص بن عمر بن دينار الأيلي. وأمّا إن كان هو هو فقال ابن عدي : أحاديثه كلّها منكرة المتن والسند وهو إلى الضعف أقرب.
وقال أبو حاتم : كان شيخاً
كذّاباً. وقال العقيلي : يحدّث عن شعبة ومسعر ومالك
__________________
ابن مِغْول
والأئمّة بالبواطيل ، وقال الساجي : كان يكذب ، وقال أبو أحمد الحاكم : ذاهب
الحديث .
هذا شأن سند
الرواية ؛ وليت شعري أيّ سنّة أو فريضة كان يعلّمها الرجلان على فرض إرسالهما؟
وبما ذا كان يفتيان في الكلالة وإرث الجدّ والجدّة والتيمّم وشكوك الصلاة إلى
مسائل أُخرى ، عرّفناك بعضها في الجزء السادس وجملة منها في هذا الجزء؟ وبما ذا
كانا يجيبان لو سُئِلا عن آيات القرآن وهما يتقاعسان عن معرفة بعض ألفاظها
اللغويّة فكيف بالغوامض والمعضلات؟
ثمّ بما ذا كان
غناء الرجلين لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وبما ذا كانا من الدين كالسمع والبصر؟ أبصولاتهما في
الحروب؟ أم بأياديهما في الجدوب؟ أم ببصائرهما في الأُمور؟ أم بعلمهما الناجع في
الكتاب والسنّة؟ أم بتوقّف الدعوة عليهما في عاصمة الإسلام؟ أم بإناطة تنفيذ
الأحكام بهما؟ إقرأ السير ثمّ استحفِ الخبر.
وقد مرّ في (٥ /
٣٢٥) عن المقدسي : أنّ أبا بكر وعمر من الإسلام بمنزلة السمع والبصر ، من موضوعات
الوليد بن الفضل الوضّاع.
وذكر أبو عمر في
الاستيعاب (١ / ١٤٦) مرفوعاً
لأبي بكر وعمر : هذان منّي بمنزلة السمع والبصر من الرأس ، وقال : إسناده ضعيف.
أخبرنا أبو عبد الله يعيش بن سعيد قال : حدّثنا أبو بكر بن محمد بن معاوية ، قال
جعفر بن محمد الفريابي ، قال عبد السلام بن محمد الحرّاني ، قال ابن أبي فديك ، عن
المغيرة بن عبد الرحمن ، عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب ، عن أبيه ، عن جدّه :
انّ النبيّ ... ليس له غير هذا الإسناد ، والمغيرة بن عبد الرحمن هذا هو الحزامي ضعيف
وليس بالمخزومي الفقيه
__________________
صاحب الرأي. إلى
آخره. وقال في (١ / ٣٤٨) : حديث مضطرب الإسناد لا يثبت. وفي الإصابة (٢
/ ٢٩٩) : حديث هذان السمع والبصر ؛ في أبي بكر وعمر قال أبو عمر : حديث مضطرب لا
يثبت.
أقول : في الإسناد
المذكور غير واحد من المجاهيل والضعاف ولا ينحصر ضعفه بمكان المغيرة فحسب ، وقال
فيه ابن معين : إنّه ليس بشيء. وقال النسائي : ليس بالقويّ. تهذيب
التهذيب (١٠ / ٢٦٦).
ـ ٢٠ ـ
أبو بكر ومنزلته عند الله
عن ابن عبّاس قال
: كان أبو بكر مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الغار فعطش عطشاً شديداً فشكا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : اذهب إلى صدر الغار فاشرب. قال أبو بكر : فانطلقت إلى
صدر الغار فشربت ماءً أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك ثمّ عدت
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : شربت؟ قلت : نعم. قال : ألا أُبشّرك يا أبا بكر؟
قلت : بلى يا رسول الله. قال : إنّ الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكّل بأنهار
الجنّة أن اخرق نهراً من جنّة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر ، فقلت : يا
رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : نعم وأفضل ، والذى بعثني بالحقّ نبيّا لا يدخل الجنّة
مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيّا.
الرياض النضرة (١ / ٧١) ، مرقاة
الوصول (ص ١١٤).
__________________
قال
الأميني : كيف تصحّ هذه
الرواية وقد ضرب عنها حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ والسير صفحا؟ مع ما فيها من نبأ
عظيم وكرامة هامّة وهي بين أيديهم وهم يهتمّون بجمع دلائل النبوّة ومعاجز الرسالة
، فلم تخرّج في أصل ، ولم تذكر في سيرة ، وإنّما ذكرها السيوطي في الخصائص (١ / ١٨٧) فقال :
أخرجه ابن عساكر بسند واهٍ.
ولما ذا خصّت
روايتها بابن عبّاس وقد ولد في شعب أبي طالب قبل الهجرة بقليل فكان يوم الغار ابن
سنة أو سنتين ولم يسندها إلى أحد ولم يكن في الغار غير النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وصاحبه؟ فأين روايتهما إيّاها؟ وأين أُولئك الصحابة عنها؟ أيحقّ
لحكيم أو حافظ أن يرسل مثل هذه الواهية إرسال المسلّم في عدّ الفضائل؟
نعم ؛ للقوم في
محبّة أبي بكر وصاحبه روايات تشبّه بالقصص الخياليّة نسجتها يد الغلوّ في الفضائل
، وإليك منها :
١ ـ عن عبد الله
بن عمر مرفوعاً : لمّا ولد أبو بكر في تلك الليلة اطّلع الله على جنّة عدن فقال :
وعزّتي وجلالي لا أدخلك إلاّ من أحبّ هذا المولود.
من موضوعات أحمد
بن عصمة النيشابوري كما مرّ في (٥ / ٣٠٠).
٢ ـ عن أبي هريرة
مرفوعاً : إنّ في السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله لمن أحبّ أبا بكر
وعمر ، وفي السماء الثانية ثمانون ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر.
من طامّات أبي
سعيد الحسن بن عليّ البصري كما أسلفناه في (٥ / ٣٠٠).
٣ ـ عن أنس : أنّ
يهوديّا أتى أبا بكر فقال : والذي بعث موسى وكلّمه تكليما إنّي
__________________
لأحبّك ، فلم يرفع
أبو بكر رأسه تهاوناً باليهودي ، فهبط جبرئيل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : يا محمد إنّ العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول
لك : قل لليهوديّ : إنّ الله قد أحاد عنك النار. الحديث. إقرأ واحكم بعد قراءتك
القرآن والتدبّر في الآي النازلة في عذاب الكفّار. من موضوعات أبي سعيد البصري.
راجع الجزء الخامس (ص ٣٠١).
٤ ـ عن أنس
مرفوعاً : إنّ لله تعالى في كلّ ليلة جمعة مائة ألف عتيق من النار إلاّ رجلين
فإنّهما يدخلان في أُمّتي وليسا منهم ، وإنّ الله لا يعتقهما فيمن عتق منهم مع أهل
الكبائر في طبقتهم ، مصفّدين مع عبدة الأوثان : مبغضي أبي بكر وعمر ، وليس هم
داخلين في الإسلام ، وإنّما هم يهود هذه الأُمّة.
من وضع أبي شاكر
مولى المتوكّل كما مرّ في (٥ / ٣٠٣).
٥ ـ عن عبد الله
بن عمر مرفوعاً : إنّ الله أمرني بحبّ أربعة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ.
من بلايا السجزي كما مرّ في (٥ / ٣١٠).
٦ ـ عن أبي هريرة
مرفوعاً قال لعليّ : أتحبّ هذين الشيخين؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : أحبّهما
تدخل الجنّة. من صناعة الأشناني كما مرّ في (٥ / ٣١٣).
٧ ـ عن جابر
مرفوعاً : لا يبغض أبا بكر وعمر مؤمن ولا يحبّهما منافق.
من موضوعات معلّى
الطحان. راجع (٥ / ٣٢٣).
٨ ـ عن أبي هريرة
مرفوعاً : هذا جبريل يخبرني عن الله : ما أحبّ أبا بكر وعمر إلاّ مؤمن تقيّ ، ولا
أبغضهما إلاّ منافق شقيّ.
من موضوعات
إبراهيم الأنصاري كما مرّ في (٥ / ٣٥٤).
٩ ـ عن أبي سعيد
مرفوعاً : من أبغض عمر فقد أبغضني. راجع (٥ / ٣٢٩).
١٠ ـ عن عليّ
مرفوعاً قد أخذ الله بكم الميثاق في أُمّ الكتاب لا يحبّكم ـ يعني
أبا بكر ، وعمر ،
وعثمان ، وعليّا ـ إلاّ مؤمن تقيّ ، ولا يبغضكم إلاّ منافق شقيّ.
من موضوعات
إبراهيم الأنصاري كما مرّ في (٥ / ٣٢٦).
١١ ـ عن عليّ
مرفوعاً في أبي بكر : من أحبّني فليحبّه ، ومن أراد كرامتي فليكرمه. مرّ في الجزء
الخامس (ص ٣٥٥).
١٢ ـ عن أنس
مرفوعاً : إنّ لعرش الرحمن ثلاثمائة وستّين قائمة ، كلّ قائمة كطباق الدنيا ستّين
ألف مرّة ، بين كلّ قائمتين ستّون ألف صخرة ، كلّ صخرة مثل الدنيا ستّون ألف مرّة
، في كلّ صخرة ستّون ألف عالم ، كلّ عالم مثل الثقلين ستّون ألف مرّة. قد ألهمهم
الله تعالى الاستغفار لمن يحبّ أبا بكر وعمر ، ويلعنون مبغضهما إلى يوم القيامة .
كأنّ لعدد ستّين
ألف خاصّة عند واضع هذه الخرافة فجعل سلسلة الأكوان الخياليّة على ذلك العدد ،
ليست هذه كلّها إلاّ حلقة بلاء جاءت بها رماة القول على عواهنه المغالون في
الفضائل تجاه الحقائق الراهنة ، غير أنّا لا نخدش العواطف ببسط القول في متونها ،
ونكل القضاء فيها إلى ضمير الباحث النابه الحرّ.
ـ ٢١ ـ
النبيّ مؤيّد بالشيخين
عن أبي أروى
الدوسي ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطّلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الحمد لله الذي أيّدني بكما.
قال
الأميني : أخرجه الحاكم في
المستدرك (٣ / ٧٤) من طريق
ابن أبي فديك ،
__________________
وهو وإن وثّقه ابن
معين غير أنّ ابن سعد قال : ليس بحجّة.
عن : عاصم بن عمر
بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب : ضعّفه أحمد وابن معين وأبو حاتم ، وابن عدي ، وقال الفروي : ليس بقويّ ، وقال الجوزجاني : يضعف حديثه
، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال الترمذي : متروك ليس بثقة ، وقال ابن
حبّان : يخطي ويخالف ، وقال أيضا : منكر الحديث جدّا يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث
الأثبات ، لا يجوز الاحتجاج به إلاّ فيما وافق الثقات ، وقال ابن الجارود : ليس
حديثه بحجّة. وتكلّم النسائي على أحمد بن صالح حيث وثّقه.
عن سهيل بن أبي
صالح : قال ابن معين : حديثه ليس بحجّة. وقال أبو حاتم : حديثه لا يُحتجّ به ، وقال ابن حبّان : يخطئ ، وقال ابن
أبي خيثمة عن يحيى : لم يزل أهل الحديث يتّقون حديثه. وذكر العقيلي عن يحيى أنّه قال : هو صويلح وفيه لين.
عن محمد بن
إبراهيم بن الحارث المدني : وثّقه غير واحد ، غير أنّ إمام الحنابلة
__________________
أحمد قال : في حديثه شيء يروي أحاديث مناكير أو منكرة . والحديث ذكره ابن حجر في الإصابة (٤ / ٥) وضعّفه.
هذا مجمل القول في
رجال سند الرواية ، وأمّا متنه فكما ترى آية في الغلوّ.
ـ ٢٢ ـ
الأشباح الخمسة من ذريّة آدم
عن أنس بن مالك
قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : أخبرني جبريل أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم وأدخل
الروح في جسده أمرني أن آخذ تفّاحةً من الجنّة فأعصرها في حلقه فعصرتها في فمه
فخلقك الله من النقطة الأولى أنت يا محمد ، ومن الثانية أبا بكر ، ومن الثالثة عمر
، ومن الرابعة عثمان ، ومن الخامسة عليّ. فقال آدم : من هؤلاء الذين كرّمتهم؟ فقال
الله تعالى : هؤلاء خمسة أشباح من ذرّيتك ، وقال : هؤلاء أكرم عندي من جميع خلقي.
قال : فلمّا عصى آدم ربّه. قال : ربّ بحرمة أُولئك الأشباح الخمسة الذين فضّلتهم
إلاّ تبت عليّ فتاب الله عليه.
ذكره الحافظ محبّ
الدين الطبري في الرياض النضرة (١ / ٣٠) ، وابن
حجر في الصواعق (ص ٥٠) نقلاً عن
رياض المحبّ الطبري وقال : عهدته عليه.
قال
الأميني : ما أبعد المسافة
بين من يجوّز توسّل آدم أوّل الأنبياء إلى الله تعالى بأُناس عاديّين في سياق
توسّله بأفضل الرسل وسيّد الأوصياء عليهما وآلهما السلام ،
__________________
وبين من ينكر
التوسّل لأيّ أحد بأيّ أحد ، ولا يرى لتوسّل آدم بالنبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم أيّ قيمة وكرامة ، فيعتقد الأوّل صحّة مثل هذه الرواية
التي حكم السيوطي بأنّها كذب موضوع ، وارتضاه ابن حجر في نقله عنه كما في كشف
الخفاء ، وإن عدّه في صواعقه من الفضائل زعماً منه بأنّ الدهر لم يأتِ بعده بمن
يناقشه في الحساب ، وصافقهما على التكذيب والوضع العجلوني ، فقال في كشف الخفاء (١ / ٢٣٣) : قال
ابن حجر الهيثمي نقلاً عن السيوطي : كذب موضوع.
ومتن الرواية أوضح
شاهد على ذلك ، غير أنّ المغالاة في الفضائل اختلقتها لمعارضة ما ورد في قوله
تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ
فَتابَ عَلَيْهِ) .
أخرج الديلمي في
مسند الفردوس كما في الدرّ المنثور (١ / ٦٠) بإسناده
عن عليّ قال : «سألت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قول الله : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)؟ فقال : إنّ الله أهبط آدم بالهند وحوّاء بجدّة ـ إلى أن
قال ـ : حتى بعث الله إليه جبريل ، وقال : يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ ألم أنفخ فيك من
روحي؟ ألم أُسجِد لك ملائكتي؟ ألم أزوّجك حوّاء أمتي؟ قال : بلى. قال : فما هذا
البكاء. قال : وما يمنعني من البكاء وقد أُخرجت من جوار الرحمن؟ قال : فعليك
بهؤلاء الكلمات ، فإنّ الله قابل توبتك وغافر ذنبك. قل : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ
محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلاّ أنت ، عملت سوءاً ، وظلمت نفسي فاغفر لي إنّك
أنت الغفور الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم».
وأخرج ابن النجّار
عن ابن عبّاس قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه؟ قال : «سأل
بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ ، فتاب عليه». الدرّ المنثور
(١ / ٦٠).
__________________
وأخرجه الفقيه ابن
المغازلي في المناقب كما في ينابيع المودّة (ص ٢٣٩).
وروى أبو الفتح
محمد بن علي النطنزي المولود (٤٨٠) في كتاب الخصائص : عن ابن عبّاس أنّه قال :
لمّا خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس فقال : الحمد لله. فقال له ربّه : يرحمك
ربّك. فلمّا أسجد له الملائكة فقال : يا ربّ خلقت خلقاً هو أحبّ إليك منّي؟ قال :
نعم ، ولولاهم ما خلقتك. قال : يا ربّ فأرِنيهم.
فأوحى الله إلى
ملائكة الحجب : أن ارفعوا الحجب. فلمّا رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش قال
: يا ربّ من هؤلاء؟ قال : يا آدم هذا محمد نبيّي ، وهذا عليّ أمير المؤمنين ابن
عمّ نبيّي ووصيّه ، وهذه فاطمة بنت نبيّي ، وهذان الحسن والحسين ابنا علي وولدا
نبيّي. ثمّ قال يا آدم هم ولدك ، ففرح بذلك. فلمّا اقترف الخطيئة قال : يا ربّ
أسألك بمحمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لمّا غفرت لي ، فغفر الله له. فهذا الذي
قال الله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ). إنّ الكلمات
التي تلقّاها آدم من ربّه : اللهمّ بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ
تبت عليّ. فتاب الله عليه.
وهذا الرجل يُروى
له بسند صحيح توسّل عمر ـ أحد الاشباح المزعومة ـ بالعبّاس عمّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الاستسقاء ، خرج يستسفي به وقد أجدب الناس فقال :
اللهمّ إنّا نستشفع إليك بعمّ نبيّك أن تذهب عنّا المحل ، وأن تسقينا الغيث. فقال
العبّاس : اللهمّ إنّه لم ينزل بلاء من السماء إلاّ بذنب ، ولا يكشف إلاّ بتوبة ،
وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا
بالتوبة ، وأنت الراعي لا تهمل الضالّة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة ، فقد ضرع
الصغير ، ورقّ الكبير ، وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السرّ وأخفى ، اللهمّ فأغثهم
بغياثك قبل أن
__________________
يقنطوا فيهلكوا ،
فإنّه لا ييأس من رحمتك إلاّ القوم الكافرون.
فما تمّ كلامه حتى
أرخت السماء مثل الحبال ، فنشأت السحاب ، وهطلت السماء ، فطفق الناس بالعبّاس
يمسحون أركانه ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين. فقال حسّان بن ثابت :
سأل الإمامُ وقد
تتابعَ جدبُنا
|
|
فسُقي الغمامَ
بغرّةِ العبّاسِ
|
عمِّ النبيِّ
وصنوِ والدِهِ الذي
|
|
ورثَ النبيَّ
بذاك دون الناسِ
|
أحيا الإلهُ به
البلادَ فأصبحتْ
|
|
مخضرّةَ
الأجنابِ بعد الياسِ
|
وقال ابن عفيف
النصري :
ما زال عبّاسُ
بن شيبةَ غايةً
|
|
للناسِ عند
تنكّر الأيّامِ
|
رجلٌ تفتّحتِ
السماءُ لصوتِهِ
|
|
لمّا دعا
بدعاوةِالإسلامِ
|
فتحت له
أبوابَها لمّا دعا
|
|
فيها بجندٍ
معلمينَ كرامِ
|
عمُّ النبيِّ
فلا كمن هو عمُّهُ
|
|
ولدٌ ولا
كالعمِّ في الأقوامِ
|
عرفت قريشٌ يوم
قام مقامَهُ
|
|
فبهِ له فضلٌ
على الأقوامِ
|
وقال شاعر بني
هاشم :
رسولُ اللهِ
والشهداءُ منّا
|
|
وعبّاسُ الذي
بعجَ الغماما
|
وقال العبّاس بن
عتبة بن أبي لهب :
بعمّي سقى اللهُ
الحجازَ وأهلَهُ
|
|
عشيّةَ يستسقي
بشيبتهِ عمرْ
|
توجّه بالعباسِ
في الجدبِ دائماً
|
|
إليه فما إن رام
حتى أتى المطرْ
|
__________________
ومنّا رسولُ
اللهِ فينا تراثُه
|
|
فهل فوق هذا
للمفاخرِ مفتخرْ
|
فهلاّ هذا الرجل
هو المتوسّل به في حديث الأشباح ـ المختلق ـ الواقع في رديف صاحب الرسالة وسيد
الوصيّين صلّى الله عليهما وآلهما ، وهو ومن معه أكرم خلق الله جميعاً باعتراف
ممّن خلقهم وفي خلقه سبحانه الأنبياء وأولو العزم من الرسل والأوصياء والملائكة
والمقرّبون؟
فهلاّ هذا الرجل
دعا الله بنفسه؟ وما محلّ توسّله بالعبّاس وهو أكرم عند الله منه ومن أبيه آدم
وولده وهلمّ جرّا؟ أو أنّه وجد استثناء في العبّاس فحسب ، فهو أكرم على الله منه
ومن كلّ من هو أكرم على الله منه؟
أنا لا أدري ما ذا
أقول ، ولك الفسحة والمجال لأن تقول الحقّ وما يحدوك إليه ضميرك الحرّ وتقول : كيف
يكون المذكورون في الحديث ـ غير محمد وصنوه ـ أكرم على الله من جميع خلقه وفيهم من
ذكرناهم من الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء والملائكة؟ وكيف يتوسّل أبو البشر
النبيّ المعصوم بمثل أبي بكر وصاحبيه وهم هم؟ وسيرتهم بين يديك ، وكيف يكونون رديف
النبيّ الأعظم وصنوه المعصوم بنصّ الكتاب العزيز ونفسه المطهّر الناطق به القرآن
الكريم؟ وكيف يشاركونهما في فضيلة الخلقة ، وكرامة التوسّل؟ ولا أحسب أنّ أحداً من
شيعة القوم يصافق رواة هذه الأفيكة على هذه المزاعم ، ولعلّهم يصافقونهم ويجعلونها
على عهدتهم كما فعل
__________________
ابن حجر إذ غلوّهم
في الفضائل غير محدود.
وأمّا الرجل
الثاني الذي أربكه التفريط وأسفّ به إلى هوّة الجهل فكالقصيمي الذي أنكر ما جاء في
الصحيح عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لمّا اقترف آدم الخطيئة قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمد
لمّا غفرت لي ، فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال : يا ربّ
لأنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش
مكتوباً : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلاّ
أحبّ الخلق إليك. فقال الله : صدقت يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إليّ ، ادعني بحقّه قد
غفرت لك ، ولولا محمد ما خلقتك».
أخرجه : البيهقي في دلائل النبوّة ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦١٥) وصحّحه ، والطبراني في
المعجم الصغير ، وأبو نعيم في الدلائل ، وابن عساكر كما في الخصائص ، وأقرّ صحته
السبكي في شفاء السقام (ص ١٢٠) ، والقسطلاني في المواهب (١ / ١٦) ، والسمهودي في
وفاء الوفا (٢ / ٤١٩) ، والزرقاني في شرح المواهب (١ / ٦٢) ، والعزّامي في فرقان
القرآن (ص ١١٧) ، وذكره السيوطي في الخصائص الكبرى عن عدّة من الحفّاظ (١ / ٦).
فقال القصيمي في
الصراع (٢ / ٥٩٣) تبعاً أثر ابن تيميّة في الردّ على هذه المأثرة النبويّة الصحيحة
: والسؤال بحقّ النبيّ أو بحقّ غيره من الأنبياء والصالحين ليس له من القيمة
العمليّة الدينيّة ما يوجب أن يكون عملاً صالحاً مبروراً فضلاً عن أن يكون أداة
غفران وعفو تامّ ، وما ذا في قول القائل : أسألك يا الله بحقّ فلان أو فلانة من
عمل صالح يؤهّل قائله لأن يكون من المغفور لهم؟ وإنّما يغفر للمستغفر.
__________________
وقال : وأمّا
الألفاظ المجرّدة فلا وزن لها عند الله ولا ينظر إليها فضلاً عن أن تكون عملا تحطّ
به الذنوب والخطايا الثقيلة ، فما في قول القائل : أسألك بحقّ محمد لمّا غفرت لي
من الشأن والقيمة؟ حتى يُقال له : وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك. وأجهل الناس
وأرقّهم ديناً وتقوى وفضيلة وأشدّهم بعداً عن الله وعن رضاه يقولون ذلك ، ويلهجون
به ، وهم على رغمهم لا يجدر بهم الغفران ولا التجاوز والعفو والرضا بل وهم خليقون
بالانتقام والطرد والعذاب الأليم الموجع ، ولن تجديهم هذه المقالة ولا هذا التوسل
قليلاً ولا كثيراً ، فنحن لا نشكّ في أنّ آدم ما غفر له ذنبه إلاّ لتوبته ولرجوعه
إلى ربّه ولإقلاعه عن ذنبه ، ولاعتذاره واستغفاره الصادرين عن جميع نفسه وقلبه
وعقله ، أمّا السؤال بالحقّ فلا قيمة ولا وزن له عند الله البتة. انتهى.
نحن لا نقابل هذا
المغفّل المستهتر البذي إلاّ بالسلام ، حذا في هذيانه هذا حذو شيخه ابن تيميّة ،
وقد ردّ عليه جمع من أئمّة الحديث وحفّاظه بكلمات ضافية نقتصر منها بكلام السبكي ،
قال في شفاء السقام (ص ١٢١) : قال ابن
تيميّة : أمّا ما ذكر في قصّة آدم من توسّله فليس له أصل ، ولا نقله أحد من النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم بإسناد يصلح
للاعتماد عليه ولا الاعتبار ولا الاستشهاد. ثمّ ادّعى ابن تيميّة أنّه كذب وأطال
الكلام في ذلك جدّا بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرّص ، ولو بلغه أنّ الحاكم صحّحه
لما قال ذلك ، أو لتعرّض للجواب عنه ، وكأنّي به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد
الرحمن بن يزيد راوي الحديث ، ونحن نقول : قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ،
وأيضاً عبد الرحمن بن يزيد لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادّعاه ، وكيف يحلّ
لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يردّه عقل ولا شرع؟ وقد ورد فيه
هذا الحديث ، وأمّا ما ورد من توسّل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء فذكره
المفسّرون واكتفينا عنه بهذا الحديث لجودته وتصحيح الحاكم له ، ولا فرق في هذا
المعنى بين أن
__________________
يعبّر عنه
بالتوسّل أو الإستعانة أو التشفّع أو التجوّه . والداعي بالدعاء المذكور ما في معناه متوسّل بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه ، أو مستغيث به ،
والمعنى أنّه استغاث الله به على ما يقصده.
وقد أسلفنا الكلام
حول الموضوع في الجزء الخامس (ص ١٤٣ ـ ١٥٦) راجع.
ـ ٢٣ ـ
أبو بكر خير أهل السموات والأرض
عن أبي هريرة :
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أبو بكر وعمر خير أهل السموات والأرض ، وخير
الأوّلين والآخرين ، إلاّ النبيّين والمرسلين.
ذكره ابن حجر في
الصواعق (٤٥) نقلاً عن الحاكم وابن عدي ، وأخرجه الخطيب في تاريخه (٥ / ٢٥٣) وسكت عمّا في سنده من
العلل ـ على عادته الجارية في مناقب الشيخين ـ وفيه : جبرون بن واقد الإفريقي
والراوي عنه محمد بن داود القنطري ، قال الذهبي في الميزان : جبرون متّهم فانّه روى بقلّة حياء عن سفيان ، وروى عنه
محمد بن داود القنطري ، عن أبي هريرة مرفوعاً : أبو بكر وعمر خير الأوّلين. الحديث
تفرّد به وبالذي قبله وهما موضوعان. وزاد ابن حجر في اللسان (٢ / ٩٤) عن ابن
عدي أنّه قال : لا أعرف له غير هذين الحديثين ولا أعلم يرويهما عنه غير محمد بن
داود وهما منكران.
__________________
وقال الذهبي في ترجمة محمد بن داود : عن جبرون الإفريقي بحديثين باطلين
ذكرهما ابن عدي في ترجمة جبرون ، وقال : تفرّد بهما محمد.
وقال ابن حجر في
اللسان (٥ / ١٦١) : أحسب
الآفة في الحديث من جبرون ، وقد ساق المؤلّف الحديثين في ترجمته وصرّح بأنّهما
موضوعان وأشار إلى أنّ المشتهر بهما جبرون.
قال
الأميني : ومن الحريّ لمثل
هذين المبطلين أن يرويا باطلاً كمثل هذا الذي يرتئي مفتعله تفضيل الرجلين على
الملائكة المقرّبين المعصومين من أهل السموات وفيهم سيّدهم أمين الوحي جبرئيل ،
وعلى من ثبتت زلفتهم وقربهم من أولياء الله وأصفيائه وأوصياء الأنبياء ، أنا لا
أدري بما ذا فضّلا عليهم : أبعلمهما المتدفّق وقد عرفت مبلغهما منه؟ أم بالعصمة عن
الخطايا والذنوب وأنت لا تقول بها؟ أو أنّ ما حفظه التاريخ من سيرتهما لا يدع أن
تقول بها ، لكن عصمة الملائكة ثابتة لا ريب فيها ، وعصمة الأوصياء واجبة بالبرهنة
الصحيحة ، وزلفى المقرّبين كلقمان والخضر وذي القرنين من القضايا التي قياساتها
معها ، أم ببأسهما المرهب في ذات الله وعنائهما في سبيل الدين وجهودهما الجبّارة؟
لا يخفى على أحد
حقّ القول في ذلك كلّه ، ضع يدك هاهنا على أيّ فضيلة فإنّك لا تجد فيهما منها ما
يربي بهما على كثير من الصحابة والتابعين هلمّ جرّا فضلاً عن من ذكرناهم ، غير أنّ
الغلوّ في الفضائل حدا صاحبه إلى أن يقول بذلك ، فدعه يقل ؛ فإنّ الحقائق الثابتة
غير قابلة للزوال والأصول الموضوعة يركن إليها على كلّ حال.
__________________
ـ ٢٤ ـ
ثواب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر
عن عليّ بن أبي
طالب قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لأبي بكر : يا أبا بكر إنّ الله أعطاني ثواب من آمن
به منذ خلق آدم إلى أن بعثني ، وإنّ الله أعطاك ثواب من آمن بي منذ بعثني إلى أن
تقوم الساعة.
أخرجه الخلعي والملاّ
كما في الرياض النضرة (١ / ١٢٩) ،
والخطيب البغدادي في تاريخه (٥ / ٥٣) من طريق أحمد بن محمد بن عبيد الله أبي الحسن
التمّار المقرئ فقال : كان غير ثقة روى أحاديث باطلة ، ذاكرت أبا القاسم الأزهري
حال هذا الشيخ وقلت : أراه ضعيفاً لأنّ في حديثه مناكير. فقال : نعم هو مثل أبي
سعيد العدوي.
قال
الأميني : أبو سعيد العدوي
هو الحسن بن علي العدوي البصري شيخ قليل الحياء كذّاب يضع الحديث ، أسلفنا ترجمته
في سلسلة الكذّابين في الجزء الخامس (ص ٢٢٤) ، فقول الأزهري في أبي الحسن التمّار
إنّه مثل أبي سعيد يومي إلى أنّه أيضاً كذّاب وضّاع.
وفي الإسناد أبو
معاوية الضرير وقد اشتهر عنه الغلوّ غلوّ التشيّع ، وقال يعقوب بن شيبة : ثقة
ربّما يدلّس. ميزان الاعتدال (٣ / ٣٨٢):
وفيه : أبو
البختري عن عليّ. قال سلمة بن كهيل : ما كان من حديث أبي البختري [ سماعاً ] فهو حسن ، وما كان عن فهو ضعيف. ميزان الاعتدال (٣ / ٣٤٤)
__________________
هذا شأن سند
الرواية ، وأمّا متنه فضميرك الحرّ نعم الحَكَم فيه.
ـ ٢٥ ـ
الحبّ والشكر الواجبان على الأُمّة
عن سهل بن سعد قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حبّ أبي بكر وشكره واجب على أُمّتي.
أخرجه الخطيب
البغدادي في تاريخه (٥ / ٤٥٣) من طريق عمر بن إبراهيم الكردي وقال : تفرّد به عمر
، وهو ذاهب الحديث. وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (٢ / ٢٤٩) فقال :
الحديث منكر جدّا.
ورواه الخطيب في
تاريخه (٥ / ٧٣) من طريق عمر الكردي. أيضاً بلفظ : إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته
وذات يده أبو بكر الصدّيق ، فحبّه وشكره وحفظه واجب على أُمّتي.
قال الأميني : هذه
الرواية من موضوعات عمر الكردي ، قال الدارقطني : كذّاب خبيث ، وقال الخطيب : غير ثقة يروي مناكير من الأثبات. راجع ما مرّ في سلسلة
الكذّابين في الجزء الخامس (ص ٢٤٦).
والعجب من الخطيب
في تاريخه أنّه ، مع قوله المذكور في ترجمة الكردي ، ترى عقدةً في لسانه لمّا يذكر
الرواية ، فيسكت عمّا فيها تارة ولم يتكلّم بذأمة تعرب عن وضعها ، ويقتصر أخرى
بقوله : تفرّد بروايته عمر وغير عمر أوثق منه. كما قاله في الموضع الثاني ، وليست
هذه كلّها إلاّ لإغفال القرّاء عن جليّة الحال ، والتمويه على الحقائق الراهنة ،
فمن جرّائها يأتي الصفوري بعد حين ويذكر الرواية في نزهة
__________________
المجالس (٢ / ١٨٦) مرسلاً
إيّاها إرسال المسلّم.
ـ ٢٦ ـ
أبو بكر في كفّة الميزان
أخرج الحكيم
الترمذي كما في مرقاة الوصول (ص ١١٢) قال : حدّثنا رزق الله ابن موسى الباجي
البصري ، قال : حدّثنا مؤمل بن إسماعيل ـ العدوي البصري ـ قال : حدّثنا حماد بن
سلمة ، قال : حدّثنا سعيد بن جمهان البصري عن سفينة مولى أمّ سلمة ، قال : كان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا صلّى الصبح أقبل على أصحابه فقال : أيّكم رأى الليلة
رؤيا؟ قال : فصلّى ذات يوم الصبح ثمّ أقبل على أصحابه فقال : أيّكم رأى الليلة
رؤيا؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، رأيت كأنّ ميزاناً أدلي من السماء فوضعت في
كفّة الميزان ووضع أبو بكر في كفّة أخرى فرجحت بأبى بكر فرفعت ، وتُرك أبو بكر
فجيء بعمر فوضع في الكفّة الأخرى فوزن بأبي بكر فرجح أبو بكر بعمر ، ورفع أبو بكر
وترك عمر مكانه ، فجيء بعثمان فوضع في الكفّة الأخرى فرجح عمر بعثمان ، ورفع عمر
وتُرك عثمان مكانه ، فجيء بعليّ فوضع في الكفّة الأخرى فرجح عثمان بعليّ ورفع
الميزان. فتغيّر وجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ قال : خلافة نبوّة ثلاثين عاماً ثمّ تكون ملكاً.
رجال إسناده :
١ ـ رزق الله
البصري المتوفّى (٢٥٦ ، ٢٦٠) : قال الأندلسي : روى أحاديث منكرة وهو صالح لا بأس
به. تهذيب التهذيب (٣ / ٢٧٣).
٢ ـ مؤمّل العدوي
البصري المتوفّى (٢٠٦) : قال أبو حاتم : صدوق شديد في
__________________
السنّة كثير
الخطأ. وقال البخاري : منكر الحديث. وقال يعقوب بن سفيان : شيخ جليل سنّي سمعت
سليمان بن حرب يحسن الثناء ـ عليه ـ كان مشيختنا يوصون به إلاّ أن حديثه لا يشبه
حديث أصحابه ، وقد يجب على أهل العلم أنّ يقفوا عن حديثه ، فإنّه يروي المناكير عن
ثقات شيوخه ، وهذا أشدّ فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنّا نجعل له عذراً ،
وقال الساجي : صدوق كثير الخطأ ، وله أوهام يطول ذكرها ، وقال ابن سعد والدارقطني : كثير الخطأ. وقال المروزي : إذا انفرد بحديث
وجب أن يتوقّف ويتثبّت فيه ، لأنّه كان سيّئ الحفظ كثير الغلط.
ميزان الاعتدال (٢ / ٢٢١) ، تهذيب
التهذيب (١٠ / ٣٨١).
٣ ـ سعيد بن جمهان
البصري المتوفّى (١٣٦). قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال الساجي : لا يُتابَع على
حديثه.
ميزان الاعتدال (١ / ٣٧٧) ، تهذيب
التهذيب (٤ / ١٤).
قال
الأميني : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) .
هذه الميزان التي
جاء بها البصريّون وأُدليت من سماء البصرة في منجمها عين ،
__________________
وفي إحدى كفّتيها
شول ، وفي لسانها عوج (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) .
كيف يوزن في ميزان
العدل والنصفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو هو مع ابن أبي قحافة الذي ليس إلاّ أبو بكر ، أيّ
خلائق كريمة؟ أيّ نفسيّات طاهرة؟ أيّ ملكات فاضلة؟ أي حكم علميّة أو عمليّة؟ أي
عوارف ومعارف راقية؟ أيّ بصيرة نافذة؟ أيّ علم؟ أيّ شجاعة؟ أيّ عصمة؟ أيّ قداسة؟
أيّ عظمة؟ أيّ عزم؟ أي حزم؟ أيّ أيّ؟ جعلت في كفّة جعل فيها أبو بكر؟ هل هذه الموازنة
يقبلها الوجدان والمنطق حتى يقال بالرجحان في إحدى كفّتي الميزان؟ (فَما
لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) .
ثمّ كيف رجح أبو
بكر بعمر وإنّهما كانا عكمي بعير في الفضائل كلّها أيّام حياتهما ، غير أنّ فتوحات
عمر وأياديه في بسط الإسلام في أرجاء العالم لا تُنسى ، ولم تزل تذكر في صفحات
التاريخ ، فله فضيلة الرجحان على أبي بكر إن وزنا بميزان غير معيبة.
وكيف فُصِل بين
النبيّ الأعظم وبين أمير المؤمنين في الميزان؟ وهو نفسه بنصّ القرآن الكريم ، وله
العصمة بحكم الكتاب العزيز ، وهو وارث علمه ، وباب حكمته ، وهو عدل القرآن وخليفة
نبيّ الإسلام بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي مخلّف فيكم اثنين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وأيّ
فضيلة رابية لعثمان جعلت في كفّة الميزان ورجح بها على عليّ رديف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في فضائله؟ أنا لا أدري.
ثمّ إن كان
التعبير الذي عزوه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حقّا فهو لا محالة بتقدير من
__________________
الله تعالى ومشيئة
منه رعاية للنظام الأصلح ، فلما ذا تغيّر وجهه صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا قدّره المولى سبحانه وشاءه وأحبّه؟ ولم تكن له غاية
إلاّ الحصول على مرضاته والدعوة إليها وإيقاف الأمّة عليها أوَليس هذا ممّا ينافي
عصمته ويضادّ مقامه الأسمى؟ لكن الغلوّ في الفضائل قد يصحّح أمثال ذلك. فإنّا لله
وإنّا إليه راجعون.
ـ ٢٧ ـ
ما أسلم أبو مهاجر إلاّ أبو أبي بكر
أخرج ابن مندة
وابن عساكر عن عائشة رضى
الله عنها قالت : ما أسلم
أبو أحد من المهاجرين إلاّ أبو أبي بكر. تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٧٣).
وروى المحبّ
الطبري في رياضه (١ / ٤٧) عن
الواحدي مرسلاً بلا إسناد عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال في أبي بكر : أسلم أبواه
جميعاً ولم يجتمع لأحد من الصحابة المهاجرين أسلم أبواه غيره. وذكره القرطبي في
تفسيره (١٦ / ١٩٤).
وأخذ غير واحد من
المتأخرين كالشبلنجي ونظرائه هذين الحديثين فعدّوهما من فضائل أبي بكر المتسالم
عليها.
قال
الأميني : نحن نقدّس ساحة
عليّ وعائشة عن مثل هذا الكذب الفاحش الذي ينادي التاريخ بخلافه ، وتكذّبه سيرة
الصحابة المهاجرين ، وإنّما الحبّ الدفين قد أعمى رواة هذه الأفيكة وأصمّهم عمّا
في غضون الكتب ، فأسرفوا في القول وتغالوا في الفضائل غير مكترثين لمغبّة قيلهم ، أهذا
مبلغهم من العلم؟ أم يقولون على الله الكذِب وهم يعلمون؟
__________________
هاجر بنو مظعون من
بني جمح ، وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أُميّة ، وبنو البكير من بني سعد بن ليث
حلفاء بني عدي بن كعب بأهليهم وأموالهم ، وغلقت دورهم بمكة هجرةً ليس فيها ساكن
كما في سيرة ابن هشام (٢ / ٧٩ ، ١١٧) أكانت
نساء تلكم الأُسَرِ الكبيرة أرامل أو عقائم؟ أو كانت أبناؤها أيتاماً من الأبوين
أيامى؟ أو كانت آباؤها رجالاً بلا أعقاب؟ قاتل الله الحبّ كيف يُعمي ويُصمّ.
وهلمّ معي نقرأ
صحيفة من تراجم المهاجرين :
هذا عمّار بن ياسر
، مهاجر عظيم وأبواه في الرعيل الأوّل من المعذّبين في الإسلام. قال مسدّد كما في
تهذيب التهذيب (٧ / ٤٠٨) : لم
يكن في المهاجرين من أبواه مسلمان غير عمّار بن ياسر. فهذا ينفي إسلام والدَي أبي
بكر ويكذّب ذلك المختلق.
وهذا عبد الله بن
جعفر ، هاجر أبوه ومعه عبد الله وأخواه محمد وعون ومعهم أمّهم أسماء بنت عميس.
وهذا عمرو بن أبان
بن سعيد الأموي ، من المهاجرين وأبوه شهد خيبراً مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأُمّه فاطمة بنت صفوان مسلمة.
وهذا خالد بن أبان
الأموي أخو عمرو بن أبان المذكور.
وهذا إبراهيم بن
الحارث بن خالد التميمي ، هاجر مع أبيه وأمّه ريطة بنت الحارث بن جبلة.
وهذا الحاطب بن
الحارث الجمحي ، من المهاجرين وهاجر معه أبوه وأُمّه فاطمة بنت المجلّل.
__________________
وهذا الحطّاب بن
الحارث الجمحي ، هاجر مع أبيه وأُمّه وأخيه الحاطب ومعه امرأته فكيهة بنت يسار.
وهذا حكيم بن
الحارث الطائفي ، هاجر مع امرأته وبنيه ومعه أبواه وهما مسلمان.
وهذا خزيمة بن جهم
بن قيس العبدري ، هاجر مع أبيه وأخيه عمرو ومعهم أُمّهما أُمّ حرملة بنت عبد
الأسود.
وهذا جابر بن
سفيان بن معمر الجمحي ، هاجر هو وأبوه وأُمّه حسنة.
وهذا جنادة بن
سفيان الجمحي ، هاجر ومعه أُمّه حسنة وأخوه جابر المذكور.
وهذا سلمة بن أبي
سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، هاجر أبوه وهاجرت بعده أُمّه أُمّ سلمة زوج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع ابنها سلمة.
وهذا جناب بن
الحارثة بن صخر العذري ، هاجر إلى المدينة وأبوه قد أسلم.
وهذا الحارث بن
قيس السهمي ، هاجر مع بنيه الحارث وبشر ومعمر ، فهم مهاجرون وأبوهم الحارث قد أسلم
وهاجر.
وهذا السائب بن
عثمان بن مظعون الجمحي ، من المهاجرين وأبوه مهاجر عظيم.
وهذا سليط بن سليط
بن عمرو العامري ، قال عمر : دلّوني على فتى مهاجر هو وأبوه. فدلّوه عليه.
وهذا عبد الرحمن
بن صفوان بن قدامة ، هاجر هو وأبوه.
وهذا عبد الله بن
صفوان بن قدامة ، هاجر هو وأبوه.
وهذا عامر بن
غيلان بن سلمة الثقفي ، هاجر إلى رسول الله وأبوه قد أسلم.
وهذا عبد الله بن
بديل بن ورقاء الخزاعي ، من المهاجرين ووالده صحابيّ عظيم.
وهذا عبد الله بن
أبي بكر بن أبي قحافة ، مهاجر وهاجر أبوه وأسلم جدّه وجدّته أمّ الخير على زعم
القوم ، وسيأتي الكلام في إسلامهما.
وهذا عبد الله بن
عمر بن الخطّاب ، مهاجر وأبوه قد أسلم وهاجر.
وهذا محمد بن عبد
الله بن جحش ، أحد المهاجرين ومعه أبوه وأُمّه.
وهذا عبد الله بن
المطّلب بن أزهر ، أحد المهاجرين وأبوه مهاجر.
وهذا معمر بن عبد
الله بن نضلة ، أحد المهاجرين ووالده مهاجر.
وهذا مهاجر بن
قنفذ بن عمير القرشي التيمي ، من المهاجرين السابقين إلى الإسلام وأبوه له صحبة.
وهذا موسى بن
الحرث بن خالد القرشي التيمي ، مهاجر ابن مهاجر.
وهذا النعمان بن
عدي بن نضلة ، مهاجر هو ووالده.
راجع سيرة ابن هشام (ص ٢١) ، طبقات ابن سعد ، تاريخ الطبري ،
الاستيعاب ، أُسد الغابة ، كامل ابن الأثير ، تاريخ ابن كثير ، عيون الأثر لابن
سيّد الناس ، الإصابة ، تهذيب التهذيب ، السيرة الحلبيّة.
ولعلّ الباحث يقف
في غضون السير وكتب التاريخ ومعاجم التراجم كثيراً من نظراء هؤلاء من المهاجرين
الذين أسلم آباؤهم أو آباؤهم وأُمّهاتهم. فما جاء به المحبّ
__________________
الطبري والسيوطي
ومن لفّ لفّهما من فضيلة إسلام والد أبي بكر أو والديه دون سائر الصحابة وعزوه إلى
مولانا أمير المؤمنين ليس إلا مجهلة ومخرقة نشأت من الغلوّ الفاحش في الفضائل.
إسلام والدي أبي
بكر :
هلمّ معي نحاسب
إسلام والدي أبي بكر أحقّا هما أسلما؟ فضلاً عن أن يخصّ بهما الإسلام من بين آباء
المهاجرين وأُمّهاتهم ، أم لم ينبّأ به خبير؟ بل هو نبأ كنبإ إسلام والدَي غيره من
المهاجرين يناقش فيه وإنّما ولّده الغلوّ في الفضائل. أمّا إسلام أبي قحافة فيقال
: إنّه أسلم يوم الفتح وقد أتى به ابنه أبو بكر إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يؤثر إتيانه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طيلة حياته غير مرّة واحدة في تلك السنة يوم ذاك. وها نحن
نذكر جميع ما ورد في إتيانه ذاك ، ونجعل تلكم الروايات المرويّة فيه قسمين :
الأوّل ما لم يذكر فيه إيعاز إلى إسلامه. والثاني ما يوعز فيه إلى إسلامه.
القسم الأوّل :
١ ـ أخرج الحاكم
في المستدرك (٣ / ٢٤٥) عن أبي
عبد الله محمد بن أحمد القاضي ابن القاضي ، قال : حدّثني أبي ، حدّثنا محمد بن
شجاع ، حدّثنا الحسين بن زياد عن أبي حنيفة ، عن يزيد بن أبي خالد ، عن أنس رضى
الله عنه قال : كأنّي أنظر إلى لحية أبي قحافة كأنّه ضرام عرفج من شدّة حمرته ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمةً لأبي بكر.
سكت الحاكم عمّا
في سند هذه الرواية ولم يصحّحه على عادته في الكتاب ،
__________________
وتبعه في ذلك
الذهبي في تلخيصه ، كلّ ذلك تكرمةً لأبي بكر ، وإن بخسا الحقّ والحقيقة. فيه
:
١ ـ محمد بن شجاع
البغدادي أبو عبد الله بن الثلجي الفقيه : قال أحمد إمام الحنابلة : مبتدع صاحب
هوى. وقال عبد الله بن أحمد : سمعت القواريري قبل أن يموت بعشرة أيّام وذكر ابن
الثلجي فقال : هو كافر. فذكرت ذلك لإسماعيل القاضي فسكت ، فقلت : ما أكفره إلاّ
بشيء سمعه منه. قال : نعم.
وقال زكريا الساجي
: فأمّا ابن الثلجي فكان كذّاباً احتال في إبطال حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وردّه نصرة لمذهبه ، وفي المنتظم : نصرةً لأبي حنيفة ورأيه.
وقال ابن عدي : كان يضع أحاديث في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث
يبليهم بذلك.
وقال الأزدي :
كذّاب لا تحلّ الرواية عنه لسوء مذهبه ، وزيغه عن الدين.
وقال الجوزجاني :
قال موسى بن القاسم الأشيب : كان كذّاباً خبيثاً . وفيه :
٢ ـ الحسن ابن
اللؤلؤي الكوفي : قال يحيى بن معين : كذّاب.
وقال ابن المديني
: لا يكتب حديثه.
وقال محمد بن عبد
الله بن نمير : يكذب على ابن جريج.
__________________
وقال أبو داود :
كذّاب غير ثقة.
وقال أبو حاتم : ليس بثقة. وقال الدارقطني : ضعيف متروك.
وقال نضر بن شميل
لرجل كتب كُتب الحسن : لقد جلبت إلى بلدك شرّا.
وقال أبو ثور : ما
رأيت أكذب من اللؤلؤي ، كان على طرف لسانه : ابن جريح عن عطاء.
وقال أحمد بن
سليمان : رأيته يوماً في الصلاة وغلام أمرد إلى جانبه في الصفّ ، فلمّا سجد مدّ
يده إلى خدّ الغلام فقرصه فلا أحدّث عنه.
وقال ابن أبي شيبة
: كان أبو أُسامة يسمّيه الخبيث.
وقال يعقوب بن
سفيان ، والعقيلي ، والساجي : كذّاب.
وقال النسائي : ليس بثقة ولا مأمون . إقرأ واحكم. أتخفى هذه كلّها على مثل الحاكم والذهبي؟
لاها الله.
٢ ـ أخرج الحاكم
في المستدرك (٣ / ٢٤٤) عن أبي
العبّاس محمد بن يعقوب ، قال : حدّثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدّثنا حسين بن
محمد المروزي ، حدّثنا عبد الله بن عبد الملك الفهري ، حدّثنا القاسم بن محمد بن
أبي بكر ، عن أبيه ، عن أبي بكر قال : جئت بأبي أبي قحافة إلى رسول الله ، فقال :
هلاّ تركت الشيخ
__________________
حتى آتيه. فقلت :
بل هو أحقّ أن يأتيك. قال : إنّا لنحفظه لأيادي ابنه عندنا.
وذكره الحافظ
الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٥٠) فقال : رواه البزّار وفيه عبد الله ابن عبد
الملك الفهري ولم أعرفه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك : عبد الله منكر الحديث.
وقال الذهبي في
الميزان (٢ / ٥٥) ، وابن
حجر في لسانه (٢ / ٣١١) : قال
ابن حبّان : عبد الله لا يشبه حديثه حديث الثقات يروي العجائب. وقال
العقيلي : منكر الحديث لا يتابع عليه ، وقال أبو زرعة : هو ضعيف
يضرب على حديثه. وقال البرقاني : سألت أبا الحسن عنه قلت : ثقة؟ قال : لا ولا
كرامة. انتهى ما في الميزان ولسانه. وفي السند : القسام بن محمد عن أبيه عن أبي
بكر ، توفّي القاسم بن محمد سنة (١٠٨ ، ١٠٩) وهو ابن (٧٠ ـ ٧٢) سنة كما في صفة
الصفوة لابن الجوزي (٢ / ٥٠) وتوفّي
والده محمد سنة (٣٨) فتكون ولادة القاسم سنة وفاة أبيه محمد ، وإن أخذنا قول ابن
سعد من أنّ القاسم توفّي سنة (١١٢) وهو ابن سبعين سنة فيكون القاسم عند وفاة
والده ابن أربع سنين فأنّى له الرواية عن أبيه؟!!
وأمّا رواية محمد
عن أبيه أبي بكر فلا يصحّ ؛ إذ محمد ولد عام حجّة الوداع سنة عشرة من الهجرة
وتوفّي والده في جمادى الآخرة عام ثلاثة عشر ، فأين يكون مقيل هذه الرواية من
الصحّة؟ قال الذهبي في تلخيص المستدرك في تعقيب هذه
__________________
الرواية : القاسم
لم يدرك أباه ولا أبوه أبا بكر .
٣ ـ أخرج الحاكم
في المستدرك (٣ / ٢٤٤) عن
القاضي أبو بكر محمد بن عمر ابن سالم بن الجعابي الحافظ الأوحد ، حدّثنا أبو شعيب
عبد الله بن الحسن الحرّاني ، بإسناده عن أنس قال : جاء أبو بكر رضى الله عنه يوم
فتح مكة بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه.
ليت شعري ما الذي
دعا الذهبي إلى تسليم رواية الجعابي هذه وترك الغمز فيها وقد ترجمه في ميزانه (٣ / ١١٣) وقذفه
بقوله : إنّه فاسق رقيق الدين ، وقال الخطيب : كثير الغرائب ، ومذهبه في التشيّع
معروف ، ونسب إليه ابن الجوزي ما هو بريء منه ، وحكي عن الحاكم أنّه قال : قلت
للدارقطني : بلغني أنّ ابن الجعابي تغيّر بعدنا. فقال : وأيّ تغيّر؟ فقلت : هذا
فهمه في الحديث. قال : إي والله حدّث عن الخليل بن أحمد صاحب العروض بعشرين حديثاً
بأسانيد ليس له فيها أصل. إلى آخر ما أتى به القوم في ترجمته. راجع : تاريخ الخطيب
(٣ / ٢٦) ، المنتظم لابن الجوزي (٧ / ٣٨) ، لسان
الميزان (٥ / ٣٢٢).
ثمّ كيف خفي عليه
وعلى الحاكم أنّ الجعابي ولد سنة (٢٨٥) وتوفّي (٣٥٥) باتفاق المؤرّخين ، فأنّى
تصحّ روايته عن أبي شعيب عبد الله بن الحسن المتوفّى (٢٩٢)؟ كما أرّخه الذهبي في
ميزان الاعتدال ، هذا أخذاً بما في لفظ الذهبي في تلخيصه من حذف حرف (ألا وَ) من
السند وأمّا على ما في لفظ الحاكم من (ألا وَ) فيكون
__________________
الراوي عن أبي
شعيب المتوفّى (٢٩٢) هو نفس الحاكم المولود سنة (٣٢١) .
على أنّ الذهبي
قال في الميزان (٢ / ٣٠) : كان
أبو شعيب غير متّهم لكنه أخذ الدراهم على الحديث ؛ وحكى ابن حجر عن ابن حبّان في لسان الميزان (٣ / ٢٧١) أنّه
قال : كان يخطئ ، ويهم.
٤ ـ أخرج الحاكم
في المستدرك (٣ / ٢٤٤) عن أبي
العبّاس محمد بن يعقوب ، حدّثنا بحر بن نصر ، حدّثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن
جريج عن أبي الزبير عن جابر أنّ عمر بن الخطّاب أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا وقف به على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : غيّروه ولا تقرّبوه سوادا.
متن هذه الرواية
يكذّبه كلّ ما ورد في إتيان أبي قحافة إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّ في الجميع أنّ الآتي به هو أبو بكر. ثمّ مرّ في
حديث أنس أنّه نظر إلى لحية أبي قحافة كأنّها ضرام عرفج من شدّة حمرتها ، فما معنى
ما ورد في هذا الرواية من قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : غيّروه ولا تقرّبوه سوادا؟
__________________
وأمّا سندها ففيها
عبد الله بن وهب ؛ قال ابن معين : ابن وهب ليس بذاك. وفي ابن جريج كان يستصغر.
ميزان الاعتدال (٢ / ٨٦).
وفيها أبو الزبير
محمد بن مسلم الأسدي المكي ، ففي الميزان (٣ / ١٢٥) : يردّ
ابن حزم من حديث أبي الزبير ما يقول : عن جابر ونحوه ، لأنّه عندهم ممّن يدلّس ،
فإذا قال : سمعت وأخبرنا احتُجّ به.
قال
الأميني : هذا الحديث ممّا
قال فيه أبو الزبير : عن جابر فهو يُردّ على ما قاله ابن حزم.
وقال أبو زرعة
وأبو حاتم : أبو الزبير لا يحتجُّ به. وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي
واحتجّ عليه رجل بحديث عن أبي الزبير فغضب وقال : أبو الزبير محتاج إلى دعامة. وعن
ورقاء قال : قلت لشعبة : مالك تركت حديث أبي الزبير؟ قال : رأيته يزن ويسترجح في
الميزان ، وقال شعبة : قدمت مكة فسمعت من أبي الزبير ، فبينا أنا جالس عنده إذ
جاءه رجل يوماً فسأله عن مسألة فردّ عليه ، فقلت له : يا أبا الزبير تفتري على رجل
مسلم ، قال : إنّه أغضبني. قلت : من يغضبك تفتري عليه؟! لا رويت عنك حديثاً أبداً.
وذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (٩ / ٤٤٠) وحكى
تضعيف أيّوب وأحمد وغيرهما إيّاه.
وعن أبي الزبير
هذا أخرج الحاكم في المستدرك (٣ / ٢٤٥) عن جابر
أنّه قال : أُتي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الفتح بأبي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اخضبوا لحيته.
٥ ـ أخرج ابن حجر
من طريق محمد بن زكريا العلائي عن العبّاس بن بكّار ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الكلبي ، عن
أبي صالح ، عن ابن عبّاس قال : جاء أبو بكر بأبي قحافة وهو شيخ قد عمي ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا تركت الشيخ حتى آتيه؟ قال : أردت أن يؤجره الله ،
والذي بعثك بالحقّ لأنا كنت أشدّ فرحاً بإسلام أبي طالب منّي بإسلام أبي ، ألتمس
بذلك قرّة عينك. الإصابة (٤ / ١١٦).
رجال الإسناد :
١ ـ محمد بن
زكريّا الغلابي البصري : قال الذهبي : ضعيف. وقال ابن حبّان : يعتبر بحديثه إذا روى عن ثقة. وقال ابن مندة : تكلّم
فيه. وقال الدارقطني : يضع الحديث. وذكر الصولي بإسناده حديثاً فقال : هذا كذب
من الغلابي. ميزان الاعتدال (٣ / ٥٨).
٢ ـ العباس بن
بكّار البصري : قال الدارقطني : كذّاب. وقال العقيلي : الغالب على حديثه الوهم والمناكير. ميزان الاعتدال (٢ / ١٨).
٣ ـ أبو بكر
الهذلي البصري : قال الدوري : ليس بشيء ، وقال أيضاً : ليس بثقة. وقال ابن معين : ليس بشيء. وقال غندر : كان يكذب. وقال أبو زرعة :
__________________
ضعيف. وقال أبو
حاتم : ليّن الحديث يكتب حديثه ولا يحتجّ بحديثه. وقال النسائي : ليس بثقة ولا يُكتب حديثه. وقال ابن الجنيد : متروك
الحديث. وقال ابن المديني : ضعيف ليس بشيء ، ضعيف جدّا ، ضعيف ضعيف. وقال
الجوزجاني : يضعف حديثه. وقال الدارقطني : منكر الحديث متروك. وقال يعقوب بن سفيان : ضعيف ليس
حديثه بشيء. وقال المروزي : كان أبو عبد الله يضعّف أمره. وقال ابن عمّار : بصريّ
ضعيف. وقال أبو إسحاق : ليس بحجّة. وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقويّ عندهم.
وقال ابن عدي : عامّة ما يرويه لا يُتابع عليه.
وقال الذهبي : ضعّفه أحمد وغيره. وقال غندر وابن معين : لم يكن بثقة. وقال يزيد بن زريع : عدلت عنه عمداً. وقال
النسائي : ليس بثقة. وقال البخاري : ٧ / ٣١٨ ليس بالحافظ عندهم.
راجع : ميزان
الاعتدال (٣ / ٣٤٥) ، تهذيب
التهذيب (١٢ / ٤٦) ، وقال ابن حجر في الإصابة بعد ذكر الحديث : إسناد واهٍ.
٦ ـ قال ابن حجر
في الإصابة (٤ / ١١٧) : أخرج أبو قرة موسى بن طارق ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد
الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : جاء أبو بكر بأبي قحافة يقوده يوم فتح مكة فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟ قال أبو بكر : أردت أن يؤجره
الله ، والذي بعثك بالحقّ لأنا كنت أشدّ فرحاً بإسلام أبي
__________________
طالب لو كان أسلم منّي بأبي.
هذا الحديث كسابقه
لا يدلّ على إسلام أبي قحافة وهو نظير قول عمر للعبّاس : أنا بإسلامك إذا أسلمت
أفرح منّي بإسلام الخطّاب ، يعني لو كان أسلم .
وأمّا رجال إسناده
ففيه :
١ ـ موسى بن طارق.
قال أبو حاتم : يُكتب حديثه ولا يُحتجّ به كما قاله الذهبي في الميزان (٣ / ٢١١).
٢ ـ موسى بن عبيدة
: قال الذهبي : قال أحمد : لا يُكتب حديثه ، وقال النسائي وغيره : ضعيف. وقال ابن عدي : الضعف على روايته بيّن. وقال ابن معين : ليس بشيء. وقال
مرّة : لا يُحتجّ بحديثه. وقال يحيى بن سعيد : كنّا نتّقي حديثه. وقال يعقوب بن
شيبة : صدوق ضعيف الحديث جدّا. ميزان الاعتدال (٣ / ٢١٤).
٣ ـ عبد الله بن
دينار : قال العقيلي : روى عنه موسى بن عبيدة ونظراؤه أحاديث مناكير ، الحمل
فيها عليهم. تهذيب التهذيب (٥ / ٢٠٢).
__________________
القسم الثاني :
لا يوجد في كتب
الحديث ومعاجم التراجم ما يدلّ على إسلام أبي قحافة إلاّ ما أخرجه أحمد في مسنده (٦ / ٣٤٩) من طريق
ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لمّا وقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده : أي بنيّة
اظهري بي على أبي قبيس. قالت : وقد كفّ بصره ، قالت : فأشرفت به عليه ، فقال : يا
بنيّة ما ذا ترين؟ قالت : أرى سواداً مجتمعاً. قال : تلك الخيل. قالت : وأرى رجلاً
يسعى بين ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال : يا بنيّة ذاك الوازع يعني الذي يأمر
الخيل ويتقدّم اليها. ثمّ قالت : قد والله انتشر السواد. فقال : قد والله إذا دفعت
الخيل فاسرعي بي إلى بيتي ، فانحطّت به وتلقّاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته وفي عنق
الجارية طوق لها من ورِق فتلقّاها رجل فاقتلعه من عنقها. قالت : فلمّا دخل رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده. فلمّا رآه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : هلاّ تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه. قال
أبو بكر : يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه. قال : فأجلسه
بين يديه ثمّ مسح صدره ثمّ قال له : أسلم ، فأسلم ودخل به أبو بكر رضى الله عنه
على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورأسه كأنّه ثغامة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : غيّروا هذا من شعره. ثمّ قام أبو بكر فأخذ بيد أُخته
فقال : أنشد بالله وبالإسلام طوق أُختي فلم يجبه أحد ، فقال : يا أُخيّة : احتسبي
طوقك.
وفي لفظ المحبّ
الطبري في الرياض (١ / ٤٥) : احتسبي
طوقك ، فو الله إنّ الأمانة في الناس اليوم قليل.
قال
الأميني : هذه الرواية لا
تصحّ لمكان محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار
__________________
المدني نزيل
العراق ، وليست هي إلاّ من موضوعاته. قال سليمان التيمي : ابن إسحاق كذّاب. وقال
هشام بن عروة : كذّاب.
وقال مالك : دجّال
من الدجاجلة.
وقال يحيى القطّان
: أشهد أنّ محمد بن إسحاق كذّاب.
وقال الجوزجاني :
الناس يشتهون حديثه ، وكان يرمى بغير نوع من البدع.
وقال ابن نمير :
يحدّث عن المجهولين أحاديث باطلة.
وقال أيّوب بن
إسحاق : سألت أحمد فقلت له : يا أبا عبد الله إذا انفرد ابن إسحاق بحديث تقبله؟
قال : لا والله إنّي رأيته يحدّث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من
كلام ذا.
وقال أبو داود :
سمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق فقال : كان رجلاً يشتهي الحديث فيأخذ كتب الحديث
فيضعها في كتبه ، وكان يدلّس ، وكان لا يبالي عمّن يحكي عن الكلبي وغيره.
وقال عبد الله بن
أحمد : ما رأيت أبي أتقن حديثه قطّ ، وكان يتتبّعه بالعلوّ والنزول ، قيل له :
يحتجّ به؟ قال : لم يكن يحتجّ في السنن.
وقال ابن معين : ليس بذاك ، ضعيف ، ليس بقويّ.
وقال النسائي : ليس بقويّ.
وقال ابن المديني
: كذّبه سليمان التميمي ، ويحيى القطّان ، ووهيب بن خالد.
وقال الدارقطني :
لا يحتجّ به. وقال : اختلفت الأئمّة فيه وليس بحجّة إنّما يعتبر به.
وقال هشام بن عروة
: يحدّث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ، والله إن رآها قطّ.
__________________
وقال وهيب : سألت
مالكاً عنه ، فاتّهمه.
وقال أحمد : هو
كثير التدليس جدّا .
وأخرج الحاكم في
المستدرك (ج ٣) : من طريق
الحديث الرابع المذكور عن عبد الله بن وهب ، عن عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم رضى
الله عنه : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هنّأ أبا بكر بإسلام أبيه.
وفيه ـ مضافاً إلى
ما أسلفناه في الحديث الرابع ـ أنّ زيد بن أسلم توفّي سنة (١٣٦) وعُدّ ممّن لقي ابن
عمر ، فلا تصحّ روايته عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد ولد بعده بكثير.
على أنّ ابن حجر
قال في تهذيب التهذيب (٣ / ٣٩٧) : ذكر
ابن عبد البرّ في مقدّمة التمهيد ما يدلّ على أنّه كان يدلّس. وقال في موضع آخر :
لم يسمع من محمود ابن لبيد وحكى عن ابن عيينة أنّه قال : كان زيد رجلاً صالحاً
وكان في حفظه شيء. ونقل عن غيره قوله : لا أعلم به بأساً إلاّ أنّه يفسّر برأيه
القرآن ويكثر منه ، وفي ميزان الاعتدال (١ / ٣٦١) : إنّه
كان يفسّر القرآن برأيه.
هذا إسلام أبي
قحافة وحديثه وليس إلاّ دعوى مجرّدة مدعومة بالواهيات ، ولا يثبت بها إسلام أيّ
أحد ، ويظهر من نفس رواية أحمد أنّ إتيانهُ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ على فرض تسليمه ـ لم يكن إلاّ لاسترداد ما أخذه المسلمون
من ابنته من الطوق ، ولو كان له إسلام ثابت وكان إتيانه للإسلام لكان يعيد زيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
مرّة بعد أُخرى ،
وكان ينتهز الفرص أيّام إقامته تلك في مكة ويستفيد من نمير علمه ، ويأخذ منه معالم
دينه ، وكان حقّا عليه أن يزوره في حجّة الوداع ، ولو كان له إسلام لكان يروي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو حديثاً واحداً ، أو كان يروي عن أصحابه ولو عن واحد
منهم ، ولو كان قد أسلم لكان تُنقل عنه كلمة في الإسلام ، أو قول في الذبّ عنه ،
أو حرف واحد في الدعوة إليه أو كان له في التاريخ ذكر عن أيّام إسلامه ، ونبأ عن
آثار إيمانه بالله وبرسوله ، ولا أقلّ من روايته هو لحديث إسلامه.
ثمّ إن صحّ الخبر
وقد أكرمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : هلاّ تركت الشيخ في بيته. إلى آخر. وكان ذلك ـ كما
مرّ ـ تكرمةً لأبي بكر فما بال الصحابة تردّ شفاعة مثل هذا الرجل العظيم؟ الذي عظّمه
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بتلك الكلمة القيّمة التي لم تُؤثر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في أحد من الصحابة حتى في أعمامه صلىاللهعليهوآلهوسلم وفيهم العبّاس الذي يستسقى به الغمام ، وهم يسمعونها منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ما بالهم يصفحون عن شفاعته في والده بإعادة الطوق إليه
وهو شيخ كبير حديث العهد بالإسلام حريّ بأن يُكرَم؟ وما بال أبي بكر الذي أنفق جلّ
ماله لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على زعم القوم يأخذ بيد أُخته ويأتي بها إلى مجتمع الثويلة
وينشد الحضور بالله وبالإسلام ويسألهم ردّ طوقها إليها؟ وما الطوق وما قيمته
والصحابة لم تقبل فيه شفاعة شيخهم يوم ذاك وخليفتهم في الغد؟ وكيف يستعظم أبو بكر
أمر الطوق ويأمر أُخته بالاحتساب ويرى الأمانة قليلة في الصحابة يوم ذاك مع حضور
نبيّهم فيهم؟ فما كان محلّهم من الأمانة بعد يومهم ذاك بثلاث سنين وقد ارتحل
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من بين ظهرانيهم؟ وكيف صاروا بعد فقدهم نبيّهم عدولاً؟ أنا
لا أدري!
إسلام أمّ أبي بكر
:
ليس إسلام أمّ
الخير أُمّ أبي بكر إلاّ كإسلام أبيه أبي قحافة ، لا يُدعم بدليل ولا تقوّمه
البرهنة.
__________________
أخرج الحافظ أبو
الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي قال : حدّثنا عبيد الله ابن محمد بن عبد العزيز
العمري قاضي المصيصة ، حدّثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله ابن إسحاق بن محمد بن
عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، حدّثني أبي عبيد الله ، حدّثني عبد الله بن
محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، قال : حدّثني أبي محمد بن عمران عن
القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت : لمّا اجتمع أصحاب النبيّ وكانوا ثمانية
وثلاثين رجلاً ألحّ أبو بكر على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الظهور ، فقال : يا أبا بكر إنّا قليل. فلم يزل أبو بكر
يلحّ حتى ظهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد ، كلّ رجل في عشيرته ،
وقام أبو بكر في الناس خطيباً ، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جالس ، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله ، وثار
المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضُرِبوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ،
ووُطئ أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً ، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه
بنعلين مخصوفين ويحرّفهما لوجهه ، وأثّر ذلك حتى ما يُعرف أنفه من وجهه ، وجاءت
بنو تيم تتعادى فأجلوا المشركين عن أبي بكر ، وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه
بيته ولا يشكّون في موته ، ورجع بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا : والله لئن مات أبو
بكر لنقتلنّ عتبة. ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلّمون أبا بكر
حتى أجابهم فتكلّم آخر النهار : ما فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه ثمّ قاموا وقالوا لأُمّ الخير بنت
صخر : انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إيّاه ، فلمّا خلت به وألحّت جعل يقول : ما
فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ قالت : والله ما أعلم بصاحبك. قال : فاذهبي إلى أُمّ جميل
بنت الخطّاب فاسأليها عنه ، فخرجت حتى جاءت إلى أُمّ جميل فقالت : إنّ أبا بكر
يسألك عن محمد بن عبد الله. قالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن
تحبّي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت. قالت : نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً
دنفاً ، فدنت منه أُمّ جميل وأعلنت بالصياح ، وقالت : إنّ قوماً نالوا منك هذا
لأهل فسق وإنّي لأرجو أن ينتقم الله لك. قال : ما فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ قالت : هذه أُمّك تسمع.
قال : فلا عين
عليك منها. قالت : سالم صالح. قال : فأنّى هو؟ قالت : في دار الأرقم. قال : فإنّ
لله عليّ آليت لا أذوق طعاماً ولا شراباً أو آتي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجتا به يتّكئ
عليهما حتى دخلتا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : فانكبّ عليه فقبّله وانكبّ عليه المسلمون ورقّ له
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رقّةً شديدة ، فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمّي ليس بي إلاّ
ما نال الفاسق من وجهي ، هذه أُمّي برّة بوالديها ، وأنت مبارك ، فادعها إلى الله
وأدع الله عزّ وجلّ لها عسى أن يستنقذها بك من النار. فدعاها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأسلمت .
قال الأميني :
تفرّد بهذا الحديث عبيد الله بن محمد العمري ، رماه النسائي بالكذب ، وحكاه عنه
الذهبي وابن حجر ، وقال الدارقطني في حديث آخر تفرّد به العمري أيضاً : ليس
بصحيح تفرّد به العمري وكان ضعيفاً.
وبقيّة رجال السند
كلّهم تيميّون ، فيهم عبد الله وعبيد الله من أولاد طلحة بن عبيد الله مجهولان لا
يعرفان. وعبد الله ومحمد بن عمران من أولاد طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
بكر ، أو : من أولاد طلحة بن عبيد الله أيضاً وهما مجهولان كسابقيهما ، على أنّ
أبا بكر لا يعدّ من المعذّبين في الإسلام ، ولو كان له هذا الموقف في ذلك اليوم
العصبصب وكانت على النبأ مسحة من الصحّة لكان يُذكر في صفحة كلّ تاريخ ، ولم يكن
يهمله أيّ مؤرّخ ، أمن المعقول أن يحفظ التاريخ في طيّاته تعذيب الموالي ولم يكن
في صفحته ذكر عن مثل هذا الموقف لمثل أبي بكر؟
ثمّ لو لم يكن
الحفّاظ عدّوا هذه الرواية من موضوعات عبيد الله العمري وكان عندهم ثقة برجالها
ولو بالعلاج ولو بقيل قائل ، لما أعرضوا عنها في تلكم القرون
__________________
الخالية كلّها ،
وكان يتلّقاها حافظ عن حافظ وإمام عن إمام ولم تكن تخصّ روايتها بالمحبّ الطبري
وابن كثير المتخصّصين لذكر الموضوعات والأحاديث المفتعلة أو من يحذو حذوهما. وفي
نفس الرواية ما يكذّبها من شتّى النواحي :
١ ـ إنّ عائشة
ولدت في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة ، والقضيّة على تسليم قبولها قد وقعت في السادسة من البعثة
، فأين كانت عائشة يوم ذاك؟ أشاهدت موقف أبيها وهي على ثدي أُمّها بنت سنة أو
سنتين؟ لما ذا لم يُرو ذلك عن أبيها أو عن أُمّها أو عن أُمّ جميل؟ لعلّ الرواية
من ولائد القرون المتأخّرة عنهم ، ولدتها أمّ الفضائل بعد قضاء الدهر على حياة من
خُلقت لأجله.
٢ ـ إنّ في لفظ
الرواية : لمّا اجتمع أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً. فعلى هذا لم يكن أبو بكر يوم
ذاك مسلماً أخذاً بقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «صلّت الملائكة
عليّ وعلى عليّ سبع سنين لأنّا كنا نصلّي وليس معنا أحد يصلّي غيرنا» . وما مرّت من الصحيحة عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «لقد صلّيت مع رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل الناس بسبع سنين» . وما أسلفنا من صحيحة الطبري : أنّ أبا بكر أسلم بعد أكثر
من خمسين رجلاً .
٣ ـ في الرواية :
ألحّ أبو بكر على رسول الله في الظهور ، فقال : يا أبا بكر إنّا قليل ، فلم يزل أبو
بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. إلخ. يكذّبه ما في السير من أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أظهر الدعوة قبل ذلك اليوم بثلاث سنين.
وروى ابن سعد وابن
هشام والطبري وغيرهم : أنّ الله عزّ وجلّ أمر نبيّه
__________________
محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه ، وأن ينادي
الناس بأمره ويدعو إليه فقال له : (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وكان قبل ذلك في السنين الثلاث من مبعثه إلى أن أُمر
بإظهار الدعوة إلى الله مستسرّا مخفياً أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنزل عليه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) .
فإظهار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوته كان بأمر من المولى سبحانه من دون سبق أيّ إلحاح من
أيّ أحد عليه من أبي بكر أو غيره سواء كان أسلم أبو بكر يوم ذاك أو لم يسلم.
على أنّ أبا بكر
عُدّ ممّن كان يدعو سرّا بعد ذلك اليوم بعد ظهور الدعوة من المسلمين ، فأين مقيل
إلحاحه على رسول الله في الظهور من الصحّة يوم ذاك؟ قال ابن سعد في طبقاته (١ / ١٨٥) : كان
أبو بكر يدعو ناحية سرّا ، وكان سعد بن زيد مثل ذلك ، وكان عثمان مثل ذلك ، وكان
عمر يدعو علانية وحمزة بن عبد المطلب. فإسرار أبي بكر في الدعوة يوم إعلان عمر كان
بعد ذلك اليوم ، إذ أسلم عمر بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة بعد أربعين رجلاً . وقد مرّ في الرواية أنّ القضيّة وقعت والمسلمون ثمان
وثلاثون نسمة.
__________________
وذكر الحافظ
الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٢٥٩) حديثين في إسلام أمّ أبي بكر ؛ أحدهما عن ابن
عبّاس قال : أسلمت أمّ أبي بكر وأُمّ عثمان وأُمّ طلحة وأُمّ الزبير وأُمّ عبد
الرحمن بن عوف وأُمّ عمّار. فقال :
فيه : خازم بن
الحسين وهو ضعيف. وقال الذهبي في الميزان (١ / ٣١٥) : قال
ابن معين : خازم ليس بشيء. وقال أبو داود : روى مناكير. وقال ابن
عدي : عامّة ما يرويه لا يُتابَع عليه.
والحديث الثاني
للهيثمي عن طريق الهيثم بن عدي قال : هلك أبو بكر فورثاه أبواه جميعاً وكانا
أسلما. ثمّ قال : إسناده منقطع.
قال
الأميني : كأنّ الحافظ
الهيثمي يوهم بكلمته الأخيرة أنّ علّة الحديث هي انقطاعه فحسب ، ولم يذكر بقيّة
رجاله حتى تقف عليها نظّارة التنقيب ، غير أنّ في ذكر الهيثم بن عدي الكذّاب
كفاية. قال البخاري : ليس بثقة كان يكذب. وقال أبو داود : كذّاب. وقال النسائي وغيره : متروك الحديث. وقالت جارية الهيثم : كان مولاي
يقوم عامّة الليل يصلّي فإذا أصبح جلس يكذب ، وقال النسائي أيضاً : منكر الحديث.
وذكر حديثاً وعدّه من افتراء الهيثم على هشام بن عروة. وقال أبو حاتم : متروك الحديث. وقال أبو زرعة : ليس بشيء. وقال العجلي : كذّاب وقد رأيته. وقال الساجي : سكن مكة وكان يكذب. وقال
إمام الحنابلة أحمد : كان صاحب أخبار وتدليس. وقال الحاكم النقّاش : حدّث عن
الثقات بأحاديث منكرة. وعدّ
__________________
البيهقي والنقّاش
والجوزجاني الحديث من الموضوعات لكون الهيثم فيه. وقال أبو نعيم : يوجد في حديثه
المناكير .
فإسلام أُمّ أبي
بكر كإسلام والده أبي قحافة قطّ لا يثبت. والذي ذكر إسلامهما من المؤرّخين كابن
كثير والدياربكري والحلبي وغيرهم لا يعوّل على قولهم بعد ما عرفت الحال في مستند
أقوالهم ، فلا قيمة للدعوى المجرّدة والتقوّل بلا دليل.
ويُعرب عن جليّة
الحال بقاء أُمّ الخير ـ أُمّ أبي بكر ـ في حبالة أبي قحافة في مكة ، وقد أسلمت هي
على قول من يقول بإسلامها في السادسة من البعثة ، وأسلم أبو قحافة في الثامنة من
الهجرة سنة الفتح كما سمعت ، فتخلّل بين إسلامهما خمسة عشر عاماً ، فبأيّ كتاب أم
بأيّة سنّة بقيت تلك المسلمة أُمّ مثل أبي بكر تلك السنين المتطاولة في نكاح أبي
قحافة الذي لم يسلم بعد؟ وما الذي جمع بينهما؟ والفراق بينهما كان أوّل شعار الإسلاميّة.
فأين إسلامها؟ وبما ذا يثبت والحال هذه؟
ـ ٢٨ ـ
أبو بكر وأبواه في القرآن
لعبت أيدي الهوى
بكتاب الله ، وحرّفت الكلم عن مواضعها ، وجاء من يؤلّف في التفسير وقد أعماه الحبّ
وأصمّه ، يخبط خبط عشواء ، فتراه كحاطب ليل يروي في كتابه أساطير السلف الأوّلين
من الوضّاعين مرسلاً إيّاها إرسال المسلّم من دون أيّ تحقيق وتثبّت وهم يحسبون
أنّهم يحسنون صنعاً ، ومع ذلك يرون أنفسهم أئمّة وقادة في علم القرآن العزيز. حتى
يروون أنّ قوله تعالى في الأحقاف (١٥) : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ
__________________
وعلى
والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) نزلت في أبي بكر.
ويروون عن عليّ أمير
المؤمنين وابن عبّاس أنّ الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق ، وكان حمله وفصاله ثلاثين
شهراً ، حملته أُمّه تسعة أشهر وأرضعته واحداً وعشرين شهراً ، أسلم أبواه جميعاً
ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره ، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من
بعده. فلمّا نُبّئ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ابن أربعين سنة صدّق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ابن ثمانٍ وثلاثين سنة ، فلمّا بلغ أربعين سنة قال : (رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، واستجاب الله
له فأسلم والداه وأولاده كلّهم.
الكشّاف (٣ / ٩٩)
، تفسير القرطبي (١٦ / ١٩٣ ، ١٩٤) ، الرياض النضرة (١ / ٤٧) ، مرقاة الوصول (ص ١٢١)
، تفسير الخازن (٤ / ١٣٢) ، تفسير النسفي هامش الخازن (٤ / ١٣٢) ، تفسير الشوكاني (٥
/ ١٨) .
ألا مسائل هؤلاء الأعلام
المغفّلين عن أنّ كون مدّة الحمل والفصال ثلاثين شهراً هل يخصّ بأبي بكر فحسب حتى
يُخصّ بالذكر؟ أم هو مطّرد في خلق الله ، إمّا بكون مدّة الحمل ستة أشهر ومدّة
الإرضاع حولين كاملين ، وإمّا بكون الحمل تسعة أشهر والإرضاع واحداً وعشرين شهراً؟
وإنّ الحريّ بالذكر هو الأوّل لشذوذه عن العادة المطّردة.
ثمّ إن كان هذا من
خاصّة أبي بكر وحكاية لحمله وفصاله فكيف يصحّ لمولانا أمير المؤمنين وابن عبّاس
الاستدلال بالآية مع ما في سورة لقمان على كون أقل الحمل
__________________
ستة أشهر؟ كما مرّ
في الجزء السادس (ص ٩٣ ـ ٩٥) ، فالآية الكريمة لا تبيّن إلاّ ما هو السائر الدائر
بين البشر بأحد الوجهين المذكورين وبهذا يتمّ الاستدلال. وفيه قال ابن كثير في
تفسيره (٤ / ١٥٧) : وهو استنباط قويّ صحيح ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة.
وابن كثير مع إكثاره بنقل الموضوعات لم يوعز إلى نزول الآية في أبي بكر لما يرى في
نقله من الفضيحة على نفسه.
ثمّ إنّ في نصّ
الآية أنّ ذلك الانسان قال ما قاله وقد بلغ أشدّه وبلغ من عمره أربعين عاما. وأبو
بكر لم يكن مسلماً يوم ذاك لا هو ولا أبوه ولا أُمّه ، أمّا هو فقد قدّمنا أنّه
أسلم بعد سبع من البعثة بنصوص مرّت في الجزء الثالث (ص ٢٢٠ ـ ٢٢٣).
وأمّا أبوه فقد
أسلم ـ إن أسلم ـ يوم الفتح في السنة الثامنة من الهجرة ، وكان لأبي بكر يومئذ ستّ
وخمسون سنة أو أكثر.
وأمّا أُمّه فقد
أسلمت ـ إن أسلمت ـ في السنة السادسة من البعثة ، وأبو بكر يوم ذاك ابن أربع
وأربعين سنة أو أكثر منها.
فبما ذا أنعم الله
عليه وعلى والديه يوم قال : ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ
، وكلّهم غير مسلمين؟ والجملة دُعائيّة بالنسبة إلى إلهام الشكر على ما أنعم الله
به عليه وعلى والديه فحسب ، وأمّا بالنسبة إلى كونهم من المنعم عليهم فخبريّة
تقتضي سبق تلك النعمة على ظرف الدعاء ، فالقول بأنّ الله سبحانه استجاب له فأسلم
والداه وأولاده كلّهم ، مهزأة غير مدعومة بشاهد.
على أنّ أخبار
إسلام والديه ـ بعد تسليمها والغضّ عمّا فيها ـ تدلّ على أنّ إسلام أُمّه كان
بدعاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لها بالإسلام ، وإسلام أبيه من بركة مسحه صلىاللهعليهوآلهوسلم يده على صدره ، فأين دعاء أبي بكر؟.
وأمّا ما في ذيل
الرواية ممّا عزي إلى أمير المؤمنين عليهالسلام من أنّه لم يجتمع لأحد
من المهاجرين أن
أسلم أبواه غير أبي بكر. فحاشا أمير المؤمنين يقول مثل ذلك ، وقد عرّفناك (ص ٣١٠ ـ
٣١٢) زرافات من المهاجرين أسلموا هم وآباؤهم وأُمّهاتهم ويقدّمهم هو سلام الله
عليه بالأوّليّة والأولويّة.
آية أخرى في أبي
بكر وأبيه :
وردت في قوله
تعالى من سورة المجادلة (٢٢) (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ
مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
من طريق ابن جريج
: أنَّ أبا قحافة سبّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فصكّه أبو بكر ابنه صكّة فسقط منها على وجهه ، ثمّ أتى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فذكر ذلك له ، فقال : أو فعلته لا تعد إليه ، فقال : والذي
بعثك بالحقّ نبيّا لو كان السيف منّي قريباً لقتلته. فنزلت قوله : لا تجد قوماً.
الآية.
تفسير القرطبي (١٧ / ٣٠٧) ،
تفسير الزمخشري (٣ / ١٧٢) ، مرقاة
الوصول حاشية نوادر الأصول (ص ١٢١) ، تفسير الآلوسي (٢٨ / ٣٦).
قال
الأميني : أصفق رجال
التفسير على أنّ سورة الأحقاف التي مرّت فيها الآية الأولى مكيّة ، وعلى أنّ سورة
المجادلة مدنيّة ، وعلى أنّ هذه الآية نزلت بعد ردح من الزمن من نزول الأحقاف ،
ويظهر من تفسير القرطبي وابن كثير والرازي أنّها
__________________
نزلت بعد بدر وأحد
فيقع نزولها على هذا في السنة الرابعة من الهجرة تقريباً ، فما وجه الجمع بين
الآيتين على تقدير تسليم نزولهما في أبي بكر؟ والأولى منهما كما مرّ نصّ على أنّ
أبا قحافة ممّن أنعم الله عليه يوم كان لأبي بكر أربعون سنة ، ولمّا بلغ أشدّه
وبلغ أربعين سنة قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي
أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، وهذه الآية كما
ترى نصّ في أنّ أبا قحافة يوم نزولها ـ وكان يوم ذاك لأبي بكر ثلاث وخمسون سنة
تقريباً ـ كان ممّن حادّ الله ورسوله.
والذي يهوّن الخطب
أنّ متن هذه الرواية ـ كالرواية السابقة الواردة في الآية الأولى ـ يكذّب نفسها.
إذ الآية كما سمعت نزلت بالمدينة ، وظاهر الرواية وقوع القصّة بها ، ويوم ذاك كان
أبو قحافة بمكّة ، فأين وأنّى اجتمع أبو بكر مع أبيه وصكّه؟
ثمّ هل يشترط وجوب
قتل من سبّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقرب السيف ممّن سمعه؟ أو شُرّع هذا الحكم بعد القضيّة؟ أو
خُصّ أبو قحافة منه بالدليل؟ سل من أعماه الغلوّ في الفضائل وأصمّه : (إِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) ، (وَيَقُولُونَ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
الغاية للقالة
أحسب أنّ القوم لم
ينسجوا هذا الإفك على نول الجهل بتراجم الرجال فحسب ، ولا أنّ لهم مأرباً في آباء
المهاجرين أسلموا أو لم يسلموا ، أو أنّ لهم غاية في إسلام أبوي أبي بكر ، لكنّهم
زمّروا لِما لم يزل لهم فيه مكاء وتصدية من تكفير سيّد الأباطح شيخ الأئمّة أبي
طالب والد مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليهما ، وذلك بعد أن عجزوا عن الوقيعة
في الولد فوجّهوها إلى الوالد أو إلى الوالدين كما فعله الحافظ
__________________
العاصمي في زين
الفتى. وكان من تهويلهم في تخفيف تلكم الوطأة أن جرّوا ذلك إلى والدي النبيّ
المعظّم صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليهما حتى قال العاصمي في زين الفتى عند بيان وجه الشبه
بين النبيّ والمرتضى صلى الله عليهما وآلهما : أمّا تشبيه الأبوين في الحكم
والتسمية ، فإنّ النبيّ في كثرة ما أنعم الله تعالى عليه ووفور إحسانه إليه لم
يرزقه إسلام أبويه ، وعلى هذا جمهور المسلمين إلاّ شرذمة قليلين لا يلتفت إليهم ، فكذلك المرتضى فيما
أكرمه الله به من الأخلاق والخصال وفنون النعم والأفعال لم يرزقه إسلام أبويه.
انتهى.
فلم تفتأ لهم في
ذلك جلبة ولغط مكابرين فيهما المعلوم من سيرة شيخ الأبطح وكفالته لصاحب الرسالة ،
ودرئه عنه كلّ سوء وعادية ، وهتافه بدينه القويم ، وخضوعه لناموسه الإلهيّ في قوله
وفعله وشعره ونثره ، ودفاعه عنه بكلّ ما يملكه من حول وطول.
ولولا أبو طالبٍ
وابنه
|
|
لما مَثُلَ
الدينُ شخصاً وقاما
|
فذاك بمكة آوى
وحامى
|
|
وهذا بيثرب جسَّ
الحماما
|
تكفّل عبد منافٍ
بأمرٍ
|
|
وأودى فكان
عليٌّ تماما
|
فقل في ثبير مضى
بعد ما
|
|
قضى ما قضاه
وأبقى شماما
|
فَلِلّه ذا
فاتحاً للهدى
|
|
ولله ذا للمعالي
ختاما
|
وما ضرّ مجدَ
أبي طالبٍ
|
|
جهولٌ لغا أو
بصيرٌ تعامى
|
كما لا يضرُّ
إياب الصبا
|
|
حِ مَن ظنَّ ضوء
النهار الظلاما
|
__________________
وهناك طرق لا يمكن
التوصّل إلى الإذعان بنفسيّات أيّ أحد إلاّ بها ، ألا وهي :
١ ـ استنباطها
ممّا يلفظ به من قول.
٢ ـ أو ممّا ينوء
به من عمل.
٣ ـ أو ممّا يروي
عنه آله وذووه. فإنّ أهل البيت أدرى بما فيه.
٤ ـ أو ممّا أسنده
إليه من لاث به وبخع له.
ـ ١ ـ
أمّا أقوال أبي
طالب سلام الله عليه : فإليك عقوداً عسجديّة من شعره الرائق مثبتة في السير
والتواريخ وكتب الحديث.
أخرج الحاكم في
المستدرك (٢ / ٦٢٣) بإسناده
عن ابن إسحاق قال : قال أبو طالب أبياتاً للنجاشي يحضّه على حسن جوارهم والدفع
عنهم ـ يعني عن المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين :
ليعلمْ خيارُ
الناسِ أنّ محمداً
|
|
وزيرٌ لموسى
والمسيحِ ابنِ مريمِ
|
أتانا بهديٍ مثل
ما أَتيا بهِ
|
|
فكلٌّ بأمرِ
اللهِ يهدي ويعصم
|
وإنَّكمُ تتلونه
في كتابِكمْ
|
|
بصدقِ حديثٍ لا
حديثِ المبرجِمِ
|
وإنَّك ما تأتيك
منها عصابةٌ
|
|
بفضلِكَ إلاّ
أُرجعوا بالتكرُّمِ
|
وقال سلام الله
عليه من قصيدة :
فبلّغ عن
الشحناء أفناء غالبٍ
|
|
لويّا وتيماً
عند نصر الكرائمِ
|
لأنّا سيوفُ
اللهِ والمجدُ كلُّه
|
|
إذا كان صوتُ
القومِ وجي الغمائمِ
|
ألم تعلموا أنّ
القطيعة مأثمٌ
|
|
وأمر بلاء قاتم
غير حازمِ
|
وأنّ سبيلَ
الرشدِ يُعلَمُ في غدٍ
|
|
وأنّ نعيمَ
الدهرِ ليس بدائمِ
|
__________________
فلا تسفَهَنْ
أحلامُكمْ في محمدٍ
|
|
ولا تتبعوا أمر
الغواةِ الأشائمِ
|
تمنّيتمُ أن
تقتلوه وإنَّما
|
|
أمانيُّكم هذي
كأحلام نائمِ
|
وإنَّكمُ واللهِ
لا تقتلونه
|
|
ولمّا تروا قطف
اللحى والغلاصمِ
|
ولم تبصروا
والأحياءَ منكم ملاحماً
|
|
تحوم عليها
الطيرُ بعد ملاحمِ
|
وتدعو بأرحامٍ
أواصر بيننا
|
|
فقد قطّع
الأرحامَ وقعُ الصوارمِ
|
زعمتم بأنّا
مسلمون محمداً
|
|
ولمّا نقاذفْ
دونه ونزاحمِ
|
من القومِ
مفضالٌ أبيٌ على العدى
|
|
تمكّن في
الفرعينِ من آل هاشمِ
|
أمينٌ حبيبٌ في
العباد مسوَّمٌ
|
|
بخاتم ربٍّ
قاهرٍ في الخواتمِ
|
يرى الناسُ
برهاناً عليه وهيبةً
|
|
وما جاهلٌ في
قومه مثلُ عالمِ
|
نبيٌّ أتاه
الوحي من عند ربِّه
|
|
ومن قال لا
يقرعْ بها سنّ نادمِ
|
تطيف به جرثومةٌ
هاشميّةٌ
|
|
تُذبِّب عنه كل
عاتٍ وظالمِ
|
ديوان أبي طالب (ص
٣٢) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٣) .
ومن شعره في أمر
الصحيفة التي سنوقفك على قصّتها قوله :
ألا أبلغا عنّي
على ذاتِ بينِها
|
|
لويّا وخُصّا من
لويّ بني كعبِ
|
ألم تعلموا أنّا
وجدنا محمداً
|
|
رسولاً كموسى
خُطَّ في أوّل الكتبِ
|
وأَنَّ عليه في
العبادِ محبّةً
|
|
ولا حيفَ فيمن
خصَّه اللهُ بالحبّ
|
وأَنَّ الذي
رقّشتمُ في كتابِكمْ
|
|
يكون لكم يوماً
كراغية السقبِ
|
__________________
رقش : كتب وسطر. الراغية من
الرغاء : أصوات الإبل. السقب : ولد الناقة. (المؤلف)
أفيقوا أفيقوا
قبل أن تحفر الزُّبى
|
|
ويصبحَ من لم
يجنِ ذنباً كذي ذنبِ
|
ولا تتبعوا أمر
الغواة وتقطعوا
|
|
أواصرَنا بعد
المودّةِ والقربِ
|
وتستجلبوا
حَرباً عواناً وربّما
|
|
أمرّ على مَن
ذاقه حَلَبُ الحربِ
|
فلسنا وبيتِ
اللهِ نُسلمُ أحمداً
|
|
لعزّاء من عضِّ
الزمان ولا كربِ
|
ولَمّا تبِنْ
منّا ومنكم سوالفٌ
|
|
وأيدٍ أترّت بالمهنّدة الشهبِ
|
بمُعتركٍ ضنكٍ
ترى كِسَرَ القنا
|
|
به والضباعَ
العرجَ تعكفُ كالشربِ
|
كأنَّ مجالَ
الخيلِ في حجراتِهِ
|
|
ومعمعةَ
الأبطالِ معركةُ الحربِ
|
أليس أبونا
هاشمٌ شدَّ أزره
|
|
وأوصى بنيه
بالطعانِ وبالضربِ
|
ولسنا نملُّ
الحرب حتى تملّنا
|
|
ولا نشتكي ممّا
ينوب من النكبِ
|
ولكنّنا أهلُ
الحفائظِ والنُّهى
|
|
إذا طار أرواحُ
الكماةِ من الرعبِ
|
سيرة ابن هشام (١
/ ٣٧٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٣) ، بلوغ الأرب (١ / ٣٢٥) ، خزانة الأدب
للبغدادي (١ / ٢٦١) ، الروض الأُنف (١ / ٢٢٠) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ٨٧) ، أسنى
المطالب (ص ٦ ، ١٣) ، طلبة الطالب (ص ١٠) .
ومن شعره قوله :
ألا ما لهمٍّ
آخرَ الليل معتمِ
|
|
طواني وأخرى
النجم لمّا تقحّمِ
|
__________________
طواني وقد نامت
عيونٌ كثيرة
|
|
وسامَرَ أخرى
قاعدٌ لم يُنوِّمِ
|
لأحلامِ أقوامٍ
أرادوا محمداً
|
|
بظلمٍ ومن لا يتّقي
البغي يُظلمِ
|
سعوا سفهاً
واقتادهم سوءُ أمرِهمْ
|
|
على خائلٍ من
أمرهم غير محكمِ
|
رجاة أمورٍ لم
ينالوا نظامها
|
|
وإن نشدوا في
كلِّ بدوٍ وموسمِ
|
يرجُّون منّا
خطّة دون نيلها
|
|
ضرابٌ وطعنٌ
بالوشيج المقوَّمِ
|
يرجُّون أن نسخي
بقتل محمدٍ
|
|
ولم تختضب سمرُ
العوالي من الدمِ
|
كذبتم وبيتِ
اللهِ حتى تُفَلَّقوا
|
|
جماجمَ تُلقى
بالحميم وزمزمِ
|
وتُقطعَ أرحامٌ
وتنسى حليلةٌ
|
|
حليلاً ويغشى
محرمٌ بعد محرمِ
|
وينهضَ قومٌ
بالحديد إليكمُ
|
|
يذبّون عن
أحسابهم كلَّ مجرمِ
|
هم الأُسدُ أُسد
الزأرتينِ إذا غدتْ
|
|
على حنقٍ لم
تخشَ إعلامَ معلمِ
|
فيا لِبَني فهرٍ
أفيقوا ولم تُقَمْ
|
|
نوائحُ قتلى
تدَّعي بالتسدّمِ
|
على ما مضى من
بغيِكم وعقوقِكمْ
|
|
وغشيانِكم في
أمرِنا كلّ مأتمِ
|
وظلم نبيٍّ جاء
يدعو إلى الهدى
|
|
وأمرٍ أتى من
عند ذي العرش قيِّمِ
|
فلا تحسبونا
مسلميهِ ومثلُهُ
|
|
إذا كان في قومٍ
فليس بمسلمِ
|
فهذي معاذيرٌ
وتقدمةٌ لكم
|
|
لكيلا تكون
الحربُ قبل التقدُّمِ
|
ديوان أبي طالب (ص ٢٩) ، شرح ابن
أبي الحديد (٣ / ٣١٢) .
وله قوله مخاطباً
للنبيِّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم :
__________________
والله لن يصلوا
إليك بجمعهم
|
|
حتى أُوَسَّد في
التراب دفينا
|
فاصدعْ بأمرِكَ
ما عليك غضاضةٌ
|
|
وابشر بذاك وقرّ
منك عيونا
|
ودعوتني وعلمتُ
أنَّك ناصحي
|
|
ولقد دعوتَ
وكنتَ ثمّ أمينا
|
ولقد علمتُ
بأنَّ دينَ محمدٍ
|
|
من خير أديانِ
البريّة دينا
|
رواها الثعلبي في
تفسيره وقال : قد اتّفق على صحّة نقل هذه الأبيات عن أبي طالب : مقاتل ، وعبد الله
بن عبّاس ، والقسم بن محضرة ، وعطاء بن دينار.
راجع : خزانة الأدب للبغدادي (١ / ٢٦١) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ٤٢)
، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣٠٦) ، تاريخ أبي الفدا (١ / ١٢٠) ، فتح الباري (٧ /
١٥٣ ، ١٥٥) ، الإصابة (٤ / ١١٦) ، المواهب اللدنيّة (١ / ٦١) ، السيرة الحلبيّة (١
/ ٣٠٥) ، ديوان أبي طالب (ص ١٢) ، طلبة الطالب (ص ٥) ، بلوغ الأرب (١ / ٣٢٥) ،
السيرة النبويّة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٩١ ، ٢١١) ، وذكر البيت الأخير في
أسنى المطالب (ص ٦) فقال : عدّه البرزنجي من كلام أبي طالب المعروف.
لفت نظر :
زاد القرطبي وابن
كثير في تاريخه على الأبيات :
لو لا الملامةُ
أو حذاري سُبّةً
|
|
لوجدتني سمحاً
بذاك مبينا
|
__________________
قال السيّد أحمد
زيني دحلان في أسنى المطالب (ص ١٤) : فقيل :
إنّ هذا البيت موضوع أدخلوه في شعر أبي طالب وليس من كلامه.
قال
الأميني : هب أنّ البيت
الأخير من صُلب ما نظمه أبو طالب عليهالسلام فإنّ أقصى ما فيه أنّ العار والسبّة ، اللذين كان أبو طالب
عليهالسلام يحذرهما خيفة أن يسقط محلّه عند قريش فلا تتسنّى له نصرة
الرسول المبعوث صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إنّما منعاه عن الإبانة والإظهار لاعتناق الدين ، وإعلان
الإيمان بما جاء به النبيّ الأمين ، وهو صريح قوله : لوجدتني سمحاً بذاك مبينا. أي
مظهراً ، وأين هو عن اعتناق الدين في نفسه ، والعمل بمقتضاه من النصرة والدفاع؟
ولو كان يريد به عدم الخضوع للدين لكان تهافتاً بيّناً بينه وبين أبياته الأولى
التي ينصّ فيها بأنّ دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم من خير أديان البريّة دينا ، وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم صادق في دعوته أمين على أُمّته.
ومن شعره قوله قد
غضب لعثمان بن مظعون حين عذّبته قريش ونالت منه :
أمن تذكّرِ دهرٍ
غيرِ مأمونِ
|
|
أصبحتَ مكتئباً
تبكي كمحزونِ
|
أم مِن تذكّرِ
أقوامٍ ذوي سفهٍ
|
|
يغشون بالظلمِ
من يدعو إلى الدينِ
|
ألا ترون أذلَّ
اللهُ جمعَكمُ
|
|
إنَّا غضبنا
لعثمانَ بنِ مظعونِ
|
ونمنع الضيم من
يبغي مضيّمنا
|
|
بكلِّ مطَّردٍ
في الكفِّ مسنونِ
|
ومرهفاتٍ كأنَّ
الملحَ خالطها
|
|
يُشفى بها
الداءُ من هام المجانينِ
|
حتى تقرّ رجالٌ
لا حلومَ لها
|
|
بعد الصعوبةِ
بالأسماح واللينِ
|
أو تؤمنوا
بكتابٍ مُنزلٍ عجبٍ
|
|
على نبيٍّ كموسى
أو كذي النونِ
|
ومن شعره يمدح
النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله :
__________________
لقد أكرمَ اللهُ
النبيَّ محمداً
|
|
فأكرمُ خلقِ
اللهِ في الناسِ أحمدُ
|
وشقَّ له من
اسمه لِيجلّه
|
|
فذو العرشِ
محمودٌ وهذا محمدُ
|
أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن يزيد ، وأبو نعيم
في دلائل النبوّة (١ / ٦) ، وابن عساكر في تاريخه (١ / ٢٧٥) ، وذكره له ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٥) ، وابن كثير في تاريخه (١ / ٢٦٦) ، وابن حجر في الإصابة (٤
/ ١١٥) ، والقسطلاني في المواهب اللدنيّة (١ / ٥١٨) نقلاً عن تاريخ البخاري ،
والديار بكري في تاريخ الخميس (١ / ٢٥٤) فقال : أنشأ أبو طالب في مدح النبيّ
أبياتاً منها هذا البيت :
وشقّ له من اسمه ليجلّه
حسّان بن ثابت
ضمّن شعره هذا البيت فقال :
ألم ترَ أنّ
اللهَ أرسلَ عبده
|
|
بآياتِهِ واللهُ
أعلى وأمجدُ
|
وشقَّ
له من اسمه ليجلّه
|
والزرقاني في شرح
المواهب (٣ / ١٥٦) وقال : توارد حسّان معه أو ضمّنه شعره وبه جزم في الخميس ، أسنى
المطالب (ص ١٤).
ومن شعره المشهور
كما قاله ابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣١٥):
أنت النبيُّ
محمدُ
|
|
قرمٌ أغرُّ
مسوَّدُ
|
لمسوّدينَ
أكارمٍ
|
|
طابوا وطاب
المولدُ
|
نعم الأُرومةُ
أصلُها
|
|
عمرو الخضمّ
الأوحدُ
|
__________________
هشم الربيكةَ في
الجفا
|
|
نِ وعيشُ مكةَ
أنكدُ
|
فجرت بذلك سنّةٌ
|
|
فيها الخبيزة
تثردُ
|
ولنا السقايةُ
للحجي
|
|
ـ جِ بها يماث العُنجدُ
|
والمأزمان وما حوت
|
|
عرفاتُها
والمسجدُ
|
أنّى تُضامُ ولم
أمُتْ
|
|
وأنا الشجاعُ
العربدُ
|
وبطاحُ مكةَ لا
يُرى
|
|
فيها نجيعٌ
أسودُ
|
وبنو أبيك
كأنَّهم
|
|
أُسد العرين
توقّدوا
|
ولقد عهدتك
صادقاً
|
|
في القول لا
يتزيَّدُ
|
ما زلتَ تنطق
بالصوا
|
|
ب وأنت طفلٌ
أمردُ
|
جاء أبو جهل بن
هشام إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلمّا رفع يده لصق
الحجر بكفّه فلم يستطع ما أراد ، فقال أبو طالب :
أفيقوا بني
غالبٍ وانتهوا
|
|
عن الغيِّ من
بعض ذا المنطقِ
|
وإلاّ فإنّي إذن
خائفٌ
|
|
بوائقَ في داركم
تلتقي
|
تكون لغيركمُ
عبرةً
|
|
وربِّ المغارب
والمشرقِ
|
كما نال من كان
مِن قبلكم
|
|
ثمودُ وعادٌ وما
ذا بقي
|
غداة أتاهم بها
صرصرٌ
|
|
وناقة ذي العرش
قد تستقي
|
فحلَّ عليهم بها
سخطه
|
|
من الله في
ضربةِ الأزرقِ
|
__________________
غداة يعضُّ
بعرقوبها
|
|
حساماً من الهند
ذا رونقِ
|
وأعجب مِن ذاك
في أمرِكمْ
|
|
عجائبُ في
الحجرِ الملصقِ
|
بكفِّ الذي قام
من خبثِهِ
|
|
إلى الصابرِ
الصادقِ المتَّقي
|
فأثبته اللهُ في
كفِّه
|
|
على رغمِه
الجائرِ الأحمقِ
|
أُحيمق مخزومكم
إذ غوى
|
|
لغيِّ الغواة
ولم يصدقِ
|
ديوان أبي طالب (ص ١٣) ، شرح ابن أبي
الحديد (٣ / ٣١٤) .
قال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٤) : قالوا
: وقد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمهالله أنّه كان يقول : أسلم أبو طالب والله بقوله :
نصرتُ الرسولَ
رسول المليكِ
|
|
ببيضٍ تلألا
كلمعِ البروقِ
|
أذبُّ وأحمي
رسول الإلهِ
|
|
حمايةَ حامٍ
عليه شفيقِ
|
وما إن أدبّ
لأعدائِهِ
|
|
دبيبَ البكار
حذار الفنيقِ
|
ولكن أزير لهم
سامياً
|
|
كما زار ليث
بغيل مضيقِ
|
وتوجد هذه الأبيات
مع بيت زائد في ديوانه (ص ٢٤).
ولسيّدنا أبي طالب
أبيات كتبها إلى النجاشي بعد ما خرج عمرو بن العاص إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن
أبي طالب وأصحابه عند النجاشي. يحرّض النجاشي على إكرام جعفر والإعراض عن ما يقوله
عمرو ، منها :
__________________
ألا ليتَ شعري
كيف في الناسِ جعفرٌ
|
|
وعمروٌ وأعداءُ
النبيِّ الأقاربُ
|
وهل نالَ إحسانُ
النجاشيِّ جعفراً
|
|
وأصحابَهُ أم
عاقَ عن ذاك شاغبُ
|
تعلّم أبيت
اللعنَ أنَّك ماجدٌ
|
|
كريمٌ فلا يشقى
إليك المجانبُ
|
ونعلم أنَّ الله
زادك بسطةً
|
|
وأسباب خيرٍ
كلَّها بك لازبُ
|
تاريخ ابن كثير (٣ / ٧٧) ، شرح
ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٤).
قال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٥) : ومن
شعره المشهور أيضاً قوله يخاطب محمداً ، ويسكّن جأشه ، ويأمره باظهار الدعوة :
لا يمنعنّك من
حقٍّ تقوم به
|
|
أيدٍ تصول ولا
سلق بأصواتِ
|
فإنَّ كفّك كفّي
إن بهم مليت
|
|
ودون نفسك نفسي
في الملِمّاتِ
|
قال ابن هشام : ولمّا خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال
قصيدته التي تعوّذ فيها بحرم مكّة وبمكانه منها ؛ وتودّد فيها أشراف قومه وهو على
ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنّه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولا تاركه لشيء أبداً ، حتى يهلك دونه ، فقال أبو طالب :
خليليّ ما أُذني
لأوّل عاذلٍ
|
|
بصغواءَ في حقٍّ
ولا عند باطلِ
|
ولمّا رأيتُ
القومَ لا وُدَّ فيهمُ
|
|
وقد قطّعوا كلَّ
العُرى والوسائلِ
|
وقد صارحونا
بالعداوةِ والأذى
|
|
وقد طاوعوا أمرَ
العدوِّ المزايلِ
|
__________________
وقد حالفوا
قوماً علينا أظنّةً
|
|
يعضّون غيظاً
خلفنا بالأناملِ
|
صبرتُ لهم نفسي
بسمراءَ سمحةٍ
|
|
وأبيضَ عضبٍ من
تراث المقاولِ
|
* * *
أعوذُ بربِّ
الناسِ من كلِّ طاعنٍ
|
|
علينا بسوءٍ أو
مُلحٍّ بباطلِ
|
ومن كاشحٍ يسعى
لنا بمعيبةٍ
|
|
ومن مُلحقٍ في
الدين ما لم نحاولِ
|
وثورٍ ومن أرسى
ثبيراً مكانه
|
|
وراقٍ ليرقى في
حراءٍ ونازلِ
|
وبالبيتِ حقَّ
البيتِ من بطنِ مكّةٍ
|
|
وباللهِ إنّ
اللهَ ليس بغافلِ
|
وبالحجرِ
المسودّ إذ يمسحونه
|
|
إذا اكتنفوه
بالضحى والأصائلِ
|
* * *
كذبتم وبيتِ
اللهِ نتركُ مكّةً
|
|
ونظعن إلاّ
أمركم في بلابلِ
|
كذبتم وبيتِ
اللهِ نُبزَى محمداً
|
|
ولمّا نُطاعن
دونه ونناضلِ
|
ونسلمه حتى
نُصرَّعَ حوله
|
|
ونُذهلَ عن
أبنائنا والحلائلِ
|
وينهضَ قومٌ
بالحديد إليكمُ
|
|
نهوض الرَّوايا
تحت ذاتِ الصلاصلِ
|
وحتى نرى ذا
الظِّغن يركب ردعه
|
|
من الطعن فعل
الأنكب المتحاملِ
|
وإنّا لعمرُ الله
إن جدَّ ما أرى
|
|
لتلتبس أسيافنا
بالأماثلِ
|
بكفَّي فتىً مثل
الشهاب سميدع
|
|
أخي ثقة حامي
الحقيقة باسلِ
|
__________________
شهوراً وأيّاماً
وحولاً مجرَّماً
|
|
علينا وتأتي
حجّةٌ بعدَ قابلِ
|
وما ترك قومِ ـ لا
أبا لك ـ سيِّداً
|
|
يحوط الذمار غير
ذربٍ مواكلِ
|
وأبيض يُستسقى
الغمامُ بوجهه
|
|
ثمالُ اليتامى
عصمةٌ للأراملِ
|
يلوذ به
الهُلاّكُ من آل هاشمٍ
|
|
فهم عنده في
رحمةٍ وفواضلِ
|
* * *
بميزان قسطٍ لا
يخيس شعيرةً
|
|
له شاهدٌ من
نفسه غيرُ عائلِ
|
لقد سفِهت
أحلامُ قومٍ تبدّلوا
|
|
بني خَلَفٍ
قيضاً بنا والغياطلِ
|
ونحن الصميمُ من
ذُؤابة هاشمٍ
|
|
وآلِ قصيٍّ في
الخطوب الأوائلِ
|
وسهمٌ ومخزومٌ
تمالوا وألّبوا
|
|
علينا العدا من
كلِّ طملٍ وخاملِ
|
فعبد مناف أنتمُ
خيرُ قومِكم
|
|
فلا تُشركوا في
أمرِكم كلَّ واغلِ
|
* * *
ألم تعلموا أنَّ
ابننا لا مكذَّبٌ
|
|
لدينا ولا نعبا
بقول الأباطلِ
|
أشمُّ من
الشُمِّ البهاليل ينتمي
|
|
إلى حسب في حومة
المجدِ فاضِلِ
|
لعمري لقد كلّفت
وجداً بأحمدٍ
|
|
وأحببته حبَّ
الحبيبِ المواصلِ
|
__________________
فلا زال في
الدنيا جمالاً لأهلها
|
|
وزيناً لمن
والاه ربُّ المشاكلِ
|
فأصبحَ فينا
أحمدٌ في أرومةِ
|
|
تقصِّر عنه
سورةُ المتطاولِ
|
حدبتُ بنفسي
دونه وَحمَيته
|
|
ودافعت عنه
بالذرى والكلاكلِ
|
فأيَّده ربُّ
العباد بنصره
|
|
وأظهر ديناً
حقُّه غير باطلِ
|
هذه القصيدة ذكر
منها ابن هشام في سيرته (١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٨) ،
أربعة وتسعين بيتاً وقال : هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة. وذكر ابن كثير منها
اثنين وتسعين بيتاً في تاريخه (٣ / ٥٣ ـ ٥٧) ،
وفي رواية ابن هشام ثلاثة أبيات لم توجد في تاريخ ابن كثير وقال (ص ٥٧) قلت : هذه
قصيدة عظيمة بليغة جدّا لا يستطيع يقولها إلاّ من نُسبت إليه ، وهي أفحل من
المعلّقات السبع ، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها ، وقد أوردها الأمويّ في
مغازيه مطوّلة بزيادات أُخر والله أعلم.
وذكرها أبو هفّان
العبدي في ديوان أبي طالب (ص ٢ ـ ١٢) في
مائة وأحد عشر بيتاً ولعلّها تمام القصيدة.
وقال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٥) بعد ذكر
جملة من شعر أبي طالب : فكلّ هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر ؛ لأنَّه إن لم تكن
آحادها متواترة فمجموعها يدلّ على أمر واحد مشترك وهو تصديق محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومجموعها متواتر كما أنّ كل واحدة من قتلات عليّ عليهالسلام الفرسان منقولة آحاداً ومجموعها متواتر يفيدنا
__________________
العلم الضروريّ
بشجاعته ، وكذلك القول فيما روي من سخاء حاتم وحلم الأحنف ومعاوية وذكاء أياس
وخلاعة أبي نواس وغير ذلك. قالوا : واتركوا هذا كلّه جانباً ، ما قولكم في القصيدة
اللاميّة التي شهرتها كشهرة قفا نبك؟ وإن جاز الشكّ فيها أو في شيء من أبياتها جاز
الشكّ في قفا نبك وفي بعض أبياتها.
وقال القسطلاني في
إرشاد الساري (٢ / ٢٢٧) : قصيدة
جليلة بليغة من بحر الطويل ، وعدّة أبياتها مائة وعشرة أبيات ، قالها لمّا تمالأ
قريش على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ونفّروا عنه من يريد الإسلام.
وذكر منها في
المواهب اللدنيّة (١ / ٤٨) ،
أبياتاً فقال : هي أكثر من ثمانين بيتاً قال ابن التين : إنّ في شعر أبي طالب هذا
دليلاً على أنّه كان يعرف نبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن يبعث لِما أخبره به بحيرا وغيره من شأنه. وقال
العيني في عمدة القاري : (٣ / ٤٣٤) قصيدة طنّانة وهي مائة بيت وعشرة أبيات أوّلها
:
خليليَّ ما
أُذني لأوّل عاذلِ
|
|
بصغواءَ في حقٍّ
ولا عند باطلِ
|
ذكر منها البغدادي
في خزانة الأدب (١ / ٢٥٢ ـ ٢٦١)
اثنين وأربعين بيتاً مع شرحها ، وقال : أوّلها :
خليليَّ ما
أُذني لأوّل عاذلِ
|
|
بصغواء في حقٍّ
ولا عند باطلِ
|
خليليّ إنَّ
الرأي ليس بشركةٍ
|
|
ولا نهنهٍ عند
الأُمور البلابلِ
|
__________________
ولمّا رأيت
القوم لا ودّ عندهم
|
|
وقد قطّعوا كلَّ
العرى والوسائلِ
|
وذكر الآلوسي عدّة
منها في بلوغ الأرب (١ / ٢٣٧) وذكر
كلمة ابن كثير المذكور وقال : هي مذكورة مع شرحها في كتاب لبّ لباب لسان العرب.
وذكر منها السيّد
زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبويّة هامش الحلبيّة (١ / ٨٨) فقال :
قال الإمام عبد الواحد السفاقسي في شرح البخاري : إنّ في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنّه
كان يعرف نبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرا الراهب وغيره من شأنه ، مع
ما شاهده من أحواله ، ومنها الاستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوّته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، جاءت في كثير من الأخبار زيادة على أخذها من شعره.
قال الأميني : أنا
لا أدري كيف تكون الشهادة والاعتراف بالنبوّة إن لم يكن منها هذه الأساليب
المتنوّعة المذكورة في هذه الأشعار؟ ولو وجد واحد منها في شعر أيّ أحد أو نثره
لأصفق الكلّ على إسلامه ، لكن جميعها لا يدلّ على إسلام أبي طالب. فاعجب واعتبر
هذه جملة من شعر
أبي طالب عليهالسلام الطافح من كلّ شطره الإيمان الخالص ، والإسلام الصحيح ،
قال العلاّمة الأوحد ابن شهرآشوب المازندراني في كتابه متشابهات القرآن عند قوله
تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) : إنّ أشعار أبي طالب الدالّة على إيمانه تزيد على ثلاثة
آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويصحّح نبوّته. ثمّ ذكر جملة ضافية وممّا ذكر له قوله في
وصيّته :
__________________
أُوصي بنصرِ
نبيِّ الخيرِ أربعةً
|
|
ابني عليّا
وشيخَ القومِ عبّاسا
|
وحمزةَ الأَسَدَ
الحامي حقيقتَهُ
|
|
وجعفراً أن
تذودا دونه الناسا
|
كونوا فداءً لكم
أُمِّي وما ولدت
|
|
في نصرِ أحمدَ
دون الناس أتراسا
|
ـ ٢ ـ
ما ناء به من عمل بارّ وقول مشكور
أمّا ما ناء به
سيّد الأباطح أبو طالب سلام الله عليه من عمل بارّ وسعي مشكور في نصرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وكلاءته والذبّ عنه والدعوة إليه وإلى دينه الحنيف منذ بدء
البعثة إلى أن لفظ أبو طالب نفسه الأخير ، وقد تخلّل ذلك جمل من القول كلّها نصوص
على إسلامه الصحيح ، وإيمانه الخالص ، وخضوعه للرسالة الإلهيّة ، فإلى الملتقى.
روى القوم :
١ ـ قال ابن إسحاق
: إنّ أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً ، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ
له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخذ بزمام ناقته وقال : يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا
أمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب وقال : والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا أُفارقه
أبداً. قال : فخرج به معه ، فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وتهيّأ راهب يُقال
له بحيرا في صومعة له ، وكان أعلم أهل النصرانيّة ، ولم يزل في تلك الصومعة راهب
إليه يصير علمهم من كتاب فيهم كما يزعمون يتوارثونه كائناً عن كائن ، فلمّا نزلوا
ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرّون عليه قبل ذلك فلا يكلّمهم ولا يتعرّض
لهم ، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته فصنع لهم طعاماً كثيراً
وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا ، وغمامة تظلّه صلىاللهعليهوآلهوسلم من بين القوم. ثمّ أقبلوا حتى نزلوا بظلّ شجرة قريباً منه
فنظر إلى الغمامة حتى أظلّت الشجرة وتهصّرت ، يعني تدلّت أغصانها على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى
__________________
استظلّ تحتها ،
فلمّا رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثمّ أرسل إليهم
فقال : إنّي قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش ، وأنا أحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم
وكبيركم وحرّكم وعبدكم ، فقال له رجل منهم : يا بحيرا إنّ لذلك اليوم لشأناً ما
كنت تصنع هذا فيما مضى وقد كنّا نمرّ بك كثيراً ، فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا :
صدقت قد كان ما تقولون ، ولكنكم ضيوف فأحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون
منه كلّكم ، فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة.
فلمّا نظر بحيرا
في القوم لم ير الصفة التي يعرفها وهي موجودة عنده ، فقال : يا معشر قريش لا
يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا ، فقالوا : يا بحيرا ما تخلّف عنك أحد ينبغي أن
يأتيك إلاّ غلام هو أحدث القوم سنّا تخلّف في رحالهم ، قال : فلا تفعلوا ادعوه
فليحضر هذا الطعام معكم ، فقال رجل من قريش : واللاّت والعزّى إنّ لهذا اليوم نبأ.
أيليق أن يتخلّف ابن عبد الله عن الطعام من بيننا؟ ثمّ قام إليه فاحتضنه ثمّ أقبل
به حتى أجلسه مع القوم. فلمّا رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء
من جسده قد كان يجدها عنده في صفته حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام
بحيرا فقال له : يا غلام أسألك باللاّت والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تسألني باللاّت والعزّى شيئاً قطّ ، فقال بحيرا :
فبالله إلاّ ما أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال : سلني عمّا بدا لك. فجعل يسأله عن
أشياء من نومه وهيئته وأموره ورسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ،
ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
الحديث.
فقال أبو طالب في
ذلك :
إنَّ ابن آمنة
النبيَّ محمداً
|
|
عندي يفوق
منازلَ الأولادِ
|
لمّا تعلّقَ
بالزمام رحمتُه
|
|
والعيس قد قلّصن
بالأزوادِ
|
فارفضَّ من
عينيَّ دمعٌ ذارفٌ
|
|
مثلُ الجمان
مفرِّقُ الأفرادِ
|
راعيتُ فيه
قرابةً موصولةً
|
|
وحفظتُ فيه
وصيّةَ الأجدادِ
|
وأمرتهُ بالسيرِ
بين عمومةٍ
|
|
بيضِ الوجوهِ
مصالتٍ أنجادِ
|
ساروا لأبعد
طيَّةٍ معلومةٍ
|
|
فلقد تباعد
طيّةُ المرتادِ
|
حتى إذا ما
القومُ بصرى عاينوا
|
|
لاقوا على شركٍ
من المرصادِ
|
حبراً فأخبرهم
حديثاً صادقاً
|
|
عنه وردَّ معاشر
الحسّادِ
|
قومٌ يهودٌ قد
رأوا لمّا رأى
|
|
ظلَّ الغمام
وعنَّ ذي الأكبادِ
|
ثاروا لقتل محمد
فنهاهمُ
|
|
عنه وجاهد أحسن
التجهادِ
|
فثنى زبيراً من
بحيرا فانثنى
|
|
في القوم بعد
تجاولٍ وبعادِ
|
ونهى دريساً
فانتهى عن قوله
|
|
حبرٌ يوافق أمره
برشادِ
|
وقال أيضاً :
ألم ترني من بعد
همّ هممته
|
|
بفرقة حرّ
الوالدين حرامِ
|
__________________
بأحمد لمّا أن
شددت مطيّتي
|
|
برحلي وقد
ودّعته بسلامِ
|
بكى حزناً
والعيس قد فصلت بنا
|
|
وأخذت بالكفّين
فضل زمامِ
|
ذكرت أباه ثمّ
رقرقتُ عبرةً
|
|
تجود من العينين
ذات سجامِ
|
فقلت : ترحّل
راشداً في عمومةٍ
|
|
مواسير في
البأساء غير لئامِ
|
فجاء مع العير
التي راح ركبها
|
|
شآمي الهوى
والأصل غير شآمِ
|
فلمّا هبطنا
أرضَ بصرى تشرّفوا
|
|
لنا فوق دورٍ
ينظرون جسامِ
|
فجاء بحيرا عند
ذلك حاشداً
|
|
لنا بشرابٍ
طيِّبٍ وطعامِ
|
فقال اجمعوا
أصحابكم لطعامنا
|
|
فقلنا جمعنا
القوم غير غلامِ
|
يتيم فقال ادعوه
إنَّ طعامَنا
|
|
كثيرٌ عليه
اليومَ غيرُ حرامِ
|
فلو لا الذي
خبّرتمُ عن محمدٍ
|
|
لكنتم لدينا
اليومَ غيرَ كرامِ
|
فلمّا رآه
مقبلاً نحو داره
|
|
يوقِّيه حرَّ الشمس
ظلُّ غمامِ
|
حنا رأسَه شبهَ
السجودِ وضمّه
|
|
إلى نحرِه
والصدرِ أيَّ ضمامِ
|
وأقبل ركبٌ
يطلبون الذي رأى
|
|
بحيرا من
الأعلامِ وسط خيامِ
|
فثار إليهم
خشيةً لعرامهم
|
|
وكانوا ذوي بغي
لنا وعرامِ
|
دريس وتمام وقد
كان فيهم
|
|
زبيرٌ وكلُّ
القوم غيرُ نيامِ
|
فجاؤوا وقد
همّوا بقتل محمدٍ
|
|
فردّهمُ عنه
بحسنِ خصامِ
|
بتأويلهِ
التوراةَ حتى تيقّنوا
|
|
وقال لهم رمتمْ
أشدَّ مرامِ
|
أتبغون قتلاً
للنبيِّ محمدٍ
|
|
خصصتم على شؤم
بطول أثامِ
|
وإنَّ الذي
نختاره منه مانعٌ
|
|
سيكفيه منكم كيد
كلِّ طغامِ
|
فذلك من أعلامِه
وبيانِه
|
|
وليس نهارٌ
واضحٌ كظلامِ
|
__________________
ديوان أبي طالب (ص ٣٣ ـ ٣٥) ،
تاريخ ابن عساكر (١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٢) ،
الروض الأُنف (١ / ١٢٠).
وذكر السيوطي
الحديث من طريق البيهقي في الخصائص الكبرى (١ / ٨٤) فقال في (ص
٨٥) : وقال أبو طالب في ذلك أبياتاً منها :
فما رجعوا حتى
رأوا من محمدٍ
|
|
أحاديث تجلو
غمَّ كلِّ فؤادِ
|
وحتى رأوا أحبار
كلِّ مدينةٍ
|
|
سجوداً له من
عصبةٍ وفرادِ
|
زبيراً وتمّاماً
وقد كان شاهداً
|
|
دريساً وهمُّوا
كلّهم بفسادِ
|
فقال لهم قولاً
بحيرا وأيقنوا
|
|
له بعد تكذيبٍ
وطولِ بعادِ
|
كما قال للرهط
الذين تهوّدوا
|
|
وجاهدهم في الله
كلّ جهادِ
|
فقال ولم يترك
له النصح ردّه
|
|
فإنّ له إرصاد
كلّ مصادِ
|
فإنِّي أخاف
الحاسدين وإنَّه
|
|
لفي الكتب
مكتوبٌ بكلِّ مدادِ
|
٢ ـ استسقاء أبي طالب بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أخرج ابن عساكر في
تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكّة وهم في قحط فقالت قريش
: يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلمَّ واستسق. فخرج أبو طالب ومعه
غلام كأنَّه شمس دجن تجلّت عنه سحابه قتماء وحوله أُغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق
ظهره بالكعبة ، ولاذَ بإصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة ،
__________________
فأقبل السحاب من
هاهنا وهاهنا ، وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب البادي والنادي ، وفي
ذلك يقول أبو طالب :
وأبيض يُستسقى
الغمام بوجهه
|
|
ثمالُ اليتامى
عصمةٌ للأراملِ
|
يلوذ به
الهلاّكُ من آلِ هاشمٍ
|
|
فهم عنده في
نعمةٍ وفواضلِ
|
وميزان عدلٍ لا
يخيس شعيرةً
|
|
ووزان صدقٍ
وزنُه غيرُ هائلِ
|
شرح البخاري
للقسطلاني (٢ / ٢٢٧) ، المواهب اللدنيّة (١ / ٤٨) ، الخصائص الكبرى (٨٦ ، ١٢٤) ،
شرح بهجة المحافل (١ / ١١٩) ، السيرة الحلبيّة (١ / ١٢٥) ، السيرة النبويّة لزيني
دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٨٧) ، طلبة الطالب (ص ٤٢) .
ذكر الشهرستاني في
الملل والنحل بهامش الفصل (٣ / ٢٢٥) سيّدنا عبد المطّلب وقال : وممّا
يدلّ على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكّة لمّا أصابهم ذلك الجدب
العظيم ، وأمسك السحاب عنهم سنتين ، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى عليه
الصلاة والسلام وهو رضيع في قماط ، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى
السماء وقال : يا ربّ بحقّ هذا الغلام. ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول : بحقّ هذا
الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هاطلاً. فلم يلبث ساعة أن طبّق السحاب وجه
السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد ، وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللاّمي الذي منه :
وأبيض يستسقى
الغمامُ بوجهِهِ
|
|
ثمالُ اليتامى
عصمةٌ للأرامل
|
ثمّ ذكر أبياتاً
من القصيدة ، ولا يخفى على الباحث أنّ القصيدة نظمها أبو طالب عليهالسلام أيّام كونه في الشعب كما مرّ.
__________________
فاستسقاء عبد
المطلّب وابنه سيّد الأبطح بالنبيّ الأعظم يوم كان صلىاللهعليهوآلهوسلم رضيعاً يافعاً يُعرب عن توحيدهما الخالص ، وإيمانهما بالله
، وعرفانهما بالرسالة الخاتمة ، وقداسة صاحبها من أوّل يومه ، ولو لم يكن لهما
إلاّ هذان الموقفان لكفياهما ، كما يكفيان الباحث عن دليل آخر على اعتناقهما
الإيمان.
٣ ـ أبو طالب في
مولد أمير المؤمنين عليهالسلام :
عن جابر بن عبد
الله قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ميلاد عليّ بن
أبي طالب فقال : «لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليهالسلام ، إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّا من نوري وخلقني من نوره وكلانا من نور
واحد ، ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ نقلنا من صلب آدم عليهالسلام في أصلاب طاهرة إلى أرحام زكيّة ، فما نُقلت من صلب إلاّ
ونقل عليّ معي ، فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم وهي آمنة. واستودع عليّا خير
رحم وهي فاطمة بنت أسد». وكان في زماننا رجل زاهد عابد يقال له المبرم بن دعيب بن
الشقبان قد عبد الله تعالى مائتين وسبعين سنة لم يسأل الله حاجة ، فبعث الله إليه
أبا طالب ، فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين يديه ثمّ قال : من
أنت؟ فقال : رجل من تهامة. فقال : من أيِّ تهامة؟ فقال : من بني هاشم. فوثب العابد
فقبّل رأسه ثمّ قال : يا هذا إنّ العليّ الأعلى ألهمني إلهاماً. قال أبو طالب :
وما هو؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو وليّ الله. فلمّا كان الليلة التي ولد فيها
عليّ أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ولد في الكعبة وليّ الله
، فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :
يا ربَّ هذا
الغسق الدجيِ
|
|
والقمرِ
المنبلجِ المُضيِ
|
بيِّن لنا من
أمرك الخفيِ
|
|
ما ذا ترى في
اسم ذا الصبيِ
|
قال : فسمع صوت
هاتف يقول :
يا أهل بيت
المصطفى النبيِ
|
|
خصصتمُ بالولدِ
الزكيِ
|
إنَّ اسمه من
شامخِ العليِ
|
|
عليٌّ اشتقَّ من
العليِ
|
أخرجه الحافظ
الكنجي الشافعي في كفاية الطالب (ص ٢٦٠) وقال :
تفرّد به مسلم بن خالد الزنجي وهو شيخ الشافعي ، وتفرّد به عن الزنجي عبد العزيز
بن عبد الصمد وهو معروف عندنا.
٤ ـ بدء أمر النبي
وأبو طالب :
أخرج فقيه
الحنابلة إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب وغاية السؤول في
مناقب آل الرسول بإسناده عن طاووس عن ابن عبّاس في حديث طويل : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال للعبّاس رضى الله عنه إنّ الله قد أمرني بإظهار أمري
وقد أنبأني واستنبأني فما عندك؟ فقال له العبّاس رضى الله عنه : يا ابن أخي تعلم
أنّ قريشاً أشدّ الناس حسداً لولد أبيك ، وإن كانت هذه الخصلة كانت الطامة الطمّاء
والداهية العظيمة ورمينا عن قوس واحد وانتسفونا نسفاً ، صلتا ولكن قرّب إلى عمّك أبي طالب فإنّه كان أكبر أعمامك إن لا
ينصرك لا يخذلك ولا يسلمك ، فأتياه ، فلمّا رآهما أبو طالب قال : إنّ لكما لظنّة
وخبراً ، ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فعرّفه العبّاس ما قال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وما أجابه به العبّاس ، فنظر إليه أبو طالب وقال له : أخرج
يا بن أخي فإنّك الرفيع كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلى أباً ، والله لا يسلقك
لسان إلاّ سلقته ألسن حداد ، واجتذبته سيوف حداد ، والله لتذلّنّ لك العرب ذلّ
البهم لحاضنها ، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ، ولقد قال : إنّ من صلبي لنبيّا
، لوددت أنِّي أدركت ذلك
__________________
الزمان فآمنت به ،
فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.
قال
الأميني : أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئنّا به؟ وينشّط
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا التنشيط لأوّل يومه ، ويأمره بإشهار أمره والإشادة
بذكر الله ، وهو مخبت بأنّه هو ذلك النبيّ الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة ،
ويتكهّن بخضوع العرب له ، أتراه سلام الله عليه يأتي بهذه كلّها ثمّ لا يؤمن به؟
إن هذا إلاّ اختلاق.
٥ ـ أبو طالب
وفقده النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ذكر ابن سعد
الواقدي في الطبقات الكبرى (١ / ١٨٦) طبع مصر
و (ص ١٣٥) طبع ليدن حديث ممشى قريش إلى أبي طالب في أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن قال : فاشمأزّوا ونفروا منها ـ يعني من مقالة محمد
ـ وغضبوا وقاموا وهم يقولون : اصبروا على آلهتكم ، إنّ هذا لشيء يُراد ، ويقال
المتكلّم بهذا عقبة بن أبي معيط. وقالوا : لا نعود إليه أبداً ، وما خيرٌ من أن
نغتال محمداً. فلمّا كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه ، فجمع فتياناً
من بني هاشم وبني المطلّب ثمّ قال : ليأخذ كلّ واحد منكم حديدة صارمة ، ثمّ
ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كلّ فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم
ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ فإنّه لم يغب عن شرّ إن كان محمد قد قُتل ، فقال
الفتيان : نفعل ، فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال ؛ فقال : يا زيد
أحسست ابن أخي؟ قال : نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب : لا أدخل بيتي أبداً حتى
أراه ؛ فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدّثون ، فأخبره الخبر
، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي أين كنت؟ أكنت في خير؟
قال : نعم. قال : ادخل بيتك ، فدخل
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فلمّا أصبح أبو طالب غدا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان
الهاشميّون والمطّلبيّون فقال : يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا : لا.
فأخبرهم الخبر ، وقال للفتيان : اكشفوا عمّا في أيديكم فكشفوا ، فإذا كلّ رجل منهم
معه حديدة صارمة. فقال : والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً. حتى نتفانى نحن
وأنتم ، فانكسر القوم وكان أشدّهم انكساراً أبو جهل.
لفظ آخر :
وأخرج الفقيه
الحنبلي إبراهيم بن عليّ بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب بإسناده عن عبد الله بن المغيرة بن معقب ، قال : فقد أبو
طالب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فظنّ أنّ بعض قريش اغتاله فقتله ، فبعث إلى بني هاشم فقال
: يا بني هاشم أظنّ أنّ بعض قريش اغتال محمداً فقتله ، فليأخذ كلّ واحد منكم حديدة
صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش ، فإذا قلت : أبغي محمداً. قتل كلّ منكم
الرجل الذي إلى جانبه. وبلغ رسول الله جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا ، فأتى
أبا طالب وهو في المسجد ، فلمّا رآه أبو طالب أخذ بيده ثمّ قال : يا معشر قريش ،
فقدت محمداً فظننت أنّ بعضكم اغتاله فأمرت كلّ فتى شهد من بني هاشم أن يأخذ حديدةً
ويجلس كلّ واحد منهم إلى عظيم منكم ، فإذا قلت : أبغي محمداً قتل كلّ واحد منهم
الرجل الذي إلى جنبه ، فاكشفوا عمّا في أيديكم يا بني هاشم فكشف بنو هاشم عمّا في
أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك فعندها هابت قريش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ أنشأ أبو طالب :
ألا أبلغ قريشاً
حيث حلّت
|
|
وكلّ سرائر منها
غرور
|
__________________
فإنّي والضوابحُ
عادياتٌ
|
|
وما تتلو
السفاسرة الشهور
|
لآلِ محمدٍ راعٍ
حفيظٌ
|
|
وودّ الصدر
منِّي والضميرُ
|
فلستُ بقاطعٍ
رحمي وولدي
|
|
ولو جرّت
مظالمها الجزورُ
|
أيأمر جمعُهم
أبناءَ فهرٍ
|
|
بقتل محمدٍ
والأمرُ زورُ
|
فلا وأبيك لا
ظفرتْ قريشٌ
|
|
ولا أمَّت
رشاداً إذ تشيرُ
|
بُنيّ أخي ونوطُ
القلبِ منِّي
|
|
وأبيضُ ماؤه
غدقٌ كثيرُ
|
ويشرب بعده
الولدان ريّا
|
|
وأحمد قد تضمّنه
القبورُ
|
أيا بن الأنف
أنف بني قصيّ
|
|
كأنَّ جبينَكَ
القمرُ المنيرُ
|
لفت
نظر : قال شيخنا العلاّمة المجلسي في البحار (٩ / ٣١) : روى
جامع الديوان ـ يعني ديوان أبي طالب ـ نحو هذا الخبر مرسلاً ثمّ ذكر الأشعار هكذا
...
فذكر الأشعار
وفيها زيادة عشرين بيتاً على ما ذكر ، وهي لا توجد في الديوان المطبوع لسيّدنا أبي
طالب.
لفظ ثالث :
وقال السيّد فخار
بن معد في كتابه الحجّة (ص ٦١) : وأخبرني
الشيخ الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد ابن الجوزي المحدّث البغدادي ـ وكان
ممّن يرى كفر أبي طالب ويعتقده ـ بواسط العراق سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بإسناد له
إلى الواقدي ،
__________________
قال : كان أبو
طالب بن عبد المطّلب لا يغيب صباح النبيّ ولا مساءه ، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن
يغتالوه ، فلمّا كان ذات يوم فقده فلم يره ، وجاء المساء فلم يره ، وأصبح الصباح
فطلبه في مظانّه فلم يجده فلزم أحشاءه ، وقال : وا ولداه ، وجمع عبيده ومن يلزمه
في نفسه فقال لهم : إنّ محمداً قد فقدته في أمسنا ويومنا هذا ولا أظنّ إلاّ أنّ
قريشاً قد اغتالته وكادته ، وقد بقي هذا الوجه ما جئته ، وبعيد أن يكون فيه.
واختار من عبيده عشرين رجلاً ، فقال : امضوا وأعدّوا سكاكين وليمض كلّ رجل منكم
وليجلس إلى جنب سيّد من سادات قريش ، فان أتيت ومحمد معي فلا تُحدثُنّ أمراً
وكونوا على رسلكم حتى أقف عليكم ، وإن جئت وما محمد معي فليضرب كلّ منكم الرجل
الذي إلى جانبه من سادات قريش. فمضوا وشحذوا سكاكينهم حتى رضوها ، ومضى أبو طالب
في الوجه الذي أراده ومعه رهطه من قومه فوجده في أسفل مكّة قائماً يصلّي إلى جنب
صخرة فوقع عليه وقبّله وأخذ بيده وقال : يا بن أخ قد كدت أن تأتي على قومك ، سر
معي ، فأخذ بيده وجاء إلى المسجد وقريش في ناديهم جلوس عند الكعبة ، فلمّا رأوه قد
جاء ويده في يد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قالوا : هذا أبو طالب قد جاءكم بمحمد إنّ له لشأناً ،
فلمّا وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده : أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كلّ واحد
منهم ما في يده. فلمّا رأوا السكاكين قالوا : ما هذا يا أبا طالب؟ قال : ما ترون ؛
إنِّي طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم ، فأمرت
هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم : إن جئت وليس محمد معي فليضرب كلّ منكم صاحبه
الذي إلى جنبه ولا يستأذنّي فيه ، ولو كان هاشميّا ، فقالوا : وهل كنت فاعلاً؟
فقال : أي وربّ هذه وأومى إلى الكعبة ، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف
وكان من أحلافه : لقد كدت تأتي على قومك؟ قال هو ذلك. ومضى به وهو يقول :
اذهب بُنيَّ فما
عليك غضاضةٌ
|
|
اذهب وقرَّ بذاك
منك عيونا
|
والله لن يصلوا
إليك بجمعِهمْ
|
|
حتى أُوسَّدَ في
التراب دفينا
|
ودعوتني وعلمت
أنّك ناصحي
|
|
ولقد صدقتَ
وكنتَ قبلُ أمينا
|
وذكرت ديناً لا
محالة أنَّه
|
|
من خيرِ أديان
البريّة دينا
|
فرجعت قريش على
أبي طالب بالعتب والاستعطاف وهو لا يحفل بهم ولا يلتفت إليهم.
قال
الأميني : هذا شيخ الأبطح
يروقه أن يُضحّي كلّ قومه دون نبيّ الإسلام وقد تأهّب لأن يطأ القوميّات كلّها
والأواصر المتّشجة بينه وبين قريش بأخمص الدين ، فحيّاها الله من عاطفة إلهيّة ،
وآصرة دينيّة هي فوق أواصر الرحم.
٦ ـ أبو طالب في
بدء الدعوة :
لمّا نزلت : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) . خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فصعد على الصفا فهتف : يا صباحاه. فاجتمعوا إليه ، فقال : «أرأيتكم
لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدّقي؟» قالوا : نعم ما جرّبنا عليك
كذباً. قال : «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب : تبّا لك ، أما
جمعتنا إلاّ لهذا؟ ثمّ أحضر قومه في داره ، فبادره أبو لهب وقال : هؤلاء هم عمومتك
وبنو عمّك فتكلّم ودع الصبأة واعلم أنّه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأنّ أحقّ من
أخذك فحبسك بنو أبيك ، وإن أقمت ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن ينبّ لك بطون
قريش ، وتمدّهم العرب ، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشرّ ممّا جئتهم به. فسكت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يتكلّم.
__________________
ثمّ دعاهم ثانية
وقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ
الله وحده لا شريك له. ثمّ قال : إنّ الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله
إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، والله لتموتُنّ كما تنامون
، ولتبعثُنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً والنار
أبداً».
فقال أبو طالب :
ما أحبّ إلينا معاونتك ، وأقبلنا لنصيحتك ، وأشدّ تصديقنا لحديثك ، وهؤلاء بنو
أبيك مجتمعون وإنّما أنا أحدهم غير أنّي أسرعهم إلى ما تحبّ ، فامض لما أُمرت به ،
فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أنّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطّلب
.
قال
الأميني : لم يكن دين عبد
المطّلب سلام الله عليه إلاّ دين التوحيد والإيمان بالله ورسله وكتبه غير مشوب
بشيء من الوثنيّة ، وهو الذي كان يقول في وصاياه : إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم
حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة. إلى أن هلك ظلوم لم تصبه عقوبة. فقيل له في ذلك ،
ففكّر في ذلك ، فقال : والله إنّ وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه ،
ويعاقب المسيء باساءته ، وهو الذي قال لأبرهة : إنّ لهذا البيت ربّا يدبّ عنه
ويحفظه ، وقال وقد صعد أبا قبيس :
لاهُمَّ إنَّ
المرء يم
|
|
نع حلّه فامنع
حلالكْ
|
لا يغلبنَّ
صليبهم
|
|
ومحالهم عدوا
محالكْ
|
فانصر على آل
الصلي
|
|
ب وعابديه اليوم
آلكْ
|
إن كنت تاركهم
وكع
|
|
بتنا فأمرٌ ما
بدا لكْ
|
__________________
ويعرب عن تقدّمه
في الإيمان الخالص والتوحيد الصحيح انتماء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إليه ومباهاته به يوم حنين بقوله :
أنا النبيّ لا
كذب
|
|
أنا ابن عبد
المطلب
|
وقد أجَاد الحافظ
شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في قوله :
تنقّل أحمدٌ
نوراً عظيماً تلالا
|
|
في جباه
الساجدينا
|
تقلّب فيهمُ
قرناً فقرناً
|
|
إلى أن جاء خيرُ
المرسلينا
|
وهذا هو الذي
أراده أبو طالب ـ سلام الله عليه ـ بقوله : نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد
المطّلب. وهو صريح بقيّة كلامه ، وقد أراد بهذا السياق التعمية على الحضور لئلاّ
يناصبوه العداء بمفارقتهم ، وهذا السياق من الكلام من سنن العرب في محاوراتهم ، قد
يريدون به التعمية ، وقد يراد به التأكيد للمعنى المقصود كقول الشاعر :
ولا عيبَ فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بهنَّ فلولٌ من
قراع الكتائبِ
|
ولو لم يكن
لسيّدنا أبي طالب إلاّ موقفه هذا لكفى بمفرده في إيمانه الثابت ، وإسلامه القويم ،
وثباته في المبدأ.
قال ابن الأثير : فقال أبو لهب : هذه والله السوء ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب :
والله لنمنعنّه ما بقينا. وفي السيرة الحلبيّة (١ / ٣٠٤) : إنّ
الدعوة كانت في دار أبي طالب.
__________________
قال عقيل بن أبي
طالب : جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إنّ ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي كعبتنا
وفي ديارنا ويُسمعنا ما نكره ، فإن رأيت أن تكفّه عنّا فافعل. فقال لي : يا عقيل
التمس لي ابن عمّك. فأخرجته من كِبْس من كباس أبي طالب. فجاء يمشي معي يطلب الفيء يطأ فيه لا
يقدر عليه ، حتى انتهى إلى أبي طالب فقال : يا بن أخي والله لقد كنت لي مطيعاً ،
جاء قومك يزعمون أنّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم فتؤذيهم وتسمعهم ما يكرهون ،
فإن رأيت أن تكفّ عنهم. فحلّق بصره إلى السماء وقال : والله ما أنا بقادر أن أردّ
ما بعثني به ربّي ، ولو أن يشعل أحدهم من هذه الشمس ناراً. فقال أبو طالب : والله
ما كذب قطّ ، فارجعوا راشدين.
قال
الأميني : هكذا أخرجه البخاري
في تاريخه بإسناد رجاله كلّهم ثقات ، وبهذا اللفظ ذكره المحبّ الطبري
في ذخائر العقبى (ص ٢٢٣). غير أنّ ابن كثير لمّا رأى لكلمة : راشدين. قيمة في
إيمان أبي طالب حذفها في تاريخه (٣ / ٤٢). حيّا
الله الأمانة!
وأخرج ابن سعد في
الطبقات الكبرى (١ / ١٧١) حديث
الدعوة عن عليّ وفيه : «ثمّ قال لهم صلىاللهعليهوآلهوسلم : من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله
الجنّة؟ فقلت : أنا يا رسول الله ، وإنّي لأحدثهم سنّا ، وأحمشهم ساقاً. وسكت
القوم ، ثمّ قالوا : يا أبا طالب ألا ترى ابنك؟ قال : دعوه فلن يألو ابن عمّه خيرا».
وروى أبو عمرو
الزاهد الطبري عن تغلب عن ابن الأعرابي أنّه قال في لغة ـ العور ـ إنّه الرديّ من
كلّ شيء قال : ومن العور ما في رواية ابن عبّاس. ثمّ ذكر
__________________
حديث عليّ عليهالسلام بطوله إلى أن قال : قال : «فلمّا أراد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يتكلّم اعترضه أبو لهب ، فتكلّم بكلمات وقال : قوموا.
فقاموا وانصرفوا. قال : فلمّا كان من الغد أمرني فصنعت مثل ذلك الطعام والشراب
ودعوتهم فأقبلوا ودخلوا فأكلوا وشربوا ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليتكلّم فاعترضه أبو لهب فقال له أبو طالب : اسكت يا أعور
ما أنت وهذا؟ ثمّ قال : لا يقومنّ أحد. قال : فجلسوا ثمّ قال للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : قم يا سيّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربّك فإنّك
الصادق المصدّق».
وإلى هذا الحديث
وكلمة أبي طالب ـ اسكت يا أعور ما أنت وهذا؟ ـ وقع الإيعاز في النهاية لابن الأثير
(٣ / ١٥٦) ،
والفائق للزمخشري (٢ / ٩٨) نقلاً عن
ابن الأعرابي ، وفي لسان العرب (٦ / ٢٩٤) ، تاج
العروس (٣ / ٤٢٨).
قال
الأميني : أيّ كافر طاهر
هذا سلام الله عليه وهو يدافع عن الإسلام المقدّس بكلّ حوله وطوله ، ويسلق رجال
قومه بلسان حديد ، ويحضّ النبيّ الأعظم على الدعوة وتبليغ رسالته عن ربّه ، ويراه
الصادق المصدّق؟.
٧ ـ قول أبي طالب
لعليّ : الزم ابن عمّك :
قال ابن إسحاق :
ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه عليّ بن
أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصلّيان
الصلوات فيها ، فاذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثمّ إنّ أبا
طالب عثر عليهما يوماً وهما يصلّيان ، فقال لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا بن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال : «أي
عمّ هذا
__________________
دين الله ودين
ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم».
وذكروا أنّه قال
لعليّ : أي بُنيّ ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال : «يا أبت آمنت بالله وبرسول
الله وصدّقته بما جاء به ، وصلّيت معه لله واتّبعته» فزعموا أنّه قال له : أما
إنّه لم يدعُك إلاّ إلى خير ، فالزمه. وفي لفظ عن عليّ : إنّه لمّا أسلم قال له
أبو طالب : الزم ابن عمّك.
سيرة ابن هشام (١
/ ٢٦٥) ، تاريخ الطبري (٢ / ٢١٤) ، تفسير الثعلبي ، عيون الأثر (١ / ٩٤) الإصابة (٤
/ ١١٦) ، أسنى المطالب (ص ١٠) .
وفي شرح ابن أبي
الحديد (٣ / ٣١٤) : روي
عن عليّ قال : قال أبي : يا بنيّ الزم ابن عمّك فإنّك تسلم به من كلّ بأس عاجل
وآجل. ثمّ قال لي :
إنّ الوثيقةَ في
لزوم محمدٍ
|
|
فاشدد بصحبته
على أيديكا
|
فقال : ومن شعره
المناسب لهذا المعنى قوله :
إنّ عليّا
وجعفراً ثقتي
|
|
عند ملمّ الزمان
والنوبِ
|
لا تخذلا وانصرا
ابن عمّكما
|
|
أخي لأُمّي من
بينهم وأبي
|
والله لا أخذل
النبيّ ولا
|
|
يخذله من بنيّ
ذو حسبِ
|
هذه الأبيات
الثلاثة توجد في ديوان أبي طالب أيضاً (ص ٣٦) وذكرها العسكري كتاب الأوائل قال : إنّ أبا طالب مرّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومعه جعفر فرأى
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلّي وعليّ معه ، فقال لجعفر : يا بنيّ صل جناح ابن عمّك.
فقام إلى جنب عليّ ، فأحسّ النبيّ فتقدّمهما ، وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا ،
فانصرف أبو طالب مسروراً وأنشأ يقول :
إنَّ عليّا
وجعفراً ثقتي
|
|
عند ملمِّ
الزمان والنوبِ
|
وذكر أبياتاً لم
يذكرها ابن أبي الحديد ومنها :
نحن وهذا النبي
ننصرُهُ
|
|
نضربُ عنه
الأعداءَ كالشهبِ
|
وأخرج أبو بكر
الشيرازي في تفسيره : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا أُنزِل عليه الوحي أتى المسجد الحرام وقام يصلّي فيه
، فاجتاز به عليّ عليهالسلام وكان ابن تسع سنين فناداه : يا عليّ إليّ أقبل. فأقبل إليه
ملبّياً فقال له النبيّ : «إنّي رسول الله إليك خاصّة وإلى الخلق عامّة فقف عن
يميني وصلّ معي». فقال : «يا رسول الله حتى أمضي وأستأذن أبا طالب والدي» ؛ فقال
له : «اذهب فإنّه سيأذن لك» ، فانطلق إليه يستأذنه في اتّباعه ، فقال : يا ولدي
تعلم أنّ محمداً أمين الله منذ كان ، امض إليه واتّبعه ترشد وتفلح. فأتى عليّ عليهالسلام ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قائم يصلّي في المسجد ، فقام عن يمينه يصلّي معه ، فاجتاز
أبو طالب بهما وهما يصلّيان فقال : يا محمد ما تصنع؟ قال : «أعبد إله السموات
والأرض ومعي أخي عليّ يعبد ما أعبد وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد القهّار» فضحك أبو
طالب حتى بدت نواجده وأنشأ يقول :
والله لن يصلوا
إليك بجمعِهمْ
|
|
حتى أُغيّبَ في
الترابِ دفينا
|
إلى آخر الأبيات
التي أسلفناها (ص ٣٣٤).
٨ ـ قول أبي طالب
: صل جناح ابن عمّك :
أخرج ابن الأثير :
أنّ أبا طالب رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّا يصلّيان وعليّ على
يمينه ، فقال
لجعفر رضي الله تعالى عنه : صل جناح ابن عمّك ، وصلّ عن يساره ، وكان إسلام جعفر
بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. وقال أبو طالب :
فصبراً أبا يعلى
على دين أحمدٍ
|
|
وكن مظهراً
للدين وُفِّقت صابرا
|
وحط من أتى
بالحقِّ من عند ربِّه
|
|
بصدقٍ وعزمٍ لا
تكن حمزُ كافرا
|
فقد سرّني إذ
قلت إنَّك مؤمنٌ
|
|
فكن لرسول الله
في الله ناصرا
|
وبادِ قريشاً
بالذي قد أتيته
|
|
جهاراً وقل ما
كان أحمد ساحرا
|
أُسد الغابة (١ / ٢٨٧) ، شرح
ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٥) ،
الإصابة (٤ / ١١٦) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٢٨٦) ، أسنى
المطالب (ص ٦) وقال : قال
البرزنجي : تواترت الأخبار أنّ أبا طالب كان يحبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويحوطه وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويُصدّقه فيما يقوله
؛ ويأمر أولاده كجعفر وعليّ باتّباعه ونصرته.
وقال في (ص ١٠) :
قال البرزنجي : هذه الأخبار كلّها صريحة في أنّ قلبه طافح وممتلئ بالإيمان بالنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٩ ـ أبو طالب
وحنوّه على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
قال أبو جعفر محمد
بن حبيب رحمهالله في أماليه : كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أحياناً يبكي وبقول : إذا رأيته ذكرت أخي ، وكان عبد الله
أخاه لأبويه ، وكان شديد الحبّ والحنوّ عليه ، وكذلك كان عبد المطّلب شديد الحبّ
له ، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم البيات إذا عرف مضجعه ، فكان يقيمه ليلاً من
__________________
منامه ويضجع ابنه
عليّا مكانه ، فقال له عليّ ليلة : «يا أبت إنّي مقتول» ، فقال له :
أصبرن يا بنيَّ
فالصبر أحجى
|
|
كلُّ حيٍّ
مصيرُه لشعوبِ
|
قد بذلناك
والبلاءُ شديدٌ
|
|
لفداء الحبيبِ
وابنِ الحبيبِ
|
لفداءِ الأغرِّ
ذي الحسب الثا
|
|
قب والباعِ
والكريمِ النجيبِ
|
إن تُصِبكَ
المنونُ فالنبلُ تبرى
|
|
فمصيبٌ منها
وغيرُ مصيبِ
|
كلُّ حيٍّ وإن
تملّى بعمرٍ
|
|
آخذٌ من مذاقها
بنصيبِ
|
فأجاب عليّ بقوله
:
أتأمرني بالصبرِ
في نصرِ أحمدٍ
|
|
وواللهِ ما قلتُ
الذي قلتُ جازعا
|
ولكنَّني أحببت
أن ترَى نصرتي
|
|
وتعلمَ أنِّي لم
أزل لك طائعا
|
سأسعى لوجهِ
اللهِ في نصرِ أحمدٍ
|
|
نبيِّ الهدى
المحمودِ طفلاً ويافعا
|
وذكره ابن أبي
الحديد نقلاً عن الأمالي (٣ / ٣١٠) وهناك تصحيف في البيت الثاني
والثالث من أبيات أبي طالب صحّحناه من طبقات السيّد علي خان الناقل عن شرح ابن أبي
الحديد المخطوط ، وذكر القصّة أبو علي الموضّح العمري العلوي كما في كتابه الحجّة (ص ٦٩).
قال
الأميني : إنّ القرابة
والرحم تبعثان إلى المحاماة إلى حدّ محدود ، لكنّه إذا بلغت حدّ التضحية بولد
كأمير المؤمنين هو أحب العالمين إلى والده ، فهناك يقف التفاني
__________________
على موقفه ، فلا
يستسهل الوالد أن يعرض ابنه على القتل كلّ ليلة فينيمه على فراش المفدّى ، ويستعوض
منه ابن أخيه ، إلاّ أن يكون مندفعاً إلى ذلك بدافع دينيّ وهو معنى اعتناق أبي
طالب للدين الحنيف ، وهو الذي تعطيه المحاورة الشعريّة بين الوالد والولد فترى
الولد يصارح بالنبوّة ، فلا ينكر عليه الوالد بأنّ هذا التهالك ليس إلاّ بدافعٍ
قوميٍّ ، غير فاتر عن حضِّ ابنه على ما يبتغيه من النصرة ولا متثبّط عن النهوض
بها. فسلام الله على والد وما ولد.
١٠ ـ أبو طالب
وابن الزبعرى :
قال القرطبي في
تفسيره (ص ٤٠٦) : روى أهل
السير قال : كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي ، فلمّا دخل في
الصلاة قال أبو جهل لعنه الله : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن
الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فانفتل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من صلاته ، ثمّ أتى أبا طالب عمّه فقال : «يا عمّ ألا ترى
إلى ما فُعِلَ بي؟» فقال أبو طالب : من فعل هذا بك؟ فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عبد الله بن الزبعرى». فقام أبو طالب ووضع سيفه على
عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم ، فلمّا رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ؛
فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا
بُنيّ من الفاعل بك هذا؟ فقال : «عبد الله بن الزبعرى» ؛ فأخذ أبو طالب فرثاً
ودماً فلطّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم ، وأساء لهم القول.
حديث موقف أبي
طالب هذا يوجد في غير واحد من كتب القوم وقد لعبت به أيدي الهوى ، وسنوقفك إن شاء
الله على حقّ القول فيه تحت عنوان : أبو طالب في الذكر الحكيم .
__________________
١١ ـ سيّدنا أبو
طالب وقريش :
قال ابن إسحاق :
لمّا بادى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قومه بالإسلام ، وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه
ولم يردّوا عليه ، فيما بلغني ، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلمّا فعل ذلك أعظموه
وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلاّ من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل
مستخفون ، وحَدِب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على أمر الله مظهراً لأمره ، لا يردّه عنه شيء.
وقال : إنّ قريشاً
حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : يا ابن أخي إنّ قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا
، فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق ، قال : فظنّ رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قد بدا لعمّه فيه بداء ، وأنّه خاذله ومسلمه ، وأنّه
قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في
يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». قال : ثمّ
استعبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فبكى ثمّ قام ، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل
يا ابن أخي. قال : فأقبل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء
أبداً.
ثمّ إنّ قريشاً
حين عرفوا أنّ أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة
بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في
قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتّخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك
، هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك
__________________
وفرّق جماعة قومك
، وسفّه أحلامهم ، فنقتله ، فإنّما هو رجل برجل ، قال : والله لبئس ما تسومونني ؛ أتعطونني
ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا. قال : فقال
المطعم بن عديّ بن نوفل : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلّص ممّا
تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ، فقال أبو طالب لمطعم : والله ما
أنصفوني ، ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك أو كما قال.
قال : فحقب الأمر
، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضاً ، فقال أبو طالب عند ذلك يعرض
بالمطعم بن عديّ ويعمّ من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ؛ ويذكر ما
سألوه وما تباعد من أمرهم :
ألا قل لعمرو
والوليد ومطعمٍ
|
|
ألا ليت حظِّي
من حياطتكم بَكرُ
|
من الخورِ
حبحابٌ كثيرٌ رُغاؤه
|
|
يرشُّ على
الساقين من بوله قطرُ
|
تخلّف خلف الورد
ليس بلاحقٍ
|
|
إذا ما علا
الفيفاء قيل له وَبرُ
|
أرى أخوينا من
أبينا وأُمِّنا
|
|
إذا سُئلا قالا
إلى غيرنا الأمرُ
|
بلى لهما أمرٌ
ولكن تجرجما
|
|
كما جرجمت من
رأس ذي علقٍ صخرُ
|
أخصّ خصوصاً
عبدَ شمسٍ ونوفلاً
|
|
هما نبذانا مثل
ما يُنبَذُ الجمرُ
|
هما أغمزا
للقومِ في أخويهما
|
|
فقد أصبحا منهم
أكفّهما صِفرُ
|
هما أشركا في
المجد من لا أبا له
|
|
من الناس إلاّ
أن يُرسَّ له ذكرُ
|
__________________
وتيمٌ ومخزومٌ
وزهرةُ منهمُ
|
|
وكانوا لنا
مولىً إذا بُني النصرُ
|
فو الله لا
تنفكُّ منّا عداوةٌ
|
|
ولا منهمُ ما
كان من نسلنا شفرُ
|
فقد سفهت
أحلامهم وعقولهم
|
|
وكانوا كجفرٍ
بئس ما صنعت جفرُ
|
قال ابن هشام :
تركنا منها بيتين أقذع فيهما.
قال الأميني : حذف
ابن هشام منها ثلاثة أبيات لا تخفى على أيِّ أحد غايته الوحيدة فيه ، وإنَّ
الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ألا وهي :
وما ذاك إلاّ
سؤدد خصّنا به
|
|
إلهُ العبادِ
واصطفانا له الفخرُ
|
رجالٌ تمالوا
حاسدين وبغضة
|
|
لأهل العلى
فبينهمُ أبداً وترُ
|
وليدٌ أبوه كان
عبداً لجدِّنا
|
|
إلى علجةٍ زرقاء
جال بها السحرُ
|
يريد به الوليد بن
المغيرة وكان من المستهزئين بالنبيِّ الأعظم ومن الذين مشوا إلى أبي طالب عليهالسلام في أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد نزل قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) وكان يسمّى : الوحيد في قومه .
ثمّ قام أبو طالب
ـ حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون ـ في بني هاشم وبني المطّلب فدعاهم إلى ما هو
عليه من منع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه ، وأجابوه ما دعاهم
، إليه ، إلاّ ما كان من أبي لهب عدوّ الله الملعون.
فلمّا رأى أبو
طالب من قومه ما سرّه في جهدهم معه وحدبهم عليه ؛ جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ؛ ويذكر
فضل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشدّ لهم
__________________
رأيهم ، وليحدبوا
معه على أمره ؛ فقال :
إذا اجتمعت
يوماً قريشٌ لمفخرٍ
|
|
فعبدُ منافٍ
سرّها وصميمها
|
فإن حُصّلتْ
أشرافُ عبدِ منافِها
|
|
ففي هاشمٍ
أشرافُها وقديمها
|
وإن فخرتْ يوماً
فإنّ محمداً
|
|
هو المصطفى من
سرِّها وكريمها
|
تداعت قريشٌ
غثُّها وسمينُها
|
|
علينا فلم تظفر
وطاشت حلومها
|
وكنّا قديماً لا
نقرُّ ظُلامةً
|
|
إذا ما ثنوا
صُعرَ الخدود نُقيمها
|
ونحمي حماها
كلَّ يومِ كريهةٍ
|
|
ونضرب عن أحجارها
من يرومها
|
بنا انتعش العود
الذواء وإنَّما
|
|
بأكنافنا تندى
وتنمى أرومها
|
سيرة ابن هشام (١
/ ٢٧٥ ـ ٢٨٣) ، طبقات ابن سعد (١ / ١٨٦) ، تاريخ الطبري (٢ / ٢١٨ ـ ٢٢١) ، ديوان
أبي طالب (ص ٢٤) ، الروض الأُنف (١ / ١٧١ ، ١٧٢) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣٠٦) ،
تاريخ ابن كثير (٢ / ١٢٦ ، ٢٥٨ ، و ٣ / ٤٢ ، ٤٨ ، ٤٩) ، عيون الأثر (١ / ٩٩ ، ١٠٠)
، تاريخ أبي الفداء (١ / ١١٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٠٦) ، أسنى المطالب (ص ١٥)
فقال : هذه الأبيات من غرر مدائح أبي طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الدالّة على تصديقه إيّاه ، طلبة الطالب (ص ٥ ـ ٩) .
__________________
١٢ ـ سيّد الأباطح
وصحيفة قريش :
اجتمع قريش وتشاوروا
أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطّلب أن لا ينكحوا إليهم ،
ولا يبيعوا منهم شيئاً ولا يتبايعوا ، ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً ، ولا تأخذهم
بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للقتل ، ويخلوا بينهم وبينه ، وكتبوه في صحيفة بخطّ منصور
بن عكرمة ، أو بخطِّ بغيض بن عامر ، أو بخط النضر ابن الحرث ، أو بخطّ هشام بن
عمرو ، أو بخطّ طلحة بن أبي طلحة ، أو بخطّ منصور ابن عبد ، وعلّقوا منها صحيفة في
الكعبة هلال المحرّم سنة سبع من النبوّة ، وكان اجتماعهم بخيف بني كنانة وهو
المحصّب ، فانحاز بنو هشام وبنو المطّلب إلى أبي طالب ودخلوا معه في الشعب إلاّ
أبا لهب فكان مع قريش ، فأقاموا على ذلك سنتين وقيل ثلاث سنين ، وإنّهم جهدوا في
الشعب حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر.
قال ابن كثير :
كان أبو طالب مدّة إقامتهم بالشعب يأمره صلىاللهعليهوآلهوسلم فيأتي فراشه كلّ ليلة حتى يراه من أراد به شرّا وغائلة ،
فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمّه أن يضطجع على فراش المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ويأمر هو أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.
ثمّ إنّ الله
تعالى أوحى إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الأرضة أكلت جميع ما في الصحيفة من القطيعة والظلم فلم
تدع سوى اسم الله فقط ، فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّه أبا طالب بذلك ، فقال : يا بن أخي أربّك أخبرك بهذا؟
قال : «نعم». قال : والثواقب ما كذبتني قطّ. فانطلق في عصابة من بني هاشم والمطّلب
حتى أتوا المسجد ، فأنكر قريش ذلك ، وظنّوا أنّهم خرجوا من شدّة البلاء ليسلموا
إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال أبو طالب :
__________________
يا معشر قريش جرت
بيننا وبينكم أُمور لم تذكر في صحيفتكم ، فأتوا بها ، لعلّ أن يكون بيننا وبينكم
صلح ، وإنّما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها فأتوا بها وهم لا
يشكّون أنّ أبا طالب يدفع إليهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فوضعوها بينهم وقبل أن تفتح قالوا لأبي طالب : قد آن لكم
أن ترجعوا عمّا أحدثتم علينا وعلى أنفسكم ، فقال : أتيتكم في أمر هو نصف بيننا
وبينكم ، إنّ ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله قد بعث على صحيفتكم دابّة
فلم تترك فيها إلاّ اسم الله فقط ، فإن كان كما يقول فأفيقوا عمّا أنتم عليه ، فو
الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا. وإن كان باطلاً دفعناه إليكم فقتلتم أو
استحييتم! فقالوا : رضينا. ففتحوها فوجدوها كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقالوا : هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغياً وعدوانا.
وإنّ أبا طالب قال
لهم بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به صلىاللهعليهوآلهوسلم : علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبيّن أنّكم أولى بالظلم
والقطيعة؟ ودخل هو ومن معه بين أستار الكعبة وقال : اللهمّ انصرنا على من ظلمنا ،
وقطع أرحامنا ، واستحلّ ما يحرم عليه منّا.
وعند ذلك مشت
طائفة من قريش في نقض تلك الصحيفة ، فقال أبو طالب :
ألا هل أتى
بَحريَّنا صنعُ ربِّنا
|
|
على نأيهم والله
بالناس أرودُ
|
فيخبرهم أنَّ
الصحيفة مُزّقت
|
|
وأن كلّ ما لم
يرضَه اللهُ مفسدُ
|
تراوحها إفكٌ
وسحرٌ مُجمَّعٌ
|
|
ولم يُلفَ سحرٌ
آخرَ الدهرِ يصعدُ
|
تداعى لها من
ليس فيها بقرقر
|
|
فطائرُها في
رأسِها يتردّدُ
|
__________________
وكانت كفاءً
وقعةٌ بأثيمةٍ
|
|
ليُقطَعَ منها
ساعدٌ ومقلّدُ
|
ويظعن أهل
المكّتين فيهربوا
|
|
فرائصُهم من
خشيةِ الشرِّ ترعدُ
|
ويُترك حرّاثٌ
يقلّب أمرَهُ
|
|
أيُتهِمُ فيها
عند ذاك ويُنجدُ
|
وتصعد بين
الأخشبين كتيبةٌ
|
|
لها حُدُجٌ سهمٌ
وقوسٌ ومرهدُ
|
فمن ينشَ من
حضّارِ مكةَ عزُّه
|
|
فعزّتنا في بطن
مكّة أتلدُ
|
نشأنا بها
والناسُ فيها قلائلٌ
|
|
فلم نَنفَكِكْ
نزدادُ خيراً ونحمدُ
|
ونُطعمُ حتى
يتركَ الناسُ فضلَهمْ
|
|
إذا جعلت أيدي
المفيضين ترعدُ
|
جزى الله رهطاً
بالحجون تتابعوا
|
|
على ملأ يهدي
لحزمٍ ويُرشدُ
|
قعوداً لدى خطم
الحجون كأنَّهم
|
|
مقاولةٌ بل هم أعزُّ وأمجدُ
|
أعان عليها كلُّ
صقرٍ كأنَّه
|
|
إذا ما مشى في
رفرف الدرع أحردُ
|
ألا إنَّ خير
الناس نفساً ووالداً
|
|
إذا عُدَّ
ساداتُ البريّةِ أحمدُ
|
نبيُّ الإلهِ
والكريم بأصله
|
|
وأخلاقه وهو
الرشيد المؤيَّدُ
|
جريءٌ على جُلّى
الخطوب كأنَّه
|
|
شهابٌ بكفّي
قابس يتوقَّدُ
|
__________________
من الأكرمين من
لؤيِّ بن غالبٍ
|
|
إذا سيم خسفاً
وجهه يتربّدُ
|
طويل النجاد خارجٌ نصف ساقه
|
|
على وجهه يُسقى
الغمام ويسعدُ
|
عظيمُ الرماد
سيّدٌ وابنُ سيّدٍ
|
|
يحضُّ على مَقرى
الضيوف ويحشدُ
|
ويبني لأبناءِ
العشيرةِ صالحاً
|
|
إذا نحن طُفنا
في البلاد ويمهدُ
|
ألَظَّ بهذا الصلح كلَّ مبرّا
|
|
عظيمِ اللواء
أمره ثمّ يحمدُ
|
قضوا ما قضوا في
ليلهم ثمّ أصبحوا
|
|
على مَهَلٍ
وسائر الناس رُقّدُ
|
همُ رجّعوا سهلَ
بنَ بيضاءَ راضياً
|
|
وسُرَّ أبو بكر
بها ومحمدُ
|
متى شرك الأقوام
في جُلِّ أمرنا
|
|
وكنّا قديماً
قبلها نتودّدُ
|
وكنّا قديماً لا
نُقِرُّ ظُلامَةً
|
|
وندرك ما شئنا
ولا نتشدّدُ
|
فيالَ قُصيٍّ هل
لكم في نفوسكم
|
|
وهل لكمُ فيما
يجيء به غدُ
|
فإنّي وإيّاكم
كما قال قائلٌ
|
|
لديك البيان لو
تكلّمتَ أسودُ
|
طبقات ابن سعد (١
/ ١٧٣ ، ١٩٢) ، سيرة ابن هشام (١ / ٣٩٩ ـ ٤٠٤) ، عيون الأخبار لابن قتيبة (٢ / ١٥١)
، تاريخ اليعقوبي (٢ / ٢٢) ، الاستيعاب ترجمة سهل بن بيضاء (٢ / ٥٧٠) ، صفة الصفوة
(١ / ٣٥) ، الروض الأُنف (١ / ٢٣١) ، خزانة الأدب للبغدادي (١ / ٢٥٢) ، تاريخ ابن
كثير (٣ / ٨٤ ، ٩٥ ، ٩٧) ، عيون الأثر (١ / ١٢٧) ،
__________________
الخصائص الكبرى (١
/ ١٥١) ، ديوان أبي طالب (ص ١٣) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٥٧ ـ ٣٦٧) ، سيرة زيني
دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٠) ، طلبة الطالب (ص ٩ ، ١٥ ، ٤٤) ، أسنى
المطالب (ص ١١ ـ ١٣) .
وذكر ابن الأثير
قصّة الصحيفة في الكامل (٢ / ٣٦) فقال :
قال أبو طالب في أمر الصحيفة وأَكْلِ الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحمٍ أبياتاً ،
منها :
وقد كان في أمرِ
الصحيفةِ عبرةٌ
|
|
متى ما يُخبَّرْ
غائبُ القومِ يعجبُ
|
محا الله منها
كفرَهمْ وعقوقَهمْ
|
|
وما نقموا من
ناطق الحقِّ مُعرِبُ
|
فأصبح ما قالوا
من الأمر باطلاً
|
|
ومن يختلق ما
ليس بالحقِّ يكذبُ
|
١٣ ـ وصيّة أبي طالب عند موته :
عن الكلبي قال :
لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال : يا معشر قريش أنتم
صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، فيكم السيّد المطاع ، وفيكم المقدام الشجاع ،
الواسع الباع ، واعلموا أنَّكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلاّ أحرزتموه ،
ولا شرفاً إلاّ أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ،
والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة ـ يعني الكعبة ـ فإنَّ
فيها مرضاةً للربّ ، وقواماً للمعاش ، وثباتاً للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها
، فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل ، وزيادة في العدد ، واتركوا
__________________
البغي والعقوق
ففيهما هلكة القرون قبلكم ، أجيبوا الداعي ، وأعطوا السائل فإنّ فيهما شرف الحياة
والممات ، وعليكم بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، فإنّ فيهما محبّة في الخاصّ ،
ومكرمة في العام.
وإنّي أوصيكم
بمحمد خيراً فإنّه الأمين في قريش ، والصدّيق في العرب ، وهو الجامع لكلّ ما
أوصيتكم به ، وقد جاءنا بأمر قَبِله الجنان ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وايم
الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا
دعوته ، وصدّقوا كلمته ، وعظّموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، وصارت رؤساء قريش
وصناديدها أذناباً ، ودورها خراباً ، وضعفاؤها أرباباً ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم
إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصفت له فؤادها ،
وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم ، كونوا له ولاةً ولحزبه حماةً ،
والله لا يسلك أحد سبيله إلاّ رَشَد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سَعد ، ولو كان
لنفسي مدّة ، وفي أجلي تأخير ، لكففت عنه الهزاهز ، ولدافعت عنه الدواهي.
الروض الأُنف (١ /
٢٥٩) ، المواهب (١ / ٧٢) ، تاريخ الخميس (١ / ٣٣٩) ، ثمرات الأوراق هامش المستطرف (٢
/ ٩) ، بلوغ الإرب (١ / ٣٢٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٥) السيرة لزيني دحلان هامش
الحلبيّة (١ / ٩٣) ، أسنى المطالب (ص ٥) .
قال
الأميني : في هذه الوصيّة
الطافحة بالإيمان والرشاد دلالة واضحة على أنّه عليهالسلام إنّما أرجأ تصديقه باللسان إلى هذه الآونة التي يئس فيها
من الحياة حذار شنآن قومه المستتبع لانثيالهم عنه ، المؤدي إلى ضعف المُنّة وتفكّك القوى ، فلا يتسنّى له حينئذ الذبّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن كان الإيمان به مستقرّا في الجنان من
__________________
أوّل يومه ، لكنّه
لمّا شعر بأزوف الأجل وفوات الغاية المذكورة أبدى ما أجنّته أضالعه فأوصى بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بوصيّته الخالدة.
١٤ ـ وصيّة أبي
طالب لبني أبيه :
أخرج ابن سعد في
الطبقات الكبرى : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دعا بني عبد المطّلب
فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ، وما اتّبعتم أمره ، فاتّبعوه وأعينوه
ترشدوا.
وفي لفظ : يا معشر
بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا.
وتوجد هذه الوصيّة
في تذكرة السبط (ص ٥) ، الخصائص الكبرى (١ / ٨٧) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٢
، ٣٧٥) ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٩٢ ، ٢٩٣) ، أسنى المطالب (ص ١٠).
ورأى البرزنجي هذا الحديث دليلاً على إيمان أبي طالب ونعمّا هو ، قال : قلت : بعيد
جدّا أن يَعرف أنّ الرشاد في اتّباعه ويأمر غيره بذلك ثمّ يتركه هو.
قال
الأميني : ليس في العقل
السليم مساغ للقول بأنّ هذه المواقف كلّها لم تنبعث عن خضوع أبي طالب للدين الحنيف
وتصديقه للصادع به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلاّ فما ذا الذي كان يحدوه إلى مخاشنة قريش ومقاساة
الأذى منهم وتعكير الصفو من حياته لا سيّما أيّام كان هو والصفوة من فئته في الشعب
، فلا حياة هنيئة ، ولا عيش رغداً ، ولا أمن يُطمأنُّ به ، ولا خطر مدروءاً ،
يتحمّل الجفاء والقطيعة والقسوة المؤلمة من قومه ، فما ذا
__________________
الذي أقدمه على
هذه كلّها؟ وما ذا الذي حصره وحبسه في الشعب عدّة سنين تجاه أمر لا يقول بصدقه ولا
يُخبت إلى حقيقته؟ لاها الله لم يكن كلّ ذلك إلاّ عن إيمان ثابت ، وتصديق وتسليم
وإذعان بما جاء به نبيّ الإسلام ، يظهر ذلك للقارئ المستشفّ لجزئيّات كلّ من هذه
القصص ، ولم تكن القرابة والقوميّة بمفردها تدعوه إلى مقاساة تلكم المشاقّ كما لم
تدعُ أبا لهب أخاه ، وهب أنّ القرابة تدعوه إلى الذبّ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لكنّها لا تدعو إلى المصارحة بتصديقه وأنّ ما جاء به حقّ ،
وأنّه نبيّ كموسى خطّ في أوّل الكتب ، وأنّ من اقتصّ أثره فهو المهتدي ، وأنّ
الضالّ من ازورّ عنه وتخلّف ، إلى أمثال ذلك من مصارحات قالها بملء فمه ، ودعا
إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها بأعلى هتافه.
١٥ ـ حديث عن أبي طالب
:
ذكر ابن حجر في
الإصابة (٤ / ١١٦) من طريق إسحاق بن عيسى الهاشمي عن أبي رافع قال : سمعت أبا طالب
يقول : سمعت ابن أخي محمد بن عبد الله يقول : إنّ ربّه بعثه بصلة الأرحام ، وأن
يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره ، ومحمد الصدوق الأمين.
وذكره السيّد زيني
دحلان في أسنى المطالب (ص ٦) وقال :
أخرجه الخطيب ، وأخرجه السيّد فخار بن معد في كتاب الحجّة (ص ٢٦) من طريق
الحافظ أبي نعيم الأصبهاني ، وبإسناد آخر من طريق أبي الفرج الأصبهاني ، وروى
الشيخ إبراهيم الحنبلي في نهاية الطلب عن عروة الثقفي قال : سمعت أبا طالبرضى الله
عنه يقول : حدّثني ابن أخي الصادق الأمين وكان والله صدوقاً : إنّ ربّه أرسله بصلة
الأرحام ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وكان يقول : اشكر ترزق ، ولا تكفر تُعذّب.
__________________
ـ ٣ ـ
ما يروي عنه آله وذووه
من طرق العامّة فحسب
أمّا رجال آل هاشم
، وأبناء عبد المطّلب ، وولد أبي طالب ، فلم يؤثر عنهم إلاّ الهتاف بإيمانه الثابت
، وأنّ ما كان يؤثره في نصرة النبي الأقدس صلىاللهعليهوآلهوسلم كان منبعثاً عن تديّن بما صدع به صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل البيت أدرى بما فيه.
قال ابن الأثير في
جامع الأصول : وما أسلم من أعمام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غير حمزة والعبّاس وأبي طالب عند أهل البيت عليهمالسلام. انتهى.
نعم : هتفوا بذلك
في أجيالهم وأدوارهم بملء الأفواه وبكلّ صراحة وجبهوا من خالفهم في ذلك.
إذا قالت حذامِ
فصدِّقوها
|
|
فإنَّ القول ما
قالت حذامِ
|
١ ـ قال ابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣١٢) : روي
بأسانيد كثيرة بعضها عن العبّاس بن عبد المطّلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة :
إنّ أبا طالب ما مات حتى قال : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله. والخبر مشهور
أنّ أبا طالب عند الموت قال كلاماً خفيّا ، فأصغى إليه أخوه العبّاس ، وروي عن عليّ عليهالسلام أنّه قال : «ما مات
__________________
أبو طالب حتى أعطى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نفسه الرضا».
وذكر أبو الفداء
والشعراني عن ابن عبّاس : أنّ أبا طالب لمّا اشتدّ مرضه قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عمّ قلها استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة يعني
الشهادة ، فقال له أبو طالب : يا بن أخي لو لا مخافة السبّة وأن تظنّ قريش إنّما
قلتها جزعاً من الموت لقلتها. فلمّا تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرّك شفتيه
فأصغى إليه العبّاس بإذنه وقال : والله يا بن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن
يقولها. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الحمد لله الذي هداك يا عمّ .
وقال السيّد أحمد
زيني دحلان في السيرة الحلبيّة (١ / ٩٤) : نقل
الشيخ السحيمي في شرحه على شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الشعراني والسبكي وجماعة
أنّ ذلك الحديث ـ أعني حديث العبّاس ـ ثبت عند بعض أهل الكشف وصحّ عندهم إسلامه.
قال
الأميني : ذكرنا هذا الحديث
مجاراة للقوم ، وإلاّ فما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عند الموت إلى التلفّظ بتينك
الكلمتين اللتين كرّس حياته الثمينة للهتاف بمفادهما في شعره ونثره ، والدعوة
إليهما ، والذبّ عمّن صدع بهما ، ومعاناة الأهوال دونهما حتى يومه الأخير. ما كانت
حاجة أبي طالب مسيسة عندئذ إلى التفوّه بهما كأمر مستجدّ ، فمتى كفر هو؟ ومتى ضلّ؟
حتى يؤمن ويهتدي بهما ، أليس من الشهادة قوله الذي أسلفناه (ص ٣٣١):
ليعلمْ خيارُ
الناسِ أنّ محمداً
|
|
وزيرٌ لموسى
والمسيحِ ابن مريم
|
أتانا بهديٍ مثل
ما أتيا به
|
|
فكلّ بأمرِ
اللهِ يهدي ويعصم
|
وإنّكمُ تتلونه
في كتابكم
|
|
بصدق حديثٍ لا
حديث مبرجمِ
|
__________________
وقوله في (ص ٣٣٢):
أمينُ حبيبٍ في
العبادِ مسوّمُ
|
|
بخاتم ربٍّ
قاهرٍ في الخواتمِ
|
نبيٌّ أتاه
الوحي من عند ربِّهِ
|
|
ومن قال لا يقرع
بها سنّ نادمِ
|
وقوله في (ص ٣٣٢):
ألم تعلموا أنّا
وجدنا محمداً
|
|
رسولاً كموسى
خُطّ في أوّل الكتب
|
وقوله في (ص ٣٣٤):
وظلم نبيٍّ جاء
يدعو إلى الهدى
|
|
وأمرٌ أتى من
عندِ ذي العرشِ قيِّمِ
|
وقوله في (ص ٣٣٤):
فاصدع بأمرِكَ
ما عليك غضاضةٌ
|
|
وابشر بذاك
وقرَّ منك عيونا
|
ودعوتني وعلمتُ
أنَّك ناصحي
|
|
ولقد دعوتَ
وكنتَ ثَمَّ أمينا
|
ولقد علمتُ
بأنَّ دينَ محمدٍ
|
|
من خيرِ أديانِ
البريّةِ دينا
|
وقوله في (ص ٣٣٥):
أو تؤمنوا
بكتابٍ مُنزلٍ عجبٍ
|
|
على نبيٍّ كموسى
أو كذي النون
|
وقوله في (ص ٣٣٧):
نصرت الرسولَ
رسولَ المليك
|
|
ببيضٍ تلألا
كلمعِ البروقِ
|
أذبُّ وأحمي
رسول الاله
|
|
حمايةَ حامٍ
عليه شفيقِ
|
وقوله في (ص ٣٤٠):
فأيَّده ربُّ
العباد بنصرِهِ
|
|
وأظهر ديناً
حقُّه غير باطلِ
|
وقوله في (ص ٣٥٦):
والله لا أخذلُ
النبيَّ ولا
|
|
يخذُله من بنيَّ
ذو حسبِ
|
نحن وهذا
النبيُّ ننصرُهُ
|
|
نضربُ عنه
الأعداءَ بالشهبِ
|
وقوله في (ص ٣٤٥):
أتبغون قتلاً
للنبيِّ محمدٍ
|
|
خصصتمْ على شؤم
بطول أثامِ
|
وقوله في (ص ٣٥٧):
فصبراً أبا يعلى
على دينِ أحمدٍ
|
|
وكن مظهراً
للدينِ وُفِّقت صابرا
|
وحط من أتى
بالحقِّ من عند ربِّه
|
|
بصدقٍ وعزمٍ لا
تكن حمزُ كافرا
|
فقد سرّني إذ
قلت إنَّك مؤمنٌ
|
|
فكن لرسولِ
اللهِ في اللهِ ناصرا
|
وقوله وقد رواه
أبو الفرج الأصبهاني :
زعمت قريشٌ أنَّ
أحمدَ ساحرٌ
|
|
كذبوا وربِّ
الراقصات إلى الحرم
|
ما زلتُ أعرفُه
بصدقِ حديثِهِ
|
|
وهو الأمينُ على
الحرائب والحُرم
|
وقوله المرويُّ من
طريق أبي الفرج الأصبهاني كما في كتاب الحجّة (ص ٧٢) ومن طريق
الحسن بن محمد بن جرير كما في تفسير أبي الفتوح (٤ / ٢١٢).
قل لمن كان من
كنانَة في العزِّ
|
|
وأهلِ الندى
وأهلِ المعالي
|
قد أتاكم من
المليكِ رسولٌ
|
|
فاقبلوه بصالحِ
الأعمالِ
|
وانصروا أحمداً
فإنَّ من الله
|
|
رداءً عليه غيرَ
مدالِ
|
وقوله من أبيات في
شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٥):
__________________
فخير بني هاشم
أحمدٌ
|
|
رسول الإله على
فترةِ
|
ولو كان يؤثر أقلّ
من هذا عن أحد من الصحابة لطبّل له ، وزمّر من يتشبّث بالطحلب في سرد الفضائل
لبعضهم مغالاةً فيهم ، لكنّي أجد إسلام أبي طالب مستعصياً فهمه على هؤلاء ولو صرخ
بألف هتاف من ضرائب هذه. لما ذا؟ أنا لا أدري!
٢ ـ أخرج ابن سعد
في طبقاته (١ / ١٠٥) عن عبيد
الله بن أبي رافع عن عليّ قال : أخبرت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بموت أبي طالب ، فبكى ثمّ قال : اذهب فاغسله وكفّنه وواره
غفر الله له ورحمه.
وفي لفظ الواقدي :
فبكى بكاءً شديداً ثمّ قال : اذهب فاغسله. إلخ.
وأخرجه ابن عساكر كما في أسنى المطالب (ص ٢١) ، والبيهقي في دلائل
النبوّة ، وذكره سبط ابن الجوزي في التذكرة (ص ٦) ، وابن أبي الحديد في شرحه (٣ /
٣١٤) ، والحلبي في السيرة (١ / ٣٧٣) ، والسيّد زيني دحلان في هامش السيرة الحلبيّة
(١ / ٩٠) ، والبرزنجي في نجاة أبي طالب وصحّحه كما في أسنى المطالب (ص ٣٥) وقال :
أخرجه أيضاً أبو داود ، وابن الجارود ، وابن خزيمة وقال : إنّما ترك النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم المشي في جنازته اتّقاءً من شرّ سفهاء قريش. وعدم صلاته
لعدم مشروعيّة صلاة الجنازة يومئذٍ.
__________________
عن الأسلمي وغيره
: توفّي أبو طالب للنصف من شوال في السنة العاشرة من حين نُبِّئ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ وتوفّيت خديجة بعده بشهر وخمسة أيّام فاجتمع على رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليها وعلى عمّه حزن شديد حتى سمّي ذلك العام عام الحزن.
طبقات ابن سعد (١
/ ١٠٦) ، الامتاع للمقريزي (ص ٢٧) ، تاريخ ابن كثير (٣ / ١٣٤) ، السيرة الحلبيّة (١
/ ٣٧٣) ، السيرة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (١ / ٢٩١) ، أسنى المطالب (ص ١١) .
لفت
نظر : عيّن ابن سعد
لوفاة أبي طالب يوم النصف من شوّال كما سمعت ، وقال أبو الفداء في تاريخه (١ / ١٢٠)
توفّي في شوّال ، وأوعز القسطلاني في المواهب (١ / ٧١) موته في
شوّال إلى القيل ، وقال المقريزي في الإمتاع (ص ٢٧) : توفّي أوّل ذي القعدة وقيل :
النصف من شوّال ، وقال الزرقاني في شرح المواهب (١ / ٢٩١) : مات بعد خروجهم من
الشعب في ثامن عشر رمضان سنة عشر ، وفي الاستيعاب : خرجوا من الشعب في أوّل سنة
خمسين وتوفّي أبو طالب بعده بستة أشهر فتكون وفاته في رجب. انتهى. وهذا الاختلاف
موجود في تآليف الشيعة أيضاً.
٣ ـ أخرج البيهقي
عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال : «وصلتك رحم ، وجزيت خيراً يا
عمّ» وفي لفظ الخطيب : عارض النبيّ جنازة أبي طالب فقال : «وصلتك رحم ، جزاك الله
خيراً يا عمّ».
دلائل النبوّة
للبيهقي ، تاريخ الخطيب البغدادي (١٣ / ١٩٦) ، تاريخ ابن كثير
__________________
(٣ / ١٢٥) ، تذكرة
السبط (ص ٦) ، نهاية الطلب للشيخ إبراهيم الحنفي كما في الطرائف (ص ٨٦) ، الإصابة (٤
/ ١١٦) ، شرح شواهد المغني (ص ١٣٦) .
وقال اليعقوبي في
تاريخه (٢ / ٢٦): لمّا
قيل لرسول الله : إنّ أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتدّ له جزعه ، ثمّ دخل
فمسح جبينه الأيمن أربع مرّات وجبينه الأيسر ثلاث مرّات ، ثمّ قال : «يا عمّ ربّيت
صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عنّي خيراً ، ومشى بين يدي
سريره وجعل يعرضه ويقول : وصلتك رحم ، وجُزيت خيراً».
٤ ـ عن إسحاق بن
عبد الله بن الحارث قال : قال العبّاس : يا رسول الله أترجو لأبي طالب؟ قال : «كلّ
الخير أرجو من ربّي».
أخرجه ابن سعد في
الطبقات (١ / ١٠٦) بسند
صحيح رجاله كلّهم ثقات رجال الصحاح وهم : عفّان بن مسلّم ، وحمّاد بن سلمة ، وثابت
البنائي ، وإسحاق ابن عبد الله.
وأخرجه ابن عساكر كما في الخصائص الكبرى (١ / ٨٧) ،
والفقيه الحنفي
__________________
الشيخ إبراهيم
الدينوري في نهاية الطلب كما في الطرائف (ص ٦٨) ، وذكره
ابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣١١) ،
والسيوطي في التعظيم والمنّة (ص ٧) نقلاً عن ابن سعد.
٥ ـ وعن أنس بن
مالك قال : أتى أعرابيّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ، ولا
صبيّ يصطبح ، ثمّ أنشد :
أتيناك
والعذراءُ يدمى لبانُها
|
|
وقد شُغلتْ أمّ
الصبيِّ عن الطفلِ
|
وألقى بكفّيه
الصبيُّ استكانةً
|
|
من الجوع ضعفاً
ما يمرُّ ولا يحلي
|
ولا شيءَ ممّا
يأكلُ الناسُ عندنا
|
|
سوى الحنظلِ
العامي والعِلْهِز الفسلِ
|
وليس لنا إلاّ
إليك فرارُنا
|
|
وأين فرارُ
الناس إلاّ إلى الرُّسلِ
|
فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يجرّ رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثمّ
قال : «اللهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً سحّا طبقاً غير رائث ، تنبت به الزرع وتملأ به
الضرع ، وتحيي به الأرض بعد موتها ، وكذلك تخرجون».
فما استتمّ الدعاء
حتى التقت السماء بروقها ؛ فجاء أهل البطانة يضجّون : يا رسول الله الغرق ، فقال :
«حوالينا ولا علينا». فانجاب السحاب عن المدينة كالإكليل ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى بدت نواجذه وقال : «لله درّ أبي طالب لو كان حيّا
لقرّت عيناه ، من الذي ينشدنا شعره؟ فقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله
__________________
وجهه : يا رسول
الله كأنّك أردت قوله :
وأبيضُ يُستسقى
الغمام بوجهه
|
|
ثمالُ اليتامى
عصمةٌ للأراملِ
|
قال : أجل» فأنشده
أبياتاً من القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ، ثمّ قام رجل من
كنانة وأنشد :
لك الحمدُ
والحمدُ ممّن شكر
|
|
سُقينا بوجه
النبيِّ المطرْ
|
دعا اللهَ
خالقَه دعوةً
|
|
وأشخصَ معْها
إليه البصرْ
|
فلم يك إلاّ
كإلقاء الردا
|
|
وأسرع حتى رأينا
الدَّررْ
|
دفاق العزاليّ
جمّ البعاق
|
|
أغاثَ به اللهُ
عليا مضرْ
|
فكان كما قاله
عمُّه
|
|
أبو طالب أبيض
ذو غررْ
|
به الله يسقي
صيوب الغمام
|
|
وهذا العيانُ
لذاك الخبرْ
|
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إن يك شاعراً يحسن فقد أحسنت».
أعلام النبوّة
للماوردي (ص ٧٧) ؛ بدائع الصنائع (١ / ٢٨٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٦) ،
السيرة الحلبيّة ، عمدة القاري (٣ / ٤٣٥) ، شرح شواهد المغني للسيوطي (ص ١٣٦) ،
سيرة زيني دحلان (١ / ٨٧) ، أسنى المطالب (ص ١٥) ، طلبة الطالب (ص ٤٣) .
قال البرزنجي كما
في أسنى المطالب : فقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لله درّ أبي طالب»
__________________
يشهد له بأنّه لو
رأى النبيّ وهو يستسقي على المنبر لسرّه ذلك ، ولقرّت عيناه ، فهذا من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شهادة لأبي طالب بعد موته أنّه كان يفرح بكلمات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقرّ عينه بها ، وما ذلك إلاّ لسرّ وقر في قلبه من تصديقه
بنبوّته وعلمه بكمالاته. انتهى.
قال
الأميني : وذكر جمع هذا
الحديث في استسقاء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وحذف منه كلمة : «لله درّ أبي طالب». وأنت أعرف منّي
بالغاية المتوخّاة في هذا التحريف ، ولا يفوتنا عرفانها.
٦ ـ قال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٦) : ورد
في السير والمغازي أنّ عتبة ابن ربيعة أو شيبة لمّا قطع رجل أبي عبيدة بن الحارث
بن المطّلب يوم بدر أشبل عليه عليّ وحمزة فاستنقذاه منه وخبطا عتبة بسيفهما حتى
قتلاه ، واحتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنّ مخّ ساقه ليسيل ، فقال : يا رسول الله لو كان أبو
طالب حيّا لعلم أنّه قد صدق في قوله :
كذبتم وبيتِ
اللهِ نُخلي محمداً
|
|
ولمّا نطاعن
دونه ونناضلِ
|
وننصره حتى
نصرّع حوله
|
|
ونذهل عن
أبنائنا والحلائلِ
|
فقالوا : إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم استغفر له ولأبي طالب يومئذٍ.
٧ ـ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال لعقيل بن أبي طالب : «يا أبا يزيد إنّي أحبّك
حبّين حبّا لقرابتك منّي ، وحبّا لما كنت أعلم من حبّ عمّي أبي طالب إيّاك».
__________________
أخرجه أبو عمر في الاستيعاب (٢ / ٥٠٩) ، والبغوي ، والطبراني كما
في ذخائر العقبى (ص ٢٢٢) ، وتاريخ الخميس (١ / ١٦٣) ؛ وعماد الدين يحيى العامري في
بهجة المحافل (١ / ٣٢٧) ، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣١٢) وقال : قالوا :
اشتهر واستفاض هذا الحديث ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٢٧٣) وقال : رجاله ثقات.
هذا شاهد صدق على
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يعتقد إيمان عمّه ، وإلاّ فما قيمة حبّ كافر لأيّ أحد
حتى يكون سبباً لحبّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أولاده؟
وقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا لعقيل كان بعد إسلامه كما نصّ عليه الإمام العامري في
بهجة المحافل وقال : وفيها إسلام عقيل بن أبي طالب الهاشمي ، ولمّا أسلم قال له
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أبا يزيد. إلى آخره.
وقال جمال الدين
الأشخر اليمني في شرح البهجة عند شرح الحديث : ومن شأن المحبّ محبّة حبيب الحبيب.
ألا تعجب من حبّ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا طالب إن لم يك معتنقاً لدينه ـ العياذ بالله ـ ومن
إعرابه عنه بعد وفاته. ومن حبّه عقيلاً لحب أبيه إيّاه؟
٨ ـ أخرج أبو نعيم
وغيره عن ابن عبّاس وغيره قالوا : كان أبو طالب يحبّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حبّا شديداً لا يحبّ أولاده مثله ، ويقدمه على أولاده ؛
ولذا كان لا ينام إلاّ إلى جنبه ، ويخرجه معه حين يخرج.
__________________
ولمّا مات أبو
طالب نالت قريش منه من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه
سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بيته والتراب على رأسه ؛ فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه
التراب وتبكي ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لها : «يا بنيّة لا تبكي فإنّ الله مانع أباك ، ما
نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب» .
وفي لفظ : «ما
زالت قريش كاعّين ـ أي جبناء ـ حتى مات أبو طالب».
وفي لفظ : «ما
زالت قريش كاعّة حتى مات أبو طالب».
تاريخ الطبري (٢ /
٢٢٩) ، تاريخ ابن عساكر (١ / ٢٨٤) ، مستدرك الحاكم (٢ / ٦٢٢) ، تاريخ ابن كثير (٣
/ ١٢٢ ، ١٣٤) ، الصفوة لابن الجوزي (١ / ٢١) ، الفائق للزمخشري (٢ / ٢١٣) ، تاريخ
الخميس (١ / ٢٥٣) ، السيرة الحلبيّة (١ / ٣٧٥) ، فتح الباري (٧ / ١٥٣ ، ١٥٤) ، شرح
شواهد المغني (ص ١٣٦) نقلاً عن البيهقي ، أسنى المطالب (ص ١١ ، ٢١) ، طلبة الطالب (ص
٤ ، ٥٤).
٩ ـ عن عبد الله
قال : لمّا نظر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر إلى القتلى وهم مصرّعون قال لأبي بكر : «لو أنّ
أبا طالب حيّ لعلم أنّ أسيافنا قد أخذت بالأماثل» يعني قول أبي طالب :
كذبتم وبيت الله
إن جدَّ ما أرى
|
|
لتلتبسنْ
أسيافُنا بالأماثلِ.
|
__________________
الأغاني (١٧ / ٢٨) ، طلبة
الطالب (ص ٣٨) نقلاً عن دلائل الإعجاز .
١٠ ـ أخرج الحافظ
الكنجي في الكفاية (ص ٦٨) : من طريق
الحافظ ابن فنجويه عن ابن عبّاس في حديث مرفوعاً قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ : لو كنت مستخلفاً أحداً لم يكن أحد أحقّ منك لقدمتك
في الإسلام ، وقرابتك من رسول الله ، وصهرك وعندك فاطمة سيّدة نساء المؤمنين وقبل
ذلك ما كان من بلاء أبي طالب ، إياي حين نزل القرآن وأنا حريص أن أرعى ذلك في ولده
بعده.
قال
الأميني : إنّ شيئاً من
مضامين هذه الأحاديث لا يتّفق مع كفر أبي طالب ، فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يأمر خليفته الإمام عليهالسلام بتكفين كافر ولا تغسيله ، ولا يستغفر له ولا يترحّم عليه ،
كما في الحديث الثاني ، ولا يُجزّيه خيراً كما في الحديث الثالث ، ولا يرجو له بعض
الخير ـ فضلاً عن كلّه ـ كما في الحديث الرابع ، ولا يستدرّ له الخير كما في حديث
الاستسقاء ، ولا يستغفر له كما في الحديث السادس ، ولا يحبّ عقيلاً لحبّه إيّاه ؛ فإنّ
الكفر يزع المسلم عن بعض هذه ، فكيف بكلّها فضلاً عن نبيّ الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وهو الصادع بقول الله العزيز : (لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) .
وقوله تعالى : (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) .
__________________
وقوله تعالى : (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ
إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
وقوله تعالى : (وَلَوْ
كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) . إلى آيات أخرى.
الكلم الطيّب :
أخرج تمام الرازي
في فوائده ؛ بإسنادهِ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأُمّي وعمّي أبي طالب
وأخٍ لي كان في الجاهليّة».
ذخائر العقبى (ص ٧)
، الدرج المنيفة للسيوطي (ص ٧) ، مسالك الحنفا (ص ١٤) ، وقال فيه : أخرجه أبو نعيم
وغيره وفيه التصريح بأنّ الأخ من الرضاعة ، فالطرق عدّة يشدّ بعضها بعضاً ؛ فإنّ
الحديث الضعيف يتقوّى بكثرة طرقه ، وأمثلها حديث ابن مسعود فإنّ الحاكم صحّحه.
وفي تاريخ
اليعقوبي (٢ / ٢٦) روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «إنّ الله عزّ وجلّ وعدني في أربعة : في أبي
وأُمّي وعمّي وأخٍ كان لي في الجاهليّة».
أخرج ابن الجوزي
بإسناده عن عليّ عليهالسلام مرفوعاً : «هبط جبرئيل عليهالسلام عليّ فقال : إنّ الله يقرئك السلام ويقول : حرِّمت النار
على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك» ، أمّا الصلب فعبدالله ، وأمّا البطن
فآمنة ، وأمّا الحجر فعمّه ـ يعني أبا طالب ـ
__________________
وفاطمة بنت أسد.
التعظيم والمنّة للحافظ السيوطي (ص ٢٥).
وفي شرح ابن أبي
الحديد (٣ / ٣١١) : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قال لي جبرائيل : إنّ الله مشفّعك في ستّة : بطن حملتك
آمنة بنت وهب ، وصلب أنزلك عبد الله ابن عبد المطّلب ، وحجر كفلك أبو طالب ، وبيت
آواك عبد المطّلب ، وأخ كان لك في الجاهليّة» إلى آخرهِ.
رثاء أمير
المؤمنين والده العظيم :
ذكر سبط ابن
الجوزي في تذكرته (ص ٦) : أنّ عليّا
عليهالسلام قال في رثاء أبي طالب :
أبا طالبٍ عصمةَ
المستجيرِ
|
|
وغيثَ المحولِ
ونور الظلَمْ
|
لقد هدَّ فقدُك
أهل الحفاظِ
|
|
فصلّى عليك
وليُّ النعمْ
|
ولقّاك ربُّك
رضوانه
|
|
فقد كنت للطهر
من خير عمْ
|
هذه الأبيات توجد
في ديوان أبي طالب أيضاً (ص ٣٦) ، وذكرها أبو عليّ الموضح كما في كتاب الحجّة (ص ٢٤) للسيّد
فخار ابن معد المتوفّى (٦٣٠) ، وقال ابن أبي الحديد : قال أيضاً :
أرقتُ لِطيرٍ
آخرَ الليلِ غرّدا
|
|
يذكّرني شجواً
عظيماً مجدَّدا
|
أبا طالبٍ مأوى
الصعاليكِ ذا الندى
|
|
جواداً إذا ما
أصدر الأمرَ أوردا
|
فأمستْ قريشٌ
يفرحون بموتِهِ
|
|
ولست أرى حيّا
يكون مخلّدا
|
أرادوا أموراً
زيّنتها حُلومُهم
|
|
ستوردُهم يوماً
من الغيِّ موردا
|
__________________
يُرجُّون تكذيبَ
النبيِّ وقتلَهُ
|
|
وأن يُفترى
قِدما عليه ويجحدا
|
كذبتمْ وبيتِ
اللهِ حتى نذيقَكمْ
|
|
صدورَ العوالي
والحسامَ المهنّدا
|
فإمّا تبيدونا
وإمّا نبيدُكم
|
|
وإمّا تروا سلمَ
العشيرةِ أرشدا
|
وإلاّ فإنَّ
الحيَّ دون محمدٍ
|
|
بني هاشم خير
البريّة محتدا
|
هذه الأبيات توجد
في الديوان المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام مع تغيير يسير وزيادة وإليك نصّها :
أرقت لنوح آخر
الليل غرّدا
|
|
يُذكّرني شجواً
عظيماً مجدَّداً
|
أبا طالب مأوى
الصعاليك ذا الندى
|
|
وذا الحلم لا
خُلفاً ولم يك قُعددا
|
أخا الملك خلّى
ثلمةً سيسدّها
|
|
بنو هاشم أو
يستباح فيهمدا
|
فأمست قريشٌ
يفرحون بفقدِهِ
|
|
ولست أرى حيّا
لشيء مُخلّدا
|
أرادت أموراً
زيّنتها حلومهم
|
|
ستوردهم يوماً
من الغيِّ موردا
|
يُرجُّون تكذيبَ
النبيِّ وقتلَه
|
|
وأن يفتروا
بهتاً عليه ويُجحدا
|
كذبتم وبيتِ
اللهِ حتى نذيقَكمْ
|
|
صدورَ العوالي
والصفيحَ المهنّدا
|
ويبدوَ مِنّا
منظرٌ ذو كريهةٍ
|
|
إذا ما تسربلنا
الحديدَ المسرَّدا
|
فإمّا تبيدونا
وإمّا نبيدُكمْ
|
|
وإمّا تروا سلمَ
العشيرةِ أرشدا
|
وإلاّ فإنَّ
الحيَّ دون محمدٍ
|
|
بنو هاشم خيرُ
البريّة محتدا
|
وإنَّ له فيكم
من اللهِ ناصراً
|
|
ولست بلاقٍ صاحب
الله أوحدا
|
نبيٌّ أتى من
كلِّ وحيٍ بحظّهِ
|
|
فسمّاه ربِّي في
الكتاب محمدا
|
أغرُّ كضوء
البدر صورة وجهه
|
|
جلا الغيمَ عنه
ضوؤه فتوقّدا
|
أمينٌ على ما استودع
اللهُ قلبَه
|
|
وإن كان قولاً
كان فيه مسدَّدا
|
__________________
كلمة الإمام
السجّاد :
قال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١٢) : روي
أنّ عليّ بن الحسين عليهالسلام سئل عن هذا ـ يعني عن إيمان أبي طالب ـ فقال : «وا عجبا
إنّ الله تعالى نهى رسوله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من
السابقات إلى الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات».
كلمة الإمام
الباقر :
سُئل عليهالسلام عمّا يقول الناس إنّ أبا طالب في ضحضاح من نار فقال : «لو وضع إيمان أبي طالب
في كفّة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفّة الأخرى لرجح إيمانه» ثمّ قال : «ألم
تعلموا أنّ أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد الله وابنه وأبي طالب في حياته ثمّ أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم».
شرح ابن أبي
الحديد (٣ / ٣١١).
كلمة الإمام
الصادق :
روي عن أبي عبد
الله جعفر بن محمد عليهماالسلام أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر
فآتاهم الله أجرهم مرّتين ، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله
أجرهُ مرّتين». شرح ابن أبي الحديد (٣ / ٣١٢)
قال
الأميني : هذا الحديث أخرجه
ثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي
__________________
(ص ٢٤٤) عن الإمام
الصادق غير مرفوع ولفظه : «إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا
الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين».
وبلفظ ابن أبي
الحديد ذكره السيّد ابن معد في كتابه الحجّة (ص ١٧) من طريق
الحسين بن أحمد المالكي وزاد فيه : «وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله
تعالى بالجنّة».
كلمة الإمام الرضا
:
كتب أبان بن محمود
إلى عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام : جعلت فداك إنّي قد شككت في إسلام أبي طالب.
فكتب إليه : (وَمَنْ
يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) . الآية ، وبعدها «إنّك إن لم تقرّ بإيمان أبي طالب كان
مصيرك إلى النار» شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣١١.
قصارى القول في
سيّد الأبطح عند القوم :
إنّ كلاّ من هذه
العقود الذهبيّة بمفرده كافٍ في إثبات الغرض فكيف بمجموعها ، ومن المقطوع به أنّ
الأئمّة من ولد أبي طالب عليهالسلام أبصر الناس بحال أبيهم ، وأنّهم لم ينوّهوا إلاّ بمحض
الحقيقة ، فإنّ العصمة فيهم رادعة عن غير ذلك ، ولقد أجاد مفتي الشافعيّة بمكّة
المكرّمة في أسنى المطالب ، حيث قال في (ص ٣٣):
هذا المسلك الذي
سلكه العلاّمة السيّد محمد بن رسول البرزنجي في نجاة أبي
__________________
طالب لم يسبقه
إليه أحد فجزاه الله أفضل الجزاء ، ومسلكه هذا الذي سلكه يرتضيه كلّ من كان
متّصفاً بالإنصاف من أهل الإيمان ، لأنّه ليس فيه إبطال شيء من النصوص ولا تضعيف
لها ، وغاية ما فيه أنّه حملها على معانٍ مستحسنة يزول بها الإشكال ويرتفع الجدال
، ويحصل بذلك قرّة عين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والسلامة من الوقوع في تنقيص أبي طالب أو بغضه ، فإنّ
ذلك يؤذي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) .
وقد ذكر الإمام
أحمد بن الحسين الموصلي الحنفي المشهور بابن وحشي في شرحه على الكتاب المسمّى
بشهاب الأخبار للعلاّمة محمد بن سلامة القضاعي المتوفّى (٤٥٤) : أنّ بغض أبي طالب
كفر. ونصّ على ذلك أيضاً من أئمّة المالكيّة العلاّمة عليّ الأجهوري في فتاويه ،
والتلمساني في حاشيته على الشفاء ، فقال عند ذكر أبي طالب : لا ينبغي أن يذكر إلاّ
بحماية النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّه حماه ونصره بقوله وفعله ، وفي ذكره بمكروه أذيّة
للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ومؤذي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كافر ، والكافر يقتل ، وقال أبو طاهر : من أبغض أبا طالب
فهو كافر.
وممّا يؤيّد هذا
التحقيق الذي حقّقه العلاّمة البرزنجي في نجاة أبي طالب أنّ كثيراً من العلماء
المحقّقين وكثيراً من الأولياء العارفين أرباب الكشف قالوا بنجاة أبي طالب ، منهم
: القرطبي والسبكي والشعراني وخلائق كثيرون ، وقالوا : هذا الذي نعتقده وندين الله
به ، وإن كان ثبوت ذلك عندهم بطريق غير الطريق الذي سلكه البرزنجي ، فقد اتّفق
معهم على القول بنجاته ، فقول هؤلاء الأئمّة بنجاته أسلم للعبد عند الله تعالى لا
سيّما مع قيام هذه الدلائل والبراهين التي أثبتها العلاّمة البرزنجي. انتهى.
__________________
وذكر السيّد زيني
دحلان في أسنى المطالب (ص ٤٣) قال : ولله
درّ القائل :
قفا بمطلعِ سعدٍ
عزّ ناديه
|
|
وأمليا شرحَ
شوقي في مغانيه
|
واستقبلا مطلعَ
الأنوار في أُفق ال
|
|
حجون واحترسا أن
تبهرا فيه
|
مغنىً به وابلُ
الرضوانِ منهمرٌ
|
|
ونائراتُ الهدى
دلّت مناديه
|
قفا فذا بلبلُ
الأفراحِ من طربٍ
|
|
يروي بديعَ
المعاني في أماليه
|
واستمليا
لأحاديث العجائب عن
|
|
بحرٍ هناك بديعٍ
في معانيه
|
حامي الذمارِ
مجير الجارِ من كرمت
|
|
منه السجابا فلم
يفخرْ مباريه
|
عمّ النبيِّ
الذي لم يُثنِهِ حسدٌ
|
|
عن نصرِه فتغالى
في مراضيه
|
هو الذي لم يزل
حصناً لحضرته
|
|
موفَّقاً لرسول
الله يحميه
|
وكلُّ خير
ترجّاه النبيُّ له
|
|
وهو الذي قطُّ
ما خابت أمانيه
|
فيا من أمَّ
العلى في الخالدات غدا
|
|
أغث لِلَهفانه
واسعف مناديه
|
قد خصّك اللهُ
بالمختارِ تكلؤه
|
|
وتستعزُّ به
فخراً وتطريه
|
عُنيتَ بالحبِّ
في طه ففزت به
|
|
ومن ينل حبَّ طه
فهو يكفيه
|
كم شمتَ آياتِ
صدقٍ يستضاء بها
|
|
وتملأُ القلبَ
إيماناً وترويه
|
من الذي فاز في
الماضين أجمعِهمْ
|
|
بمثل ما فزت من
طه وباريه
|
كفلتَ خيرَ
الورى في يتمِهِ شغفاً
|
|
وبتَّ بالروحِ
والأبناءِ تفديه
|
عضدته حين عادته
عشيرتهُ
|
|
وكنت حائطَه من
بغيِ شانيه
|
نصرتَ من لم
يَشمَّ الكونُ رائحةَ ال
|
|
وجودِ لو لم
يقدَّر كونُه فيه
|
إنَّ الذي قمتَ
في تأييدِ شوكتِه
|
|
هو الذي لم يكن
شيءٌ يساويه
|
إنَّ الذي أنت
قد أحببتَ طلعتَهُ
|
|
حبيبُ مَن كلُّ
شيء في أياديه
|
لله درُّك من
قنّاص فرصتِهِ
|
|
مذشمت برق
الأماني من نواحيه
|
__________________
يهنيك فوزُكَ أن
قدّمت منك يداً
|
|
إلى مليٍّ وفيٍّ
في جوازيه
|
من يُسْدِ أحسنَ
معروفٍ لأحسنِ من
|
|
جازى ينلْ فوق
ما نالت أمانيه
|
ومن سعى لسعيدٍ
في مطالبِهِ
|
|
فهو الحريُّ بأن
تحظى أماليه
|
فيا سعيد
المساعي في متاجره
|
|
قد جئتُ ربعَكَ
أستهمي غواديه
|
مستمطراً منك
مزنَ الخيرِ معترفاً
|
|
بأنَّ غرسَ
المنى يعنى بصافيه
|
إلى آخره.
ثمّ قال في (ص ٤٤) وقيل أيضاً :
إنَّ القلوبَ
لتبكي حين تسمعُ ما
|
|
أبدى أبو طالبٍ
في حقِّ من عظما
|
فإن يكن أجمعَ
الأعلامُ أنَّ له
|
|
ناراً فلله كلُّ
الكون يفعل ما
|
أمّا إذا
اختلفوا فالرأي أن نردا
|
|
موارداً يرتضيها
عقلُ من سلما
|
نتابع المثبتي
الإيمان من زمرٍ
|
|
في معظم الدين
تابعناهمُ فكما
|
وهم عدولٌ خيارٌ
في مقاصدِهم
|
|
فلا نقل إنَّهم
لن يبلغوا عظما
|
لا تزدريهم أتدري
من همو فهمو
|
|
همو عرى الدين
قد أضحوا به زُعَما
|
هم السيوطيُ والسبكيُّ مع نفرٍ
|
|
كعدّة النقبا
حفّاظٍ اهل حمى
|
وأهل كشف
وشعرانيُّهم وكذا
|
|
القرطبي
والسحيمي الجميع كما
|
__________________
ـ ٤ ـ
ما أسنده إليه من لاث به وبخع له
هؤلاء شيعة أهل
البيت عليهمالسلام لا يشكّ أحد منهم في إيمان أبي طالب عليهالسلام ويرونه في أسمى مراقيه وعلى صهوته العليا آخذين ذلك يداً عن يد حتى ينتهي
الدور إلى الصحابة منهم والتابعين لهم بإحسان ، ومذعنين في ذلك بنصوص أئمّتهم عليهمالسلام بعد ما ثبت عن جدّهم الأقدس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال المعلّم الأكبر شيخنا المفيد في أوائل المقالات (ص ٤٥) : اتّفقت
الإماميّة على أنّ آباء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من لدن آدم إلى عبد الله مؤمنون بالله موحّدون. إلى أن قال
: وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب مات مؤمناً ، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على
التوحيد. إلخ.
وقال شيخ الطائفة
أبو جعفر الطوسي في التبيان (٢ / ٣٩٨) : عن
أبي عبد الله وأبي جعفر عليهماالسلام أنّ أبا طالب كان مسلماً ، وعليه إجماع الإماميّة لا
يختلفون فيه ، ولها على ذلك أدلّة قاطعة موجبة للعلم.
وقال شيخنا
الطبرسي في مجمع البيان (٢ / ٢٨٧) : قد
ثبت إجماع أهل البيت على إيمان أبي طالب وإجماعهم حجّة ؛ لأنّهم أحد الثقلين
اللذين أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسّك بهما بقوله : «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».
وقال سيّدنا ابن
معد الفخار : لقد كان يكفينا من الاستدلال على إيمان أبي طالب عليهالسلام إجماع أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليهم أجمعين وعلماء شيعتهم على إسلامه واتّفاقهم على
إيمانه ، ولو لم يرد عنه من الأفعال التي لا يفعلها إلاّ المؤمنون ،
__________________
والأقوال التي لا
يقولها إلاّ المسلمون ، ما يشهد له بصحّة الإسلام وتحقيق الإيمان ، إذ كان إجماعهم
حجّة يعتمد عليها ودلالة يصمد إليها. كتاب الحجّة (ص ١٣).
وقال شيخنا
الفتّال في روضة الواعظين (ص ١٢٠) : اعلم
أنّ الطائفة المحقّة قد أجمعت على أنّ أبا طالب ، وعبد الله بن عبد المطّلب ،
وآمنة بنت وهب ، كانوا مؤمنين وإجماعهم حجّة.
وقال سيّدنا
الحجّة ابن طاووس في الطرائف (ص ٨٤) : إنّني
وجدت علماء هذه العترة مجمعين على إيمان أبي طالب. وقال في (ص ٨٧) : لا ريب أنّ العترة أعرف بباطن أبي طالب من
الأجانب ، وشيعة أهل البيت عليهمالسلام مجمعون على ذلك ، ولهم فيه مصنّفات ، وما رأينا ولا سمعنا
أنّ مسلماً أُحوِجوا فيه إلى مثل ما أُحوِجوا في إيمان أبي طالب ، والذي نعرفه
منهم أنَّهم يثبتون إيمان الكافر بأدنى سبب ، وبأدنى خبر واحد وبالتلويح ، وقد
بلغت عداوتهم لبني هاشم إلى إنكار إيمان أبي طالب مع ثبوت ذلك عليه بالحجج الثواقب
، إنّ هذا من جملة العجائب.
وقال ابن أبي
الحديد في شرحه (٣ / ٣١١) : اختلف
الناس في إيمان أبي طالب ؛ فقالت الإماميّة وأكثر الزيديّة : ما مات إلاّ مسلماً ،
وقال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك ؛ منهم الشيخ أبو القاسم البلخي وأبو جعفر الإسكافي
وغيرهما.
وقال العلاّمة
المجلسي في البحار (٩ / ٢٩) : قد
أجمعت الشيعة على إسلامه وأنّه
__________________
قد آمن بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في أوّل الأمر ، ولم يعبد صنماً قطّ ، بل كان من أوصياء
إبراهيم عليهالسلام واشتهر إسلامه من مذهب الشيعة حتى إنّ المخالفين كلّهم
نسبوا ذلك إليهم وتواترت الأخبار من طرق الخاصّة والعامّة في ذلك ، وصنّف كثير من
علمائنا ومحدّثينا كتاباً مفرداً في ذلك ، كما لا يخفى على من تتبّع كتب الرجال.
ومستند هذا
الإجماعات إنّما هو ما جاء به رجالات بيت الوحي في سيّد الأبطح ، وإليك أربعون
حديثاً :
١ ـ أخرج شيخنا
أبو علي الفتّال وغيره عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام قال : «نزل جبرئيل عليهالسلام على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا محمد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول : إنّي قد
حرّمت النار على صُلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك. فالصُلب صُلب أبيه عبد الله
بن عبد المطّلب ، والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب ، وأمّا حجر كفلك فحجر أبي طالب».
وزاد في رواية : «وفاطمة بنت أسد» . روضة الواعظين (ص ١٢١).
راجع الكافي لثقة الإسلام الكليني (ص ٢٤٢) ، معاني الأخبار
للصدوق ، كتاب الحجّة للسيد فخار بن معد (ص ٨) ، ورواه شيخنا المفسِّر الكبير أبو
الفتوح الرازي في تفسيره (٤ / ٢١٠) ولفظه : «إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على النار
صُلباً أنزلك ، وبطناً حملك ، وثدياً أرضعك ، وحجراً كفلك».
٢ ـ عن أمير
المؤمنين قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هبط عليّ جبرئيل فقال لي : يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ
مشفّعك في ستّة : بطن حملتك آمنة بنت وهب ، وصُلب
__________________
أنزلك عبد الله بن
عبد المطّلب ، وحجر كفلك أبو طالب ، وبيت آواك عبد المطّلب ، وأخ كان لك في
الجاهليّة ، وثدي أرضعك حليمة بنت أبي ذؤيب».
رواه السيد فخار
بن معد في كتاب الحجّة (ص ٨).
٣ ـ روى شيخنا
المعلّم الأكبر الشيخ المفيد بإسناد يرفعه قال : لمّا مات أبو طالب أتى أمير
المؤمنين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فآذنه بموته فتوجّع توجّعاً عظيماً وحزن حزناً شديداً ثمّ
قال لأمير المؤمنين عليهالسلام : «امض يا عليّ فتولَّ أمره ، وتولَّ غسله وتحنيطه وتكفينه
، فإذا رفعته على سريره فأعلمني». ففعل ذلك أمير المؤمنين عليهالسلام ، فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فرقّ وتحزّن ، وقال : «وصلتك رحم وجُزيت خيراً يا عمّ ، فلقد
ربّيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً» ، ثمّ أقبل على الناس وقال : «أمَ والله
لأشفعنّ لعمّي شفاعة يعجب بها أهل الثقلين».
وفي لفظ شيخنا
الصدوق : «يا عم كفلت يتيماً ، وربّيت صغيراً ، ونصرت كبيراً فجزاك الله عنّي
خيراً» .
راجع : تفسير علي بن إبراهيم (ص ٣٥٥) ، أمالي ابن بابويه الصدوق
، الفصول المختارة لسيدنا الشريف المرتضى (ص ٨٠) ، الحجّة على الذاهب إلى تكفير
أبي طالب (ص ٦٧) ، بحار الأنوار (٩ / ١٥) ، الدرجات الرفيعة لسيّدنا الشيرازي ،
ضياء العالمين.
٤ ـ عن العبّاس بن
عبد المطّلب رضى الله عنه أنّه سأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : ما ترجو لأبي طالب؟ فقال : «كلّ الخير أرجو من ربّي
عزّ وجلّ».
__________________
كتاب الحجّة (ص ١٥) الدرجات
الرفيعة . راجع ما أسلفناه (ص ٣٧٣).
٥ ـ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال لعقيل بن أبي طالب : «أنا أحبّك يا عقيل حبّين :
حبّا لك وحبّا لأبي طالب لأنّه كان يحبّك» .
علل الشرائع
لشيخنا الصدوق. الحجّة (ص ٣٤) ، بحار الأنوار (٩ / ١٦) .
٦ ـ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «لو قمت المقام المحمود لشفعت في أبي وأمّي وعمّي
وأخ [ كان ] لي مواخياً في الجاهليّة». تفسير علي بن إبراهيم (ص ٣٥٥ ،
٤٩٠) ، تفسير البرهان (٣ / ٧٩٤). راجع
ما أسلفناه في صفحة (٣٧٨).
٧ ـ عن الإمام
السبط الحسين بن عليّ عن والده أمير المؤمنين أنّه كان جالساً في الرحبة والناس
حوله فقام إليه رجل فقال له : يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الذي أنزلك الله
وأبوك معذّب في النار ، فقال له : «مه فضّ الله فاك ، والذي بعث محمداً بالحقّ
نبيّا لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله ، أبي معذّب في النار
وابنه قسيم الجنّة والنار؟ والذي بعث محمداً بالحقّ إنّ نور أبي طالب يوم القيامة
ليطفئ أنوار الخلائق إلاّ خمسة أنوار : نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين
ونور ولده من الأئمّة ، ألا إنّ نوره من نورنا ، خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي
عام».
__________________
المناقب المائة
للشيخ أبي الحسن بن شاذان ، كنز الفوائد للكراجكي (ص ٨٠) ، أمالي ابن الشيخ (ص ١٩٢)
، احتجاج الطبرسي كما في البحار ، تفسير أبي الفتوح (٤ / ٢١١) ، الحجّة (ص ١٥) ،
الدرجات الرفيعة ، بحار الأنوار (٩ / ١٥) ، ضياء العالمين ، تفسير البرهان (٣ /
٧٩٤) .
٨ ـ عن مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام إنّه قال : «والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا
هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ» : قيل له : فما كانوا يعبدون؟ قال : «كانوا يصلّون
إلى البيت على دين إبراهيم عليهالسلام متمسّكين به».
رواه شيخنا الصدوق باسناده في كمال الدين (ص ١٠٤) ، والشيخ أبو
الفتوح في تفسيره (٤ / ٢١٠) ، والسيّد في البرهان (٣ / ٧٩٥).
٩ ـ عن أبي الطفيل
عامر بن واثلة قال : قال عليّ عليهالسلام : «إنّ أبي حين حضره الموت شهده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبرني عنه بشيء خير لي من الدنيا وما فيها».
رواه بإسناده
السيّد فخار بن معد في كتاب الحجّة (ص ٢٣) ، وذكره
الفتوني في ضياء العالمين.
١٠ ـ عن أمير
المؤمنين عليهالسلام قال : «ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نفسه الرضا» تفسير علي بن إبراهيم (ص ٣٥٥) ، كتاب
الحجّة (ص ٢٣) ، الدرجات
__________________
الرفيعة ، ضياء
العالمين .
١١ ـ عن الشعبي
يرفعه عن أمير المؤمنين أنّه قال : كان والله أبو طالب عبد مناف بن عبد المطّلب
مؤمناً مسلماً يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش. قال أبو علي
الموضح : ولأمير المؤمنين في أبيه يرثيه :
أبا طالبٍ عصمةَ
المستجير
|
|
وغيثَ المحول
ونور الظلمْ
|
لقد هدّ فقدُكَ
أهلَ الحفاظِ
|
|
فصلّى عليك وليّ
النعمْ
|
ولقّاك ربُّكَ
رضوانهُ
|
|
فقد كنت للمصطفى
خيرَ عمّ
|
كتاب الحجّة (ص ٢٤).
١٢ ـ عن الأصبغ بن
نباته قال : سمعت أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام يقول : مرّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً وكانوا يسمّونها الفهيرة
ويذبحونها على النصف فلم يسلّم عليهم ، فلمّا انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمرّ
بنا يتيم أبي طالب فلا يسلّم علينا ، فأيّكم يأتيه فيفسد عليه مصلاّه؟ فقال عبد
الله بن الزبعرى السهمي : أنا أفعل ؛ فأخذ الفرث والدم ، فانتهى به إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى أتى عمّه أبا طالب فقال : «يا عمّ من أنا؟» فقال :
وَلِمَ يا بن أخي؟ فقصّ عليه القصّة فقال : وأين تركتهم؟ فقال : «بالأبطح» فنادى
في قومه : يا آل عبد المطّلب يا آل هاشم يا آل عبد مناف ، فأقبلوا إليه من كلّ
مكان ملبّين ، فقال : كم أنتم؟ قالوا : نحن أربعون ، قال : خذوا سلاحكم. فأخذوا
سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلمّا رأوه أرادوا أن يتفرّقوا ،
فقال
__________________
لهم : وربّ هذه
البنيّة لا يقومنّ منكم أحد إلاّ جللتهُ بالسيف. ثمّ أتى إلى صفاة كانت بالأبطح
فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلاثة أفهار ثمّ قال : يا محمد سألتني من أنت؟ ثمّ أنشأ يقول ويومي
بيده إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
أنت النبيُّ
محمدُ
|
|
قرمٌ أغرّ
مسوَّدُ
|
إلى آخر ما مرَّ
في (ص ٣٣٦) ثمّ قال : يا محمد أيُّهم الفاعل بك؟ فأشار النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عبد الله بن الزبعرى السهمي الشاعر ، فدعاه أبو طالب
فوجأ أنفه حتى أدماها. ثمّ أمر بالفرث والدم فأمرّ على رءوس الملأ كلّهم ثمّ قال :
يا بن أخ أرضيت؟ ثمّ قال : سألتني من أنت؟ أنت محمد بن عبد الله ، ثمّ نسّبه إلى
آدم عليهالسلام ثمّ قال : أنت والله أشرفهم حسباً ، وأرفعهم منصباً ، يا
معشر قريش من شاء منكم أن يتحرّك فليفعل ؛ أنا الذي تعرفوني .
رواه السيد ابن معد في الحجّة (ص ١٠٦) ، وذكر لِدة هذه القضيّة
الصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٢٢) وفي طبع (ص ٩١) ، وابن حجّة الحموي في ثمرات
الأوراق بهامش المستطرف (ص ٢ / ٣) نقلاً عن كتاب الأعلام للقرطبي.
١٣ ـ ذكر ابن
فيّاض في كتابه شرح الأخبار : أنّ عليّا عليهالسلام قال في حديث له : إنّ أبا طالب هجم عليّ وعلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ونحن ساجدان فقال : أفعلتماها؟ ثمّ أخذ بيدي فقال : انظر
كيف تنصره ، وجعل يرغّبني في ذلك ويحضّني عليه. الحديث.
راجع ضياء
العالمين لشيخنا أبي الحسن الشريف الفتوني.
__________________
١٤ ـ روي أنّ أمير
المؤمنين عليهالسلام قيل له : من كان آخر الأوصياء قبل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ فقال : «أبي».
ضياء العالمين للفتوني.
١٥ ـ عن الإمام
السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ عليهمالسلام أنّه سُئل عن أبي طالب أكان مؤمناً؟ فقال عليهالسلام : «نعم». فقيل له : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّه كافر. فقال عليهالسلام : «وا عجباً كلّ العجب أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وقد نهاه الله تعالى أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من
القرآن ، ولا يشكّ أحد أنّ فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات
السابقات ، فإنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضى الله عنه».
راجع : ما مر (ص ٣٨٠) ، وكتاب الحجّة (ص ٢٤) ، والدرجات الرفيعة
، ضياء العالمين فقال : قيل : إنّها متواترة عندنا.
١٦ ـ عن أبي بصير
ليث المرادي قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : سيّدي إنّ الناس يقولون : إنّ أبا طالب في ضحضاح من نار
يغلي منه دماغه. فقال عليهالسلام : «كذبوا والله إنّ إيمان أبي طالب لو وُضع في كفّة ميزان
وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم». إلى آخر ما مرّ
(ص ٣٨٠). رواه السيّد في كتاب الحجّة (ص ١٨) من طريق شيخ الطائفة عن
الصدوق ، والسيّد الشيرازي في الدرجات الرفيعة ، والفتوني في ضياء العالمين.
وروى السيّد ابن
معد في كتاب الحجّة (ص ٢٧) من طريق آخر عن الإمام الباقر عليهالسلام إنّه قال : مات أبو طالب بن عبد المطّلب مسلماً مؤمناً. إلى آخره.
١٧ ـ عن الإمام
الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهمالسلام قال : «إنّ مثل أبي
__________________
طالب مثل أصحاب
الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين».
راجع : الكافي لثقة الإسلام الكليني (ص ٢٤٤) ، أمالي الصدوق (ص
٣٦٦) ، روضة الواعظين (ص ١٢١) ، كتاب الحجّة (ص ١١٥) ، وفي (ص ١٧) ولفظه من طريق
الحسين بن أحمد المالكي :
قال عبد الرحمن بن
كثير : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّ الناس يزعمون أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار. فقال : «كذبوا
، ما بهذا نزل جبريل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» ، قلت : وبما نزل؟ قال : «أتى جبرائيل في بعض ما كان عليه
فقال : يا محمد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك : إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان
وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين ، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك
فآتاه الله أجره مرّتين ، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله تعالى
بالجنّة ، ثمّ قال : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرائيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا
محمد اخرج من مكّة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب؟».
وذكره العلاّمة المجلسي في البحار (٩ / ٢٤) والسيّد في الدرجات
الرفيعة ، والفتوني في ضياء العالمين ، وروى شيخنا أبو الفتوح الرازي هذا الحديث
في تفسيره (٤ / ٢١٢).
١٨ ـ أخرج ثقة
الإسلام الكليني في الكافي (ص ٢٤٤) ؛
بالإسناد عن إسحاق بن جعفر عن أبيه عليهالسلام قال : قيل له : إنّهم يزعمون أنّ أبا طالب كان كافراً ،
فقال : «كذبوا ، كيف وهو يقول :
__________________
ألم تعلموا أنّا
وجدنا محمداً
|
|
نبيّا كموسى
خُطّ في أوّل الكتب»
|
وذكره غير واحد من
أئمّة الحديث في تآليفهم رضوان الله عليهم أجميعن.
١٩ ـ أخرج ثقة الإسلام
الكليني في أُصول الكافي (٢٤٤) ، عن الإمام الصادق قال : «كيف يكون أبو طالب كافراً
وهو يقول :
لقد علموا أنَّ
ابننا لا مكذّبٌ
|
|
لدينا ولا يعبا
بقيل الأباطلِ
|
وأبيض يُستسقى
الغمامُ بوجهِهِ
|
|
ثمالُ اليتامى
عصمةٌ للأراملِ»
|
وذكره السيّد في
البرهان (٣ / ٧٩٥) ، وكذلك
غير واحد من أعلام الطائفة أخذاً عن الكليني.
٢٠ ـ روى شيخنا
أبو علي الفتّال في روضة الواعظين (ص ١٢١) عن الإمام
الصادق عليهالسلام قال : لمّا حضر أبا طالب رضى الله عنه الوفاة جمع وجوه
قريش فأوصاهم ، فقال : يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه ، وقلب العرب ، وأنتم
خزنة الله في أرضه وأهل حرمه ، فيكم السيّد المطاع ، الطويل الذراع ، وفيكم
المقدام الشجاع ، الواسع الباع ، اعلموا أنّكم لم تتركوا للعرب في المفاخر نصيباً
إلاّ حزتموه ، ولا شرفاً إلاّ أدركتموه ، فلكم على الناس بذلك الفضيلة ، ولهم به
إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب إلى آخر ما مرّ في (ص ٣٦٦) من مواقف سيّدنا أبي
طالب المشكورة المرويّة من طرق أهل السنّة ، وذكر هذه الوصيّة شيخنا العلاّمة
المجلسي في البحار (٩ / ٢٣).
٢١ ـ حدّث شيخنا
أبو جعفر الصدوق في إكمال الدين (ص ١٠٣) ، بالإسناد
__________________
عن محمد بن مروان
عن الإمام الصادق عليهالسلام : «إنّ أبا طالب أظهر الكفر وأسرّ الإيمان ، فلمّا حضرته
الوفاة أوحى الله عزّ وجلّ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أخرج منها فليس لك بها ناصر. فهاجر إلى المدينة».
وذكره سيّدنا
الشريف المرتضى في الفصول المختارة (ص ٨٠) فقال : هذا
يبرهن عن إيمانه لتحقيقه بنصرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقوية أمره.
وذيل الحديث رواه
السيّد الحجّة ابن معد في كتابه الحجّة (ص ٣٠) وقال في (ص
١٠٣) : لمّا قبض أبو طالب اتّفق المسلمون على أنّ جبرئيل عليهالسلام نزل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال له : ربّك يقرئك السلام ويقول لك : إنّ قومك قد عوّلوا
على أن يُبيّتوك وقد مات ناصرك فاخرج عنهم. وأمره بالمهاجرة. فتأمّل إضافة الله
تعالى أبا طالب رحمهالله إلى النبيّ عليهالسلام وشهادته له أنّه ناصره ، فإنّ في ذلك لأبي طالب أوفى فخر
وأعظم منزلة ، وقريش رضيت من أبي طالب بكونه مخالطاً لهم مع ما سمعوا من شعره
وتوحيده وتصديقه للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم يمكنهم قتله والمنابذة له لأنّ قومه من بني هاشم
وإخوانهم من بني المطّلب بن عبد مناف وأحلافهم ومواليهم وأتباعهم ، كافرهم ومؤمنهم
كانوا معه ، ولو كان نابذ قومه لكانوا عليه كافّة ، ولذلك قال أبو لهب لمّا سمع
قريشاً يتحدّثون في شأنه ويفيضون في أمره : دعوا عنكم هذا الشيخ فإنّه مغرم بابن
أخيه ، والله لا يُقتل محمد حتى يُقتل أبو طالب ، ولا يقتل أبو طالب حتى تُقتل بنو
هاشم كافّة ، ولا تُقتل بنو هاشم حتى تُقتل بنو عبد مناف ، ولا تقتل بنو عبد مناف
حتى تُقتل أهل البطحاء ؛ فأمسكوا عنه وإلاّ ملنا معه. فخاف القوم أن يفعل فكفّوا.
فلمّا بلغت أبا طالب مقالته طمع في نصرته فقال يستعطفه ويرقّقه :
عجبت لحلمٍ يا
بن شيبةَ حادثٍ
|
|
وأحلامُ أقوامٍ
لديك ضعافٌ
|
__________________
إلى آخر أبيات
ذكرها ابن أبي الحديد في شرحه (٣ / ٣٠٧) مع
زيادة خمسة أبيات لم يذكرها السيّد في الحجّة. وذكرها ابن الشجري في حماسته (ص ١٦).
فقال السيّد :
فلمّا أبطأ عنه ما أراد منه قال يستعطفه أيضاً :
وإنَّ امرأً من
قومه أبو معتب
|
|
لفي منعة من أن
يُسام المظالما
|
أقول له وأين
منه نصيحتي
|
|
أبا معتب ثبِّت سوادَك قائما
|
إلى أبيات خمسة.
وقد ذكرها ابن هشام في سيرته (١ / ٣٩٤) مع
زيادة أربعة أبيات ، غير أنّ البيت الأوّل فيه :
وإنَّ امرأً أبو
عُتيبة عمُّه
|
|
لفي روضة ما إن
يُسام المظالما
|
وذكرها ابن أبي الحديد في الشرح (٣ / ٣٠٧) ؛ وابن كثير في تاريخه (٣
/ ٩٣).
٢٢ ـ عن يونس بن
نباتة عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : «يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟» قلت : جعلت
فداك يقولون : هو في ضحضاح من نار يغلي منها أُمّ رأسه فقال : «كذب أعداء الله ،
إنّ أبا طالب من رفقاء النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا».
كنز الفوائد
لشيخنا الكراجكي (ص ٨٠) ، كتاب الحجّة (ص ١٧) ، ضياء العالمين.
٢٣ ـ روى الشريف
الحجّة ابن معد في كتابه الحجّة (ص ٢٢) من طريق
__________________
شيخنا أبي جعفر
الصدوق عن داود الرقّي قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام ولي على رجل دين وقد خفت تواه فشكوت ذلك إليه فقال عليهالسلام : إذا مررت بمكّة فطف عن عبد المطّلب طوافاً وصلّ عنه
ركعتين ، وطف عن أبي طالب طوافاً وصلّ عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافاً وصلّ
عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافاً وصلّ عنها ركعتين ، وعن فاطمة بنت أسد طوافاً
وصلّ عنها ركعتين. ثمّ ادع الله عزّ وجلّ أن يردّ عليك مالك. قال : ففعلت ذلك ثمّ
خرجت من باب الصفا فإذا غريمي واقف يقول : يا داود جئني هناك فاقبض حقّك.
وذكره العلاّمة
المجلسي في البحار (٩ / ٢٤).
٢٤ ـ أخرج ثقة
الإسلام الكليني في الكافي (ص ٢٤٤) ؛
بالإسناد عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : بينا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد الحرام وعليه ثياب له جُدُد فألقى المشركون عليه
سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها فدخله من ذلك ما شاء الله ، فذهب إلى أبي طالب فقال له
: «يا عمّ ، كيف ترى حسبي فيكم؟» فقال له : وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر ،
فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة : خذ السلا ثمّ توجّه إلى القوم والنبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم معه. فأتى قريشاً وهم حول الكعبة. فلمّا رأوه عرفوا الشرّ
في وجهه ثمّ قال لحمزة : أمرّ السلا على أسبلتهم ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم ثمّ التفت أبو طالب إلى النبيّ
فقال : يا بن أخي هذا حسبك فينا.
وذكره جمع من
الأعلام وأئمة الحديث في تآليفهم.
__________________
٢٥ ـ أخرج أبو
الفرج الأصبهاني ؛ بإسناده عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب عليهالسلام وأن يدوّن وقال : تعلّموه وعلّموه أولادكم فإنّه كان على
دين الله وفيه علم كثير».
كتاب الحجّة (ص ٢٥)
، بحار الأنوار (٩ / ٢٤) ، ضياء العالمين للفتوني .
٢٦ ـ روى شيخنا
الصدوق في أماليه (ص ٣٠٤) ،
بالإسناد عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : «أوّل جماعة كانت أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلّي وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب معه ، إذ مرّ
أبو طالب به وجعفر معه قال : يا بنيّ صلْ جناح ابن عمّك ، فلمّا أحسّه رسول الله
تقدّمهما ، وانصرف أبو طالب مسروراً وهو يقول :
إنَّ عليّا
وجعفراً ثقتي
|
|
عند ملمِّ
الزمان والكربِ
|
إلى آخر أبيات
مرّت صحيفة (٣٥٦) وتأتي في (ص ٣٩٧) ، والحديث رواه الشيخ أبو الفتوح في تفسيره (٤ / ٢١١).
٢٧ ـ أخرج ثقة
الإسلام الكليني في الكافي (ص ٢٤٢) ، بإسناده
عن درست ابن أبي منصور ؛ أنّه سأل أبا الحسن الأوّل ـ الإمام الكاظم ـ عليهالسلام : أكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم محجوجاً بأبي طالب؟ فقال : «لا ، ولكنّه كان مستودعاً
للوصايا فدفعها إليه» ، فقال : قلت : فدفع إليه الوصايا على أنّه محجوج به؟ فقال :
«لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصيّة» ، قال : قلت : فما كان حال أبي طالب؟ قال
: «أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه».
__________________
قال
الأميني : هذه مرتبة فوق
مرتبة الإيمان ، فإنّها مشفوعة بما سبق عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام تثبت لأبي طالب مرتبة الوصاية والحجّية في وقته فضلاً عن بسيط الإيمان ، وقد
بلغ ذلك من الثبوت إلى حدّ ظنّ السائل أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان محجوجاً به قبل بعثته ، فنفى الإمام عليهالسلام ذلك ، وأثبت ما ثبت له من الوصاية وأنّه كان خاضعاً للإبراهيميّة الحنيفيّة ،
ثمّ رضخ للمحمديّة البيضاء ، فسلّم الوصايا للصادع بها ، وقد سبق إيمانه بالولاية
العلويّة الناهض بها ولده البارّ صلوات الله وسلامه عليه.
٢٨ ـ أخرج شيخنا
أبو الفتح الكراجكي (ص ٨٠) ؛ بإسناده
عن أبان بن محمد ، قال : كتبت إلى الإمام الرضا عليّ بن موسى الرضا عليهماالسلام : جعلت فداك. إلى آخر ما مرّ في (ص ٣٨١) .
وذكره السيّد في كتاب الحجّة (ص ١٦) ، والسيّد الشيرازي في
الدرجات الرفيعة ، والعلاّمة المجلسي في بحار الأنوار (ص ٣٣) ، وشيخنا الفتوني في
ضياء العالمين.
٢٩ ـ روى شيخنا
المفسّر الكبير أبو الفتوح في تفسيره (٤ / ٢١١) ؛ عن
الإمام الرضا سلام الله عليه ، وقال : روى عن آبائه بعدّة طرق : أنّ نقش خاتم أبي
طالب عليهالسلام كان : رضيت بالله ربّا ، وبابن أخي محمد نبيّا ، وبابني
عليّ له وصيّاً.
ورواه : السيّد الشيرازي في الدرجات الرفيعة ، والإشكوري في
محبوب القلوب.
__________________
٣٠ ـ أخرج الشيخ
أبو جعفر الصدوق بإسناد له : أنّ عبد العظيم بن عبد الله العلوي الحسني المدفون
بالريّ كان مريضاً فكتب إلى أبي الحسن الرضا عليهالسلام : عرّفني يا ابن رسول الله عن الخبر المرويّ أنّ أبا طالب
في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه. فكتب إليه الرضا عليهالسلام :
«بسم الله الرحمن
الرحيم ، أمّا بعد : فإنّك إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار».
كتاب الحجّة (ص ١٦) ، ضياء
العالمين لأبي الحسن الشريف.
٣١ ـ أخرج شيخنا
الفقيه أبو جعفر الصدوق ، بالإسناد عن الإمام الحسن بن عليّ العسكري ، عن آبائه عليهماالسلام في حديث طويل : «إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّي قد أيّدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سرّا ، وشيعة تنصرك
علانية ؛ فأمّا التي تنصرك سرّا فسيّدهم وأفضلهم عمّك أبو طالب ، وأمّا التي تنصرك
علانية فسيّدهم وأفضلهم ابنه عليّ بن أبي طالب. ثمّ قال : وإنّ أبا طالب كمؤمن آل
فرعون يكتم إيمانه».
كتاب الحجّة (ص ١١٥) : ضياء
العالمين لأبي الحسن الشريف.
٣٢ ـ أخرج شيخنا
الصدوق في أماليه (ص ٣٦٥) من طريق
الأعمش عن عبد الله بن عبّاس عن أبيه قال : قال أبو طالب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يا ابن أخي الله أرسلك؟ قال : «نعم». قال : فأرني آية. قال
: ادع لي تلك الشجرة. فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين يديه ثمّ انصرفت ، فقال أبو طالب
: أشهد أنّك صادق ، يا عليّ صل جناح ابن عمّك.
__________________
ورواه أبو علي
الفتّال في روضة الواعظين (ص ١٢١) ، ورواه
السيّد ابن معد في الحجّة (ص ٢٥) ولفظه :
قال أبو طالب للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بمحضر من قريش ليريهم فضله : يا ابن أخي الله أرسلك؟ قال :
نعم. قال : إنّ للأنبياء معجزاً وخرق عادة فأرنا آية قال : «ادع تلك الشجرة وقل
لها : يقول لك محمد بن عبد الله : أقبلي بإذن الله». فدعاها فأقبلت حتى سجدت بين
يديه ثمّ أمرها بالانصراف فانصرفت ، فقال أبو طالب : أشهد أنّك صادق. ثمّ قال
لابنه عليّ عليهالسلام : يا بنيَّ الزم ابن عمّك.
وذكره غير واحد من
أعلام الطائفة.
٣٣ ـ أخرج أبو
جعفر الصدوق قدّس الله سرّه في الأمالي (ص ٣٦٦) بإسناده
عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عبّاس أنّه سأله رجل فقال له : يا بن عمّ رسول
الله أخبرني عن أبي طالب هل كان مسلماً؟ قال : وكيف لم يكن مسلماً وهو القائل :
وقد علموا أنَّ
ابننا لا مكذّب
|
|
لدينا ولا يعبا
بقيل الأباطلِ
|
إنّ أبا طالب كان
مثله كمثل أصحاب الكهف حين أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرّتين.
ورواه السيّد ابن
معد في الحجّة (ص ٩٤ ، ١١٥) ،
وذكره غير واحد من أئمّة الحديث.
٣٤ ـ أخرج شيخنا
أبو علي الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين
__________________
(ص ١٢٣) عن ابن
عبّاس قال : مرّ أبو طالب ومعه جعفر ابنه برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو في المسجد الحرام يصلّي صلاة الظهر وعليّ عليهالسلام عن يمينه ، فقال أبو طالب لجعفر : صِل جناح ابن عمّك ، فتقدّم جعفر وتأخّر
عليّ واصطفّا خلف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى قضى الصلاة ، وفي ذلك يقول أبو طالب :
إنَّ عليّا
وجعفراً ثقتي
|
|
عند ملمِّ
الزمان والنُّوَبِ
|
أجعلهما عرضة
العداء إذا
|
|
أُترك ميتاً
وأنتمي إلى حسبي
|
لا تخذلا وانصرا
ابن عمّكما
|
|
أخي لأُمِّي من
بينهم وأبي
|
والله لا أخذل
النبيَّ ولا
|
|
يخذله من بنيَّ
ذو حسبِ
|
وأخرج سيّدنا ابن
معد في كتاب الحجّة (ص ٥٩) ، بإسناده
عن عمران بن الحصين الخزاعي قال : كان والله إسلام جعفر بأمر أبيه ، ولذلك : مرّ
أبو طالب ومعه ابنه جعفر برسول الله وهو يصلّي وعليّ عليهالسلام عن يمينه ، فقال أبو طالب لجعفر : صل جناح ابن عمّك فجاء
جعفر فصلّى مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا قضى صلاته قال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا جعفر وصلت جناح ابن عمّك ، إنّ الله يعوّضك من ذلك
جناحين تطير بهمافي الجنّة». فأنشأ أبو طالب رضوان الله عليه يقول :
إنَّ عليّا
وجعفراً ثقتي
|
|
عند ملمِّ
الزمان والنوبِ
|
لا تخذلا وانصرا
ابنَ عمّكما
|
|
أخي لأمّي من
بينهم وأبي
|
إنَّ أبا معتب
قد أسلمنا
|
|
ليس أبو معتب بذي
حدبِ
|
والله لا أخذل
النبيَّ ولا
|
|
يخذله من بَنيَّ
ذو حسبِ
|
__________________
حتى ترون الرؤوس
طائحةً
|
|
منّا ومنكم هناك
بالقضبِ
|
نحن وهذا
النبيُّ أُسرته
|
|
نضرب عنه
الأعداءَ كالشهبِ
|
إن نلتموه بكلِّ
جمعكمُ
|
|
فنحن في الناس
ألأم العربِ
|
ورواه شيخنا أبو
الفتح الكراجكي بطريق آخر عن أبي ضوء بن صلصال قال : كنت أنصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أبي طالب قبل إسلامي ، فإنّي يوماً لجالس بالقرب من
منزل أبي طالب في شدّة القيظ إذ خرج أبو طالب إليّ شبيهاً بالملهوف ، فقال لي : يا
أبا الغضنفر هل رأيت هذين الغلامين؟ يعني النبيّ وعليّا عليهماالسلام فقلت : ما رأيتهما مُذ جلست ، فقال : قم بنا في الطلب لهما فلست آمن قريشاً
أن تكون اغتالتهما ، قال : فمضينا حتى خرجنا من أبيات مكّة ثمّ صرنا إلى جبل من
جبالها فاسترقيناه إلى قلّته ، فإذا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ عن يمينه وهما قائمان بإزاء عين الشمس يركعان
ويسجدان ، فقال أبو طالب لجعفر ابنه وكان معنا : صل جناح ابن عمّك. فقام إلى جنب
عليّ فأحسّ بهما النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فتقدّمهما وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا ممّا كانوا فيه ،
ثمّ أقبلوا نحونا فرأيت السرور يتردّد في وجه أبي طالب ثمّ انبعث يقول الأبيات.
٣٥ ـ عن عكرمة عن
ابن عبّاس قال : أخبرني أبي أنّ أبا طالب رضى الله عنه شهد عند الموت أن لا إله
إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله. ضياء العالمين.
٣٦ ـ في تفسير
وكيع من طريق أبي ذرّ الغفاري ؛ أنّه قال : والله الذي لا إله إلاّ هو ما مات أبو
طالب رضى الله عنه حتى أسلم بلسان الحبشة ، قال لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أتفقه الحبشة؟ قال : يا عمّ إنّ الله علّمني جميع
الكلام. قال : يا محمد اسدن لمصاقا قاطا لاها يعني أشهد مخلصاً لا إله إلاّ الله ،
فبكى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : إنّ الله أقرّ
__________________
عيني بأبي طالب.
ضياء العالمين لشيخنا أبي الحسن الشريف.
أحبّ سيّد الأبطح
الشهادة بلغة الحبشة في موقفه هذا بعد ما أكثرها بلغة الضاد وبغيرها ، كما فصّل
القول فيها شيخنا الحجّة أبو الحسن الشريف الفتوني المتوفّى (١١٣٨) في كتابه
القيّم الضخم ضياء العالمين ، وهو أثمن كتاب ألّف في الإمامة.
٣٧ ـ روى شيخنا
أبو الحسن قطب الدين الراوندي في كتابه الخرائج والجرائح عن فاطمة بنت أسد أنّها قالت : لمّا توفّي عبد المطّلب أخذ
أبو طالب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عنده لوصيّة أبيه به ، وكنت أخدمه ، وكان في بستان دارنا
نخلات ، وكان أوّل إدراك الرطب ، وكنت كلّ يوم ألتقط له حفنة من الرطب فما فوقها
وكذلك جاريتي ، فاتّفق يوماً أن نسيت أن التقط له شيئاً ونسيت جاريتي أيضاً ، وكان
محمد نائماً ودخل الصبيان وأخذوا كلّ ما سقط من الرطب وانصرفوا ، فنمت ووضعت الكمّ
على وجهي حياءً من محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا انتبه ، فانتبه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ودخل البستان فلم ير رطبةً على وجه الأرض فأشار إلى نخلة
وقال : أيّتها الشجرة أنا جائع. فرأيت النخلة قد وضعت أغصانها التي عليها الرطب
حتى أكل منها ما أراد ثمّ ارتفعت إلى موضعها ، فتعجّبت من ذلك وكان أبو طالب رضى
الله عنه غائباً ، فلمّا أتى وقرع الباب عدوت إليه حافية وفتحت الباب وحكيت له ما
رأيت فقال هو : إنّما يكون نبيّا وأنت تلدين له وزيراً بعد يأس. فولدت عليّا عليهالسلام كما قال.
٣٨ ـ روى شيخنا
الفقيه الأكبر ابن بابويه الصدوق في أماليه (ص ١٥٨) ،
بالإسناد عن أبي طالب سلام الله عليه قال : قال عبد المطّلب : بينا أنا نائمّ في
الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني فأتيت كاهنة قريش وعليّ مطرف خزّ وجمّتي تضرب منكبي ،
فلمّا نظرت إليّ عرفت في وجهي التغيّر ، فاستوت وأنا يومئذ سيّد قومي ، فقالت : ما
شأن
__________________
سيّد العرب متغيّر
اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر ريب؟ فقلت لها : بلى إنّي رأيت الليلة وأنا نائم في
الحجر كأنّ شجرة قد نبتت على ظهري قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها الشرق
والغرب ، ورأيت نوراً يظهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفاً ، ورأيت العرب
والعجم ساجدة لها ، وهي كلّ يوم تزداد عظماً ونوراً ، ورأيت رهطاً من قريش يريدون
قطعها فإذا دنوا منها أخذهم شابّ من أحسن الناس وجهاً وأنظفهم ثياباً فيأخذهم
ويكسر ظهورهم ويقلع أعينهم ، فرفعت يدي لأتناول غصناً من أغصانها فصاح بي الشابّ
وقال : مهلاً ليس لك منها نصيب ، فقلت : لمن النصيب والشجرة منِّي؟ فقال : النصيب
لهؤلاء الذين قد تعلّقوا بها وسيعود إليها ، فانتبهت مذعوراً فزعاً متغيّر اللون ،
فرأيت لون الكاهنة قد تغيّر ثمّ قالت : لئن صدقت ليخرجنّ من صُلبك ولد يملك الشرق
والغرب وينبّأ في الناس. فتسرّى عنّي غمّي ، فانظر أبا طالب لعلّك تكون أنت ، وكان
أبو طالب يحدّث بهذا الحديث والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد خرج ويقول : كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين.
٣٩ ـ قال السيّد
الحجّة في كتابه الحجّة (ص ٦٨) : ذكر
الشريف النسّابة العلوي العمري المعروف بالموضّح ، بإسناده : أنّ أبا طالب لمّا
مات لم تكن نزلت الصلاة على الموتى ، فما صلّى النبيّ عليه ولا على خديجة ، وإنّما
اجتازت جنازة أبي طالب والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ وجعفر وحمزة جلوس ، فقاموا وشيّعوا جنازته واستغفروا
له فقال قوم : نحن نستغفر لموتانا وأقاربنا المشركين أيضاً ظنّا منهم أنّ أبا طالب
مات مشركاً لأنّه كان يكتم إيمانه ، فنفى الله عن أبي طالب الشرك ونزّه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم والثلاثة المذكورين عليهمالسلام عن الخطأ في قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى) ، فمن قال بكفر أبي طالب فقد حكم على النبيّ
__________________
بالخطإ والله
تعالى قد نزّهه عنه في أقواله وأفعاله. إلى آخره.
وأخرج أبو الفرج
الأصبهاني ؛ بالإسناد عن محمد بن حميد قال : حدّثني أبي قال : سئل أبو الجهم بن
حذيفة : أصلّى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على أبي طالب؟ فقال : وأين الصلاة يومئذ؟ إنّما فرضت
الصلاة بعد موته ، ولقد حزن عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمر عليّا بالقيام بأمره وحضر جنازته ، وشهد له العبّاس
وأبو بكر بالإيمان وأشهد على صدقهما لأنّه كان يكتم إيمانه ولو عاش إلى ظهور
الإسلام لأظهر إيمانه.
٤٠ ـ عن مقاتل :
لمّا رأت قريش يعلو أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قالوا : لا نرى محمداً يزداد إلاّ كبراً وإن هو إلاّ ساحر
أو مجنون ، فتعاقدوا لئن مات أبو طالب رضى الله عنه ليجمعنّ القبائل كلّها على
قتله ، فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش فوصّاهم بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : ابن أخي كلّ ما يقول أخبرنا بذلك آباؤنا وعلماؤنا ،
وإنّ محمداً نبيّ صادق ، وأمين ناطق ، وإنّ شأنه أعظم شأن ، ومكانه من ربّه أعلى
مكان ، فأجيبوا دعوته واجتمعوا على نصرته ، وراموا عدوّه من وراء حوضته ، فإنّه
الشرف الباقي لكم طول الدهر ، ثمّ أنشأ يقول :
أُوصي بنصرِ
النبيِّ الخيرِ مشهدهُ
|
|
عليّا ابني
وعمَّ الخير عبّاسا
|
وحمزةَ الأسدَ
المخشيَّ صولتهُ
|
|
وجعفراً أن
يذودا دونه الناسا
|
وهاشماً كلّها
أُوصي بنصرته
|
|
أن يأخذوا دون
حربِ القومِ أمراسا
|
كونوا فداءً لكم
أُمّي وما ولدت
|
|
من دون أحمدَ
عند الروعِ أتراسا
|
بكلِّ أبيضَ
مصقولٍ عوارضُه
|
|
تخالهُ في سوادِ
الليل مقباسا
|
قال
الأميني : هذه جملة ممّا
أوقفنا السير عليه من أحاديث رواة الحقّ والحقيقة وصفحنا عمّا يربو على الأربعين
روماً للاختصار ، فأنت إذا أضفت إليها ما أسلفناه ممّا
__________________
يروى عن آل أبي
طالب وذويه ، وأشفعتها بما مرّ من أحاديث مواقف سيّد الأباطح ، وجمعتها مع ما جاء
من الشهادات الصريحة في شعره تربو الأدلّة على إيمانه الخالص وإسلامه القويم على
مائة دليل ، فهل من مساغٍ لذي مسكة أن يصفح عن هذه كلّها؟ وكلّ واحد منها يحقّ أن
يستند إليه في إسلام أيّ أحد ، نعم ، إنّ في أبي طالب سرّا لا يثبت إيمانه بألف
دليل ، وإيمان غيره يثبت بقيل مجهول ودعوى مجرّدة! إقرأ واحكم.
وقد فصّل القول في
هذه الأدلة جمع من أعلام الطائفة ؛ كشيخنا العلاّمة الحجّة المجلسي في بحار
الأنوار (٩ / ١٤ ـ ٣٣) ،
وشيخنا العلم القدوة أبي الحسن الشريف الفتوني في الجزء الثاني من كتابه القيّم
الضخم ضياء العالمين ـ والكتاب موجود عندنا ـ وهو أحسن ما كتب في الموضوع ، كما
أنّ ما ألّفه السيد البرزنجي ولخّصه السيد أحمد زيني دحلان أحسن ما ألّف في
الموضوع بقلم أعلام أهل السنّة ، وأفرد ذلك بالتأليف آخرون منهم :
١ ـ سعد بن عبد
الله أبو القاسم الأشعري القمّي : المتوفى (٢٩٩ ، ٣٠١) ، له كتاب فضل أبي طالب
وعبد المطّلب وعبد الله أبي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. رجال النجاشي (ص ١٢٦).
٢ ـ أبو عليّ
الكوفي أحمد بن محمد بن عمار : المتوفّى (٣٤٦) ، له كتاب إيمان أبي طالب كما في
فهرست الشيخ (ص ٢٩) ، ورجال النجاشي (ص ٧٠).
٣ ـ أبو محمد سهل
بن أحمد بن عبد الله الديباجي ، سمع منه التلعكبري سنة (٣٧٠) له كتاب إيمان أبي
طالب ، ذكره النجاشي في فهرسته (ص ١٣٣).
__________________
٤ ـ أبو نعيم عليّ
بن حمزة البصري التميمي اللغوي : المتوفّى (٣٧٥) ، له كتاب إيمان أبي طالب ، توجد
نسخته عند شيخنا الحجّة ميرزا محمد الطهراني في سامرّاء المشرّفة ، نقل عنه بعض فصوله الحافظ ابن حجر
في الإصابة في ترجمة أبي طالب واتّهم مؤلّفه بالرفض.
٥ ـ أبو سعيد محمد
بن أحمد بن الحسين الخزاعي النيسابوري جدّ المفسّر الكبير الشيخ أبي الفتوح
الخزاعي لأمّه ، له كتاب منى الطالب في إيمان أبي طالب. رواه الشيخ منتجب الدين
كما في فهرسته (ص ١٠) عن سبطه
الشيخ أبي الفتوح عن أبيه عنه.
٦ ـ أبو الحسن
عليّ بن بلال بن أبي معاوية المهلّبي الأزدي ، له كتاب البيان عن خيرة الرحمن في
إيمان أبي طالب وآباء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ذكره له الشيخ في فهرسته (ص ٩٦) والنجاشي (ص ١٨٨).
٧ ـ أحمد بن
القاسم ، له كتاب إيمان أبي طالب ، رآه النجاشي كما في فهرسته (ص ٦٩) بخطّ
الحسين بن عبيد الله الغضائري.
٨ ـ أبو الحسين
أحمد بن محمد بن أحمد بن طرخان الكندي الجرجاني صديق النجاشي : المتوفّى (٤٥٠) ،
ذكر له النجاشي في فهرسته (ص ٦٣) كتاب إيمان
أبي طالب.
__________________
٩ ـ شيخنا الأكبر
أبو عبد الله المفيد محمد بن محمد بن النعمان : المتوفّى (٤١٣) له كتاب إيمان أبي
طالب ، كما في فهرست النجاشي (ص ٢٨٤).
١٠ ـ أبو عليّ شمس
الدين السيّد فخار بن معد الموسوي : المتوفّى (٦٣٠) ، له كتاب الحجّة على الذاهب
إلى تكفير أبي طالب ، قرّظه العلاّمة السيّد محمد صادق بحر العلوم بقوله :
بشراك فخار بما
أولا
|
|
ك الخالق في يوم
المحشرْ
|
نزَّهت بحجّتك
الغرّا
|
|
شيخَ البطحاء
أبا حيدرْ
|
عمّا نسبوه
إليهِ من ال
|
|
كفرِ المردودِ
دعاةُ الشرْ
|
أنّى وبه قامَ
الإسلا
|
|
مُ فنال بعلياه
المفخرْ
|
قسماً بولاءِ
أبي حسنٍ
|
|
لولاه الدينُ
لما أزهرْ
|
فعليه من الله
الرضوا
|
|
نُ وللأعدا نارٌ
تسعرْ
|
١١ ـ سيّدنا الحجّة أبو الفضائل أحمد
بن طاووس الحسني : المتوفّى (٦٧٣) ، له كتاب إيمان أبي طالب ، ذكره في كتابه بناء
المقالة العلويّة لنقض الرسالة العثمانيّة ، وهو كتاب في الإمامة ألّفه في الردّ
على رسالة أبي عثمان الجاحظ.
١٢ ـ السيد الحسين
الطباطبائي اليزدي الحائري الشهير بالواعظ : المتوفّى (١٣٠٦) ، له كتاب منية
الطالب في إيمان أبي طالب ، فارسي مطبوع.
١٣ ـ المفتي
الشريف السيّد محمد عباس التستري الهندي : المتوفّى (١٣٠٦) ، له كتاب بغية الطالب
في إيمان أبي طالب ، أحد شعراء الغدير ، تأتي ترجمته في القرن الرابع عشر إن شاء
الله تعالى.
١٤ ـ شمس العلماء
ميرزا محمد حسين الكركاني ، له كتاب مقصد الطالب في
__________________
إيمان آباء النبيّ
وعمّه أبي طالب ، فارسي طبع في بمبي سنة (١٣١١).
١٥ ـ الشيخ محمد
علي بن ميرزا جعفر علي الفصيح الهندي نزيل مكة المعظّمة ، له كتاب القول الواجب في
إيمان أبي طالب.
١٦ ـ شيخنا الحجّة
الحاج ميرزا محسن ابن العلاّمة الحجّة ميرزا محمد التبريزي .
١٧ ـ السيد محمد
علي آل شرف الدين العاملي ، له كتاب شيخ الأبطح أو أبو طالب ، طبع في بغداد سنة
(١٣٤٩) في (٩٦) صفحة وقد جمع فيه فأوعى ، ولم يُبقِ في القوس منزعاً.
١٨ ـ الشيخ ميرزا
نجم الدين ابن شيخنا الحجّة ميرزا محمد الطهراني ، له كتاب الشهاب الثاقب لرجم
مكفّر أبي طالب.
١٩ ـ الشيخ جعفر
بن الحاج محمد النقدي المرحوم ، له كتاب مواهب الواهب في فضائل أبي طالب ، طبع في
النجف الأشرف سنة (١٣٤١) في (١٥٤) صفحة ، فيه فوائد جمّة وطرائف ونوادر.
وقد نظم ذلك
كثيرون من أعاظم الشيعة في قريضهم ، وممّا يسعنا إثباته هاهنا قول السيد أبي محمد
عبد الله بن حمزة الحسني الزيدي من قصيدة :
حماه أبونا أبو
طالب
|
|
وأسلمَ والناسُ
لم تسلم
|
وقد كان يكتمُ
إيمانه
|
|
وأمّا الولاء
فلم يكتم
|
__________________
وقول الشريف
العلاّمة السيّد علي خان الشيرازي في الدرجات الرفيعة :
أبو طالب عمُّ
النبيّ محمدٍ
|
|
به قامَ أزرُ
الدينِ واشتدَّ كاهله
|
ويكفيه فخراً في
المفاخرِ أنّه
|
|
موازرُه دون
الأنامِ وكافلُه
|
لئن جهلت قومٌ
عظيمَ مقامِهِ
|
|
فما ضرَّ ضوءَ
الصبح من هو جاهله
|
ولولاه ما قامت
لأحمدَ دعوةٌ
|
|
ولا انجاب ليلُ
الغيِّ وانزاح باطله
|
أقرَّ بدين الله
سرّا لحكمةٍ
|
|
فقال عدوُّ
الحقِّ ما هو قائله
|
وما ذا عليه وهو
في الدين هضبةٌ
|
|
إذا عصفت من ذي
العناد أباطله
|
وكيف يحلُّ
الذمُّ ساحةَ ماجدٍ
|
|
أواخره محمودةٌ
وأوائله
|
عليه سلامُ
اللهِ ما ذرَّ شارقٌ
|
|
وما تليت أحسابه
وفضائله
|
ومن قصيدة للشريف
الأجلِّ سيّدنا آية الله السيّد ميرزا عبد الهادي الشيرازي :
ولي ندحةٌ في
مدحة الندبِ والدِ ال
|
|
أئمّةِ أعدالِ
الكتابِ أولي الأمرِ
|
هو العلم الهادي
أزينُ بمدحِهِ
|
|
شعوري ويزهو في
مآثرِه شعري
|
أبو طالبِ حامي
الحقيقةِ سيّدٌ
|
|
تُزانُ به
البطحاءُ في البرِّ والبحرِ
|
أبو طالبٍ
والخيلُ والليلُ واللوا
|
|
له شهدت في
ملتقى الحربِ بالنصرِ
|
أبو الأوصياءِ
الغرّ عمُّ محمدِ
|
|
تضوع به
الأحسابُ عن طيِّب النجرِ
|
لقد عرفتْ منه
الخطوبُ محنَّكاً
|
|
تدرّعَ يوم
الزحفِ بالباس والحجرِ
|
كما عرفت منه
الجدوبُ أخا ندىً
|
|
دُوين سداه
الغمرِ ملتطمُ البحرِ
|
__________________
فذا واحدُ
الدنيا وثانٍ له الحيا
|
|
وقل في سناه
ثالث الشمس والبدرِ
|
وأنّى يحيط
الوصفُ غُرَّ خصالِهِ
|
|
وقد عجزت عن
سردِها صاغة الشعرِ
|
حمى المصطفى في
باس ندب مدجّجٍ
|
|
تذلُّ له
الأبطالُ في موقف الكرِّ
|
فلولاه لم تنجح
لطه دعايةٌ
|
|
ولا كان
للإسلامِ مستوسقُ الأمرِ
|
وآمن باللهِ
المهيمنِ والورى
|
|
لهم وثباتٌ من
يعوقَ إلى نسرِ
|
وجابه أسرابَ
الضلالِ مصدِّقاً
|
|
نبيُّ الهدى إذ
جاء يصدع بالأمرِ
|
كفى مفخراً شيخَ
الأباطح أنّه
|
|
أبو حيدرِ
المندوبِ في شدّة الضرِّ
|
وصلّى عليه
اللهُ ما هبّتِ الصبا
|
|
بريّا ثنا شيخِ
الأباطحِ في الدهرِ
|
وقال العلاّمة
الحجّة شيخنا الأوردبادي :
بشيخِ الأبطحين
فشا الصلاحُ
|
|
وفي أنوارِه
زهتِ البطاحُ
|
براهُ اللهُ
للتوحيدِ عضباً
|
|
يلينُ به من
الشركِ الجماحُ
|
وعمّ المصطفى
لولاه أضحى
|
|
حمى الإسلام
نهباً يستباحُ
|
نضا للدين منه
صفيحَ عزمٍ
|
|
عنت لمضائِهِ
القضُبُ الصفاحُ
|
وأشرع للهدى
بأساً مريعاً
|
|
تحطَّم دونه
السمرُ الرماحُ
|
وأصحرَ
بالحقيقةِ في قريضٍ
|
|
عليه الحقُّ
يطفحُ والصلاحُ
|
صريخةُ هاشمٍ في
الخطبِ لكن
|
|
تزمّ لنيلِهِ
الإبلُ الطلاحُ
|
أخو الشرفِ
الصراحِ أقام أمراً
|
|
حداه لمثلِهِ
الشرفُ الصراحُ
|
فلا عابٌ يدنِّسه ولكن
|
|
غرائز ما برحن
به سجاحُ
|
فعلمٌ زانه خلقٌ
كريمٌ
|
|
ودينٌ فيه
مشفوعٌ سماحُ
|
ومنه الغيث إمّا
عمَّ جدب
|
|
وفيه الغوث إن
عنّ الصياحُ
|
__________________
مناقبُ أعيتِ
البلغاءَ مدحاً
|
|
وتنفدُ دونها
الكَلِمُ الفِصاحُ
|
وصفو القولِ
أنَّ أبا عليٍ
|
|
له الدينُ
الأصيلُ ولا براحُ
|
ولكن لابنه
نصبوا عداءً
|
|
وما عن حيدرٍ
فضلٌ يزاحُ
|
فنالوا من أبيه
وما المعالي
|
|
لكلِّ محاولٍ
قصداً تُباحُ
|
وضوءُ البدرِ
أبلجُ لا يوارى
|
|
وإن يكُ حولَه
كَثُر النباحُ
|
وهبني قلت إنَّ
الصبح ليلٌ
|
|
فهل يخفى لذي
العينِ الصباحُ
|
فدع بمتاهةِ
التضليلِ قوماً
|
|
بمرتبكِ الهوى
لهمُ التياحُ
|
فذا شيخُ
الأباطحِ في هداه
|
|
تصافقه الإمامةُ
والنجاحُ
|
أبو الصِّيدِ
الأكارمِ من لؤيٍ
|
|
مقاديمٌ جحاجحةٌ
وِضاحُ
|
لهم كأبيهمُ إن
جال سهمٌ
|
|
لأهلِ الفضلِ
فائزةٌ قداحُ
|
وقال العلاّمة
الأوحد الشيخ محمد تقي صادق العاملي من قصيدة يمدح بها أهل البيت عليهمالسلام :
بسيف عليٍّ قد
أُشيدت صروحُه
|
|
كما بأبيهِ قامَ
قدماً بناؤه
|
أبو طالبٍ أصلُ
المعالي ورمزُها
|
|
ومبدأ عنوانِ
الهدى وانتهاؤه
|
توحَّد في جمعِ
الفضائلِ والنهى
|
|
وضمَّ جميع
المكرماتِ رداؤه
|
وتنحطُّ عنه
رفعةً هامة السُّها
|
|
ويأرج في عَرفِ
الخزامى ثناؤه
|
حمى الخائفِ
اللاجي ومربعُ أمنِهِ
|
|
وكعبةُ قصدِ
المرتجي وغَناؤه
|
تحلّق في جمعِ
المكارمِ نفسه
|
|
ويسمو به
للنيِّرين إباؤه
|
أصاخ إلى الدين
الحنيف ملبِّياً
|
|
لدعوته لمّا
أتاه نداؤه
|
وباع بإعزاز
الشريعةِ نفسَه
|
|
فبورك قدراً
بيعُه وشراؤه
|
__________________
وقال العلاّمة
الشريف المبجّل السيد علي النقي اللكهنوي :
زهت أُمُّ القرى
بأبي الوصيِ
|
|
غداةَ غدا يذود
عن النبيِ
|
وقام بنصرةِ
الإسلامِ فرداً
|
|
يراغم كلَّ
مختالٍ غويِ
|
يذبُّ عن الهدى
كيدَ الأعادي
|
|
بأمضى من ذبابِ
المشرفيِ
|
وأبصر رشده من
دين طه
|
|
فجاهر فيه
بالسرِّ الخفيِ
|
وآمن بالإلهِ
الحقِّ صدقاً
|
|
بقلبِ موحِّدٍ
بَرٍّ تقيِ
|
بنى للسؤددِ العربيِّ
صرحاً
|
|
محاطاً بالفخارِ
الهاشميِ
|
تلقّى الرشدَ عن
آباءِ صدقٍ
|
|
توارثُه صفيّا
عن صفيِ
|
كأنَّ الأمّهاتِ
لهم أبت أن
|
|
تلدن سوى نبيّ
أو وصيِ
|
فكان على الهدى
كأبيه قِدماً
|
|
ولم يبرحْ على
النهجِ السويِ
|
وكان به رواءُ
الشرعِ بدءاً
|
|
وتمَّ بنجله
الزاكي عليِ
|
وقال العلاّمة
الفاضل الشيخ محمد السماوي من قصيدة نشرت في آخر كتاب الحجّة (ص ١٣٥) مطلعها :
فؤاديَ بالغادةِ
الكاعبِ
|
|
غدا كُرةً في
يدي لاعبِ
|
كأنّي بدائرةٍ
من هوى
|
|
فمن طالعٍ لي
ومن غاربِ
|
بليتُ بمن ضربتْ
خدرَها
|
|
بمنقطعِ النظر
الصائبِ
|
بحيث الصفاحُ
وحيث الرما
|
|
حُ فمن مشرفيٍّ
إلى راغبي
|
لها منعةٌ في
ذرى قومها
|
|
كأنَّ أباها أبو
طالبِ
|
فخارُ الأبيِّ
وعمُّ النبيِ
|
|
وشيخُ الأباطحِ
من غالبِ
|
__________________
أمنعُ لا يرتقي
أجدلٌ
|
|
إلى ذروةٍ منه
أو غاربِ
|
إذا الرافع
الطرف يرنو له
|
|
يعودُ بتنحيةِ
الناصبِ
|
تهلّل طلعتُه للعيو
|
|
نِ كما جرّد
الغمدُ عن قاضبِ
|
أقام عمادَ
العلى سامكاً
|
|
بأربعةٍ كالسنا
الثاقبِ
|
بمثل عليٍّ إلى
جعفرٍ
|
|
ومثلِ عقيلٍ إلى
طالبِ
|
أولئك لا زمعاتُ
الرجا
|
|
لِ من قالصِ
الذيلِ أو ساحبِ
|
ومن ذا كعبد
منافٍ يطو
|
|
ل على راجلٍ ثمّ
أو راكبِ
|
حمى الدين في
سيفِهِ فانبرى
|
|
بمكّة ممتنعَ
الجانبِ
|
وآمن باللهِ في
سرِّه
|
|
لأمرٍ جليٍّ على
الطالبِ
|
وصدَّق أحمدَ في
وحيه
|
|
وقام بما كان من
واجبِ
|
فكم بين مخفٍ
لتصديقه
|
|
وآخر مبدٍ له
كاذبِ
|
لَنعم ملاذُ
الهدى والتقى
|
|
ومنتجعُ الوافدِ
الراغبِ
|
ومعتصمُ الدينِ
في مكّة
|
|
إذ الدينُ
منفردُ الصاحبِ
|
ومانح حوزةِ
أهلِ الهدى
|
|
مدى العمرِ من
وثبةِ الواثبِ
|
فلولاه ما طفقَ
المصطفى
|
|
ينادي على
المنهجِ اللاحبِ
|
ولم يعب الشرك
مستظهراً
|
|
بيومٍ يضيق على
العائبِ
|
وللبحّاثة الفاضل
صاحب التآليف القيّمة الشيخ جعفر ابن الحاج محمد النقدي من قصيدة ذكرها في كتابه مواهب الواهب في فضائل أبي طالب . المطبوع في النجف الأشرف في (١٥٤) صفحة مطلعها :
__________________
برقُ ابتسامِك
قد أضاء الوادي
|
|
وحيا خدودِك فيه
ريُّ الصادي
|
قوله :
مهما تراكمتِ
الخطوب فإنّها
|
|
تجلى متى بأبي
الوصيّ أنادي
|
عبد المناف
الطُهر عمُّ محمدٍ
|
|
الطاهرُ الآباءِ
والأجدادِ
|
غيثُ المكارمِ
ليثُ كلّ ملمّةٍ
|
|
غوثُ المنادي
بدرُ أفق النادِ
|
شيخُ الأباطحِ
من بصارِم عزمِهِ
|
|
بلغَ الأنامُ
لخطّةِ الإرشادِ
|
دانت لديه
المكرماتُ رقابُها
|
|
وإليه ألقى
الدهرُ فضلَ قِيادِ
|
جدُّ الأئمّةِ
شيخُ أُمّةِ أحمدٍ
|
|
ربعُ الأماني
مربعُ الوفّادِ
|
سيفٌ له المجدُ
الأثيلُ حمائلٌ
|
|
وله الفخارُ غدا
حليَّ نجادِ
|
داعي الورى
للرشد في عصرٍ به
|
|
لا يعرفون الناس
نهجَ رشادِ
|
وله قريشٌ كم
رأت من معجزٍ
|
|
عرفوه فيه واحد
الآحادِ
|
كرضاعِهِ خيرَ
البريّة أحمداً
|
|
وقبول دعوته
لسقي الوادي
|
وبشارة الأسدِ
الهصورِ بنجلِه
|
|
وشفائِه بدعا
النبيّ الهادي
|
وكلامه بالوحي
قبل صدورِه
|
|
وله انفجارُ
الأرض إذ هو صادي
|
وبيومِ مولدِ
أحمدٍ إخبارُه
|
|
عن حيدرِ
الكرّارِ بالميلادِ
|
وله على الإسلام
من سننٍ غدت
|
|
للمسلمين قلائدَ
الأجيادِ
|
كفلَ النبيّ
المصطفى خيرَ الورى
|
|
ورعى الحقوقَ له
بصدقِ ودادِ
|
ربّاه طفلاً
واقتفاهُ يافعاً
|
|
وحماه كهلاً من
أذى الأضدادِ
|
__________________
ولأجله عادى قريشاً بعد ما
|
|
سلكوا سبيل الغيّ والإفسادِ
|
ورآهمُ متعاضدين
ليقتلوا
|
|
خيرَ البريّةِ
سيّدَ الأمجادِ
|
فسطا بعزمٍ ناله
من معشرٍ
|
|
شمِّ الأُنوفِ
مصالتٍ أنجادِ
|
وانصاع يفدي
أحمداً في نفسِهِ
|
|
والجاهِ
والأموالِ والأولادِ
|
وأقامَ ينصرُه
إلى أن أصبحتْ
|
|
تزهو شريعتُه
بكلّ بلادِ
|
أفديه من صادٍ
لواءً للهدى
|
|
يحمي لأفصح ناطق
بالضادِ
|
قد كان يعلم
أنَّه المختار من
|
|
ربِّ السماء
عميد كلِّ عمادِ
|
ولقد روى عن
أنبياء جدودِه
|
|
فيه حديثاً واضح
الإسنادِ
|
وعلا به عيناً
على كلّ الورى
|
|
إذ قال فيه
بمطرب الإنشادِ
|
إنَّ ابن آمنة
النبيّ محمداً
|
|
عندي يفوق منازل
الأولادِ
|
راعيت فيه
قرابةً موصولةً
|
|
وحفظتُ فيه
وصيّةَ الأجداد
|
يا والد
الكرّارِ والطيّارِ وال
|
|
أطهارِ أبناءِ
النبيّ الهادي
|
كم معجزٍ أبصرته
من أحمدٍ
|
|
باهلت فيه معاشر
الحسّادِ
|
من لصق أحجارٍ
ومزق صحيفةٍ
|
|
ونزول أمطارٍ
ونطق جمادِ
|
لا فخر إلاّ
فخرُك السامي الذيّ
|
|
فقئت به أبصارُ
أهل عنادِ
|
إنَّ المكارم لو
رأت أجسادَها
|
|
عين رأتك الروح
للأجسادِ
|
شكر الإلهُ
فعالَكَ الغرَّ التي
|
|
فرحت بها أملاكُ
سبعِ شدادِ
|
لله همّتُك التي
خضعت لها
|
|
من خوفِ بأسِك
شامخ الأطوادِ
|
لله هيبتك التي
رجفت بها
|
|
أعداء مجدك عصبة
الإلحادِ
|
لله كفّك كم بها
من معدمٍ
|
|
أحييت في
الإصدارِ والإيرادِ
|
إلى آخره.
__________________
وله قصيدة (٤٣)
بيتاً يمدح بها شيخ الأباطح أبا طالب سلام الله عليه توجد في الواهب (ص ١٥١) مستهلها :
بالله يا قاصد
الأطلال في العَلَم
|
|
سلمتَ سلّمْ على
سلمى بذى سَلَمِ
|
هاهنا نجعجع بالقلم عن الافاضة في القول لأنّ نطاق الجزء
ضاق عن التبسّط فنرجئ تكملة البحث إلى اوليات
الجزء الثامن إن شاء الله تعالى
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
__________________
محتويات الكتاب
شعراء الغدير في القرن التاسع
٧
ـ ٨٩
ابن العرندس الحلّي................................................... ٣٥
ـ ١١
ما يتبع الشعر............................................................. ١٨
الشاعر.................................................................. ٢٤
ابن داغر الحلّي...................................................... ٣٧
ـ ٤٧
الشاعر.................................................................. ٤١
الحافظ
البرسي الحلّي................................................. ٤٩
ـ ٨٩
الشاعر.................................................................. ٥٠
تأليفه القيّمة.............................................................. ٥٤
شعره الوائق............................................................... ٥٥
المغالاة
في الفضائل.................................................. ٩١
ـ ٦٩
الغلّو
في ابي بكر................................................... ٩٧
ـ ٣١٩
مقاطع من الخطبة
الشقشقية.............................................. ١٠٧
كلمتنا حول هذه الخطبة............................................... ١٠٩
فضائله المأثورة........................................................... ١١٧
ملكاته ونفسيّاته......................................................... ١٢٧
الخليفة في الاسلام....................................................... ١٣٨
الكسلالة............................................................... ١٤٠
تقدم الخليفة في
السنّة.................................................... ١٤٥
غاية جهد الباحث من
علم الخليفة بالسّنة.................................. ١٥٥
١ ـ رأي الخليفة في
الجدّه............................................... ١٦٣
رأي الخليفة في
الجدّتين................................................. ١٦٤
رأي الخليفة في قطع
السارق............................................ ١٧٧
رأي الخليفة في الجدّ................................................... ١٧٧
٥ ـ رأي الخليفة في
تولية المفضول.......................................... ١٧٩
الخلاقة عند القوم..................................................... ١٨٥
كلمة الباقّلاني........................................................ ١٨٥
كلمة التفتازاني....................................................... ١٨٩
كلمة القاضي الايجي.................................................. ١٩٠
كلمة الب الثناء...................................................... ١٩١
ما تتعقد به الامامة...................................................... ١٩٢
كلمة الماوردي........................................................ ١٩٣
كلمة الجويني......................................................... ١٩٤
كلمة القرطبي........................................................ ١٩٤
رأي الخليفة الثاني في
الخلافة............................................ ١٩٥
نظرة في الخلافة التي
جاء بهاء القوم......................................... ١٩٧
رأي ا لخليفة في القدر................................................. ٢٠٧
ترك الخليفة الضحيّة
مخافة ان تستن...................................... ٢١٠
ردّة بني سليم......................................................... ٢١٠
حرق الخليفة الفجاءة.................................................. ٢١٢
١٠ ـ راي الخليفة قصة
مالك.............................................. ٢١٤
نظرة في القضية....................................................... ٢١٨
الناحية الاولى......................................................... ٢١٨
الناحية الثانية......................................................... ٢٢٤
ثلاثة وثلاثة وثلاثة.................................................... ٢٢٩
الثلاثة الاولى......................................................... ٢٣٠
الثلاثة الوسطى....................................................... ٢٣٥
الثلاثة الاخر......................................................... ٢٣٧
تحفظ على كرامة...................................................... ٢٤٠
سؤال يهودي ابابكر................................................... ٢٤١
وقد النصاري واسئلتهم................................................ ٢٤٢
علم معي الى الغلو....................................................... ٢٤٥
مظاهر علم الخليفة....................................................... ٢٤٩
المظهر الاول......................................................... ٢٤٩
المظهر الثاني.......................................................... ٢٥٠
المظهر الثالث........................................................ ٢٥٢
المظهر الرابع.......................................................... ٢٧٥
لفت نظر............................................................ ٢٦٣
التمسّك بالافائك....................................................... ٢٦٧
شجاعة الخليفة.......................................................... ٢٧٠
حجاج بالعريش......................................................... ٢٧٩
الغريق يتشبث بكلّ
حشيش.............................................. ٢٨٧
ثبات الخليفة على
المبدأ................................................... ٢٩١
تهالك الخليفة في
العبادة.................................................. ٢٩٤
تبرّز الخليفة في
الأخلاق.................................................. ٢٩٩
إعتذار الخليفة الى
الصديقة............................................... ٣٠٦
نظرة في كلمة قارصة..................................................... ٣١٠
أحاديث الغلو أو قصص الخرافة................................... ٣٢٠
ـ ٤٤٤
١ ـ الشمس على العجلة................................................. ٣٢٠
التوسل بلحية أبي بكر................................................. ٣٢٣
شهادة أبي بكر وجبرئيل................................................ ٣٢٩
خاتم النبي وسجلة..................................................... ٣٢٩
٥ ـ غرض جنّة أبي بكر.................................................. ٣٢٤
الله يستحبي من أبي
بكر............................................... ٣٢٤
كرامة دفن أبي بكر................................................... ٣٣٥
جبرئيل يسجد مهابة من
أبي بكر....................................... ٣٣٨
قصة فيها كرامة لأبي
بكر.............................................. ٣٤١
١٠ ـ أبو بكر شيخ يعرف
والنبي شاب لايعرف.............................. ٣٤٦
الانصار في البيعتين................................................... ٣٥٢
نبا الهجرة............................................................ ٣٥٧
أبوبكر أسن من النبي.................................................. ٣٦٢
إسلام أبي بكر قبل
ولادة عليّ.......................................... ٣٦٤
رجال الرواية.......................................................... ٣٧٠
نظرة في حديث كعب................................................. ٣٧٤
أبوبكر أسنّ أصحاب
النبيّ............................................. ٣٧٧
أبوبكر في كفّة
الميزان.................................................. ٣٨٤
رجال الرواية.......................................................... ٣٨٤
١٥ ـ توسّل الشمس بأبي
بكر............................................. ٣٨٧
وهنا أسئلة جمسة..................................................... ٣٨٧
كلبة من الجن مأمورة.................................................. ٣٨٨
هبة أبي بكر لمحبيه..................................................... ٣٩١
أبو بكر في قاب قوسين............................................... ٣٩٤
الدين وسمعه وبصره.................................................... ٣٩٥
٢٠ ـ أبوبكر ومنزلته
عندالله............................................... ٣٩٨
النبي مؤيد بالشيخين.................................................. ٤٠١
الاشباح الخمسة من
ذريّة آدم........................................... ٤٠٣
أبوبكر خير أهل السموات
والأرض..................................... ٤١٠
ثواب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبي بكر............................................ ٤١٢
٢٥ ـ الحبّ والشكر
الواجبان على الأمّة.................................... ٤١٣
أبوبكر في كفّة
الميزان.................................................. ٤١٤
رجال إسناده......................................................... ٤١٤
ما أسلم أبو مهاجر
إلّا أبو أبي بكر..................................... ٤١٧
إسلام والدي أبي بكر................................................. ٤٢١
القسم الأوّل......................................................... ٤٢١
رجال الإسناد........................................................ ٤٢٨
القسم الثاني.......................................................... ٤٣١
إسلام أمّ أبّي بكر..................................................... ٤٣٤
٢٨ ـ أبوبكرو أبواه في
القرآن........................................... ٤٤٠
إيمان أبي طالب وسيرته............................................ ٤٤٤
ـ ٥٥٠
الغاية للقالة............................................................. ٤٤٤
نظمه الدال على إيمانه................................................... ٤٤٦
لفت نظر.............................................................. ٤٥٠
ما ناء به من عمل بازو
قول مشكور....................................... ٤٦١
١ ـ استصحاب أبي طالب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الشام......................... ٤٦١
٢ ـ استسقاء أبي طالب
بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم................................... ٤٦٥
٣ ـ أبو طالب في مولد
أمير المؤمنين عليه السلام.......................... ٤٦٧
٤ ـ بده أمر النبي وأبو
طالب........................................... ٤٦٨
٥ ـ أبو طالب وفقده
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم....................................... ٤٦٩
لفت نظر............................................................ ٤٧٠
لفظ ثابت........................................................... ٤٧١
٦ ـ أبو طالب في بدء
الدعوة........................................... ٤٧٣
٧ ـ قول أبي طالب
لعلّي الزم ابن عمّك.................................. ٤٧٧
٨ ـ قول أبي طالب صل
جناح ابن عمّك................................. ٤٧٩
٩ ـ أبو طالب وحنوه
على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.................................. ٤٨٠
١٠ ـ أبو طالب وابن
الزيعرى........................................... ٤٨٢
١١ ـ سيّدنا أبو طالب
وقريش.......................................... ٤٨٣
١٢ ـ سيّد الاباطح وصحيفة
قريش...................................... ٤٨٧
١٣ ـ وصيّة أبي طالب
عند موته........................................ ٤٩١
١٤ ـ وصيّة أبي طالب
لبني أبيه......................................... ٤٩٣
١٥ ـ حديث عن أبي طالب............................................ ٤٩٤
ما يروى عنه آله وذووه................................................... ٤٩٥
الكلم الطيّب......................................................... ٥٠٨
رثاء أمير المؤمنين
والده العظيم.......................................... ٥٠٩
كلمة الامام السجّاد.................................................. ٥١١
كلمة الإمام الباقر.................................................... ٥١١
كلمة الامام الصادق.................................................. ٥١١
كلمة الامام الرضا.................................................... ٥١٢
قصارى القول في سيد
الابطح عند القوم................................. ٥١٢
ما أسنده اليه من لاث
به ونجع له.......................................... ٥١٦
|