الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه وآله

وعلى رواة سنته وحملة أحاديثه وحفظة كلمه


الحمد للّه الّذي علا بحوله ، ودنى بطوله ، والصلاة والسلام على سيّد رُسله وخاتم أنبيائه ، الذي بعثه لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته ، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه ، وملجأ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، صلاة دائمة مادام الفرقدان ، وكرّ الجديدان.

أمّا بعد : فهذا هو الجزء السادس من موسوعتنا في دراسة تاريخ المذاهب الإسلامية وقد درسنا الفِرَق المشهورة ، ولم تبق إلاّ الشيعة بفرقها الثلاث المنتشرة في العالم : الإمامية ، والزيدية ، والإسماعيلية.

نسأل اللّه سبحانه أن يوقّفنا في دراسة مذهب الشيعة ، الّذين جنى عليهم كثير من المؤرخين وكتّاب المقالات والفرق ، وكتبوا عنهم أشياءً كثيرة هم برآء منها. ولم يرجعوا عند البحث عن عقائد هذه الفرقة إلى مؤلّفاتهم وكتبهم وآثارهم ، وإنّما اعتمدوا على أفواه الرجال ونقلة الأخبار ، فصاروا كحاطب ليل يجمع في حزمته كلّ رطب ويابس ، والحقّ كما يقول بعض الأساتذة : « إنّه تطوّر كلّ شيء إلاّ الكتابة عن الشيعة ، ولكلّ بداية نهاية إلاّ الافتراء على الشيعة ، ولكلّ حكم مصدره ودليله إلاّ الأحكام على الشيعة » (١).

__________________

١ ـ عبداللّه بن سبأ ١ / ٩ ( مقدمة الطبعة الثالثة بقلم الاُستاذ المغفور له محمّد جواد مغنية ).


ونشكر القرّاء الكرام الذين شجّعونا برسائلهم على مواصلة بحث ودراسة هذه المواضيع الهامّة في تاريخ اُمّتنا المجيدة ، ونتقدّم بالشكر إلى العلماء الذين يقدّمون لنا النقد البنّاء ، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.

قم ـ جعفر السبحاني

٢٨ شعبان المعظم ١٤١٢ هـ


الشيعة لغةً واصطلاحاً

الشيعة لغة هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم ، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربّما يطلق على مطلق التابع ، قال سبحانه : ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ ) (١) وقال تعالى : ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم ) (٢) فالشيعة هم الجماعة التابعة لرئيس لهم.

وأمّا اصطلاحاً فلها إطلاقات عديدة بملاكات مختلفة :

١ ـ الشيعة : من أحبّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبىّ الذين فرض اللّه سبحانه مودّتهم قال عزّوجلّ : ( قُلْ لا أسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِى القُربَى ) (٣) والشيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين إلاّ النواصب ، بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً ، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله :

__________________

١ ـ القصص / ١٥.

٢ ـ الصافّات / ٨٣ ـ ٨٤.

٣ ـ الشورى / ٢٣.


يا أهلَ بيتِ رسولَ اللّهَ حبُّكُم

فَرضٌ من اللّهِ في القرآن أنْزله

كَفاكُمُ من عَظيم الشّأن أنّكمُ

من لم يُصلِّ عليكم لا صلاة لَهُ (١)

وأمّا النواصب فهم الذين نصبوا لعلي وأهل بيته العداء وتلقّوه فريضة دينية وأعانهم على ذلك مرتزقة أصحاب البلاط ، وترجع جذور هذه الفكرة إلى معاوية حيث سنّ سبّ علىّ على المنابر وتبعه أولاده وعشيرته إلى أواخر الدولة الأموية ، وكتب ابن أبي سفيان إلى عمّاله في جميع الآفاق : « اُنظروا إلى من اُقيمت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثمّ كتب نسخة اُخرى إلى عمّاله وشدّد الأمر فيها وقال : « من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وأهدموا داره ».

وعلى هذا المنشور قام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يَلعَنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ... (٢).

٢ ـ من يفضّل عليّاً على عثمان أو على الخلفاء عامّة مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء وإنّما يقدّم لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم ، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم وهي تُلزم الإنسان الاعتقاد بأنّه أفضل الصحابة ، وعلى ذلك معتزلة بغداد وقليل من أهل الحديث ، وعلى ذلك الاصطلاح جرى أكثر من كتب في الرجال والتراجم والمقالات حيث يصفون قليلاً من الصحابة وكثير أمن التابعين بأنّه يتشيّع أو أنّه شيعي ، وربّما يعدّونه من أسباب الجرح وكأنّ حبّ أهل البيت عمل اجرامي أو أنّ تقدّم الخلفاء على عليّ أصل من اُصول الدين لا يجوز تجاوزه ، مع أنّ الإمامة من الفروع عند أهل السنّة فكيف درجات الخلفاء ورتبهم.

وربّما يختلط الأمر على من ليس له إلمام بالاصطلاح ، فلا يفرّق بينهما ،

__________________

١ ـ الصواعق ١٤٨ ط ١٣٨٥ الطبعة الثانية.

٢ ـ وسيوافيك مصدره وبيان عداء ابن أبي سفيان للإمام وعترته وشيعته.


وأكثر من يستعمل هذا الاصطلاح هو الذهبي في « ميزان الاعتدال » و « سير أعلام النبلاء » فيصف بعض التابعين والمحدّثين بالتشيّع ملمّحاً بذلك إلى ضعفهم ، وقد رُمي أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري بالتشيّع كمعتزلة بغداد ، والمقصود تفضيلهم عليّاً على سائر الخلفاء لا أنّه الإمام المنصوص بالخلافة.

٣ ـ الشيعة : من يشايع عليّاً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمّة الناس بعده ، نصبهم لهذا المقام بأمر من اللّه سبحانه ، وذكر أسماءهم وخصوصيّاتهم ، والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنها في المقام ، وقد اشتهر بأنّ عليّاً هو الوصي حتّى صار من ألقابه ، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم (١) وهو يقول في بعض خطبه :

« لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ... » (٢).

ومجمل القول : إنّ هذا اللفظ يشمل كل من قال : انّ قيادة الاُمة لعلي بعد الرسول 6 وأنّه يقوم مقامه في كل ما يمت إليه سوى النبوة ونزول الوحي عليه. كل ذلك بتنصيص من الرسول ، وعلى ذلك فالمقوّم للتشيّع وركنه الركين هو القول بالوصاية والقيادة بجميع شؤونها للإمام 7 فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك ، وأمّا ما سوى ذلك فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع ولا يدور عليه اطلاق الشيعة.

__________________

١ ـ خطب الإمام أبو محمّد : الحسن السبط حين قتل أميرالمؤمنين خطبته الغرّاء فقال : أنا ابن النبي وأنا ابن الوصي أخرجه الحاكم في مستدركه ١ / ١٧٢ ، وقد ذكر ابن أبي الحديد أشعاراً وأراجيز تتضمّن توصيف الإمام بالوصاية عن الصحابة والتابعين ، لاحظ شرح النهج ١ / ١٤٣ ـ ١٥٠ باب ما ورد في وصاية عليّ من الشعر.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة الثانية.


لا شك أنّ للشيعة عقائد وآراء في مجاري الاُصول والفروع وربّما يشاركون غيرهم فيها وربّما يخالفونهم ، ولكنّها ليست من سماتهم وأعرافهم وإنّما هي اُصول وأحكام دعاهم الدليل إلى تبنّيها من الكتاب والسنّة والعقل.

مثلا إنّ الشيعة تقول باتّحاد الصفات الذاتية للّه سبحانه معها ، وكونه سبحانه غير مرئي في الدارين ، وأنّ كلامه مخلوق له ، وأنّه لا يكلّف ما لا يطاق ، وأنّ حقيقة الأمر في أفعال العباد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، وأنّ الأنبياء معصومون إلى غير ذلك من الآراء ، ولكنّها آراء كلامية للشيعة لا أنّها المقوّم للتشيّع بحيث لو خالف فيها رجل منهم ، ولكنّه قال بالوصاية لعلي وبالقدوة لعترته ، لخرج عن اطار التشيّع واُصوله.

إنّ التشيّع بهذا المعنى عبارة عن الاعتقاد باستمرار القيادة الإسلامية في قالب الوصاية لعلي وعترته ، والشيعة تدّعي أنّ هذه الفكرة غرست بيد النبي في أيّام حياته ، وتبنّاها لفيف من المهاجرين في عصره ، وبقوا عليها بعد حياته واقتدى بهم لفيف من التابعين لهم بإحسان وتواصل الاعتقاد به من تلك العصور إلى زماننا الحاضر ، وهذا هو الّذي تدّعيه الشيعة وعليه بُني صرح التشيّع ونحن في غنى عن الاتيان بنصوص أعلامهم وأكابرهم في المقام التي تدل على أنّ الوصاية للإمام بعد النبي 6 فالأولى طرح الموضوع على بساط البحث وعرضه على المرتكزات العقلية ، ولأجل تسليط الضوء على المسائل المهمة نبحث عن الجهات التالية وكل واحدة منها في فصل خاص بها :

١ ـ في تبيين متطلّبات الظروف في عصر النبي ، فهل كانت تقتضي أن تكون صيغة الحكم هي التنصيص أو كانت تقتضي تفويض الأمر إلى اختيار الاُمّة لتنتخب الحاكم والقائد عليها؟

٢ ـ ما هو المرتكز في الأذهان في عصر الرسول 6 وبعده في أمر القيادة؟


٣ ـ ما هو مقتضى الكتاب والسنّة في القيادة بعد الرسول؟

٤ ـ ما هو السر في مخالفة الجمهور لنصّ الرسول وتصريحه؟

٥ ـ مبدأ التشيّع وتاريخه ورواد التشيّع في عصر الرسول والصحابة والتابعين.

٦ ـ افتراضات وهميّة حول تاريخ الشيعة.

٧ ـ صيغة الحكومة الإسلامية عند أهل السنّة.

٨ ـ نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع.

٩ ـ الشيعة في عصر الدولتين الأموية والعبّاسية.

١٠ ـ عقائد الشيعة الامامية الاثنا عشرية.

١١ ـ أئمّة الشيعة الاثنا عشر ونبذة عن حياتهم.

١٢ ـ دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وتطوير العلوم.

١٣ ـ دول الشيعة وبلدانهم عبر التاريخ.

١٤ ـ مصادر علوم الشيعة.

فالذي نعتقد أنّ تحليل هذه الجهات يكشف الواقع للمحقّق ولا يُبقي له شكاً في أصالة التشيّع وأنّه استمرار للإسلام عبر الحقب والأعوام.



الفصل الأول

بيان متطلبات الظروف في عصر الرسول

في مجال القيادة الإسلامية



لاشك أنّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة من شؤون النبي الأكرم مادام على قيد الحياة ، ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين أصحاب المقالات والفرق في صيغتها بعد الرسول 6 فهل كانت متبلورة في صيغة النص أو في انتخاب الاُمّة.

الشيعة ترى أنّ القيادة منصب تنصيصي والذي ينصّ على خليفة الرسول هو اللّه سبحانه عن طريقه 6 ، بينما يرى أهل السنّة غير ذلك ولكل من الاتّجاهين دلائل وبراهين ، وألمقصود هنا دراسة متطلّبات الظروف وتقييمها في عصر الرسالة ، فهل كانت المصالح تكمن في تعيين القائد أو كانت تكمن في خلافه؟ فدراستها تُسلّط الضوء على البحث الثالث وهو وجود النص من الرسول وعدمه ، وإليك بيان ذلك :

إنّ الظروف السياسية التي كانت سائدة في المنطقة كانت توجب على الرسول أن يعيّن القائد ، وكانت المصلحة الإسلامية تقتضي ذلك ، لأنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثُلاثي ، الروم ، الفرس ، المنافقين ، وخطرهم يتمثّل بشنّ هجوم مفاجىء كاسح أو إلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

فمصالح الاُمّة كانت توجب توحيد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر


الخارجي والداخلي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها ، وبذلك يخسر الذين كانوا يتآمرون على ضرب الإسلام بعد وفاة النبي 6.

أمّا العدوّ الأوّل فقد كان الامبراطورية الرومانية التي كانت تشكّل إحدى أضلاع الخطر المثلّث الذي كان يحيط بالكيان الإسلامي ويهدّده من الخارج.

وكانت هذه القوّة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي 6 على الدوام ، حتّى انّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتّى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أوّل مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبداللّه بن رواحة ».

ولقد أدّى انسحاب الجيش الإسلامي بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه 6 في السنة التاسعة للهجرة ( غزوة تبوك ) على رأس جيش كبير جدّاً إلى حدود الشام ليقود بنفسه المواجهة العسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد للاُمّة الإسلامية هيبتها من جديد.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يُقنع رسول اللّه 6 ، فأعدّ قبيل ارتحاله جيشاً كبيراً من المسلمين. وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام والحضور في تلك الجبهة.


أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدّد الكيان الإسلامي ، فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه 6 ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور إيران ، « خسرو پرويز » على تمزيق رسالة النبي 6 ، وتوجيه الاهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله في اليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه 6 أو يقتله إن امتنع.

و« خسرو » هذا وأن قتل زمن رسول اللّه 6 إلاّ أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلا من الزمن ـ لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوّة الجديدة ( القوّة الإسلامية ) لهم.

والخطر الثالث وهو الأعظم ( لأنّ القلعة الحصينة لا تهزم إلاّ من داخلها ) كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل ، إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه 6 في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخَطِر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله 6 ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (١).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه 6 بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الإسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى عليّاً 7 وعرض عليه أن يبايعه ضدّ عُيِّن في السقيفة ، ليستطيع بذلك

__________________

١ ـ الطور / ٣٠.


شطر الاُمّة الإسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن حينها من الصيد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام عليّاً 7 أدرك بذكائه المفرط نوايا أبي سفيان الخبيثة فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً. لاحاجه لنا في نصيحتك » ومع أنّ الإمام ردّه خائباً لكنّه استمرّ في فتنته لشقّ عصا الاُمّة فأخذ يتردّد في أزقّة المدينة منادياً :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم

وليس لها إلاّ أبو حسن علي (١)

ولقد بلغ دور المنافقين الهدّام في الشدة بحيث تعرّض القرآن الكريم لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقون ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالإسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصحّ أن يترك رسول اللّه 6 اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسياً؟

إنّ المعطيات الاجتماعية توحي بأنّه كان من الواجب أن يدفع رسول الإسلام ـ بتعيين قائد للاُمّة ـ ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، ويضمّن بذلك استمرار وبقاء الاُمّة الإسلامية وإيجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حولها.

__________________

١ ـ الكامل ٢ / ٣٢٥ ، العقد الفريد ٢ / ٢٤٩.


إنّ تحصين الاُمّة وصيانتها من الحوادث المشؤومة والحيلولة دون مطالبة كل فريق الزعامة لنفسه دون غيره وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن متحقّقاً إلاّ بتعيين قائد للاُمّة وعدم ترك الاُمور للأقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحّة نظرية « التنصيص على القائد بعد الرسول » ولعلّ لهذه الجهة ولجهات اُخرى طرح الرسول مسألة الخلافة في بدء الدعوة واستمر بذلك إلى آخر ساعة من عمره الشريف كما ستوافيك نصوصها.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك في سالف الأيّام وأوردته في بعض محاضراتي الكلامية (١) وقفت على تقرير للمحقّق الشهيد السيد الصدر المغفور له فقد بيّن متطلّبات الظروف في تقديمه على كتاب تاريخ الشيعة للدكتور عبداللّه فياض بنحو آخر وهو تقرير رصين نقتطف منه ما يلي :

كان النبي الأكرم يدرك منذ فترة أنّ أجله قد دنى وأعلن ذلك بوضوح في حجّة الوداع ولم يفاجئه الموت مفاجأة ، وهذا يعني أنّه كان يملك فرصة كافية للتفكير في مستقبل الدعوة ، وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أنّه كانت أمام النبي ثلاثة طرق بالإمكان انتهاجها تجاه مستقبل الدعوة.

الطريق الأوّل : أن يقف من مستقبل الدعوة موقفاً سلبياً ويكتفي بممارسة دوره في قيادة الاُمّة وتوجيهها فترة حياته ويترك مستقبلها للظروف والصدف ، وهذه السلبية لا يمكن افتراضها في النبي 6 لأنّها انّما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه.

__________________

١ ـ الإلهيات ٢ / ٥٥٤ ـ ٥٨٤ ، لولدنا الفاضل الروحاني الشيخ حسن مكّي العاملي ـ حفظه اللّه ـ.


١ ـ « الاعتقاد بأنّ هذه السلبية والاهمال لا تؤثّر على مستقبل الدعوة ، وأنّ الاُمّة قادرة على التصرّف بالشكل الذي يحمي الدعوة ، ويضمن عدم الانحراف ».

وهذا الاعتقاد لا مبرّر له من الواقع اطلاقاً ، لأنّ الدعوة الإسلامية بما أنّها كانت تغييراً انقلابياً في بدايته ، تستهدف بناء اُمّة ، واستئصال كل جذور الجاهلية منها ، تتعرّض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها ، وتركها دون أي تخطيط. فهناك الأخطار تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط سابق ، فإنّ الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة ، فسوف تواجه الاُمّة لأوّل مرّة ، مسؤولية التصرّف بدون قائدها ، تجاه مشاكل الدعوة وهي لا تملك أي مفهوم مسبق بهذا الصدد. وسوف يتطلّب منها الموقف تصرّفاً سريعاً آنيّاً بالرغم من خطورة المشكلة ، لأنّ الفراغ لا يمكن أن يستمر.

فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي شيئاً يمكن أن يخفى على أي قائد مُمارس للعمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء.

٢ ـ الذي يمكن أن يفسّر سلبية القائد تجاه مستقبل الدعوة ومسيرها بعد وفاته ، أنّه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبية لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ ذلك الخطر ، لأنّه ينظر إلى الدعوة نظرة مصلحيّة فلا يهمّه إلاّ أن يحافظ عليها مادام حيّاً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها ولا يعني بحماية مستقبلها بعد وفاته.

وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي حتّى لولم نلاحظه بوصفه نبيّاً ومرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة ، وافترضناه قائداً رسالياَ كقادة الرسالات الاخرى ، لأنّ تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيراَ للقائد الرسول ، في اخلاصه لدعوته ، وتفانيه فيها ، وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته ، وكل تاريخه يبرهن على ذلك.

الطريق الثاني : أن يخطّط الرسول القائد لمستقبل الدعوة بعد وفاته ويتّخذ


موقفاً إيجابياً فيجعل القيمومة على الدعوة ممثّلة على أساس نظام الشورى الذي يضم مجموع المهاجرين والأنصار ، فهذا الجيل الممثّل للاُمّة هو الذي سيكون قاعدة للحكم ومحوراً لقيادة الدعوة في خط نُمُوّها. وفيما يلي ما يرد تلك الفكرة :

١ ـ لو كان النبي قد اتّخذ من مستقبل الدعوة بعده موقفاً ايجابياً يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق بعد وفاته مباشرة ، واسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا النظام ، لكان من أبده الأشياء التي يتطلّبها هذا الموقف الايجابي ، أن يقوم الرسول القائد بعملية توعية للاُمّة والدعاة ، على نظام الشورى وحدوده وتفاصيله واعطائه طابعاً دينياً مقدّساً ، واعداد المجتمع الإسلامي اعداداً فكريّاً وروحيّاً لتقبّل هذا النظام ، وهو مجتمع نشأ من مجموعة من العشائر لم تكن قد عاشت قبل الإسلام وضعاً سياسياً على أساس الشورى وانّما كانت تعيش في الغالب وضع زعامات قبليّة وعشائريّة تتحكّم فيها القوّة والثروة وعامل الوراثة إلى حدّ كبير.

ونستطيع بسهولة أن نُدرك أنّ النبيّ لم يمارس عمليّة التوعية على نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية لأنّ هذه العملية لو كانت قد اُنجزت لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسّد في الأحاديث المأثورة عن النبيّ 6 ، وفي ذهنية الاُمّة وعلى أقل تقدير في ذهنية الجيل الطبيعي منها ، الذي يضمّ المهاجرين والأنصار بوصفه ، وهو المكلّف بتطبيق نظام الشورى ، مع أنّنا لانجد في الأحاديث المأثورة عن النبي أيّ صورة تشريعية محدّدة عن نظام الشورى ، وأمّا ذهنية الاُمّة أو ذهنية الجيل الطبيعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محدّدة لتوعية من ذلك القبيل.

ثمّ إنّه ; استشهد بفعل الخليفة الأوّل حيث لم يمارس نظام الشورى في حال حياته وقام بتنصيب عمر مكانه ، كما فعل ذلك أيضاً الخليفة الثاني في نطاق


خاص فجعله محصوراً في ستّة أشخاص ، وسيوافيك تفصيل ذلك في الفصل الثاني.

الطريق الثالث : وهو الطريق الوحيد الذي بقى منسجماً مع طبيعة الأشياء ومعقولاَ على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك النبيّ. وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ايجابياً فيختار بأمر من اللّه سبحانه وتعالى شخصاً يرشّحه عمق وجوده في كيان الدعوة ، فيعدّه اعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً تتمثّل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية ، وليواصل بعده ( بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار ) ، قيادة الاُمّة وبناءها عقائدياً وتقريبها باستمرار نحو المستوى الذي يؤهّلها لتحمّل المسؤوليات القيادية.

وهكذا نجد أنّ هذا هو الطريق الوحيد الذي كان بالامكان أن يضمن سلامة مستقبل الدعوة وصيانة الحكم من الانحراف في خط نموّها وهكذا كان (١).

وعلى ذلك فالقول بالتشيّع عبارة عن القول بوجود ضمان لاستمرار الدعوة بتعيين الوصيّ من جانب الرسول بأمر من اللّه ، وقد عرفت أنّ طبيعة الظروف في عصر الرسول كانت تقتضي ذلك على الوجه الكلّي ، أي كان يتطلّب تعيين القائد وأن لا يترك الأمر إلى الاُمّة ، وعدم اهماله وتركه للصدف ، وستعرف في الفصل الثالث أنّه قد صدّق الخبرُ الخبرَ ، وأنّ الرسول قد قام بتلك الوظيفة التي تضمن استمرار الدعوة وسلك هذا الطريق سلوكاً واضحاً.

وهناك بيان ثالث يعطي نفس ما أعطاه الوجهان وهو دراسة طبيعة الحكم من زاوية طرؤ الفراغ الهائل بعد رحلة الرسول فيما يمت إلى صلب الدين وهداية الاُمّة إلى الحق والحقيقة :

__________________

١ ـ مقدّمة تاريخ الامامية ٥ / ١٦ بتلخيص.


لقد درسنا متطلّبات الظروف ومقتضيات عصر النبي في مجال القيادة وإدارة دفّة الحكم ووصلنا إلى أنّ مصالح المسلمين كانت تكمن في تعيين القائد دفعاً للأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين بوفاة النبيّ ، ومفاجأة الاُمّة بفراغ مكانه القيادي.

;ويمكن لنا دراسة طبيعة الحكم من زاوية اُخرى وهي ملاحظة الفراغات الهائلة الحاصلة بعد رحلة القائد ، لا من جهة القيادة السياسية والاجتماعية ، بل في جانب حاجة الاُمّة إلى قائد رسالي يسد تلك الفراغات المعنوية فيما يمت إلى صلب الدين وأمر هداية الاُمّة في مجال تفسير الكتاب وشرح مقاصده أوّلاَ ، وتبيين ما لم يبيّنه الرسول في مجال الأحكام ثانياً ، وصيانة الدين الحنيف من محاولات التحريف ثالثاً فالاُمّة تواجه وتفاجئ هذه الفراغات الثلاثة ، فمن الذي يسدّها ، فهل الاُمّة جميعاً أو المهاجرون والأنصار أو أهل الحل والعقد؟ والجواب : لا ، لأن المفروض ـ كما سيأتي ـ قصورهم عن ملء الفراغ ، فما هو الحل لهذا المشكل؟ وهذا هو الذي يستهدفه هذا البحث. فنقول :

إنّ الرسول الأكرم لم تقتصر مسؤولياته علي تلقّي الوحي الإلهي وابلاغ الآيات النازلة عليه بل كانت تتجاوز عن ذلك كثيراً فقد كانت وظائف ثلاث تقع على عاتقه بالاضافة إلى ما يقوم به من سائر الوظائف :

١ ـ كان النبي الأكرم يفسّر الكتاب العزيز ويشرح مقاصده ويبيّن أهدافه ويكشف رموزه وأسراره.

٢ ـ وكان يبيّن أحكام الحوادث الجديدة الطارئة على المجتمع الاسلاميّ عن طريق القرآن الكريم وسنَّته.

٣ ـ وكان يصون الدين من التحريف والدس ، فكان وجوده مدار الحق وتميزه عن الباطل ، وكانت حياته ضماناً لعدم تطرّق الدس والترحيف إلى دينه.


ولا شك أنّ موت النبيّ وفقدانه سيوجدان فراغات هائلة في المجالات الثلاثة فيجب اعداد قائد له القابلية والصلاحية في سد تلك الفراغات ، ولا يقوم به إلاّ من كان يتمتّع بما كان يتمتّع به الرسول عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي ، فيكون وعاء علم النبي ومخزن أسراره ، ومودع حكمته ، حتّى يقوم بتلك الوظيفة العظيمة.

ومن الواضح أنّ هذه الكفاءات والمؤهّلات المعنوية لاتحصل لشخص بطريق عادي ولا بالتربية البشرية المتعارفة ، بل لابدّ من إعداد إلهي خاص وتربية إلهية خاصّة هذا من جانب ، ومن جانب آخر لا يمكن للاُمّة أن تتعرّف بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفّر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات بالطرق العادية.

كل ذلك يثبت نظرية التنصيص وأنّه لا محيص عن تعيين القائد بتنصيص الرسول بأمر من اللّه سبحانه ، أي تنصيب من يتّصف بتلك الكفاءات التي لا يكتسبها إلاّ من تربّى في حضن الرسالة والرسول. وإليك تفاصيل هذه الفراغات ، ونكتفي في كل مورد بموجز القول :

١ ـ القرآن الكريم والابهامات الطارئة :

إنّ اللّه سبحانه يصف القرآن بأنّه نزل إلى النبيّ ليبيّن للناس ما نزل إليهم فيقول : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للِنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ ) (١) وقال : ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (٢) فقد وصف النبي في هاتين الآيتين بأنّه مبيّن بما في الكتاب لا قارئ فقط ، فكم فرق بين أن يقول : « لتقرأ

__________________

١ ـ النحل / ٤٤.

٢ ـ النحل / ٦٤.


للناس » وبين : ( لتبيّن لهم ).

إنّ هذه الآيات تكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى ورغم أنّه منزّه عن مشابهة كتب الألغاز والطلاسم ، يحتاج إلى مبيّن ومفسّر بسببين :

١ ـ وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

٢ ـ غياب القرائن الحالية التي كانت الآيات محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومة للمخاطبين في ذلك الوقت.

وقد كان النبيّ بنفسه يقوم بتفسير القرآن الكريم وتبيين مجمله وتقييد مطلقه وما أشبه ذلك. وكانت القرائن الحالية معلومة وواضحة لدى الأصحاب. ولمّا ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى وحصل الفصل الطويل بينه وبين اُمّته ، حدث هناك فراغ هائل في تفسير القرآن فلاترى آية من الآيات إلاّ وفي تفسيرها آراء متضاربة إلى حدّ اختلفوا في تفسير الآيات التي تتعلّق بأعمالهم اليومية :

١ ـ قال سبحانه في آية الوضوء : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاَيْدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَاَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبِيْنِ ) (١) وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية وصارت الاُمّة إلى قولين : فمن عاطف لفظ « أَرجلكم » على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح ، ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبي 6 فأيّ الرأيين هو الصحيح؟

٢ ـ لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال :

__________________

١ ـ المائدة / ٦.


( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (١) وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضعه : فمن قائل إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكف وترك الابهام كما عليه الإمامية ، وجماعة من السلف. ومن قائل إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. ومن قائل إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (٢).

٣ ـ سئل أبوبكر عن الكلالة في قوله تعالى : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الكَلالَةِ إنِ امْرُؤاٌْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (٣) فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان ، واللّه ورسوله بريئان ، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّهَ أن أردّ شيئاً قاله أبوبكر.

٤ ـ أمر اللّه سبحانه الورثة باعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِد مِنْهُمَا السُّدُسُ ) (٤) وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه باعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَمْ

__________________

١ ـ المائدة / ٣٨.

٢ ـ راجع الخلاف للطوسي ( كتاب السرقة ) ١٨٤. أحكام القرآن للجصاص ٤٢١ : روي عن أبي هريرة انّ رسول اللّه قطع يد سارق من الكوع. ونقل ابن قدامة الخلاف إذا سرق ثانياً : فعن عطاء وربيعة وداود أنّه تقطع يده اليسرى ، وعن الآخرين : تقطع رجله اليسرى. المغني ١٠ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٣ ـ النساء / ١٧٦.

٤ ـ النساء / ١٢.


يَكُن لَهَا وَلَدٌ فَإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ ) (١).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ لا شك انّه لم يكن ثمّة ابهام في مورد هاتين الآيتين ، بل حدث الابهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدل هذا على ضرورة من يخلف النبي حتّى يرفع الستار عن وجه الحقّ بما عنده من علوم مستودعة.

٢ ـ الرسالة الإسلامية والحوادث المستجدّة :

إنّ اتّساع رقعة الدولة الإسلامية ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة جعلهم أمام موضوعات مستجدّة ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة ولا معروفة في عهد النبي الأكرم الذي لم تكن فيه الدولة الإسلامية قد توسّعت كما توسّعت بعد وفاته ، والتحاقه بالرفيق الأعلى.

وكان من الأمر المشكل أن يتحدّث النبي عن أحكام موضوعات لم يعرف المسلمون شيئاً من ماهياتها وتفصيلاتها ، ولم يشاهدوا لها نظيراً في حياتهم ، ولأجل ذلك كانوا يجهلون أحكام الموضوعات المستجدّة من دون أن يجدوا لها حلولا وأجوبة ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ الأحاديث التي رواها الصحابة والتابعون عن النبي الأكرم في مجال الأحكام لاتتجاوز عن خمسمائة حديث (٢) حتّى قال الإمام الرازي : إنّ المنصوص حكمه من الموضوعات قليل جدّاً (٣) ولنذكر للموضوع نماذج :

__________________

١ ـ النساء / ١٧٦.

٢ ـ الوحي المحمدي ٢١٢ الطبعة السادسة.

٣ ـ المنار ٥ / ١٨٩.


١ ـ شغلت مسألة العول بال الصحابة فترة من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول التي واجهها جهاز الحكم ، ويعنى منه قصور التركة عن سهام ذوي الفروض. مثال ذلك : إذا ترك الميّت زوجة وأبوين وبنتين ، ولمّا كان سهم الزوجة ـ حسب نص القرآن ـ الثمن وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين ، والتركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، فلمّا عرضت المسألة على عمر ابن الخطاب قال : واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه وأيّكم أخّر ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن اُقسّم المال عليكم بالحصص ، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة (١).

رجل طلّق امرأته قبل الإسلام مرّتين وفي الإسلام مرّة فهل تحرم عليه أو لا؟ فقال عمر بن الخطاب للسائل : لا آمرك ولا أنهاك ، وقال عبدالرحمان بن عمر : ولكنّي آمرك ليس طلاقك قبل الإسلام بشيء (٢).

٢ ـ إنّ الجيل المعاصر للرسول لم يكن يملك تصوّرات واضحة محدّدة حتّى في مجال القضايا الدينية التي كان يمارسها النبي مئات المرّات وعلى مرأى ومسمع من الصحابة ونذكر على سبيل المثال لذلك ، الصلاة على الميّت ، فإنّها عبادة ، كان النبي قد مارسها عادة مئات المرّات وأدّاها في مشهد عام من المشيّعين والمصلّين وبالرغم من ذلك يبدو أنّ الصحابة كانوا لا يجدون ضرورة لضبط صورة هذه العبادة مادام النبي يؤدّيها وماداموا يتابعون فيها النبي فصلاً بعد فصل ، ولهذا وقع الاختلاف بينهم بعد وفاة النبي في عدد التكبيرات في صلاة الميّت ، فقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قال : قبض رسول اللّه والناس مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول : سمعت رسول اللّه 6

__________________

١ ـ أحكام القرآن للجصاص ٢ / ١٠٩ ، مستدرك الحاكم ٤ / ٣٤٠.

٢ ـ كنز العمال ٥ / ١٦١.


يكبّر سبعاً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر خمساً ، وآخر يقول : سمعت رسول اللّه يكبّر أربعاً ، فاختلفوا في ذلك حتّى قبض أبوبكر ، فلمّا ولّى عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك شقّ عليه جدّاً فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول اللّه ، فقال : إنّكم معاشر أصحاب رسول اللّه متى تختلفون على الناس يختلفون من بعدكم ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه فانظروا أمراً تجتمعون عليه ، فكأنّما أيقظهم ، فقالوا : نعم ما رأيت يا أميرالمؤمنين الخ (١).

ولأجل هذا القصور ترى أنّ الخلفاء ومن بعدهم تمسّكوا بمقاييس لاتمت إلى الكتال وألسنّة ، فروى ميمون بن مهران أنّه : إذا ورد الخصم على أبي بكر نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول اللّه ، جمع رؤوس الناس و خيراهم فاستشارهم ، وأذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (٢).

فقد لمس الخليفة أنّ الكتاب والسنّة النبوية غير وافيين بالحاجات الفقهية ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

فهذه تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولا في الكتاب والسنّة أو فيما تلقّوه من النبي 6 ولذلك كانوا يحاولون استنباط قواعد ومقاييس لاتستند على أىّ دليل ، فهل يصحّ هذا؟ مع أنّه سبحانه يصرّح بأنه أكمل دينه ، وأتمّ نعمته فكيف يجتمع هذا الفراغ الفقهي في المسائل المستجدّة مع الإكمال؟

__________________

١ ـ عمدة القارىء ٤ / ١٢٩ ، ولاحظ مقدمة السيد الصدر على كتاب تاريخ الإمامية ، للدكتور عبداللّه فيّاض.

٢ ـ دائرة المعارف لفريد وجدي ٣ ٢١٢ (مادة جهد).


٣ ـ المسلمون وصيانة الدين من التحريف :

إنّ أبرز ما كان يتمتّع به المسلمون في عصر الرسول هو صيانة الدين من الدسّ والتحريف وهو الخطر الذي تعرّضت له جميع المذاهب السالفة ، قال سبحانه : ( مِنَ الَّذِيَنَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَللِمَ عَن مَواضِعِه ) (١).

إنّ الاُمّة الإسلامية قد وصلت عند رحلة الرسول بفضل جهود صاحب الدعوة إلى درجة مرموقة من الوعي حفظت كتابها عن محاولات الزيادة والنقصان ، نرى أنّ الصحابي الجليل أُبي بن كعب له موقف عظيم من عثمان في كيفيّة كتابة آية الكنز أعني قوله : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم ) (٢) فإنّ عثمان اراد اثبات الآية في المصحف بلا واو فقال أُبي : « لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي » ، فألحقوها (٣).

ومع هذه المقدرة لم تستطع حفظ مفاهيمه وصيانة دينها عن الدس والتحريف فتفرّقت إلى مشبّهة ، تتخيّل أنّ لربّها أعضاءً كأعضاء الإنسان ، إلى جبري يرى الإنسان مسيّراً لامخيّراً ، ويصوّر بعث الأنبياء أمراً لاجدوى فيه ، إلى مرجئة لا ترى للعمل قيمة وتعطي للإيمان تمام القيمة ، إلى ناصبيّ ينصب العداء للعترة الطاهرة ، إلى إلى ... ، حتّى تفرّقت اُمّة النبي الأكرم كتفرّق الاُمم السالفة ، وهذا دليل واضح على أنّ الاُمّة الإسلامية ما بلغت يومذاك في الكفاءة والمقدرة العلمية إلى المستوى الذي يؤهّلها لحفظ الإسلام أصله ولبّه ، وقد مرّ في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة أنّ الوضّاعين والدجّالين من الأحبار والرهبان ، والمغترّين بهم

__________________

١ ـ النساء / ٤٦.

٢ ـ التوبة / ٣٤.

٣ ـ الدر المنثور ٣ / ٢٣٢.


دسّوا بين المسلمين أحاديث موضوعة واسرائيليات ومسيحيات ومجوسيات كثيرة ، ولقد عرفت الموضوعات الهائلة في عصر البخاري وشيوخه وتلاميذه ، حتّى انّه أخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث (١).

جاء في مسند أحمد ثلاثون ألف حديث وقد انتخبها من سبعمائة وخمسين ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (٢).

نحن نفترض أنّ متوسّط عدد الكلمات في الحديث عشرون كلمة فيكون مجموع ما صدر عن النبي 6 عشرين مليون كلمة في هذه الفترة القصيرة أي العشرة أعوام بالاضافة إلى ما كان لديه من أعمال ووظائف ، وحروب وغزوات ، واتفاقيات مع شيوخ القبائل ، وارتياد إلى الأرياف ، وتسيير دفّة الحكم ، فهل كان بإمكانه أن يتكلّم بهذا العدد من الكلمات ، سبحان اللّه ، ما أجرأهم على البهتان! ولو رجعت أنت إلى قائمة الموضوعات والمقلوبات الّتي عرضناها لك في الجزء الأوّل (٣) لجزمت بعدم كفاءة الاُمّة لصيانة الدين من الدس والتحريف.

هذه هي الفراغات الحاصلة بعد وفاة النبي الأكرم ، فمقتضى الحكمة وتجسيد اكمال الدين الذي جاء به الكتاب الكريم في قوله : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) (٤) أن تعالج هذه المشاكل أي تفسير الكتاب العزيز برفع الستار والابهامات الطارئة على مفاهيمه ، والإجابة على المسائل المستجدّة ، والدفاع عن حمى الشريعة ولاتحل عقدة المشكلة ولا

____________

١ ـ الهدى الساري ، مقدمة فتح الباري ٥٤.

٢ ـ طبقات الذهبي ٩ / ١٧.

٣ ـ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة / ٧٤.

٤ ـ المائدة / ٣.


تسدّ تلك الفراغات إلاّ بإمام تمتّع بتربية إلهية ، وإعداد غيبي ، ولا تصل إليه الاُمّة إلاّ بتعيين الرسول أو بتعيين من عيّنه كما في الأئمة الباقين ، فعندئذ يتجسّد قوله سبحانه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً ) وإلاّ لبقيت تلك الفراغات الهائلة وجرّت على الاُمّة الويل والويلات كما جرّتها ـ وللأسف ـ لأجل اعراض الاُمّة عن الإمام المنصوب.

هذا هو الذي نفهمه من معنى الإمام وهو ميزان الحق والباطل وأنّه يرجع إليه في التعرّف على الصحيح والزائف.

وأمّا إذا كان الرجل على حدّ يقول : ولّيتكم ولست بخيركم فإن استقمت فأعينوني وإن زِغْت فقوّموني فلا يصلح أن يكون إماماً بل يكون مأموماً فتصبح الرعية إماما ، والامام ماموما ، ونعم ما يقول الشاعر الشيعي ابن حماد العبدي :

وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده

إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماماً إن أقام على الهدى

أطعنا وإن ضلّ الهداية قوَّمنا

فقلنا إذا أنتم إمام إمامكم

بحمد من الرحمن تُهْتم وما تُهْنا

ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا

لنا يوم خم ما اعتدينا ولا جُرنا

وهناك كلمة قيّمة للفيلسوف ابن سينا تشير إلى فائدة تنصيب الإمام فيقول : « ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبي ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كل وقت ، فإنّ المادّة الّتي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً (١) ـ إلى أن قال ـ والاستخلاف بالنص أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب (٢) والتشاغب

__________________

١ ـ اشارة إلى سدّ الفراغات الحاصلة بعد وفاته.

٢ ـ اشارة إلى أنّ مصالح الإسلام تكمن في النص.


والاختلاف » (١).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : انّ مصالح الإسلام والمسلمين كانت تكمن في تعيين الإمام ، لا تفويض الأمر إلى الاُمّة ، وترك الأمر للظروف والصدف لترسيه على أي شاطىء تختاره.

__________________

١ ـ الشفاء ٢ ( الفن الثالث عشر من الالهيات الفصل الثالث والخامس ) ٥٥٨ ـ ٥٦٤ طبع ايران.



الفصل الثاني

ماهو المرتكز في أمر القيادة في

ذهن الرسول والاُمّة



قد عرفت أنّ مقتضيات الظروف ومتطلّباتها كانت تستدعي تعيين الإمام من جانب الرسول ، كما أنّ كمال الدين في أبعاده الثلاثة المختلفة المذكورة آنفاً تستدعي ذلك أيضاً ، فهلمّ معي ندخل في الموضوع الثاني الذي ألمحنا إليه في بداية البحث ضمن الاُمور الّتي لا مناص للمحقّق إلاّ دراستها ، وهو تبيين المرتكز في الأذهان في أمر الزعامة يوم بعث الرسول وبعده.

إنّ النصوص التاريخية تشهد بأنّ الرسول الأكرم خيّب آمال الطامحين في تولّي الخلافة من بعده وقال بأنّه بيد اللّه ، يعني لابيدي ولا بيد الناس ، ويكفي في ذلك ما نتلوه :

١ ـ لمّا عرض الرسول 6 نفسه على بني عامر في موسم الحج ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : « أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ » فقال النبي : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » (١).

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٤٢٤ فلو كان الأمر ملقىً على عاتق الاُمّة فما معنى كون الأمر إلى اللّه؟


ولم يكن ذلك الأمر مختصّاً بالنبي الأكرم ، بل الامعان في تاريخ أصحابه والخلفاء الذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبي يدلّ على أنّهم انتهجوا أيضاً نهج تنصيب الخليفة ، لا تفويض أمره إلى الاُمّة. فلو أغمضنا النظر عن خلافة أبي بكر وما جرى حولها من لغط وشغب ، وضرب وشتم وارعاب وارهاب وغير ذلك من الاُمور الّتي تجعلها بعيدة كل البعد عن الشورى والانتخاب النزيه ، فلنا في انتخاب الخليفتين الآخرين دليل واضح على أنّ المتصوّر من الخلافة عندهم هو تعيين الخليفة شخصاً لا تفويض أمر انتخابه للظروف والاُمّة.

٢ ـ قال ابن قتيبة : دعا أبوبكر عثمان بن عفّان فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا نازحاً عنها وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، انّي أستخلف علكيم عمر بن الخطاب ... (١).

ويظهر من ابن الأثير في كامله أنّه غشي على الخليفة أثناء الاملاء وانّما أكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثم أفاق أبوبكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبوبكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي (٢).

فهل يمكن للخليفة أن يلتفت إلى الخطر الكامن في ترك الاُمّة دون خليفة ، ولا يلتفت إليه النبي 6.

٣ ـ وأمّا استخلاف عثمان ، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّ عمر طلب ستة أشخاص من أصحاب النبي وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيداللّه ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقّاص ،

__________________

١ ـ الامامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٨ طبع مصر.

٢ ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٢٩٢ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٢٠٠ طبع بيروت.


وعبدالرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.

فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، انّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً ، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيّام فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرّقوا في اليوم الثالث حتّى تستخلفوا (١). حتّى قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس » (٢).

وهناك كلمات صدرت من الصحابة في ثنايا خلافة الخلفاء وبعدهم تعرب عن أنّ الرأي السائد والمرتكز في أذهانهم هو تعيين الخليفة وانّ مسألة نظام الشورى شعار رفعه معاوية مقابل علي 7 على الرغم من أنّه استخلف عندما مات ، ولم يعتدّ بمنطقه وإنّما جرّده سلاحاً على عليّ ، وإن كنت في ريب من هذا الأمر نتلو عليك كلماتهم الّتي صدرت عفواً وارتجالاً عند موت الخليفة وارتحاله :

٤ ـ نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحسّ بالموت قال لابنه عبداللّه : اذهب إلى عائشة وأقرأها منّي السلام ، واستأذن منها أن اُقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر ، فأتاها عبداللّه بن عمر فأعلمها ... فقالت : نعم وكرامة. ثمّ قالت : يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع اُمّة محمّد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم

__________________

١ ـ الامامة وألسياسة ١ / ٢٣ ـ

٢ ـ الكامل لابن الأثير ٣ / ٣٥.


بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة (١) فأتى عبداللّه ( إلى أبيه ) فأعلمه (٢).

٥ ـ نقل الحافظ أبو نعيم الاصفهاني المتوفّى عام ٤٣٠ انّ عبداللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثم جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد (٣).

٦ ـ قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر فأتاه و خلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع اُمّة محمّد بعدي كالضأن لاراعي لها (٤).

هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتّفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدّمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين ، وسيوافيك الكلام في استخلاف الصحابة بعضهم لبعض.

ولو دلّ هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الأصل الذي كان يعتقد به جميع الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة كان هو التنصيص والتعيين وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

__________________

١ ـ وهل يمكن أن تلتفت اُمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبي 6!

٢ ـ الامامة وألسياسة للدينوري ١ / ٣٢.

٣ ـ حلية الأولياء ١ / ٤٤.

٤ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٦٨ طبع مصر.


الفصل الثالث

ماهومقتضى الكتاب والسنّة

في صيغة الخلافة بعد الرسول



إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول هوالتخصيص لا التفويض إلى الاُمّة ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف ، فنقدّم الكلام في السنّة فإنّها صريحة في التعيين وأمّا الكتاب فسيأتي البحث عنه.

فنقول : إنّ سيرة النبيّ الأكرم ونصوصه في موافق مختلفة تثبت بوضوح أنّه 6 غرس النواة الاُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها ، ويكفينا مؤونة ذلك ، الموسوعات الحديثية في المناقب والفضائل والمؤلّفات الكلامية في أمر الولاية ، ونحن نكتفي بالقليل من الكثير.

١ ـ التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة :

بُعث الرسول الأكرم لهداية الناس وإخراجهم من الوثنية إلى التوحيد ، ومن الشرّ إلى الخير ، ومن الشقاء إلى السعادة ،وكانت الظروف المحدقة به قاسية جدّاً ، لأنّه بعث في اُمّة عريقة في الوثنية ، ويخاطبهم سبحانه : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً


ما أُنذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ )(١) ، فأخذ بالدعوة سرّاً ونشر دينه خفاءً سنوات عديدة إلى أن نزل قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) فعند ذلك أمر الرسول علي بن أبي طالب وهوشاب يافع يتراوح عمره بين ( ١٣ سنة إلى ١٥ ) أمره رسول اللّه أن يعد طعاماً ولبناً ثمّ دعا (٤٥) رجلاً من سُراة بني هاشم ووجوههم ، وبعد أن فرغوا من الطعام قال رسول اللّه : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللّه الذي لا إله إلا هوإنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، واللّه لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، وانّها الجنّة أبداً والنار أبداً ـ ثمّ قال : ـ يا بني عبدالمطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، انّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّوجلّ أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

ولمّا بلغ النبي 6 إلى هذا الموضع وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم ، قام علي 7 فجأة وقال : أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه ، فقال له رسول اللّه : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة ، ففي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته ويقوم علي ويعلن استعداده لمؤازرة النبي ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كان في المرّة الثالثة ، أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين وقال : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (٣).

__________________

١ ـ يس / ٦.

٢ ـ الشعراء / ٢١٤.

٣ ـ مسند أحمد ١ / ١١١ ، تارخ الطبري ٢ / ٦٢ ـ ٦٣ ، تاريخ الكامل ٢ / ٤٠ ـ ٤١ ، إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة يقف عليها من سبر كتب السيرة ـ عند سرد حوادث بدء الدعوة ـ وكتب التفسير في تفسير الآية الآنفة في سورة الشعراء.


نحن لا نُريد أن نحوم حول الرواية ونعرض عن الإشارة إلى ماجنى عليها بعض المؤرّخين والكتّاب الجدد (١) ولكن نذكر نكتة أنّ النبي أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان ، وما القيادة بعد النبي إلا استمرار لوظائف النبوّة ، وإن كانت النبوّة مختومة ولكن الوظائف والمسؤوليات كانتا مستمرّتين.

٢ ـ حديث المنزلة :

روى أصحاب السير والحديث أنّ رسول اللّه خرج إلى عزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي : « أخرج معك »؟ فقال 6 : « لا » ، فبكى علي فقال له رسول اللّه : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي ، انّه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي » ، أخرجه البخاري في صحيحه (٢) والاستثناء يدل على ثبوت ما لهارون من المناصبت لعلي سوى النبوّة سيأتي توضيحه.

وروى مسلم في صحيحه انّ إمام الفئة الباغية قال لسعد بن أبي وقاص : ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال : امّا ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه بعد ما شكى إليه علي بقوله : « يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان » : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه

__________________

١ ـ كالدكتور حسنين هيكل في حياة النبي ، لاحظ محاضراتنا في سيرة النبي وقد طبعت باسم ( سيّد المرسلين ١ / ٣٩٤ ـ ٣٩٧ ).

٢ ـ صحيح البخاري ٥ باب فضائل أصحاب النبي باب مناقب علي ٢٤ وغيره.


لا نبوّة بعدي ».

وسمعته يقول يوم خيبر : « لاُعطينّ الراية رجلاً يحبّ اللّه ورسول ، ويحبّه اللّه ورسوله » قال : فتطاولنا لها ، فقال : « اعدوا لي عليّاً ، فاُتي به أرمد العين ، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح عليه.

ولمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : « اللّهمّ هؤلاء أهلي » (١).

٣ ـ حديث الغدير :

إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر وجيل ، ولسنا بصدد اثبات تواتره وذكر مصادره فقد قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة ، وانّما الهدف ايقاف القارىء على نصوص الخلافة في حقّ علي حتى يقف على أنّ النبيّ الأعظم هوالباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى علي بالامامة والوصاية ، وعلى أنّ مسألة التشيّع قد نشأت قبل رحلته ، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر وقد اعترف بصحّة سنده ، يقول : إنّه 6 خطب بغدير خم تحت شجرات ، فقال : « أيّها الناس انّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله ، وانّي لأظن أنّي يوشك أن اُدعى فاُجيب وانّي مسؤول وانّكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ » قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيراً ، فقال : « أليس تشهدون أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ ناره حقّ وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق بعد الموت وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٦ باب فضائل علي ١٢٠ ـ ١٢١ طبعة محمّد علي صبيح.


اللّه يبعث من في القبور؟ » قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال : « اللّهمّ اشهد » ثمّ قال : « يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولا فهذا ـ يعني عليّاً ـ مولاه اللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه » ثمّ قال : « يا أيّها الناس انّي فرطكم وانّكم واردون عليّ الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصري إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة » وانّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّوجلّ سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنّه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتى يردا عليّ الحوض » (١).

وأخرجه غير واحد من أئمّة الحديث منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال : نزلنا مع رسول 6 بواد يقال له وادي خم ، فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير ، قال : « فخطبنا وظُلِّل لرسول اللّه 6 بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فقال : « ألستم تعلمون ، أولستم تشهدون ، أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟ » قالوا : بلى ، قال : « فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » (٢).

وأخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صحّحها على شرط الشيخين قال : لمّا رجع رسول اللّه من حجّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، فقال : « إنّي دعيت فأجبت ، قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ،

__________________

١ ـ الصواعق ٤٣ ـ ٤٤ ، وأخرجه عن طريق الطبراني وغيره ، وحكم بصحّته.

٢ ـ مسند الامام أحمد ٤ / ٣٧٢ ، وأخرجه الامام أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين ، لاحظ الجزء الرابع الصفحة ٢٨١.


فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ـ ثمّ قال : ـ إنّ اللّه عزّوجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال : ـ من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاده ... » (١).

وأخرجه النسائي في خصائصه عن زيد بن أرقم قال : لمّا رجع النبي من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثمّ قال : « كأنّي دعيت فأجبت ، وانّي تارك فيكم الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه وأهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ـ ثمّ قال : ـ إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال : ـ من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » قال أبوالطفيل : فقلت لزيد : سمعته من رسول اللّه 6؟ فقال : وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه باُذنه (٢).

إنّ سؤال أبي الطفيل يعرب عن حقيقة مرّة ، وهوأنّه يرى التنافي بين مضمون الحديث وعمل الاُمّة ، فإنّ الحديث نصٌّ على ولايته وخلافته والاُمّة صرفتها عن علي ، فلأجل ذاك عاد يتعجّب ويسأل ، وليس التعجّب مختصّاً به ، فهذا هوالكميت يصرّح به في هاشمياته ويقول :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الخلافة لواُطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطراً مبيعا

ولم أر مثل ذال اليوم يوماً

ولم أر مثله حقّاً اُضيعا (٣)

__________________

١ ـ المستدرك ٣ / ١٠٩. مع أنّ الذهبي في تعليقته على المستدرك يعلّق على مواضع من تصحيحات الحاكم صرّح في هذا المقام بصحّة الحديث.

٢ ـ الخصائص العلوية ٢١.

٣ ـ الهاشميات طبعت غير مرّة وشرحها غير واحد من اُدباء العصر كالرافعي المصريّ ، والاُستاذ محمّد شاكر الخياط وقد دبَّ إليها الدسّ والتحريف ، لاحظ الغدير ٢ / ١٨١.


ولوأردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته من الصحابة والتابعين والعلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد ، وقد قام بحمد اللّه أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود (١).

والمهم هودلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعلي بعد الرسول ، ويكفي في ذلك التدبّر في الاُمور التالية :

١ ـ إنّه 6 قال في خطبته : « أنا أولى بهم من أنفسهم ـ ثمّ قال : ـ فمن كنت مولاه » وهذا قرينة لفظية على أنّ المراد من المولى هوالأولى ، فالمعنى أنّ اللّه أولى بي من نفسي ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ومن كنت أولى به من نفسه ، فعلي أولى به من نفسه. وهذا هومعنى الولاية الكبرى للإمام.

٢ ـ ذيل الحديث وهوقوله 6 : « اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » وفي بعض الطرق « وانصر من نصره واخذل من خذله » فإنّه 6 لمّا نصّبه إماماً على الاُمّة بعده ، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال ، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده وفيهم من يحقد عليه ، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء ، فعاد يدعولمن والاه ونصره ، وعلى من عاداه وخذله ، ليتمّ أمر الخلافة ، ولِيُعْلم الناس أنّ موالاته موالاة لله وأنّ عداءه عداؤه ، والحاصل أنّ هذا الدعاء لا يناسب إلا من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.

٣ ـ إنّه 6 أصدر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ، ثمّ قال : إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا

__________________

١ ـ العبقات للسيد مير حامد حسين ( ت ١٣٠٦ ) ، والغدير للعلامة الفذ عبد الحسين الأميني ( ت ١٣٩٠ ) ، وكلاهما من حسنات الدهر.


أولى بهم من أنفسهم ، فقال : « فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ».

٤ ـ إنّه 6 ذكر قبل بيان الولاية قوله : « كأنّي دعيت فأجبت » أوما يقرب من ذلك ، وهويعرب أنّه 6 لم يبق من عمره إلا قليل يحاذر أن يدركه الأجل ، فأراد سد الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب عليّ إماماً وقائداً من بعده.

هذه القرائن وغيرها الموجودة في كلامه ، توجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم ليس إلا إكمال الدين واتمام النعمة من خلال ما أعلن عنه 6 انّ علياً قائد وإمام الاُمّة ، ومن أراد التوسع في الاطلاع على هذه القرائن فليرجع إلى الأثر القيّم الغدير (١).

لا يشك من درس مضمون حديث الغدير وما حوله من القرائن يقف على أنّ المراد منه هونصب علي للامامة والخلافة وهذا هوالذي فهمه الحضّار من المهاجرين والأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين ممّن يُحتجّ بقوله في اللغة ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجال الأدب إلى العصر الحاضر ، وهذا هوحسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسوله اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله :

وقال له قم يا علي فانّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا (٢)

حتى أنّ عمروبن العاص الذي لا يخفى عداؤه لعلي على أحد يقول في قصيدته التي أرسلها إلى معاوية شاكياً إيّاه :

وكم قد سمعنا من المصطفى

وصايا مخصّصة في علي

__________________

١ ـ الغدير ١ / ٣٧٠ ، وقد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هوالمراد من الحديث.

٢ ـ رواة غير واحد من حفاظ الفريقين لاحظ الغدير ٢ / ٣٥ ـ ٣٧.


وفي يوم خم رقى منبراً

وبلّغ والصحب لم ترحل

فأمنحه إمرة المؤمنين

من اللّه مستخلف المنحل

وفي كفّه كفّه معلناً

ينادي بأمر العزيز العلي

وقال : فمن كنت مولى له

علي له اليوم نعم الولي (١)

شبهتان واهيتان :

وقد توالى فهم الاُدباء والعلماء على ذلك في طيّات القرون عبر النظم والنثر.

غير أنّ هناك لفيفاً من الناس ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها ، أبدى شبهتين ضعيفتين نذكرهما على وجه الإجمال :

الشبهة الاُولى :

إنّ المولى يراد به معان مختلفة فمنها ، المحبّ والناصر ، فمن أين علم أنّ المراد بها المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف؟

يلاحظ عليه : أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو: الأولى. قال سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يُؤخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ولاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُم النَّارُ هِي مَوْلاكُمْ وَبِئسَ المَصير ) (٢) وقد فسّره غير واحد من المفسّرين بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم ، غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هوأنّ الاُولى هوالمعنى الوحيد للمولى

____________

١ ـ والقصيدة تربوعلى ٦٦ بيتا ، نقل قسماً منها ابن أبي الحديد في شرحه ١٠ / ٥٦ ـ ٥٧ ونقلها برمتها الأميني في الغدير ٢ / ١١٥ ـ ١١٧.

٢ ـ الحديد / ١٥.


وانّ كلّما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته ، فقد ذكروا له من المعاني سبعة وعشرين معنى ، خلطوا فيها المتعلّق بالمعنى ، ومورد الاستعمال بالموضوع له ، فقد قيل إنّ من معانيه الرب ، والعم ، والمعتق ، والعبد ، والمالك ، والتابع ، والمحب ، والناصر وكلّها متعلّقات للمعنى ، وليس له إلاّ معنى واحد وهوالجامع لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة.

١ ـ فالربّ سبحانه هوأولى بخلقه من أي قاهر عليهم ، خلق العالمين كما شاءت حكمته يتصرّف فيه بمشيئته.

٢ ـ والعم أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والعطف عليه وهوالقائم مقام والده الذي كان أولى به.

٣ ـ و« المعتِق » أولى بالتفضّل على من أعتقه ، كما أنّ المعتق أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه.

٤ ـ والمالك أولى بالتصرّف في ماله وكلاءة مماليكه.

٥ ـ والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

٦ ـ والمحب والناصر أولى بالدفاع عمّن أحبّه أوالتزم بنصرته.

فإذن ليس للمولى إلاّ معنى واحد ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في الموارد المختلفة.

الشبهة الثانية :

المراد أنّه أولى بالإمامة مآلاً وإلاّ كان هوالإمام مع وجود النبي ولا تعرض فيه لوقت المآل ، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له ، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمّة


الثلاثة عليه (١).

وهذه الشبهة من الوهن بمكان ، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة ، وهويستلزم أن لا تعم ولايته جميع الناس والحضّار ، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة ، مع أنّ الشيخين ـ حينما سمعا قول رسول اللّه ـ قالا له : بخ بخ لك يا علي ، أمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (٢).

حصيلة البحث :

إنّ من سبر غضون السير والتواريخ يقف على أنّ النبي الأكرم لم يبرح يدعوالناس إلى علي بالتصريح تارة ، والاشارة اُخرى من بدء الدعوة إلى ختامها. فتارة يعرّفة بأنّه خليفته ووصيّه ووزيره ، واُخرى بأنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى ، وأنّ له كل المناصب الثابتة لهارون إلاّ منصب واحد وهوالنبوّة ، والدليل على ذلك هوالاستثناء « إلاّ أنّه لا نبي بعدي » وقد كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في النبوّة قال سبحانه : ( وأخِى هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنِّى لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنا أَنتَُما وَمنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ ) (٣) وقال سبحانه حاكياً عن موسى : ( وَاجْعَل لِى وَزيراً مِنْ أَهْلِى * هَارُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ٤٤.

٢ ـ مسند أحمد ٤ / ٢٨١.

٣ ـ القصص / ٣٤ ـ ٣٥.


بِنا بَصيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) (١).

وثالثة ينصبه قائداً وإماماً في هواء حار وأرض جافة في محتشد عظيم مبتدئاً كلامه بما يرجع إلى اُصول الدين من أخذ الشهادة من الناس على ولاية اللّه وولاية الرسول ثم يأخذ بيد علي وهوعلى المنبر محرّكاً شعور الحاضرين وليشد القلوب نحوعلي ويقول : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ».

ودلالة هذه الأحاديث على خلافة من عيّنه الرسول على وجه لا ينكره إلاّ مكابر ولا يردّه إلاّ معاند ، وكفانا في الموضوع ما ألّفه أصحابنا حول هذه الأحاديث الثلاثة.

مرجعية أهل البيت الفكرية بعد الرسول :

دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في علي وعترته ، وهناك أحاديث متوفّرة تسوقنا إلى مرجعيتهم الفكرية وأنّهم الأئمة والأوصياء بعد الرسول وأنّه لابدّ للمسلم أن يرجع إليهم في دينه ، ويأخذ عنهم اُصوله وفروعه ، وأنّ النبي الأكرم جعلهم المفزع بعده ، والعترة والكتاب توأمان لايفترقان ، وإليك بعض ما ورد عن الرسول في المقام :

٤ ـ حديث الثقلين :

إنّ النبي الأكرم أيقظ الغافلين وبيّن مرجع الاُمّة بعد رحلته بهتافه الدوي وقال : « يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي

__________________

١ ـ طه / ٢٩ ـ ٣٦.


أهل بيتي » (١).

وقال : « إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (٢).

وقال : « إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٣).

وقال 6 : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وأهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٤).

وقال : « إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (٥).

وقال في منصرفه من حجّة الوداع ونزوله غدير خم : « كأنّي دعيت فاجبت ، انّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٦).

__________________

١ ـ كنز العمال ١ / ٤٤ ، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

٢ ـ كنز العمال ١ / ٤٤ ، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

٣ ـ مسند أحمد ٥ / ١٨٢ ، ١٨٩.

٤ ـ المستدرك للحاكم ٣ / ١٤٨.

٥ ـ مسند أحمد ٣ / ١٧ ـ ٢٦ ، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.

٦ ـ المستدرك للحاكم ٣ / ١٠٩ ، أخرجه من حديث زيد بن أرقم.


٥ ـ حديث السفينة :

إنّ النبي الأكرم يشبّه أهل بيته بسفينة نوح ويقول : « ألا انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق » (١). وفي حديث آخر يقول : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق ، وأنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له » (٢) وفي حديث ثالث : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس » (٣).

ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج اللّه ولفيف من أهل بيته ، وقد فهمه ابن حجر وقال : يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان ، علماؤهم ، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ، ـ وقال في مقام آخر ـ انّه قيل لرسول اللّه : « ما بقاء الناس بعدهم؟ » قال : « بقاء الحمار إذا كسر صلبه » (٤).

والمراد من تشبيههم : بسفينة نوح : أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه واُصوله عن أئمّتهم الميامين نجا من عذاب اللّه ، ومن تخلّف عنهم كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء ، وهذا غرق في الحميم.

والوجه في تشبيههم بباب حطة هوأنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله ، والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة ، وقد جعل انقياد

__________________

١ ـ مستدرك الحاكم بسنده إلى أبي ذر ٣ / ١٥١.

٢ ـ الأربعون حديثاً للنبهاني ٢١٦ ، نقله عن الطبراني في الأوسط.

٣ ـ مستدرك الحاكم بسنده إلى ابن عباس ٣ / ١٤٩.

٤ ـ الصواعق لابن حجر ( الباب الحادي عشر ) : ٩١ ، ١٤٢.


هذه الاُمّة لأهل بيت نبيّها وأتباعهم ، مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة.

ثمّ إنّ ابن حجر قد أوضح حقيقة التشبيه في كلامه وقال : « ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم ، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم ، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال : ـ وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ انّ اللّه جعل دخول ذلك الباب الذي هوباب أريحا أوبيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة ، وجعل لهذه الاُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها » (١).

وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق.

الائمّة الاثنا عشر في حديث الرسول :

إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول ، وإن لم تذكر أسماءهم ، ولكنّها تذكر سماتهم وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر رواها أصحاب الصحاح والمسانيد نذكرها إكمالاً للبحث ، وهي على وجه لا ينطبق إلاّ على من عيّنهم الرسول ووصفهم بالخلافة والزعامة ، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة. والإمعان فيها يرشد القارىء إلى الحق ، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطىء الأمان والحقيقة.

__________________

١ ـ لاحظ الصواعق ( الباب الحادي عشر ) : ٩١ ، وقد علّق سيّدنا الإمام شرف الدين على كلام ابن حجر وقال : قل لي لماذا لم يأخذ بهدي أئمّتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا شيء من اُصول الفقه وقواعده ، ولا شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب فلماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان ( المراجعات ٢٥ ).


ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً وإليك البيان :

الائمة الاثنا عشر :

١ ـ روى البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه يقول : « يكون اثنا عشر أميرا » فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : أنّه قال : « كلّهم من قريش » (١).

٢ ـ روى مسلم عنه أيضاً قال : دخلت مع أبي على النبي 6 فسمعته يقول : « إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » قال ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ ، قال فقلت لأبي : ما قال؟ قال : « كلّهم من قريش ».

٣ ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت النبي 6 يقول : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً » ثمّ تكلّم النبي 6 بكلمة خفيت عليّ فسألت أبي : ماذا قال رسول اللّه 6؟فقال : « كلّهم من قريش ».

٤ ـ وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلاّ أنّه لم يذكر : « لا يزال أمر الناس ماضياً ».

٥ ـ وروى مسلم عنه أيضاً يقول : سمعت رسول اللّه 6 يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : « كلّهم من قريش » (٢).

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٩ / ١٠١ ، كتاب الأحكام ، الباب ٥١ ( باب الاستخلاف ).

٢ ـ صحيح مسلم ٦ / ٣.


٦ ـ وروى مسلم عنه ايضاً قال : انطلقت إلى رسول اللّه 6 ومعي أبي فسمعته يقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة » فقال كلمة صمَّنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال؟ ، قال : « كلّهم من قريش ».

٧ ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت رسول اللّه 6 يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول : « لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (١).

٨ ـ روى أبوداود عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه يقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر » فكبّر الناس وضجّوا ، ثمّ قال كلمة ، خفيت ، قلت لأبي : يا أبه ما قال؟ قال : « كلّهم من قريش » (٢).

٩ ـ روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه : « يكون من بعدي اثنا عشر أميراً » ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الذي يليني ، فقال : قال : « كلّهم من قريش » قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن جابر ، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر (٣).

١٠ ـ روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي يقول : « يكون لهذه الاُمّة اثناعشر خليفة » ورواه عن ٣٤ طريقاً (٤).

١١ ـ روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمّي عند النبي فقال : « لا يزال أمر اُمّتي

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٦ / ٣ ـ ٤.

٢ ـ صحيح أبي داود ٢ ، كتاب المهدي ٢٠٧ ( طبع مصر ) وروى أيضاً نحوه بطريقين آخرين.

٣ ـ صحيح الترمذي ٢ / ٤٥ ( طبع عام ١٣٤٢ ).

٤ ـ مسند أحمد ٥ / ٨٦ ـ ١٠٨.


صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة » ثمّ قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمّي ـ وكان أمامي ـ : ما قال يا عم؟ قال : قال : « كلّهم من قريش » (١).

١٢ ـ وروى أيضاً بسنده عن جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر قال : كنت عند رسول اللّه فسمعته يقول : « لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً حتى يقوم اثناعشر خليفة » و قال كلمة خفيت عليّ وكان أبي أدنى إليه مجلساً منّي فقلت : ما قال؟ فقال « كلّهم من قريش »(٢).

ونحن نكتفي في حديث « الأئمة الاثنا عشر » بالأحاديث الاثنا عشر ولا نتجاوز عنها تيمّناً وتبرّكاً ، ورواه كثير من أعلام الاُمّة في مجامعهم الحديثية والتاريخية.

١ ـ رواه أحمد بسنده عن مسروق قال : كنّا جلوساً عند عبداللّه بن مسعود وهويقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبدالرحمان هم سألتم رسول اللّه كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال عبداللّه بن مسعود : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول اللّه فقال : « اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل (٣).

٢ ـ رواه الخطيب في تاريخه بسند عن جابر بن سمرة (٤).

٣ ـ وقال المتّقي الهندي في منتخب كنز العمّال : يملك هذه الاُمّة اثناعشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل ، وأخرجه عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير ، والحاكم في المستدرك (٥).

__________________

١ ـ المستدرك على الصحيحين ( كتاب معرفة الصحابة ) ٣ / ٦١٧ ـ ٦١٨ ( طبع الهند ).

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ مسند أحمد ١ / ٣٩٨.

٤ ـ تاريخ بفداد ١٤ / ٣٥٣ برقم ٧٦٧٣.

٥ ـ منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد ٥ / ٣١٢.


٤ ـ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ، انّه سئل كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال : سألنا عنها رسول اللّه فقال : « اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل » (١).

٥ ـ قال ابن حجر في الصواعق : أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة انّ النبي 6 قال : « يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش » (٢).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمة بعد النبي الأكرم اثنا عشر ، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم ، غير أنّ المهم هوتعيين مصاديقها والاشارة إلى أعيانها وأشخاصها ، ولا تعلم إلاّ بوجود السمات الواردة في هذه الأحاديث فيهم ، وأمّا السمات الواردة فيها فإليك مختصرها :

١ ـ لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

٢ ـ لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً.

٣ ـ لا يزال الدين قائماً.

٤ ـ لا يزال أمر اُمّتي صالحاً.

٥ ـ لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً.

٦ ـ حتّى يمضي فيهم اثنا عشر.

٧ ـ ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

٨ ـ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.

وهذه السمات والخصوصيات لا توجد مجتمعة إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين ، وتلك الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم

____________

١ ـ تاريخ الخلفاء ١٠.

٢ ـ الصواعق ١٨٩ ط تخريج عبدالوهاب وعبداللطيف.


خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وسيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة.

فالأئمّة الاثناعشر المعروفون بين المسلمين ، أوّلهم علي أميرالمؤمنين ، وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم ، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المثل العليا في سماء الاخلاق وفي القمّة والذروة في العلم والاحاطة بالقرآن والسنّة ، وانّه سبحانه بهم حفظ دينه عن التحريف وبهم اعتزّ الدين.

وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق : « كلّهم تجتمع عليهم الاُمّة » على فرض الصّحة ، فالمراد تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم ، وعلى فرض الابهام ـ لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.

هلمّ معي نقرأ ماذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث ، فكيف يفسّرها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرم؟ وإليك نقل كلامهم :

١ ـ إنّ قوله اثنا عشر اشارة إلى عدد خلفاء بني اُميّة وأوّل بني اُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدتهم اثنا عشر ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير لكونهم صحابة ، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أولأنّه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبداللّه بن الزبير ، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبدالملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبدالعزيز ثم يزيد بن عبدالملك ثم هشام بن عبدالملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد ، ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمّد (١).

__________________

١ ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ / ٢١٢ ط دار المعرفة. وفي المصدر : عدتهم ثلاثة عشر.


يلاحظ عليه : إذا كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الأخبار بذلك. ثمّ كيف يقول انّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح فيقول : « لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً » ، أو« أمر اُمّتي صالحاً » والعجب انّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الاُولى وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية بين قتل ونهب وتدمير.

٢ ـ « إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي » وهذا من أغرب التفاسير لأنّها ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرم ولأجل تبادر ذلك سأل الناس عبداللّه بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الاُمّة (١).

٣ ـ ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض انّ المراد الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس وهم أبوبكر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، ويزيد ، وعبدالملك ، وأولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ، وعمر بن عبدالعزيز بين سليمان ويزيد ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هوالوليد بن يزيد بن عبدالملك (٢).

ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة ، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق

__________________

١ ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ / ٢١٣ ومثله ما نقله أيضاً : اثنا عشر خليفة في جميع مدة الاسلام إلى يوم القيامة.

٢ ـ المصدر نفسه ولاحظ تاريخ الخلفاء ١١.


وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها.

وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك وكفى في مساويه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى (١).

كيف اعتزّ الدين بالوليد بن يزيد بن عبدالملك المنتهك لحرمات اللّه الذي حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فخرج ( فَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيد ) فألقاه ورماه بالسهام وقال :

تهددني بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ماجئت ربّك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد

ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودّت صفحاته بسبب أفعالهم الشنيعة.

إنّ للكاتب القدير السيد محمّد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال : والذي يستفاد من هذه الروايات :

١ ـ أنّ عدد الاُمراء أوالخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش.

٢ ـ أنّ هولاء الاُمراء معيّنون بالنص كما هومقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : ( وَلَقَد أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وبعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً ) (٢).

٣ ـ أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي أوحتّى تقوم الساعة كما هومقتضى رواية مسلم « انّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة » وأصرح من ذلك روايته الاُخرى في نفس الباب : « لا يزال هذا الأمر في قريش

__________________

١ ـ تاريخ الخلفاء ٢٥٠ وغيره.

٢ ـ المائدة / ١٢.


ما بقى من الناس اثنان ».

إذا صحّت هذه الاستفاده فهي لا تلتئم إلاّ مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله 6 وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض.

وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا بالسلطة الظاهرية لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه ، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية ، لأنّ هذا النوع من السلطة هوالذي تقتضيه وظيفته كمشرع ، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم ، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لوتخلّينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولاّها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلاً عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ـ أمويين وعباسيين ـ باتّفاق المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة فلا يحتمل أن يكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها ، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

والسيوطي ـ بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة ـ خرج برأي غريب وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز في بني اُمية وكذلك الظاهر لما اوتيه من العدل ، وبقي الاثنان منتظران ، أحدهما المهدي لأنّه من أهل بيت محمّد ولم يُبيّن


المنتظر الثاني ، ورحم اللّه من قال في السيوطي : انّه حاطب ليل ».

يستفاد من حديث الثقلين اُمور مهمة لواهتمّت بها الاُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت واستغنت عن غيرهم ، وهاهي :

١ ـ إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم إشارة إلى أنّ عندهم علم القرآن وفهمه علماً لائقاً بشأنه.

٢ ـ إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر.

٣ ـ يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

٤ ـ إنّ العترة لا تفارق الكتاب ، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة.

أفيصحّ بعد هذه التصريحات والاشارات ترك العترة والأخذ بقول غيرهم؟

مقتضى الكتاب في صيغة القيادة بعد الرسول :

قد تعرّفت على مقتضى السنّة النبوية في مجال القيادة بعد الرسول ، وكلّها تدل على أنّ الرسول قام بتعيين الوصي بعده ، وعيّن خليفة المسلمين تعييناً شخصياً ، وقد كرّر وأكّد ذلك في مواقف متعدّدة ـ حتّى لا يبقى شكّ ـ وحاول تأكيد الأمر في آخر ساعة من حياته الشريفة عن طريق الكتابة ، ولكن حال بعضهم دون تحقق اُمنية الرسول ، فلم يكتب شيئاً ، وأمرهم بالخروج عن مجلسه ، ونردف ذلك البحث بما وعدناه سابقاً من تبيين مقتضى الكتاب في مسألة الخلافة ، وقد نزلت آيات أوضحها آية الولاية في سورة المائدة ، فنحن نأتي بها مع ما يتقدّمها حتّى تتّضح دلالتها : ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وألنَّصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُم أَولِيَاءُ بَعْض وَمن يَتَوَلَّهُم مَنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمينَ *


فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأَتِىَ بِالْفَتْحِ أوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنيِنَ أَعِزَّة عَلى الكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ وأللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وألَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (١) ، وموضع الاستدلال هوالآيتان الأخيرتان.

وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها :

روى المفسّرون عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلا أتى المسجد وهويقول : من يقرض المليّ الوفي ، وعلي راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم من يدي. فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل بـ : ( إنَّما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) فأنشأ حسّان بن ثابت يقول :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضايعا

وما المدح في ذات الإله بضايع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد

ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايع

__________________

١ ـ المائدة / ٥١ ـ ٥٦.


فأنزل فيك اللّه خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشرايع (١)

وإليك تفصيل الآية حرفياً :

١ ـ الولي والمولى والأولى بمعنى واحد ، قال رسول اللّه : « أيّما امرأة نكحت بغير اذن وليّها فنكاحها باطل ... » (٢) وقال : « يا علي أنت ولي كل مؤمن من بعدي » (٣) ولواُطلق على الناصر والمحب فهوكاطلاق المولى عليهما ، وقد عرفت أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهوالأولى ، فلوأُطلق على الناصر والمحب فلأجل أنّ المحب أولى بالدفاع عن محبوبه والتزامه بنصرته ، والصديق أولى بحماية صديقه ، فتفسير الولي بالمحب والناصر والصديق من باب خلط المتعلّق بالمفهوم.

٢ ـ لوكان المراد من الولي هوالناصر وما أشبهه يلزم الاكتفاء بقوله ( إنّما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا ) من دون حاجة إلى التقييد بإيتاء الزكاة حال الركوع.

٣ ـ لوكان الولي بمعنى الناصر أوالمحب يلزم وحدة الولي والمولّى عليه في قوله : ( والذين آمنوا ) وما هذا إلاّ لأنّ كل مؤمن ناصر لأخيه المؤمن ومحبّ له (٤). مع أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أولياء ثلاثة : ١ ـ اللّه ، ٢ ـ رسوله ، ٣ ـ المؤمنون بالشروط الثلاثة ، وأنّ هناك مولى عليه ، وهوغير الثلاثة ولا يتحقّق

__________________

١ ـ رواه الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ والجصاص في أحكام القرآن ٢ / ٤٤٦ والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٣ وغيرهم.

٢ ـ مسند أحمد ٦ / ٦٦ روتها عائشة عن النبي الأكرم.

٣ ـ مسند أحمد ٤ / ٤٣٧ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١١١.

٤ ـ اللّهمّ أن يقول القائل انّ المؤمنين الموصوفين بالأوصاف الثلاثة أولياء المؤمنين غير الموصوفين بها وهوكماترى تفسير ساقط.


ذلك المعنى إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شؤون المولّى عليه ، فهؤلاء الثلاثة أولياء وغيرهم مولّى عليهم.

٤ ـ فإذا كانت الحال كذلك فلماذا أفرد الولي ولم يجمعه؟ والجواب عنه واضح ، وهوأنّه أفرده لإفادة أنّ الولاية للّه على طريق الأصالة وللرسول والمؤمنين على سبيل التبع ، ولوقيل إنّما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع.

٥ ـ إنّ قوله ( الذين يقيمون ) بدل من ( الذين آمنوا ) كما أنّ الواوفي قوله ( وهم راكعون ) للحال ، وهوحال من قوله ( يؤتون الزكاة ) معنى ذلك انّهم يؤتونها حال ركوعهم في الصلاة.

٦ ـ إذا كان المراد من قوله : ( الذين آمنوا ) هوالإمام علي بن أبي طالب 7 فلماذا جيئ بلفظ الجماعة؟ والجواب : جيئ بها ليرغّب الناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقّد الفقراء حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروا إلى الفراغ منها (١).

وهناك وجه آخر ، وهوأنّه أتى بلفظ الجمع دون المفرد لأجل أنّ شانئي علي وأعداء بني هاشم ، وسائر المنافقين من أهل الحسد والحقد ، لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد ، إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في تمويهٍ ، ولا ملتمس في التضليل ، فيكون منهم ـ بسبب يأسهم ـ حينئذ ما تُخشى عواقبه على الإسلام ، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاء من معرّتهم ، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعدّدة وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً

__________________

١ ـ الكشاف ١ / ٤٦٨ طبع مصر الحلبي.


حتّى أكمل اللّه الدين وأتمّ النعمة ، جرياً منه 6 على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم (١).

وهناك وجه ثالث أشار إليه الشيخ الطبرسي في تفسير الآية ، وهوأنّ النكتة في اطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ، تفخيمه وتعظيمه ، وذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (٢).

٧ ـ إنّما ذكر من صفات الولي من الذين آمنوا إقامة الصلاة ، وايتاء الزكاة ، لأنّهما ركنان عظيمان للإسلام ووظيفتان رئيسيتان للقائد ، وهوأن يقيم الصلاة ( لا أن يصلّي وحده ) ويؤتي الزكاة.

وعلى كل تقدير فتقييد الولي من المؤمنين بالاُوصاف الثلاثة ، وتقييد إيتاء الزكاة بحال الركوع يجعل الكلّي مخصّصاً في فرد واحد ، وهومثل قولك : « رأيت رجلاً سلّم عليّ أمس قبل كل أحد » وهووإن كان كلّياً قابلاً للانطباق على كثيرين قبل التطبيق ، لكنّه بعده ينحصر في فرد.

ثمّ إنّ إمام المشكّكين فخر الدين الرازي استشكل على الاستدلال بالآية بوجوه رديئة ساقطة نذكر بعضها ونترك الباقي صيانة للوقت عن الضياع ، ولعلّه لأجل هذه التشكيكات لمّا دنا أجله أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الاصفهاني وصيّة في الحادي والعشرين من محرّم سنة ٦٠٦ ، وجاء في الوصيّة قوله : فاعلموا أنّي كنت رجلا محبّاً للعلم ، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمّيته وكيفيته ،

__________________

١ ـ المراجعات ١٤٦.

٢ ـ مجمع البيان ٢ / ٢١١.


سواء أكان حقّاً أو باطلا أو غثّاً أو سميناً ... (١).

ألف ـ إنّ المراد من الولي في الآية ليس هو المتصرّف ، بل المراد الناصر والمحب ، بشهادة ما قبلها وما بعدها ، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنّه تعالى قال :(إنما وليّكم اللّه ورسوله والذّينَ آمنوا) وأما بعد هذه الآية فلقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) وليس المراد لاتتّخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرّفين في أرواحكم وأموالكم ، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم. بل المراد لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ، ثمّ لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) ـ المائدة/٥٧ ـ (٢).

حاصل التشكيك هو أنّ الولي في الآية المتقدّمة والمتأخّرة بمعنى المحب والناصر فلو فسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك.

والجواب أنّ الولي في الآية المتقدّمة عليها والمتأخّرة عنها ، وفي نفسها بمعنى واحد ليس له في جميع المقامات إلاّ معنى واحد وهو الأولى ، غير أنّه يختلف متعلّق الولاية جوهراً أوّلا وسعة وضيقاً ثانياً ، حسب اختلاف موصوفها ومن قامت به الولاية. فلو كان الولي هو اللّه والرسول فيكون متعلّق الولاية هو النفس والنفيس ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فكيف بأموالهم ، فهما أولى بالتصرّف في كل مايمت إلى المؤمنين.

ولو كان الولي من الأب والجد ، يكون المتعلّق شؤون الصغير ومصالحه ،

____________

١ ـ دائرة المعارف لفريد وجدي ٤ / ١٤٨.

٢ ـ مفاتيح الغيب ١٢ / ٢٨.


من حفظ نفسه وعرضه وماله. فيكون أولى بالتصرّف من الصغير في أمواله وشؤونه ، ومنها تزويجه بالغير.

ولو كان الموصوف رئيس القبيلة ، حيث كان الرائج في عهد الجاهلية ، عقد ولاء الدفاع بين القبيلتين ، فيكون هو أولى بالدفاع عن المنتمي في النوائب والنوازل ، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة حسب الموصوف.

وبذلك يظهر أنّ المراد من الأولياء في قوله ( لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) هو الأولى لما ستعرف من أنّها نزلت في حق ( عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبيّ ) واليهود ، وكان بينهما وبين اليهود عقد ولاء الدفاع فكان كل من الطرفين وليّاً للآخر ، أي أولى بالدفاع والذب عن المولى عليه من غيره. قال المفسّرون : نزلت في حق عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبي بعد غزوة بدر ، حيث لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : آمنوا قبل أن يُصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر ، فقال مالك بن ضيف ( اليهودي ) : أغرّكم أن اصبتم رهطاً من قريش لاعلم لهم بالقتال ، أما لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يدان لقتالنا ، فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّ لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم قويّة أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وانّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلاّ اللّه ورسوله. فقال عبداللّه بن اُبي : لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأنّي أخاف الدوائر فلابد لي منهم. فقال رسول اللّه : « يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه » قال : اذن اقبل ، وأنزل اللّه الآية (١).

فقد اتّخذ الرجلان اليهود أولياء ليتفرّع عليه النصرة والذبّ كما أنّه سبحانه

__________________

١ ـ مجمع البيان ٢ / ٢٠٦ وغيره.


جعل الأب والجد أولياء ليتفرّع عليه حفظ شؤون المولى عليه ، وعلى ضوء ذلك فالولي في جميع المقامات بمعنى واحد ، والاختلاف انّما هو فيما يتفرّع على الولاية ، لا أنّه تارة بمعنى الأولى وثانياً بمعنى الناصر وثالثاً بمعنى المحب.

ب ـ والّذي يرشدك على أنّ الولي في قوله سبحانه : ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تتََّخذوا اليهود والنصارى أولياء ) ليس بمعنى الحب والمحبّة كما احتمله الرازي ، انّه ورد نظير هذا النص في قوله سبحانه : ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) وليس الولي بمعنى المحبوب. وذلك لأنّ حب الآباء والاخوان أمر فطري ، فطرالناس عليه من غير فرق بين الكافر والمسلم ، ولو كان المراد من التولّي هو الحب يلزم النهي عن أمر جبلّيّ ولأجل ذلك لا محيص عن تفسيره باتخاذهم أولياء على غرار اتخاذ الرسول والإمام أولياء ، بأن تكون ولايتهم على أعناق المؤمنين ، كما أنّه ليس أيضاً بمعنى النصرة لجواز طلب النصرة من الكافر وهذا هو القرآن يجعل شيئاً من الزكاة للمؤلّفة قلوبهم.

ج ـ إنّ قوله ( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم ) يحكي عن أنّ التولّي على وجه يلحق المتولّي باليهود والنصارى ، وهو لا ينطبق على مجرّد الحب وطلب النصرة والحبّ لا لأجل كونهم كافرين ، بل لأسباب اُخرى من حسن الجوار وغيره.

د ـ إنّه سبحانه يندّد ببعض المؤمنين بقوله : ( يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه ... ) وهذا يعرب عن أنّ التولّي كان على وجه ينتهي إلى ارتداد المتولّي.

__________________

١ ـ التوبة / ٢٣.


أفبعد هذه القرائن يصح للرازي أن يفسّر التولّي في هذه الآيات بالحب والنصرة. على أنّ تفسير ولاية اللّه والرسول بالحبّ والنصرة تفسير بأمر واضح لا يحتاج إلى زيادة تأكيد.

هذه هي الشبهة المهمّة في كلامه ، وأمّا باقي الشبهات ، فليس بشيء ذي بال.

مثلا يقول : لو نزلت الآية في حق علي ، يجب أن يكون نافذ التصرّف حال حياة الرسول ، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال (١).

والجواب : انّ هذا المقام كان ثابتاً لعلي كثبوته للّه سبحانه والرسول ، غير أنّه لا يقوم بتطبيقه على صعيد الحياة إلاّ عند الحاجة ، وهو عند ارتحال الرسول ومفارقته الاُمّة ، وهذا هو المفهوم من تعيين ولي العهد عند الاُمم.

وأنت إذا قارنت الآية وما ورد حولها من شأن النزول ، وما نزل في حق علي من الآيات التي تعرّف طهارته من الذنب (٢) ، وكون حبّه ومودّتهم أجراً للرسالة (٣) ، وانّه نفس النبي الأكرم (٤) ، وانّ بيته من أفضل البيوت التي قال في حقّها سبحانه : ( فِي بُيُوتٍ أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ ) ـ النور / ٣٦ ـ (٥) لوقفت على أنّ الذكر الحكيم يواكب السنّة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في مجال القيادة

__________________

١ ـ مفاتيح الغيب ١٢ / ٢٨.

٢ ـ اشاره إلى نزول قوله سبحانه : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) في حق علي وأهل بيته ـ الأحزاب / ٣٣ ـ.

٣ ـ اشاره إلى قوله سبحانه : ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى ) ـ الشورى / ٢٣ ـ.

٤ ـ إشاره إلى قوله سبحانه في أمر المباهلة مع نصارى نجران : ( فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) ـ آل عمران / ٦١ ـ.

٥ ـ إشاره الى ما رواه السيوطي في الدر المنثور من قول أبي بكر للنبىّ بعد نزول الآية : قال يا رسول اللّه أهذا البيت منها ـ أي بيت علي وفاطمة ـ؟ قال : هم من أفاضلها ٥ / ٥٠.


والخلافة وأنّه سبحانه ألقى مقاليد الزعامة إلى الإمام أميرالمؤمنين ، وبذلك أخرج الاُمّة من التنازع والاحتكاك بعد الرسول الأعظم.

ونحن نكتفي من البرهنة على خلافة الإمام بهذه الآية ، وهناك آيات استدلّ بها الأصحاب على ولاية الإمام ، ونفي ولاية الغير ، أوضحنا مداليلها في مؤلفاتنا الكلامية ، فمن أراد فليرجع (١).

__________________

١ ـ الإلهيات ٢ / ٦١٨ ـ ٦٣٢.



الفصل الرابع

ما هو السرّ

في مخالفة الجمهور نص الرسول 6



لقد ظهرت الحقيقة بأجلى صورها وثبت أنّ الرسول لم يرحل عن أُمّته إلاّ بعد أن نصّب علياً للخلافة والقيادة ، ولكن هناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه لو كان الحق كما نطقت به النصوص كتاباً وسنّة ، فلماذا أعرض الجمهور عن ما اُمروا أن يتمسّكوا به؟ وهذه هي الشبهة المهمّة في الباب وهذا هو السؤال الذي ترك العقول متحيرة تبحث عن جواب مقنع ، وقد اعتمد على ذلك بعض المنصفين من أهل السنّة في ردّه لمذهب أهل البيت : ، فقال : اُنظر إلى جمهور أهل القبلة والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فإذا هم مع أهل البيت على خلاف ما توجبه ظواهر تلك الأدلّة ، فانا اُؤامر منّي نفسين ، نفساً تنزع إلى متابعة الأدلّة واُخرى تفزع إلى الأكثرية من أهل القبلة (١).

والاجابة عن الشبهة سهلة لمن راجع التاريخ وسيرة الصحابة في عصر الرسول وبعده. فإنّ القرآن الكريم رغم أمره باتباع الرسول وعدم التقدّم عليه (٢) ، ورغم أمره

__________________

١ ـ من كلام شيخ الأزهر الشيخ سيلم البشري في رسالته إلى السيد شرف الدين ، لاحظ المراجعات ص ٢٥ ، رقم المراجعة ١١.

٢ ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ـ الحجرات


بالتسليم له وأنّ الايمان رهنه (١) ، ورغم أنّه يندّد ببعض المسلمين الذين كانوا يتمنّون طاعة الرسول لهم في بعض المواقف وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِِ لَعَنِتُّمْ ) (٢). رغم كل ذلك نشاهد رجالاًٍ يقفون أمام النبي في غير واحد من المواقف ويخالفونه بعنف وقوّة ويقدّمون الاجتهاد والمصالح الشخصية على أوامر الرسول في مواطن كثيرة ، وإليك نزراً يسيراً منها وبالالمام بها تسهل عليك الاجابة عن السرّ في مخالفة عدّة من الأصحاب لأمر النبي في مسألة الوصاية والقيادة :

١ ـ اختلافهم مع النبي في الأنفال والاُسرى :

انتصر المسلمون في غزوة بدر وجمع غير واحد من المسلمين ما في معسكر العدو فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين يقاتلون العدوّ ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين يحرسون رسول اللّه : ما أنتم بأحقّ به منّا واللّه لقد رأينا أن نقتل العدوّ إن منحنا اللّه أكتافهم ، و قد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه فخفنا على رسول اللّه كرّة العدوّ فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منّا. فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِِن كُنتُم مُؤمِنينَ ) ـ الأنفال / ١ ـ (٣).

وأمّا اختلافهم في الأسرى فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أنْ

____________

١ ـ ( فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوْا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) ـ النساء / ٦٥ ـ.

٢ ـ الحجرات / ٧.

٣ ـ السيرة النبوية لابن هشام ١ / ٦٤١ ـ ٦٦٢.


يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللّهُ عِزِيزٌ حَكِيمٌ * لولا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظيمٌ )(١). نحن نضرب الصفح عمّا ذكره المفسّرون حول الآية من القصص غير أنّ قوله سبحانه ( لولا كتاب ... ) يعرب عن أنّهم اختلفوا إلى حدّ كانوا مستحقّين لنزول العذاب لولا سبق كتاب من اللّه ، ومن الجرأة ما يظهر عن بعض المفسّرين (٢) من أنّ العتاب يعم النبي أيضاً مع أنّ نبيّ العظمة أجلّ من أن يشاركهم في العتاب فضلاًً عن العقاب وحاشا ساحة الحق أن يهدّد نبيّه بعذاب عظيم وقد عصمه من المعاصي ، والعذاب العظيم لا ينزل إلاّ على عمل اجرامي كبير ، ونحن لا نفسّر الآية ولا نريد أن نخوض في خصوصيّات القصة ويكفينا أنّها تكشف عن تباعد المؤمنين عن النبىّ في مسألة الأسرى إلى حدّ استحقّوا هذا التنديد.

٢ ـ مخالفتهم الأمر الرسول في اُحد :

ورد رسول اللّه اُحد حين بلغه أنّ أباسفيان يريد شنّ هجوم على المدينة ، واستقبل الرسول المدينة وجعل جبل عينين عن يساره ، ونصب خمسين رجلاً نبّالاً على جبل عينين وأمَّر عليهم عبداللّه بن جبير وقال له : « انضح الخيل عنّا بالنبل ، لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك لا تؤتين من قبلك ».

ولمّا صار الانتصار حليف المسلمين وأخذ العدو بالانسحاب عن ساحة القتال مولّياً نحو مكّة ، خالف الرماة أمر الرسول وأخلوا مكانهم طمعاً في الغنائم ، فكلّما نصحهم أميرهم بالبقاء وعدم ترك العينين خالفوه.

____________

١ ـ الأنفال / ٦٧ ـ ٦٨.

٢ ـ لاحظ الأقوال في الميزان ٩ / ١٣٧.


ولمّا رأى العدو المنهزم أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة ، وكان جبل العينين يقع على ضفتين يتخلّلهما معبر ، فاستغل العدو الفرصة فأدار خالد بن الوليد من معه من وراء المسلمين ، فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة منهم ، فوضع السيوف فيهم فقتل منهم لفيفاً إلى أن تحوّل النصر إلى هزيمة ، وكان ذلك نتيجة مخالفة المسلمين لوصيّة الرسول ، وتقديماً للاجتهاد على النص ، والرأي الخاطئ على الدليل ، وكم له من نظير في حياة النبي 6 وبعد وفاته.

٣ ـ مخالفتهم في صلح الحديبية :

دخلت السنة الثالثة للهجرة واشتاق النبي إلى زيارة بيت اللّه فأعدّ العدّة للعمرة ومعه جمع من أصحابه وليس معهم من السلاح إلاّ سلاح المسافر فلمّا وصلوا إلى أرض الحديبية ، منعوا من مواصلة السير ، فبعد تبادل الرسل بينه وبين رؤساء قريش اصطلحوا على وثيقة ذكرها أصحاب السيرة في كتبهم. فكانت نتيجة تلك الوثيقة رجوع النبي إلى المدينة ومجيئه في العام القابل للزيارة ، وقد ذكر فيها شروط للصلح أثارت حفيظة بعض المسلمين ، حتّى أنّ عمر بن الخطاب وثب فأتى أبابكر فقال : « أليس برسول اللّه؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى ، قال : فعلان نعطى الدنيّة في ديننا » (١).

فقد زعم الرجل أنّ البنود الواردة في صلح النبي تعني اعطاء الدنية في الدين ، حتّى أنّ النبي أخبرهم حين الشخوص من المدينة أنّ اللّه سبحانه أراه في المنام أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فلمّا انصرفوا ولم يدخلوا مكّة ، قالوا : ما حلقنا ولا

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٣١٦ ـ ٣١٧.


قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه سبحانه قوله : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الَحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنينن ) (١).

ولو أراد المتتبّع أن يتعمّق في السيرو التفاسير يجد أنّ مخالفة القوم للرسول لم تكن مختصّة بموضوع دون موضوع ، فكان تقديم الاجتهاد على النص شيئاً رائجاً عندهم ولنكتف في المقام بالمخالفتين الأخيرتين أيّام مرض وفاته.

٤ ـ مخالفتهم في تجهيز جيش اُسامة :

اتّفق المؤرّخون على أنّ النبي الأكرم أمر بتجهيز جيش اُسامة فقال : « جهّزوا جيش اُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه » فقال قوم : « يجب علينا امتثال أمره » واُسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : « قد اشتدّ مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه ، فنصبر حتّى ننظر أي شيء يكون من أمره » (٢).

هذا ما يذكره الشهرستاني ملخّصاً ، وذكره المؤرّخون على وجه التفصيل ، فقال الطبري في أحداث سنة احدى عشرة : « وضرب على الناس بعثاً وأمّر عليهم اُسامة بن زيد ، وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشام الأرض بالأردن ، فقال المنافقون في ذلك ، وردّ عليهم النبي 6 : « إنّه لخليق لها أي حقيق بالامارة وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل ، وإن كان لخليقاً لها » فطار الأخبار بتحلل السير بالنبي 6 (٣).

ويقول أيضاً : « لقد ضرب بعث اُسامة ، فلم يستتبّ لوجع رسول اللّه وقد أكثر

__________________

١ ـ الفتح / ٢٧.

٢ ـ الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٢٩ ـ ٣٠ ( تحقيق محمّد بن فتح اللّه بدران ).

٣ ـ تاريخ الطبري ٢ / ٤٢٩.


المنافقون في تأمير اُسامة ، فخرج النبي 6 على الناس عاصباً رأسه من الصداع لذلك وقال : « وقد بلغني أنّ أقواماً يقولون في أمارة أُسامة ، ولعمري لئن قالوا في أمارته لقد قالوا في أمارة أبيه من قبله ، وإن كان أبوه لخليقاً للامارة وانّه لخليق لها بعد اُسامة » وقال : « لعن اللّه الذين يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد » (١) فضرب بالجرف وأنشأ الناس في العسكر ، ونجم طليحة وتمهّل الناس وثقل رسول اللّه 6 فلم يستتم الأمر ينظرون أوّلهم آخرهم حتّى توفّى اللّه نبيّه » (٢).

وقد ذكر القصة ابن سعد في طبقاته (٣) ، والحلبي في سيرته (٤) ، ومن أراد التوسّع فليرجع إليهما.

٥ ـ مخالفتهم النبي 6 في احضار القلم والدواة :

عن ابن عباس قال : « لمّا اشتدّ بالنبي 6 وجعه ، قال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده » قال عمر : إنّ النبي 6 غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال 6 : « قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع » فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّه 6 وبين كتابه (٥).

__________________

١ ـ لا يخفى أنّه لاصلة لهذه الجملة لما قبل القصة وما بعده ولعلّه تحريف لما نقلناه عن الشهرستاني من أنه لعن المتخلّفين فبدّله الراوي بهذا.

٢ ـ تاريخ الطبري ٢ / ٤٣٠.

٣ ـ الطبقات ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٠.

٤ ـ السيرة ٣ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٥ ـ صحيح البخاري ١ باب كتابة العلم ٣٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٤٢ وجاء فيه : فقال بعض من كان عنده انّ نبي اللّه ليهجر.


إنّ الراوي نقل الرواية بالمعنى كي يخفف من شدة الصدمة التي تحصل فيما لو نقل الرواية بألفاظها والشاهد على ما نقول أنّ البخاري نفسه روى الرواية بشكل آخر أيضاً ، فروى عن ابن عباس إنّه كان يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ثمّ بكى حتّى بلّ دمعه الحصى قلت : ياابن عباس ما يوم الخميس؟ قال : اشتدّ برسول اللّه وجعه فقال : « ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً » فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما له؟ أهجر ، استفهموه ، فقال : « ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه » فأمرهم بثلاث قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » والثالثة خير إمّا أن سكت عنها وإمّا أن قالها فنسيتها » (١).

ولعلّ الثالثة التي نسيها الراوي هو الذي كان أراد النبي أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ولكن ذكره شفاهاً عوض كتابته ، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه.

ولعلّ النبي أراد أن يكتب في مرضه تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين وتشهد بذلك وحدة لفظهما ، حيث جاء في الثاني : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي ».

وقد فهم الخليفة ما يريده رسول الإسلام وحدّث به بعد مدة من الزمن لابن عباس فقال له يوماً : يا عبداللّه إنّ عليك دماء البدن إن كتمتها ، هل بقي في نفس علي شيء من الخلافة؟ قال ابن عباس : قلت : نعم ، قال : أو يزعم أنّ رسول اللّه نصّ عليه؟ قلت : نعم ، فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه في أمره ذروة من قول لا تثبت حجّة ، ولا تقطع عذراً ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٤ باب اخراج اليهود من جزيرة العرب ٩٩.


فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام ، فعلم رسول اللّه انّي علمت ما في نفسه فأمسك (١).

والعجب أنّ أحمد أمين مع ما يكن على الشيعة من عداء وقسوه يعترف بما ذكرنا بصراحة.

أراد رسول اللّه 6 في مرضه الذي مات فيه أن يعيّن من يلي الأمر بعده ففي الصححين : البخاري ومسلم أنّ رسول اللّه لمّا اصفرّ قال : هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلب عليه الوجع (٢) وعندكم القرآن. حسبنا كتاب اللّه فاختلف القوم واختصموا فمنهم من قال : قرّبوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من قال القول ما قاله عمر فلمّا أكثروا اللغو (٣) والاختلاف عنده 6 قال : قوموا فقاموا. وترك الأمر خصوصاً لمن جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة حتّى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين (٤).

هذه نماذج من مخالفة القوم لصريح النصوص الصادرة عن النبي الأكرم ، وكل ذلك يعرب عن فقدانهم روح التسليم للنبي ولأحكامه ، فلم يكونوا ملتزمين بما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم من النصوص ، نعم ، ربّما يوجد بينهم من كان أطوع

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٣ / ١٧ ، وكأنَّ الرجل كان أشفق على الإسلام من رسول اللّه 6.

٢ ـ وفي موضع آخر في صحيح البخاري : أنّه قال « إنّ الرجل ليهجر ».

٣ ـ والصحيح : اللغط.

٤ ـ أحمد أمين يوم الإسلام : ٤١.


للنبي من الظل لذي الظل ، ولكن المتنفّذين لم يكونوا متعبّدين بالنصوص فضلاًً عن تعبّدهم بالاشارات والرموز ، وربّما كانوا يقابلون النبي بكلمات عنيفة يقابل بها من هو أقل منه شأناً.

وياليت انّهم اكتفوا في مجال المخالفة للنصوص أثناء حياته ، ولكنّهم خالفوها بعد وفاته أكثر ممّا خالفوها أيّام حياته ، يقف على ذلك من سبر التاريخ وسيرة الخلفاء في غير واحد من المجالات.

ولقد حاول الشهرستاني في ملله ونحله (١) ، والسيد الشريف في شرح المواقف (٢) تحديد بدء الخلاف بين المسلمين بأيّام مرض النبي عندما كان طريح فراشه. ولكن ذلك التحديد من حسن ظنّهما بالصحابة وأنّهم كلّهم عدول ، غير أنّك عرفت أنّ تاريخ الخلاف يرجع إلى بدايات الهجرة ، وقد اكتفينا بموارد خمسة وضربنا الصفح عن ذكر موارد اُخرى.

هذا كلّه يرجع إلى مخالفتهم الرسول فيما يأمر وينهى أيّام حياته ، وأمّا مخالفتهم لنصوص الرسول بعد رحلته فحدّث عنها ولا حرج.

١ ـ التصرّف في أذان الفجر :

أخرج الإمام مالك في موطئه : انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح ، فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

وقال الزرقاني في تعليقته على هذه الكلمة من شرحه للموطأ ما هذا لفظه : هذا

____________

١ ـ الملل وألنحل ١ / ٢٩ ، ولاحظ التبصير في الدين للاسفرائيني ١٩.

٢ ـ شرح المواقف ٨ / ٣٧٢.


البلاغ أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنّفه عن العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنّه قال لمؤذّنه : إذا بلغت حيّ على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم (١).

٢ ـ الحيلولة بين فاطمة وميراثها :

استفاضت الآيات باطلاقاتها تارة ونصوصها تارة اُخرى على أنّ أولاد الأنبياء يرثون آباءهم كسائر الناس أمّا الاطلاقات فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (٢) وأمّا النصوص فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُدَ ) (٣) وقال سبحانه ناقلا عن زكريا : ( فَهَبْ لِى مِن لَدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وأجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (٤).

إنّ طلب زكريا من اللّه سبحانه أن يهبه ولداً وأن يجعله رضيّاً لأوضح دليل على أنّ المراد من الوراثة ، الوراثة في المال لا النبوّة ، لبداهة أنّ الانسان لا يكون نبيّاً إلاّ أن يكون رضيّاً ، على أنّ لفظ الوراثة وما يشتق منه ظاهر في الوراثة في المال ولا يستعمل في غيره إلاّ توسّعاً ومجازاً ومع ذلك فقد خالفت القيادة بعد رسول اللّه هذا النص وحرّمت فاطمة من ميراث أبيها بحجّة أنّه سمع من النبي قوله : نحن الأنبياء لا نورث ، مع أنّه لو صحّ هذا الحديث لكان على النبي أن يذكره لورّاثه حتّى لا يقعوا في الخطأ ولا يطلبوا شيئاً ليس لهم ، فهل أنّ النبي أهمل هذا البيان اللازم وذكره لغير

__________________

١ ـ الموطأ باب ما جاء من النداء في الصلاة الحديث ٨ ، والموطأ مع شرح الزرقاني ١ / ١٥٠ طبع مصر.

٢ ـ النساء / ١١.

٣ ـ النمل / ١٦.

٤ ـ مريم / ٥ ـ ٦.


وارثه؟

روى البخاري عن عائشة : انّ فاطمة 3 بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبوبكر : « إنّ رسول اللّه 6 قال : « لا نورث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال » ، وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه » فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر ، فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبي 6 ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلا ، فلم يؤذِن بها أبابكر ، وصلّى عليها (١).

وقال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر ـ رضى اللّه عنهما ـ : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقاجميعاً فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّاً فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوَّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها فلم ترد السلام ، فتكلّم أبوبكر وقال : يا حبيبة رسول اللّه ، واللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ اليّ من قرابتي ، وانّك لأحبّ اليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا ابقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنَعْك حقّك وميراثك من رسول ، إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللّه يقول : « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » (٢).

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الرسول الأعظم وكذا كل من يتولّى الحكومة الإسلامية تكون له ملكيتين : ملكية شخصية تتعلّق بنفسه ويتصرّف فيها بما أنّها ماله الشخصي ، وملكية تتعلّق بمقام الرسالة ويتصرّف فيها بما أنّه رسول وممثّل

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٥ باب غزوة خيبر ١٣٩.

٢ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٣.


الدولة الإلهية ، والقسم الثاني من الملكيتين لا تورث بل تنتقل إلى من يمارس المسؤولية بعده. ونحن نربأ بفاطمة أن تطالب أبابكر بالأموال التي تعد من شؤون الدولة الإسلامية وانّما جاءت لتطلب ما كان ملكاً خاصّاً لأبيها ، بما أنّه أحد الناس والمسلمين ، يملك ما شاء باحدى الطرق الشرعية ويرثه أولاده بعده.

ثانياً : أنّ ما يرويه البخاري عن الخليفة أنّه قال : « وإنّي واللّه لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها » واقع في غير محلّه لأن حبيبة رسول اللّه لم تطلب منه صدقات أبيها حتّى تجاب بأنّ الصدقة لا تتغيّر ولا تتبدّل وأنّما سألته أن يدفع لها ما ملكه رسول اللّه ونحله لبنته أعني فدك أيّام حياته عندما نزل قوله سبحانه : ( وَآتِ ذَالقُرْبى حَقَّهُ وألمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (١).

نحن نفترض أنّ الرسول قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، ولكن من المحتمل جدّاً ، أنّ الفعل « لا نورث » فعل معلوم لا مجهول ومعناه نحن معاشر الأنبياء لا نورث الأشياء التي تركناها صدقة ، فيكون لفظة ما مفعولاً للفعل المبني على الفاعل وعند ذلك لاصلة للحديث بكل ما يتركه النبي حتّى أمواله الشخصية والمقصود النهائي هو أنّ الصدقة لا تورث كالزكاة وأمثالها.

٣ ـ النهي عن متعة الحج :

قال سبحانه : ( فَمَنْ تَمَتَّع بِالعُمْرَةِ اِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ (٢) فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِى الحَجِّ وَسبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ

__________________

١ ـ الاسراء / ٢٦.

٢ ـ أي فعليه ما يتيسّر له من الهدي ، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج ، وهي يوم السابع من ذي الحجّة وتنتهي بيوم عرفة ، والتمتّع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكّة ومن يجري مجراهم في القرب إليها.


لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المَسْجِدِ الحَرَامِ )(١).

إنّ صفة التمتّع بالعمرة إلى الحج عبارة عن الاحرام في أشهر الحج من احدى المواقيت ، ثم الدخول إلى مكّة للطواف بالبيت والصلاة بعده ، والسعي بين الصفا والمروة ثم التقصير وعندئذ يحلّ له كل ما كان محرماً عليه ، فيقيم على هذه الحالة حتّى ينشأ في تلك السنة احراماً آخر للحج ويخرج إلى عرفات ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ، إلى آخر الأعمال ، هذا هو التمتّع بالعمرة إلى الحج ، وانّما اُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع وقال سبحانه : ( فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إلى الحجّ ) لما فيه من المتعة واللذّة باباحة محرمات الاحرام في المدّة المتخلّلة بين الاحرامين من غير فرق بين محرَّم وآخرَ حتّى مسِّ النساء.

هذا هو الذي شرّعه القرآن وخالفه بعض أصحاب السلطة ، روى مالك عن سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه عزّوجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فإنّ عمر قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول اللّه 6 وصنعناها معه (٢).

روى أحمد بن حنبل عن أبي موسى : انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك بعدك ، حتّى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : قد علمت أنّ النبي 6 قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهن معرسين في الاراك ثمّ يروحون بالحج

____________

١ ـ البقرة / ١٩٦.

٢ ـ موطأ مالك ٢٣٥ باب ما جاء في التمتّع برقم ٧٦٧.


تقطر رؤوسهم (١).

وروى أيضاً عن طريق آخر عنه : انّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : هي سنّة رسول اللّه ـ يعني المتعة ـ ولكن أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ، ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً (٢).

وقد استفاض القول عن الخليفة انّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما (٣).

قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء في أنّ التمتّع جائز وأنّ الإفراد جائز ، وأنّ القِران جائز لأنّ رسول اللّه 6 رضي كلاّ ولم ينكره في حجّته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ... احتجّ من فضّل التمتّع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ـ يعني متعة الحج ـ وأمرنا بها رسول اللّه 6 ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول اللّه حتّى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء (٤).

٤ ـ اسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول :

ورد النص في الذكر الحكيم على أنّ لذي القربى سهم من الخمس قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِن شَىْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَللرَّسُولِ وَلِذِى

__________________

١ ـ مسند أحمد ١ / ٤٩ ـ ٥٠.

٢ ـ مسند أحمد ١ / ٤٩ ـ ٥٠.

٣ ـ تفسير الامام الرازي ٥ / ١٦٧ وفسّر الآية بالتمتّع بمحظورات الاحرام ، وشرح التجريد للمحقّق القوشجي ( وهو من أئمة الأشاعرة ) : وقد عدّه من اجتهاد الخليفة. نعم هو من اجتهاده مقابل النص.

٤ ـ الجامع لأحكام القرآن ٢ / ٣٨٨.


القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُم آمَنْتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ) (١). وقد أجمع أهل القبلة على أنّ الرسول كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر. وأنّه لم يعهد تغيير ذلك حتّى دعاه اللّه إليه. غير أنّ أصحاب السلطة بعد الرسول أسقطوا سهم بني هاشم من الخمس ، وجعلوهم كغيرهم من يتامى النساء ومساكينهم وأبناء السبيل منهم ، وقد عرفت في المخالفة الثالثة أنّ فاطمة 3 طلبت من أبي بكر ما بقى من خمس خيبر.

ويشهد بذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنّه كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذي القربى ، وعن اليتيم متى ينقضي يتمه ، وعن المرأة والعبد يشهدان الغنيمة ، وعن قتل أطفال المشركين ، فكتب إليه ابن عباس : انّك كتبت اليّ تسأل عن سهم ذي القربى لمن هو؟ وانّا كنّا نراها لقرابة رسول اللّه 6 فأبى ذلك علينا قومنا. وعن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ قال : إذا احتلم ... (٢).

هذا وقد نقل القرطبي أقوالاً في كيفيّة تقسيم الخمس ، وهي بين من يأخذ بنص الآية ويجعل سهماً لذي القربى ومن يجتهد أمام النص. ونقلها صاحب المنار في تفسيره (٣).

٥ ـ قطع سهم المؤلّفة قلوبهم :

قال سبحانه : ( إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَالمَسَاكِينِ والعَامِلينَ عَلَيْهَا

__________________

١ ـ الأنفال / ٤١.

٢ ـ مسند أحمد ١ / ٢٤٨.

٣ ـ تفسير القرطبي ٨ / ١٠ ، المنار ١٠ / ١٧ ـ ١٨.


والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالغَارِمينَ وَفِى سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ ) (١) ، الآية صريحة في أنّ لكلّ واحد من الأصناف المذكورة سهم ودلّت كتب السيرة والفقه على أنّ الرسول يعطي سهم المؤلّفة قلوبهم ، فيؤلّف بذلك قلوبهم ، وهذه سيرته المستمرّة معهم ، لكن لمّا ولّي ابوبكر جاء المؤلّفة قلوبهم لاستيفاء سهمهم جرياً على عادتهم مع رسول اللّه فكتب أبوبكر لهم بذلك ، فذهبوا بكتابه إلى عمر ليأخذوا خطّه عليه فمزّقه وقال : لا حاجة لنا بكم ، فقد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن أسلمتم وإلاّ فالسيف بيننا وبينكم ، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا له : أنت الخليفة أم هو؟ فقال : بل هو إن شاء اللّه تعالى ، وأمضى ما فعله عمر (٢).

فاستمرّ الأمر على ذلك بعدهم ، وأقصى ما عند المحقّقين من تبرير عمل الخليفة ما ذكره الدواليبي في كتابه اُصول الفقه وقال : ولعلّ اجتهاد عمر ـ رضي اللّه عنه ـ في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلّفة قلوبهم كان في مقدّمة الأحكام الّتي قال بها عمر تبعاً لتغيير المصلحة بتغير الأزمان رغم أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غير منسوخ (٣).

وما ذكره الاُستاذ يعارض ذيله صدره ، فما معنى أنّ النص القرآني لا يزال ثابتاً غيرمنسوخ ، فإذا كان غير منسوخ فما معنى الاجتهاد في مقابل النص ، لأنّ معنى ذلك ابطال القرآن في فترة خاصة ، ولو صحّ لأصحاب السلطة هذا النمط من العمل لما بقي من الإسلام أثر ، فالنص لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا تتقيّد اطلاقاته ولا عموماته بالمصالح المرسلة.

__________________

١ ـ التوبة / ٦٠.

٢ ـ الجوهرة النيرة ١ / ١٦٤ وهي في الفقه الحنفي ونقله في المنار ١٠ / ٥٧٦.

٣ ـ اُصول الفقه للدواليبي : ٢٣٩.


نعم يجوز على القول بعدم لزوم الاستيعاب في تقسيم الزكاة ، دفعها إلى صنف دون صنف ، لكنّه إنّما يجوز مؤقّتاً لا دائماً ، غير أنّ الخليفة قام بقطع سهم المؤلّفة قلوبهم من رأس ، وهذا هو الذي فهمه أبو حنيفة ، والشافعي (١) بحجّة أنّ اللّه أعزّ الإسلام وهو اجتهاد من عمر بأنّه ليس من المصلحة استمرار هذا الأمر. ولا نريد من الاجتهاد في مقابل النص إلاّ هذا.

هذه نماذج خمسة من مخالفتهم للنصوص والعمل وفق اجتهادات ذوقية ، غير أنّ أصحاب السلطة قدّموها على النصوص بقوة وحماس ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النصوص كانت أداة طيّعة للتغيير حسب الأهواء والميول الشخصية سواء أكانوا مقصّرين في هذا التأويل أم قاصرين.

والهدف ايقاف القارىء على أنّ مخالفة النصوص لأصحاب النفوذ لم يكن أمراً عسيراً أو شيئاً نادراً.

وبذلك تبيّن أنّ إعراضهم عن أدلّة تنصيب الإمام للخلافة ، لم يكن أمراً عجيباً ، وذلك لجريان سيرة الصحابة على تقديم المصالح المزعومة على النصوص وبذلك يقطع العذر على من زعم أنّه لو كان في مسألة الخلافة وامامة الامام أميرالمؤمنين ، نصّ ، لما خالفه الصحابة العدول وتلقّوه بالقبول. فيقال أوما أمرهم النبيّ ، بإحضار القلم والدواة ، فحالوا بينه وبين منيته ، أو ماحثهم على تجهيز جيش اُسامة ولعن المتخلّفين عنه ، ولكنّهم اثّاقلوا إلى الأرض أو ما .. أوما ...

وهناك كلمة لابن ابي الحديد ، وهو يقارن بين سياستي علي ،وعمر وسياستي علي ومعاوية وإليك نصّه.

اعلم انّ السائس لا يتمكّن من السياسة البالغة إلاّ إذا كان يعمل برأيه ، وبما يرى

__________________

١ ـ المنار ١٠ / ٥٧٦.


فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته ، سواء أوافق الشريعة أم لم يوافقها ، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه ، وإلاّ فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله.

وأميرالمؤمنين : كان مقيّداً بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتّباعها ، ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير ، إذا لم يكن للشرع موافقا ، فلم تكن قاعدته في خلافته ، قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك ولسنا بهذا القول ضارّين على عمر بن الخطاب ولا ناسبين إليه ما هو منزّه عنه ، ولكنّه كان مجتهداً يعمل بالقياس والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط ، من اُصول ، تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النص ، ويكيد خصمه ، ويأمر اُمراءه بالكيد والحيلة ، ويؤدّب بالدرّة والسوط من يغلب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التأديب. كل ذلك بقوّة اجتهاده وما يؤدّيه إليه نظره. ولم يكن أميرالمؤمنين : يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعدّاها إلى الاجتهاد والأقيسة ، ويطبّق اُمور الدنيا على الدين ويسوق الكل مساقاً واحدا ، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة (١).

وقال الجاحظ : وربّما رايت بعض من يظن بنفسه العقل والتحسين والفهم والتمييز ، وهو من العامة وهو يظن أنّه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غوراً ، وأصحّ فكراً ، وأجود رؤية وأبعد غاية ، وأدق مسلكاً ، وليس الأمر كذلك ، وسأومي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه ، والمكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١٠ / ٥٧٢.


كان علي : لا يستعمل في حربه ، إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، وكان معاوية يستعمل خلاف الكتاب والسنّة ، كما يستعمل الكتاب والسنّة (١).

وفي حياة الخليفة عشرات الشواهد على اجتهاده تجاه النص ، وأي اجتهاد تجاهه أظهر وأولى من منع تدوين الحديث وكتابته الذي هو المصدر الثاني الرئيسي للمسلمين بعد الذكر الحكيم ، وقد بلغت السنّة من الكمال مكانة حتّى صار لفظ السنّي شعاراً لجمهور المسلمين.

ولعلّ في قوله سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بِيْنَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ) (٢). إشارة إلى بعض هذه الاُمور ، ومعنى الآية : لا تقولوا حتّى يقول ، ولا تأمروا حتّى يأمر ، ولا تفتوا حتّى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتّى يقطع ، بالتالي : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة فانّه تقدُّم على اللّه ورسوله.

فإذا كان هذا حال الخليفة وعمله طيلة حياته ، فلا عجب أن يجتهد أمام نصوص الولاية والخلافة ويسدل عليها الستار ، ولا يلتفت إليها ويندفع إلى تتبع مظان المصالح المزعومة في مجال الخلافة بعد عصر الرسول ، وفي ما ذكرنا من مظان الاجتهاد أمام النص كفاية لطالب الحق.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١٠ / ٥٧٨ ، نقلا عن أبي عثمان الجاحظ.

٢ ـ الحجرات / ١.



الفصل الخامس

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه



زعم غير واحد من الكُتّاب القدامى والجُدد ، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلامية ، من إفرازات الصراعات السياسية وذهب بعض آخر إلى القول انّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري ، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلامية وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الاسلامي ، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الاُمّة الإسلامية باعتباره قطاعاً تكوَّن على مرّ الزمن لأحداث وتطوّرات سياسية أو اجتماعية فكرية أدّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير ثمّ اتّسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله ، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسية أو فكرية كما سيوافيك ، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع ولد منذ عهد النبيّ الأكرم لما تسرّعوا في ابداء الرأي في ذلك المجال ، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة ، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه. وأنّ النبيّ الأكرم هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام من أوّل يوم اُمر بالصدع واظهار الحقيقة ، إلى ان لبّى دعوة ربّه.

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ بعد وفاته عن طريق من نصبه


إماماً للناس ، وقائداً للاُمّة حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود ، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة ، فإذا كان التشيّع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصي ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام والنصوص الواردة عن رسوله 6.

وقد عرفت في الفصل الثالث نصوصاً متوفرة في وصاية الامام أميرالمؤمنين ، فتاريخ صدورها عن النبيّ هو نفس تاريخ التشيّع ، والشيعة هم المسلمون المهاجرين والأنصار ومن تبعهم باحسان في الأجيال اللاحقة ، هم الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة ولم يُغيِّروه ولم يتعدّوا عنه إلى غيره ، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص ، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَىِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ سَميعٌ عَليمٌ ) (١) ففزعوا في الاُصول والفروع إلى علي وعترته الطاهرة ، وانحازوا عن الطائفة الاُخرى الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة حيث تركوا النصوص ، وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حقّ شيعة الامام عن لسان النبيّ الأكرم ترفع اللثام عن وجه الحقيقة وتعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي ، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة ، وانّ النبيّ الأكرم وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون ، وإن كنت في شكّ من هذا الأمر فسأتلوا عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

١ ـ أخرج ابن مردويه عن عائشة ، قالت : قلت يا رسول اللّه من أكرم الخلق على اللّه؟ قال : « يا عائشة ، أما تقرأين ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

١ ـ الحجرات / ١.


اُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البريَّة ) البيّنة / ٧ ـ » (١).

٢ ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبداللّه قال : كنّا عند النبي 6 فأقبل علي فقال النبي : « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البريّة (٢).

٣ ـ أخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : عليّ خير البريّة (٣).

٤ ـ وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت ( إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) قال رسول اللّه 6 لعلي : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ».

٥ ـ أخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول اللّه 6 : « ألم تسمع قول اللّه : ( إنّ الذين آمنوا وعلموا الصالحات اُولئك هم خير البريّة ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين » (٤).

٦ ـ روى ابن حجر في صواعقه عن اُمّ سلمة : كانت ليلتي ، وكان النبي 6 عندي فأتته فاطمة فتبعها علي ( رضي اللّه عنهما ) فقال النبي : يا علي أنت وأصحابك في الجنّة ، أنت وشيعتك في الجنّة (٥).

٧ ـ روى ابن الأثير في نهايته : قال النبي مخاطباً عليّاً : يا علي إنّك ستقدم على

__________________

١ ـ الدر المنثور للسيوطي ٦ / ٥٨٩.

٢ ـ الدر المنثور للسيوطي ٦ / ٥٨٩.

٣ ـ الدر المنثور للسيوطي ٦ / ٥٨٩.

٤ ـ الدر المنثور للسيوطي ٦ / ٥٨٩.

٥ ـ الصواعق ١٦١ طبع مكتبة القاهرة.


اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيّين ، ويقدم عليه عدوُّك غضابا مقمحين ، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير : الإقماح : رفع الرأس وغض البصر (١).

٨ ـ روى الزمخشري في ربيعه : انّ رسول اللّه قال : « يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة اللّه تعالى ، وأخذت أنت بحجزتي ، وأخذ ولدك بحجزتك ، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم ، فترى أين يؤمر بنا » (٢).

٩ ـ روى أحمد في المناقب : انّه 6 قال لعلي : « أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرّيتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا » (٣).

١٠ ـ روى الطبراني : انّه 6 قال لعلي : « أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وذرّيتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذرّياتنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا » (٤).

١١ ـ أخرج الديلمي : « يا علي إنّ اللّه قد غفر لك ولذرّيتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ، فابشر انّك الأنزع البطين » (٥).

١٢ ـ أخرج الديلمي عن النبي انّه قال : « أنت وشيعتك تردون الحوض روّاء مرويين ، بيضة وجوهكم وانّ عدوّك يردون الحوض ظماء مقمحين » (٦).

١٣ ـ روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه :

__________________

١ ـ النهاية مادة قمح ٤ / ١٠٦ ، ورواه ابن حجر في الصواعق ١٥٤.

٢ ـ ربيع الأبرار.

٣ ـ الصواعق ١٦١.

٤ ـ الصواعق ١٦١.

٥ ـ الصواعق ١٦١.

٦ ـ الصواعق ١٦١.


« يدخلون من اُمّتي الجنّة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ـ ثمّ التفت إلى علي فقال : ـ هم شيعتك وأنت إمامهم » (١).

١٤ ـ روى المغازلي عن كثير بن زيد قال : دخل الأعمش على المنصور، فلمّا بصر به ، قال له : يا سليمان تصدَّر ، قال : أنا صدر حيث جلست ـ إلى أن قال في حديثه : ـ حدّثني رسول اللّه قال : « أتاني جبرئيل 7 آنفاً فقال : تختّموا بالعقيق ، فإنّه أوّل حجر شهد للّه بالوحدانيّة ، ولي بالنبوّة ، ولعلي بالوصيّة ، ولولده بالامامة ، ولشيعته بالجنّة » (٢).

١٥ ـ وروى أيضاً بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبي 6 قال : « يا علي تختّم باليمين تكن من المقرّبين ، قال : يا رسول اللّه ومن المقرّبون؟ قال : جبرئيل وميكائيل ، قال : فبما أتختّم يا رسول اللّه؟ قال : بالعقيق الأحمر ، فإنّه جبل أقرّ للّه بالوحدانية ، ولي بالنبوّة ، ولك بالوصية ، ولولدك بالإمامة ، ولمحبّيك بالجنّة ، ولشيعتك وشيعة ولدك بالفردوس » (٣).

١٦ ـ روى ابن حجر : انّه مرّ علي على جمع فأسرعوا إليه قياماً ، فقال : «من القوم؟» فقالوا : من شيعتك يا أميرالمؤمنين ، فقال لهم خيراً ، ثمّ قال : « يا هؤلاء ما لي لا ارى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبَّتنا » فأمسكوا حياءً ، فقال له من معه : نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم ، لما أنبأتنا بصفة شيعتكم

__________________

١ ـ مناقب المغازلي ٢٩٣.

٢ ـ مناقب المغازلي ٢٨١ ، ورواه السيد البحراني في غاية المرام عنه ، وأنت إذا تدبّرت في الآيات الدالّة على سريان العلم والشعور في عامّة الموجودات مثل قوله : ( وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) ـ البقرة / ٧٤ ـ تستطيع أن تُصَدِّقَ ما جاء في الحديث من شهادة العقيق بوحدانية اللّه.

٣ ـ علل الشرائع ١٥٨ طبع النجف.


فقال : « شيعتنا هم العارفون باللّه ، العاملون بأمر اللّه » (١).

١٧ ـ روى الصدوق ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ ) : انّ ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه يقول : « إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة ... » (٢).

وهذه النصوص المتضافرة الغنيّة عن ملاحظة ... ، تعرب عن كون علي 7 متميّزاً بين أصحاب النبي بأن له شيعة وأتباعاً ، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها ، في حياة النبي وبعدها.

فبعد هذه النصوص لا يصحّ لباحث أن يلتجئ إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفرق :

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته ويعتقد بإمامته ووصايته ويظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات نشير إلى بعضها.

١ ـ روى المسعودي في حوادث وفاة النبي : انّ الإمام عليّاً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر (٣).

٢ ـ قال الامام عند تنديده بأعمال طلحة والزبير : « إنّ أتباع طلحة والزبير في البصرة قتلوا شيعتي وعمّالي » (٤).

__________________

١ ـ الصواعق ١٥٤.

٢ ـ علل الشرايع ١٥٦ طبع النجف.

٣ ـ الوصية للمسعودي ١٢١ طبع النجف.

٤ ـ وقعة صفين ٧ طبع مصر.


٣ ـ روى أبو مخنف عن الحجاج : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرونا هلاك معاوية فحمدنا اللّه عليه فقال : إنّ معاوية قد هلك وانّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه (١).

٤ ـ وقال محمّد بن أحمد بن خالد البرقي ( ت ٢٧٤ ) : إنّ أصحاب علي ينقسمون إلى الأصحاب ثمّ الأصفياء ثمّ الأولياء ، ثم شرطة الخميس ... ومن الأصفياء سلمان الفارسي ، والمقداد ، وأبوذر ، وعمّار ، وأبو ليلى ، وشبير ، وأبو سنان ، وأبو عمرة ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو برزة ، وجابر بن عبداللّه ، والبراء بن عازب ، وطرفة الأزدي (٢).

٥ ـ وقال النوبختي ( ت ٣١٣ ) : إنّ أوّل الفرق الشيعة ، وهم فرقة علي بن أبي طالب ، المسمّون شيعة علي في زمان النبي وبعده ، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته (٣).

٦ ـ وقال أبو الحسن الأشعري : وانّما قيل لهم الشيعة ، لأنّهم شايعوا عليّاً ، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول اللّه (٤).

٧ ـ ويقول الشهرستاني : الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّة (٥).

٨ ـ وقال ابن حزم : ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول اللّه

__________________

١ ـ مقتل الامام الحسين لأبي مخنف : تحقيق حسن الغفاري ١٥ ولاحظ ١٦.

٢ ـ الرجال للبرقي : ( طبع طهران ) / ٣ ، ولاحظ فهرست ابن النديم ٢٦٣ ( طبع القاهرة ) وعبارته قريبة من عبارة البرقي.

٣ ـ فرق الشيعة ١٥.

٤ ـ مقالات الاسلاميين ١ / ٦٥ طبع مصر.

٥ ـ الملل والنحل ١ / ١٣١.


وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده ، فهو شيعيّ ، وإن خالفهم في ماعدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون. فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّا (١).

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات ، تعرب عن أنّ لفيفاً من الاُمّة في حياة الرسول وبعده إلى عصر الخلفاء وبعدهم ، كانوا مشهورين بالتشيّع لعلي وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الاُمّة عليه.

« إنّ الامام وإن تسامح وتساهل في أخذ حقّه تبعاً لمصالح عظيمة مكنونة في مثل هذا التصرّف الحكيم ، لكن أخذت فكرة استخلاف النبي علياً طريقها في النفوس والقلوب ، وتضاعف عدد المتشيعين له على مرور الأيام ، ورجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب ، واحتشدت في أذهانهم صور عن مواقف النبي 6، تلك المواقف التي كان يصرح فيها باستخلاف علي من بعده تارة ، ويلمّح فيها اُخرى ، فالتفّوا حول علي 7 وأصبحوا من الدعاة الأوفياء له في جميع المراحل التي مرّ بها ، وما زال التشيّع ينمو وينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة ، يدخلها مع الإسلام جنباً إلى جنب ، واستحكم أمره في السنين التي استولى فيها عليّ الحكم ، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه ، ووجد الناس من سيرته وزهده وحكمته ما أكدّ لهم صحّة تلك المرويات ، وأنّه هو المختار لقيادة الاُمّة وحماية القرآن ونشر تعاليمه ومبادئه » (٢).

والعنصر المقوّم لإطلاق عبارة الشيعة هو مشايعة علي بعد النبي الأكرم في الزعامة والوصاية أوّلاً ، وفي الفعل والترك ثانياً ، ومع هذا لا يصحّ لأي كاتب

__________________

١ ـ الفصل في الملل والنحل ٢ / ١١٣ طبع بغداد.

٢ ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ٢٨ ـ ٢٩.


افتراض علّة اجتماعية أو سياسية أو كلامية لتكوّن هذه الفرقة.

ولأجل أن نتعرّف على شيعة علي من الصحابة نأتي بأسماء رُوّاد الشيعة على وجه الاجمال ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتب حولهم من المؤلّفات ، وسنأتي بأسماء تلك الكتب في آخر البحث :

روّاد التشيّع في عصر النبي :

إنّ الاحالة للتعرّف على روّاد التشيّع إلى الكتب المؤلّفة في ذلك المضمار لا تخلو من عسر وغموض ، فلأجل ذلك نأتي باسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع :

١ ـ عبداللّه بن عباس ٢ ـ الفضل بن العباس ٣ ـ عبيداللّه بن العباس ٤ ـ قثم بن العباس ٥ ـ عبدالرحمان بن العباس ٦ ـ تمام بن العباس ٧ ـ عقيل بن ابي طالب ٨ ـ أبوسفيان بن الحرث بن عبدالمطلب ٩ ـ نوفل بن الحرث ١٠ ـ عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب ١١ ـ عون بن جعفر ١٢ ـ محمد بن جعفر ١٣ ـ ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلب ١٤ ـ الطفيل بن الحرث ١٥ ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث ١٦ ـ عبداللّه بن الحرث بن نوفل ١٧ ـ عبداللّه بن أبي سفيان بن الحرث ١٨ ـ العباس بن ربيعة بن الحرث ١٩ ـ العباس بن عتبة بن ابي لهب ٢٠ ـ عبدالمطلب بن ربيعة بن الحرث ٢١ ـ جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم ، وأمّا غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم :

٢٢ ـ سلمان المحمّدي ٢٣ ـ المقداد بن الأسود الكندي ٢٤ ـ أبوذر الغفاري ٢٥ ـ عمّار بن ياسر ٢٦ ـ حذيفة بن اليمان ٢٧ ـ خزيمة بن ثابت ٢٨ ـ أبو أيوب الأنصاري مضيّف النبي ٢٩ ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان


٣٠ ـ اُبي بن كعب (١) ٣١ ـ سعد بن عبادة ٣٢ ـ قيس بن سعد بن عبادة ٣٣ ـ عدي بن حاتم ٣٤ ـ عبادة بن الصامت ٣٥ ـ بلال بن رباح الحبشيّ ٣٦ ـ أبو رافع مولى رسول اللّه ٣٧ ـ هاشم بن عتبة ٣٨ ـ عثمان بن حنيف ٣٩ ـ سهل بن حنيف ٤٠ ـ حكيم بن جبلة العبدي ٤١ ـ خالد بن سعيد بن العاص ٤٢ ـ ابن الحصيب الأسلمي ٤٣ ـ هند بن أبي هالة التيميمي ٤٤ ـ جعدة بن هبيرة ٤٥ ـ حجر بن عدي الكندي ٤٦ ـ عمرو بن الحمق الخزاعي ٤٧ ـ جابر ابن عبداللّه الأنصاري ٤٨ ـ محمّد بن الخليفة أبي بكر ٤٩ ـ أبان بن سعيد بن العاصي ٥٠ ـ زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة ، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في الرجال ولكن بعين مفتوحة وبصيرة نافذة.

وفي الختام نذكر ما ذكره محمّد كرد علي في كتابة « خطط الشام » قال : عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه 6 مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له ، ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول : اُمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة ، ولمّا سئل عن الأربع ، قال : الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحج ، قيل : فما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب ، قيل له : وانّها لمفروضة معهن؟ قال : نعم هي مفروضة معهن ، ومثل أبي ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ،

__________________

١ ـ نقل سيّدنا شرف الدين عن تاريخ ابن شحنة انّه ممّن تخلّف عن بيعة السقيفة مع علي 7.


وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وخالد بن سعيد ، وقيس ابن سعد بن عبادة (١).

الكتب المؤلّفة حول روّاد التشيّع :

إنّ لفيفاً من أصحابنا الإمامية قاموا بافراد كتاب أو رسالة حول روّاد التشيّع ونذكر في المقام ما وقفنا عليه.

١ ـ صدر الدين السيّد علي المدني الحسيني الشيرازي ، صاحب كتاب سلافة العصر في أعيان أهل العصر ، وأنوار الربيع في علم البديع ، وطراز اللغة. توفّي عام ( ١١٢٠ ) ، أفرد تاليفاً في ذلك المجال أسماء بـ « الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية » ، فخصَّ الطبقة الاُولى بالصحابة الشيعة ، وخصَّص الباب الأوّل لبني هاشم من الصحابة ، والباب الثاني في غيرهم منهم. وجاء في الباب الأوّل بترجمة ( ٢٣ ) صحابيّاً من بني هاشم لم يفارقوا عليّاً قط ، كما جاء في الباب الثاني بترجمة ( ٤٦ ) صحابيّاً (٢).

٢ ـ ذكر الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه « أصل الشيعة واُصولها » أسماء جماعة من الصحابة الذين كانوا يشايعون عليّاً في حلِّه وترحاله وقال معلّقاً على قول أحمد أمين الكاتب المصري « والحق إنّ التشيّع كان مأوى يرجع إليه كل من أراد هدم الإسلام » : ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفا أن لا تتعكّر ، ونيران البغضاء أن لا تتسعّر ، وأن تنطبق علينا حكمة القائل : « لا تنه عن خلق وتأتي مثله » لعرّفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الالحاد والزندقة ،

____________

١ ـ خطط الشام ٥ / ٢٥١.

٢ ـ الدرجات الرفيعة ٧٩ ـ ٤٥٢ طبع النجف.


ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة ، ولكنّا نريد أن نسال ذلك الكاتب أيّ طبقة من طبقات الشيعة أرادت هدم الإسلام؟ هل الطبقة الاُولى وهم أعيان صحابة النبي وأبرارهم كسلمان المحمّدي أو الفارسي ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمّار ، وخزيمة ذى الشهادتين ، وابن التيهان ، وحذيفة بن اليمان والزبير ، والفضل بن العباس وأخيه الحبر عبداللّه ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وأبي أيّوب الأنصاري وأبان وأخيه خالد بن سعيد بن العاص ، واُبي بن كعب سيد القرّاء ، وأنس بن الحرث بن نبيه ، الذي سمع النبي يقول : « إنّ ابني الحسين 7 يقتل في ارض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » فخرج أنس وقتل مع الحسين. راجع الاصابة والاستيعاب وهما من أوثق ما ألّف علماء السنّة في تراجم الصحابة ، ولو أردت أن أعدّ عليك الشيعة من الصحابة واثبات تشيّعهم من نفس كتب السنّة لأحوجني ذلك إلى افراد كتاب ضخم (١).

٣ ـ قام الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين ( ١٢٩٠ ـ ١٣٧٧ ) بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء ، وقال : وإليك اكمالا للبحث بعض ما يحضرني من أسماء الشيعة من أصحاب رسول اللّه لتعلم أنّ بهم اقتدينا وبهديهم اهتدينا ، وسأفرد لهم إن وفق اللّه كتاباً يوضح للناس تشيّعهم ويحتوي على تفاصيل شؤونهم ، ولعلّ بعض أهل النشاط من حملة العلم وسدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب فيكون لي الشرف إذ خدمته بذكر أسماء بعضهم في هذا الباب وهي على ترتيب حروف الهجاء ، ثمّ ابتدأ بأبي رافع القبطي مولى رسول اللّه ، وختمهم بيزيد بن حوثرة الأنصاري ولم يشير من حياتهم إلى شئ ، وإنّما ألقى ذلك على الأمل أو على من يسبقه من بعض أهل النشاط.

__________________

١ ـ أصل الشيعة واُصولها ٥٣ ـ ٥٤ مطبعة العرفان.


وقد ذكر السيد شرف الدين من أسمائهم مايربو على مائتين (١).

٤ ـ قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي « حفظه اللّه » بذكر أسماء روّاد التشيّع في عصر الرسول في كتابه المطبوع « هويّة التشيّع » فجاء باسم مائة وثلاثين من خُلِّص أصحاب الإمام من الصحابة الكرام ، يقول بعد ما يذكر تنويه النبي باستخلاف علي في غير واحد من المواقف : ولا يمكن أن تمر هذه المواقف والكثير الكثير من أمثالها من دون أن تشد الناس لعلي ، ودون أن تدفعهم للتعرّف على هذا الإنسان الذي هو وصي النبي ، ثمّ لابدّ للمسلمين من اطاعة الأوامر التي وردت في النصوص ، والالتفات حول من وردت فيه ، ذلك معنى التشيّع الذي نقول انّ النبي 6 هو الذي بذر بذرته ، وقد أينعت في حياته وعرف جماعة بالتشيّع لعلي والالتفاف حوله ، وللتدليل على ذلك سأذكر لك أسماء الرعيل الأوّل من الصحابة الذين عرفوا بتشيّعهم للإمام علي (٢).

٥ ـ آخرهم وليس أخيرهم كاتب هذه السطور حيث قام مجيباً دعوة السيد شرف الدين فألّف كتاباً في ذلك المجال في عدّة أجزاء ، نشر منه جزءان ، وانتهينا في الجزء الثاني من ترجمة أبي ذر ( جندب بن جناده ) ذلك الصحابي العظيم ، والكتاب باللغة الفارسية ونقله إلى العربية الشيخ المحقّق البارع جعفر الهادي وطبع ونشر.

ومن أراد أن يقف على روّاد التشيّع في كتب الرجال لأهل السنّة فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية :

__________________

١ ـ الفصول المهمّة في تأليف الاُمّة ١٧٩ ـ ١٩٠.

٢ ـ هوية التشيّع ٣٤.


١ ـ الاستيعاب لأبي عمرو ( ت ٤٥٦ ).

٢ ـ اُسد الغابة للجزري (٦٠٦).

٣ ـ الاصابة لابن حجر (٨٥٢).

إلى غير ذلك من اُمّهات كتب الرجال.


الفصل السادس

افتراضات وهمية حول تاريخ الشيعة



قد تعرّفت على تاريخ التشيّع ، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي ، ولا إنتاج السياسات الزمنية وانّما هو وجه آخر للاسلام وهما وجهان لعملة واحدة; إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرخين وكُتّاب المقالات ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الاسلامي ، فأخذوا يُفتّشون عن مبدئه ومصدره ، وأشد تلك الظنون عدوانية ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين والمتأخرين ، هو كونه وليد عبداللّه بن سبأ ذلك الرجل اليهودي ، الذي ـ بزعمهم ـ طاف الشرق والغرب ، وأفسد الاُمور على الخلفاء والمسلمين وألّب الصحابه والتابعين على عثمان ، فقتل في عقر داره ، ثم دعا إلى علي بالإمامة والوصاية ، وإلى النبي بالرجعة ، وكوَّن مذهباً بإسم الشيعة ، فهو صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالاسلام وبما أنّ للموضوع أهمية خاصة لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي كل ذكر كل تلك الإدعاءات واحدة بعد الاُخرى ، مع رعاية التسلسل الزمني.



الافتراض الأول :

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل ، وسوف نتطرّق إليها في فصل خاص عند البحث عمّا تنعقد به الامامة لدى السنّة والشيعة ، ولكن نذكر هنا موجز ما ذكره الطبري وغيره الذي صار سنداً لمن تخيّل أنّ التشيّع تكوّن في ذلك اليوم.

قال الطبري : اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبابكر فاتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، فقال أبوبكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء ـ إلى أن قال ـ فبايعه عمر ، وبايعه الناس ، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّا. ثم قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : واللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مسلّطاً بالسيف فعثر ، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه ، وقال أيضاً : وتخلّف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتّى يبايَع علي ، فبلغ ذلك أبابكر وعمر فقالا : خذوا سيف الزبير ... (١).

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.


وقال اليعقوبي : ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم ، العباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ... (١).

يلاحظ على تلك النظرية : انّ هذه النصوص تدل على أنّ فكرة التشيّع لعليّ كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته ، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره ، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت علي الذي أوصاهم النبي به طيلة حياته ، إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على علي في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب. فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبي ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً ولمّا جاء قال : أصبتم قناعة ، وتركتم قرابة ، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم الاثنان (٢) وقال سلمان : أصبتم ذا السن ، وأخطأتم المعدن ، أما لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغدا.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيات : انّ عامة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر.

وروى الجوهري في كتاب السقيفة : انّ سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً : انّه لمّا بويع أبوبكر واستقرّ أمره ، ندم قوم كثير من الأنصار

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٣ طبع النجف.

٢ ـ ابن قتيبة : الامامة والسياسة ١٢.


على بيعته ولام بعضهم بعضاً ، وهتفوا باسم الامام علي ولكنّه لم يوافقهم (١).

ومن المستحيل عادةً اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء في يوم واحد ، بل يعرب ذلك عن وجود جذور لها ، قبل رحلة النبي 6 ويؤكد ذلك نداءاته التي ذكرها في حق عليّ وعترته في مواقف متعدّدة ، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفة ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى علي انّما هو لأجل مشايعتهم لعلي زمن النبي 6 وما هذا إلاّ اخلاص ووفاء منهم للنبي 6 أو أين هو من تكوّن التشيّع يوم السقيفة.

ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق : انّه بعد ما استتبّ الأمر لأبي بكر اعترض عليه ( لفيف ) من الصحابة في مسجد النبي وكلّ يذكر وصايا النبي في حق علي بالوصاية من بعده ، وسيوافيك نصوصهم في فصل مأساة السقيفة على وجه موجز.

____________

١ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٣ ـ ٤٤



الافتراض الثاني :

التشيّع صنيع عبداللّه بن سبأ

« إنّ يهودياً باسم عبداللّه بن سبأ المكنّى بابن الأمة السوداء في ـ صنعاء ـ أظهر الإسلام في عصر عثمان واندسّ بين المسلمين ، وأخذ ينتقل في حواضرهم وعواصم بلادهم : الشام ، والكوفة ، والبصرة ، ومصر ، مبشّراً بأنّ للنبي الأكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة ، وأنّ عليّاً هو وصي محمّد 6 كما كان لكل نبي وصي ، وأنّ عليّاً خاتم الأوصياء كما كان محمّداً خاتم الأنبياء ، وأنّ عثمان غاصب حق هذا الوصي وظالمه ، فيجب مناهضته لارجاع الحق إلى أهله ».

« إنّ عبداللّه بن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته ، وأشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والطعن في الاُمراء ، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين ، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر ، وعمار بن ياسر ،ومحمد بن حذيفة ،وعبدالرحمان بن عديس ،ومحمّد بن أبي بكر ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، ومالك الأشتر ، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم ، تنفيذاً لخطة زعيمها ، وتضع كتباً في عيوب الاُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار ، فنتج عن ذلك قيام جماعات


من المسلمين بتحريض السبأيين ، وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره ، حتّى قتل فيها ، كل ذلك كان بقيادة السبأيين ومباشرتهم ».

إنّ المسلمين بعدما بايعوا عليّاً ، ونكث طلحة والزبير بيعته ، وخرجا إلى البصرة رأى السبأيون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون ، وأنّه إن تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان ، فاجتمعوا ليلا وقرّروا أن يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم ، وانّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان ، فناوش المندسّون من السبأيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة ففزع الجيشان وفزع رؤسائهما ، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً ، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق ، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم.

إلى هنا انتهت قصة السبأية ، ولا يذكر منهم شيء بعد ذلك في التواريخ هذا هو الذي يذكره الطبري في تاريخه ، ويقول :

فيما كتب به إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي قال : كان عبداللّه بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء اُمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول اضلالهم فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم ، فقال لهم فيما يقول : لعجب فمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمّداً يرجع ، وقد قال اللّه عزّوجلّ : ( إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعاد ) (١) ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال : فَقُبِل ذلك عنه ، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي ،

__________________

١ ـ القصص / ٨٥.


وكان علي وصي محمّد. ثم قال : محمّد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول اللّه 6 ووثب على وصي رسول اللّه 6 وتناول أمر الاُمّة ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول اللّه 6 فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه ، وابدأوا باللعن على اُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم ، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اُولئك في أمصارهم ، وهؤلاء في أمصارهم ، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرّون غير ما يبدون ... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام ، وفي أحداث السنوات التالية إلى سنة ٣٦ التي وقعت فيها حرب الجمل. ولا يأتي بعد بشيء عن السبأية (١).

ثمّ إنّك قد تعرّفت على كبار السبأية وأنّهم كانوا من أكابر الصحابة والتابعين ، كأبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر ، ومحمّد بن أبي حذيفة ، الذين عرفهم المسلمون بالزهد والتقى والصدق والصفا ، وأمّا عبدالرحمان بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر ، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر (٢).

__________________

١ ـ الطبري ٣ / ٣٧٨.

٢ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٠٩ قال : وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها وكان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفان 2 لمّا قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر ...


وأمّا محمّد بن أبي بكر ، فاُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية تزوّجها أبوبكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة ، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه ، وشهد معه حرب الجمل ، كما شهد صفّين ، ثم ولي مصر عن علي ، إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها (١).

وأمّا صعصعة بن صوحان العبدي ، أسلم على عهد رسول اللّه ، كان خطيباً فصيحاً شهد صفّين مع علي. ولمّا استشهد علي ، واستولى معاوية على العراق ، نفاه إلى البحرين ومات فيها (٢).

وأمّا الأشتر ، فهو مالك بن الحرث النخعي ، وهو من ثقات التابعين ، شهد وقعة اليرموك ، صحب عليّاً في الجمل وصفّين ، ولاّه على مصر سنة (٣٨) ثم وصل إلى القلزم ، دسّ إليه معاوية عميلا له ، فتوفّي بالسم (٣).

هذا هو الذي يذكره الطبري وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة راهنة ، وبنوا عليه مابنوا من الأفكار والآراء فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون والأجيال ، وإليك من ذكرها مغمض العينين :

__________________

١ ـ كان أحد من توثّب على عثمان حتّى قتل ثم انضمّ إلى علي : اُسد الغابة ٤ / ٣٢٤ ، والاستيعاب ٣ / ٣٢٨ والجرح والتعديل ٧ / ٣٠١.

٢ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٢٠ قال : تقدم نسبه في أخيه زيد وكان صعصعة مسلماً على عهد رسول اللّه 6 ولم يره وصغر عن ذلك وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس وكان فصيحاً بليغاً لسناً ديّناً فاضلا يعد في أصحاب علي ـ رضي اللّه عنه ـ وشهد معه حروبه.

٣ ـ ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال : الطبقات الكبرى ٦ / ٢١٣ ، الاصابة ٣ / ٤٥٩ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٤.


١ ـ ابن الأثير ( ت ٦٣٠ ) ، فقد أورد القصّة منبثة بين حوادث ( ٣٠ ـ ٣٦ ) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام ، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الأول (١).

٢ ـ ابن كثير الشامي ( ت ٧٧٤ ) فقد ذكر القصّة في تاريخه « البداية والنهاية » وأسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل ، إلى تاريخ الطبري ، وقال : هذا ملخّص ما ذكر أبو جعفر بن جرير (٢).

٣ ـ ابن خلدون ( ت ٨٠٨ ) ، في تاريخه « المبتدأ والخبر » أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال : هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري (٣).

وأمّا المتأخّرون ، وأخصّ الكتّاب الجدد فإنّهم يذكرون القصّة ، فنذكر منهم مايلي :

٤ ـ محمّد رشيد رضا ، منشئ مجلة المنار ( ت ١٣٥٤ ) ، ذكره في كتابه

__________________

١ ـ لاحظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه : فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الامام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه ، لم أخل بترجمة واحدة منها لاحظ ١ / ٣ طبع دار صادر.

٢ ـ البداية والنهاية ٧ / ٢٤٦ طبع دار الفكر بيروت.

٣ ـ تاريخ ابن خلدون يقول : « وبعث ( عثمان ) إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر : محمد ابن مسلمة إلى الكوفة ، واُسامة بن زيد إلى البصرة ، وعبداللّه بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه ، فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامّهم إلاّ عماراً فانّه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه ، منهم عبداللّه بن سبأ ويعرف بابن السوداء كان يهوديّاً وهاجر أيّام عثمان فلم يحسن اسلامه واُخرج من البصرة ... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر ٢ / ١٣٩ ، وقال ١٦٦ : هذا أمر الجمل ملخّص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء.


« السنّة والشيعة » وقال : وكان مبتدع اُصوله ( التشيّع ) يهودي اسمه عبداللّه بن سبأ ، أظهر الإسلام خداعا ، ودعا إلى الغلوّ في علي كرم اللّه وجهه ، لأجل تفريق هذه الاُمّة ، وافساد دينها ودنياها عليها ، ثمّ سرد القصّة وقال : ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح (١).

٥ ـ أحمد أمين ( ت ١٣٧٢ ) ، وهو الذي استبطل عبداللّه بن سبأ في كتابه « فجر الإسلام وقال : إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان ، وحاول أن يُفسد على المسلمين دينهم وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة ، وقد طاف في بلاد كثيرة ، في الحجاز ، والبصرة ، والكوفة ، والشام ، ومصر ، ثمّ ذكر أنّ أباذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي ، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن. وقد كان لكتاب « فجر الإسلام » عام انتشاره ( ١٩٥٢ م ) دويّ واسع النطاق في الأوساط الإسلامية ، فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع ، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود ، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء « أصل الشيعة واُصولها » ردّاً عليه ، كما ردّ عليه العلاّمة الشيخ عبداللّه السبيتي بكتاب أسماه « تحت راية الحق ».

٦ ـ فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف ( ت ١٣٧٠ ) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (٢).

٧ ـ حسن إبراهيم حسن ، وذكره في كتابه ( تاريخ الإسلام السياسي ) وقد ذكر في اُخريات خلافة عثمان قوله : « فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملائمة ومهيّئاً لقبول دعوة ( عبداللّه بن سبأ ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حد « وقد أذكى نيران هذه

__________________

١ ـ السنّة والشيعة ٤ ـ ٦ ـ ٤٥ ـ ٤٩ ـ ١٠٣.

٢ ـ دائرة المعارف ٦ / ٦٣٧.


الثورة صحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى ـ وكان من كبار أئمّة الحديث ـ وهو أبوذر الغفاري الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبداللّه بن سبأ ، وكان يهوديّاً فأسلم ، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ، فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر ... الخ (١).

هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين ، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج ، فقد اتبعوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلّف لغايات خاصّة ، فم أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال ، فإنّه ـ دام ظلّه ـ حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً (٢).

نظر المحقّقين في الموضوع

١ ـ إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة ، على وجه لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن ، إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان ،واستطاع أن يُغري كبار الصحابة والتابعين ، ويخدعهم ويطوف بين البلاد واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة ويؤلِّبهم على الخلافة الإسلامية ، فيهاجموا داره ويقتلوه ، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم باحسان ، هذا شيء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.

إنّ هذه القصّة تمس كرامة المسلمين والصحابة والتابعين ، وتصوّرهم اُمّة

__________________

١ ـ تاريخ الإسلام السياسي ٣٤٧.

٢ ـ عبداللّه بن سبأ١ / ٤٦ ـ ٥٠ ، وكتابه هذا من أنفس الكتب وحسنات الزمان.


ساذجة يغترّون بفكر يهودي وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون.

٢ ـ إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم ، وينفون المخالفين ويضربونهم ، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته ، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر حتّى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه (١). إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع ، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمّالها يغضّون الطرف عمّن يُؤلِّب الصحابة والتابعين على اخماد حكمهم ، وقتل خليفتهم في عقر داره ، ويجر الويل والويلات على كيانهم. وهذا شيء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية.

يقول العلاّمة الأميني : لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ ولم يبلغه القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاهانة ، والزج إلى أعماق السجون؟ ولا آل أمره إلى الاعدام المريح للاُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني : ( إِنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواْ أو تُقَطِّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِن خِلاف أوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢)

__________________

١ ـ الاستيعاب ٢ / ٤٢٢.

٢ ـ المائدة / ٣٣.


فهّلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الأبرار من اُمّة محمّد 6 ففعل بهم ما فعل (١).

وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر ، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير ، ليقفوا على الأسباب المؤدّية التي قتل الخليفة حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة ، فنحتوا فروضاً وهمّية سببت قتل الخليفة وأودت به.

وفي حق هؤلاء يقول الكاتب المعاصر :

« وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حال أو ظرف ، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على أيام عثمان ، ويحصرون أحداث عصر بل عصور ، بإرادةِ فردٍ يطوّفُ في الأمصار والأقطار ويؤلّبُ الناس على خليفةٍ ودولة!

إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنّما كانت دولةً مثاليَّة ، وأنَّ الأمويّين والولاة والأرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُلَ العدالة الاجتماعية والإخاء البشري في أرض العرب. غير أنّ رجلاً فرداً هو عبداللّه بن سبأ أفسدَ على الأمويين والولاة والأرستقراطيين صلاحَهم وبرّهم إذ جعل يطوف الأمصارَ والأقطارَ مؤلِّبا على عثمان واُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين. ولولا هذا الرجل الفرد وطوافُه في الأمصار والأقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء.

وفي مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع واعتداءٌ على الخَلق ومسايرةٌ ضئيلة الشأن لبعض الآراء ، يلفّ ذلك جميعاً منطقٌ ساذج وحجَّةٌ مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك : فيه تضليلٌ عن حقائق أساسية في بناء التاريخ ، إذ يحاول صاحب هذا المسعى الفاشل أنْ يحصر أحداثَ عصرٍ بكامله ، بل عصورٍ كثيرة ، بإرادة فردٍ يطوف

____________

١ ـ الغدير ٩ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.


في الأمصار ويؤلِّب الناسَ على دولةٍ فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!

أمّا طبيعة الحكم وسياسة الحاكم وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني ، وطغيان الأثرة على ذوي السلطان ، واستبداد الولاة بالأرزاق ، وحمل بني اُميَّة على الأعناق ، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية ، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما ، أمّا هذه الاُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية ، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار وإثارتها على الاُسرة الاُمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها ، في نظر هؤلاء! بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبداللّه بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة ويلقي بينهم الشر.

أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق ، من يعلّلون الحوادث العامة الكبرى ، المتصلة اتّصالا وثيقاً بطبيعة الجماعة واُسس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ، بارادة فرد من عامة الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والنساء في هذا المجتمع السليم.

أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلا صبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الأمصار وأحدثوه (١).

٣ ـ إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم :

أ : السريّ : إنّ السريّ الذي يروي عنه الطبري ، إنّما هو أحد رجلين :

__________________

١ ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ٤ / ٨٩٤ ـ ٨٩٦ وللكلام صلة من أراد فليرجع إليه.


١ ـ السريّ بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيى بن سعيد ، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ (١).

٢ ـ السريّ بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام (٢٥٨) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذّبه ابن خراش ، ووهاه ابن عدي ، وقال : يسرق الحديث ، وزاد ابن حبان : ويرفع الموقوفات ، لا يحل الاحتجاج به ، وقال النقاش في حديث وضعه السريّ (٢) فالاسم مشترك بين كذّابين لايهمّنا تعيين أحدهما. واحتمال كونه السريّ بن يحيى الثقة غير صحيح ، لأنّه توفّي عام (١٦٧) مع أنّ الطبري من مواليد عام (٢٣٤) فالفرق بينهما (٥٧) عاماً ، فلا مناص أن يكون السريّ ، أحد الرجلين الكذابين.

ب ـ شعيب ، والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي : ليس بالمعروف ، وقال الذهبي : راوية ، كتب سيف عنه : فيه جهالة (٣).

ت ـ سيف بن عمر ، قال ابن حبان : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات ، وقال : قالوا : إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط ، وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن الدار قطني : متروك. وقال ابن معين : ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي : ضعيف ، وقال السيوطي : وضّاع ، وذكر حديثاً من طريق السريّ بن

__________________

١ ـ قال يحيى القطان : استبان لي كذبه في مجلس واحد ، وقال النسائي : متروك ، وقال غيره : ليس بشيء ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه لاحظ ميزان الاعتدال ٢ / ١١٧.

٢ ـ تاريخ الخطيب ٩٩٣ ، ميزان الاعتدال ٢ / ١١٧ ، لسان الميزان ٣ / ١٢.

٣ ـ ميزان الاعتدال ٢ / ٢٧٥ ، لسان الميزان ٣ / ١٤٥.


يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف (١).

ج ـ فإذا كان هذا حال السند ، فكيف نعتمد في تحليل تكوّن طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكّل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها ، فالاعتماد عليها خداع وضلال.

٤ ـ عبداللّه بن سبأ ، اُسطورة تاريخية :

إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده ، وزمن إسلامه ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول ، بأنّ مثل عبداللّه بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال وأمثال هؤلاء الرجال والأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون ، فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين : الأموية والعباسية ، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو ، اتسع المجال للوضع وراج سوق الخيال وجعلت القصص والأمثال كي تأنس بها ربات الحجال ، وأبناء الترف والنعمة (٢).

هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء ، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر ، فذهبوا إلى أنّ عبداللّه بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين ، يدعم كون الرجل اُسطورة تاريخية استبطلها أعداء الشيعة نكاية بالشيعة ، ولا بأس في الوقوف على كلامه حيث قال :

__________________

١ ـ ميزان الاعتدال ١ / ٤٣٨ ، تهذيب التهذيب ٤ / ٢٩٥ ، اللئالي المصنوعة ١ / ١٥٧ ـ ١٩٩ ـ ٤٢٩.

٢ ـ أصل الشيعة واُصولها ٧٣.


وأكبر الظن أنّ عبداللّه بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبداللّه بن سبأ هذا ، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان ، وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على علي وشيعته من ناحية اُخرى ، فيردّوا بعض اُمور الشيعة إلى يهودي اسلم كيداً للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت اُمّه سوداء ، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً ، ثمّ اُتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حيث قتلوه ، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها اُمور لاتستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التاريخ ، وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أنّ ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الراي ، وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يروون اُموراً تطرأ ، ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية ، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاُمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الاثرة ، وفيها الأمل البعيد ، وفيها الهمَّ الذي لا يعرب حدّاً يقف عنده ، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على


المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذا الاُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه ، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم ، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة ، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد اُخرى لم تفتح ، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فمالهم لا يستبقون إلى الفتح؟ ومالهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا ، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة. ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ واي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ واي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الاُخرى من العرب؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة ، ويؤثر قريشاً بعظائم الاُمور ، ويؤثر بني اُميّة بأعظم هذه العظائم من الاُمور خطراً وأجلّها شأناً.

والشيء الذي ليس فيه شك هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد وسعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً ، وولّى عبداللّه بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى. وجمع الشام كلّها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولّى عبداللّه بن أبي سرح مصر ، بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لاُمّه ، ومنهم أخوه في الرضاعة ، ومنهم خاله ، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى اُميّة بن عبد شمس.

كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها ، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان


بتولية من ولّى وعزل من عزل ، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والاُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس ، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور (١).

إنّ الجهات التي استنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاُمور التالية :

١ ـ إنّ كل المؤرّخين الثقات لم يشيروا إلى قصّة عبداللّه بن سبأ ، كابن سعد في طبقاته ، والبلاذري في فتوحاته.

٢ ـ إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر ، وهو رجل معلوم الكذب ، ومقطوع بأنّه وضّاع.

٣ ـ إنّ الاُمور التي اُسندت إلى عبداللّه بن سبأ ، تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذي خدعهم عبداللّه بن سبأ ، وسخّرهم لمآربه ، وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض ، في منتهى البلاهة والسخف.

٤ ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه ، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة ، ومحمّد بن أبي بكر ، وغيرهم.

٥ ـ قصة الاحراق ، إحراق علي إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة ، ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.

٦ ـ عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في واقعة صفّين وفي حرب النهروان.

__________________

١ ـ الفتنة الكبرى ١٣٤ لاحظ الغدير أيضا ٩ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.


وقد انتهى الدكتور بهذه الاُمور إلى القول : بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج (١).

وقد تبعه غير واحد من المستشرقين ، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإمامة (٢).

إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيد مرتضى العسكري ـ دام ظلّه ـ فألّف كتابه « عبداللّه بن سبأ » ودرس الموضوع دراسة عميقة ، وهو الكتاب الذي يحلّل التاريخ على أساس العلم ، وقد أدّى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنيه : « إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر ، الذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع ، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين واضعاف قوّتهم » (٣).

ولنفترض أنّ للرجل حقيقة وليس اُسطورة تاريخية لكن لا شك أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ، ليحدت فتنة وليزيدها اشتعالا ، وليؤلّب الناس على عثمان ، بل أن ينادي بأفكار غريبة ، ولكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق ، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين

__________________

١ ـ طه حسين : الفتنة الكبرى : فصل ابن سبأ ، وقد لخّص ما ذكرنا من الاُمور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه « هوية التشيّع » ١٤٦.

٢ ـ نظرية الإمامة لأحمد محمود صبحي ٣٧.

٣ ـ عبداللّه بن سبأ ١ / ١١ ، والكتاب يقع في جزأين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدّمت ، وقد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.


طائفة كبيرة من المسلمين (١).

إلى هنا تبيّن أنّ تحليل تكوّن الشيعة عن هذا الطريق تحليل خيالي خادع ، وسراب لا ماء ويتّضح الحق إنّا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلمائهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ.

١ ـ قال الكشي ، وهو من علماء القرن الرابع : عبداللّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة وانّ عليّاً هو اللّه فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) في رجاله في باب أصحاب أميرالمؤمنين : عبداللّه بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (٣).

٣ ـ وقال العلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) : غال ملعون ، حرقه أميرالمؤمنين بالنار ، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبي ، لعنه اللّه (٤).

٤ ـ وقال ابن داود ( ٦٤٧ ـ ٧٠٧ ) : عبداللّه بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (٥).

٥ ـ وذكر الشيخ حسن ( ت ١٠١١ ) في التحرير الطاووسي : غال ملعون حرقه أميرالمؤمنين 7 بالنار (٦).

ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حق الرجل ، فعليه أن يرجع

__________________

١ ـ نظرية الامامة ٣٧.

٢ ـ رجال الكشي ٩٨ برقم ٤٨.

٣ ـ رجال الطوسي : باب أصحاب علي برقم ٧٦ / ٥١.

٤ ـ الخلاصة للعلاّمة : القسم الثاني الباب الثاني : عبداللّه ٢٣٦.

٥ ـ رجال ابن داود : القسم الثاني ٢٥٤ برقم ٢٧٨.

٦ ـ التحرير الطاووسي ١٧٣ برقم ٢٣٤.


إلى رجال الكشي فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حق علي ، وأمّا ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات ، فأقضى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو اُحرق ، والقول بذلك لا يضر بشي ، وأمّا ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير.

وأخيراً فلنفترض أنّ كل ما ساقوه في القصة صحيح ولكن السؤال الذي نطرحه هو أنّه لا ملازمة بين التصديق بها وبين أنّ ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة فإنّ التشيّع حدث في عصر النبي 6 واعتنقته اُمّة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأمّا ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه فإنّه يعبّر عن موقف فردي وتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب ومن تبعه ، فقد أدخل نفسه دار البوار ، وأين هؤلاء من الذين لا يخالفون اللّه ورسوله واُولي الأمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أنملة كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الأشتر وصعصعة وأخيه وعمر بن الحمق ممّن يستدر بهم الغمام وتنزل بهم البركات.

إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلنرجع إلى تحليل النظرية الثالثة.


الافتراض الثالث :

التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة

وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الاسلامي ، وهؤلاء كالباحثين السابقين اعتقدوا أنّ التشيّع ظاهرة حدثت بعد النبي الأكرم ، فأخذوا يفتِّشون عن علّتها وسبب حدوثها حتّى انتهوا إلى أنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة ، والترديد بين الأمرين لأجل أنّ لهم في المقام رأيين.

١ ـ انّ التشيع من مخترعات الفرس ، اخترعوه لأغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس ، ولكنّهم لمّا أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.

٢ ـ انّ التشيع عربي المبدأ ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه صبغه فارسية لم يكن له ذلك من قبل.

وهذان الرأيان هما اللذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت ، وإليك التفصيل.

أمّا الاُولى : فقد اخترعها المستشرق دوزي وحاصله أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية لأنّ العرب كانت تدين بالحرية ، والفرس تدين بالملك ، والوراثة ،


ولا يعرفون معنى الانتخاب ، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولدا ، قالوا علي أولى بالخلافة من بعده.

وحاصله : انّ الإنسجام الفكري بين الفرس والشيعة أعني كون الخلافة أمراً وراثيا ، دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس.

يلاحظ عليه :

أولاً : انّ التشيّع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم وهو الذي سمّى أتباع علي بالشيعة ، وكانوا متواجدين في عصر النبي وبعده ، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس سوى سلمان ، في الإسلام.

إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي ، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع.

وكان لأبي الحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب : أيام خلافته ثلاثة حروب ، حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية ، فقد انضمّ إلى جيشه زرافات من قريش والاُوس والخزرج ، ومن قبائل مذحج ، وهمدان ، وطي ، وكندة ، وتميم ، ومضر ، وكان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر ، وهاشم المرقال ، مالك الأشتر ، صعصعة بن صوحان وأخوه زيد ، قيس بن سعد بن عبادة ، عبداللّه بن عباس ، محمّد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عدي بن حاتم ، وأضرابهم ، وبهذا الجند وباُولئك الزعماء فتح أميرالمؤمنين البصرة وحارب القاسطين معاوية وجنوده يوم صفين ، وبهم قضى على المارقين.

فأين الفرس في ذلك الجيش واُولئك القواد كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الأساس للتشيّع. ثمّ لم يعتنق الفرس التشيّع دون غيرهم ، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من غير العرب.


شهادة المستشرقين على انّ التشيّع عربي المبدأ :

إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم :

١ ـ قال الدكتور أحمد أمين : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع لقدمه على دخول الفرس في الإسلام وقال : والذي أرى كما يدلّنا التاريخ أنّ التشيّع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام ولكن بمعنى ساذج ، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإسلام وحيث انّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيّع (١) وسيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.

٢ ـ قال المستشرق : « فلهوزن » : كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة ولم يقتصر هذا على الأفراد ، بل شمل القبائل ورؤساء العرب (٢).

٣ ـ وقال المستشرق جولد تسيهر : « إنّ من الخطأ القول بانّ التشيّع في منشئه ومراحل نموه يمثّل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الاُمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته ، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية ، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية ، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة (٣).

٤ ـ يقول المستشرق آدم متز : إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها

__________________

١ ـ فجر الإسلام ١٧٦.

٢ ـ الخوارج والشيعة ٢٤١ ـ ١٤٨.

٣ ـ العقيدة والشريعة ٢٠٤.


عدا المدن الكبرى ، مثل مكة وتهامة وصنعاء وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان ، وهجر وصعدة ، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة ، ما عدا قم وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها أنّه نبيّ مرسل (١).

هذه الكلمات من هؤلاء الذين يفقدون الاخلاص غالباً في قضائهم ، أوضح شاهد على أنّهم لم يجدوا لهذه النظرية أي مصدر صحيح.

٥ ـ يقول الشيخ أبو زهرة : إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيع مخلوقاً لهم ، ويضيف : وأمّا فارس وخراسان وماوراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً ، ثم العباسيين ثانياً وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها (٢).

٦ ـ قال السيد الأمين : إنّ الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلاّ القليل وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس ، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية (٣).

وثانياً : انّ التاريخ يدلّنا إلى أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا ، بالصبغة السنّية ، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه ويقول :

كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف ، وكانوا خدمه وخاصته ، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده ، وشهدوا القادسية مع رستم ، ولمّا قتل وانهزم

__________________

١ ـ آدم متز : الحضارة الإسلامية ١٠٢.

٢ ـ الامام جعفر الصادق ٥٤٥.

٣ ـ أعيان الشيعة ١ / ٣٣ ط الخامسة.


المجوس اعتزلوا ، وقالوا : ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ ، وأثرنا عندهم غير جميل ، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم ، فاعتزلوا فقال سعد : ما لهؤلاء ، فأتاهم المغيرة ابن شعبة فسألهم عن أمرهم ، فأخبروه بخبرهم ، وقالوا : ندخل في دينكم ، فرجع إلى سعد فأخبره فأمنهم ، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد ، وشهدوا فتح جلولاء ، ثم تحولوا ، فنزلوا الكوفة مع المسلمين (١).

لم يكن اسلامهم يوم ذاك ، إلاّ كاسلام سائر الشعوب ، فهل يمكن أن يقال : انّ اسلامهم يوم ذاك كان اسلاماً شيعياً.

وثالثاً : إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الذي كان يمشي في سائر الشعوب ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم وكاشان ، فبذروا بذرة التشيّع وكان ذلك في أواخر القرن الأول مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني أي من سنة ١٧ وهذا يعني أنّه قد انقضى عشرات الأعوام ولم يكن عندهم أثر من التشيّع. هذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان ويقول :

« قم ، مدينة تذكر مع قاشان ، وهي مدينة مستحدثة اسلامية لا أثر للأعاجم فيها ، وأوّل من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري ، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة ٨٣ ، وذلك نّ عبدالرحمان بن محمد بن الأشعث بن قيس ، كان أمير سجستان من جهه الحجاج ، ثم خرج عليه وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماة التابعين من العراقيين ، فلمّا انهزم ابن الاشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملته إخوة يقال لهم عبداللّه ، والأحوص ، وعبدالرحمان ، وإسحاق ، ونُعَيم ، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ، وقعوا إلى ناحية قم ، وكان هناك سبع قرى

__________________

١ ـ البلاذري : فتوح البلدان ٢٧٩.


اسم احداها « كمندان » فنزل هؤلاء الاخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولّوا عليها ، وانتقلوا إليها واستوطنوها ، واجتمع عليهم بنوعمّهم وصارت السبع قرى ، سبع محال بها ، وسميت باسم احداها ، « كمندان » فأسقطوا بعض حروفها ، فسميت بتعريبهم قماً وكان متقدم هؤلاء الاخوة عبد اللّه بن سعد ، وكان له والد قد ربى بالكوفة ، فانتقل منها إلى قم ، وكان إمامياً فهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها ، فلا يوجد بها سنّي قط » (١).

هذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت فانّ الفرس وإن كانوا لا يعرفون معنى الإنتخاب والحرية ، ولكن كانت العرب أيضاً مثلهم ، فانّ العربي الذي كان يعيش في البادية عيشة فردية كان يحب الحرية ويمارسها ، وأمّا العربي الذي يعيش عيشة قبلية ، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام اُمورهم وشؤونهم ، فما معنى الحرية بعد هذا ، وإذا مات شيخ القبيلة ، يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر.

تحليل النظرية الثانية :

إنّ هذه النظرية وإن كانت تتعرف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين كـ « فلهاوزن » ، يقول الثاني إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الايرانيين ، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الايرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه ، بل الروايات التاريخية تقول

__________________

١ ـ معجم البلدان ٤ / ٣٩٦ ، مادة قم ، ويقول في مراصد الاطلاع بأنّ أهل قم وكاشان كلهم شيعة إمامية ولاحظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه.


بعكس ذلك ، إذ تقول انّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الأوساط العربية ، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي ، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.

ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية ، وكانت حلقة الإرتباط هي الإسلام ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم ، بل نوعاً جديداً من الدين (١).

أقول : إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعلي لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت علي : هذا هو الذي يصرح به الدكتور أحمد أمين ويقول : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع ، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.

يلاحظ عليه : أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس ، بل وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات ، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثه ، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً ، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت اُموراً وراثية حتّى أنّ النبي الأكرم 6 لم يغيّرها بل أنّه أمضاها ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة لمّا كانت السدانة منصباً لهم أيام الجاهلية ، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب ، فعلى ذلك يجب أن نقول ، انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسانية وحميرية وأخيراً عربية ، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية؟!

__________________

١ ـ الخوارج والشيعة ١٦٩.


إنّ النبوة والوصاية من الاُمور الوراثية في الشرائع السماوية ، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوة والامامة في بيوتات خاصة ، فكان يتوارث نبي نبيّاً ، ووصي وصيّاً ، يقول سبحانه :

( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً وإبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ والكِتابَ ) (١). ( وإِذِ ابْتَلَى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ ) (٢). ( أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبراهيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتَيناهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (٣).

فلماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات التي تصرّح بأنّ الوصاية بين الأنبياء كانت أمراً وراثياً؟ وانّ هذه سنّة اللّه في الاُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه ( لا ينال عهدى الظالمين ) فسمّى الامامة عهد اللّه لا عهد الناس.

ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأً وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد عليهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين ، نعم كانت الري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة : إنّ أكثر أهل الفارس إلى الأن من الشيعة وأنّ الشيعة ، الأولين كانوا من أهل فارس (٤).

أمّا غلبة التشيّع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد ، إنّما الكلام كونهم

__________________

١ ـ الحديد / ٢٦.

٢ ـ البقرة / ١٢٤.

٣ ـ النساء / ٥٤.

٤ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية ١ / ٤١ ط دار الفكر العربي.


كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام ، وكأنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران ، وها نحن ننقل كلام « أحسن التقاسيم » لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن ، هل كان هو التشيّع أم التسنّن يقول :

« اقليم خراسان للمعتزلة والشيعة ، والغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلاّ في كورة الشاش فانّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبداللّه السرخسي ، واقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلاّ أنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل ـ لعلّه يريد أردبيل ـ مذهب أبي حنيفة وبالجبال ، أمّا بالري فمذاهبهم مختلفة ، والغلبة فيهم للحنفية ، وبالري حنابلة كثيرة ، وأهل قم شيعة والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري ، واقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة ، أكثر أهل الأهواز ورامهرمز والدورق حنابلة ، ونصف أهل الأهواز شيعة ، وفيه من أصحاب أبي حنيفة كثير ، وبالأهواز مالكيون ، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة ، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي ، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث ، وأهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذان ـ أي يقولون : حي على خير العمل ـ ويثنون في الاقامة ـ أي يقولون : اللّه أكبر مرتين ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه مرتين أيضاً وهكذا ـ ولا تخلوا القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة (١).

ذكر ابن بطوطة « كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الامامية يسمّى جمال الدين بن مطهر ـ يعني العلامة الحلي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) ـ فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت باسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزيّن له مذاهب الروافض وفضله على غيره ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان واصفهان وكرمان

__________________

١ ـ أحسن التقاسيم لشمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي / ١١٩ ( ألفه عام ٣٧٥ ).


وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد ، فكان أوّل بلاد وصل إليها الأمر بغداد وشيراز واصفهان ، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الازج يقولون لاسمعاً ولا طاعة ، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّر الخطبة وهكذا فعل أهل شيراز وأهل اصفهان (١).

وقال القاضي عياض في مقدمة ـ ترتيب المدارك ـ وهو يحكي انتشار مذهب مالك : وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولاً بيحيى بن يحيى التميمي ، وعبداللّه بن المبارك ، وقتيبة بن سعيد ، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان ، وتفشّى بقزوين وماولاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي (٢).

قال « بروكلمان » : إنّ شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على « الوند » توجّه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف ، من السنّة (٣).

هذه النصوص تعطينا أنّ السنّة كانت هي المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس ، فكيف يمكن أن يقال : إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيّع.

هذا هو ابن الأثير يؤكّد على أنّ أهل طوس كانوا سنَّة إلى عصر محمود بن سبكتكين ، قال : إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر

__________________

١ ـ رحلة ابن بطوطة ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٢ ـ ترتيب المدارك ١ / ٥٣.

٣ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية ١ / ١٤٠.


علي بن موسى الرضا وأحسن عمارته ، وكان أبوه سبكتكين أخربه ، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم ابنه عن ذلك ، وكان سبب فعله ذلك أنّه رأى في المنام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وهو يقول : إلى متى هذا؟ فعلم أنّه يريد أمر المشهد يأمر بعمارته (١).

ويؤيّد ذلك ما رواه البيهقي : انّ المأمون العباسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية ، فقال له يحيى بن أكثم : يا أميرالمؤمنين! العامة لا تتحمّل هذا ولا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرة (٢).

فقد بان ممّا ذكر أمران :

١ ـ انّ التشيع ليس فارسي المبدأ ، وانّما هو حجازي المولد ، والمنشأ اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرس ـ سوى سلمان المحمدي ـ وانّ الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب وانّهم اعتنقوا الإسلام ـ لا التشيّع ـ مثل اعتناق سائر الاُمم وبقوا عليه قروناً وكان التشيّع بينهم قليلا ـ إلى أن ظهر بينهم ، في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية عام ٩٠٥.

٢ ـ انّ كون الامامة منحصرة في علي وأولاده ، ليس صبغة عارضة على التشيّع ، بل هو جوهر التشيّع وحقيقته ولولاه ، فقد التشيّع روحه وجوهره ، فجعل الولاء لآل البيت أو تفضيل علي ، على سائر الخلفاء أصله وجوهره ، وجعل الامامة في علي ونسله أمراً عرضياً فكر خاطئ ليس له دليل.

قال المفيد : الشيعة من دان بوجوب الامامة ووجودها في كل زمان وأوجب

____________

١ ـ ابن الأثير : الكامل في التاريخ ٥ / ١٣٩.

٢ ـ البيهقي : المحاسن والمساوئ ١ / ١٠٨.


النص الجلي والعصمة والكمال لكلّ امام ثم حصر الامامة في ولد الحسين بن علي 8 وساقها إلى الرضا علي بن موسى 8. (١)

__________________

١ ـ اوائل المقالات / ٧


الافتراض الرابع :

الشيعة ويوم الجمل

إنّ الشيعة تكوّنت يوم الجمل لما ذكر ابن النديم : انّ عليّاً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر اللّه جلّ اسمه وتسمّى من اتّبعه على ذلك الشيعة. وكان يقول : شيعتي وسمّاهم 7 الأصفياء ، الأولياء ، شرطة الخميس ، الأصحاب (١).

وعلى ذلك جرى المستشرق « فلهوزن » حيث يقول : بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين : حزب علي ، وحزب معاوية ، والحزب يطلق عليه في العربية اسم « الشيعة » فكانت شيعة عليّ في مقابل شيعة معاوية ، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الاسلام كلّها ... أصبح استعمال لفظ « شيعة » مقصوراً على أتباع علي (٢).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ابن النديم نفس ما ذكره البرقي قبله بقول (٣) في رجاله وإليك نصّه.

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٣ طبع القاهرة.

٢ ـ الخوارج والشيعة ١٤٦ ( ترجمة عبدالرحمان بدوي ، طبع القاهرة ).

٣ ـ توفّي البرقي عام ( ٢٧٤ ) أو ( ٢٨٠ ) وألّف ابن النديم كتابه عام ( ٣٧٧ ) وتوفّي عام ( ٣٧٨ ).


أصحاب أميرالمؤمنين :

من أصحاب رسول اللّه 6 الأصحاب ، ثم الأصفياء ، ثم الأولياء ، ثم شرطة الخميس :

من الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين 7 : سلمان الفارسي ، المقداد ، أبوذر ، عمار ، أبوليلى ، شبير ، أبو سنان ، أبو عمرة ـ أبو سعيد الخدري ( عربي أنصاري ) ـ أبو برزة ، جابر بن عبداللّه ، البراء بن عازب ( أنصاري ) ، عرفة الأزدي ، وكان رسول اللّه 6 دعا له فقال : اللّهمّ بارك ( له ) في صفقته.

وأصحاب أميرالمؤمنين ، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستّة آلاف رجل ، وقال علي بن الحكم ( أصحاب ) أميرالمؤمنين الذين قال لهم : تشرّطوا انّما اُشارطكم على الجنّة ولست اُشارطكم على ذهب وفضّة انّ نبيّنا 6 قال لأصحابه فيما مضى : تشرّطوا فانّي لست اُشارطكم ، إلاّ على الجنّة (١).

ترى انّه عدّ من أصحاب الامام رجالاً ماتوا ، قبل أيام خلافته كسلمان ، وأبوذر والمقداد ، وكلّهم كانوا شيعة الامام ، فكيف يكون التشيّع وليد يوم الجمل والظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم.

وعلى كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص في وجود التشيّع في عصر الرسول وبعده وقبل أن تشب نار الحرب في البصرة ، دليل على وهن هذا الرأي ـ على تسليم دلالة كلام ابن النديم ـ بل كان ذلك اليوم يوم ظهور التشيّع.

فانّ الامام وشيعته بعد خروج الحق عن محوره ، واستتباب الأمر لأبي بكر ، رأوا أنّ مصالح الإسلام والمسلمين تكمن في السكوت ومماشاة القوم ، بينما كان نداء

__________________

١ ـ البرقي : الرجال ٣.


التشيّع يعلو بين آونة واُخرى من جانب المجاهرين بالحقيقة ، كأبي ذر الغفاري وغيره ، ولكن كانت القاعدة الغالبة هو إدلاء الأمر للمتقمّصين بالخلافة والاشتغال برفع مشاكلهم العلمية ، ولكن عندما تمّ الأمر للامام علي ، ورجع الحق إلى محلّه اهتزّت الشيعة فرحاً ، وارتفع كابوس الضغط عنهم ، واستنشقوا نسيم الحرية ـ وإن كانت أياماً قصيرة ـ ففي تلك الأحايين ظهرت المعارضة بين المتشيّعين وغيرهم.



الافتراض الخامس :

الشيعة ويوم صفين

إنّ بعض المستشرقين (١) زعم أنّ الشيعة تكوّنت يوم افترق جيش علي في مسألة التحكيم إلى فرقتين فلمّا دخل علي الكوفة وفارقته الحرورية وثبت إليه الشيعة ، فقالوا : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت.

إنّ رمي الشيعة بالتكوّن يوم صفين اعتماداً على هذه العبارة باطل وانّما ذهب إليه ذلك المستشرق لأنّه افترض لتكوّن الشيعة ، تاريخاً مفصولا عن تاريخ الإسلام فأخذ يتمسّك بهذه العبارة ، مع أنّ تعبير الطبري ، أعني قوله : وثبت إليه الشيعة (٢) دليل على سبق وجودهم على ذلك.

نعم كانت للشيعة بعد تولّي الإمام الخلافة الحرية حيث ارتفع الضغط فالتفّ حوله مواليه من الصحابة والتابعين ، نعم لم يكن كل من في جيشه من الشيعة بالمعنى المصطلح ، وإنّما كانوا يقتدون به لأجل مبايعته.

__________________

١ ـ تاريخ الامامية للدكتور عبداللّه فياض ٣٧.

٢ ـ تاريخ الطبري ٤ / ٤٦ طبع مصر.



الافتراض السادس :

الشيعة والبويهيون

تلقّى آل بويه مقاليد الحكم والسلطة من عام ٣٢٠ ـ ٤٤٧ ، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران كفارس وكرمان وبلاد الجبل وهمدان وإصفهان والري ، وقد اُقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليه عام ٤٢٠ وقد ذكر المؤرّخون خصوصاً ابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم شيئاً كثيراً من أحوالهم ، وخدماتهم ، وافساحهم المجال للعلماء من غير فرق بين طائفة واُخرى. وقد أفرد المستشرق « استانلي لين بول » كتاباً في حياتهم ترجم باسم طبقات سلاطين الإسلام.

يقول ابن الأثير وكان عضد الدولة عاقلاً ، فاضلاً ، حسن السياسة ، كثير الإصابة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، ثاقب الرأي ، محبّاً للفضائل وأهلها ، باذلاً في مواضع العطاء ... إلى أن قال : وكان محبّاً للعلوم وأهلها ، مقرّباً للعلماء ، محسناً إليهم ، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل. فقصده العلماء من كل بلد وصنّفوا له الكتب ومنها الايضاح في النحو ، والحجّة في القراءات ، والمكلى في


الطب ، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك (١). وهذا يدل أنّهم كانوا محبّين للعلم ومروّجين له من غير فرق بين كون العالم من الشيعة أو السنّة. وكان في عصرهم يغلب التسنّن على أكثر البلاد ومع ذلك لم يحاربوا التسنّن خلافاً لملوك السنّة ، فكلّما كانت لهم السلطة والقوّة استأثرت الشيعة ، ولو وقعت في أيّامهم حوادث بين الشيعة والسنّة في الطرق كان التحرّش فيها من طرف السنّة ، ومن الحوادث المؤلمة في نهاية حكمهم بعد دخول طغرل بك مدينة دار السلام ( بغداد ) عام ٤٤٧ ، إحراق مكتبة الشيخ الطوسي وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس (٢). نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم واستنشقوا نسيم الحرية بعد أن تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصاً في عهد المتوكّل ومن بعده. غير أنّ تكوّن مذهب الشيعة في أيّامهم شيئاً وكونهم مروّجين ومعاضدين له شيء آخر ، والمسكين لم يفرّق بينهما.

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٩ / ١٩ ـ ٢١ طبع دار صادر.

٢ ـ لاحظ المنتظم : لابن الجوزي ١٦ / ١٠٨ الطبعة الحديثة بيروت.


الافتراض السابع :

الشيعة والمغول

لمّا اُقصي آل بويه عن الحكم في العراق وإيران ، لم تقم للشيعة دولة قويّة ذات حول وطول بعدهم ، وعاد الضغط على أتباع أهل البيت إلى أن استولى « هولاكو » على ايران وقضى على الخلافة العباسيّة عام ( ٦٦٥ ) فأعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب أهل البيت وعلى ذلك نهج أولاده ، ثمّ أسلم من ملوك المغول أربعة ثالثهم محمّد خدابنده ، ورابعهم سعيد بن محمد خدابنده. فأمّا الأوّل منهما فقد كان حنيفاً ولمّا وفد عليه نظام الدين عبد الملك الشافعي جعله قاضي القضاة في المملكة وكان يناظر الحنيفة في محضر السلطان فيفحمهم ، ولمّا ظهرت له الغلبة حسن للسطان المذهب الشافعي فعدل إليه ، ولمّا كثرت المناظرات بين نظام الدين وعلماء الحنيفة ، وكان ينسب كل منهم إلى مذهب الآخر ما لا تستحسنه العقول ، ظهر عليه الملل والضجر ، وقد ورد إليه في هذه الآونة السيد تاج الاوي مع جماعة من الشيعة وقعت بينه وبين نظام الدين محاضرات بمحضره ، ثم بعد آونة حضر عنده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بمناسبة خاصّة يذكرها التاريخ ، فأمر قاضي القضاة بمناظرته ، وأعدّ لهم مجلساً حافلاً للعلماء وأهل الفضل ، فوقعت المناظرة بينهم في المسائل العقائدية والفقهية ، فظهرت غلبة العالم الشيعي ، فأظهر السلطان


التشيّع من احينه ، وصارت تلك المناظرة سبباً لأنتشار التشيّع (١) وقد استنشقت الشيعة في عصر المغوليين على وجه الاطلاق عطر الحرية ونسيمها ، فازدحمت المراكز العلمية بعلمائهم ومفكّريهم ، كنصير الدين الطوسي والمحقّق الحلّي. وازدهرت بيوتات الشيعة كبيت آل طاووس وآل سعيد وغيرهما. وقد كان للشيعة كيان ونشاط في عصرهم أعادوا مجدهم في عصر البويهيين.

__________________

١ ـ لاحظ منتخب التواريخ لمعين الدين النطزي المؤلف عام ٨١٦ ـ ٨١٧ طبع عام ١٣٣٦.


الإفتراض الثامن :

الشيعة والصفوية

والكلام في هذه الأسرة هو الكلام في البويهيين والمغوليين.

إنّ الصفويين اُسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام (٧٣٥) ولمّا انقرضت دولة المغول ، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة شيعية وغير شيعية إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين ، الشاه إسماعيل عام (٩٠٥) واستلم مقاليد الحكم وسيطر على بلاد فارس والطرق ، واستمرّ في الحكم إلى عام (٩٣٠) ، ثمّ ورثه أولاده إلى أن اُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على ايران عام (١١٣٥) فكان الصفويون خير الملوك لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم ، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم ، ولهم آثار خالدة إلى الآن في ايران والعراق ، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لا تكوّنه.

هذه هي الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم ، وكلّها كانت اُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطئ وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجمتع الاسلامي بعد عهد النبي ، سامحهم الله وغفر الله لنا ولهم.


زلّة لاتستقال :

إنّ الدكتور عبد اللّه فياض زعم أنّ التشيع بمعنى موالاة علي نضج في مراحل ثلاث :

١ ـ التشيّع الروحي ، يقول : إنّ التشيّع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي وتمّت قبل تولّيه الخلافة ، ثم ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.

٢ ـ التشيّع السياسي ، ويريد من التشيّع السياسي ، كون علي أحق بالإمامة لا لأجل بل لأجل مناقبة وفضائله ، ويقول : إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره ـ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية ( يريد النص ) ـ في سقيفة بني ساعدة ، حين أسنَدَ حقَ علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير ، والعباس ، وغيرهما ، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.

٣ ـ ظهوره بصورة فرقة ، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة (٦١) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقه دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال : إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان ، ثمّ تشعّبوا (١) وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق « فلهوزن » قال : تمكّن الشيعة أوّلاً في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية ، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كلّه ، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم (٢).

__________________

١ ـ أحسن التقاسيم ٣٨ طبع ليدن ١٩٠٦.

٢ ـ تاريخ الإمامية ٣٨ ـ ٤٧.


يلاحظ عليه ، أوّلاً : انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليتين وانّ الاُولى منهما كانت في عصر النبي وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال : كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسياً (١).

وثانياً : إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدّل على أنّ عليّاً القائد الروحي ، يدل بوضوح على أنّه القائد السياسي ، وقد نقل الكاتب جل النصوص ، فمعنى التفكيك بينهما هو أنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها ، ولو صحّ اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح اسناده إلى سلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ.

وبما أنّ النبي كان هو القائد المحنَّك للمسلمين لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته ، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى علي في القضايا والأحكام الفقهية ، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وانّ وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.

وثالثاً : إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية ، فانّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى علي ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.

روى الصدوق عن زيد بن وهب انّه قال : كان الذين أنكروا على أبي بكر في تقدّمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فمن المهاجرين خالد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبيّ بن كعب

__________________

١ ـ تاريخ الإمامية ٤٥.


و عمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار زيد بن ثابت ، وذو الشهادتين ، وابن حنيف وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان. وبعدما صعد أبابكر على المنبر قال خالد ابن سعيد : يا أبابكر اتّق الله ... ثم استدلّ على تقدم علي بما ذكره النبي فقال : معاشر المهاجرين والأنصار ، اُوصيكم بوصية فاحفظوها ، وانّي مؤدّ اليكم أمراً فاقبلوه على أنّ عليّاً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم ـ إلى آخر ما ذكره ـ ثمّ قام أبوذر وقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ... طرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما أوعز إليكم ، ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في حجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم (١) وهذا يعرب أنّ التشيّع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال ـ بعد الرحلة ، كان مستفاداً من نصوص النبي 6.

رابعاّ : ماذا يريد من الفرقة وانّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الامام الحسين فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتنى على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاُخرى ، فهذا لم يكن منه أثراً إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة ، ولم يكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب والآخرون بجانب آخر ، بل كان المسلون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول ، ولم يكن يومذاك أيّ اختلاف إلا مسألة القيادة فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.

وإن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية علي روحيّاً وسياسياً وانّه أحق بالقيادة على جميع الموازين ، فكانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.

__________________

١ ـ الخصال ٤٦١ طبع مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للامام أمير المؤمنين 7.


نعم إنّ احتكاك المسلمين مع ألأجانب واستيراد آرائهم وعقائدهم في المسائل الكلاميةو الدينية أوجد فروعاً كلامية ، وبما أنّ الشيعة حسب حديث الثقلين رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان ، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.

الآن حصحص الحق وأسفر الصبح لذي عينين فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام ، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه. وتبنّاه منذ بعثة النبي الأكرم لفائف من الصحابة والتابعين وامتدّ حسب الأجيال والقرون وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون ، وشعراء مجاهرون ، وعباقرة في الحديث ، والفقه والتفسير والفلسفة والكلام واللغة والأدب ، وشاركوا جميع السملين في بناء الحضارة الاسلامية بجوانبها المختلفة ، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في الفصل العاشر باذن اللّه.

وبذلك يظهر وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ (١).

هذه الفروض الوهمية تبتنى على أساس باطل وهو أنّ التشيّع بجميع أو بعض أبعاده أمر طارىء على الاسلام والاُمّة ، فراحوا يتبنّون الفروض الذهنيّة.

__________________

١ ـ لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع ١٨.



الفصل السابع

صيغة الحكومة عند أهل السنّة



قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة ، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة ، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه ، في أمرين :

الأوّل : فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها ، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية ، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها ، سوى تلقّي الوحي الإلهي ، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول ... فلا نبيّ ولا رسول بعده ، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه 6 المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية ، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته ، وقد عرفت قسماً منها ، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول 6 ، لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلا لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية ، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبيّ ، من غير فرق بين الأجتماعية منها والعلمية ، وسد الفراغات الهائلة.

ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وقسمة الفيء بين


المسلمين ، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (١).

ولأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة ، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه ، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور ، وقطع كيد الأعداء ، وتسهيل الحياة للاُمّة فعلى ذلك ، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة ، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية ، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه (٢).

وهذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الذي نذكره في الأمر التالي.

الثاني : انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول ، وأمّا الامام عند أهل السنّة فقد فوّض أمر النتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل ، والذي يظهر من مجموع كلامهم ، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى ، واختيار أهل الحل والعقد أوّلاً ، وبتعيين الامام السابق ثانياً ، وبالغلبة ثالثاً (٣).

قال الماوردي : الامامة تنعقد بوجهين :

أحدهما : باختيار أهل الحل والعقد.

والثاني : بعهد الامام من قبل (٤).

__________________

١ ـ قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانية ١٥ ـ ١٦.

٢ ـ التمهيد للباقلاني ( ت ٤٠٣ هـ ) ١٨١.

٣ ـ الماوردي : الأحكام السلطانية ٦ والتفتازاني : شرح مقاضد الظالبيين في علم اُصول عقائد الدين ٢٧٢ طبع مصر.

٤ ـ الأحكام السلطانية ٤.


وقال العضدي : إنّها تثبت بالنص من الرسول ، وفي الامام السابق بالاجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل (١).

ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة : لا تنعقد الامامة إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّا.

وقالت طائفة : أقل ما تنعقد به منهم خمسة ، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة الجرّاح ، واسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

وقال آخرون : تنعقد بثلاثة ، يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك اُبايعك ، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ (٢).

إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة ، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر ، حيث إنّ النبيّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة ، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته ، فيترك الاُمّة في حيرة.

وقد وقف على ذلك ، الكاتب المصري الخضري ، قال : لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه ، اللّهمّ تلك الأوامر العامة التي تتناول

__________________

١ ـ شرح المواقف ٣ / ٢٦٥.

٢ ـ الأحكام السطانية ٤.


الخلافة وغيرها ، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ ) (١) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة ، إلا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله ، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام (٢).

إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها التي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجاملات الواردة في نص الكتاب.

« كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول 6 القيادة السياسية للدولة الاسلامية التي أسّسها ، وثبّت عناصرها ومرتكزاتها ، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا ، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد ، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارج , أيهمل القيادة والرئاسة للدولة ، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع ، والمطامح , والأهواء ، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض؟ فتعود بذلك بعد موته ، الجاهلية ، وعبادة الطواغيت ، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب ، ومشقّات ، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين ، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين.

__________________

١ ـ الشورى / ٣٨.

٢ ـ محاضرات في تاريخ الاُمم الاسلامية ٢ / ١٦١.


حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحيٍ من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الانسانية بمجالاتها الواسعة ، ولم يهمل حتى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتى آداب التبوّل والتبرّز ، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية ، ورأسها المفكر وقلبها البابض ، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم ـ الامامة والخلافة ـ والملك والسلطان ـ وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين ، واتمام النعمة ، والرضى بالاسلام قال تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ـ المائدة / ٣ (١).

لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى ، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم ، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة ، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة ، حتى لا تتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها ، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى ، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي أثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلاً شكله إلى نظر الاُمّة ، حتى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل الخصوصيات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها ، فلا يصح للشارع أن يترك بيانها ، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها ، إلا عن طريق الشرع ، وهي :

١ ـ من هم المشاركون في الشورى ، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم ، أو المختلط منهم؟

__________________

١ ـ الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم ١٠٢ ـ ١٠٣ طبع عمان ١٤٠٥.


٢ ـ من هم الذين يختارون أهل الشورى؟

٣ ـ لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر ، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة التي ترتبط بنظام الشورى المجمل ، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلا رجماً بالغيب.

ثمّ إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد ، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذا لا يعرف الانسان من هم أهل الحل والعقد ، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الانسان صار من أهل الحل والعقد؟ ما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلاً ، وأهل الحل والعقد ثانياً ، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية.

قال الدكتور طه حسين : لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى ، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف.

وقال الخطيب : إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين (١).

كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين.

__________________

١ ـ الخلافة والامامة للخطيب عبد الكريم ٢٧١.


آيتان حول الشورى :

إنّ القائلين بكون الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم 6 هو الشورى ، استدلّوا بأمرين :

١ ـ الآيتان الواردتان حول الشورى.

٢ ـ انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى.

ونحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز ، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية ، وإليك الآية الاُولى وتحليلها :

١ ـ ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِر لَهُمْ وشاوِرهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) (١).

إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمّة ، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحكاكم الاسلامي الذي تمّت سلطته ، مستبدّاً في أعماله ، وأمّا أنّ الامام ، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه ، والذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبيّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير.

والحاصل : انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلاً وأخذ التصميم النهائي ثانياً , وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى ، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره.

وأمّا الآية الثانية : أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين : ( وأمْرُهُمْ

__________________

١ ـ آل عمران / ١٥٩.


شُورى بَيْنَهُمْ ) (١) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية ، من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذه المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.

وبعبارة اُخرى : انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه وإلى الولي يكون من الاُمور المربوطة باللّه ورسوله ، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين.

أضف إلى ذلك انّه لو كان أساس الحكم في الاسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا.

ولأجل عدم وجود أيّ ايضاح من قبل النبيّ حول النظام المذكور ، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول 6.

يقول : « ينظر بعضهم إليه على انّه ( أي تعيين الامام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة ، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها ، فرداً فرداً ـ فيمن يخلف النبي 6 وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة

__________________

١ ـ الشورى / ٣٨.


للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم التي جريتها الاُمم » (١).

ومعنى ذلك انّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الاُمّة ، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الذي به يناط بقاء الاسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق.

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى :

هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه ، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة التي لا تليق بمجلس كهذا.

كما انّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالاً للاُمّة.

وأمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الذي عيّن أعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية.

وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.

__________________

١ ـ الخلافة والامامة : عبد الكريم الخطيب ٢٧٢.


١ ـ السقيفة وخلافة أبي بكر :

توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي ، وانّ رسول اللّه ما مات ، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه 6 عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه 6 مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس : إنّ رسول اللّه 6 يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه.

وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي 6 فقبّله وقال : بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً (١). ثم خرج فقال : على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال : ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال : ( إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال : ( وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ ) فتشنّج الناس. فقال عمر : واللّه ما هو إلاّ أن

__________________

١ ـ أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا ، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت ، ويقبّله ويتبرّك به ، ويقول بأبيه واُمّه له.


سمعت أبابكر تلاها فدهشت. حتّى وقعت إلى الأرض ، وعرفت أنّ رسول اللّه 6 قد مات (١).

نقاش مع الخليفة :

هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ ، يتفطّن للاجابة عنها وهي :

١ ـ انّ موت النبي الأكرم 6 لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه ، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة الوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال (٢).

وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي 6 ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه.

فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة ( لساناً لا قلباً ) هدفاً سياسيّاً يخبّئ فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة؟

٢ ـ هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر؟

____________

١ ـ السيرة النبوية : ابن هشام ٦٥٥ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

٢ ـ البخاري : الصحيح ، كتاب العلم ١ / ٢٢ وح ٢ / ١٤.


٣ ـ نرى أنّ عم النبي 6 العباس ، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي 6 أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر.

٤ ـ انّه كان مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة ، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه ، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟

٥ ـ كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه ( إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون ) وقوله سبحانه : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ) وغيرهما؟

هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية ، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً ، تجاه المسائل المصيرية.

مأساة السقيفة :

كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص.


فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة.

ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصار ترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له ، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا يحتمل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً.

ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية (١)

فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات اللّه وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ ) (٢).

وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث :

١ ـ ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

٢ ـ وحلم يملك به غضبه.

٣ ـ وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم (٣).

__________________

١ ـ لاحظ : في الوقوف على احتجاج الطائفتين ، السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٦٥٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٢٦٩ وتاريخ الطبري ٢ / ٤٤٢ ـ ٤٤٦.

٢ ـ الحج / ٤١.

٣ ـ الكافي للكليني ١ / ٤٠٧.


وقال الامام علي : « أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل » (١).

وقال ( صلوات اللّه عليه ) أيضاً عندما قال قال كلام « إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي (٢).

وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي 8 فما الامام إلا الحاكم بالكتاب ، الدائن بدين الحق ، القائم بالقسط ، الحابس نفسه على ذات اللّه (٣).

وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه : ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون ) (٤).

ما سمعت من الكلمات ، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب ، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة ، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه لأخذ كرة الخلافة بأي طريق حصل وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة.

هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال : « واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلا

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم ١٧٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم ١٧٢.

٣ ـ روضة الواعظين ٢٠٦.

٤ ـ الأنبياء / ١٠٥.


حطّمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك ( أصل الشجرة ) وعُذيقها المرجَّب ( النخلة المشتملة بالتمر ) أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزي إلىّ الأسد » (١).

وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار وأقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : « أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي » (٢).

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله : « إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم » (٣).

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام ، وينزي عليه وينادي عليه بغضب : « اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة » وقد قام عمر على رأسه ويقول : « لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك أو تندر عيونك » (٤).

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : « واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة » (٥).

وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تكل المشاجرة بقوله : « كثر اللغط

__________________

١ ـ شرح ابن أبي الحديد ٢ / ١٦.

٢ ـ الغدير ٧ / ٧٦.

٣ ـ الامامة والسياسة ١ / ١١ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠.

٤ ـ مسند أحمد ١ / ٥٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، وغيرهما.

٥ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، السيرة الحلبية ٣ / ٣٨٧.


وارتفعت الاصوات حتى تخوّفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يديك يا أبابكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل اللّه سعد بن عبادة » (١).

إنّ الشورى الاسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية ، لا تنعقد إلا بدراسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية ، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر. ونزاهة في الكلام ، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأية بدليل وبرهان ، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتى يصل من خلالها المسلمون إلى ألامثل فالأمثل في موضوع القيادة ، وأمّا المجلس الذي تسل فيه السيوف على المخالف ، ويداس المقابل بالأقدام ، فهذا أشبه ، بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة ، بل أشبه ...

هذا حال السقيفة وأما ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج ، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلا وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له.

ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة ، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالاً بالبيعة ، بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة ، ليتهدّدوا اللائذين به ، الممتنعين عن مبايعته ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، وأتى عمر إلى بيت فاطمه وهو يقول : واللّه لنحرقنّ عليك أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (٢).

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٦٦٠.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، الامامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٣.


ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الأمام من بيته ، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ، وسيق سوقاً عنيفاً ، وقالوا له : بايع ، فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه؟ » فيقال : واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال علي : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » (١).

ولم يكن الضغط منحصراً في علي ، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع علي ، فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر فيكسر (٢).

هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى التي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل ، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين (٣) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة ، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه (٤).

وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت ، وانّها قد كانت كذلك إلا أنّ اللّه قد وقى شرّها ، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فانّه لا بيعة له (٥).

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٣.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ١٩٩ ، الامامة والسياسة ١ / ١١.

٣ ـ سيأتي مصدره.

٤ ـ سيأتي مصدره.

٥ ـ السيرة النبوية ٢ / ٦٥٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٦.


الخلفاء وتناسي الشورى :

قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء ، هلمّ معي ندرس خلافة غيره ، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أيّ مشورة ولا أيّ استفتاء شعبي ، ولا أيّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرون.

روى المؤرّخون : انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان ، فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا ، نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ... (١).

والانسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ ، يقف على قيمة ما ذكره الامام ، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر ، فقال : « احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اُشدد له اليوم أمره ، ليردّه عليك غداً ، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع » (٢) فو اللّه ، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد ، كما عرفت.

وهذا عمر بن الخطّاب ، فبعد ما جرح ودنا أجله قال : سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض ، فأرسل إليهم فجمعهم وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وطلحة ، والزبير بن العوّام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.

فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلا فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى

__________________

١ ـ الامام والسياسية لابن قتيبة ١٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٤٢٥.

٢ ـ الامامة والسياسة ٢٣ ، الكامل ٣ / ٣٥.


تستخلفوا أحدكم.

ثم قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس » (١).

« فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً ، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي 7 بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.

ولمّا رأي الزبير أنّ علياً قد ضعف ، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته. وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله.

وقال سعد بن أبي وقاص : أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له.

فلما لم يبق إلا الثلاثة. علي وعثمان وعبد الرحمن ولكن واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري : بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبد الرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان ، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٢٩٤.


حرمان علي.

فقال عبد الرحمان لعلي وعثمان : أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الأختيار في الأثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد ، فقال عبد الرحمان : اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما ، فامسكا فبدأ بعلي 7 وقال له : اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول 6 وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي ، فعدل عنه الى عثمان فعرض عليه ذلك ، فقال : نعم فعاد إلى علي 7 فأعاد قوله ، وفعل ذلك عبد الرحمان ثلاثاً ، فلمّا رأى أنّ علياً غير راحع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إنّ عليّاً 7 قال له : واللّه ما فعلتها إلا لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر « منشم ».

قيل : ففسد ذلك بين عثمان وعبد الرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمان (١).

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟ :

إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقّ الخليفة باب الشورى

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ ، الجزري : الكامل ٣ وشرح بن أبي الحديد ١ / ١٨٨ ، و« منشم » اسم امرأة عطَّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم ، لاحظ الصحاح للجوهري.


حتى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 حيث قال لعمّه العباس : عُدل بالأمر عنّي يا عم قال : وما عيبك ، قال : قرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلاً ، ورجلان ورجلاً ، فكونوا مع عبد الرحمان بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمان بن عوف ) وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفان (١).

وقال ابن عباس : الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان (٢).

وقد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية :

١ ـ إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة ـ ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده. فأدخل في الشورى رجالاً يسيرون على الخط الذي رسمه الخليفة في نفسه.

وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي 6 مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه ، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبي أيوب مضيّفه 6 وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد.

٢ ـ انتخب رجالاً لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن

____________

١ ـ شرح النهج ١ / ١٩١.

٢ ـ شرح النهج ١ / ١٨٩.


الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي 7 واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء عليّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيد اللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحارفه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي.

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبد الرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته.

وعبد الرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه.

على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان ، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه.

٣ ـ انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة التي فيها عبد الرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبد الرحمان بن عوف ( وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها ) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع.

وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل افسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهّلين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان.


إنّ الامام أمير المؤمنين 7 قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى ، فقال في بعض خطبه : « فيا للّه والشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل حتى صرت اُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن » (١).

وهذا كلام علي في أواخر أيامه. فقد اعترض هو أيضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبد الرحمان قال : أيّها الناس أشيروا عليّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر : إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد : صدق عمّار ، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا ، فقال عبد اللّه بن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، وقال عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي : صدق ، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له : متى كنت تنصح الاسلام؟!

فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال : أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد : يا عبد الرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمان على علي 7 العمل بسيرة الشيخين.

فقال : بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال : نعم ، فقال علي 7 : ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب / الخطبة ٣.


تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلا ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن (١).

وبهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.

إجابه عن سؤال :

إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الاسلام ، فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً (٢).

نقول : إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة ، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ هو نظام الشورى ، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد ، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام ، وما صدَّر به الامام رسالته ، أعني قوله : « انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان » تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ ، على قاعدة « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم ، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي عليّ والطاعة لهم ، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم ، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه ، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى التي تمّت بها ، أو بادّعائها خلافة الخلفاء ، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها.

__________________

١ ـ شرح النهج : لابن أبي الحديد ١ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

٢ ـ الامامة والسياسة ٢٣ ، ونهج البلاغة قسم الرسائل ، برقم ٤٥.


والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة ، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل ، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبيّ وعشيرته ، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول ، وضّحوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه ، فانظر ماذا ترى قاتل اللّه الأنانية ، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.



الفصل الثامن

نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع



دلّت نصوص الخلافة الماضية ، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب المسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية ، غير أنّ رجالاً بعد النبيّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبيّ نداء ربّه ، وانثالوا على أبي بكر ، وبعده على عمر وعثمان ، إلى أن عاد الحق إلى نصابه ، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها ، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها ، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي ، فيقع في الحيرة والتعجّب ، فيقول : لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى ، فلماذا أعرض عنها المسلمون؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع ، ولم ينبس فيه ببنت شفة؟ وهذا هو الذي نجيب عنه في المقام ، فنقول :

إنّ المهم هو بيان السرّ الذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف ، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار ، أو في الحقيقة ـ إعراض الرؤوس منهم عن النص ، وانثيال غيرهم إليهم ، فليس هذا أمراً عجبا ، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص ، واجتهدوا تجاهها كما تقدّم البحث عن موارده ـ. وإليك تشريح ما هم المهم :


إن الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه ، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وانّه تعبير آخر عن غصب حقّه ، يقف عليه كل من قرأ ماساة السقيفة في كتب التاريخ ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد ، وتاريخ الطبري ، والسيرة النبوّية لابن هشام ، ولا العقد الفريد ، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة ، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع ، غير انّ التكليف حسب القدرة ، ـ وبعدها ـ في ظلّ المصالح العامّة ، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه ، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة ، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ.

١ ـ هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة ، وما فيه من مآسي ، يقول : إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه » فقيل له : بايع ، فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة ، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً ، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : « احلب حلباً لك شطره ، وشُدَّ له اليوم ، يردده عليك غداً ـ ثمّ قال : ـ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه » فقال له أبوبكر : فإن لم تبايع فلا اُكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه : يا ابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واستطلاعا ، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء ،


فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه : « اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره ، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ، وحقّه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المتطلّع لأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا » (١).

فأي بيان أروع من هذا البيان ، وأيّ بلاغ أصرح منه ، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية : « ١ ـ ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، ٢ ـ الفقيه في دين اللّه ، ٣ ـ العالم بسنن رسول اللّه ، ٤ ـ المتطلّع لأمر الرعيّة ، ٥ ـ الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، ٦ ـ القاسم بينهم بالسويّة » : ومعني ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات.

٢ ـ لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السقيفة قال ( ع ) : « ما قالت الأنصار؟ » قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير ، فقال : « فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم؟ » قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم؟! فقال 7 : « لو كانت الامامة فيهم ، لم تكن الوصيّة بهم ـ ثم قال : ـ فماذا قالت قريش؟ » قالوا : « احتجّت بأنّها شجرة الرسول 6 ، فقال 7 : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة » (٢).

__________________

١ ـ الامة والسياسة ١ / ١١ ـ ١٢.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٦٧.


وروى الرضي في المقام شعراً للإمام :

فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب (١)

٣ ـ الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر ، بل استمر على بيان الحق بأساليب مختلفة منها أحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة ٢٣ ، قال عمر بن واثلة : كنت على الباب يوم الشورى مع علي 7 في البيت ، فسمعته يقول : « لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك ـ ثمّ قال : ـ أنشدكم اللّه ، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟ » قالوا : لا ... ـ إلى أن قال : ـ « فأنشدكم باللّه ، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟ » قالوا : اللّهمّ لا (٢).

٤ ـ كما ناشد يوم الرحبة سنة ٣٥ ، روى الأصبغ قال : نشد علي الناس في الرحبة : « من سمع النبيّ يوم غدير خم ما قال ، إلا قام ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّه » يقول : فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم أبو أيّوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد اللّه بن ثابت الأنصاري ... فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول : « ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأعن من أعانه » (٣).

ولم تكن المناشدة ، منحصرة بهذين الموردين ، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجة الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير ، وبعده

__________________

١ ـ نهج البلاغة ( قسم الحكم ) برقم ١٩٠.

٢ ـ الصواعق لابن حجر ٧٥ ، المناقب للخوارزمي ١٣٥ برقم ١٥٢ طبع النشر الاسلامي.

٣ ـ اُسد الغابة ٣ / ٣٠٧ و٥ / ٢٠٥.


الحسنان السبطان ، وعبد اللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر ، حتى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية (١).

وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه ، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته ، ويتّضح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية التي ألقاها في آخر خلافته.

وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة ، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة ، ولم يكن يومذاك أيّ منعة وقدرة للإمام ، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة : « فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه » (٢).

ولو افترضنا وجود القدرة ، لكن مصالح الاسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم ، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح ، أمّا الأوّل فيقول : « أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.

فإن أقل ، يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت ، يقولوا : جزع من الموت ، هيهات بعد اللّتيَّا والتي. واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدث اُمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويِّ

__________________

١ ـ راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير ١ / ١٥٩ ـ ٢١٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣.


البعيدة » (١).

وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه 6 وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون ، وهو إشارة إلى الوصيّة التي خصّ بها 7 وانّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (٢).

وقد أوضح ما ذكره مجملاً في هذه الخطبة التي ألقاها بعد وفاة الرسول 6 بخطبته التي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح ـ بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبيّ ، فقال 7 : « إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً 6 نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمّا مضى 7 ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده 6 عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد 6 فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٢١٥.


وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (١).

ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبد اللّه بن جنادة ، قال : قدمت من الحجاز اُريد الطريق في أوّل إمارة علي 7 فمررت بمكّة فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه ، إذ نودي : الصلاة جامعة ؛ فاجتمع الناس وخرج علي 7 متقلّداً سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فحمد اللّه وصلّى على رسوله ، ثم قال : أمّا بعد ، فلمّا قبض اللّه نبيّه 6 قلنا : نحن أهله وورثته ، وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا ، فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الإمرة لغيرنا ـ إلى أن قال : ـ وأيم اللّه ، لو لا مخافة الفرقة بين السلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا » (٢).

كان الامام 7 يرى انّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الاسلام إلى الأخطار المهلكة.

روى الزبير بن بكار ، قال : روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة ، قال : وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه 6 وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال :

ما كنت أحسِب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعلم الناس بالقرآن والسنن؟

وأقرب الناس عهداً بالنبيّ وَمن

جبريل عون له في الغسل والكفن

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قصم الكتب ٦٢.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧ ، والكلمتان متقاربتان.


ما فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمه؟

ها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن!

قال الزبير : فبعث إليه علي فنهاه ، أمراً لا يعود وقال : لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره.

فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوثام والسلام بين المسلمين وانّه لو لا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير ، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه.

« ولو لا مراعاة عليّ للأوضاع والظروف التي أحاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه ، لحدثت تطوّرات في تاريخ الاسلام لا نستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة ، ولكنّه أدركت ذلك ، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام » (١).

كان الامام ينطر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الاسلام ، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الاسلام وإحياء الجاهلية ، فلم ير بدّاً من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء ، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى غير ذلك من الاُمور التي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته ، إلى عام ٣٥ الذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الاسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به ، وكان

__________________

١ ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ٢٨.


الخليفة الثاني متنبّئاً به ، فقال له : لئن وليتها ( الخلافة ) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم ، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع ، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره.

تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن :

كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته ، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الاسلام والمسلمين ، إلى أن قُتِل عثمان وانثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين : لا يصلح للخلافة إلا علي. فقال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ».

روى الطبري نقلاً عن محمّد بن الحنفية : كنت مع أبي ، حين قتل عثمان فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول اللّه ، فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول اللّه 6 فقال : « لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا » فقالوا : « واللّه ما نحن فاعلين حتى نبايعك » فقال : « ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين » ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد اللّه بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد. فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار ، فبايعوه ، ثم بايعه الناس (١).

وفي رواية اُخرى : غشى الناس عليّاً ، فقالوا : نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى ، فقال علي : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول » فقالوا : ننشدك اللّه ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى الاسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف اللّه ،

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٠.


فقال : « قد أجبتكم لما أرى ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فانّما أنا كأحدكم ، إلا أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم » (١).

هذا ما يذكره الطبري ، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول : « فتداكّوا عليّ ، تداكّ الإبل اليهم يوم وِرْدِها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ » (٢).

وفي خطبة اُخرى : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » (٣).

ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا ، مثلما شهدته في ذلك الزمان ، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار ، والتابعون لهم ئإحسان على المبايعة ، ولم يتخلّف إلا قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول : بايعت الأنصار علياً إلا نفراً يسيراً ، منهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبد اللّه بن حسن : كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية ، فقال : أمّا حسّان ، فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٦.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥٣ ، تداكوا : ازدحموا ، والهيم : العطاش ، يوم رودها : يوم شربها ، والمثاني : الحبال.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣ ، عُرْف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، يضرب به المثل الكثرة ، ينثالون : يتتابعون ، شقّ عطفاي : خدش جانباه من الاصطكاك.


ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار اللّه ـ مرتين ـ فقال أبو أيّوب : ما تنصروه إلا إنّه كثر لك من العضدان (١) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة « مُزِينة » وترك ما أخذ منهم له (٢).

قام الامام بواجبه ، وهمَّ بالاصلاح ، وحوله حُسّاد حاقدون ، وأعداء يترقّبون الفرص ، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم ، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد ، وهو يصف ذلك بقوله : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ) (٣) بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حَلِيتْ الدنيا في أعينهم ، وراقهم زِبْرجها. أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة (٤) ظالم ، ولا سغب (٥) مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز » (٦).

فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث ، فالناكثون هم أصحاب الجمل ، الذين لم يجدوا عند الاما إلا الحقّ ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة وأمانتهم في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع

__________________

١ ـ العضاد : كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ / ٤٥٢.

٣ ـ القصص / ٨٣.

٤ ـ الكظّة : البِطْنَة ( ما يعتري الآكل عند امتلاءه بالطعام ) والمراد : استئثار الظالم بالحقوق.

٥ ـ السغب : شدة الجوع.

٦ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٣.


أنّهم هم المحرّضون على قتله ، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك ، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة ، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار ، حتى نزلوا البصرة ، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلا الحرب فدارت الدوائر على الناكثين ، فقتل رؤوس الفتنة ، واُرسلت اُمّ المؤمنين إلى المدينة بتكريم واحترام.

ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد ، فقام ابن آكلة الأكباد ، الطليق ابن الطليق الذي خَذَلَ هثمان ، ولم ينصره ، ثم انتحل دمه وطلب ثأره ، فجمع حوله الهمج والرعاع ، وتحالف مع عمرو بن العاص الذي عزله عثمان عن ولاية مصر ، فألّب عليه كل راع رآه في البادية ، وساومه معاوية على ولاية مصر ، فقابلهم الامام في أرض صفين ، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لو لا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح ، وانطلت الحيلة على عسكر الامام ، وقالوا : له أجب القوم ، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع ، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة ، فطلب منهم المهلة فما أجابوه ، بل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب ، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال ، حتى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس ، فما وافقوه ، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب ، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة ، وكانت نهاية الأمر ، عزل مندوب الامام ( أبو موسى الأشعري ) خليفة المسلمين ، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة ، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى ، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان.

ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي ، ندموا على ذلك ، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين ، فخرجوا عن طاعة علي ، وعن جيشه ، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتى بعد ما دعاهم الامام لاعادة الحرب على


معاوية ، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة ، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره ، كما هم تابوا من كفرهم ، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين ، ولم يكتفوا بذلك ، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء ، ويسفكون الدماء ، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين ، فلم يجد الامام بدّاً من قتالهم ، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، وفي الوقت نفسه هم المارقون ، والمعاندون لله ورسوله ، وفي حقّهم يقول الامام :

« إنّي فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها (١) ، واشتدّ كلبها (٢) » (٣).

هذه حياة الامام على وجه الاجمال ، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبيّ منذ صباه في موطنه ومهجره ، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلا غزوة تبوك ، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه.

ومع الأزمات التي خلّفت عثمان وعمّاله ، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس « استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة التي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه ، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب ، التجسيد الكامل للشريعة الاسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه ، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف ، وثبّت للاسلام دعائمه ، وأعاد إلى النفوس

__________________

١ ـ الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها.

٢ ـ الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٩٣.


المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الاسلامية الخالدة » (١).

قام الامام بالخلافة ، وتقلّدها بعد مقتل عثمان ، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس ، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً ، وأوّل ما قام به ، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين ، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة ، وملكوا العقارات والمواشي ، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث وقاسط ، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب ، والانتقام ، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شافتهم في الحروب والغزوات ، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول ، بل حتى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالاً ولكنّه ـ يا للأسف ـ أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات.

إغارة معاوية على البلاد الآمنة :

هذا ابن أبي سفيان ، لمّا رأى انّ الأمصار الاسلامية عامدا الشام في طاعة الامام ، جمع حوله الأشقياء والبغاة ، يغيرون على البلاد الآمنة ، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد.

١ ـ فأرسل سفيان عوف الغامدي ، وقال : إنّي موجّهك في جيش كثيف ، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات ، حتى تمر بهيت (٢) فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها ، وامض ، حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً ، فامض حتى توغل المدائن ، فكأنّك غرت على الكوفة ، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق

__________________

١ ـ الزيدية نظرية وتطبيق ١٩.

٢ ـ هيت : بلد على الفرات فوق الأنبار.


ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له فينا هوى منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال ـ أي سلبها ـ شبيهة بالقتل ، وهو أوجع للقلب » (١).

ولمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل ، خطب خطبته المعروفة وقال :

« فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة ـ إلى أن قال : ـ وهذا أخو غامد ، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها ، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثمّ انسرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا اُريق لهم دم ، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا » (٢).

٢ ـ هذا بسر بن أرطاة ، بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي 7 فقتل خلقاً كثيراً ، وقتل فيمن قتل ابني عبيى اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، وكانا غلامين صغيرين ، فقالت اُمّهما ترثيهما :

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما

كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف (٣)

وقد خطب الامام بعدما بلغه النبأ بقوله : « اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن ، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ١ / ٣٤٠ ، تشظّا : تفرّق شظايا ، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ٢ / ١٣.


عن حقّكم ، وبمعصيتكم أمامكم بالحق ، وطاعتهم إمامهم بالباطل ، وبأَدائهم الأمانة إلى صاجهم ، وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم ، وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب ، لخشيت أن يذهب بعلاقته » (١).

٣ ـ دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري ، وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي ، فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا ، فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى ، ولا تقيمن لخلي بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها » ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.

فأقبل الضحاك ، فنهب الأموال ، وقتل من لقي من الأعراب ، حتى مرّ بالثعلبية (٢) ، فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود ، صاحب رسول اللّه 6 فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة (٣). وقتل معه ناساً من أصحابه (٤).

٤ ـ ولم يكتف معاوية بهذه الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة ، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية ، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد : كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة ، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف ، قال له : سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا ، فمن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم انّه لا براءة لهم عندك

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٥.

٢ ـ الثعلبية : من منازل طريق مكّة إلى الكوفة.

٣ ـ بالضم ثم السكون : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ١١٦ ـ ١١٧.


ولا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة ، فشتم أهلها وتهدّدهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيراً ، منها دار زرارة بن حرون ، ودار عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ، ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه 6 (١).

وقال المسعودي : قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها ، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان ، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا (٢).

وكانت هذه العصابات الاجرامية ، تأتي إلى العراق فتقتل وتحرق وتدمّر ، إلى آخر حياة الامام ، الذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٠. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها. يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الذي نطرحه في الفصل التالي :

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ١٠ ، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣١ طبعة ١٩٤٨.



الفصل التاسع

الشيعة في العصرين الأموي والعباسي



لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، وهو يصلّي في محراب عبادته ، فلمّا بلغ عائشة قتل علي ، فرحت وقالت :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عيناً بالاباب المسافر

ثم قالت : من قتله؟ فقيل : رجلٌ من مراد ، فقالت :

فان يك نائيا فلقد نعاه

نعي ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعلي؟ فقالت : إنّي أنسى ، فإذا نسيت فذكّروني ...!! (١).

ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال : إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد :

قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل (٢)

فلمّا مات الامام ، خطب الحسن في مسجد الكوفة ، وقال : « ألا انّه قد مضى ، في هذه الليلة ، رجل لم يدركه الأوّلون ، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير ٣ / ٣٩٤ طبع دار صادر.

٢ ـ ناسخ التواريخ ، القسم المختص بحياة الامام ٦٩٢.


وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » (١).

ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري ، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل 7. وبايع هؤلاء ولده الحسن ، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه ، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية (٢).

وهل وفى هؤلاء للحسن 7 وكانوا صادقين في بيعتهم؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح ، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب ، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين ، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً ، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً ، إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية ، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه ، قام وخطب : إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٣.

٢ ـ الكامل ٣ / ٤٠٤ طبع دار صادر.


منها له (١).

فعند ذلك فسح المجال لمعاوية في قتل الشيعة واستئصالهم ، تحت كل حجر ومدر. وجاءت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية ، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الذي يستعرضه في هذا الفصل على وجه الاجمال ، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة ، كان معجزة من معاجز اللّه سبحانه كما يقف على أنّ الصمود والكفاح والرد على الظلمة وأعوانهم ، كان شعار الشيعة منذ عصر الامام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية.

١ ـ رسالة الامام الحسين إلى معاوية :

« أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ اللّه تعالى ، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي ، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردن حرباً ولا خلافاً وانّي لأخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة جرأة على اللّه واستخافاً بعهده. أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي اختلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل.

____________

١ ـ الارشاد للشيخ المفيد ١٩١.


أو لست المدعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسول اللّه 6 انّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل؟

سبحان اللّه يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الاُمّة ، وليسوا منك ، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في حقه زياد أنّه على دين علي كرم اللّه وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمّه 6 الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا منَّةً عليكم ، وقلت فيما قلت : لا تردن هذه الاُمّة في فتنة وانّي لا أعلم لها فتنة أعظم من امارتك عليها ، وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد. وانّي واللّه ما أعرف فضلا من جهادك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي ، وإن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، تكدني يا معاوية ما بدا لك ، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وانّي لأرجو أنّ لا تضر إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك فكدني ما بدالك ، واتّق اللّه يا معاوية! واعلم انّ للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، واعلم أنّ اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّاً يشرب الشرب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية ، والسلام » (١).

هذه رسالة أبي الشهداء ، الحسين بن علي 8 ، وتكفيك بياناً

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٦٤ ، جمهرة الرسائل ٢ / ٦٧ ورواه الكشي في رجاله ٤٨ ـ ٥١ ، والمجلسي في البحار ٤٤ / ٢١٢ ـ ٢١٤.


وبلاغاً لما جنت به يدا معاوية وعماله على شيعة أبيه ، من فتك وقتل ذريع ، للأبرياء وصحابة النبي الأكرم ونردفها بكلام حفيده الامام محمّد الباقر 7 ، قال لبعض أصحابه :

إنّ رسول اللّه 6 قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش ، واحد بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود ، حتّى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه ، ونهب عسكره ، وعولجت خلاخيل اُمّهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل. ثمّ بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم وقتلوه.

ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن 7 فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين 7 ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى انّ الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحبّ إليه من أن يقال : شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل


بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع (١).

ولعلّ في رسالة الامام أبي الشهداء ، وما قاله حفيده الامام الباقر 7 غنى وكفاية لمن أراد أن يعرف الأمر عن كثبٍ ويقف على مظالم الامويين في حق شيعة الامام ، غير أنّه ايضاحاً للحقيقة نؤكّد ذلك بكلام غيرهما لتتم الحجّة على الجميع.

كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة على بن أبي طالب ، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها ، طلبه وأخافه ، فأتى الحسن بن علي مستجيراً به ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته ، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره ، فكتب الحسن إلى زياد : « من الحسن بن علي إلى زياد ، أمّا بعد : فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين لخ له مالهم ، وعليه ما عليهم ، فهدمت داره وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فابن له داره ، واردد عليه عياله وماله ، وشفّعني فيه فقد أجرته » فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة ، أمّا بعد : فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة ، كتبت إليّ في فاسق آويتَه إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك ، وأيم اللّه لا تسبقني به ، ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك ، فإنّ أحبَّ لحم إليّ أن آكل منه ، اللحم الذي أنت منه ، فسلّمه بحريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه ، وإن قتلته لم

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٣ ـ ٤٤.


أقتله إلا لحبّه أباك الفاسق ، والسلام (١).

« كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصر يحرّضهم على لعن عليّ أو البراءة منه ، فملأ منهم المسجد والرحبة ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف » (٢) ، وفي المنتظم لابن الجوزي : إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي ، وعلم أنّهم سيمتنعون ، فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم (٣).

بيان معاوية إلى عماله :

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقام الخطباء ، وفي كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، كان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي 7 فاستعمل عليها زياد ابن سميّة ، وضمّ إليه البرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيّام علي 7 فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق :

__________________

١ ـ شرح ابن أبي الحديد ١٦ / ١٩٤.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٢٦.

٣ ـ المنتطم ٥ / ٢٦٣ طبع بيروت.


ألّا يجيزو لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم : ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيئ أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفعه. فلبثوا بذلك حينا.

ثمّ كتب إلى عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجري حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اُخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره.


فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى انّ الرجل من شيعة علي 7 ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون ، والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها.

وذكر ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي 7 فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين 7 ، وولّي عبد الملك بن مروان ، فاشتدّ على الشيعة ، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي 7 وعيبه ، والطعن فيه ، والشنان له حتى انّ انساناً وقف للحجّاج ـ ويقال انّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً ، وانّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : للطف ما توسّلت به ، قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين واعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في


فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم (١).

فمن أراد أن يفق على الضغط الشديد الذي تعرض له الشيعة في عصر الامويّين فليقرأ حياة الصحابة والتابعين الذين قًتلوا بسيف عمّال معاوية وآل مروان ، وهؤلاء الأبطال :

١ ـ حجر بن عدي الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (٥١) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة ، وانّه يجتمع عليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه. يقول المسعودي :

« في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ـ وهو أوّل من قتل صبراً في الاسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :

ترفَّع أيّها القمر المنير

لعلّك ان ترى حجراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

ليقتله كذا زعم الأمير

و يصلبه على بابي دمشق

و تأكل من محاسنه النسور

فقتله مع أصحابه في مرج العذراء (٢).

٢ ـ عمرو بن الحمق ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الامام الحسين سيّد

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣ ـ ٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٦٢ ـ ٤٦٦ برقم ٩٥.


الشهداء بأنّه : أبلت وجهه العبادة. قتله بعدما أعطاه الأمان (١).

٣ ـ مالك الأشتر ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية قتله بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله (٢).

٤ ـ رشيد الهجري كان من تلاميذ الامام وخواصّه عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى ، فقطع يديه ورجليه ولسانه ، وصلبه خنقاً في عنقه (٣).

٥ ـ جويرية بن مهر العبدي أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة (٤).

٦ ـ قنبر مولى أمير المؤمنين إذ قال الحجّاج لبعض جلاوزته : اُحبّ أن اُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب ، فقالوا : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر ، فبعث في طلبه ، فقال له : أنت قنبر؟ قال : نعم ، قال له : إبرأ من دين علي ، فقال له : هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟

قال : إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك ، قال : أخبرني أمير المؤمنين : انّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة (٥).

٧ ـ كميل وهو من خيار اشيعة وخاصّة أمير المؤمنين طلبه الحجّاج فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم فلمّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي ، فاستسلم للحجّاج ، فلمّا رآه قال له : كنت اُحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل : لا تبرق ولا ترعد ، فو اللّه ما بقي من عمري

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٤ ـ ٣٥ برقم ٦.

٢ ـ شذرات الذهب ١ / ٩١.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٥ ـ رجال الكشي ٦٨ ـ ٦٩ برقم ٢١ الشيعة والحاكمون ٩٥.


إلاّ مثل الغبار ، فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّوجلّ ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أميرالمؤمنين انّك قاتلي ، فقال الحجّاج : الحجّة عليك إذن ، فقال : ذلك إن كان القضاء لك ، قال : بلى ، اضربوا عنقه (١).

٨ ـ سعيد بن جبير التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة وكان يصلّي خلف الامام زين العابدين فلمّا رآه الحجّاج قال له : أنت شقي بن كسير ، فقال : اُمّي أعرف بإسمي منك ، ثم بعد رد وبدل أمر الحجّاج بقتله ، فقال سعيد : وجّهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج : شدّوه إلى غير القبلة ، فقال : أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، فقال : كبوه على وجهه ، قال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اُخرى ، ثم ضربت عنقه (٢).

وسيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام (١٢٢) عند الكلام عن فرق الزيدية فتربّص حتّى حين.

هذه صورة مصغّرة من جنايات البيت الأموي وقد جئنا بها كنموذج يوقفك على كثير وذكرناه لتقف على انّ بقاء التشيّع مع هذه المجازر أشبه بالمعجزة.

الشيعة في خلافة العباسيّين :

دار الزمان على بني اُميّة ، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم ، أثناء خلافتهم إلى أن قضت على آخر ملوكهم ( مروان الحمار ) ( فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُللّهِ رَبِّ العالَمِينَ ) (٣) وولي الأمر العباسيون ، وكان الأمر في القتل

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ / ١٤٩ ، الشيعة والحاكمون ٩٦.

٢ ـ سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٢١ ـ ٣٢٨ ، الجرح والتعديل ٤ / ٩ برقم ٢٩.

٣ ـ الأنعام / ٤٥.


والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر :

واللّه ما فعلت اُميّة فيهم

معشار ما فعلت بنو العباس

١ ـ وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة ( ١٣٢ ) ومات سنة ( ١٣٦ ) ، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين ، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه « أبو العباس السفاح » : « إنّ أصل الدعوة كان لآل علي ، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي : ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي وينفون عنهم حقّ الخلافة ، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة » (١).

٢ ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة ، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال : إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه ، أطرق المنصور كالمنكسر ، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً ، قال لواعظه :

____________

١ ـ أبو العباس السفاح ٤٨ ، كما في الشيعة والحاكمون ١٣٩.


عظني!! (١).

فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.

وأمّا ما جرى منه على العلويّين ، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله : يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين ، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، واُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا (٢).

وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من اُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه ، حتّى بانت عورته ، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلاّد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبنى عليه اسطوانة ، وهو حي ، فمات فيها (٣).

__________________

١ ـ العقد الفريد ١ / ٤١.

٢ ـ مروج الذهب ٣ / ٣١٠ طبع ١٩٤٨.

٣ ـ الكامل ٤ / ٣٧٥.


٣ ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقى في الحكم من سنة (١٥٨) إلى سنة (١٦٩) وكفى في ظلمه للعلويّين ، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسجنه فدسّ إليه السم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.

٤ ـ ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، وكفى فيه ظلمه ـ بالرغم من قصر أيّامه ـ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني : انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور ، أباها واخوتها ومومتها وزوجها علي بن الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ، ابنها الحسين ن وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينا وبينه شيئا حتى لحقت باللّه عزّ وجلّ (١).

٥ ـ ثم تولّى بعده الرشيد سنة (١٧٠) ومات (١٩٣) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً ، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، بني عليه اسطوانة وهو حي ، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً من جدّه المنصور (٢) وأمّا ماجرى منه في حقّ الامام الكاظم فنذكره في المفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة.

٦ ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللّهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.

٧ ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٢٨٥ طبع النجف.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ٣٢٠ طبع النجف ، وروى في مقتله أمراً آخر.


أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ السمّ للإمام الرضا ، وسيوافيك تفصيله.

٨ ـ مات المأمون سنة (٢١٨) وجاء إلى الحكم النه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّ من السجن.

٩ ـ ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا 7 ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون.

١٠ ـ وولى الحكم بعد الواثق ، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده علي آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئ الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (١) قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق ، مسالح له لا يجدرون أحداً زاره إلا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.

وقال : : بعث برجل من أصحابه ( يقال له « الديزج » وكان يهودياً فأسلم ) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضى ذلك ، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه.

وقال : حدثني محمّد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك

__________________

١ ـ الكرب : إثارة الأرض للزرع.


الأيّام خوفاً ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين ، نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمّه ( نتسمه ) ونتحرّى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، واُحرق واُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه .. فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.

وقال : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإنّ قلّ إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عوارى حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه (١). وولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا. وأوّل ما أحدثه انّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي : إنّي اُجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ ، فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم ، إن شاء اللّه. قال : إذاً تسعد

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٣٩٥ ـ ٣٩٦.


بذلك عندي (١).

وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما عزله المنتصر من االبرّ والإحسان ، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج : وكان ـ رضي اللّه عنه ـ رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد اللّه بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّي به.

واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه.

قال أبو الفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.

هذا قليل من كثير من المجازر الدامية ، التي قام بها بنو العباس وأتوا بجرائم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر :

تا للّه إن كانت بنو اُميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتّبعوه رميما

و من أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين ( الاموية والعباسية ) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٦٣٦.


١ ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام ٢٤٦ هـ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت 7 ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة.

أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا ـ رضي اللّه عنه ـ :

مدارس آيات خلت من ثلاوةٍ

ومنزل وحي مقفر العرصات

قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة واقع

يقوم على اسم اللّه والبركات

وبكى الرضا بكاءً شديداً من هذه القصيدة قوله :

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه

وما حكمه بالزور والشبهات

تراث بلا قربى وملك بلا هدى

وحكم بلا شورى بغير هدات

و فيها أيضاً قوله :

لآل الرسول بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجّاد ذي الثفنات

ديار عفاها جور كل منابذ

ولم تعف للايّام والسنوات

ودار لعبد اللّه والفض صنوه

سليل رسول اللّه ذي الدعوات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسنات

منازل وحي اللّه معدن علمه

سبيل رشاد واضح الطرقات

منازل وحي اللّه ينزل حولها

على أحمد الروحات والغدوات

إلى أن قال :

ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا

ودار زياد أصبحت عمرات


وآل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهم

وآل زياد غلّظِ القصرات

وآل رسول اللّه تُدْمى نحورهم

وآل زياد زيّنوا الحجلات

و فيها أيضا :

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين والوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلات (١)

٢ ـ ميميّة الأمير أبي الفراس الحمداني ( ٣٢٠ ـ ٣٥٧ هـ ) ، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، انشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكره العباسي التي مستهلّها :

بني علي دعوا مقالتكم

لا ينقض الدر وضع من وضعه

فقال الأمير في يجوابه ميميّته المعروفة وهي :

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيئ آل رسول اللّه مقتسم

إلى أن قال :

يا للرجال أما للّه منتصر

من الطغاة؟ أما للّه منتقم؟

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم! (٢)

٣ ـ جيميّة ابن الرومي التي رثا بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، وهي :

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٣٩٤ ، وروضة الواعظين للقتال النيسابوري ١٩٤ ، وكشف الغمة للاربلي ٣ / ١١٢ ـ ١١٧ ، وقد ذكرها أكثر المؤرخين.

٢ ـ نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها ، لاحظ ٣ ، ٣٩٩ ـ ٤٠٢.


أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج

طريقان شتّى مستقيم وأعوج

ألا أيّ هذا الناس طال ضريركم

بآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجوا

أكلّ أوانٍ للنبي محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّج (١)

« واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، وجاهدت في سبيل الله حقَّ الجهاد من الاعصار ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا لاموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام.

وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمّةً ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروي وخبراً يتناقل ، وقصصاً يقص ، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه » (٢).

كانت الشيعة حليف الضغط والكبت ، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٦٣٩ ـ ٦٤٦.

٢ ـ مقدّمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صفر : الصفحة ي ـ ك ، طبع دار المعرفة.


الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الاسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم ، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة ، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّاً ، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة.

هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة ورد بغداد سنة ٤٤٧ وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين (١).

قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة (٢).

وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير (٣).

وحيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، أخذ العلماء يهدون إليه

__________________

١ ـ خطط الشام ٣ / ١٨٥.

٢ معجم البلدان ٢ / ٣٤٢.

٣ ـ الكامل في التاريخ ١٠ / ٣.


مؤلّفاتهم ، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد ، وقد احترقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال كرخ عند مجيئ طغرل بيك وتوسّعت الفتنة حتى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.

وقال ابن الجوزي في حوادث سنة ٤٤٨ :

وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ، ثمّ قال في حوادث سنة ٤٤٩ : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي المتكلّم الشيعة في الكرخ ، واُخذ ما وجد من دفاتره وكرسيّ يجلس إليه للكلام ، واُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فاُحرق الجميع (١).

وأنت إذا سبرت غضون التأريخ المؤلّف في عصور الامويّين والعباسيّين ومن بعدهم ـ مع أنّه قد لعبت به الهوى ودسّ فيها أشياء وأشياء ـ تقف على أنّ بقاء الشيعة إلى العصر الحاضر من المعاجز والكرامات وخوارق العادات ، وكيف وانّ تاريخهم هو الذبح ، والقتل ، والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تضافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات ، ومعاهد وكلّيّات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيّون ، ويشكلون اليوم خمس المسلمون أو ربعهم ، إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ

____________

١ ـ المنتظم ٨ / ١٧٣ ـ ١٧٩ ، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش ، لاحظ الصفحة هـ ـ ومن المقدمة.


و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه : ( إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفروا بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) (١).

ولا يفوتنّك انّ ثوراتهم المتعاقبة أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية ، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكن ثوراتهم لم تكن عنصريّة أو قوميّة أو طلباً للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى اعلاء كلمة اللّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين.

__________________

١ ـ الأنفال / ٦٥.


الفصل العاشر

في عقائد الشيعة الإمامية



إنّ المناهج الكلامية التي فرّقت المسلمين إلى مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري ، واستمرّت في القرون التالية ، نجمت عنها فرق اسلامية كالمرجئة ، والجهمية ، والمعتزلة ، والحشوية ، والأشعرية ، والكرامية بفرقهم المتشعّبة ، فأكثر الفرق الإسلامية أو جميعها نتاج البحث والمذاكرة بالاضافة إلى الإحتكاك الفكري بين المسلمين والاُمم الاُخرى التي حملت إليهم مسائل وموضوعات جديدة ، فلا تجد لأكثرها أو جميعها تأريخاً متّصلاً بزمن النبيّ الأكرم ، ويقف على صدق ما ذكرنا من سبر أجزاء كتابنا هذا.

مثلاً الخوارج ـ مضافاً إلى أنّها كانت فرقة سياسيّة نجمت عام ٣٧ من الهجرة أثناء حرب صفين ـ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني.

والمرجئة ظهرت على الأوساط الإسلاميّة عند اختلاف الناس في الخليفتين عثمان وعلي ، ثمّ تطوّرت إلى معنى آخر وكانت حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان وتأخير العمل.

والجهمية نتيجة أفكار « جهم بن صفوان » المتوفّى سنة ١٢٨ ، والمعتزلة تستمد من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى عام ١٣٠ ، وهكذا القدريّة


والكراميّة والظاهريّة والأشعريّة كلّها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون ، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلا بالنبيّ الأكرم.

وأمّا عقائد الشيعة الإماميّة ، فليست حصيلة الاحتكاك بالثقافات الأجنبيّة ولا ما أنتجته البحوث الكلاميّة طوال القرون ، وإنّما هي عقائد مأخوذة من الذكر الحكيم أوّلا ، والسنّة النبويّة ثانياً ، وخطب الامام علي وكلمات العترة الطاهرة المأخوذة من النبيّ الأكرم ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين.

وهذا لا يعني أنّ الشيعة تتعبّد بالنصوص في اُوصلها من دون تحليل وتفكير ، بل يعني أنّ اُصول العقائد الواردة في المصادر المذكورة ، أخذها علماؤهم منها ، وحرّروها بأوضح الوجوه ، ودعموها بالبرهنة ، نعم لا يعتمدون في مجال العقيدة على آحاد الروايات بل يشترط فيها أن تكون متواترة ، أو محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم واليقين ، إذ ليس المطلوب في باب الاعتقاد مجرّد العمل ، بل المطلوب هو الاذعان والإيمان ولا يحصل بآحاد الروايات.

وهنا نكتة جديرة بالتنبيه ، وهي أنّ قوام التشيّع عبارة عن الاعتقاد بأنّ الإمام عليّاً منصوص عليه بالوصاية على لسان النبيّ الأكرم ، وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الوحيد بعد الذكر الحكيم. هذا هو العنصر المقوّم للتشيّع وأمّا سائر الاُصول فإنّها عقائد اسلامية لا تتّصل بالتشيّع دون غيرهم.

وها نحن نذكر قصاصات من عقائد الشيعة الامامية ، الواردة في أحاديث أئمّتهم تارة ، وكلمات علمائهم الأقدمين ثانياً ، حتّى يقف القارئ على جذور تلك العقائد وأنّها مأخوذة عن أئمّتهم الطاهرين ، وفي مقدّمتهم خطب الامام علي 7.


١ ـ ما كتبه الامام الرضا 7 للمأمون في محض الإسلام :

روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار ، فكتب 7 له : « إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً قيّوما ، سميعاً ، بصيراً ، قديراً ، قديماً ، قائماً ، باقياً ، عالماً لا يجهل ، قادراً لا يعجز ، غنيّاً لا يحتاج ، عدلا لا يجور ، وانّه خالق كلّ شيء ، ليس كمثله شيء ، لا شبه له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا كفو له ، وانّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.

وانّ محمّداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه ، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين ، لا نبيّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته ، وانّ جميع ما جاء به محمّد بن عبداللّه هو الحقّ المبين ، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللّه ، وأنبيائه ، وحججه ، والتصديق بكتابه ، الصادق العزيز الذي ( لا يأْْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد ) (١) وانّه المهيمن على الكتب كلّها ، وانّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته ، نؤمن بمحكمه ومتشابهه ، وخاصّه وعامّه ، ووعده ووعيده ، وناسخه ومنسوخه ، وقصصه واخباره ، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله.

وانّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين ، والناطق عن القرآن ، والعالم بأحكامه ، أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه ، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى : علي بن أبي طالب 7 أميرالمؤمنين ، وإمام

__________________

١ ـ فصّلت / ٤٢.


المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وأفضل الوصيّين ووارث علم النبيّين والمرسلين ، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين ، ثمّ محمّد بن علي باقر علم النبيّين ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين ، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمّ علي بن موسى الرضا ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ الحجّة القائم المنتظر ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ.

أشهد لهم بالوصيّة والإمامة ، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان ، وانّهم العروة الوثقى ، وأئمّة الهدى ، والحجّة على أهل الدنيا ، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، وانّ كل من خالفهم ضال ، مضل ، باطل ، تارك للحقّ والهدى ، وانّهم المعبّرون عن القرآن ، والناطقون عن الرسول 6 بالبيان ، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية ، وانّ من دينهم الورع ، والفقه ، والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد ، واداء الأمانة إلى البر والفاجر ، وطول السجود وصيام النهار وقيام الليل واجتناب المحارم ، وانتظار الفرج بالصبر ، وحسن العزاء وكرم الصحبة (١).

ثمّ ذكر الامام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر.

٢ ـ عرض السيّد عبدالعظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي :

روى الصدوق عن عبدالعظيم الحسني (٢) قال : دخلت على سيدي علي بن

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا ٢ / ١٢١ ـ ١٢٢.

٢ ـ عبدالعظيم بن عبداللّه بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب


محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : فلمّأ بَصُرَبي ، قال لي : « مرحباً بك يا أباالقاسم أنت وليّنا حقّا » قال : فقلت له : ياابن رسول اللّه إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضيّاً ثبتّ عليه حتّى ألقى اللّه عزّوجلّ. فقال : « هاتها أبا القاسم ».

فقلت : إنّي أقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج من الحدّين : حدّ الابطال ، وحدّ التشبيه ، وانّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور ، وخالق الاعراض والجواهر ، وربَّ كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه ، وانّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيّين ، فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، وأقول : إنّ الامام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى ابن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ أنت يا مولاي.

فقال 7 : « ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال : فقلت : وكيف ذلك يا مولاي؟ قال : لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل

__________________

: من أصحاب الإمام الهادي ، قال النجاشي : له كتاب خطب أميرالمؤمنين ورد الري هارباً من السلطان وسكن سربا في دار رجل من الشيعة في سكة الموالي ، فكان يعبد اللّه في ذلك السرب ويصوم نهاره ويقوم ليله ، فكان يخرج مستتراً ، فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى بن جعفر 7 فلم يزل بأوى إلى ذلك السرب ويقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة آل محمّد : حتى عرفه اكثرهم. رجال النجاشي ٢ / ٦٥ ـ ٦٦ ، ومات عبد العظيم بالري وقبره مزار. يزوروه الناس. وذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري تحت رقم ١ و٢٠. وذكره أيضاً عمدة الطالب ٩٤.


ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا.

قال : فقلت : أقررت وأقول : إنّ وليّهم وليّ اللّه ، وعدوّهم عدوّ اللّه ، وطاعتهم طاعة اللّه ومعصيتهم معصية اللّه ، وأقول : إنّ المعراج حقّ ، والمساءلة في القبر حقّ ، وانّ الجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والميزان حقّ ، وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللّه يبعث من في القبور ، وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمّد 7 : يا أبا القاسم : « هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة » (١).

وقد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين ، أحدهما قولي ، والآخر امضائي ، وقد أخذوا عقائدهم عن آبائهم الطاهرين.

٣ ـ رسالة الصدوق ٣٠٦ ـ ٣٨١ في عقائد الإمامية :

إنّ لمشايخنا الإمامية قصاصات في بيان عقائد الشيعة ومعارفهم ، ونختار في المقام رسائل موجزة ، من المتقدّمين :

صنّف الشيخ الصدوق ٣٠٦ ـ ٣٨١ رسالة موجزة في عقائد الإمامية ، قال : اعلم انّ اعتقادنا في التوحيد ، أنّ اللّه تعالى واحد ، أحد ، ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، سميعاً بصراً ، عليماً حكيماً ، حيّاً قيّوماً ، عزيزاً قدّوساً ، عالماً قادراً ، غنيّاً ، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض إلى أن قال : ـ وأنّه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه ، خارج عن الحدّين ، حد الأبطال ، وحدّ التشبيه ،

__________________

١ ـ التوحيد : باب التوحيد والتشبيه ٨١ رقم الحديث ٣٧.


وأنّه تعالى شيء لا كالأشياء ، أحد صمد لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يكن له كفواً أحد ، ولا ند ولا ضد ، ولا شبه ولا صاحبة ، ولا مثل ولا نظير ولا شريك له ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ولا الأوهام وهو يدركها ، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير ، خالق كل شيء لا إله إلا هو ، له الخلق والأمر تبارك اللّه ربّ العالمين.

ومن قال بالتشبيه فهو مشرك ، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب ، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع ، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو باطل ، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس ... ثمّ إنّه قدّس اللّه سرّه ذكر الصفات الخبرية في الكتاب العزيز وفسّرها ، وبيّن حدّاً خاصّاً لصفات الذات وصفات الأفعال ، وما هو معتقد الإماميّة في أفعال العباد ، وانّه بين الجبر والتفويض ، كما ذكر عقائدهم في القضاء والقدر ، والفطرة والاستطاعة إلى غير ذلك من المباحث الهامّة ، التي تشكّل العمود الفقري للمعارف الإلهية. حتّى انّه قال :

اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سورة عند الناس ١١٤ سورة ، وعندنا أنّ الضحى والانشراح سورة واحدة ، كما أنّ الإيلاف والفيل سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب ... إلى آخر الرسالة (١).

ثمّ إنّ الشيخ المفيد ٣٣٦ ـ ٤١٣ قد شرح تلك الرسالة بكتاب أسماه شرح عقائد الصدوق ، أو تصحيح الاعتقاد ناقش فيها اُستاذه الصدوق في بعض المواضع التي

____________

١ ـ لاحظ رسالة الصدوق في الاعتقادات ، وقد طبعت غير مرّة ، وعليها شروح وتعاليق العلماء منهم العلّامة المجلسي.


استند فيها الصدوق على روايات غير جامعة للشرائط في باب العقائد (١).

٤ ـ ما أملاه هو أيضاً على جماعة في المجلس الثالث والتسعون ، وجاء فيه : واجتمع في هذا اليوم إلى الشيخ الفقيه أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى ابن بابوية أهل مجلسه والمشايخ ، فسألوه أن يملي عليهم وصف دين الإماميّة على الإيجاز والاختصار ، فقال : دين الإماميّة هو الإقرار بتوحيد اللّه تعالى ذكره ونفي التشبيه عنه ، وتنزيهه عمّا لا يليق ، والإقرار بأنبياء اللّه ورسله وحججه وملائكته وكتبه ، والإقرار بأنّ محمّداً هو سيّد الأنبياء والمرسلين ، وانّه أفضل منهم ومن جميع الملائكة المقرّبين ، وأنّه خاتم النبيّين فلا نبيّ بعده ... إلى آخر ما ذكر (٢).

٥ ـ جمل العلم والعمل للسيّد الشريف المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ :

ألّف السيّد الشريف المرتضى رسالة موجزة في العقائد أسماها جمل العلم والعمل. وفيه عقائد الشيعة على وجه الإيجاز نذكر خصوص ما يرجع إلى التوحيد فعلى القارئ الكريم مطالعة نفس الرسالة ونقتطف ما يلي :

بيان ما يجب اعتقاده أبواب التوحيد :

الأجسام محدَثة لأنّها لم تسبق الحوادث ، فلها حكمها في الحدوث ، ولابدّ لها من محدث ، لحاجة كل محدَث في حدوثه إلى محدِث كالصناعة والكتابة.

ولا بدّ من كونه ( تعالى ) قادراً لتعذّر الفعل على من لم يكن قادراً وتيسّره على

__________________

١ ـ طبع الكتاب مع كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد في تبريز عام ١٣٧١.

٢ ـ الأمالي للشيخ الصدوق ـ أملاه يوم الجمعة الثاني عشر من شعبان سنة ٣٦٨ ـ لاحظ ٥٠٩ طبع بيروت.


من كان كذلك.

ولابدّ من كون محدثها عالماً لأنّ الإحكام ظاهر في كثير من العالم ، والمحكم لا يقع إلا من عالم.

ولابدّ من كونه موجوداً ، لأنّ له تعلّقاً من حيث كان قادراً عالماً ، وهذا الضرب من التعلّق لا يصح إلا مع الوجود.

ويجب كونه قديماً ، لانتهاء الحوادث إليه.

ويجب كونه حيّاً ، وإلا لم يصح كونه قادراً ، عالماً ، فضلاً عن وجوبه.

ويجب أن يكون مدرٍِكاً اذا وجدت المدرَكات ، لاقتضاء كونه حيّاً.

ذلك ، وواجب كونه سميعاً بصيراً ، لأنّه ممّن يجب أن يدرك المدركات إذا وجدت ، وهذه فائدة قولنا سميع بصير.

ومن صفاته ـ وإن كانتا عن علّة ـ كونه تعالى ، مريداً وكارهاً لأنّه تعالى ، قد أمر وأخبر ونهى ، ولا يكون الأمر والخبر ، أمراً ولا خبراً إلا بالإدارة. والنهي لا يكون نهياً إلا بالكراهة.

ولا يجوز أن يستحق هاتين الصفتين لنفسه ، لوجوب كونه مريداً ، كارهاً للشيء الواحد ، على الوجه الواحد.

ولا لعلّة قديمة ، لما سنبطل به الصفات القديمة.

ولا لعلّة محدثة في غير حي لافتقار الإرادة إلى تنبيه. ولا لعلّة موجودة في حي ، لوجوب رجوع حكمها إلى ذلك الحي. فلم يبق إلا أن توجد لا في محل.

ولا يجوز أن يكون له في نفسه صفة زائدة على ما ذكرناه لأنّه لا حكم لها معقول.

وإثبات ما لا حكم له معقول من الصفات ، يفضي إلى الجهالات.

ويجب أن يكون قادراً فيما لم يزل ، لأنّه لو تجدّد له ذلك لم يكن إلا لقدرة


محدثة ، ولا يمكن اسناد احداثها إلا إليه ، فيؤدّي إلى تعلّق كونه قادراً ، بكونه محدثاً وكونه محدثاً ، بكونه قادراً. وثبوت كونه قادراً فيما لم يزل ، يقتضي أن يكون فيما لم يزل حيّاً موجوداً.

ويجب أن يكون عالماً فيما لم يزل لأنّ تجدّد كونه عالماً ، يقتضي أن يكون بحدوث علم ، والعلم لا يقع إلا ممّن هو عالم.

ووجوب هذه الصفات ، لم تدل على أنّها نفسيّة ، وادّعاء وجوبها لمعان قديمة ، تبطل صفات النفس. ولأنّ الاشتراك في القدم ، يوجب التماثل والمشاركة في سائر الصفات. لا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات لإسنادها إلى النفس.

ويجب كونه تعالى غنيّاً غير محتاج ، لأنّ الحاجة تقتضي أن يكون ممّن ينتفع ويستضر وتؤدّي إلى كونه جسماً.

لا يجوز كونه تعالى ( متّصفاً ) (١) بصفة الجواهر والأجسام والاعراض لقدمه وحدوث هذه أجمع ، ولأنّه فاعل الأجسام. الجسم يتعذّر عليه فعل الجسم.

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية لأنّه كان يجب مع ارتفاع الموانع وصحّة أبصارنا أن تراه.

ولمثل ذلك يعلم أنّه لا يدرك بسائر الحواس.

ويجب أن يكون تعالى واحداً لا ثاني له في القدم ، لأنّ إثبات ثان يؤدي إلى إثبات ذاتين لاحكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة ويؤدّي أيضاً إلى تعذّر الفعل على القادر من غير جهة منع معقول. وإذا بطل قديم ثان بطل قول الثنوية

__________________

١ ـ أضفناها من عندنا لاقتضاء السياق.


و النصارى والمجوس ... إلى آخرها (١).

٦ ـ البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان للكراجكي ت ٤٤٩ :

كتب الإمام أبو الفتح الشيخ محمّد بن علي الكراجكي الطرابلسي رساله موجزة في عقائد الإمامية وأسماها « البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان ».

قال : سألت يا أخي أسعدك اللّه بألطافه ، وأيّدك باحسانه ، واسعافه ، أن اثبت لك جملاً من اعتقادات الشيعة المؤمنين ، وفصولاً في المذهب يكون عليها بناء المسترشدين لتذاكر نفسك بها ، وتجعلها عدّة لطالبها ، وأنا أختصر لك القول واُجمله ، واُقرّب الذكر واُسهّله وأورده على سنن الفتيا في المقالة ، من غير حجّة ولا دلالة ، وما توفيقي إلا باللّه.

في توحيده سبحانه :

إعلم أنّ الواجب على المكلّف : أن يعتقد حدوث العالم بأسره ، وانّه لم يكن شيئاً قبل وجوده ، ويعتقد أن اللّه تعالى هو محدِث جميعه ، من أجسامه ، واعراضه ، إلا أفعال العباد الواقعة منهم ، فانّهم محدثوها دونه سبحانه.

ويعتقد أن اللّه قديم وحده ، لا قديم سواه ، وانّه موجود لم يزل ، وباق لا يزال ، وانّه شئء لا كالأشياء. لا شبيه الموجودات ، ولا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات وانّ له صفات يستحقّها لنفسه لا لمعان غيره ، وهي كونه حيّاً ، عالماً ،

__________________

١ ـ جمل العلم والعمل قسم العقائد ، الطبعة الثانية تحقيق رشيد الصفار ، طبعة النجف طالع الرسالة بأجمعها ، نعم رأيه في اعجاز القرآن من القول بالصرف رأي شخصي له ولا يمثّل رأي جمهور الامامية وفيها وراء النصوص ، آراء كلامية.


قديماً ، باقياً لا يجوز خروجه عن هذه الصفات إلى ضدّها ، يعلم الكائنات قبل كونها ، ولا يخفى عليه شيء منها.

في عدله سبحانه :

وانّ له صفات أفعال ، لا يصح اضافتها إليه في الحقيقة ، إلا بعد فعله ، وهي ما وصف به نفسه من انّه خالق ، ورازق ، ومعط ، وراحم ، ومالك ، ومتكلّم ، ونحو ذلك. وانّ له صفات مجازات وهي ما وصف به نفسه ، من أنّه يريد ، ويكره ، ويرضى ، ويغضب. فارادته لفعل هي الفعل المراد بعينه ، وارادته لفعل غيره هي الأمر بذلك الفعل ، وليس تسميتها بالارادة حقيقة ، وانّما هو على مجاز اللغة ، وغضبه هو وجود عقابه ، ورضاه هو وجود ثوابه ، وانّه لا يفتقر إلى مكان ، ولا يدرك بشيء من الحواس.

وانّه منزّه من القبائح ، لا يظلم الناس وإن كان قادراً على الظلم ، لأنّه عالم بقبحه ، غني عن فعله ، قوله صدق ، ووعده حق ، لا يكلّف خلقه على ما لا يستطاع ، ولا يحرمهم صلاحاً لهم فيه الانفاع ، ولا يأمر بما لا يريد ، ولا ينهي عمّا يريد. وانّه خلق الخلق لمصلحتهم ، وكلّفهم لأجل منازل منفعتهم ، وأزاح في التكليف عللهم ، وفعل أصلح الأشياء بهم. وانّه أقدرهم قبل التكليف ، وأوجد لهم العقل والتمييز.

وانّ القدرة تصلح أن يفعل بها وضده بدلاً منه. وانّ الحق الذي يجب معرفته ، يدرك بشيئين ، وهما العقل والسمع ، وانّ التكليف العقلي لا ينفك عن التكليف السمعي. وانّ اللّه تعالى قد أوجد ( للناس ) في كل زمان مسمعاً ( لهم ) من أنبيائه ، وحججه بينه وبين الخلق ، ينبّههم على طريق الاستدلال في العقليات ويفقّههم على ما لا يعلمونه إلا به من السمعيات. وانّ جميع حجج اللّه تعالى محيطون


علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد. وانّهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار. وانّ اللّه فضّلهم على خلقه ، وجعلهم خلفاءه القائمين بحقّه. وانّه أظهر على أيديهم المعجزات ، تصديقاً لهم فيما ادّعوه من الأنباء والاخبار. وانّهم ـ مع ذلك ـ بأجمعهم عباد مخلوقون ، بشر مكلّفون ، يأكلون ويشربون ، ويتناسلون ، ويحيون بإحيائه ، ويموتون بإماتته ، تجوز عليهم الآلام المعترضات فمنهم من قتل ، ومنهم من مات ، لا يقدرون على خلق ، ولا رزق ، ولا يعلمون الغيب إلا ما أعلمهم إله الخلق. وانّ أقوالهم صدق ، وجميع ما أتوا به حق.

في النبوّة العامّة والخاصّة :

وانّ أفضل الأنبياء اُولوا العزم ، وهم خمسة : نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد 6 ، وانّ محمّداً بن عبد اللّه 6 أفضل الأنبياء أجمعين ، وخير الأوّلين والآخرين. وانّه خاتم النبيين وانّ آباءه من آدم 7 إلى عبداللّه بن عبد المطلب ـ رضوان اللّه عليهم ـ كانوا جميعاً مؤمنين ، وموحّدين لله تعالى عارفين ، وكذلك أبو طالب ـ رضوان اللّه عليه ـ.

ويعتقد أنّ اللّه سبحانه شرّف نبيّنا 6 بباهر الآيات ، وقاهر المعجزات ، فسبّح في كفّه الحصاء ، ونبع من أصابعه الماء ، وغير ذلك ممّا قد تضمّنته الأنباء ، وأجمع على صحّته العلماء ، وأتى بالقرآن المبين ، الذي بهر به السامعين ، وعجز من الاتيان بمثله سائر الملحدين.

وانّ القرآن كلام ربّ العالمين ، وانّه محدث ليس بقديم. ويجب أن يعتقد أنّ جميع ما فيه من الآيات الذي يتضمّن ظاهرها تشبيه ألله تعالى بخلقه ، وانّه يجبرهم على طاعته أو معصيته ، أو يضل بعضهم عن طريق هدايته ، فإنّ ذلك كلّه لا يجوز حمله على ظاهرها ، وانّ له تأويلاً ، يلائم ما تشهد به العقول ممّا قدّمنا ذكره في


صفات اللّه تعالى ، وصفات أنبيائه.

فإن عرف المكلّف تأويل هذه الآيات فحسن ، وإلا أجزأ أن يعتقد في الجلمة أنّها متشابهات ، وأنّ لها تأويلاً ملائماً ، يشهد بما تشهد به العقول والآيات والمحكمات ، وفي القرآن المحكم والمتشابه ، والحقيقة والمجاز ، والناسخ والمنسوخ والخاص والعام.

ويجب عليه أن يقر بملائكة اللّه أجمعين ، وأنّ منهم جبرئيل وميكائيل ، وأنّهما من الملائكة الكرام ، كالأنبياء بين الأنام ، وأنّ جبرئيل هو الروح الأمين ، الذي نزل بالقرآن على قلب محمّ خاتم النبيين ، وهو الذي كان يأتيه بالوحي من ربّ العالمين.

ويجب الاقرار بأنّ شريعة الاسلام التي أتى بها محمّد 6 ناسخة لما خالفها من شرائع الأنبياء المتقدّمين.

وأنّه يجب التمسّك بها والعمل بما تضمنّته من فرائضها ، وأنّ ذلك دين اللّه الثابت الباقي إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، لا حلال إلا ما أحلّت ، ولا حرام إلا محرّمت ، ولا فرض إلا ما فرضت ، ولا عبادة إلا ما أوجبت.

وانّ من انصرف عن الاسم ، وتمّسك بغيره ، كافر ضال ، مخلّد في النار ، ولو بذل من الاجتهاد في العبادة غاية المستطاع.

وانّ من أظهر الاقرار بالشهادتين كان مسلماً ، ومن صدّق بقلبه ، ولم يشك في فرض أتى به محمّد 6 كان مؤمناً.

ومن الشرائط الواجبة للإيمان ، العمل بالفرائض اللازمة ، فكل مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمن :

وقوله تعالى :


( إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام ) (١).

إنّما أراد به الإسلام الصحيح التام ، الذي يكون المسلم فيه عارفاً ، مؤمناً ، عالماً بالواجبات طائعاً.

في الإمامة والخلافة :

ويجب أن يعتقد أنّ حجج اللّه تعالى بعد رسوله الذين هم خلفاؤه ، وحفظة شرعه ، وأئمّة اُمّته ، اثنا عشر أهل بيته ، أوّلهم أخوه وابن عمّه ، وصهره بعل فاطمة الزهراء ابنته ، ووصيّه على اُمّته : على بن أبي طالب أمير المؤمنين ، ثمّ الحسن بن على الزكي ، ثمّ الحسين بن علي الشهيد ، ثم علي بن الحسين زين العابدين ، ثمّ محمد بن علي باقر العلوم ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق ، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمّ علي بن موسى الرضا ، ثمّ محمّد بن علي التقي ، ثمّ علي ابن محمّد المنتجب ، ثمّ الحسن بن علي الهادي ، ثمّ الخلف الصالح بن الحسن المهدي ( صلوات اللّه عليهم أجميعن ).

لا إمامة بعد رسول اللّه 6 إلا لهم : ولا يجوز الاقتداء في الدين إلا بهم ، ولا أخذ معالم إلا عنهم.

وأنّهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء :.

وأنّهم أفضل الخلق بعد رسول اللّه 7.

وإنّ إمامتهم منصوص عليها من قبل اللّه على اليقين والبيان.

وأنّه سبحانه أظهر على أيديهم ألآيات ، وأعلمهم كثيراً من الغائبات ، والاُمور المستقبلات ، ولم يعطهم من ذلك إلا ما قارن وجهاً يعلمه من اللطف

__________________

١ ـ آل عمران / ١٩.


والصلاح.

وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام ، ولا يحيطون بالعلم بكل ما علمه اللّه تعالى.

والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل اللّه دونهم ، أكرمهم بها ، ولا صنع لهم فيها.

وأنّهم بشر محدثون ، وعباد مصنوعون ، لا يخلقون ، ولا يرزقون ، ويأكلون ويشربون ، وتكون لهم الأزواج ، وتنالهم الآلام والاعلال ، ويستضامون ، يخافون فيتقون ، وأنّ منهم من قتل ، ومنهم من قبض.

وأنّ إمام هذا الزمان هو المهدي ابن الحسن الهادي ، وأنّه الحجّة على العالمين ، وخاتم الأئمّة الطاهرين ، لا إمامة لأحد بعد إمامته ، ولا دولة بعد دولته ، وأنّه غائب عن رعيته ، غيبة اضطرار وخوف من أهل الضلال ، وللمعلوم عند اللّه تعالى في ذلك الصلاح.

ويجوز أن يعرّف نفسه في زمن الغيبة لبعض الناس ، وأنّ اللّه عزّوجلّ سيظهره وقت مشيئته ، ويجعل له الأعوان والأصحاب ، فيمهّد الدين به ، ( و ) يطهّر الأرض على يديه ، ويهلك أهل الضلال ، ويقيم عمود الإسلام ويصير الدين كلّه للّه.

وأنّ اللّه عزّوجلّ يظهر على يديه عند ظهوره ، الأعلام ، وتأتيه المعجزات بخرق العادات ، ويحيي له بعض الأموات ، فإذا ( أ ) قام في الناس المدّة المعلومة عند اللّه سبحانه قبضه إليه ، ثم لا يمتد بعده الزمان ، ولا تتّصل الأيام حتّى تكون شرائط الساعة ، واماتة من بقى من الناس ، ثم يكون المعاد بعد ذلك.

ويعتقد أنّ أفضل الأئمّة : أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، وأنّه لا يجوز أن يسمّى بأميرالمؤمنين أحد سواه.

وأنّ بقيّة الأئمّة ـ صلوات اللّه عليهم ـ ، يقال لهم : الأئمة ، والخلفاء ،


والأوصياء ، والحجج ، وإن كانوا في الحقيقة اُمراء المؤمنين ، فإنّهم لم يمنعوا من هذا الاسم لأجل معناه ، لأنّه حاصل لهم على الاستحقاق ، وإنّما منعوا من لفظه ، حشمة لأمير المؤمنين 7.

وأنّ أفضل الأئمّة بعد أميرالمؤمنين ، ولده الحسن ، ثمّ الحسين ، وأفضل الباقين بعد الحسين ، إمام الزمان المهدي ( صلوات اللّه عليه ) ثمّ بقية الأئمّة بعده على ما جاء به الأثر وثبت في النظر.

وأنّ المهدي 7 هو الذي قال فيه رسول اللّه :

« لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد ، لطوّل اللّه تعالى ذلك اليوم ، حتّى يظهر فيه رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي ، يملأها عدلا ، وقسطاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً » (١).

فاسمه يواطئ اسم رسول اللّه 6 وكنيته تواطئ كنيته ، غير أنّ النهي قد ورد عن اللفظ ، فلا يجوز أن يتجاوز في القول أنّه المهدي ، والمنتظر ، والقائم بالحق ، والخلف الصالح ، وإمام الزمان ، وحجة اللّه على الخلق.

ويجب أن يعتقد أنّ اللّه فرض معرفة الأئمّة : بأجمعهم ، وطاعتهم ، وموالاتهم والاقتداء بهم ، والبراءة من أعدائهم وظالميهم ... وأنّه لا يتم الايمان إلاّ بموالاة أولياء اللّه ، ومعاداة أعدائه ، وأنّ أعداء الأئمّة

__________________

١ ـ روى هذا الحديث وأمثاله ابن خلدون في المقدّمة في الفصل الثاني والخمسين عن الترمذي ، وأبي داود باختلاف بعض ألفاظه ، وروى حوالي اثنين وثلاثين حديثاً ، وقال في ص ٣١١ من المقدّمة :

« إنّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهدي ، منهم : الترمذي ، وأبوداود ، والبزار ، وابن ماجة ، والحاكم ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، واسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وطلحة ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأنس ، وأبي سعيد الخدري ، واُمّ حبيبة ، واُمّ سلمة ، وثوبان ، وقرّة بن اياس ، وعلي الهلالي ».


: كفّار ملحدون في النار ، وإن أظهروا الإسلام ، فمن عرف اللّه ورسوله والأئمّة الاثني عشر وتولاّهم وتبرّأ من أعدائهم فهو مؤمن ، ومن أنكرهم أو تولّى أعداءهم فهو ضال هالك لا ينفعه عمل ولا اجتهاد ، ولا تقبل له طاعة ولا تصحّ له حسنات ... (١).

في التوبة والحشر والنشر :

ويعتقد أنّ اللّه يزيد وينقص إذا شاء في الأرزاق والآجال.

وأنّه لم يرزق العبد إلاّ ما كان حلالا طيّباً.

ويعتقد أنّ باب التوبة مفتوح لمن طلبها ، وهي الندم على ما مضى من المعصية ، والعزم على ترك المعاودة إلى مثلها.

وأنّ التوبة ماحية لما قبلها من المعصية التي تاب العبد منها.

وتجوز التوبة من زلّة ، إذا كان التائب منها مقيماً على زلّة غيرها لا تشبهها ، ويكون له الأجر على التوبة ، وعليه وزر ما هو مقيم عليه من الزلّة.

وأنّ اللّه يقبل التوبة بفضله وكرمه ، وليس ذلك لوجوب قبولها في العقل قبل الوعد ، وانّما علم بالسمع دون غيره.

ويجب أن يعتقد أنّ اللّه سبحانه ، يميت العباد ويحييهم بعد الممات ليوم المعاد.

وأنّ المحاسبة حق والقصاص ، وكذلك الجنّة والنار والعقاب.

وأنّ مرتكبي المعاصي من العارفين باللّه ورسوله ، والأئمّة الطاهرين ، المعتقدين لتحريمها مع ارتكابها ، المسوّفين التوبة منها ، عصاة فسّاق ، وأنّ ذلك

__________________

١ ـ مكان النقاط كلمات غير واضحة.


لا يسلبهم اسم الايمان كما لم يسلبهم اسم الاسلام (١).

وأنّهم يستحقّون العقاب على معاصيهم ، والثواب على معرفتهم باللّه تعالى ، ورسوله ، والأئمّة من بعده 6.

وما بعد ذلك من طاعتهم ، وأمرهم مردود إلى خالقهم ، وإن عفا عنهم فبفضله ورحمته ، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته ، قال اللّه سبحانه :

( وَآخَرُون مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبَهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢).

وأنّ عقوبة هؤلاء العصاة إذا شاءها اللّه تعالى ، لا تكون مؤبّدة ، ولها آخِر ، يكون بعده دخولهم الجنّة وليسوا من جملة من توجه إليهم الوعيد بالتخليد. والعفو من اللّه تعالى يرجى للعصاة المؤمنين.

وقد غلطت المعتزلة فسمّت من يرجو العفو مرجئاً ، وانّما يجب أن يسمّى راجياً ، ولا طريق إلى القطع على العفو ، وانّما هو الرجاء فقط.

ويعتقد أنّ لرسول اللّه 6 والأئمّة من بعده : شفاعة مقبولة يوم القيامة ، ترجى للمؤمنين من مرتكبي الآثام.

ولا يجوز أن يقطع الإنسان على أنّه مشفوع فيه على كل حال ، ولا سبيل له إلى العلم بحقيقة هذه الحال ، وانّما يجب أن يكون المؤمن واقفاً بين الخوف والرجاء.

ويعتقد أنّ المؤمنين الذين مضوا من الدنيا وهم غير عاصين ، يؤمر بهم يوم

__________________

١ ـ صرّح بهذا المفيد اُستاذ المؤلّف في كتابه أوائل المقالات ص ٤٨ ونسبه إلى اتّفاق الإمامية ، أمّا الخوارج فتسمّي مرتكب الكبيرة مشركاً وكافراً ، والحسن البصري اُستاذ واصل ابن عطاء وعمرو بن عبيد ، سمّاهم منافقين ، وأمّا واصل بن عطاء فوضعهم في منزلة بين منزلتين ، وقال إنّهم فسّاق ليسوا بمؤمنين ، ولا كفّار ، ولا منافقين.

٢ ـ التوبة / ١٠٦.


القيامة إلى الجنّة بغير حساب.

وأنّ جميع الكفار والمشركين ، ومن لم تصح له الاُصول من المؤمنين يؤمر بهم يوم القيامة إلى الجحيم بغير حساب ، وانّما يحاسب من خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، وهم العارفون العصاة.

وأنّ أنبياء اللّه تعالى وحججه : هم في القيامة المسؤولون للحساب باذن اللّه تعالى ، وأنّ حجّة أهل كل زمان يتولّى أمر رعيته الذين كانوا في وقته.

وأنّ سيّدنا رسول اللّه 6 والأئمّة الاثنا عشر من بعده : هم أصحاب الأعراف وهم الذين لا يدخل الجنّة إلا من عرفهم وعرفوه ، ويدخل النار من أنكرهم وأنكروه.

وأن رسول اللّه 6 يحاسب أهل وقته وعصره ، وكذلك كل إمام بعده.

وأنّ المهدي 7 هو المواقف لأهل زمانه ، والمسائل للذين في وقته.

وأنّ الموازين ( التي ) توضع في القيامة ، هي اقامة العدل في الحساب ، والانصاف في الحكم والمجازاة ، وليست في الحقيقة موازين بكفات وخيوط كما يظن العوام.

وأن الصراط المستقيم في الدينا دين محمّد وآل محمّد ( عليه و: ) ، وهو في الآخرة طريق الجنان.

وأنّ الأطفال والمجانين والبله من الناس ، يتفضّل عليهم في القيامة ، بأن تكمل عقولهم ، ويدخلون الجنان.

وأنّ نعيم أهل الجنّة متصل أبداً بغير نفاد ، وأنّ عذاب المشركين والكفّار


متّصل في النار بغير نفاد.

ويجب أن يؤخذ معالم الدين في الغيبة من أدلّة العقل ، وكتاب اللّه عزّو جل ، والأخبار المتواترة عن رسول اللّه 6 وعن الأئمّة 7 (١) وما أجمعت عليه الطائفة الإمامية ، واجماعها حجّة.

فأمّا عند ظهور الإمام 7 فإنّه المفزع عند المشكلات ، وهو المنبّه على العقليات ، والمعرّف بالسمعيات ، كما كان النبي 6.

ولا يجوز استخراج اأحكام في السمعيات بقياس ولا اجتهاد (٢).

فامّا العقليات فيدخلها القياس والاجتهاد ، ويجب على العاقل مع هذا كلّه ألّا يقنع بالتقليد في الاعتقاد وأن يسلك طريق التأمّل والاعتبار ، ولا يكون نظره لنفسه في دينه أقل من نظره لنفسه في دنياه ، فإنّه في اُمور الدينا يحتاط ويحترز ويفكّر ويتأمّل ، ويعتبر بذهنه ، ويستدل بعقله ، فيجب أن يكون في أمر دينه على أضعاف هذه الحال ، فالغرر في أمر الدين أعظم من الغرر في أمر الدنيا.

__________________

١ ـ ما ذكره هو رأي جماعة من علماء الإمامية ، كالشريف المرتضى ، وابن زهرة ، وابن البراج ، والطبرسي ، وابن ادريس وغيرهم ، فقد ذهب هؤلاء إلى عدم اعتبار الخبر الواحد إذا لم يكن مقطوع الصدور عن المعصوم وخصّوا اعتباره بما إذا كان قطعي الصدور ، سواء أكان محتفّاً بقرينة عقلية أو نقلية اُخرى ، فالمهم لدى هؤلاء في اعتبار الخبر أن يفضي إلى العلم ، ولو كان ذلك لاجماع أو شاعد عقلي ، بل صرّح المفيد في أوائل المقالات بأنّه لا يجب العمل بخبر الواحد.

أمّا المشهور بين الإمامية بل المجمع عليه بين المتأخرين منهم فاعتبار الخبر الواحد لقيام الدليل على حجّيته ، ولكل من الفريقين أدلّة على دعواه مذكورة في كتب الاُصول.

٢ ـ المراد بالاجتهاد هنا ليس هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية ، وانّما المراد به الاعتماد على الرأي والاستحسان والقياس ، من دون الرجوع إلى القواعد والاُصول التي ثبتت حجّيتها شرعاً.


فيجب أن لا يعتقد في العقليات إلا ما صحّ عنده حقّه ، ولا يسلم في السمعيات إلا لمن ثبت له صدقه.

نسأل اللّه حسن التوفيق برحمته ، وألّا يحرمنا ثواب المجتهدين في طاعته.

قد أثبتّ لك يا أخي ـ أيّدك اللّه ـ ما سألت ، اقتصرت وما أطلت.

والذي ذكرت أصل لما تركت ، والحمد للّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وسلّم (١).

٧ ـ العقائد الجعفرية تأليف الشيخ الطوسي ٣٨٥ ـ ٤٦٠ :

الشيخ الطوسي ، هو شيخ الطائفة على الاطلاق تلميذ المفيد والمرتضى وقد ورد بغداد عام ٤٠٨ وحضر في أندية دروس اُستاذه المفيد ، فلمّا لبّى الاُستاذ دعوة ربّه حضر لدى المرتضى إلى أن اشتغل بالتدريس والافتاء في عصره وبعده ، وله رسائل وكتب كلامية مفعمة بالتحقيق ، نأتي في المقام بموجز ما دوّنه في عقائد الشيعة في خمسين مسألة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين.

والصلواة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وآله المعصومين الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وجعل كل واحد منهم على الخلق بعد الرسول أميراً.

قال الإمام شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد الطوسي :

__________________

١ ـ أدرج المصنف الرسالة في كتابه القيم : كنز الفوائد لاحظ ٢٤٠ ـ ٢٥٢.


« المسألة ١ » معرفة اللّه واجبة على كل مكلّف ، بدليل أنّه منعم ، فيجب معرفته.

« المسألة ٢ » اللّه تعالى موجود ، بدليل أنّه صنع العالم ، وأعطاه الوجود ، وكل من كان كذلك فهو موجود.

« المسألة ٣ » اللّه تعالى واجب الوجود لذاته ، بمعنى أنّه لا يفتقر في وجوده إلى غيره ، ولا يجوز عليه العدم ، بدليل أنّه لو كان ممكناً لافتقر إلى صانع ، كافتقار هذا العالم ، وذلك محال على المنعم المعبود.

« المسألة ٤ » اللّه تعالى قديم أزلي ، بمعنى أنّ وجوده لم يسبقه العدم. باق أبدي ، بمعنى أنّ وجوده لن يلحقه العدم.

« المسألة ٥ » اللّه تعالى قادر مختار ، بمعنى أنّه إن شاء أن يفعل فعل ، وإن شاء أن يترك ترك ، بدليل انّه صنع العالم في وقت دون آخر.

« المسألة ٦ » اللّه تعالى قادر على كل مقدور ، وعالم بكل معلوم ، بدليل أنّ نسبة جميع المقدورات والمعلومات إلى ذاته المقدّسة المنزّهة على السوية ،فاختصاص قدرته تعالى وعلمه ببعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح ، وهو محال.

« المسألة ٧ » اللّه تعالى عالم ، بمعنى أنّ الأشياء منكشفة واضحة له ، حاضرة عنده غير غائبة عنه ، بدليل أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة ، وكل من فعل ذلك فهو عالم بالضرورة.

« المسألة ٨ » اللّه تعالى يدرك لا بجارحة ، بل بمعنى أنّه يعلم ما يدرك بالحواس ، لأنّه منزّه عن الجسم ولوازمه ، بدليل قوله تعالى : ( لا تَدْرِكُهُ


الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ ) (١) فمعنى قوله تعالى : ( إنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصير ) (٢) انّه عالم بالمسموعات لا باُذن ، وبالمبصرات لابعين.

« المسألة ٩ » اللّه تعالى حي ، بمعنى أنّه يصح منه أن يقدر ويعلم. بدليل أنّه ثبتت له القدرة والعلم وكل من ثبتت له ذلك فهو حي بالضرورة.

« المسألة ١٠ » اللّه تعالى متكلّم لابجارحة ، بل بمعنى أنّه أوجد الكلام في جرم من الأجرام ، أو جسم من الأجسام ، لإيصال عظمته إلى الخلق ، بدليل قوله تعالى : ( وَكلَّمَ اللّهُ مَوسى تَكْلِيماً ) (٣) ولأنّه قادل ، فالكلام ممكن.

« المسألة ١١ » اللّه تعالى صادق ، بمعنى انّه لا يقول إلا الحق الواقع ، بدليل أنّ كل كذب قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن القبيح.

« المسألة ١٢ » اللّه تعالى مريد ، بمعنى أنّه رجّح الفعل إذا علم المصلحة ( يعني أنّه غير مضطر وأنّ ارادته غير واقعة تحت ارادة اُخرى ، بل هي الارادة العليا التي إن رأى صلاحاً فعل ، وإن رأى فساداً لم يفعل ، باختيار منه تعالى ) بدليل أنّه ترك ايجاد بعض الموجودات في وقت دون وقت ، مع علمه وقدرته ـ على كل حال ـ بالسوية. ولأنّه نهى وهو يدل على الكراهة.

« المسألة ١٣ » انّه تعالى واحد ، بمعنى أنّه لا شريك له في الالوهية ، بدليل قوله ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) (٤) ولأنّه لو كان له شريك لوقع التمانع ، ففسد النظام ، كما قال : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتَا ) (٥).

__________________

١ ـ الأنعام / ١٠٣.

٢ ـ الإسراء / ١ ، غافر / ٥٦.

٣ ـ النساء / ١٦٤.

٤ ـ الإخلاص / ١.

٥ ـ الأنبياء / ٢٢.


« المسألة ١٤ » اللّه تعالى غير مركّب من شيء ، بدليل أنّه لو كان مركّباً لكان مفتقراً إلى الأجزاء ، والمفتقر ممكن.

« المسألة ١٥ » اللّه تعالى ليس بجسم ، ولا عرض ، ولا جوهر ، بدليل أنّه لو كان أحد هذه الأشياء لكان ممكناً مفتقراً إلى صانع ، وهو محال.

« المسألة ١٦ » اللّه تعالى ليس بمرئي بحاسة البصر في الدنيا والآخرة ، بدليل أنّه تعالى مجرّد ، ولأنّ كل مرئي لابد أن يكون له الجسم والجهة ، واللّه تعالى منزّه عنهما ولأنّه تعالى قال : ( لَنْ تَرَانِي ) (١) وقال : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبصارُ ) (٢).

« المسألة ١٧ » اللّه تعالى ليس محلّاً للحوادث ، وإلا لكان حادثاً ، وحدوثه محال.

« المسألة ١٨ » اللّه تعالى لا يتّصف بالحلول ، بدليل أنّه يلزم قيام الواجب بالممكن وذلك محال.

« المسالة ١٩ » اللّه تعالى لا يتّحد بغيره ، لأنّ الاتّحاد صيرورة الشيء واحداً من غير زيادة ونقصان ، وذلك محال ، واللّه لا يتّصف بالمحال.

« المسألة ٢٠ » اللّه تعالى منفي عنه المعاني والصفات الزائدة ، بمعنى أنّه ليس عالماً بالعلم ، ولا قادراً بالقدرة ( بل علم كلّه ، وقدرة كلّها ) ، بدليل أنّه لو كان كذلك بزم كونه محلّاً للحوادث لو كانت حادثة ، وتعدّد القدماء لو كانت قديمة ، وهما محالان ، وأيضاً لزم افتقار الواجب إلى صفاته المغايرة له ، فيصير ممكناً وهو ممتنع.

« المسألة ٢١ » اللّه تعالى غني ، بمعنى أنّه غير محتاج إلى ما عداه ،

__________________

١ ـ الأعراف / ١٤٣.

٢ ـ الأنعام / ١٠٣.


والدليل عليه أنّه واجب الوجود لذاته ، فلا يكون مفتقراً.

« المسألة ٢٢ » اللّه تعالى ليس في جهة ، ولا مكان ، بدليل أنّ كل ما في الجهة والمكان مفتقر إليهما ، وأيضاً قد ثبت أنّه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، فلا يكون في المكان والجهة.

« المسألة ٢٣ » اللّه تعالى ليس له ولد ، ولا صاحبة ، بدليل أنّه قد ثبت عدم افتقاره إلى غيره ، ولأنّ كل ما سواه تعالى ممكن ، فكيف يصير الممكن واجباً بالذات ، ولقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١) و ( مَثَلَ عِيسى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ) (٢).

« المسالة ٢٤ » اللّه تعالى عدل حكيم ، بمعنى أنّه لا يفعل قبيحاً ولا يخل بالواجب بدليل أنّ فعل القبيح قبيج ، والاخلال بالواجب نقص عليه ، فاللّه تعالى منزّه عن كل قبيح واخلال بالواجب.

« المسألة ٢٥ » الرضا بالقضاء والقدر واجب ، وكل ما كان أو يكون فهو بالقضاء والقدر ولا يلزم بهما الجبر والظلم ، لأنّ القدر والقضاء هاهنا بمعنى العلم والبيان ، والمعنى أنّه تعالى يعلم كل ما هو ( كائن أو يكون ) (٣).

« المسألة ٢٦ » كل ما فعله اللّه تعالى فهو أصلح ، وإلا لزم العبث ، وليس تعالى بعابث ، لقوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) (٤).

« المسألة ٢٧ » اللّطف على اللّه واجب ، لأنّه خلق الخلق ، وجعل فيهم الشهوة ، فلو لم يفعل اللطف لزم الاغراء ، وذلك قبيح ، ( واللّه لا يفعل القبيح )

__________________

١ ـ الشورى / ١١.

٢ ـ آل عمران / ٥٩.

٣ ـ الاضافة منّا لإكمال العبارة.

٤ ـ المؤمنون / ١١٥.


فاللطف هو نصب الأدلّة ، واكمال العقل ، وارسال الرسل في زمانهم ، وبعد انقطاعهم ابقاء الإمام ، لئلّا ينقطع خيط غرضه.

« المسألة ٢٨ » نبيّنا « محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف » رسول اللّه 6 حقأ صدقاً. بدليل أنّه ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزات على يده ، فثبت أنّه رسول حقّاً ، وأكبر المعجزات « القرآن الحميد » والفرقان المجيد الفارق بين الحق والباطل ، باق إلى يوم القيامة ، حجّة على كافّة النسمة.

ووجه كونه معجزاً : فرط فصاحته وبلاغته ، بحيث ما تمكّن أحد من أهل الفصاحة والبلاغة حيث تحدّوا به ، أنّ يأتوا ولو بسورة صغيرة ، أو آية تامّة مثله.

« المسألة ٢٩ » كان نبيّنا نبياً على نفسه قبل البعثة ، وبعده رسولاً إلى كافّة النسمة لأنّه قال « كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين » وإلا لزم تفضيل المفضول ، وهو قبيح.

« المسألة ٣٠ » جميع الأنبياء كانوا معصومين ، مطهّرين عن العيوب والذنوب كلّها ، وعن السهو والنسيان في الأفعال والأقوال ، من أوّل الأعمار إلى اللحد ، بدليل انّهم لو فعلوا المعصية أو يطرأ عليهم السهو لسقط محلّهم من القلوب ، فارتفع الوثوق والاعتماد على أقوالهم وأفعالهم ، فتبطل فائدة النبوّة ، فما ورد في الكتاب ( القرآن ) فيهم فهو واجب التأويل.

« المسألة ٣١ » يجب أن يكون الأنبياء أعلم وأفضل أهل زمانهم ، ولأنّ تفضيل المفضول قبيح.

« المسألة ٣٢ » نبيّنا خاتم النبيين والمرسلين ، بمعنى أنّه لا نبي بعده إلى يوم القيامة ، يقول تعالى : ( ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللّهِ


وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (١).

« المسألة ٣٣ » نبيّنا أشرف الأنبياء والمرسلين ، لأنّه ثبتت نبوّته ، وأخبر بأفضليته فهو أفضل ، لمّا قال لفاطمة 7 : « أبوك خير الأنبياء ، وبعلك خير الأوصياء ، وأنت سيدة نساء العالمين ، وولدك الحسن والحسين 8 سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما خير منهما » (٢).

« المسألة ٣٤ » معراج الرسول بالجسم العنصري علانية ، غير منام ، حق ، والأخبار عليه بالتواتر ناطقة ، صريحة ، فمنكره خارج عن الاسلام ، وأنّه مر بالأفلاك من أبوابها من دون حاجة إلى الخرق والالتيام ، وهذه الشبهة الواهية مدفوعة مسطورة بمحالها.

« المسألة ٣٥ » دين نبيّنا ناسخ للأديان السابقة ، لأنّ المصالح تتبدل حسب الزمان والأشخاص كما تتبدّل المعالجات لمريض بحسب تبدل المزاج والمرض.

« المسألة ٣٦ » الإمام بعد نبيّنا علي بن أبي طالب 7 بدليل قوله 6 : « يا علي أنت أخي ووارث علمي وأنت الخليفة من بعدي ، وأنت قاضي ديني ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي » (٣) وقوله : « سلّموا على علي بإمرة المؤمنين ، واسمعوا له وأطيعوا له ، وتَعَلّموا منه ولا تُعَلّموه » (٤) ، وقوله : « من كنت مولا فهذا علي مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من

__________________

١ ـ الأحزاب / ٤٠.

٢ ـ راجع ينابيع المودّة ٤٣٤ ـ ٤٣٦.

٣ ـ راجع صحيح مسلم ٧ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، باب فضائل علي 7 ، وصحيح البخاري ٥ / ١٩ باب مناقب علي 7 و٦ / ٣ باب غزوة تبوك ، ومسند أحمد ١ / ١٧٤ ـ ١٧٧ و٣ / ٣٢ و٦ / ٣٦٩.

٤ ـ راجع البحار ٣٧ / ٢٩٠ ـ ٣٤٠.


عاداه » (١).

« المسألة ٣٧ » الأئمّة بعد علي : أحد عشر من ذرّيته ، الأوّل منهم ولده الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق ، ثمّ موسى بن جعفر ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد ابن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسين بن علي ، ثمّ الخلف الحجّة القائم المهدي الهادي بن الحسن صاحب الزمان فكلّهم أئمّة الناس واحد بعد واحد ، حقّاً ، بدليل أنّ كل إمام منهم نصّ على من بعده نصّاً متواتراً بالخلافة ، وقوله : « الحسين إمام ، ابن إمام ، أخو الامام ، أبو الأئمّة التسعة ، تاسعهم قائمهم ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ».

« المسألة ٣٨ » يجب أن يكون الأئمّة معصومين مطهّرين من الذنوب كلّها ، صغيرة وكبيرة ، عمداً وسهواً ، ومن السهو في الأفعال والأقوال ، بدليل أنّهم لو فعلوا المعصية لسقط محلهم من القلوب ، وارتفع الوثوق ، وكيف يهدون بالضالّين المضلّين ، ولا معصوم غير الأئمّة الاثني عشر اجماعاً ، فثبت إمامتهم.

« المسألة ٣٩ » يجب أن يكون الأئمّة أفضل وأعلم ، ولو لم يكونوا كذلك للزم تفضيل المفضول ، أو الترجيح بلا مرجح ، ولا يحصل الانقياد به ، وذلك قبيح عقلاً ونقلاً ، وفضل أئمّتنا وعلمهم مشهور ، بل أفضليتهم أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

« المسألة ٤٠ » يجب أن نعتقد أنّ آباء نبيّنا وأئمّتنا مسلمون أبدا ، بل أكثرهم كانوا أوصياء ، فالأخبار عند أهل البيت على إسلام أبي طالب مقطوعة

__________________

١ ـ راجع مسند أحمد ١ / ٨٤ ـ ١٥٢ و٤ / ٢٨١ و٣٧٠ و٣٧٢ و٥ / ٣٦٦ ـ ٤١٩ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٣٣.


وسيرته أدلّة عليه ، ومثله مثل مؤمن آل فرعون.

« المسألة ٤١ » الإمام المهدي المنتظر محمّد بن الحسن قد تولّد في زمان أبيه ، وهو غائب حي باق إلى بقاء الدنيا ، لأنّ كل زمان لابد فيه من إمام معصوم ، لما انعقد عليه اجماع الاُمّة على أنّه لا يخلو زمان من حجّة ظاهرة مشهورة ، أو خافية مستورة ، ولأنّ اللطف في كل زمان واجب ، والإمام لطف ، فوجوده واجب.

« المسألة ٤٢ » لا استبعاد في طول عمره ، لأنّ غيره من الاُمم السابقة قد عاش ثلاثة آلاف سنة فصاعداً ، كشعيب ونوح ولقمان وخضر وعيسى : وابليس والدجّال ، ولأنّ الأمر ممكن ، واللّه قادر على جميع الممكنات.

« المسألة ٤٣ » غيبة المهدي لا تكون من قبل نفسه ، لأنّه معصوم ، فلا يخل بواجب ، ولا من قبل اللّه تعالى ، لأنّه عدل حكيم فلا يفعل القبيح ، لأنّ الإخفاء عن الأنظار وحرمان العباد عن الافادات قبيحان. فغيبته لكثرة العدو والكافر ، ولقلّة الناصر.

« المسألة ٤٤ » لابد من ظهور المهدي ، بدليل قول النبي 6 : « لو لم يبق من الدنيا إلا ساعة واحدة لطوّل اللّه تلك الساعة حتى يخرج من ذرّيتي ، اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً » (١). ويجب على كل مخلوق متابعته.

« المسألة ٤٥ » في غيبة الامام فائدة ، كما تنير الشمس تحت السحاب ، والمشكاة من وراء الحجاب.

__________________

١ ـ راجع سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ، كنز العمال ١٤ / ٢٦٤ ـ ٢٦٧.


« المسألة ٤٦ » يرجع نبيّنا وأئمّتنا المعصومون في زمان المهدي مع جماعة من الاُمم السابقة واللاحقة ، لاظهار دولتهم وحقهم ، وبه قطعت المتواترات من الروايات والآيات لقوله تعالى : ( وَيوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ اُمَّةٍ فَوْجاً ) (١) فالاعتقاد به واجب.

« المسألة ٤٧ » إنّ اللّه يعيد الأجسام الفانية كما هي في الدنيا ، ليوصل كل حق إلى المستحق ، وذلك أمر ممكن ، والأنبياء أخبروا به ، لا سيّما القرآن المجيد مشحون به ولا مجال للتأويل ، فالاعتقاد بالمعاد الجسماني واجب.

« المسألة ٤٨ » كل ما أخبر به النبي أو الإمام فاعقاده واجب ، كاخبارهم عن نبوّة الأنبياء السابقين ، والكتب المنزلة ، ووجود الملائكة ، وأحوال القبر وعذابه ، وثوابه وسؤال منكر ونكير ، والاحياء فيه ، وأحوال القيامة وأهوالها ، والنشور ، والحساب والميزان ، والصراط ، وانطاق الجوارح ، ووجود الجنّة والنار والحوض الذي يسقي منه أمير المؤمنين العطاشي يوم القيامة ، وشفاعة النبي والأئمّة لأهل الكبائر من محبيه إلى غير ذلك ، بدليل أنّه أخبر بذلك المعصومون.

« المسألة ٤٩ » التوبة ـ وهي الندم على القبيح في الماضي ، والترك في الحال ، والعزم على عدم المعاودة إليه في الاستقبال ـ واجبة ، لدلالة السمع على وجوبها ، ولأنّ دفع الضرر واجب عقلاً.

« المسألة ٥٠ » الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، واجبان ، بشرط تجويز التأثير والأمن من الضرر (٢).

__________________

١ ـ النمل / ٨٣. أصل الرجعة اجماعيّ والكيفية الواردة في المتن ليست كذلك.

٢ ـ طبعت الرسالة مع جواهر الفقه للقاضي ابن البراج وفي ضمن الرسائل العشر للشيخ الطوسي 1.


ماهو الهدف من نقل هذه الرسائل :

١ ـ إنّ هذه الرسائل لدليل واضح على أنّ جلّ عقائد الشيعة ، مأخوذة من الكتاب والسنّة وكلمات أئمّتهم ، وأنّ الشيعة كانت في أواخر القرن الثاني ذات عقائد منتظمة ومستوعبة لجميع ما يرتبط بالمعارف الإلهية فترى أنّ ما كتبه الإمام الرضا ، وما عرضه السيد عبدالعظيم الحسني على الإمام الهادي ، هو السائد في هذه الرسائل.

٢ ـ يوجد في ثنايا هذه الرسائل آراء خاصّة لمؤلّفيها ، ربّما يقع فيها النقاش والجدال والخلاف مع غيرهم من علماء الشيعة ، فليس كل ما جاء فيها عقيدة لجميع علماء الشيعة ومؤلّفيهم ولكن المجموع من حيث المجموع تمثّل عقائد الشيعة في مجال صفاته سبحانه وأفعاله ، وما يرجع إلى النبوّة والإمامة ، والحياة الأخروية ، خصوصاً فيما يرجع إلى الاعتقاد بمقامات الأئمّة وصفاتهم. فمن يريد أن يتعرّف على عقائد الشيعة فليرجع إليها بدل الرجوع إلى الكتب المؤلّفة من قبل أعدائهم وخصمائهم.

٣ ـ إنّ الإمعان في الاُصول التي جاءت في هذه الكتب والرسائل يعرب عن موافقة الشيعة في أكثر المسائل العقائدية لعامّة المسلمين. وربّما يختلفون عنهم في اُصول تختص بمجال الإمامة والقيادة بعد الرسول. وبما أنّ الأشاعرة والمعتزلة كانتا تمثّلان جمهور المسلمين في العصور المتقدّمة. نذكر في المقام الفوارق الجوهرية بين الشيعة والمعتزلة أوّلا ، وبين الشيعة والأشاعرة ثانياً ، ثمّ نكمل البحث عن الفوارق الموجودة بينهم وبين سائر الفرق الإسلامية.

الفوارق بين الشيعة والمعتزلة :

إنّ هناك فوارق بين الطائفتين ربّما أشبعنا الكلام فيها في الجزء الرابع من هذه


الموسوعة ، وذكرنا بأنّ من يتّهم الشيعة بأنّهم أخذوا عقائدهم من المعتزلة فهو خاطئ ، فنشير في المقام إلى هذه الفوارق على وجه الاجمال ، وإن كانت بين الطائفتين اُصول مشتركة ربّما تقف عليها عند بيان الفوارق بين الشيعة والأشاعرة.

١ ـ الشفاعة : أجمع المسلمون كافّة على ثبوت أصل الشفاعة وأنّها تقبل من الرسول الأكرم واختلفوا في تعيين المشفَّع ، فقالت الإمامية والأشاعرة : إنّ النبي يشفع لأهل الكبائر باسقاط العقاب عنهم أو باخراجهم من النار ، وقالت المعتزلة ، لا يشفع إلاّ للمطيعين ، المستحقّين للثواب وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.

٢ ـ مرتكب الكبيرة : عند الامامية والأشاعرة مؤمن فاسق ، وقالت المعتزلة : بل منزلة بين المنزلتين.

٣ ـ الجنّة والنار : قالت الإمامية والأشاعرة انّهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك ، وأكثر المعتزلة على أنّهما غير موجودتين.

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : اتّفق المسلمون على وجوبهما ، فقالت الإمامية والأشاعرة : يجبان سمعاً ، ولولا النص لم يكن دليل على الوجوب ، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا بوجوبهما عقلاً.

٥ ـ الأحباط : اتّفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الاحباط ، وقالوا : لكل عمل حسابه الخاص ، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي ولا المعاصي بالطاعات ، والاحباط يختص بذنوب خاصة كالشرك وما يتلوه ، بخلاف المعتزلة حيث قالوا : إنّ المعصية المتأخّرة تسقط الثواب المتقدم ، فمن عبَدَ اللّه طول عمره ثمّ كذب فهو كمن لم يعبد اللّه أبداً.

٦ ـ الشرع والعقل : غالت المعتزلة في تمسّكهم بالعقل وغال أهل الظاهر في جمودهم على ظاهر النص وخالفهما الإمامية والأشاعرة ، فأعطوا للعقل سهماً فيما


له مجال القضاء ، نعم أعطت الإمامية للعقل مجالاً أوسع ممّا أعطته الأشاعرة. وسيوافيك تفصيله عند ذكر اختلاف الإمامية مع الأشاعرة.

٧ ـ اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من اللّه ولا يجب عقلاً اسقاطها للعقاب. وقالت المعتزلة : إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

٨ ـ اتفقت الإمامية على أنّ الأنبياء افضل من الملائكة ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

٩ ـ اتفقت الإمامية على أنّ الإنسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه ، بل هو في ذلك المجال بين أمرين ، بين الجبر والتفويض ، وأجمعت المعتزلة على التفويض.

١٠ ـ اتفقت الامامية والأشاعرة على أنّه لابد في أوّل التكليف وابتدائه من رسول ، وخالفت المعتزلة وزعموا أنّ العقول تعمل بمجردها عن السمع (١).

هذه هي الاُصول التي خالفت الإمامية فيها المعتزلة ووافقت الأشاعرة ، وهناك اُصول اُخرى تجد فيها موافقة الإمامية للمعتزلة ومخالفتها للأشاعرة ، وإليك بعضها :

الفوارق بين الإمامية والأشاعرة :

هناك اُصول خالفت الإمامية فيها ، الأشاعرة ، مخالفة بالدليل والبرهان وتبعاً لأئمّتهم ، ونذكر المهم منها :

١ ـ اتّحاد الصفات الذاتية مع الذات : إنّ للّه سبحانه صفاتاً ذاتية كالعلم

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على هذه الاُصول التي خالفت الامامية والأشاعرة فيها المعتزلة الجزء الرابع من هذه الموسوعة ص ١٨٠ تجد فيه الفوارق الاُخر لم نذكرها اختصاراً.


والقدرة فهي عند الأشاعرة صفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها ، وهي عند الإمامية والمعتزلة متّحدة مع الذات. وقد ذكرنا مضاعفات القول بالزيادة في الجزء الثاني من هذه الموسوعة.

٢ ـ الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنّة ، كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها ، فالشيعة الإمامية يؤوّلونها تأويلا مقبولا ، لاتأويلا مرفوضاً ، أي تأخذ بالمفهوم التصديقي للجملة ، لا بالمفهوم التصوّري للمفردات ، فيقولون إنّ معنى ( بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء ) (١) معناه : أنّه بريء من البخل ، بل هو باذل وسخي ، وقادر على البذل. وأمّا الاشاعرة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوّري ويقولون إنّ للّه سبحانه يدين غير أنّهم يتهرّبون عن التجسيم والتشبيه بقولهم : بلا كيف ، وقد أوضحنا مضاعفات هذا القول عند البحث عن عقائدهم في الجزء الثاني.

٣ ـ أفعال العباد عند الامامية صادرة من نفس العباد ، صدوراً حقيقياً بلا مجاز أو توسّع ، فالإنسان هو الضارب ، هو الآكل ، هو القاتل ، هو المصلّي ، هو القارئ وهكذا ، وقد قلنا : إنّ استعمال كلمة « الخلق » في أفعال الإنسان ، استعمال غير صحيح فلا يقال : خلقت الأكل والضرب والصوم والصلاوة ، وإنّما يقال : فعلتها فالصحيح أن يقال : إنّ الإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مكتسبة من اللّه ، وانّ قدرته المكتسبة هي المؤثّرة باذن من اللّه سبحانه.

وأمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ، فليس للإنسان فيها صنع ولا دور ، وليس لقدرته أي تأثير في تحقّق الفعل ، وأقصى ما عندهم أنّ إرادة الإنسان للعقل تقارن ايجاد اللّه سبحانه فعله في عالم التكوين والوجود.

__________________

١ ـ المائدة / ٦٤.


ولمّا رأى الشيخ الأشعري وأتباعه أنّ ذلك عبارة عن نفس القول بالجبر ، واقصاء الإنسان عن أفعاله ، وبالتالي براءته من مسؤوليتها ، ابتدعوا نظرية الكسب المعقدة فقالوا : إنّ اللّه هو الخالق والإنسان هو الكاسب ، وقد ذكرنا أنّ نظرية الكسب من الألغاز التي لم يفهمها مخترعوها.

٤ ـ إنّ الاستطاعة في الإنسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة ، وتتقدّم عليه اُخرى. فلو اُريد من القدرة العلّة التامّة فهي مقارنة ، ولو اُريد العلّة الناقصة فهي متقدّمة خلافاً للأشاعرة ، فقد قالوا بالتقارن مطلقاً.

٥ ـ رؤية اللّه بالأبصار في الآخرة ، فهي مستحيلة عند الامامية المعتزلة ، ممكنة عند الاشاعرة.

٦ ـ كلامه سبحانه عند الامامية هو فعله ، فهو حادث لا قديم ، وهذا خلافاً للأشاعرة : فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته ، فهو قديم كقدم الذات.

٧ ـ التحسين والتقبيح العقليان ، ذهبت الامامية إلى أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها ، بمعنى أنّ نفس الفعل من أي فاعل صدر ، سواء أكان الفاعل قديماً أو حادثاً ، واجباً أو ممكناً ، يتّصف بأحدهما فيرى مقابلة الإحسان بالإحسان أمراً حسناً ، ومقابلة بالاساءة أمراً قبيحاً ، ويتلقّاه حكماً مطلقاً سائداً على مرّ الحقب والأزمان ، لا يغيّره شيء ، وهذا خلافاً للأشاعرة ، فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح وبذلك خالفوا الامامية والمعتزلة في الفروع المترتّبة عليه (١).

هذه هي الاُصول التي تخالف الامامية فيها الأشاعرة وربّما توافقهم المعتزلة في جميعها أو أكثرها. كل ذلك يثبت أنّ للشيعة الامامية منهجاً كلامياً خاصّاً نابعاً من

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على هذه الاُصول المترتّبة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين الجزء الثاني من هذه الموسوعة ٢٨٩ـ٢٩٢.


الكتاب والسنّة ، وكلمات العترة الطاهرة والعقل فيما له مجال القضاء ، وليست الشيعة متطفّلة في منهجها الكلامي على أيّة من الطائفتين. وأنت إذا وقفت على الكتب الكلامية المؤلّفة في العصور المتقدّمة من عصر الفضل بن شاذان ( ت ٢٦٠ ) إلى عصر شيخنا الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) ومن بعده بقليل ، تجد منهجاً كلامياً مبرهناً متّزنا واضحاً لا تعقيد فيه ولا غموض ، وعلى تلك الاُصول وذلك المنهج درج علماؤهم المتأخّرون في الأجيال التالية ، فألّف الشيخ الحلبي ( ٣٧٤ ـ ٤٤٧ ) « تقريب المعارف » والشيخ سديد الدين الحمصي ( ت ٦٠٠ ) كتابه « المنقذ من التقليد » وتوالي بعدهم التأليف على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي ( ٥٩٧ ـ ٦٧٢ ) ومعاصره ابن ميثم البحراني ( ٥٨٩ ) وتلميذه العلّامة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ) وهكذا ... كل ذلك يكشف عن أنّ الأئمّة طرحوا أصول العقائد ، وغذّوا أصحابهم وتلاميذهم بمعارف سامية ، اُعتبر الحجر الأساس للمنهج الكلامي الشيعي ، وتكامل المنهج من خلال الجدل الكلامي والنقاش العلمي في الظروف المتأخّرة فوصل إلى الذروة والقمّة فالناظر في الكتب الكلامية للسيّد الشريف المرتضى ك « الشافي » (١) و« الذخيرة » (٢) يجد منبعاً غنيّاً بالبحوث الكلامية كما أنّ الناظر في كتب العلّامة الحلّي المختلفة ك « كشف المراد » (٣) و« نهاية المرام » (٤) وغيرهما يقف على أفكار سامية أنضجها البحث والنقاش عبر القرون ، فبلغت غايتها القصوى.

وقد توالى التأليف في عقائد الشيعة واُصولهم من العصور الاُولى إلى يومنا هذا ، ولا يحصيها إلا محصي قطرات المطر وذرّات الرمال.

____________

١ ـ المطبوع في بيروت في أربعة أجزاء.

٢ ـ المطبوع في ايران في جزأين.

٣ ـ الكتاب الدراسي في الجامعات الشيعية.

٤ ـ مخطوط نحتفط منها بنسخة وهي في يد التحقيق.


هذا وانّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الاُصول طائفة من طوائف الاسلامية ووافقوا طوائف اُخرى ، ولكن هناك اُصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء ، وهو ظاهر لمن قرأ ما أثبتناه من الرسائل والكتيبات.

أفما آن للمسليمن أن يتّحدوا في ظلال هذه الاُصول المؤلّفة لقلوبهم ، ويتظلّلوا بظلالها ، ويتمسّكوا بالعروة الوثقى ، ويكون شعارهم : انّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، وأن لا يصغوا إلى النعرات المفرّقة ، المفترية على الشيعة وأئمّتهم ، وليكن شعارنا في التأليف : التحقيق والتأكّد من عقائد الآخرين ، ثمّ التدوين.

الفوارق بين الشيعة وسائر الفرق:

إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين ، فهلّم معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التي صيّرتهم إلى فرقتين متمايزتين ، وأكثرهم يرجع إلى مسألة القيادة والخلافة بعد الرسول الأكرم ، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال :


المسألة الأُولى :

وجوب تنصيب الإمام على اللّه سبحانه

اتّفقت الاُمّة الاسلامية على وجوب نصب الامام ، سوى العجاردة من الخوارج ، ومعهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة (٢٣٧) (١) فذهب المسلمون إلى وجوب نصب الإمام ، إمّا على اللّه سبحانه كما عليه الشيعة ، وإمّا على الاُمّة كما عليه غيرهم ، فوجوب نصب الامام لا خلاف فيه بين المسلمين ، وإنّما الكلام في تعيين من يجب عليه ذلك.

وليس المراد من وجوبه على اللّه سبحانه ، هو إصدار الحكم من العباد على اللّه سبحانه ، حتى يقال ( إنِ الحُكْمُ إلا لِلّهِ ) (٢) بل المراد كما ذكرنا غير مرّة ، أنّ العقل

__________________

١ ـ ادّعت العجاردة بأنّ الواجب على الاُمّة التعاون والتعاضد لإحياء الحق وإماته الباطل ، ومع قيام الاُمّة بهذا الواجب لا يبقى للإمام فائدة تستدعي تسلّطه على العباد ، أمّا إذا اختلفت الاُمّة ولم تتعاون على نشر العدل واحقاق الحق فيجب عليها تعيين من يقوم بهذه المهمات ، وعلى ذلك فالإمامة لا تجب بالشرع ولا بالعقل ، وإنّما تجب للمصلحة أحياناً ، وقد تعرّفت على عقيدة الخوارج في الموضوع في الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

٢ ـ يوسف / ٤٠.


حسب التعرّف على صفاته سبحانه ، من كونه حكيماً غير عابث ، يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب أو عدمه ، وإلا فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ اختلافهم في كون النصب فرضاً على اللّه أو على الاُمّة ، ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والامامة عن رسول اللّه. فمن ينطر إلى الامام كرئيس دولة ليس له وظيفة إلا تأمين الطرق والسبل ، وتوفير الأرزاق ، واجراء الحدود ، والجهاد في سبيل أللّه ، إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة ، فقد قال بوجوب نصبه على الاُمّة ، إذ لا يشترط فيه من المواصفات إلا الكفاءة والمقدرة على تدبير الاُمور وهذا ما يمكن أن تقوم به الاُمّة الإسلامية ، وأمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة ( لا لنفس الرسالة فانّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى ) فمن المعلوم إنّ تقلّد هذا المقام يتوقّف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلا إذا حظي بعناية إلهية خاصة فيخلف النبي في عمله بالاُصول والفروع ، وفي سد جميع الفراغات الحاصلة بموته ، ومن المعلوم أنّه لا تتعرّف عليه الاُمّة إلا عن طريق الرسول ، ولا يتوفّر وجوده إلا بتربية غيبيّة.

فقد ظهر من ذلك أنّ كون القيادة الاسلامية بعد النبي بيد اللّه أو بيد الاُمّة ، أو انّ التعيين هل هو واجب عليه سبحانه أو عليهم ، ينجم عن الاختلاف في ماهية الخلافة.

فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الاُمّة بأحد الطرق ، قال في حقه : « لا ينخلع الامام بنفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الابشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب


وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه » (١).

فمن قال : بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة والوزراء ، تنتخبه الاُمّة الاسلامية ، قال في حقه : « ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة اُمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة اللّه فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين ، برّهم وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، ولا يبطلهما شيء ولا ينقضهما » (٢).

وقد درج على هذه الفكرة متكلّموا السنّة ومحدّثوهم ، حتى قال التفتازاني : « ولا ينعزل الامام بالفسق ، أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى ، والجور ( الظلم على عباد اللّه ) لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والاُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ، ونقل عن كتب الشافعية : انّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الامام ، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره اثارة الفتنة ، لما له من الشوكة ، بخلاف القاضي » (٣).

ومن فسّر الامامة بأنّها عبارة عن إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهي ، فلا مناص له عن القول : بوجوب نصبه على اللّه سبحانه.

__________________

١ ـ التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني ( ت ٤٠٣ ) : ١٨١.

٢ ـ العقيدة الطحاوية ٣٧٩ ـ ٣٨٧.

٣ ـ شرح العقائد النسفية : وهي لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي ( ت ٥٧٣ ) والشرح لسعد الدين التفتازاني ( ت ٧٩١ ) : ١٨٥ ـ ١٨٦ ، ولاحظ في هذا المجال مقالات الاسلاميين للأشعري : ٣٢٣ ، واُصول الدين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية : ١٩٠.


وقد استدلّت الامامية على وجوب نصب الامام على اللّه سبحانه : بأنّ وجود الامام الذي اختاره اللّه سبحانه ، مقرّب من الطاعات ، ومبعد عن المعاصي ، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف المقرب هنا ما عرفت من أنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة بين الاُمّة في مجالي العقيدة والشريعة ، كما تتكر جدالاً ونزاعاً عنيفاً بين الاُمّة في تعيين الامام. فالواجب على اللّه سبحانه من باب اللطف هو سدّ هذه الفراغات بنصب من هو صنو النبي الأكرم في عمله بالعقيدة والشريعة ، وفي العدالة والعصمة ، والتدبير والحنكة ، وحسم مادة النزاع المشتعل برحلة الرسول ، ولمّ شعث الاُمّة ، وجمعهم على خط واحد.

والعجب انّ المعتزلة ممّن تقول : بوجوب اللطف والأصلح على اللّه سبحانه ، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام ، مع العلم بأنّ المورد من جزئياته ، والذي منعهم عن الالتزام بالقاعدة في المقام بأنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزمهم أن يقولوا بعدم صحة خلافة الخلفاء المتقدمين على عليّ ، لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الخليفة منصوصاً عليه من اللّه سبحانه.

ثمّ إنّك تعرّفت على أنّ الرسول الأكرم بوحي من اللّه سبحانه ، قام بتطبيق القاعدة ، ونصب إماماً للاُمّة ، ليقود أمرهم ويسد جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى ، وبذلك حسم مادة النزاع ، وقطع الطريق على المشاغبين ، ولكنّه ـ وللأسف ـ تناست الاُمّة وصية الرسول وأمره ، فانقسموا إلى طوائف وأحزاب ، وقامت بينهم المعارك والحروب التي اُريقت فيها الدماء ، واستبيحت الأعراض ، وتبدّلت المفاهيم ، واختلفت القيم ، ومازال ولم تزل معاناة الاُمّة من هذا الانشقاق ، وأصبح التقريب فضلاً عن الوحدة أمراً متعسّراً على المفكرين ، نسأل اللّه سبحانه أن يسد تلك الفجوة العميقة بايقاظ شعور علماء الاُمّة ومصلحيهم في المستقبل.


المسألة الثانية :

عصمة الإمام

تفرّدت الامامية من بين الفرق الاسلامية بوجوب عصمة الامام من الذنب والخطأ ، مع اتّفاق غيرهم على عدمه.

قال الشيخ المفيد : إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء ، ولا تجوز عليهم صغيرة إلا ما قدم ذكر جوازه على الأنبياء ، ولا ينسون شيئاً من الأحكام ، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلب القدرة عن المعاصي ، ولا كون المعصوم مضطراً إلى فعل الطاعات ، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب ، هذه هي عقيدة الامامية في الامامة ، وقد استدلّوا عليه بوجوه من العقل والسمع. أمّا العقل فقالوا : إنّ الامام منفذ لما جاء به الرسول ، وحافظ للشرع ، وقائم بمهام الرسول كلّها ، فلو جاز عليه الخطأ والكذب ، لا يحصل الغرض من إمامته.


حقيقة العصمة :

العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرَّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلًّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبةً لا يخطأ معها أبدا.

وليست العصمة شيئاً ابتدعتها الشيعة ، وإنّما دلَّهم عليها في حق العترة الطاهرة ، كتاب اللّه وسنّة رسوله. قال سبحانه : ( إنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْشَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) وليس المراد من الرجس إلا الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق. وقال الرسول : « علي مع الحق والحق مع عليٍّ يدور معه كيفما دار » (٢) ومن دار معه الحق كيفما دار ، محال أن يعصي أو أن يخطأ ، وقول الرسول في حق العترة : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا » (٣) فاذا كانت العترة عدل القرآن تصبح معصومة كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر ، وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

وليس للقول بالعصمة في حق العترة منشأ سوى الكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعض دلائلهم.

نعم شذَّ من قال انّ عقيدة العصمة تسرّبت إلى الشيعة من الفرس الذين نشأوا

__________________

١ ـ الأحزاب / ٣٣.

٢ ـ حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه ١٤ / ٣٢١ والهيثمي في مجمعه ٧ / ٢٣٦ وغيرهما.

٣ ـ حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه ، والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده ٢ / ١١٤ وغيرهم.


على تقديس الحاكم ، لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية ، ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي ، ولعلّ غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه علي من الخطأ حتى يتّضح للملأ عدوان بني أمية في اغتصاب الخلافة. هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسرَّبت إلى الشيعة (١).

هب انّ عصمة الامام تسرّبت إلى الشيعة من الطريق الذي أشار إليه الكاتب فمن أين تسرّبت عصمة النبي التي يقول بها أهل السنّة جميعاً في التبليغ وبيان الشريعة ، فهل هذه الفكرة تسربّت إلى أهل السنّة من اليهود.

لا واللّه إنّها عقيدة اسلامية واقتبسها القوم من الكتاب والسنّة من دون أخذ من اليهود والفرس ، فما ذكره الكاتب تخرُّص على الغيب ، بل فرية واضحة.

إنّ الاختلاف في لزوم توصيف الامام وعدمه ، ينشأ من الاختلاف في تفسير الامامة بعد الرسول وماهيتها وحقيقتها فمن تلقّى الامامة ـ بعد الرسول ـ بأنّها مقام عرفي لتأمين السبل ، وتعمير البلاد واجراء الحدود ، فشأنه شأن سائر الحكّام العرفيين. وأمّا من رأى الامامة بأنّها استمرار لتحقيق وظيفة الرسالة وأنّ الامام ليس بنبيّ ولا يوحى إليه ، لكنّه مكلّف بملء الفراغات الحاصلة برحلة النبي ، فلا محيص له عن الالتزام بها ، لأنّ الغاية المنشودة لا تحصل بلا تسديد إلهي كما سيوافيك ، نعم إنّ أهل السنّة يتحرَّجون من توصيف الامام بالعصمة ويتخيِّلون أنّ ذلك يلازم النبوّة وما هذا إلا أنّهم لا يفرّقون بين الإمامتين ولكل معطياته والتفصيل موكول إلى محلّه.

__________________

١ ـ الدكتور نبيه حجاب : مظاهر الشعوبية في الأدب العربي ٤٩٢ ، كما في هوية التشيع ١٦٦.


الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبيّ :

استدل على لزوم العصمة في الامام بوجوه نأتي بها.

الأول : انّ الامامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوة والرسالة ، وكان الامام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم ، فلا مناص من لزوم عصمته ، وذلك لأنّ تجويز المعصية يتنافى مع الغاية التي لأجلها نصبه اللّه سبحانه إماماً للاُمّة ، فانّ الغاية هي هداية الاُمّة إلى الطريق المهيع ، ولا يحصل ذلك إلا بالوثوق بقوله ، والاطمئنان بصحة كلامه ، فاذا جاز على الامام الخطأ والنسيان ، والمعصية والخلاف ، لم يحصل الوثوق بأفعاله وأقواله ، وضعفت ثقة الناس به ، فتنتفي الغاية من نصبه ، وهذا نفس الدليل الذي استدلّ به المتكلمون على عصمة الأنبياء ، والامام وإن لم يكن رسولاً ولا نبيّاً ولكنّه قائم بوظائفهما.

نعم لو كانت وظيفة الامام مقتصرة بتأمين السبل وعزو العدو والانتصاف للمظلوم وما أشبه ذلك ، لكفى فيه كونه رجلاً عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، وأمّا إذا كانت وظيفته أوسع من ذلك كما هو الحال في مورد النبيّ ، فكون الامام عادلاً قائماً بالوظائف الدينية ، غير كاف في تحقيق الهدف المنشود من نصب الامام.

فقد كان النبي الأكرم يفسّر القرآن الكريم ويشرح مقاصده وأهدافه ويبيّن أسراره.

كما كان يجيب على الأسئلة في مجال الموضوعات المستحدثة وكان يردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الاسلام.

وكان يصون الدين من محاولات التحريف والتغيير.

وكان يربّي المسلمين ويهذّبهم ويدفعهم نحو التكامل.

فالفراغات الحاصلة برحلة النبي الأكرم لا تسدّ إلا بوجود انسان مثالي يقوم


بتلك الواجبات وهو فرع كونه معصوماً عن الخطأ والعصيان (١).

الثاني : قوله سبحانه ( أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسولَ واُولِى الأمْر مِنْكُمْ ) (٢).

والاستدلال مبني على عامتين :

١ ـ إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق ، إي في جميع الأزمنة والأمكنة ، وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما ومقتضى الآية.

٢ ـ إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان ( ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْر ) (٣) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من اُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين ( وجوب اطاعة اُولي الأمر على وجه الاطلاق ، وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ) أن يتّصف اُولي الأمر الذين وجبت اطاعتهم على وجه الاطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلا عبارة اُخرى عن كونهم معصومين ، وإلا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية ، لما صحّ الأمر باطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحَّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فتستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة ، اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

وممّن صرّح الآية على العصمة الامام الرازي في تفسيره ، ويطلب لي

__________________

١ ـ هذا اجمال ما أوضحناه في بحوثنا الكلامية فلاحظ الإلهيات ٢ / ٥٢٨ ـ ٥٣٩.

٢ ـ النساء / ٥٩.

٣ ـ الزمر / ٧.


أن أذكر نصَّه حتى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته قال :

أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ ، كان بتقدير أقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال ، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة اُولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كل من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ اُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً (١).

ولمّا وقف الرازي على تمايمة دلالة الآية على عصمة اُولي الأمر ، وهي لا توافق مذهبه في الامامة حاول أن يؤول الآية بما يوافقه مع أنّ الواجب على أمثاله.

أن يتعرّف على « اُولي الأمر » الذي استظهر من الآية كونهم معصومين ، ولكنّه زلّت قدمه ، ولم يستغل هذه الفكرة ، ولم يستثمرها ، فأخذ يتهرّب من تنائج الفكرة بالقول بأنّا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليه ، عاجزون عن استفاده الدين والعلم منه ، فاذا كان الأمر كذلك ، فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الاُمّة ، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الاُمّة.

يلاحظ عليه : بأنّه إذا دلّت الآية على عصمة اُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز ، هروب من الحقيقة فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية ، لا أظن أن يقول الرازي بالثاني فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّ وعصر نزول الآية ، فبالتعرّف عليهم ، يعرف معصوم زمانه ، حلقة بعد

__________________

١ ـ مفاتيح الغيب ١٠ / ١٤٤.


اُخرى ، ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي باطاعة المعصوم ثم لا يقوم بتعريفه حين النزول ، فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة اُولي الأمر ، لكان عليه أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي على تعريفهم بلسان النبي الأكرم.

إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه باطاعة المعصوم ، ولا يقوم بتعريفه.

ثمّ إنّ تفسير « اُولي الأمر » بأهل الحل والعقد ، تفسير للغامض ـ حسب نظر الرازي ـ بالأغمض إذ هو ليس بأوضح من الأول ، فهل المراد منهم : العساكر والضباط ، أو العلماء والمحدّثون ، أو الحكام والسياسيون أو الكل. وهل اتّفق اجماعهم على شيء ، ولم يخالفهم لفيف من المسلمين.

إذا كانت العصمة ثابتة للاُمّة عند الرازي كما علمت ، فهناك من يرى العصمة لجماعة من الاُمّة كالقراء والفقهاء والمحدّثين ، هذا هو ابن تيمية يقول ي ردّه على الشيعة عند قولهم : انّ وجود الامام المعصوم لابدّ منه بعد موت النبي يكون حافظاً للشريعة ومبيّناً أحكامها خصوصاً أحكام الموضوعات المتجدّدة ، يقول : إنّ أهل السنّة لا يسلمون أن يكون الامام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي ، وذلك لأنّ ذلك حاصل للمجموع ، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد ، فالقرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه ، والمحدّثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها ، والفقهاء معصومون في الكلام والاستدلال (١).

يلاحظ عليه : كيف يدّعي العصمة لهذه الطوائف مع أنّهم غارقين في الاختلاف في القراءة والتفسير ، والحديث والأثر ، والحكم والفتوى ، والعقيدة والنظر. ولو أغمضنا عن ذلك فما الدليل على عصمة تلكم الطوائف خصوصاً على قول القائل بأنّ القول بالعصمة تسرّب من اليهود إلى الأوساط الاسلامية.

__________________

١ ـ ابن تيمية : منهاج السنّة كما في نظرية الامامية ١٢٠.


الثالث : قوله سبحانه : ( وإذِ ابْتَلى إبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قالَ وَمنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١).

والاستدلال بالآية على عصمة الامام ، يتوقّف على تحديد مفهوم الامامة الواردة في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة ، فأمّا الأولّ فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي ، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في اُخريات عمره غير هذه وتلك ، لأنّه كان نبيّاً ورسولاً وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتى خوطب بهذه الآية ، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة ، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الامامة في المقام هو المعنى الثالث ، قوله سبحانه : ( أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً ) (٢).

فالإمامة التي أنعم بها اللّه سبحانه على الخليل وبعض ذريّته ، هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم ، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة ، وراء النبوّة والرسالة ، وانّما هو قيادة حكيمة ، وحكومة إلهية ، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة. واللّه سبحانه يوضح حقيقة هذا الملك في الآيات التالية :

١ ـ يقول سبحانه ـ حاكياً قول يوسف 7 : ( رَبَّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأويلِ الأحاديثِ ) (٣) ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به

__________________

١ ـ البقرة / ١٢٤.

٢ ـ النساء / ٥٤.

٣ ـ يوسف / ١٠١.


سبحانه على عبده يوسف ، ليس النبوّة ، بل الحاكمية حيث صار أميناً مكيناً في الأرض. فقوله : ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) اشارة إلى نبوّته ، والملك اشارة إلى سلطته وقدرته.

٢ ـ ويقول سبحانه في داود 7 : ( وَآتاهُ اللّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وعلَّمَهُ مِمّا يَشآءُ ) (١) ويقول سبحانه ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ) (٢).

٣ ـ ويحكي اللّه تعالى عن سليمان أنّه قال : ( وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ ) (٣).

فملاحظة هذه الآية يفسر لنا حقيقة الامامة ، وذلك بفصل الاُمور التالية :

أ ـ إنّ إبراهيم طلب الامامة لذريتة ، وقد أجاب سبحانه دعوته في بعضهم.

ب ـ إنّ مجموعة من ذرّيته ، كيوسف وداود وسليمان ، نالوا ـ وراء النبوّة والرسالة ـ منصب الحكومة والقيادة.

ج ـ إنّه سبحانه أعطى آل ابراهيم الكتاب ، والحكمة ، والملك العظيم.

فمن ضم هذه الاُمور بعضها إلى بعض ، يخرج بهذه النتيجة : انّ ملاك الإمامة في ذرّية إبراهيم ، هو قيادتهم وحكمهم في المجتمع ، وهذه هي حقيقة الامامة ، غير أنّها ربّما تجتمع ما المقامين الاُخريين ، كما في الخليل ، ويوسف ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم ، وربّما تنفصل عنهما كما في قوله سبحانه : ( وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ

__________________

١ ـ البقرة / ٢٥١.

٢ ـ ص / ٢٠.

٣ ـ ص / ٣٥.


بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قَالَ إنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَاللّهُُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشآءُ وَاللّهُ واسِعُ عَليمٌ ) (١).

والامامة التي يتبنّاها المسلمون بعد رحلة النبي الأكرم ، تتّحد واقعيتها مع هذه الامامة.

ما هو مراد من الظالم :

قد تعرّفت على المقصود من جعل الخليل إماماً للناس ، وانّ المراد هو القيادة الإلهية ، وسوق الناس إلى السعادة بقوّة وقدرة ومنعة. بقي الكلام في تفسير الظالم الذي ليس له من الإمامة سهم ، فنقول :

لمّا خلع سبحانه ثوب الامامة على خليله ، ونصبه إماماً للناس ، ودعا إبراهيم أن يجعل من ذرّيته إماماً ، اُجيب بأنّ الامامة منصب إلهي ، لا يناله الظالمون ، لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس ، المتصرّف في الأموال والنفوس ، فيجب أن يكون على الصراط السويّ ، والظالم المتجاوز عن الحد لا يصلح لهذا المنصب.

إنّ الظالم الناكث لعهد اللّه ، والناقض لقوانينه وحدوده ، على شفا جرف هار ، لا يؤتمن عليه ولا تلقى إليه مقاليد الخلافة ، لأنّه على مقربة من الخيانة والتعدي ، وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين ، فكيف يصح في منطق العقل أن يكون إماماً مطاعاً ، نافذ القول ، مشروع التصرّف. وعلى ذلك ، فكل من ارتكب ظلماً وتجاوز حداً في يوم من أيام عمره ، أو عبد صنماً ، أو لاذ إلى وثن ، وبالجملة ارتكب ما هو حرام فضلاً عمّا هو شرك وكفر ، ينادى من فوق العرش في حقه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) من غير فرق بين صلاح حالهم بعد تلك الفترة ، أو البقاء على ما كانوا عليه.

__________________

١ ـ البقرة / ٢٤٧.


نعم اعترض « الجصاص » على هذا الاستدلال وقال : « إنّ الآية إنّما تشمل من كام مقيماً على الظلم وأمّا التائب منه فلا يتعلّق به الحكم ، لأنّ الحكم إذا كان معلّقاً على صفة ، وزالت تلك الصفة ، زال الحكم. ألاترى أنّ قوله : ( وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١) إنّما ينهى عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم ، فقوله تعالى : ( وَلا يَنال عَهدِى الظّالِمينَ ) لم ينف به العهد عمّن تاب عن ظلمه ، لأنّه في هذه الحاله لا يسمّى ظالماً ، كما لا يسمّى من تاب من الكفر كافراً » (٢).

يلاحظ عليه : أنّ قوله « الحكم يدور مدار وجود الموضوع » ليس ضابطاً كلياً ، بل الأحكام على قسمين ، قسم كذلك ، وآخر يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان آناً ما ، ولحظة خاصة ، وإن انتفى بعد الاتّصاف ، فقوله : « الخمر حرام » ، أو : « في سائمة الغنم زكاة » من قبيل القسم الأوّل ، وأمّا قوله : « الزاني يحد » ، و« السارق يقطع » فالمراد منه انّ الإنسان المتلبّس بالزنا أو السرقة يكون محكوماً بهما وإن زال العنوان ، وتاب السارق والزاني ، ومثله : « المستطيع يجب عليه الحج » فالحكم ثابت ، وإن زالت عنه الاستطاعة عن تقصير لا عن قصور.

وعلى ذلك فالمدعى أنّ « الظالمين » في الآية المباركة كالسارق والسارقة والزاني والزانية والمستطيع واُمّهات نسائكم في الآيات الراجعة إليهم.

نعم المهم في المقام ، اثبات أنّ الموضوع في الآية من قبيل الثاني ، وأنّ التلبّس بالظلم ولو آناً ما ، يسلب عن الإنسان صلاحية الامامة ، وإن تاب من ذنبه ، فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على أقسام أربعة :

١ ـ من كان طيلة عمره ظالماً.

__________________

١ ـ هود / ١١٣.

٢ ـ تفسير آيات الأحكام ١ / ٧٢.


٢ ـ من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.

٣ ـ من كان ظالماً في بداية عمره ، وتائباً في آخره.

٤ ـ من كان طاهراً في بداية عمره ، وظالماً في آخره.

عند ذلك يجب أن نقف على أنّ إبراهيم 7 ، الذي سأل الإمامة لبعض ذريته أىّ قسم منها أراد؟

حاشا إبراهيم أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل ، والرابع من ذريته ، لوضوح انّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره ، أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة ، لا يصلح لأن يؤتمن عليها.

بقي القسمان الآخران ، الثاني والثالث ، وقد نص سبحانه على أنّه لا ينال عهده الظالم ، والظالم في هذه العبارة لا ينطبق إلاّ على القسم الثالث ، أعني من كان ظالماً في بداية عمره ، وكان تائباً حين التصدي.

فإذا خرج هذا القسم ، بقي القسم الثاني ، وهو من كان نقي الصحيفة طيلة عمره ، ولم ير منه لا قبل التصدّي ولا بعده أي انحراف عن جادة الحق ، ومجاوزة للصراط السوي. وهو يساوي المعصوم.

العصمة في القول والراي :

إنّ الأئمة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلاً ، وعن الخطأ والزلة في القول ثانياً وما ذلك إلاّ لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر ، قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلاً وتأويلاً ، ولا شيء من سنّة رسول اللّه قولا وفعلا وتقريراً وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنّة فضلاً وعلما. ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول 6.


وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنّة وفهموها عن رسول اللّه تماماً (١) كما أخذها ووعاها رسول اللّه عن جبرائيل ، وكما وعاها جبرائيل عن اللّه ، ولا فرق أبداً في شيء إلاّ بالواسطة ، وقال الشاعر الإمامي في هذا المعنى :

إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهبا

ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك

وأحمد والمروى عن كعب أحبار

ووال اُناساً نقلهم وحديثهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

أخذ علىّ عن النبيّ ، وأخذ الحسنان عن أبيهما ، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه ، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام ، ولم ترو أصحاب السير والتواريخ أنّ أحداً من الأئمّة الإثنا عشر أخذ عن صحابي أو تابعي ، فقد أخذ الناس العلم عنهم ، ولم يأخذوه عن أحد ، وقال الامام الباقر 7 : لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم (٢).

__________________

١ ـ أو الهاماً غيبياً لأنّهم محدّثون ، كما أنّ مريم كانت محدّثة ، وفي صحيح البخاري : عن أبي هريرة قال : قال النبي 6 : لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان كان من اُمتي منهم أحد فعمر. صحيح البخاري ٢ / ١٩٤ باب مناقب عمر بن الخطاب.

٢ ـ محمّد جواد مغنية : الشيعة والتشيّع ٤٤.



المسألة الثالثة :

الإمام المنتظر

إنّ الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين ، إلا من أصمّه اللّه ، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله وأصحابه ، بظهور المهدي في آخر الزمان لازالة الجهل والظلم ، ونشر اعلام العلم والعدل ، واعلاء كلمة الحق واظهار الدين كلّه ، ولو كره المشركون ، وهو باذن اللّه ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير اللّه ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أوامر التعصبات القومية والعنصرية ، ويميت أسباب العداء والبغضاء التي سارت سبباً لاختلاف الاُمّة واضظراب الكلمة ، واشتعال نيران الفتن والمنازعات ، ويحقق اللّه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وليُمَكَّنّنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ


وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَاُلئِكَ هُمُ الفَاسِقُون ) (١).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٢) هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة ، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأكرم : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد ، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي ، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا ».

ولو وجد هناك خلاف بين أكثر السنّة والشيعة ، فالاختلاف في ولادته ، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان ، والشيعة بفضل هذه الروايات ، تذهب إلى أنّه ولد في « سرّمن رأى » عام ٢٥٥ ، وغاب بأمر اللّه سبحانه سنة وفاة والده ، عام ٢٦٠ ، وهو يحيى حياة طبيعية كسائر الناس ، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه ، وسوف يظهره اللّه سبحانه ليحقق عدله.

وهذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية ، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمحقّقي السنّة ومحدّيثهم :

١ ـ « صفة المهدي » للحافظ أبي نعيم الاصفهاني.

٢ ـ « البيان في أخبار صاحب الزمان » للكنجي الشافعي.

٣ ـ « البرهان في علامات مهدي آخر الزمان » لملّا علي المتقي.

٤ ـ « العرف الوردي في أخبار المهدي » للحافظ السيوطي.

__________________

١ ـ النور / ٥٥.

٢ ـ الأنبياء / ١٠٥.


٥ ـ « القول المختصر في علامات المهدي المنتظر » لابن حجر.

٦ ـ « عقد الدرر في أخبار الامام المنتظر » للشيخ جمال الدين الدمشقي.

ومن أراد التفصيل فليرجع إلى « منتخب الأثر في الامام الثاني عشر » للعلّامة الصافي ـ دام ظلّه ـ.

ولم ير أحد الضعف في أخبار الامام المهدي ، إلا ابن خلدون في مقدّمته ، وقد فنّد مقالته محمّد صديق برسالة أسماها « إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون » وقد كتب أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه « بين يدي الساعة » فيقول في تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي :

« إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين ، انّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة ، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

فلماذا نرد كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين ـ والعياذ باللّه ـ تنيجة تطرق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول اللّه 6.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي ، أو حول حاجة العالم إليه ، وانّما الخلاف حول من هو ، حسني أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان ، أو موجود الآن ، خفي وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين ، فليس لهم اعتبار.

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث ، والذي أجده ، إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند ، واتّصاله وعدم اتّصاله ، ودرجة رواته ، ومن خرّجوه ، ومن قالوا فيه.

وإذا نظرنا إلى ظهور المهدي ، نظرة مجرّدة ، فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها


وتصديقها ، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة ، والأحاديث المتعددة ، ورواتها مسلمون مؤتمنون ، والكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة ، والترمذي من رجال التخريج والحكم ، بالاضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ، ما يصح أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم ، كحديث جابر في مسلم الذي فيه : « فيقول أميرهم ( أي لعيسى ) : تعال صلّ بنا » (١) ، وحديث أبي هريرة في البخاري ، وفيه : « كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وأمامكم منكم » (٢) ، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير ، وهذا الامام هو المهدي.

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف رضي اللّه عنهم ، لم يعارضوا هذا القول ، بل حاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لاثبات هذه العقيدة عند المسلمين » (٣).

__________________

١ ـ صحيح مسلم ١ ( باب نزول عيسى ) ٥٩.

٢ ـ صحيح البخاري ١٤ / ٣٣٤.

٣ ـ بين يدي الساعة للدكتور عبد الباقي ١٢٣ ـ ١٢٥.


المسألة الرابعة :

القول بالبداء

إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الامامية ، هو القول بالبداء ، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم انّ النسخ والبداء صنوان ، غير أنّ الأوّل في التشريع والثاني في التكوين ، وقد اشتهرت بالقول به ، كاشتهارها بالقول بالتقية وجواز متعة النساء وصار القول بهذه الاُمور الثلاثة من خصائصهم وقد أنكرت عليهم السنّة أشد الانكار خصوصاً في مسألة البداء ولكنّهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على اللّه لتوقّفوا عن الاستنكار ، ولأعلنوا الوفاق ، وأقول عن جد : لو اُتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والأنحياز لتجلّى الحق بأجلى مظاهره ، ولاعترفوا بصحة مقالة الشيعة ، غير أنّ تلك اُمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة ، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء ، فأجبته باجمال ما أُفصّله في هذا المقام ، فتعجّب عن اتقان معناه ، غير أنّه زعم أنّ ما


ذكرته نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية الامامية في البداء فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة ، فدفعت إليه أوائل المقالات ، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الاُمّة محمّد بن النعمان المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ) فقرأهما بدقة ، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال : لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً.

ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات :

الأولى : اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلّها غابرها وحاضرها ، ومستقبلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل ، بل الأشياء دقيقها وجليلها ، حاضرة لديه ويدل عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمّة أهل البيت ـ مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقرّرة في محلها ـ أمّا الكتاب :

فقوله سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ لا يَخْفى عَلَيهِ شَىءٌ فِى الاَرْضِ وَلا فِى السَّماءِ ) (١).

وقوله تعالى ( وَمَا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْ شَىء فِى الاَرْضِ وَلا فِى السَّماءِ ) (٢).

وقوله سبحانه : ( إنْ تُبْدُوا شيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَاِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيماً ) (٣) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره ، ماديّه ومجرّده ، والأشياء كلها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ويكفي في ذلك قوله سبحانه : ( مَا اَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِى الاَرْضِ وَلا فِى اَنْفُسِكُمْ اِلاّ فِى كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا اِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسيرٌ ) (٤).

__________________

١ ـ آل عمران / ٥.

٢ ـ إبراهيم / ٣٨.

٣ ـ الأحزاب / ٥٤.

٤ ـ الحديد / ٢٢ ـ


وقوله سبحانه : ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِى الاَرْضِ اِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها ويعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتابٍ مُبينٍ ) (١).

وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها :

قال الامام موسى الكاظم 7 : « لم يزل اللّه عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء » (٢).

وقال الامام علي 7 : « كل سر عندك علانية ، وكل غيب عندك شهادة » (٣).

وقال 7 : « لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذّرّ في الليلة الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق ، وخفىّ طرف الأحداق » (٤).

إلى غير ذلك من الروايات (٥) التي تدل على احاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده ، وانّه لا يخفى عليه شيء ابداً.

وقال الصادق 7 في تفسير قوله : ( يمحوا اللّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ اُمّ الكتاب ) :

« فكل أمر يريده اللّه ، فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل. وقال : من زعم أنّ اللّه عزّوجلّ يبدو له من

__________________

١ ـ هود / ٦.

٢ ـ الكافي ج ١ ، باب صفات الذات ، الحديث ٤.

٣ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٥.

٤ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٣ ، طبعة عبده.

٥ ـ لاحظ في العثور على الروايات حول علمه سبحانه ، البحار ٤ / ١٢١ والكافي ١ / ١١١.


شيء لم يعلمه أمس ، فابرأ وامنه » (١) إلى غير ذلك من الروايات التي تدل على إحاطة علمه بكل شيء قبل خلقه وحينه وبعده وانّه لا يخفى عليه شيء أبداً.

وأمّا العقل فقد دلّ على تنزّهه من وصمة الحدوث والتغيير ، وانّه تقدّست أسماؤه ، أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات ، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل ، لاستلزامه كون ذاته محلاّ للتغير والتبدل ، المستلزم للتركيب والحدوث ، إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه.

فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمّة الشيعة : تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل ، وعلى سعته لكل شيء قبل الخلق وبعده ، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء ، والعلم بعد الجهل.

وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلّت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذباً ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة ، أو التزلّف إلى حكّام الوقت الحاقدين لهم أو التعصّب المقيت.

وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والاثبات حيث يقول : قالت الرافضة : البداء جائز على اللّه تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسّكوا فيه بقوله ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت ) : ثمّ قال : إنّ هذا باطل لأنّ علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك ، كان دخول التغيّر والتبدّل فيه باطلاً (٢).

وما حكاه الرازي عن « الرافضة » كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة وإنّما سمعه

__________________

١ ـ البحار ٤ / ١١١ باب البداء ، الحديث ٣٠ ، والبرهان ٢ / ٣٠٠ حديث ٢١.

٢ ـ تفسير الرازي ٤ / ٢١٦ تفسير سورة الرعد.


عن بعض الكذّابين الأفّاكين الذين يفتعلون الكذب لغايات فاسدة ، وقد قبله من دون امعان ودقّة ، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه ( بلدة ري ) كانت مزدحم الشيعة ومركزهم وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي ، علاّمة زمانه في الاُصولين معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلّف كتاب « المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد » (١) ولو كان الفخر الرازي رجلاً منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة ، ولما تهاجم عليهم بسباب مقذع ، وربّما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره.

وليس الرازي فريداً في التقوّل في هذا المجال بل سبقه البلخي ( ت ٣١٩ ) في هذه النسبة (٢) ، ونقله الشيخ الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٢٤ ) في مقالات الاسلاميين (٣) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية (٤).

الثانية : كما دلّت الآيات وألأحاديث (٥) على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق وألايجاد ، وألتدبير وألتربية ، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر ، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم من الصدقة وألاحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين ، وألاستغفار وألتوبة وشكر النعمة وأداء حقّها إلى غير ذلك من الاُمور التي تغيّر المصير وتبدّل القضاء وتفرّج الهموم وألغموم وتزيد في الأرزاق ، وألأمطار ، وألأعمار

__________________

١ ـ الطهراني آغا بزرگ : الثقات العيون في سادس القرون ٢٩٥ وطبع الكتاب أخيراً.

٢ ـ الطوسي : التبيان ١ / ١٣.

٣ ـ مقالات الاسلاميين ١٠٧.

٤ ـ فرق الشيعة ٧٦ نقله عن سليمان بن جرير الذي كفّره أهل السنّة أيضاً لتكفيره عثمان فهل يصحّ الاعتماد على قول مثله.

٥ ـ البحار ٤ / ١٠٤ الحديث ١٧ وغيره.


والآجال كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيّئها من قبيل البخل والتقصير ، وسوء الخلق ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، والطيش ، وعدم الانابة ، وكفران النعمة وماشابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم بعكس ذلك من اكثار الهموم ، والقلق ، ونقصان الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، وما شاكلها.

فليس للانسان مصير واحد ، ومقدر فارد ، يصيبه على وجه القطع والبت ، ويناله ، شاء أو لم يشأ ، بل المصير أو المقدر يتغيّر ويتبدّل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها ، وبالايمان والتقوى ، والكفر والفسوق. وهذا ممّا لا يمكن ( لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة ) انكاره إلاّ من كان مؤمناً بالقلب ، ومنكراً باللسان.

ونحن نأتي في المقام بقليل من كثير ممّا يدل على ذلك من الآيات والروايات. منها :

قوله سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء : ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِاَمْوال وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُم اَنْهاراً ) (١).

ترى أنّه 7 ، يجعل الاستغفار ، علّة مؤثرة ، في نزول المطر ، وكثرة الأموال والبنين ، وجريان الأنهار إلى غير ذلك. وأمّا بيان كيفية تأثير عمل العبد في الكائنات الطبيعية ، فيطلب عن محلّه.

وقوله سبحانه : ( اِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ ) (٢).

وقوله تعالى : ( ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى

__________________

١ ـ نوح / ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ الرعد / ١١.


يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِم ). (١)

وقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (٢)

وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ). (٣)

وقوله تعالى : ( وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ). (٤)

وقوله سبحانه : ( وَنُوحاً إِذْ نَادى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ ). (٥)

وقال تعالى : ( وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنَّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَاَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مَن ضُرٍّ ). (٦)

وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ). (٧)

وقال تعالى : ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ اِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأنبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِن يَقْطِين ). (٨)

وقال تعالى : ( فَاستَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِى المُؤْمِنِينَ ). (٩)

وقال سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا

____________

١ ـ الأنفال ٥٣.

٢ ـ الأعراف ٩٦.

٣ ـ الطلاق ٢ ـ ٣.

٤ ـ إبراهيم ٧.

٥ و ٦ ـ الأنبياء ٧٦ و ٨٣ ـ ٨٤.

٧ ـ الأنفال ٣٣.

٨ ـ الصافات ١٤٣ ـ ١٤٦.

٩ ـ الأنبياء ٨٨.


آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَيوةِ الدُّنْيا وَمتَّعْناهُمْ إِلى حِين ) (١).

وهذه الآيات بالاضافة إلى كثير من الأحاديث التي سيوافيك بيان نزر منها تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير القدر ، وتبديل القضاء وليس هناك مقدر محتوم فيما يرجع إلى أفعاله الاختيارية حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

وأمّا الأحاديث التي تدل على هذا المطلب فكثيرة جدّاً ، مبعثرة في كتب الحديث تحت عناوين مختلفة من قبيل الصدقة ، والاستغفار ، والدعاء ، وصلة الرحم ، وما أشبه ذلك ، وسنذكر فيما يلي نموذجاً من الأحاديث لكل من الاُمور الآنفة.

الف ـ الصدقة وأثرها في دفع البلاء :

روى الصدوق في الخصال عن أنس : قال رسول اللّه 6 : « أكثر من صدقة السر ، فإنّها تطفئ غضب الرب جلّ جلاله ».

وروى في عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه ، قال : قال رسول اللّه : « باكروا بالصدقة فمن باكر بها لم يتخطاها البلاء ».

وروى الشيخ الطوسي في أماليه عن الباقر 7 قال : قال أميرالمؤمنين : « أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان باللّه ... وصدقة السر ، فإنّها تذهب الخطيئة وتطفئ غضب الرب ، وصنائع المعروف فإنّها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان ».

وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن الصادق 7 : قال : « الصدقة

__________________

١ ـ يونس / ٩٨ ، وقد استشهد الامام أمير المؤمنين ببعض هذه الآيات عند الاستسقاء ، فقال : « إنّ اللّه يَبتلي عبادَهُ عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات ... » نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٣.


باليد تدفع ميتة السوء ، وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء ».

إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها العلاّمة المجلسي في كتاب الزكاة والصدقة (١).

ب ـ أثر الاستغفار في الرزق :

روى الصدوق في الخصال عن أميرالمؤمنين قال : « الاستغفار يزيد في الرزق ». وروى أيضاً فيها عن أميرالمؤمنين 7 : « أكثروا الاستغفار ، تجلبوا الرزق » (٢).

ج ـ الدعاء وآثاره :

روى الحميري في قرب الاسناد عن الصادق 7 : « انّ الدعاء يرد القضاء وانّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق ».

وروى أيضاً عنه 7 : قال رسول اللّه : « داووا مرضاكم بالصدقة ، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء ».

وروى الصدوق عن أميرالمؤمنين 7 : « ادفعوا أمواج البلاء عنكم بالدعاء قبل ورود البلاء » (٣).

__________________

١ ـ بحارالأنوار : الجزء ٩٣ الباب ٢١ ، الأحاديث ٤ ـ ٧ ـ ٩ ـ ٢٦ ( وروى هناك أحاديث اُخرى ).

٢ ـ المصدر نفسه كتاب الذكر والدعاء باب الاستغفار وفضله وأنواعه ، الحديث ٤ ـ ١٧ ( وروى أحاديث حول الاستغفار من الفريقين ).

٣ ـ البحار الجزء ٩٣ كتاب الذكر والدعاء ، أبواب الدعاء. الباب ١٦ ـ الحديث ٢ ـ ٣ ـ ٥ ( وروى أحاديث من الفريقين ).


وقد عقد الكليني في الكافي باباً أسماه « انّ الدعاء يرد البلاء والقضاء » ومن جملة أحاديث هذا الباب عن حماد بن عثمان قال : سمعته يقول : « انّ الدعاء يردّ القضاء ينقضه كما ينقض السلك وقد اُبرم إبراماً » (١).

وروى عن أبي الحسن موسى 7 : « عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء للّه والطلب إلى اللّه يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبق إلاّ امضاؤه فإذا دعى اللّه عزّوجلّ وسئل ، صرف البلاء صرفة » (٢).

وأخرج الحاكم عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ ، قال : لا ينفع الحذر عن القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

قال : وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال : ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسع اللّه له في معيشته : « يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه ، يا ذا الجلال والاكرام يا ذا الطول ، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب شقياً فامح عنّي اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في اُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي ، فامح حرماني ويسّر رزقي واثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فإنّك تقول في كتابك الّذي أنزلت : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُم الكتاب ) (٣).

وروى أيضاً في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : ( يسأله من في

__________________

١ ـ الكافي ج ٢ باب انّ الدعاء يرد القضاء ص ٤٦٩ الحديث ١.

٢ ـ المصدر نفسه ص ٤٧٠ الحديث ٨.

٣ ـ السيوطي ، الدر المنثور ٤ / ٦٦.


السموات ) ما يقرب من هذا ، فلاحظ (١).

د ـ أثر صلة الرحم :

روى الكليني عن أبي الحسن الرضا قال : « يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقى من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ويفعل اللّه ما يشاء » (٢).

روى أيضاً عن أبي جعفر قال : « صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسئ في الآجال » (٣).

وروى أهل السنة نظير هذه الروايات فنكتفي بما رواه السيوطي في الدر المنثور عن علي ـ رضي اللّه عنه ـ : انّه سأل رسول اللّه 6 عن هذه الآية ( يَمْحُوا اللّه )؟ فقال له : « لأقرّن عينيك بتفسيرها ولأقرّن عين اُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، وتقي مصارع السوء ».

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة ، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق ، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فإنّ لها تأثيراً ضد اثر الأعمال الحسنة.

ويدل على ذلك من الآيات قوله سبحانه :

( وضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كانُوا

__________________

١ ـ الدر المنثور ٦ / ١٤٣.

٢ ـ الكافي ج ٢ ، باب صلة الرحم ، الحديث ٣.

٣ ـ المصدر نفسه ، الحديث ٤ ولاحظ البحار ج ٤ باب البداء ، الحديث ٦٦.


يَصْنَعُونَ ) (١).

وقال سبحانه : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ وَنَقْص مِنَ الَّثمَراتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ ) (٣).

وأمّا الروايات في ذلك فحدّث عنها ولا حرج فنكتفي بما عن أميرالمؤمنين أنّه قال في خطبة : « أعوذ باللّه من الذنوب التي تعجّل الفناء » فقام إليه عبداللّه بن الكواء اليشكرى ، فقال : يا أميرالمؤمنين أو تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال : « نعم ، ويلك قطيعة الرحم ». وقال أيضا : « إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار » (٤).

وقد وردت في الآثار الوضعية للأعمال ، روايات يطول الكلام بنقلها. فلاحظ ما ورد في الزنا من أنّ فيها ست خصال ثلاث منها في الدنيا وثلاث منها في الآخرة أمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرزق (٥).

أيضاً ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا 7 انّه قال : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو لتستعملن عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم » (٦) وعن أمير المؤمنين

__________________

١ ـ النحل / ١١٢.

٢ ـ الأنفال / ٥٣.

٣ ـ الأعراف / ١٣٠.

٤ ـ الكافي ج ٢ كتاب الايمان والكفر ، باب قطيعة الرحم ، الحديث ٧ ـ ٨.

٥ ـ سفينة البحار ١ / ٥٦٠ مادة ( زنا ).

٦ ـ الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١ الحديث ٤.


7 : « إنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار نزلت بهم العقوبات » (١) وورد : « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (٢) إلى غير ذلك من درر الكلمات التي نقلت عن معادنها.

فقد تحصل ممّا ذكرنا :

أوّلا : إنّ علمه سبحانه يعم كل الأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

وثانياً : إنّه سبحانه كل يوم هو في شأن.

وثالثاً : إنّ لأفعال العباد ، تأثيراً في حسن العاقبة وسوئها ، ونزول الرحمة والبركة ، أو العقاب والنقمة.

إذا وقفت على هذه المقدّمات الثلاث فاعلم أنّه يقع الكلام في البداء في مقامين :

١ ـ البداء في مقام الثبوت : أي تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

٢ ـ البداء في مقام الاثبات : أي الاخبار عن تحقق الشيء علماً بالمقتضى مع خفاء المانع.

__________________

١ ـ الوسائل ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١ الحديث ٧.

٢ ـ المصدر نفسه ، الحديث ١٨.



البداء في مقام الثبوت والاثبات

حقيقة البداء هو انّه سبحانه ( على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقّه من فراغه عن أمر الخلق والتدبير ، والاحياء والاماتة ، والتوسيع والتقدير في الرزق ، والتعمير والتنقيص إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى الكون والإنسان ) هو القائم دائماً بالأمر ، والتدبير ، وهو القيوم على كل شيء ، وكل يوم في شأن وليست يداه مغلولتان ، بل يداه مبسوطتان ( في كل شيء ) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وارادته النافذة فهو المتجلّي في كل زمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا كالخالقية والرازقية والاحياء والاماتة إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.

ومن شعب هذا الأمر ، هو أنّه سبحانه : يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما ، وينزل الرحمة والبركة ، كما ينزل البلاء والنقمة ، حسب مشيئته الحكيمة ، النافذة ، ولا تصدر عنه الاُمور جزافاً واعتباطاً بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها. فربّما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ، ثمّ يُمحى فيكتب من السعداء أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال.


وبالجملة : فالبداء في عالم الثبوت يضاد مزعمة اليهود والنصارى المشار إليها في قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) (١) ، وقد رد سبحانه تلك العقيدة اليهودية الباطلة في هذه الآية كما هو واضح.

ولأجل أنّ يديه سبحانه مبسوطتان ، يزيد في الخلق ما يشاء ، وفي العمر ، وينقص منه ، حسب مشيئته الحكيمة قال سبحانه : ( الحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ السَّماواتِ والأَرْضِ ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلٍّ شَيء قَدِيرٌ ) (٢) وقال سبحانه : ( وَمَا تُحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمِّرُ مِن مُعَمِّر ولا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (٣).

وبناء على ذلك فالبداء بهذا المعنى ، ممّا يشترك فيه كل المسلمين ، على مذاهبهم المختلفة من دون اختصاص بالشيعة ، فليس أحد من المسلمين ينكر أنّه سبحانه كل يوم هو في شأن ، وانّه جلّ وعلا. يبدئ ويعيد ، ويحيي ويميت ، كما أنّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص إلى غير ذلك حسب المشيئة الحكيمة والمصالح الكامنة في أفعاله.

وكما أنّه سبحانه : يداه مبسوطتان ، كذلك العبد مختار ، في أفعاله لا مسيّر ، وحر في تصرفاته (٤) لا مجبور ، له أن يغيّر مصيره ومقدّره بحسن فعله ، وجودة عمله ،

__________________

١ ـ المائدة / ٦٤.

٢ ـ فاطر / ١.

٣ ـ فاطر / ١١.

٤ ـ لا يخفى أنّ المقصود من أفعال الإنسان التي نثبت اختياره فيها هي الأفعال التي تتعلق بها التكاليف لا الأفعال القهرية التي تصدر من جهازه الهضمي مثلا.


ويخرج اسمه من الأشقياء ، ويدخله في السعداء ، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.

فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين ، فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ، ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه ( فعله وعمله ) لقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (١) ، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان وأنّ العبد حرّ مختار ، قادر على تغيير القضاء ، وتبديل القدر ، بحسن فعله أو سوئه ، كما دلّت عليه الآيات والروايات.

وليس في ذلك أي محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه ، هو أيضا من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير ، فاللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، فلم يقدره ولم يقضه به على وجه القطع والبت ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل ، بل قضى به على وجه خاص وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه ، ما لم يغيّر العبد حاله ، فإذا غيّر حاله بحسن فعله أو سوئه ، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل ، وكل هذه أيضاً قضاء وقدر منه ، كما لا يخفى.

وهذا ( البداء في الثبوت ) أولى بالتسمية بالمحو والاثبات ، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان غير أنّ المحو والاثبات في الكون بيد اللّه سبحانه ، يتصرّف فيه حسب مشيئته ، ولا دخل لارادة الإنسان ولصلاح فعله ولا فساده فيه ، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه ، على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.

____________

١ ـ الرعد / ١١.


البداء في الذكر الحكيم :

هذا الأصل ـ الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود ، من سيادة القدر على كل شيء حتّى إرادته سبحانه ـ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه ( يَمحوا اللّه ما يشاءُ ويُثبت وعِنده اُمُّ الكِتاب ) (١) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها ، نقل كلمات المحققين من المفسرين ، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح ، مما أصفقت عليه الأُمّة.

١ ـ روى الطبري ( ٣١٠ هـ ) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون اللّه سبحانه بتغيير المصير واخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة مثلا ، كان عمر بن الخطاب ( رضي اللّه عنه ) يقول وهو يطوف بالكعبة : اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [ الشقاوة ] فامحني وأثبتني في أهل السعادة فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك اُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس وشقيق وأبي وائل (٢).

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزل على الأنبياء قال : وعنده اُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدِّل (٣).

٢ ـ قال الزمخشري ( ٥٢٨ هـ ) : ( يمحوا اللّه ما يشاء ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ (٤).

__________________

١ ـ الرعد / ٣٩.

٢و٣ ـ الطبري : التفسير ( جامع البيان ) الجزء ١٣ / ١١٢ ـ ١١٤.

٤ ـ الزمخشري : الكشاف : ٢ / ١٦٩.


٣ ـ ذكر الطبرسي ( ٥٤٨ ـ ٤٧١ هـ ) لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : « الرابع أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. ( روى ذلك ) عن عمربن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل وقتادة : واُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : « اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء ... » (١).

٤ ـ قال الرازي ( ٦٠٨ هـ ) إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا : إنّ اللّه يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى اللّه تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول اللّه 6.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلأنّه لا يمحو إلاّ ما سبق في علمه وقضائه محوه (٢).

٥ ـ قال القرطبي ( ٦٧١ هـ ) ـ بعد نقل القولين وإنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والإجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامة في جميع الأشياء وهو الأظهر ـ ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبداللّه

__________________

١ ـ الطبري مجمع البيان ٦ / ٣٩٨.

٢ ـ الرازي : ١٠ / ٦٤ ـ ٦٥.


ابن مسعود ثم قال : روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي 6 : « مَن سرَّه أن يبسط له في رزقِه ويُنسَأ له في أثره ( أجله ) فليصل رحمه ». (١)

٦ ـ قال ابن كثير ( ٧٧٤ هـ ) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول اللّه 6 : « إنّ الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلاّ البر » ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان ، فكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده اُمّ الكتاب (٢).

٧ ـ روى السيوطي ( ٩١١ هـ ) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة اللّه ، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية اللّه تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة اللّة سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة وألتابعين (٣).

٨ ـ ذكر الآلوسي (١٢٧٠ هـ) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن عليّ ـ كرم اللّه وجهه ـ أنه سأل رسول اللّه 6 عن قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ... ) الآية فقال : له عليه الصلاة والسلام. لاقرّنّ عينك بتفسيرها ولا قرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء ، ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغيّر علم اللّه سبحانه ومن شاء فليرجع (٤).

٩ ـ قال صديق حسن خان ( ١٣٠٧ هـ ) في تفسير الآية : وظاهر النظم

__________________

١ ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٢٩.

٢ ـ ابن كثير : التفسير ٢ / ٥٢٠.

٣ ـ السيوطي : الدر المنثور ٤ / ٦٦٠ لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلها تحكي.

٤ ـ الآلوسي : روح المعاني ١٣ / ١١١.


القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرٍّ ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريح وغيرهم ... (١).

١٠ ـ قال القاسمي ( ١٣٣٢ هـ ) : تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا ـ يمحو اللّه من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر (٢).

١١ ـ قال المراغي في تفسير الآية : وقد أثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثم نقل الأقوال بإجمال (٣).

وهذه الجمل والكلم الدرية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم باحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال وأنّه ليس كل تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل وأنّ للّه سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ولوح « اُمّ الكتاب » والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأول ، وإنّ القول بسيادة القدر ، على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب ( ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ لِلَّذِينَ كَفروا مِنَ النّار ) (٤).

__________________

١ ـ صديق حسن خان : فتح البيان ٥ / ١٧١.

٢ ـ القاسمي : محاسن ٩ / ٣٧٢.

٣ ـ المراغي : التفسير ٥ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤ ـ سورة « ص » الآية ٢٧.


الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء :

الاعتقاد بالمحو والاثبات ، وانّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله ، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر ، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه ، فتشريع البداء ، مثل تشريع قبول التوبة ، والشفاعة ، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر. كلّها لأجل بعث الرجاء وايقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة ، حتّى لا ييأسوا من روح اللّه ولا يتولّوا بتصوّر أنّهم من الأشقياء وأهل النار تقديراً ، فلا فائدة في السعي والعمل ، فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والاثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء « وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية » وتاب ، وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى ، يخرج من سلك الأشقياء ، ويدخل في صنف السعداء ، وبالعكس وهكذا كل ما قدر في حقّه من الموت والمرض والفقر ، والشقاء يمكن تغييره بالدعاء ، والصدقة وصلة الرحم ، وإكرام الوالدين ، وغير ذلك ، فالكل لأجل بث الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبار الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور ( ولو عرفوه لأذعنوا به ).

وأمّا اليهود ـ خذلهم اللّه ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد اللّه مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والاعطاء ، وبعبارة اُخرى عندهم انّ للانسان مصيراً واحداً لا يمكن تغيره ولا تبديله وانّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.

ولو صح ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان.


وعلى ضوء هذا البيان نتمكن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما ( الباقر أو الصادق 8 ) : « ما عبداللّه عزّوجلّ بشيء مثل البداء » (١).

وما عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه : « ما عظّم اللّه عزّوجلّ بمثل البداء » (٢).

إذ لولا الاقرار بالبداء بهذا المعنى ما عرف اللّه حق المعرفة ، ويتجلّى سبحانه في نظر العبد ( بناء على عقيدة بطلان البداء ) أنّه مكتوف الأيدي ، لا يقدر على تغيير ما قدره ، ولا محو ما أثبته.

ومن الروايات في هذا المعنى ما روي عن الصادق أنّه قال :

« لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه » (٣).

وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء مثل الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغي والضلالة ، والانابة إلى الصلاح والهداية.

البداء في مقام الاثبات :

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ المراد من البداء في مقام الاثبات هو ، وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر ، منها : ما لا يقبل التغيير ومنها ما يقبل ذلك.

أمّا الأوّل : فهو المعبّر عنه بـ « اللوح المحفوظ » تارة وبـ « اُمّ الكتاب » اُخرى قال سبحانه : ( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (٤) وقوله تعالى :

__________________

١ ـ البحار ٤ / ١٠٧ باب البداء ، الحديث ١٩ ـ ٢٠.

٢ ـ التوحيد للصدوق باب البداء ، الحديث ٢.

٣ ـ الكافي ١ / ١١٥ ، والتوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث ٧.

٤ ـ البروج ٢١ ـ ٢٢.


( وَإِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ ) (١) وقال سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِى الاَرْضِ وَلا فِى أَنفُسِكُمْ إلاّ فِى كِتاب مِن قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (٢) فاللوح المحفوظ واُمّ الكتاب وذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان من مصائب ممّا لا يتطرق إليها المحو والاثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو أمكن الإنسان أن يتّصل به ، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.

وأمّا الثاني : فهو لوح المحو والاثبات الذي أشار إليه سبحانه ، بقوله ( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (٣) فالأحكام الثابتة فيه ، أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغيّر فيها لأجل اعواز شرطها أو تحقّق مانعها وربّما يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته ، ولكنّه ربّما يمحى ويكتب فيه الصّحة لفقدان شرط التقدير الأول أو طرؤ مانع من تأثير المقتضي.

فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه ، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته ، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه ( الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع ) يمكن تقدير وجوده ، ولكنّه بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع ، يقدر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه ، وتحقّق موانعه.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه ربّما يتصل النبي أو الولي بلوح المحو والاثبات ، فيقف على المقتضى من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء

__________________

١ ـ الزخرف / ٤.

٢ ـ الحديد / ٢٢.

٣ ـ الرعد / ٣٩.


ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه وذلك هو البداء في عالم الاثبات وإن شئت قلت : إنّ موارد وقوع البداء حسب الاثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت ، ولم يرد في الأخبار من هذاالقسم من البداء إلاّ موارد لا تتجاوز عن عدد الأصابع ، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.

تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم :

١ ـ قال سبحانه :( فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى المَنَامِ أَنَّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أبَتِ أفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرينَ ) (١).

أخبر إبراهيم 7 ولده إسماعيل 7 بأنّه رأى في المنام أنّهُ يذبحه ورؤيا الأنبياء ( كما ورد في الحديث ) من أقسام الوحي (٢) ، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة ، وهي أمر اللّه إبراهيم بذبح ولده ، وقد تحقّق ذلك الأمر ، أي أمر اللّه سبحانه به.

ولكن قوله : ( اِنِّى أرى فِى المَنامِ أنِّى اَذْبحك ) يكشف عن أمرين :

الف : الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.

ب : الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وانّ إبراهيم سيمتثل ذلك ، والحال أنّه لم يتحقق لفقدان شرطه ، وهو عدم النسخ ويحكي عن كلا الأمرين قوله : ( وفَدَيناهُ بِذَبحٍ عظيم ).

وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه بأنه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من

__________________

١ ـ الصافات / ١٠١ ـ ١٠٢.

٢ ـ السيوطي : الدر المنثور ٥ / ٢٨٠.


الملاحم والمغيبات ، ثمّ لم يتحقّق ، وما هذا إلاّ لأجل أنّه وقف على المقتضي ، فأخبر بالمقتضى ، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامة ، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتصاله بلوح المحو والاثبات.

٢ ـ أخبر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام (١) ولكن العذاب لم يصبهم ، فما هذا إلاّ لأنّ النبي ، وقف على المقتضي ولم يقف على المانع وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة نصوحاً رافعة للعذاب ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلَى حِينِ ) (٢).

٣ ـ أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة ، كما روي عن ابن عباس حيث قال : إنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه واخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه (٣).

وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَارونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ ) (٤).

فلا شك أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطّلع على نسخه وانّ التوقيت سيزيد ولا مصدر لعلمه إلاّ الاتصال بلوح المحو والاثبات.

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٣ / ١٣٥.

٢ ـ يونس / ٩٨.

٣ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٢ / ١١٥.

٤ ـ الأعراف / ١٤٢.


هذه جملة الأخبار التي تحدث بها الذكر الحكيم ولكنّها لم تحقق ، فلا محيص لتفسيرها إلاّ القول بوقوفهم على المقتضي دون العلّة التامة ، فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء ، والمراد أنّه بدا من اللّه لنبيّه وللناس ما خفى عليهم ، على غرار قوله سبحانه : ( وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتْسِبُونَ ) (١) فالبداء إذا نسب إلى اللّه سبحانه فهو بداء منه ، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم ، وبعبارة اُخرى ، البداء من اللّه هو اظهار ما خفى على الناس ، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفى لهم ، وهذا هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه أحد.

وأمّا ما ورد في الروايات ، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل :

١ ـ إنّ المسيح 7 مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه. فقال : يجلبون اليوم ويبكون غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول اللّه؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه ... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح اللّه إنَّ التي أخبرتنا أمس انّها ميّتة لم تمت. فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال 7 : بما صنعت ، صرف عنك هذا (٢).

٢ ـ روى الكليني عن الامام الصادق 7 : إنّه مرّ يهودي بالنبي فقال : السام عليك. فقال النبيّ عليك. فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت فقال :

____________

١ ـ الزمر / ٤٧.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ٩٤.


الموت عليك. فقال النبيّ : وكذلك رددت. ثمّ قال النبيّ : إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله ، قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف ، فقال له رسول اللّه : ضعه ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود ، فقال : يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت ومعي كعكتان ، فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول اللّه : بها دفع اللّه عنه ، قال : إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان (١).

ولا يمكن لأحد تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلاّ عن طريق البداء بالمعنى الذي تعرّفت عليه ، وهو اتّصال النبي بلوح المحو والاثبات والوقوف على المقتضي والاخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامة.

٣ ـ عرض اللّه عزّوجلّ على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم ، فمرّ بآدم اسم داود النبي 7 فإذا عمره في العالم أربعون سنة ، فقال آدم : يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري يا رب إنّي أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال اللّه : نعم يا آدم ، فقال آدم : فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة ، فأثبت اللّه عزّوجلّ لداود في عمره ثلاثين سنة (٢).

ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً ، ثمّ محاه بدعاء نبيه ، وهذا هو المراد من قوله سبحانه : ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) فلو أخبر نبي اللّه عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره ، لأنّه وقف على الاثبات الأوّل ولم يقف على محوه.

__________________

١ ـ المجلسي : بحارالانوار ٤ / ١٢١.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ٩٥ ـ ١٠٢.


٤ ـ أخبر اللّه نبياً بأنّ يخبر ملكاً بأنّه تعالى متوفّيه إلى كذا وكذا ، فأخبره بذلك ولمّا دعا الملك وقال : ربّ أجلّني حتّى يشب طفلي وأقضي أمري ، فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى ذلك النبي أن ائت فلاناً الملك واخبره انّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة (١).

٥ ـ روى عمرو بن الحمق ، قال : دخلت على أميرالمؤمنين 7 حين ضرب على قرنه ، فقال لي : يا عمرو إنّي مفارقكم ، ثمّ قال : سنة السبعين فيها بلاء ـ قالها ثلاثاً ـ فقلت : فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني واُغمي عليه ، فبكت اُمّ كلثوم فأفاق ... فقلت : بأبي أنت واُمّي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال : نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و ( يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) (٢).

هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الاثبات وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا ، ولو عثر المتتبع على مورد ، فهو نظير ما سبق من الموارد ، والتحليل في الجميع واحد.

إذا وقفت على ذلك تعرفت قيمة ما ذكره الرازي في ختام محصّله ، وقال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظهر معهما أحد عليهم.

الأوّل : القول بالبداء ، فاذا قال : إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة ، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا ، قالوا : بدا للّه فيه (٣).

__________________

١ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ١٢١ ( وفي رواية اُخرى أنّ ذلك النبي هو حزقيل ، البحار ٤ / ١١٢ وذكر مثله في قضية شعيا ص ١١٣.

٢ ـ المجلسي : بحارالأنوار ٤ / ١١٩ ، برقم ٦٠.

٣ ـ الرازي : نقد المحصل ٤٢١ ، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي ، والأمر الثاني هو التقية كما ستعرف.


إنّ الذي نقله أئمة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات فليس فيها ما يدعم ذلك ، فقد نقلوا قصة رسول اللّه مع اليهودي وقصة المسيح مع العروس ، كما نقلوا قصة عمر داود وعمر الملك ، فهل ورد فيها ما أشار إليه الرازي؟

وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد فإنّ الامام ذيّل كلامه بالآية قائلاً : بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظان المحو والاثبات. أفيصح لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة « بأنّهم وضعوا قاعدتين وأنّهم كلّما يقولون سيكون لهم قوّة ثم لا يكون ، قالوا بدا للّه تعالى فيه »؟.

وقد سبق الرازي في هذا الزعم ، أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه (١) ثمّ إنّ اكمال البحث يتوقّف على ذكر اُمور :

الأمر الأوّل :

إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم بان تدل قرائن على صحة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني ، كما هو واضح قرأ قصة يونس وإبراهيم الخليل فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحة خبر يونس كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت على صحة اخبار الخليل ، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلاّن على صحة اخبار النبي الأعظم.

كل ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً ، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعلمه الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات.

__________________

١. الطوسي : التبيان ١ / ١٣ ـ ١٤ ، طبع النجف ، وقد عرفت بعض المتشدقين بهذه الكلمة الكاذبة.


وبالجملة يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدل على صحة اخبار النبي 6 ولا يكون البداء على وجه يعد دليلا على كذبه ، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره.

الأمر الثاني :

إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة فإذا أخبر المسيح بمجيئ نبي اسمه أحمد أو أخبر النبي بكونه خاتماً للرسل أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونظير ذلك ، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً ، لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة ، وموجب لضلال العباد ، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الاُصولية ، لما وجب لأحد أن يقتفي النبي المبشر به ، ولا يوالي الوصي المنصوص ولا يتلقى دين الإسلام خاتماً ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً بحجة أنّه يمكن أن يقع فيها البداء ، ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والاُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس. وهذا ما يستحيل على اللّه سبحانه وانّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة ، كما هو الحال في الأخبار الماضية.

الأمر الثالث :

إنّ اطلاق البداء في هذه الموارد ، إنّما هو بالمعنى الذي عرفت ، وانّ حقيقته بداء من اللّه للناس واظهار منه ولو قيل بدا للّه ، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز ، والقرآن مليء به ، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال : ( وَمَكَرُوا


وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ ) (١) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين ، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء للّه. فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم.

ولكن الشيعة تبعت النبي الأكرم في هذا المصطلح وهو أوّل من استعمل تلك اللفظة في حقّه سبحانه ، روى البخاري في كتاب النبوّة « قصة بدء الخليفة » وفيها هذه اللفظة التي يستوحش منها أهل السنّة ، روى أبو هريرة :

انّه سمع رسول اللّه 6 يقول : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، بدا للّه أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه فاُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أىّ المال أحبّ إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شك في ذلك انّ الأبرص والأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر ـ فاُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك اللّه لك فيها.

وأتى الأقرع فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قذرني الناس. قال : فمسحه ، فذهب ، واُعطي شعراً حسناً ، قال : فأيّي المال أحبّ إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أىّ شيء أحبّ إليك؟ قال : يرد اللّه إلىّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال : فأىّ المال أحبّ إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً فأنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

__________________

١ ـ آل عمران / ٥٤ ، وهنا آيات اُخرى يستدل بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية.


ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً اتبلّغ عليه في سفري فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس. فقيراً فأعطاك اللّه؟ فأجابه : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلاّ باللّه ، ثمّ بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلَّغ بها في سفري فقال : قد كنت أعمى فرد اللّه بصري وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت ، فواللّه لا أجحدك اليوم بشيء أخذته للّه ، فقال : امسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك (١).

هذه حقيقة البداء ، وهذا هو مفهومه في الثبوت والاثبات ، قد ادعمه الذكر الحكيم والسنَّة النبوية فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضلال.

__________________

١ ـ البخاري : الصحيح ٤ / ١٧٢ ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني اسرائيل.



المسألة الخامسة :

التقيّة

التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفس من يمتّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (١) ولاذبها عمّار عندما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (٢) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرف عليها ، مفهوماً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتّى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

إنّ التقية ، إسم لـ « إتّقى يتّقي » (٣) والتاء بدل من الواو وأصله من الوقاية ،

__________________

١ ـ القصص / ٢٠.

٢ ـ النحل / ١٠٦.

٣ ـ قال ابن الأثير في النهاية ٥ / ٢١٧ : وأصل اتقى : أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي 7 : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه 6 ، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة « وقى ».


ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه ، لأنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

مفهومها :

إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو : إظهار الكفر وإبطال الإيمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تُقابل النفاق ، تَقابُل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر ، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق.

نعم : من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن ، وبه صوَّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فإنّه يُعرَّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : ( إذَا جَاءَكَ المَنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المَنافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (١) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس ، والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (٢).

__________________

١ ـ المنافقون / ١.

٢ ـ الأعراف / ٢٨.


غايتها :

الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الارهاب ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصور أو يصوِّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلا أو عمداً دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره ، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذا الجموع المستضعفة من


المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد ، إلاّ أنّ السيف والنطع سالح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم ، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار « الغايات تبرر الوسائل » فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث اللّه أمراً ، من قبيل عطف المبائن على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشىء من التظاهر بالمرونة ، واخفاء المراسم الدينية ، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إالاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتها وهدفها ، فهو أمر


فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليه فطرته ، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.

دليلها في القرآن والسنّة :

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة (١) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الاُولى :

قال سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل / ١٠٦).

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنبّاً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة :

١ ـ قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الفكر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم

__________________

١ ـ غافر / ٢٨ و ٤٥ ، والقصص / ٢٠ وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

٢ ـ النحل / ١٠٦.


عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (١).

٢ ـ وقال الزمخشري روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (٢).

٣ ـ وقال الحافظ ابن ماجة : « والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى : ( إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (٣).

٤ ـ وقال القرطبي قال الحسن : التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال : ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (٤).

٥ ـ قال الخازن : « التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال اللّه

__________________

١ ـ الطبرسي : مجمع البيان ٣ / ٣٨٨.

٢ ـ الزمخشري : الكشاف عن حقائق التنزيل ٢ / ٤٣٠.

٣ ـ ابن ماجة : السنن ١ / ٥٣ ، شرح حديث رقم ١٥٠.

٤ ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ٤ / ٥٧.


تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثمّ هذه التقية رخصة » (١).

٦ ـ قال الخطيب الشربيني : « ( إلاّ من أُكره ) أي على التلفّظ به ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب » (٢).

٧ ـ وقال إسماعيل حقي : « ( إلاّ من أُكره ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والاكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : « ولكن المكره على الكفر باللسان ، ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه ، هو التصديق بالقلب » (٣).

الآية الثانية :

قال سبحانه : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤمِنُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤمِنينَ وَمن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءِ اِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللّهِ الْمَصيرُ ) (٤).

وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

١ ـ قال الطبري : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) قال : التقية باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه ( وقلبه مطمئنّ

__________________

١ ـ تفسير الخازن : ١ / ٢٧٧.

٢ ـ الخطيب الشربيني : السراج المنير.

٣ ـ إسماعيل حقي : تفسير روح البيان ٥ / ٨٤.

٤ ـ آل عمران / ٢٨.


بالإيمان ) فلا اثم عليه ، إنّما التقية باللسان (١).

٢ ـ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (٢).

٣ ـ قال الرازي في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : المسألة الرابعة : اعلم : إنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها :

أ : إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وحاله ، فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله 6 : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله 6 : « من قتل دون ماله فهو شهيد » (٣).

٤ ـ وقال النسفي :( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، أي الاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة (٤).

٥ ـ وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

__________________

١ ـ الطبري : جامع البيان ٣ / ١٥٣.

٢ ـ الزمخشري : الكشاف ١ / ٤٢٢.

٣ ـ مفاتيح الغيب ٨ / ١٣.

٤ ـ النسفي : التفسير بهامش تفسير الخازن ١ / ٢٧٧.


النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة (١).

٦ ـ وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه ( ايثار الحق على الخلق ) (٢).

٧ ـ وفسر المراغي قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) بقوله : أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية « إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن بالإيمان ،

__________________

١ ـ الآلوسي : روح المعاني ٣ / ١٢١.

٢ ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل ٤ / ٨٢.


لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية :

( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان ) (١).

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالا إلاّ أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك أخي القارئ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز ، والباطنية كلّهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة : قوله سبحانه :

( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (٢).

وكانت عاقبة أمره أن : ( فَوَقَاهُ اللّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (٣).

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبىّ اللّه من الموت : ( قَالَ

__________________

١ ـ تفسير المراغي ٣ / ١٣٦.

٢ ـ غافر / ٢٨.

٣ ـ غافر / ٤٥.


يَا مُوسَى اِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١).

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوه الكافر.

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة :

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية فقط ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجه على من يُتقى منه لا على المتقي ، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب ، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها ، لم يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

١ ـ يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله 6 : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، وقوله 6 : « من قتل دون ما له فهو شهيد » (٢).

__________________

١ ـ القصص ٢٠.

٢ ـ الرازي : مفاتيح الغيب ٨ : ١٣ في تفسير الآية.


٢ ـ ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه « إيثار الحق على الخلق » ما هذا نصه : « وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : حفظت من رسول اللّه 6 وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (١).

٣ ـ وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة الفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم ، في وجوههم وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله 6 : « ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة » (٢).

إنّ الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لالقصور في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ اللّه ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من

__________________

١ ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل : ٤ / ٨٢.

٢ ـ مصطفى المراغي : التفسير ٣ / ١٣٦.


الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرعت لأجله التقية ، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه ( ٧ / ١٩٥ ـ ٢٠٦ ) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

الظروف العصبية التي مرت بها الشيعة :

الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك ، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة


طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا كيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

بيان معاوية إلى عماله :

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي 7 فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام علي 7 ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة


أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي 7 ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ويحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه.

وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي 8 فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين 7 ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي 7 وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتّى إنّ إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسموني علياً ، وإنّي فقير وبائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسلتَ به ، قد وليتك موضع كذا (١).

ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع ، بل العجب العجاب أن

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ ـ ٤٦.


تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة ، وأقامت دولاً وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي ، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ أنّ الخروج على الإمام علي 7 غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلماً لوالديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت : واللّه إنّ قنبر خادم علي 7 خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع


وأربعين ومائتين ، وقيل ثلاث وأربعين ، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (١).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي :

اكلّ أوان للنبيّ محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّج

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكم عمّا قليل مفرّجُ ن

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم

تضيء مصابيح السماء فتسرّجُ (٢)

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول ، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!

قال العلاّمة الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ماتختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ،

__________________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٣ / ٣٣. الذهبي : سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٦.

٢ ـ ديوان ابن الرومي ٢ / ٢٤٣.


تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلا تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : « التقية ديني ودين آبائي » ، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (١).

روي عن صادق آل البيت : في الأثر الصحيح :

« التقية ديني ودين آبائي » و : « من لا تقية له لا دين له » وكذلك هي.

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت : دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولماً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها ، بحسب اختلاف مواقع خوف

__________________

١ ـ غافر / ٢٨ ، النحل / ١٠٦.


الضرر ، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة (١).

حدّها :

قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها ، ودليلها ، بقي الكلام في تبيين حدودها ، فنقول :

عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ـ يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن عدم معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم

__________________

١ ـ مجلة المرشد ٣ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ولاحظ : تعليقة أوائل المقالات ص ٩٦.


دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه ، إلاّ أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية ـ إلاّ في حدود ضيقة ـ تنحصر في مستوى الفتاوى ، ولم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوارتهم المتتالية.

التقية المحرّمة :

إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية


مثلا محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني 1 كلاماً في المقام ننقله بنصه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال 1 :

تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات ، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطررار ولا الاكراه.

وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : « فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (١).

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله ، تمسّكاً بحكومة دليل الرفع (٢) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها

__________________

١ ـ الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب ٢٥ الحديث رقم ٦.

٢ ـ قال رسول اللّه 6 : « رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ».


لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة (١).

وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقة والواقعية للتقية ، وخرجنا بالنتائج التالية :

١ ـ إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره 6 بالعودة إذا عادوا.

٢ ـ إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة ، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة.

٣ ـ إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

٤ ـ إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر ، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف ، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.

٥ ـ إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر.

٦ ـ إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.

__________________

١ ـ الإمام الخميني : الرسائل : ١٧١ ـ ١٧٨.


وفي الختام نقول :

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به ، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد ، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله ، وأقصى ما يصح في منطق العقل ، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله ، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه ، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية ، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لاخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم ، رأيه ونظره ، وجهده وطاقته.

إنّ الشيعة يقتفون أثر الأئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة ، ويرون رأيهم ، لأنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد الثقلين اللذين أمر الرسول 6 بالتمسك بهما في مجال العقيدة والشريعة ، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد ، وهي حجّة على الجميع.

نسأل اللّه سبحانه : أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض ، ويوحّد صفوفهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجمع شملهم ، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.



المسألة السادسة :

الرجعة

إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة ، فكأنّ من قال بها ، رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين ، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا انّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطاب فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبيّ الأكرم بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ أيدي وأرجل أقوام ...

عن أبي هريرة قال : لمّا توفّي رسول اللّه 6 قام عمر بن الخطاب ، فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون انّ رسول اللّه 6 توفّي ، وانّ رسول اللّه 6 واللّه ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، واللّه ليرجعنّ رسول اللّه 6 كما رجع موسى ، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا انّ


رسول اللّه 6 مات (١).

ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابد أن يحمل على أنّ النبي ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة ، ولو أراد من نفي موته أنّه ما زال حياً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتفقوا على موته ، ولم يكن موت النبي أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة.

إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيويه قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضاد اُصول الإسلام ، وليس فيه انكار لأيّ حكم ضروري ، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا ينفي بعثهم يوم القيامة ، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية ، نظير :

١ ـ إحياء جماعة من بني إسرائيل (٢).

٢ ـ إحياء قتيل بني إسرائيل (٣).

٣ ـ موت اُلوف من الناس وبعثهم من جديد (٤).

٤ ـ بعث عزير بعد مائة عام من موته (٥).

٥ ـ إحياء الموتى على يد عيسى 7 (٦).

فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالاً ، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٤ / ٣٠٥.

٢ ـ البقرة / ٥٥ ـ ٥٦.

٣ ـ البقرة / ٧٢ ـ ٧٣.

٤ ـ البقرة / ٢٤٣.

٥ ـ البقرة / ٢٥٩.

٦ ـ آل عمران / ٤٩.


ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الاطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟

إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كل رجوع إلى الدنيا تناسخاً وانّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الانسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير انساناً مرّة اُخرى وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية ، أو دخول روح في بدن آخر ، إنساناً كان أو حيوانا؟!

اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم ، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً ، غير انّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الذي فارقه عند الموت لا يعد تناسخا ، وانّما هو إحياء للموتى ، الذي كان معجزة من معاجز المسيح.

كل ذلك يدل على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع وانّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلاّ فنذره في سنبله ، والحال انّ بعض الآيات والروايات تدل على أنّه سيتحقّق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الاجمال ، وأمّا من هم؟. وفي أي وقت يرجعون؟. ولأيّ غرض يعودون إلى الدنيا؟ فليس هنا مقام بيانها ، انّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث ، وإليك الآيات.

قال سبحانه :

( وإذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنونَ * وَيَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ


يُوزَعُونَ ) (١).

لا يشك من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها ، في أنّ الآية الاُولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة ، وعليه تكون الآية الثانية مكمّلة لها ، وتدل على حشر فوج من كل جماعة قبل يوم القيامة ، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض ، يقول سبحانه ( وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحدا ) (٢).

أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة؟

وهذه الآية تعرب عن الرجعة التي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم وجاء التفصيل في السنّة.

وقد سأل المأمون العباسي الامام الرضا 7 عن الرجعة ، فأجابه بقوله : إنّها حقّ قد كانت في الاُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللّه 6 : يكون في هذه الاُمّة كل ما كان في الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة (٣).

وأمّا من هم الراجعون؟ وما هو الهدف من إحيائهم؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع ، واجمال الجواب عن الأوّل أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.

وقال المفيد ناقلاً عن أئمّة أهل البيت : إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم ، من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً ، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع

__________________

١ ـ النمل / ٨٢ ـ ٨٣.

٢ ـ الكهف / ٤٧.

٣ ـ بحارالأنوار ٥٣ / ٥٩ الحديث ٤٥.


لهم إلى يوم المآب (١).

وقال أيضاً في المسائل السروية : والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان ، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين (٢).

وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى ، قال : إنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي ـ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم.

ذكر نكات :

١ ـ إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة ، ولكنّ التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة ، بين أكثر الشيعة ، ولكن لم ينكر ركناً من أركان التشيّع ، ولأجل ذلك نرى انّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الاُمور دون رجوع أعيان الأشخاص ، والباعث لهم على هذا التأويل هو عجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالا ، ولكن المحقّقين من الامامية ، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللّه على كل مقدور ، أجابوا عن الشبه الواردة عليها ، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله : واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف.

__________________

١ ـ الشيخ المفيد : تصحيح الاعتقاد ٤٠.

٢ ـ الشيخ المفيد : تصحيح الاعتقاد ٤٠.


ويشير إلى الاختلاف ، تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل التي وردت عليه من الرىّ ومنها حقيقة الرجعة ، فأجاب بأنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية بأنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ، وقوماً من أعدائه ، وانّ من الشيعة ، تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم ، من دون رجوع الأشخاص واحياء الأموات (١).

٢ ـ كيف يجتمع اعادة الظالمين مع قوله سبحانه : ( وحَرامٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (٢) فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً ، وحشر لفيف من الظالمين ، يخالفها.

والاجابة عن السؤال واضحة ، فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين اُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها ، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون ، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة ، فالآية تنفي رجوع لفيف من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف.

٣ ـ إنّ الظاهر من قوله تعالى : ( حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أعْمَلَ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِن ورائِهمْ بَرْزَخٌ اِلى يَومِ يُبْعَثُونَ ) (٣) هو نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجيئ الموت لأي أحد.

والاجابة عنها واضحة. انّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان ، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع وهذا لا ينافي رجوع البعض

__________________

١ ـ بحارالانوار ٥٣ / ١٣٨.

٢ ـ الأنبياء / ٩٥.

٣ ـ المؤمنون / ١٠٠ ـ ١٠١.


استثناءً ولمصالح عليا ، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار.

أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا ـ على القول بالرجعة ـ إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم ، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات ، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلا على نفي النوع الأوّل منه.



المسألة السابعة :

زواج المتعة

وممّا يشنّع به على الشيعة : قولهم بجواز نكاح المتعة ، ويعدّون القول بتشريعه أو بعدم نسخه مخالفاً للكتاب والسنّة. والمسألة فرعية فقهية لا يناسب البحث عنها في كتب تاريخ العقائد ، غير انّه لما كانت من شعائر فقه الشيعة ، آثرنا أن نبحث عنها في اطار الكتاب والسنّة على وجه الاجمال حتّى يقف القارئ على أنّ القول بأصل تشريعها وعدم نسخها ، ممّا يثبته الكتاب والسنّة. وانّ القول بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. وسيوافيك انّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها وانّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين.

وقد أبدى بنظيره في متعة الحج في زمن رسول اللّه 6 (١).

__________________

١ ـ لاحظ الفصل الرابع من هذا الجزء ، المورد الثالث من الموارد التي اجتهدوا فيها مقابل النص.


وأمّا زواج المتعة : وهي عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ، بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها إذا لم تكن يائسة أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما (١).

وولد المتعة ذكراً كان أو اُنثى يلحق بالأب ولا يُدعى إلاّ به ، وله من الارث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الاُم وتشمله جمع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والاُمّهات وكذا العمومات الوارده في الاخوة والأخوات والأعمام والعمّات.

وبالجملة : المتمتّع بها زوجة حقيقة وولدها ولد حقيقة ولا فرق بين الزواجين : الدائم والمنقطع إلاّ انّه لا توارث هنا ما بين الزوجين ولا قسم ولا نفقة لها. كما انّ له العزل عنها وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الاحكام لا في الماهية والماهية واحدة غير انّ أحدهما مؤقت والآخر دائم. وانّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

وقد أجمع أهل القبلة على انّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام ولا يشك أحد في أصل مشروعيّته وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

والأصل في مشروعيته قوله سبحانه : ( وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاُختَينِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللّه كانَ غَفُوراً رَحيماً * والُمحصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيكُمْ وأحِلَّ لَكُمْ

__________________

١ ـ لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الامامية في ذلك المجال.


ماوَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأموالِكُمْ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ فريضةً ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيما ) (١).

والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه :

١ ـ الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه :

إنّ هذه السورة ـ سورة النساء ـ تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق ، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص ، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله : ( وإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِى اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثَلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً ... ) (٢).

وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية : ( وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنيئاً مَريئا ) (٣).

وأمّا نكاح الاماء فقد جاء في قوله سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللّهُ أعْلَمُ بِإيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وَاَتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحات ولا مُتَّخِذاتِ أخْدانٍ ... ) (٤).

__________________

١ ـ النساء / ٢٣ ـ ٢٤.

٢ ـ النساء / ٣.

٣ ـ النساء / ٤.

٤ ـ النساء / ٢٥.


فقوله سبحانه : ( فمن ما ملكت أيمانكم ) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته ، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً : ( إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ ... ) (١).

وقوله سبحانه : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير. فالى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة وهو الذي جاء في الآية السابقة ، وحمل قوله سبحانه : ( فما استمتعتم ) على الزواج الدائم وحمل قوله : ( فآتوهنّ اُجورهنّ ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه ، وحمله على وجوب الصداق كله بالدخول ، خلاف المتبادر على أنّه يجب الكل بالعقد والطلاق قبله منصِّف. فالناظر في السورة يرى انّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

٢ ـ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع :

إنّ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه : ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنَّ ) يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم ، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكل إلاّ بالمس.

٣ ـ تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها :

ذكرت اُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس وأبي بن كعب وعبداللّه بن مسعود وجابر بن عبداللّه الأنصاري

__________________

١ ـ المؤمنون / ٦.


وحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن جبير إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.

وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين : امام الحنابلة في مسنده (١) وأبو جعفر الطبري في تفسيره (٢) وأبوبكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن (٣) وأبوبكر البيهقي في السنن الكبرى (٤) ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (٥) وأبوبكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن (٦) وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (٧) ، إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا ولا نطيل الكلام بذكرهم.

وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يثقون به. فبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.

ونزيد بياناً بقوله سبحانه : ( واُحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بَأمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحين ).

إنّ قوله سبحانه : ( أن تبتغوا ) مفعول له لفعل مقدّر ، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم ، وأمّا مفعول قوله : ( تبتغوا ) فيعلم من القرينة وهو النساء أي تطلبوا النساء ، أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء

__________________

١ ـ مسند أحمد ٤ / ٤٣٦.

٢ ـ تفسير الطبري ٥ / ٩.

٣ ـ أحكام القرآن ٢ / ١٧٨.

٤ ـ السنن الكبرى ٧ / ٢٠٥.

٥ ـ الكشاف ١ / ٣٦٠.

٦ ـ جامع أحكام القرآن ٥ / ١٣.

٧ ـ مفاتيح الغيب ٣ / ٢٦٧.


من طريق الحلال لا الحرام.

وقوله سبحانه : ( محصنين ) وهو من الاحصان بمعنى العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، وقوله سبحانه : ( غير مسافحين ) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ السائل ، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء ( وآتوهنّ اُجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات ) أي عفائف غير زانيات.

ومعنى الآية : انّ اللّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ماوراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا. وهذا المناط موجود في جميع الأقسام : النكاح الدائم ، والمؤقت والزواج بأمة الغير ، المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية ٢٥.

هذا هو الذي يفهمه كلّ إنسان من ظواهر الآيات غير انّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنّ ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبّق معنى الآية على العقد الدائم وذكر في المورد شبهات نشير إليها.

الشبهة الاُولى : إنّ الهدف في تشريع النكاح هو تكوين الاُسرة وإيجاد النسل وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه.

يجاب عنها بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه. وما ذكر انّما هو من قبيل الحكمة ، وليس الحكم دائراً مدارها ، ضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض. كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهراً ، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.


ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر مع انّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والارضاع والحضانة.

ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة ، مخالفاً للحكمة التي من أجلها شرّع النكاح ، نسألهم عن الزوجين الذين يتزوّجان نكاح دوام ، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك ، وإلاّ فقد أفتى بغير دليل ولا برهان فيتعيّن الأوّل. فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى انّ المدّة مذكورة في الأول دون الثاني؟

يقول صاحب المنار : إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون انّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت ، ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت (١).

أقول : نحن نفترض انّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً ، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا اشكال.

الشبهة الثانية : إنّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّوجلّ في صفة المؤمنين : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون * إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ العادُون ) (٢).

والمراد من الآية أن من ابتغى وراء ذلك ، هم المتجاوزون ما أحلّه اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم ، والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي

__________________

١ ـ المنار ٥ / ١٧.

٢ ـ المؤمنون / ٥ ـ ٧.


عليها بالمعروف.

يلاحظ عليه : انّها دعوى بلا دليل. فانّها زوجة ولها أحكام وعدم وجود النفقة وعدم وجود القسم ، لا يخرجانها عن الزوجيّة فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسم. ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية ، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين يترتّب عليها أحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.

الشبهة الثالثة : إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده مسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من احصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمَنِ الزنا ، فإنّه لا يكون فيه شيء ما من احصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :

كرة حُذِفْت بصوالجة

فتلقّفها رجل رجل (١)

يلاحظ عليه : انّه من أين وقف على انّ الاحصان في النكاح المؤقّت ، يختص بالرجل دون المرأة ، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً ، فكل واحد من الطرفين يُحْصن نفسه من هذا الطريق ، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الاُمور الثلاثة :

١ ـ النكاح الدائم.

٢ ـ النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.

٣ ـ كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة الذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدن أو الحكومة ، وكبت الشهوة الجنسية أمر

__________________

١ ـ المنار ٥ / ١٣.


شاق لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء ، وهم قليلون ، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني ، فيحصنان نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم ، ونبيّه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع فلابد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية ، حلولاً شرعية ، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة ، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه :

ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم ، وتمنع كرامتهم ودينهم عن التنقل في بيوت الدعارة والفساد ، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم ، فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه ، فلم يبق طريق إلاّ ما ذكره الإمام علي بن أبي طالب ، حيث قال : « لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية ».

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها ، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (١) وغيره إلى الشيعة ، وهم براء من هذا الإفك إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة ، الاعتداد على ما ذكرنا ، فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم ، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي ، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع ، وانّه لو كان هناك نهي أو نسخ فانّما هو بعد التشريع والعمل.

الشبهة الرابعة : إنّ الآية منسوخة بالسنّة ، واختلفوا في زمن نسخه إلى أقوال شتّى :

١ ـ اُبيحت ثم نهي عنها عام خيبر.

__________________

١ ـ لاحظ كتابه : السنّة والشيعة ٦٥ ـ ٦٦.


٢ ـ ما اُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.

٣ ـ كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.

٤ ـ اُبيحت عام أوطاس ثم نهي عنها (١).

وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ ، على انّ نسخ القرآن بأخبار الاحاد ممنوع جدّاً ، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال : « انّ اللّه أنزل المتعة وما نسخها بآية اُخرى وأمرنا رسول اللّه 6 بالمتعة وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه » ، يريد به عمر بن الخطاب.

إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وانّما أسند التحريف إلى نفسه ، ولو كان هناك ناسخ من اللّه عزّوجلّ أو من رسوله ، لأسند التحريم إليهما ، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر :

متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه ، وأنا أنهى عنهنّ ، واُحرّمهنّ ، واُعاقب عليهنّ : متعة النساء ومتعة الحج وحىّ على خير العمل (٢).

وقد تقدم في الفصل الرابع بعض الكلام في ذلك أن ابن عباس قال لبعض المناظرين الذين كانوا يحتجون بنهي أبي بكر وعمر : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول : قال رسول اللّه ، وتقولون : قال أبوبكر وعمر ، حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها ، أفتى بالاباحة ، فعارضوه بقول أبيه ، فقال لهم : أمر رسول اللّه أحقّ أن

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال : مسائل فقهية ٦٣ ـ ٦٤ ، الغدير ٦ / ٢٢٥ ، أصل الشيعة واُصولها ١٧١ ، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.

٢ ـ مفاتيح الغيب ١٠ / ٥٢ ـ ٥٣ ، شرح التجريد للقوشجي ٤٨٤ طبع ايران.


يتّبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة. لبعض المصالح المزعومة التي عبّر عنها في غير واحد من كلماته في المقام وفي متعة الحجّ ، وقال : ... ورؤوسنا تقطر ماءً (١).

المنكرون للتحريم :

إنّ هناك لفيفاً من الصحابة والتابعين أنكروا التحريم بحماس :

١ ـ علي أميرالمؤمنين ، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة مازنى إلاّ شقيّ (٢).

٢ ـ عبداللّه بن عمر ، أخرج الامام أحمد من حديث عبداللّه بن عمر ، قال : قد سئل عن متعة النساء واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه زانين ولا مسافحين ، ثم قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول : ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر (٣).

٣ ـ عبداللّه بن مسعود ، روى البخاري عن عبداللّه بن مسعود ، قال : كنّا نغزو مع رسول اللّه وليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن ، ثمّ قرأ علينا : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الممُعْتَدِينَ ) ـ المائدة / ٨٧ ـ (٤).

____________

١ ـ المفيد : الارشاد ٩٣ طبع النجف.

٢ ـ الطبري التفسير ٥ / ٩.

٣ ـ مسند أحمد ٢ / ٩٥.

٤ ـ صحيح البخاري ، كتاب النكاح ٧ / ٤ ، الباب ٨ ، الحديث ٣.


٤ ـ عمران بن حصين ، أخرج البخاري في صحيحه عنه ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء (١).

أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وعملنا بها مع رسول اللّه ، فلم تنزل آية تمنعها ، ولم ينه عنها النبىّ حتّى مات (٢).

٥ ـ وقد عمد المأمون الخليفة العباسي ، أن يعلن بتحليل المتعة ، ولكنّه خوفاً من الفتنة توقّف عن الاعلان قال ابن خلّكان ، نقلاً عن محمّد بن منصور : قال : كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء : بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا ، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل ، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه 6 وعلى عهد أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ وأنا أنهى عنهما ، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللّه 6 وأبوبكر ـ رضي اللّه عنه ـ؟! فأوما أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال : رجل يقول من عمر بن الخطاب نكلّمه نحن؟ فأمسكنا ، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا ، فقال المأمون ليحيى : مالي أراك متغيّراً؟ فقال : هو غم يا أميرالمؤمنين لما حديث في الإسلام، قال : وما حدث فيه؟ قال : النداء بتحليل الزنا ، قال : الزنا؟ قال : نعم ، المتعة زنا ، قال : ومن أين قلت هذا؟ قال : من كتاب اللّه عزّوجلّ ، وحديث

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٦ / ٢٧ ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة قول ( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ ).

٢ ـ مسند أحمد. لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين ٧٠.


رسول اللّه 6 قال اللّه تعالى : ( قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنون ) إلى قوله : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (١).

يا أميرالمؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال : لا ، قال : فهي ، الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال : لا ، قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين (٢).

عزب عن ابن أكثم ـ وهو كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت ـ، أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه ( إلاّ على أزواجكم ) وأمّا عدم الوراثة ، فهو تخصيص في الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها ، وكم لها من نظير ، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم ، وبالعكس ، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس ، وأمّا الولد ، فيلحق قطعاً ونفي اللحوق ناش إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الاُمّة على تحليلها عصر الرسول والخليفة الأوّل ، افحسب ابن أكثم انّ الرسول حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.

كبرت كلمة تخرج من أفواهم :

وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه ، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه ، من دون استناد إلى آية أو رواية.

روى مسلم في صحيحه : عن ابن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يامر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر ، فقال : على يدي دار الحديث : تمتّعنا مع

__________________

١ ـ المؤمنون / ١ ـ ٧.

٢ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٦ / ١٤٩ ـ ١٥٠.


رسول اللّه 6 فلمّا قام عمر قال : إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء فأتمّوا الحجّ والعمرة وابتّوا نكاح هذه النساء فلئِن اُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة (١).

وروى الامام أحمد في مسنده عن ابي نضرة : قلت لجابر : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها ، فقال لي : على يدي جرى الحديث : تمتّعنا مع رسول اللّه ومع أبي بكر فلمّا ولّى عمر خطب الناس فقال : إنّ القرآن هو القرآن ، وإنّ رسول اللّه هو الرسول ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه إحداهما متعة الحج والاُخرى متعة النساء (٢).

وهذه المأثورات تعرب أولا : عن أنّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة ولم تكن محرّمة إلى زمان تولي عمر الأمر فنهى ومنع.

وثانياً : انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة ، ومن المعلوم انّ اجتهاده ـ لو صحّت تسميته بالإجتهاد ـ حجّة على نفسه لا على غيره.

وفي الختام نقول :

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى كثيراً من الكتّاب إلى القول أنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه ، وانّ المتمتَّع بها لا عدّة لها ، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها.

وقد خفي الواقع على هؤلاء ، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة ، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من

__________________

١ ـ مسلم : الصحيح ٤ / ١٣٠ باب نكاح المتعة الحديث ٨ ، طبع محمد علي صبيح.

٢ ـ أحمد : المسند ١ / ٥٢.


جميع الموانع ، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوراث ، والانفاق وسائر الحقوق المادية وانّ عليها أن تعتد بعد إنتهاء الأجل مع الدخول بها ، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت ، إلى غير ذلك من الآثار (١).

__________________

١ ـ الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية ٤٦.



المسألة الثامنة :

مسح الأرجل في الوضوء

اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده ، وقالت الشيعة الامامية انّه المسح ، وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره : ونقل عن الحسن البصري انّه مخيّر بينهما (١).

وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسالة ، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره ، وفي حضره وسفره ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً ، فجعل أوضح المسائل أبهمها.

إنّ الذكر الحكيم تكفّل لبيان المسألة وما أبقى فيها ابهاماً واعضالاً ، وكان الحاضرون في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً. إمّا المسح أو الغسل ،

__________________

١ ـ الطبري : التفسير ٦ / ٨٦ ومفاتيح الغيب ١١ / ١٦٢ والمنار ٦ / ٢٢٨.


ولم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول 6 على الأجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.

وليس فيها شيء أوثق من كتاب اللّه فعلينا دراسة ما جاء فيه ، قال سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بَرؤوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْن ) (١) وقد اختلف القرّاء في قراءة ( وأرجلكم إلى الكعبين ) فمنهم من قرأ بالخفض ، ومنهم من قرأ بالكسر. ومن البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ ، فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً واعضالا ، ويجعل الآية لغزاً ، والقرآن كتاب الهداية والارشاد ، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان ، خصوصاً فيما يتعلّق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين ، ولا تقاس بالمعارف والعقائد التي يختصّ الامعان فيها بالأمثل فالأمثل. وعلى كل تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الامام الرازي في تفسيره ، ننقل كلامه بتلخيص :

قال : حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله ( وأرجلكم ) وهما :

الأوّل : قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم ـ في رواية أبوبكر عنه ـ بالجرّ.

الثاني : قرأ نافع وابن عامر وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.

أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس ، فكذلك في الأرجل.

__________________

١ ـ المائدة / ٦.


فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار؟ كما في قوله : « جُحْرُ ضَبٍّ خَرِِبٍ » وقوله : « كَبيرُ اُناسٍ في بِجادٍ مَزَمِّلٍ ».

قيل : هذا باطل من وجوه :

١ ـ إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه.

٢ ـ إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جُحرُضَبٍّ خَرِب » فإنّ « الخَرِب » لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

٣ ـ إنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.

وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ « برؤوسكم » في قوله ( فامسحوا برؤوسكم ) في محل النصب (١) بامسحوا لأنّه المفعول به ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس ، وجاز الجر عطفاً على الظاهر.

ونزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برؤوسكم ولا يجوز العطف على ظاهر « أيديكم » لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد ، فضلاً عن الجملة ، هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم ، ولا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره فإذا كان هو المهيمن

__________________

١ ـ يقال ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر :

معاوي انّنا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

لاحظ : المغني لابن هشام : الباب الرابع.


على جميع الكتب السماوية فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون (١) مع كونها متضاربة في المقام ، فلو ورد فيها الأمر بالغسل ، فقد جاء فيها الأمر بالمسح. رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال :

١ ـ ابن عباس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.

٢ ـ كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. ولمّا خطب الحجّاج وقال : ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقبيهما ، قال أنس : صدق اللّه وكذب الحجّاج ، قال اللّه ( واسمحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) وكان أنس إذامسح قدميه بلّهما.

٣ ـ عكرمة ، قال : ليس على الرجلين غسل وانّما نزل فيهما المسح.

٤ ـ الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح وقال : ألاترى انّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً.

٥ ـ عامر : اُمر أن يمسح في التيمّم ما اُمر أن يغسل بالوضوء واُبطل ما اُمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان. وقيل له : إنّ اُناسا يقولون : إنّ جبرائيل نزل بغسل الرجلين فقال : نزل جبرائيل بالمسح.

٦ ـ قتادة : في تفسير الآية : افترض اللّه غسلتين ومسحتين.

٧ ـ الأعمش : قرأ « وأرجلكم » مخفوضة اللام.

٨ ـ علقمة : قرأ « أرجلكم » مخفوضة اللام.

٩ ـ الضحاك : قرأ « وأرجلكم » بالكسر.

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة : فصل « علل تكوّن المذاهب وأسبابه ».


١٠ ـ مجاهد : مثل ما تقدّم (١).

وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان : ابن عباس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجر الصريح في تقديم المسح على الغسل ، وجمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة ، ولماذا ، أعرض عنهم الأئمّة الأربعة؟

أنا لا أدري.

إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت وهم يُسندون المسح إلى النبي الأكرم ويحكون وضوءه به قال أبوجعفر الباقر 7 : ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه ... إلى أن قال : ثمّ مسح رأسه وقدميه. وفي رواية اُخرى ثمّ

مسح ببقيّة مابقى في يديه ، رأسه ورجليه ولم يعدهما في الاناء (٢).

وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الامامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان وقال السيّد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة :

انّ الوضوء غسلتان عندنا

ومسحتان والكتاب معنا

فالغسل للوجه ولليدين

والمسح للرأس وللرجلين

وبعد وضوح دلالة الآية ، واجماع أئمّة أهل البيت على المسح ، لا يبقى مجال للاستدلال على الغسل ، وإليك ما ذكروا من وجوه باطلة.

١ ـ انّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه ويكون غسل

____________

١ ـ الطبري : التفسير ٦ / ٨٢ ـ ٨٣.

٢ ـ الحرّ العاملي : الوسائل ١ ، الباب ١٥ من أبواب الوضوء ، الحديث ٩ و ١٠.


الأرجل يقوم مقام مسحها (١).

يلاحظ عليه : أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح ، وليس شيء أوثق من كتاب اللّه فلو دلّ على لزوم المسح ، لا يبقى مجال لترجيحه على روايات الغسل. والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات ، والمعارض منها للكتاب لا يقام لها وزن.

وأعجب من ذلك قوله : إنّ الغسل مشتمل على المسح ، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان ، فالغسل إمرار الماء على المغسول ، والمسح إمرار اليد على الممسوح (٢).

وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفاً وشرعاً ولو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل ، لا الاكتفاء بالغسل.

٢ ـ ما روي عن علي أنّه كان يقضي بين الناس فقال « وأرجلكم » هذا من المقدّم والمؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال : « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم ».

يلاحظ عليه : أنّ أئمّة أهل البيت كالباقر والصادق 8 أدرى بما في البيت وهم اتّفقوا على المسح وهل يمكن الاتّفاق على المسح ، مع اعتقاد كبيرهم بالغسل. وما روي موضوع عن لسان الامام ليثيروا الشك بين أتباعه وشيعته. ولا نعلّق على احتمال التقديم والتأخير شيئاً ، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الذي يطلب فيه الوضوح ، إذ هي المرجع للقروي والبدوي ، وللحاضر عصر النزول ، والغائب عنه ، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد ، ثمّ إنّه

__________________

١ ـ الرازي : مفاتيح الغيب ١١ / ١٦٢.

٢ ـ قال سبحانه حاكياً عن سليمان : ( رُدّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والأعْناق ) ـ ص / ٣٣ ـ أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد وأعناقها.


أىّ ضرورة اقتضت هذا التقديم والتأخير ، مع أنّه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب ، وانّ غسل الأرجل بعد مسح الرأس ، فكان من الممكن أن يُذكر فعله ويقال « فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ». كل ذلك يعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص وما عليه أئمة أهل البيت من الاتّفاق على المسح.

٣ ـ ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال : تخلّف عنّا رسول اللّه في سفره ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، وجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار » ـ مرتين أو ثلاث ـ (١).

يلاحظ عليه : أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالته على غسل الرجلين فإنّها صريحة في أنّ الصحابة كانوا يمسحون ، وهذا دليل على أنّ المعروف عندهم هو المسح. وما ذكره البخاري من أنّ الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل ، اجتهاد منه ، وهو حجّة عليه لا على غيره ، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتّى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبيّ المسح؟! على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات ، فقد روي أنّ قوماً من أجلاف العرب ، كانوا يبولون وهم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة ، وكان ذلك سبباً لذلك الوعيد (٢) ويؤيّد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم : بوّال على عقبيه ، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري ، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب.

__________________

١ ـ صحيح البخاري ج ١ كتاب العلم ص ١٨ باب من رفع صوته ، الحديث ١.

٢ ـ مجمع البيان ٢ / ١٦٧.


٤ ـ روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حية ، قال : رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال : أردت أن اُريكم طهور نبيّكم (١).

يلاحظ عليه : أنّ أبا حية مجهول لا يعرف ، ونقله عنه أبوإسحاق الذي شاخ ونسى واختلط وترك الناس روايته (٢) أضف إليه انّه يعارض ما رواه عنه أهل بيته ، وأئمّة أهل بيته ، خصوصاً من لازمه في حياته وهو ابن عباس كما مرّ.

٥ ـ قال صاحب المنار : وأقوى الحجج اللفظية على الامامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين وهذا لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء ، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل.

يلاحظ عليه : أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره ، لكن نسأله : لماذا لا تحصل تلك الغاية إلاّ باستيعابهما بالماء؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد ، والاختبار سهل ، فها نحن من الذين يمسحون الأرجل إلى العظمين الناتئين بنداوة اليد ولا نرى في العمل اعضالا وعسراً.

٦ ـ الامامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم ، ويقولون هو الكعب ، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم ، فلو صحّ هذا لقال إلى الكعاب كما قال في اليدين إلى المرافق (٣).

يلاحظ عليه : إنّ المشهور بين الامامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم التي هي معقد الشراك ، وهناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق والقدم وذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل وعلى كل تقدير ، يصح

__________________

١ ـ سنن ابن ماجة ١ / ١٧٠ باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الأوّل.

٢ ـ لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة ١٧٠ وميزان الاعتدال للذهبي ٤ / ٥١٩ ، برقم ١٠١٣٨ وص ٤٨٩ باب « أبو إسحاق ».

٣ ـ المنار ٦ / ٢٣٤.


اطلاق الكعبين ، وإن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل. فيكون المعنى « فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم » إذ لا شك أنّ كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه.

أضف إلى ذلك انّه لو صحّ التفسير بما ذكره يجب أن يوسع الممسوح ويحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل ، وكأنّه تخيّل أن المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق إليهما وتجفّ اليد قبل الوصول إليهما.

ولعمري انّ هذه اجتهادات واهية ، وتخرّصات لاقيمة لها في مقابل الذكر الحكيم.

٧ ـ آخر ما عند صاحب المنار في توجيه غسل الأرجل هو التمسّك بالمصالح ، حيث قال : لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة ، بل هو خلاف حكمة الوضوء ، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ ، يزيده وساخة ، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النص ، فلا شك انّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها ، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار اصبع أو اصبعين حتّى قال الشافعي : إذا مسح الرجل باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن كفه ، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك ، وهناك كلمة قيّمة للامام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها ، فقال : نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية ، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم ، ولم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم ، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد ، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم ، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب اللّه عزّوجلّ ، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء ،


فلا مندوحة عن البخوع لحكمه ، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح عليها عملاً بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (١) ولعلّ غسل رسول اللّه 6 رجليه ـ المدعى في أخبار الغسل ـ انّما كان من هذا الباب ولعلّه كان من باب التبرّد ، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء واللّه أعلم (٢).

__________________

١ ـ ولذاترى حفاة الشيعة والعمال منهم كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة ، إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّأوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة.

٢ ـ مسائل فقهيه ٨٢


المسألة التاسعة :

عقيدة الشيعة الإماميّة في الصحابة

صحابة النبي الأكرم 6 هم الذين رأوا النبيّ الأكرم وتشرّفوا بكرامة الصحبة وبذل لفيف منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام حتّى ضرب بجرانه واتّسع نطاقه. فشادوا بنيانه ، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل ، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب ، فلولا بريق سيوفهم ، وقوّة سواعدهم ، وخوضهم عباب المنايا ، لما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ له عود.

إنّ الكتاب والسنّة هما المصدران الرئيسيان عند المسلمين جميعاً ، والشيعة خاصة ، ولا يجوز لمسلم أن يحكم بأمر شرعيّ إلاّ بالرجوع إليهما. ولا يخالفهما إلاّ منافق أو تاجر بالدين.

والكتاب والسنّة يثنيان على الصحابة ، ومن تلى آيات الذكر الحكيم حول


المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان (١) يغبط هؤلاء ويتمنّى من صميم قلبه أن يكون أحدهم. ويدرك شأنهم ، ومن استمع للآيات النازلة في المبايعين تحت الشجرة (٢) أو أصحاب سورة الفتح (٣) فاضت عيناه دموعاً من الشوق إلى هؤلاء الذين ركبوا الطريق ، ومضوا ، وتعاقدوا على المنيّة.

فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً. ( سبحانك هذا بهتان عظيم ).

وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبي ضئيلة الفائدة أو يتهمه بعدم النجاح في هداية قومة وارشاد اُمّته وانّه لم يؤمن به إلاّ شرذمة قليلة لا يتجاوزون عدد الأصابع وانّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالايمان ، أو مرتدّ على أدباره القهقرى بعد رحلة النبيّ الأكرم.

كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول : انّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور (٢٣) عاماً من الدعوة إلاّ ثلاثة أو سبعة أو عشرة. وأي شيعي واع ادّعى ذلك؟ ومتى قال؟ وأين ذكره؟ إن هو إلاّ جزء من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة أثارها الأمويّون في أعصارهم ، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق الوحدة الإسلامية وفصم عرى الاخوّة. وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه بـ « صورتان متعارضتان ». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد اُخرى يجتره صنائع الوهابية في المنطقة.

نعم وردت روايات في ذلك ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة ولا تتّخذ مقياساً

__________________

١ ـ التوبة : ١٠٠ : ( والذين اتبعوهم بإحسان ... ).

٢ ـ الفتح : ١٨ : ( لقد رضى اللّه عن المؤمنين ... ).

٣ ـ الفتح : ٢٩ : ( محمّد رسول اللّه والذين معه ... ).


لها لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد ، وستوافيك دراسة متنها وسندها.

إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته ، وفاطمة بنت أسد ، وبحمزة والعباس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث « شهيد بدر » وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم ، وانتهاءً بعلي 7 وأولاده وبناته وزوجته سيّدة نساء العالمين.

أمّا الذين استشهدوا في عهد النبيّ الأكرم فهم يتجاوزون المئات ولا يشك أيّ مسلم في أنّهم كانوا من المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم ، وضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الايمان والتوحيد والتضحية ، بالغالي والرخيص ، خدمة للمبدأ والعقيدة. ابتداءً من ياسر وزوجته سميّة أوّل شهيد وشهيدة في الإسلام وكان الرسول يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب : « صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة » (١) مروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة إلى شهداء بدر واُحد ، وقد استشهد في معركة اُحد سبعون صحابياً دفنهم النبيّ الأكرم 6 وصلّى عليهم وكان يزورهم ويسلّم عليهم ، ثم شهداء سائر المعارك والغزوات حتّى قال النبيّ الأكرم 6 في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق : اهتزّالعرش لموته ، وشهداء بئر معونة ويتراوح عدد الشهداء بين ٤٠ حسب رواية أنس بن مالك أو ٧٠ حسب رواية غيره ، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلاّء الذين : ( صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

__________________

١ ـ السيرة النبوية لابن هشام ١ / ٣٢٠ طبعة الحلبي.


قضى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبديلاً ) (١) ، ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ ) (٢) ، ( للفُقَراءِ المُهاجرينَ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأمْوالِهُمْ يِبتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً ويَنْصُرُونَ اللّهَ ورسولَهُ ... * والَّذِينَ تَبَوّء والدّارَ والإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيهِمْ ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجةً مِمّا اُوتوا ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (٣).

أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبيّ في دعوته ، وانّه اجتمع حوله رجال صالحون ومخلصون فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبيّ الأكرم في دعوته وتهالكه في هداية اُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة ، هو ما جاء في كلام الإمام أميرالمؤمنين 7 :

« أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟ اوّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتّبعوه » (٤).

وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه ، فقد وصف أصحاب رسول اللّه 6 يوم صفّين ، يوم فرض عليه الصلح بقوله :

__________________

١ ـ الأحزاب / ٢٣.

٢ ـ آل عمران/ ١٧٣.

٣ ـ الحشر / ٨ ـ ٩.

٤ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٢.


« ولقد كنّا مع رسول اللّه 6 نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدوّ ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان انفسهما أيّهما يسقي صاحبه كاس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للايمان عود » (١).

هذه كلمة الامام قائد الشيعة وامامهم أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبي أو يفسقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والالحاد أو الارتداد ، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ويصنّفهم اصنافا ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم؟ كلاًّ ولا ، وهذا هو الامام علي بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبيّ ويقول : اللّهمّ وأصحاب محمّد 6 خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبّته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته ، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهمّ واوصل التابعين

____________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٥٦.


لهم باحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ... (١).

فإذا كان الحال كذلك ، واتّفق الشيعي والسنّي على اطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟

إنّ موضع الخلاف ليس إلاّ في نقطة واحدة وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كل من رأى النبيّ وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم اُدرج في كفنه ، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك ، محتجّين بما نسب إلى رسول اللّه 6 : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. ولو تليت عليهم التواريخ المتضافرة يقولون بما ذكره الحسن البصري : اولئك الذين طهّر اللّه سيوفنا عن دمائهم فلنطهّر ألسنتنا عن أعراضهم. ولا أظن أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال.

وقد تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة بل يلبسونهم ثوب العصمة ، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول اللّه 6 فنفي العصمة عن النبيّ واتهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلاً يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به ، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلاّ فالقتل ..

فإذا كان هذا هو محلّ النزاع أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى مؤمن وفاسق ومثالي وعادي ، إلى زاهد ومتوغّل في حبّ الدنيا ، إلى عالم بالشريعة وعامل بها وجاهل لا يعرف منها إلاّ شيئاً طفيفاً ، فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة مجرّدين عن كل رأي مسبق لا النزول على العاطفة التي تحمل المسلم

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية : الدعاء ٤.


على الحكم بنزاهة الصحابة كلّهم ، ورفض ما خلّفته الحوافز.

ولأجل اماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر اُموراً :

الصحابة في القرآن الكريم :

١ ـ إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى اصناف مختلفة ، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين ، والمبايعين تحت الشجرة ، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم ، وأصحاب الفتح ، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية ، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة ، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً اُخرى يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية :

١ ـ المنافقون المعروفون (١).

٢ ـ المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّ (٢).

٣ ـ ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب (٣).

٤ ـ السمّاعون لأهل الفتنة (٤).

٥ ـ المجموعة الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (٥).

٦ ـ المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر (٦).

__________________

١ ـ المنافقون / ١.

٢ ـ التوبة / ١٠١.

٣ ـ الأحزاب/ ١١.

٤ ـ التوبة / ٤٥ ـ ٤٧.

٥ ـ التوبة / ١٠٢.

٦ ـ آل عمران / ١٥٤.


٧ ـ الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم (١).

٨ ـ المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (٢).

٩ ـ المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (٣).

١٠ ـ المولّون أمام الكفّار (٤).

هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة ، تعرب عن أنّ صحابة النبيّ الأكرم لم يكونوا على نمط واحد ، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه ، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها ، فيجب اخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس ، وعندئذ يتحقّق انّ الصحبة لا تعطي لصحابها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لها ، ومع ذلك فكيف يمكن رمي الجميع بسهم واحد واعطاء الدرجة الواحدة للجميع ، وهذا هو رأي الشيعة فيهم ، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.

٢ ـ إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار ، وغيرهم بالمدح والثناء ، لا تدلّ على أزيد من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلا للفضل والفضيلة ولكن الاُمور انّما تعتبر بخواتيمها ، فيحكم عليهم ـ بعد نزول الآيات ـ بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات ، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح انّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته ، فحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ الحكم بذلك ، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم لأنّه ناظر إلى أحوالهم في

__________________

١ ـ الحجرات / ٦ ، السجدة / ١٨.

٢ ـ الحجرات / ١٤.

٣ ـ التوبة / ٦٠.

٤ ـ الأنفال / ١٥ ـ ١٦.


ظروف خاصّة ، لا في جميع فصول حياتهم ، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم وأنّ اللّه رضي عنهم ، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم ، فكم من مؤمن زلّ قدمه في الحياة ، فعاد منافقاً ، أو مرتدّاً ، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلاً إلهياً ، وبالجملة فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب ايمانه بالظلم والعيث والفساد ، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين ، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشيء سوى ما أمر اللّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال : ( رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ) (١).

٣ ـ ومن سوء الحظ انّ شرذمة قليلة من الصحابة ، زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق ، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين ، وتبيين مواقفهم ، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين ، ولعلّ عدد المنحرفين ( غير المنافقين ) لا يتجاوز العشرة إلاّ بقليل.

أفيسوغ في ميزان النصفة رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم ، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.

وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالاعراض عنه إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف ، فلو كان الحق ترك التكلّم فيهم واعذارهم بالاجتهاد ، فلماذا وصف النبي الأكرم بعضهم بالارتداد ، كما رواه

__________________

١ ـ الحشر / ١٠.


البخاري وغيره (١).

وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبي أسوة ، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري ، فالأوّل هو المتعيّن ، ويضرب بالثاني عرض الجدار.

الردّة بعد وفاة الرسول 6 :

بقيت هنا كلمة وهي : إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه 6 إلاّ ثلاثة. إذ لو صحّ ما ذكر ، وجب الالتزام بأنّ النبيّ الأكرم لم ينجح في دعوته ولم تتخرّج من مدرسته إلاّ قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.

والاجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً. فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات. وهي بين ضعيف لا يعرج عليه ، وموثق ـ حسب اصطلاح علماء الامامية في تصنيف الأحاديث ـ وصحيح قابلين للتأويل ، ولا يدلان على الارتداد عن الدين ، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر.

أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم أبناء نصير قال : حدثنا محمّد بن عثمان عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر 7 قال : كان الناس أهل الردّة بعد النبي إلاّ ثلاثة ... (٢).

وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سنده وهو من المجاهيل.

وما رواه أيضاً عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٥ / ١١٨ ـ ١١٩ في تفسير سورة النور.

٢ ـ رجال الكشي ١٢ الحديث ١.


قال : قال أبو جعفر 7 : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة نفر : سلمان وأبوذر والمقداد (١).

وكفى في ضعفها انّ الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري فلا يصح أن يروي عن علي بن الحكم سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عمير المتوفّى عام ٢١٧ أو كان المراد الزبيري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا 7 المتوفّى عام ٢٠٣.

وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال : حدثني محمّد بن عيسى ومحمّد ابن مسعود قال : حدثنا جبرئيل بن أحمد. قال : حدثنا محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن محمّد بن البشير عمّن حدثه قال : ما بقى أحد إلاّ وقد جال جولة إلاّ المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد (٢).

والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد فانّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.

وأمّا الروايات الباقية فالموثق عبارة عمّا ورد في سنده علي بن الحسن بن فضال والثلاثة الباقية صحيحة ومن أراد الوقوف على اسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي (٣).

ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها.

١ ـ كيف يمكن أن يقال انّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه ولم يبق إلاّ ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا انّ جماعة من

__________________

١ ـ رجال الكشي ١٦ الحديث ١٣.

٢ ـ رجال الكشي ١٦ الحديث ١١.

٣ ـ رجال الكشي ١٣ الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٦ و ٧.


بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة. ولم يتركوا بيت الامام إلاّ بعد التهديد والوعيد واضرام النار أمام البيت. وهذا يدل على انّه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبيّ 6 وإليك نص التاريخ. قال ابن قتيبة :

« إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير ابن العوام ـ رضي اللّه عنه ـ ... (١).

وقال في موضع آخر : إنّ أبابكر ـ رضي اللّه عنه ـ تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ـ كرم اللّه وجهه ـ فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لاُحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا ابا حفص انّ فيها فاطمة فقال : وإن ... (٢).

وقال الطبري : قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : واللّه لاُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (٣).

وقال ابن واضح الاخباري : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبدالمطلب ، والفضل ابن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبوذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب واُبي ابن كعب. فأرسل أبوبكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٠ ـ ١٢.

٢ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٠ ـ ١٢.

٣ ـ تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٢.


ابن شعبة فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبدالمطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً ... (١).

كل ذلك يشهد على انّه كان هناك اُمّة بقوا على ما كانوا عليه ، في عصر الرسول الأعظم ، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير ما كان الحق يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلاّ القليل.

٢ ـ كيف يمكن أن يقال ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة مع أنّ الصدوق ـ رضي اللّه عنه ـ ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار وهم خالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبي ابن كعب ، وعمّار بن ياسر ، وأبوذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبداللّه بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو هيثم ابن التيهان وغيره.

ثمّ ذكر اعتارضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد (٢).

٣ ـ إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الامام يورث الشك في صحّتها ففي بعضها « إلاّ ثلاثة » وفي البعض الآخر إلاّ سبعة وفي ثالث « إلاّ ستة » فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الايمان غير أنّه على كل تقدير يوهن الرواية.

٤ ـ كيف يمكن انكار ايمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علو شأنهم كأمثال بلال الحبشي ، وحجر بن عدي ، واويس القرني ، ومالك بن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد ، وعباس بن عبدالمطلب

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٤.

٢ ـ الخصال : الشيخ الصدوق أبواب الاثنى عشر ٤٦١ ـ ٤٦٥.


وابنه حبر الاُمّة وعشرات من أمثالهم ، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي ، أضف إلى ذلك انّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خط الامام ولم يتخلّفوا عنه وانّما غمدوا سيوفهم اقتداءً بالامام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته (١).

واقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو انّه ليس المراد من الارتداد ، الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية وانّما المراد عدم الوفاء بالعهد. الذي اُخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم. ويؤيّد ذلك :

ما رواه وهب بن حفص عن ابي بصير عن أبي جعفر : جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم ـ بعدما بويع أبوبكر ـ إلى علي وقالوا له : أنت واللّه أميرالمؤمنين ، أنت واللّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّ 6 هلمّ يدك لنبايعك فواللّه لنموتنّ قدامك. فقال علي 7 : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلّقين. فحلق أميرالمؤمنين وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبوذر ولم يحلق غيرهم (٢).

وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الامام 7 لأخذ الحق المغتصب فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.

وممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية التي جاء فيها انّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد ، فهي وإن كانت ضعيفة السند ، لكن فيها اشعار على ذلك لأنّ وصف قلب المقداد اشارة إلى ارادته القوية وثباته في سبيل استرداد الخلافة.

وظنّي انّ هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتفانياً في الاخلاص غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم وما روي عن

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم ٦٢.

٢ ـ لاحظ الرجال للكشي ١٤ الحديث ٧ من هذا الباب.


أميرالمؤمنين وحفيده سيد الساجدين ، من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. وهناك كلمة قيّمة للعلاّمة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال :

وقالت الشيعة حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتّم الحكم بها بمجرّد الصحبة وهي لقاء النبيّ 6 مؤمناً به ومات على الإسلام. وانّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ، ولزمنا له من التعظيم والتوقير ، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللّه ما هو أهله ، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته ، أمثال مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة وبعض بني اُمية وأعوانهم ، ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.

وممّا يمكن أنّ يذكر في المقام انّ النبيّ 6 توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف انسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الاصابة عن أبي زرعة الرازي : « وقيل مات 6 عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي » ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر ، والاصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبيّ 6 والايمان به ، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً ، ومنهم المؤلّفة قلوبهم ، وما كانت هذه الاُمّة إلاّ كغيرها من الاُمم التي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم وقد صحّ عنه 6 انّه قال : « لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتّى لو دخل أحدهم


جحر ضب لدخلتموه ». ولو منعت رؤية النبيّ 6 من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبداللّه بن جحش ، وعبيداللّه بن خطل ، وربيعة بن اُمية بن خلف والأشعث بن قيس (١) وغيرهم. هذا مع ما شوهد من صدور اُمور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة كالخروج على أئمّة العدل ، وشق عصا المسلمين ، وقتل النفوس المحترمة ، وسلب الأموال المعصومة ، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم ، والقاح الفتن والرغبة في الدنيا ، والتزاحم على الامارة والرياسة وغير ذلك ممّا تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين. وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة ، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وكلّهم من الصحابة (٢).

وحصيلة البحث : انّ موضع الاختلاف ، ومصبّ النزاع ليس إلاّ كون عدالة الصحابة قضية كلية ، أو جزئيّة ، فالسنّة على الاُولى والشيعة على الثانية وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم ، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول أو عدم حجية رواياتهم على وجه الاطلاق فانّها تهم اموية ناصبية ، اتّهم بها شيعة آل محمّد وهم برآء منها. ونعم الحكم اللّه. فالشيعة يعطون لكل ذي حقّ حقّه ، فيأخذون معالم دينهم عن ثقاة الصحابة ، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله ، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة.

إنّ هناك رجالا من السلف لا يجور حبّهم ولا يصح الترحّم عليهم ـ حسب الموازين الشرعية ـ ، منهم :

__________________

١ ـ الثلاثة الأوّلون ارتدّوا وماتوا على الردّة ، والأشعث ارتدّ فاُتي به إلى أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أسيراً فعاد إلى الإسلام وزوّجه اُخته ، وكانت عوراء فأولدها محمّداً أحد قتلة الحسين 7.

٢ ـ الأمين : أعيان الشيعة ١ / ١١٣ ـ ١١٤.


١ ـ معاوية بن أبي سفيان ويكفي في حقّه ما ذكره الجاحظ في رسائله :

قال في رسالته في بني اُميه والآثام التي اقترفوها : استوى معاوية على الملك ، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سمّوه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويا ، والخلافة غصباً قيصريا ، ثمّ مازالت معاصيه من جنس ما حكيناه ، وعلى منازل ما رتّبناه ، حتّى ردّ قضية رسول اللّه ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا (١) ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.

أو ليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيئ واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء جحد الكتاب ، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره ، إلاّ أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد (٢).

وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت : لا تسبّوه فانّ له صحبة وسبّ معاوية بدعة ، ومن بغضه فقد خالف السنّة ، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة (٣).

٢ ـ عمرو بن العاص الذي ألَّب على عثمان وسُرّ بقتله ، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه من كان من أشدّ المدافعين عنه ، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء

__________________

١ ـ إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان.

٢ ـ أي ردّ السنّة مثل ردّ الكتاب إذا بلغت السنّة في الشهرة ، شهرة الكتاب.

٣ ـ الجاحظ : رسائل الجاحظ ٢٩٤ طبع مصر.


عنه وتعجيل قتله. كل ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر ، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضا ، والعجب أنّ الرسول تنبّأ بذلك وصرح بأنّهما لا يجتمعان إلاّ على غدر (١).

٣ ـ يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولّي ثلاث سنين بعده ، فقتل في الاُولى الحسين ، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم ، وفي الثالثة رمى الكعبة (٢) وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

٤ ـ مروان بن الحكم الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر : ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم (٣). روى الحاكم أنّ عبدالرحمان بن عوف ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ اُتي به النبي 6 ، فاُدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : هو وزغ بن الوزغ ، الملعون بن المعلون (٤).

٥ ـ الوليد بن عقبة شارب الخمر ، والزائد في الفريضة (٥).

٦ ـ عبداللّه سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبيّ دمه (٦).

٧ ـ الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي يخاطب كتاب اللّه العزيز بعد أن ألقاه

__________________

١ ـ ابن حجر : تطهير الجنان ١٠٢ ، المطبوع على هامش الصواعق المحرقة.

٢ ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص ، فصل يزيد بن معاوية ٢٥٧.

٣ ـ ابن حجر : الصواعق المحرقة.

٤ ـ الحاكم : المستدرك ٤ / ٤٧٩.

٥ ـ البلاذري : الانساب ٥ / ٣٣ وأحمد بن حنبل : المسند ١ / ١٤٤.

٦ ـ الطبري : التاريخ ، الجزء ٣ / ٢٩٥ ، فصل : ذكر الخبر عن فتح.


ورماه بالسهام بقوله :

تهدّدني بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ماجئت ربّك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد (١)

هؤلاء وأضرابهم ، هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللّه به عليهم. أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم.

ويقول السيوطي : إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطا ، راود أخاه سليمان عن نفسه ونكح زوجات أبيه (٢).

إلى غير ذلك من رجال العيث والفساد ، أفيصح في ميزان العدل والنصفة مؤاخذة الشيعة لأجل رفض هؤلاء الفسقة. الخارجين عن ولاية اللّه ودينه.

__________________

١ ـ ابن الأثير : الكامل في التأريخ ٥ / ١٠٧.

٢ ـ جلال الدين السيوطي : تاريخ الخلفاء ٩٧.



المسألة العاشرة :

الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته

السجدة في الصلاة وغيرها ، من مظاهر العبودية أمام المسجود له ، ومن أركان الصلاة وفي بعض المأثورات « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فمهما أتى بالتذلّل والخضوع كان أوقع وافضل في العبودية ، فالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى أبين لبيان العبودية والتصاغر ، من السجود على الحصر والبواري ، فضلاً عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة ، وإن كان الكل سجوداً ، لكن العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

والامامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما اُنْبِت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس. ولا يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أن الالتزام بالسجود على الأرض أو


ما أنْبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة وانّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة ، ولأجل توضيح المقام نقدم اُموراً :

١ ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه :

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها (١) وشعار كل مسلم قوله سبحانه : ( لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) (٢) وانّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الامامية على انّه يشترط أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب وإليك نقل الآراء.

قال الشيخ الطوسي (٣) وهو يبيّن آراء الفقهاء : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكم القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابن عمرو عبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.

__________________

١ ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وكَرْهاً وظلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ ) ـ الرعد / ١٥ ـ.

٢ ـ فصّلت / ٣٧.

٣ ـ من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد ٣٨٥ توفّي عام ٤٦٠ من تلاميذ الشيخ المفيد ٣٣٦ ـ ٤١٣ ، والسيد الشريف المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ـ ـ رضي اللّه عنهم ـ.


وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه ، وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (١).

وقال العلاّمة الحلّي (٢) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق الجمهور على الجواز.

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمّتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين نكتفي بالنزر القليل :

روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللّه 7 : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، عمّا لا يجوز؟ قال : السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اُكل أو لبس. فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال : لأنّ السجود خضوع للّه عزّوجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّوجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها (٣).

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم ، على انّ ما رواه أهل السنّة في المقام ،

__________________

١ ـ الخلاف ١ كتاب الصلاة ، المسألة ١١٢ ـ ١١٣ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٢ ـ الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ٦٤٨ ـ ٧٢٦ وهو اُستاذ الشيعة في قرن السابع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.

٣ ـ الوسائل ٣ الباب ١ من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث ١ ، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن انّ الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما فلاحظ.


يدعم نظرية الشيعة وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح انّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

٢ ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه :

كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، بدعة ، ويتخيّل الحجر المسجود عليه ، وثناً ، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي ، وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لاعتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين وزعم المسجود عليه ، مسجوداً له ، وقاس أمر الموحّد ، بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في أظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع للّه سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر ، والرمال والحصى ، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا : أين التراب وربّ الأرباب.

٣ ـ السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده :

إنّ النبيّ الأكرم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود


عليها ، وقد شكى بعضهم رسول اللّه من شدّة الحر ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن ورد الرخصة بالسجود على الخمر والحصر فوسع الأمر للمسلمين لكن في اطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان لا غير :

١ ـ ما كان الواجب فيها على المسلمين ، السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أية رخصة.

٢ ـ المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر ، تسهيلاً للأمر ، ورفعاً للحرج والمشقّة ولم تكن هناك أية مرحلة اُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه أهل السنّة وإليك البيان :

المرحلة الاُولى : السجود على الأرض :

١ ـ روى الفريقان عن النبيّ الأكرم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (١).

والمتبادر من الحديث انّ كل جزء من الأرض مسجد وطهور يُسْجد عليه ويُقْصَد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة والتيمّم اُخرى.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه ، فانّه إذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما ذكر

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ / ٩١ كتاب التيمّم الحديث ٢ وسنن البيهقي ٢ / ٤٣٣ باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.


معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهوراً » بعد « مسجداً » وجعلهما مفعولين لـ « جعلت » والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين كونه مسجداً وكونه طهوراً ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (١).

ومثله غيره من شرّاح الحديث.

تبريد الحصى للسجود عليها :

٢ ـ عن جابر بن عبداللّه الأنصاري ، قال : كنت اُصلّي مع النبيّ الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الاُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد عليها من شدّة الحر (٢).

وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود (٣). ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

٣ ـ روى أنس قال : كنّا مع رسول اللّه في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (٤).

٤ ـ عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه شدة الرمضاء في جباهنا

__________________

١ ـ احكام القرآن للجصاص ٢ / ٣٨٩ نشر بيروت.

٢ ـ مسند أحمد ٣ / ٣٢٧ من حديث جابر وسنن البيهقي ١ / ٤٣٩ باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحرّ.

٣ ـ سنن البيهقي ٢ / ١٠٥.

٤ ـ السنن الكبرى ٢ / ١٠٦.


وأكفّنا فلم يشكنا (١).

٥ ـ قال ابن الاثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (٢).

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط حتّى انّ الرسول لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة وهو 6 مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مس جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدة الحر.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض وعن اصرار النبيّ الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصله ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب :

٦ ـ عن خالد الجهني قال : رأى النبيّ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : ترّب وجهك يا صهيب (٣).

٧ ـ والظاهر انّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كل تقدير ، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على

__________________

١ ـ سنن البيهقي ٢ / ١٠٥ باب الكشف عن الجبهة.

٢ ـ ابن الأثير : النهاية ٢ / ٤٩٧ مادة « شكى ».

٣ ـ المتقي الهندي : كنز العمال ٧ / ٤٦٥ برقم ١٩٨١٠.


الحصى لما دل من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

٨ ـ روت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ رأى النبي غلاماً لنا يقال له « افلح » ينفخ إذا سجد ، يا افلح ترّب (١).

٩ ـ وفي رواية : يا رباح ترّب وجهك (٢).

١٠ ـ روى أبو صالح قال : دخلت على اُمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت اُمّ سلمة : ابن أخي؟! لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : ترّب وجهك للّه (٣).

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة :

١١ ـ روي أنّ النبي 6 كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (٤).

١٢ ـ روي عن علي أميرالمؤمنين أنّه قال : إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة (٥).

١٣ ـ روى صالح بن حيوان السبائي أنّ رسول اللّه رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه عن جبهته (٦).

١٤ ـ عن عياض بن عبداللّه القرشي : رأى رسول اللّه رجلاً يسجد على كور

__________________

١ ـ المتقي الهندي : كنز العمال ٧ / ٤٥٩ برقم ١٩٧٧٦.

٢ ـ المصدر نفسه برقم ١٩٧٧٧.

٣ ـ المتقي الهندي كنز العمال ٧ / ٤٦٥ ، برقم ١٩٨١٠ ومسند أحمد ٦ / ٣٠١.

٤ ـ الطبقات الكبرى ١ / ١٥١ كما في السجود على الأرض ٤١.

٥ ـ منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند ٣ / ١٩٤.

٦ ـ البيهقي : السنن الكبرى ٢ / ١٠٥.


عمامته فأومأ بيده : ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته (١).

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي بالتتريب ، وحسر العمامة عن الجبهة.

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر :

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه وإن صعب الأمر واشتدّ الحر لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبيّ ـ بايحاء من اللّه سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحر والبرد وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

١ ـ عن أنس بن مالك قال : كان رسول اللّه 6 يصلّي على الخمرة (٢).

٢ ـ عن ابن عباس : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة وفي لفظ : وكان النبيّ يصلّي على الخمرة (٣).

٣ ـ عن عائشة : كان النبيّ يصلّي على الخمرة (٤).

__________________

١ ـ البيهقي : السنن الكبرى ٢ / ١٠٥.

٢ ـ أبو نعيم الاصفهاني : ذكر أخبار اصبهان ٢ / ١٤١.

٣ ـ مسند أحمد ١/ ٢٦٩ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٩ و ٣٥٨.

٤ ـ مسند أحمد ٦ / ١٧٩ وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.


٤ ـ عن اُمّ سلمة : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة (١).

٥ ـ عن ميمونة : ورسول اللّه يصلّي على خمرته فإذا أصابني طرف ثوبه (٢).

٦ ـ عن اُمّ سليم قالت : وكان يصلّي الخمرة (٣).

٧ ـ عن عبداللّه بن عمر : كان رسول اللّه يصلّي على الخمر (٤).

السجود على الثياب لعذر :

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ولو كان هناك مرحلة ثالثة فانّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ 6 لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحر والأذى ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة وإليك ما ورد في هذا المقام.

١-عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ 6 فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

٢ ـ وفي صحيح البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ 6 فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.

٣ ـ وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ 6

__________________

١ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٠٢.

٢ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٣١ ـ ٣٣٥.

٣ ـ مسند أحمد ٦ / ٣٧٧.

٤ ـ مسند أحمد ٢ / ٩٢ ـ ٩٨.


فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر مكان السجود (١).

وهذه الرواية الّتي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نص في اختصاص الجواز على حالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات وإليك بعض ما روي في هذا المجال.

١ ـ عبداللّه بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول اللّه 6 يصلّي على كور عمامته (٢).

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ 6 عن السجود عليه ، محمولة على العذر والضرورة وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال :

قال الشيخ : « وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ 6 من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك وأصح ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (٣).

وقد روي عن ابن راشد قال : رايت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لِمَ تسجد عليها؟ قال : أتّقي البرد على أسناني (٤).

٢ ـ ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ 6 فيسجد

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ / ١٠١ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٩ ، مسند أحمد ١ / ١٠٠ ، السنن الكبرى ٢ / ١٠٦.

٢ ـ كنز العمال ٨ / ١٣٠ برقم ٢٢٢٣٨.

٣ ـ البيهقي : السنن ٢ / ١٠٦.

٤ ـ المصنف لعبد الرزاق ١ / ٤٠٠ كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة ٩٣.


أحدنا على ثوبه (١).

والرواية محمول على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ 6 في شدة الحرّ فاذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (٢).

ويؤيّده ما رواه النسائي : كنّا إذا صلينا خلف النبيّ بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (٣).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلاّ على أنّ النبيّ 6 صلّى على الفرو. وأمّا انّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

٣ ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول اللّه يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (٤).

والرواية مع كونها ضعيفه بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ولعلّه 6 وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث :

إنّ الناظر في الروايات يجد أنّه مرّ على المسلمين مرحلتان أو مراحل ثلاثة ففي المرحلة الاُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يُرخَّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض وليست وراء هاتين

__________________

١ ـ البيهقي السنن الكبرى ٢ / ١٠٦ ، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

٢ ـ البخاري ٢ / ٦٤ كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

٣ ـ ابن الأثير : الجامع للاُصول ٥ / ٤٦٨ برقم ٣٦٦٠.

٤ ـ أبو داود : السنن / باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم ٣٣١.


المرحلتين ، مرحلة اُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً ، فمحمولة على الضرورة أو لا دلالة لها على السجود عليها بل غايتها الصلاة عليها.

فاللازم على فقهاء أهل السنّة إعادة النظر في هذه المسألة حتّى يحيوا السنّة ويميتوا البدعة. فانّ الرائج في بلادهم هو افتراش المساجد بالسجاد ، والسجود عليها. كما أنّ السائد هو السجود على كل شيء. من البسط المنسوجة من الصوف والوبر ، والحرير ، وطرف الثوب فانّ هذا العمل حسب مامرّ من الروايات بدعة حدثت بعد النبي 6 وكانت السنّة غيرهما فلا عتب على الشيعة إذا ما تمسّكوا بالسنّة ولم يسجدوا الاّ على الأرض وما أنبتته تبعاً للسنن النبوية والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت.

ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة :

بقي هنا سؤال يطرحه اخواننا أهل السنّة يقولون ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء انّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ولكن المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها وعلى أي تقدير فالاجابة عنها واضحة فانّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها من أي أرض اُخذت ، من اي صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل إلتزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها ، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطّات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الركاب ومنازل


الغرباء ، أنّى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.

فأي وازع من أن يحتاط المسلم في دينه ، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة ، والأوساخ الّتي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الابل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (١).

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام ٦٢ كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (٢).

إلى هنا تبيّن انّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره عسى أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليه.

وأمّا السر في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فانّما هو من

__________________

١ ـ العلامة الأميني : سيرتنا وسنّتنا ١٥٨ ـ ١٥٩.

٢ ـ أبوبكر بن أبي شيبة : المصنف ١ / ٤٠٠ كما في السجدة على التربة ٩٣.


جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب (١).

وقال العلامة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة 6 وسنّة رسوله 6 أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال

____________

١ ـ الأرض والتربة الحسينية ٢٤.


المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (١).

هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم.

١ ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ في كتابه الأرض والتربة الحسينية.

٢ ـ العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير ١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا.

٣-السجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.

__________________

١ ـ سيرتنا وسنّتنا ١٦٦ ـ ١٦٧ طبع النجف الأشرف.


الفصل الحادي عشر

في الأئمّة الإثني عشر



إنّ الشيعة الامامية هي الفرقة المعروفة بالإثني عشرية. فهم يعتقدون باثني عشر إماماً من بني هاشم وقد نصّ الرسول 6 على إمامتهم وقيادتهم واحداً بعد الآخر كما نصّ كلّ إمام على إمامة من بعده نصّاً يخلو من الابهام.

وقد عرفت فيما مضى أنّه تضافر عن الرسول 6 أنّه يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وذكرنا هناك أن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة « وإذا كان رسول اللّه 6 هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزائنه ، وشارع الدين وهم حفظته وصاحب الكتاب وهم حملته » (١) فيلزم علينا معرفتهم ، كيف وهم احد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسول ، قدوة للاُمّة ونوراً على جبين الدهر.

ونحن نعرض في هذا الفصل ، موجزاً عن أحوالهم وحياتهم حتّى يكون القارئ ملمّاً بهم عن كثب. ونعيد كلمتنا بأن الغرض هو الالمام والايجاز بل الاشارة والالماح لا التفصيل والتطويل. وإلاّ فإنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين

__________________

١ ـ اقتباس ممّا ذكره أمين الاسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى ٣.


موسوعة كبيرة. وقد قام بذلك شطر كبير من علماء الإسلام ونحن نستضيئ من أنوار كلامهم فنقول :


الامام الأوّل :

الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب 7

إنّ الامام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه وخطبه وقصار كلماته. وسياسته وحروبه مع الناكثين والقاسطين ، فالأولى لنا الاكتفاء بهذا المقدار واحالة القارئ إلى تلك الموسوعات بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول :

هو أميرالمؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين ، وأوّل القوم إيماناً ، وأوفاهم بعهداللّه ، وأعظمهم مزيّة ، وأقومهم بأمر اللّه ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الايمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات اللّه ، خليفة النبي 6 ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرّفة ومُطهِّرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي


( جامع الكوفة ) في محرابه حال الصلاة سنة ٤٠.

كل من هذه الجمل الخمس عشر ، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة (١).

وكفى في حقّه ما قاله رسول اللّه :

« عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب » (٢).

وقال 6 : « من سرّه أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً. وويل للمكذّبين بفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (٣).

وقال الامام أحمد : ما لأحمد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي ( رضي عنه ) (٤).

وقال الامام الرازي : من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (٥).

ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، لقول النبي : « اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (٦).

وقال شبلي شميّل : « الامام علىّ بن أبي طالب ، عظيم العظماء ، مسخة مفردة ،

__________________

١ ـ راجع مسند أحمد ١ / ٣٣١ ، ٥ / ١٨٢ ـ ١٨٩ ، حلية الأولياء ١ / ٦٢ ـ ٦٨ ، ولاحظ الغدير ٢ / ٣٣.

٢ ـ الخطيب البغدادي التاريخ ٤ / ٤٠.

٣ ـ أبو نعيم : حلية الأولياء ١ / ٨٦.

٤ ـ ابن الجوزي الحنبلي : مناقب أحمد ١٦٣.

٥ و ٦ الرازي : التفسير ١ / ٢٠٧.


لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل ، لا قديماً ولا حديثاً » (١).

وقال جورج جرداق : « وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله ، وقلبه ، ولسانه وذي فقاره » (٢).

فصول حياته الخمسة :

إنّ الامام 7 ولد في الكعبة بعد مضي ثلاثين عاماً من واقعة الفيل وفي الحقيقة ولد بعشر سنين قبل البعثة وتوفّي في العام الأربعين من الهجرة فيكون عمره الشريف ثلاثة وستين عاما.

فلو أردنا أن نقسم حياته إلى فصول نجد أنّ هناك فصولا خمسة تشكّل مجموع حياته 7.

١ ـ حياته قبل البعثة وهي لا تتجاوز عن عشر سنين ، وقد تكفّله النبيّ 6 وهو حين ذاك لا يتجاوز عمره عن أربعة أو خمسة سنين وجاء به إلى داره وعاش في بيته ، وقد لازمه طيلة تلك الأعوام حتّى الأيام التي كان النبي 6 يعتكف فيها في غار حراء كما هو المحقق في التاريخ.

٢ ـ حياته بعد البعثة وقبل هجرة النبي 6 إلى المدينة المنوّرة ، ولقد هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي 6 وهي لا تزيد على ثلاثة عشر عاماً.

٣ ـ حياته بعد الهجرة وقبل وفاة النبي الأكرم وهي عشر سنوات حافلة بالجهاد والتضحيات.

٤ ـ حياته بعد رحلة النبي 6 وقبل الخلافة وتبلغ

__________________

١ و٢ ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ١ / ٣٧ ـ ٤٩.


٢٥ سنة ولقد قدّم خدمات ثقافية عظيمة للاُمّة خلالها. ولم تكن خالية عن الحوادث المريرة.

٥ ـ حياته بعد الخلافة إلى شهادته في محراب مسجد الكوفة ، وهي حافلة بحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين. ولقد أخذ بمقاليد الخلافة. بعد أن صارت أموية. وبعد أن سلّط عثمان بني اُميّة ، على العباد والبلاد وسادت عبادة الدينار والدرهم وملأ حبّ الدنيا قلوب كثير من الناس فسعى 7 في اخراج الاُمّة من هذه الأزمة وارجاعهم إلى ما كانوا عليه في عصر النبي الأكرم. ولقى في طريق اُمنيته ما لقى إلى أستشهد في محراب عبادته لشدّة عدله.

فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيّا.

وقد كتب حول حياة الإمام ما لا تعد ولا تحصى من الكتب والرسائل والموسوعات ، فلا محيص ، عن احالة القرّاء إليها غير انّا نشير هنا إلى بعض خصائصه.

بعض خصائصه :

يطيب لي أن اُشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامة ، فنقول : إنّ له خصائص لم يشترك فيها أحد :

١ ـ السابق إلى الإسلام.

٢ ـ ولد في الكعبة.

٣ ـ تربّى منذ صغره في حجر رسول اللّه.

٤ ـ مؤاخاته مع النبي.

٥ ـ إنّ النبي حمله حتّى طرح الأصنام من الكعبة.

٦ ـ إنّ ذرّية رسول اللّه منه.

٧ ـ إنّ النبي تفل في عينيه يوم خيبر ، ودعا له بأن لا يصيبه حرّ ولا قرّ.


٨ ـ إنّ حبّه إيمان ، وبغضه نفاق.

٩ ـ إنّ النبي باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

١٠ ـ بلّغ سورة براءة عن النبي.

١١ ـ إنّ النبي خصّه يوم الغدير بالولاية.

١٢ ـ انّه القائل : « سلوني قبل أن تفقدوني ».

١٣ ـ إنّ النبي خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

١٤ ـ إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ (١).

__________________

١ ـ وقد استخرج هذه الخصائص الكاتب القدير محمّد جواد مغنية في كتابه : الشيعة والتشيّع ٢٣٤.



الامام الثاني

أبو محمد الحسن بن علي 7

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر وأوّل السبطين وسيّد شباب أهل الجنّة ، ريحانة رسول اللّه ، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء اُمّه فاطمة بنت رسول اللّه 6 سيّدة نساء العالمين.

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة وهو أوّل أولاد علي وفاطمة 8.

نسب كان عليه من شمس الضحى

نور ومن فلق الصباح عمودا

وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول اللّه 6 من الحسن بن علي 8. (١)

__________________

١ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ( ت ٨٥٥ ) : ١٥١ ـ ١٥٢ ، وأعيان الشيعة ١ / ٥٦٢.


فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعلي : سمِّه فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه 6 فجاء النبي 6 فاُخرج إليه فقال : اللّهمّ إنّي اُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم. وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

أشهر ألقابه : التقي والزكي والسبط.

أمّا علمه فيكفي انّه كان يجلس في مسجد رسول اللّه 6 ويجتمع الناس حوله فيتكلّم ما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الامام أبوالحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسير الوسيط : أنّ رجلا دخل إلى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدِّث عن رسول اللّه 6 والناس حوله مجتمعون فجاء إليه الرجل قال : أخبرني عن شاهد ومشهود فقال : نعم ، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة. فتجاوزه إلى آخر غيره يحدّث في المسجد ، فسأله عن شاهد ومشهود قال : أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأمّا المشهود يوم النحر. قال : فتجاوزها إلى ثالث ، غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدِّث في المسجد فسأله عن شاهد ومشهود فقال : نعم أمّا الشاهد فرسول اللّه 6 وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته عزّوجلّ يقول : ( يا أيُّها النَّبِىُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (١) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذلكَ يَومٌ مَشْهُودٌ ) (٢). فسأل عن الأوّل فقالوا ابن عباس ، وسأل عن الثاني فقالوا ابن عمر ، وسال عن الثالث فقالوا الحسن بن علي بن أبي طالب 8 (٣).

وأمّا زهده فيكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنّه قال

__________________

١ ـ الأحزاب / ٤٥.

٢ ـ هود / ١٠٣.

٣ ـ الفصول المهمة : ١٥٥.


7 : إنّي لأستحي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته فمشى عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة على قدميه. وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته أيضاً أنّه 7 خرج من ماله مرّتين ، وقاسم اللّه تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به. وكان 7 من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها ، عارفاً بغرورها وآفاتها ، وكثيراً ما كان 7 يتمثّل بهذا البيت شعرا :

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها

إنّ اغتراراً بظلّ زائل حَمَقُ (١)

وأمّا حلمه فقد روى ابن خلكان عن ابن عائشة انّ رجلاً من أهل الشام قال : دخلت المدينة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه ، فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن علي بن أبي طالب ، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله فصرت إليه وقلت له : أأنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال : أنا ابنه. قلت : فعل بك وبأبيك ـ اسبهما ، فلمّا انقضى كلامي ـ قال لي : أحسبك غريباً؟ قلت : أجل ، قال : مل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آتيناك أو إلى حاجة عاوناك قال : فانصرفت عنه وما على الأرض أحب إلىّ منه ، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلاّ شكرته وخزيت نفسي (٢).

وأمّا إمامته. فيكفي في ذلك ما صرّح به النبيّ 6 : هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا ...

روت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال : شهدت أميرالمؤمنين 7 حين أوصى إلى ابنه الحسن 7 وأشهد على وصيته الحسين

__________________

١ ـ الفصول المهمة : لابن الصباغ المالكي ١٥٦.

٢ ـ وفيات الأعيان : ابن خلكان ٢ / ٦٨.


7 ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته؟ ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له : يا بني إنّه أمرني رسول اللّه 6 أن اُوصي إليك ، وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليّ ودفع إلى كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرت الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ، ثمّ أقبل على ابنه الحسين 7 فقال : وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك هذا ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين وقال : وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن علي فاقرئه من رسول اللّه ومنّي السلام (١).

روى أبو الفرج الاصفهاني انّه خطب الحسن بن علي بعد وفاة أميرالمؤمنين علي 7 وقال : قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، ولقد كان يجاهد مع رسول اللّه 6 فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه ، ولقد توفّي هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى وما خلف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.

ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.

ثم قال : أيّها الناس من عرفني ، فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن محمّد 6 أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى اللّه عزّوجلّ بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم

__________________

١ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ الطبرسي ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ومن أراد الوقوف على نصوص إمامته فعليه أن يرجع إلى الكافي ١ / ٢٩٧ واثبات الهداة ٢ / ٥٤٣ ـ ٥٦٨ فقد نقل : خمسة نصوص في المقام.


الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والذين افترض اللّه مودتهم في كتابه إذ يقول : ( ومَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) (١) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.

قال أبو مخنف عن رجاله :

ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا : ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة فبايعوه (٢).

وقال المفيد : كانت بيعته يوم الجمعة ٢١ من شهر رمضان سنة ٤٠ (٣).

ونقل عن أبي الفرج انّه نزل عن المنبر فرتّب العمّال وأمّر الاُمراء ونظر في الاُمور ، وأنفذ عبداللّه بن العباس إلى البصرة وأوّل شيء أحدثه انّه زاد في المقاتلة مائة مائة. وقدكان علي أبوه فعل ذلك يوم الجمل وهو فعله يوم الاستخلاف فتبعه الخلفاء بعد ذلك (٤).

قال المفيد : فلمّا بلغ معاوية وفاة أميرالمؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن ، دسَّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور ، فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحام في الكوفة فاُخرج واُمر بضرب عنقه. وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه (٥).

__________________

١ ـ الشورى / ٢٣.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ٥٢.

٣ ـ الإرشاد للمفيد ١٨٨.

٤ ـ في رحاب أئمّة أهل البيت للأمين العاملي ١٥ وما نقله عن أبي الفرج ليس موجوداً في النسخة المطبوعة المحققة على يد السيد أحمد صفر ولعلّه سقط من نسخته.

٥ ـ مقاتل الطالبيين : ٥٢ ، الارشاد : للمفيد ١٨٨ ـ ١٨٩.


ثمّ إنّه استمرّت المراسلات (١) بين الحسن ومعاوية وانجرّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية. فعقدا صلحاً وإليك صورته.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه ، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا وعلى معاوية بذلك عهد اللّه وميثاقه ، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين غايلة ولا لأحد من أهل بيت رسول اللّه 6 ، غائلة سوء سرّاً وجهراً ولا يخيف أحداً في اُفق من الآفاق شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى باللّه شهيدا (٢).

ولمّا تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون. ألا وانّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي به (٣).

__________________

١ ـ ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مقاتل الطالبيين ٥٣ إلى ٧٢ وبالامعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل ، يتضح سرّ صلح الامام وتنازله عن الخلافة فلم يطاع إلاّ أنّه أتمّ الحجة عليهم ومن أراد التفصيل فليرجع إلى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

٢ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ١٦٣.

٣ ـ المفيد : الارشاد ١٩١ طبع النجف.


شهادته : انصرف الحسن ـ رضي اللّه عنه ـ إلى المدينة فأقام بها ، وأراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي فدسّ إليه السم فمات منه.

أرسل معاوية إلى إبنة الأشعث : إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن ابن علي وبعث إليها بمائة ألف درهم فقبلت وسمّت الحسن فسوغها المال ولم يزوّجها منه (١).

فلمّا دنى موته أوصى لأخيه الحسين 7 وقال : إذا قضيت نحبي غسّلني وكفنّي واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللّه 6 ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك باللّه اُقسم عليك أن لا تهرق في أمري محجمة دم.

فلمّا حملوه إلى روضة رسول اللّه لم يشك مروان ومن معه من بني اُميّة انّهم سيدفنونه عند جدّه رسول اللّه 6 فتجمّعوا له ولبسوا السلاح ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا اُحب وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ ، أيدفن عثمان في اقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبين اُمية. ولأجل وصيّة الحسن مضوا به إلى البقيع ودفنوه عند جدته فاطمة بنت أسد (٢).

توفّي الحسن وله من العمر ٤٧ وكانت سنة وفاته سنة ٥٠ من الهجرة النبوية.

والعجب انّ مروان بن الحكم حمل سريره إلى البقيع فقال له الحسين : أتحمل سريره أما واللّه لقد كنت تجرّعه الغيظ فقال مروان : إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٧٣.

٢ ـ كشف الغمة ١ / ٢٠٩ ومقاتل الطالبيين ٧٤ ـ ٧٥.


حلمه الجبال (١).

هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع إلى جوانب حياته خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تحف العقول (٢) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.

ولمّا بلغ معاوية موت الحسن 7 سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه ، ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما.

فقال بعض الشعراء :

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى

تكُ في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به

كل حي للمنايا مرتهن (٣)

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٤٦.

٢ ـ الحرّاني ، حسن بن شعبة تحف العقول ٢٢٥ ـ ٢٣٦.

٣ ـ في رحاب أئمّة أهل البيت ٤٣.


الإمام الثالث :

الحسين بن علي بن أبي طالب 8

سيّد الشهداء

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر ، وثاني السبطين ، وأحد سيدي شباب أهل الجنّة ، وريحانتي المصطفى 6 ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء ، وسيد الشهداء ، واُمّه فاطمة بنت رسول اللّه 6.

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ٣ أو ٤ من الهجرة ولمّا ولد جيئ به إلى رسول اللّه 6 فاستبشر به ، وأذّن في اُذنه اليمنى واقام في اليسرى ، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسينا. وعقَّ عنه بكبش وأمر أن يحلق رأسه ويتصدّق بوزن شعره فضّة. كما فعلت بأخيه الحسن فامتثلت اُمّه ما أمرها به.


ولقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة ٦١ من الهجرة وقيل يوم السبت. أدرك من حياة النبيّ الأكرم ٥ أو ٦ سنوات وعاش مع أبيه ٣٦ سنة. ومع أخيه ٤٦ سنة.

إنّ حياة الامام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالحوادث ، والاشارة فضلا عن الاحاطة إلى كل ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد ، فقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون حول النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه ، وحول علمه ومناظراته ، حول خطبه وكتبه وقصار كلمه ، حول فصاحته وبلاغته ، حول مكارم أخلاقه وكرمه وجوده ، وزهده وعبادته ، ورأفته بالفقراء والمساكين ، حول أصحابه والرواة عنه ، والجيل الذي تربّى على يديه. كل ذلك ألّف حوله رسائل ومؤلّفات وموسوعات.

غير أنّ للحسين 7 وراء ذلك ، خصيصة اُخرى ، وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به ، وصار شعاراً له بل مدرسة سياسية دينية ، واُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون ، ولم يزل منهجه يُؤثر في ضمير الاُمة ووعيها ويحرّك العقول المتفتّحة ، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

وها نحن نقدم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيارات الالحادية والانهيار الخلقي.

إباؤه للضيم ومعاندة الجور :

لمّا توفّي أخوه الحسن في العام الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله ، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون لاُمور الناس مع الحسين 7 ولقد كتب مروان


ابن الحكم وهو عامل معاوية على المدينة أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي وأنّه لا يأمن وثوبه ، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا.

ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذه نصّها : أمّا بعد : فقد انتهت إلىّ اُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، ولعمر اللّه أنّ من أعطى اللّه عهده وميثاقه لجدير بالوفاء وأنّ أحقَّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك اللّه لها ... (١).

ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن علي كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده ، نقتبس منه مايلي.

« ألست قاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين ، العابدين ، الذين ينكرون الظلم ، ويستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ، ثم قتلتهم ظلماً وعدوانا من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة على اللّه واستخفافاً بعهده.

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك وقد قال رسول اللّه 6 : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنّة رسول اللّه 6 تغمّداً وتبعت هواك بغير

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٦٣.


هدى من اللّه ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويُسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك.

أولست صاحب الحضرميّين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم على دين علي ( صلوات اللّه عليه ) فكتبت إليه أن اُقتل كل من كان على دين عليّ ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه 6 الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف (١).

هذا هو الحسين وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.

رفضه البيعة ليزيد :

لمّا توفّي معاوية في منتصف رجب سنة ٦٠ كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين 7 بالبيعة له فأنفذ الوليد إلى الحسين 7 فاستدعاه فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم لحمل السلاح وقال : اجلسوا على الباب فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ وصار 7 إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين 7 ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية فقال الحسين 7 : فنصبح ونرى في ذلك ، فقال الوليد : انصرف على اسم اللّه تعالى ، فقال مروان : واللّه لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا تقدر منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه

__________________

١ ـ الامامة والسياسة ١ / ١٦٤ وبحارالأنوار ٤٤ / ٢١٣.


فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه فوثب عند ذلك الحسين 7 وقال : أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت واللّه وأثمت فخرج (١).

وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال : أبا عبداللّه إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد ، فقال : وما ذاك قل أسمع ، فقال : إنّي أرشدك لبيعة يزيد فانّها خير لك في دينك وفي دنياك ، فاسترجع الحسين وقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد ، ثمّ قال : يا مروان أترشدني لبيعة يزيد. ويزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللا ، ولا ألومك فانّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد. إليك عنّي يا عدوّ اللّه. فإنّا أهل بيت رسول اللّه الحق فينا ينطق على ألسنتنا.

وقد سمعت جدّي رسول اللّه يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء. فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما اُمروا فابتلاهم بابنه يزيد (٢).

ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكة. ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه مغادرته مكة إلى الكوفة وهذا نموذج من رسائلهم.

« فقد اخضرّت الجنّات ، وأينعت الثمار فإذا شئت فاقدم على جندٍ لك مجنّدة ».

ولمّا جاءت رسائل أهل الكوفة تترى كتب إليهم الحسين : انّه قد اجتمع رأي

__________________

١ ـ الشيخ المفيد : الارشاد ٢٠٠ طبع النجف.

٢ ـ الخوارزمي : مقتل الحسين ١ / ١٨٤ ـ ١٨٥.


ملائكم وذووا الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه فلعمري ما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات اللّه (١).

خرج الامام من مكة متوجّها إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله فقطع المنازل حتّى نزل بمقربة من الكوفة وعند ذاك استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيداللّه بن زياد لاستقدامه مقبوضاً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الامام وخطب أصحابه وأصحاب الحر بقوله : أيّها الناس! إنّ رسول اللّه قال : من راى سلطاناً جائراً مستحلاّ حرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباده بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيئ ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله ، وأنا أحق من غيري (٢).

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق :

إنّ الدافع الظاهري لهجرته إلى العراق ، وإن كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الامام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سر مجيئه إلى العراق فقال : ما أتتني إلاّ رسل القوم ورسائلهم (٣) ولكن هذا الدافع كان أمراً ظاهرياً وكان وراء ذلك سرّ آخر لهجرته

__________________

١ ـ الارشاد ٢٠٤.

٢ ـ الطبري : التاريخ ج ٤ ، حوادث سنة ٦١ ، ٣٠٤ ، وأمّا ما جرى على الامام وأهل بيته حتّى نزل أرض كربلا فراجع المقاتل.

٣ ـ الارشاد ٢٢٤ ـ ٢٢٥.


يكتشفه من قرأ وتمعّن في حياته منذ ولادته إلى شهادته وعند ذلك سيتّخذ موقفاً آخرا. وهو أنّه ما هاجر من الحجاز إلى العراق إلاّ وقد وطّن نفسه للشهادة والتضحية لأجل بقاء الإسلام واصلاح أمر الاُمّة وفضح أعدائهما.

إنّ الدافع الحقيقي للامام إلى الثورة والتضحية بالنفس والنفيس هو شعوره الديني بأنّ السلطة وسياستها العامة لاتلتزم بالمبادئ الدينية وانّها بيد من يشرب الخمر ويلعب بالكلاب ويمارس الفسق والفجور ليله ونهاره ، فلو دامت السلطة على هذه الحال لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه ولأجل ذلك لمّا طلب مروان بن الحكم مبايعة الامام ليزيد ، قال : فعلى الإسلام السلام إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد كما عرفت.

إنّ رسول اللّه 6 قال : صنفان من اُمّتي إذا صلحا صلحت اُمّتي وإذا فسدا فسدت اُمّتي ، قيل : يا رسول اللّه ومن هما؟ فقال : الفقهاء والاُمراء (١) ، فإذا كان صلاح الاُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها فقيادة مثل يزيد لا يزيد الأمر إلاّ عيثاً وفسادا.

إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى فلم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من اللّه سبحانه ولا بشورى من الاُمّة وقد وقف على ذلك أعلامهم ، ولأجل ذلك كتبوا إلى الحسين 7 في رسالة جاء فيها : أمّا بعد فالحمدللّه الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها وأستبقى شرارها (٢).

ولم يكن الولد ( يزيد ) فريداً في غصب حق الاُمّة بل سبقه والده معاوية إليه

__________________

١ ـ القمي : سفينة البحار ٢ / ٣٠ مادة أمر.

٢ ـ الجزري الكامل ٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧ والأرشاد ٢٠٣.


كما أشار إليه الامام في كتابه إليه وقال :

« فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر ، من عيان الاُمور ، وقد سلك مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب ، وبانتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحق » (١).

هذا ونظائره المذكورة في التاريخ دفع الحسين إلى الثورة ، وتقديم نفسه وأهل بيته إلى المجزرة مع العلم بأنّه لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهريا ولا يغلب على العدو بالسيف والقوة ، لكن كان يقف على أنّ شجرة الإسلام ستنمو بدمه الطاهر ، وأنّ مصباحه سيتوقّد بدماء أهل بيته وأصحابه ، وأنّ الاُمّة ستتّخذ من تلك الثورة دروساً وعبراً حتّى قيام الساعة. وإليك ما يدل على أنّ الإمام خاض المعركة مع العلم بأنه سيقتل ويستشهد.

كان المعروف منذ ولادة الامام الحسين 7 انّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرم 6 ووصيّه لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة وإليك بعض ما يدل على ذلك ممّا يرجع إلى زمان خروجه.

١ ـ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال : سمعت رسول اللّه 6 : « إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره » فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين 7 (٢).

٢ ـ إن أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، قسم الكتب ، برقم ٦٥.

٢ ـ الاصابة ١ / ٨١ ، برقم ٢٦٦.


إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الامام 7 وأهل بيته ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة ، وأصروا عليه عدم الخروج ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد ابن الحنفية ، وابن عمّه ابن عباس ، ونساء بني عبدالمطلب ومع ذلك اعتذر لهم الامام وأفصح عن عزمه على الخروج (١).

٣ ـ لمّا عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال : الحمدللّه وماشاء اللّه ولا قوّة إلاّ باللّه خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي ، اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيِّر لي مصرع أنا اُلاقيه ، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى اللّه رضانا أهل البيت نصبر على بلائه. ويوفينا اُجور الصابرين لن تشذ عن رسول اللّه 9 لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه ، وينجز لهم وعده ألا ومن كان فينا باذلا مهجته ، موطناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللّه (٢).

٤ ـ لمّا بلغ عبدالله بن عمر ما عزم عليه الحسين 7 دخل عليه فلامه في المسير ولمّا رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال : أستودعك اللّه من قتيل (٣).

٥ ـ لمّا خرج الحسين 7 في مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له : إلى أين يابن رسول اللّه 6 ما أعجلك عن الموسم قال : لو لم أعجل لاًخذْتُ أخذاً فأخبرني يا فرزدق عمّا وراء فقال : تركت الناس بالعراق ،

__________________

١ ـ لاحظ المحاورات التي جرت بين الامام وهولاء في الارشاد ٢٠١ ـ ٢٠٢ طبع النجف ومقاتل الطالبيين ١٠٩ ، اللهوف ٢٠ طبع بغداد.

٢ ـ اللهوف ٤١ طبع بغداد.

٣ ـ تذكرة الخواص ٢١٧ ـ ٢١٨.


قلوبهم معك ، وسيوفهم مع بني اُمية. فاتّق اللّه في نفسك (١).

٦ ـ لمّا أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللّه بن يقطر. قال لأصحابه : لقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس معه زمام ، فتفرّق الناس عنه ، وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة نفر يسير ممّن انضمّوا إليه « ومع ذلك فلمّا أصبح سار نحو الكوفة فقال له شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوزان : أين تريد؟ فقال له الحسين 7 : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك لمّا انصرفت فواللّه ما تَقْدِمُ إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف فقال له الحسين : ليس يخفى عليّ الرأي وأنّ اللّه تعالى لا يغلب على أمره (٢).

وفي نفس النص دلالة على أنّ الامام كان يتفرّس ما كان يتفرسه غيره وانّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة التي كان المولى سبحانه كتبها إيّاه لأجل احياء الدين وهتك الأعداء ، وايقاظ الاُمة من سباتها حتّى يضحّوا في طريق الدين بكل غال ورخيص.

إلى غير ذلك من الشواهد والقرائن المتواترة ، الدالة على أنّه كان من الواضح أنّ الامام لا ينجح في ثورته نجاحاً ظاهرياً ومع ذلك واصل طريقه إلى أن لقى عدوّه وضحّى بنفسه وأهل بيته ، كل ذلك لأجل ايقاظ ضمير الاُمّة ، وفضح أعداء الإسلام ولقد أفصح عن هدفه عندما طلب منه الحر بن يزيد ترك المخاصمة وقال : فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقْتَلنَّ فقال له الحسين : أبالموت تخوّفني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوفه ابن عمّه.

__________________

١ ـ الارشاد ٢١٨ ، نفس المهموم ٩١.

٢ ـ الارشاد ٢٢٣.


سأمضي فما في الموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وإن عشت لم اَنْدُم ، وإن مِتُّ لَمْ اُلم

كفى بك ذلاًّ أن تعيش وترغما (١)

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين 7 أثر كبير في ايقاظ شعور الاُمّة وتشجيعهم على الثورة ضدّ الحكومة الاموية التي اصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين ، ولأجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز ، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الاموية بعد زمان.

ولقد أجاد من قال لولا نهضة الحسين 7 وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ يوم الطف لما قام للاسلام عمود ولا اخضرّ له عود ، ولأماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين 7 وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ (٢) على ذلك الموقف ، يقال فيه انّ الإسلام محمّدي الحدوث حسيني البقاء والخلود.

وكيف يجوز لأبي الشهداء السكوت تجاه تسلّم يزيد مقاليد الخلافة وهو يقول : وعلى الإسلام السلام إذ بليت الاُمة براع مثل يزيد. ويزيد هو الذي أنشد ، حين حضر رأس الحسين بين يديه :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا قتيل بدر فاعتدل

فأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا : يا يزيد لاتشل

____________

١ ـ المفيد : الارشاد ٢٢٥ والطبري في تاريخه ٥ / ٢٠٤.

٢ ـ جنة المأوى ٢٠٨ للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.


لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر به جاء ولا وحي نزل (١)

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث التي واجههاً في المسير إلى أن نزل بأرض كربلا ، واستشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم ٧٢ شخصاً ، ظمآناً وعطشانا ، لهو خارج عن موضوع البحث وقد اُلّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيا.

__________________

١ ـ البيتان الأوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد لاحظ تذكرة الخواص ٢٣٥.


الإمام الرابع :

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :

زين العابدين

هو رابع أئمّة أهل البيت الطاهر. المشهور بزين العابدين أو سيّدهم ، والسجّاد ، وذو الثفنات. ولد في المدينة سنة ٣٨ أو ٣٧ وتوفّي بها عام ٩٥ أو ٩٤ يوم السبت ١٢ من محرّم.

قال ابن خلكان : هو أحد الأئمّة الإثني عشر ومن سادات التابعين قال الزهري : ما رأيت قرشياً أفضل منه ، وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر ، ولمّا توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس ـ رضي اللّه عنه ـ (١).

ومن أراد الاطّلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم ،

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ٣ / ٢٦٧ ـ ٢٦٩.


والحلم ، والصفح ، ومقابلة الاساءة بالاحسان ، والشجاعة ، وقوّة القلب ، وثبات الجنان ، والجرأة ، والكرم والسخاء ، وكثرة الصدقات ، وعتق العبيد ، والفصاحة والبلاغة ، والورع والتقوى والعبادة وتربية صفوة جليلة من الأعلام وايصالهم إلى القمّة في العلم والعمل من الذين يُسْتَدر بهم الغمام وكثرة البرّ باُمه والرفق بالحيوان وهيبته وعظمته في أعين الناس وغير ذلك فعليه الرجوع إلى الموسوعات.

ونكتفي باُمور :

١ ـ إيصاء الحسين إليه في أمر الامامة.

٢ ـ زهده وعبادته ومواساته للفقراء.

٣ ـ هيبته وعظمته.

٤ ـ ما تركه من الثروة العلمية من الأدعية والمناجاة.

أمّا إيصاء الحسين له ، فقد تكفّل لذكره كتب الحديث والعقائد ، وأخص بالذكر ، الكافي للكليني (١) وإثبات الهداة للحر العاملي (٢).

وأمّا هيبته ومكانته في القلوب ، فاستمع ما يلي :

لمّا حجّ هشام بن عبدالملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ، وجاء علي بن الحسين 8 فتوقّف له الناس ، وتنحّوا حتّى استلم فقال جماعة لهشام : من هذا؟ فقال : لا أعرفه ( مع أنّه كان يعرفه انّه علي بن الحسين 8 ) فسمعه الفرزدق ، فقال : لكنّي أعرفه ، هذا علي بن الحسين زين العابدين ، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات.

__________________

١ ـ الكافي ٣٠٣.

٢ ـ إثبات الهداة ٣ / ١ ـ ٥.


هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إنْ عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

إلى آخر القصيدة التي حفظتها الاُمّة وشطرها جماعة من الشعراء وقد ثقل ذلك هشاماً فأمر بحبسه ، فحبسوه بين مكة والمدينة. فقال معترضاً على عمل هشام :

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيد

وعيناً له حولاء باد عيوبها

فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين 8 عشرة آلاف درهم وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به ، فردّها الفرزدق وقال : ما قلت ما كان إلاّ للّه ، فقال له علي 7 : قد راى اللّه مكانك فشكرك ، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه وأقسم عليه فقبلها.

أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء ، وخوفه من اللّه فغني عن البيان كان علي ابن الحسين إذا توضّأ اصفّر لونه فيقال : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال : أتدرون بين يدي مَنْ اُريد أن أقف.

ومن كلماته : أنّ قوماً عبدوا اللّه رياضة فتلك عبادة العبيد ، وأنّ قوماً عبدوه رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار.

وكان إذا أتاه سائل يقول : مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.


وكان ينحل فلمّا مات وجدوه يعول مائة من أهل بيت المدينة. وفي رواية لا يدرون من يأتيهم بالرزق لأنّه كان يبعث به إليهم في الليل فلمّا مات علي فقدوه ، وفي رواية كان يحمل جراب الخُبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وفي رواية كان أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتّى مات علي بن الحسين 7 (١).

وقال رجل لسعيد بن المسيب : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ـ وسمّى رجلا ـ فقال له سعيد : أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال : لا ، فقال : ما رايت أورع منه.

وقال الزهري : لم أر هاشمياً أفضل من علي بن الحسين 7.

وقال أبو حازم كذلك أيضا : ما رأيت هاشمياً افضل من علي بن الحسين.

وقال طاووس : رأيت علي بن الحسين 8 ساجداً في الحجر فقلت : رجل صالح من أهل بيت طيب لأسمعن ما يقول ، فأصغيت إليه فسمعته يقول : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك ، فواللّه ما دعوت بهنّ في كرب إلاّ كشف عنّي.

وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، فإذا أصبح سقط مغشياً عليه ، وكانت الريح تميله كالسنبلة ، وكان يوماً خارجا فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم علي : مهلا كفّوا ، ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل فألقى إليه علي خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل (٢).

__________________

١ ـ تذكرة الخواص ٢٩٤.

٢ ـ كشف الغمّة ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣.


الثروة العلمية للامام :

أمّا الثروة العلمية والعرفانية ، فهي أدعيته التي رواها المحدثون باسنادهم المتضافرة ، المعروفة بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم فهي زبور آل محمّد ، ومن الخسارة الفادحة ، أنّ اخواننا أهل السنّة إلاّ النادر القليل منهم غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

وفصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، وعلو مضامينها وما فيها من أنواع التذلل للّه تعالى والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه ، أقوى شاهد على صحّة نسبتها إليه 7 وانّ هذا الدر من ذلك البحر ، وهذا الجوهر من ذلك المعدن ، وهذا الثمر من ذلك الشجر ، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب وتعدّد أسانيدها المتّصلة إلى منشئها فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة ، إلى زين العابدين (١).

وقد أرسل أحد الأعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة إلى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( ت ١٣٥٨ ) صاحب التفسير المعروف فكتب في جواب رسالته « ومن الشقاء إنّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق ، دون كلام الخالق » (٢).

والمعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاُولى التي تتضمّن على أحد وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من اللّه سبحانه وهي تعلّم الإنسان كيف يلجأ إلى ربّه في الشدائد والمهمات ، وكيف يطلب منه حوائجه ، وكيف يتذلّل ويتضرّع له وكيف يحمد ويشكر له غير أنّ لفيفا من العلماء استدركوا عليها فجمعوا

__________________

١ ـ في رحاب أئمّة أهل البيت ٣ / ٤١٤.

٢ ـ مقدمة الصحيفة بقلم العلامة المرعشي 1 ٢٨.


من شوارد أدعيته صحائف خمس أخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الأمين العاملي 1.

ولقد قام العلاّمة الحجة السيد محمّد باقر الأبطحي ـ دام ظله ـ بجمع جميع أدعية الامام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد وقال في مقدمته :

وحريّ بنا القول انّ أدعيته 7 كانت ذات وجهين : وجهاً عبادياً ، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الامام 7 في ذلك الظرف العصب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته ـ إلى جانب روحها التعبّدية ـ محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب ، بما حملته من مفاهيم خصبة ، وأفكار نابضة بالحياة فهو 7 صاحب مدرسة إلهية ، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد اللّه ويقدّسه ، وكيف يلج باب التوبة ، وكيف يناجيه وينقطع إليه ، واُخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البر بالوالدين ، ويشرح حقوق الوالد والولد ، والأهل ، والأصدقاء ، والجيران ، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي كل ذلك باسلوب تعليمي رائع وبليغ.

وصفوة القول انّها كانت اسلوبا مبتكراً في إيصال الفكر الاسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب الظمأى ، والأفئدة التي تهوي إليها لترتزق من ثمراتها ، وتنهل من معينها ، فكانت بحق علمية تربوية نموذجية من الطراز الأوّل ، لاُسس بناها الامام السجاد 7 مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين (١).

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية الجامعة ١٣.


رسالة الحقوق :

إنّ للامام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق أوردها الصدوق في خصاله (١) بسند معتبر ، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول (٢) مرسلاً ، وبين النقلين اختلاف بالزيادة والنقيصة وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، فيذكر الامام فيها حقوق اللّه سبحانه على الإنسان وحقوق نفسه عليه وحقوق أعضائه من اللسان والسمع ، والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ثمّ يذكر حقوق الأفعال ، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدى ... يبلغ خمسين حقّا ، آخرها حق الذمّة.

روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته أحاديث عنه أوردها الشيخ الحر العاملي في جامعه « وسائل الشيعة » كما انّ له 7 حكماً في مختلف أبواب الفقه ، جمعها الشيخ الحسن الحراني في تحفه (٣) فلاحظ.

الراوون عنه :

ذكر الشيخ في رجاله الرواة عنه 7 : ورتّبها على حروف المعجم فبلغ ١٧٥ ، شخصاً (٤) وهم بين صحابي وتابعي ـ رضي اللّه عنهم ـ.

قال ابن شهر آشوب : ومن رجاله من الصحابة جابر بن عبداللّه الأنصاري ، وعامر بن واثلة الكناني وسعد بن المسيب بن حزن ، وسعيد بن جهان الكناني مولى اُم هاني ... ومن التابعين أبو محمّد سعيد بن جبير مولى بني أسد ، ومحمّد

__________________

١ ـ الخصال ٥٦٤ ـ ٥٧٠ في أبواب الخمسين.

٢ ـ تحف العقول ١٨٤ ـ ١٩٥.

٣ ـ تحف العقول ١٨٠ ـ ٢٠٥.

٤ ـ الشيخ الطوسي الرجال ٨١ ـ ١٠٢.


ابن جبير بن مطعم ، وأبو خالد الكابلي ، والقاسم بن عوف ، وإسماعيل بن عبداللّه بن جعفر ، وإبراهيم والحسن ابنا محمّد بن الحنفية ، وحبيب بن أبي ثابت ، وأبو يحيى الأسدي وأبو حازم الأعرج وسلمة بن دينار المدني الاقرن القاص.

ومن أصحابه أبو حمزة الثمالي بقي إلى أيام موسى بن جعفر ، وفرات بن أحنف بقي إلى زمان الصادق وجابر بن محمّد بن أبي بكر ، وأيوب بن الحسن ، وعلي بن رافع ، وحميد بن موسى الكوفي ، وأبان بن تغلب ، وأبو الفضل سدير ابن حكيم بن صهيب الصيرفي ، وقيس بن رمانة ، وعبداللّه البرقي ... (١).

قال الشيخ أبو زهرة : « في بيت الامام زين العابدين نشأ زيد وتكوّنت ميوله ، ومنازعه في الحياة ، واتّجاهاته وكان زين العابدين فقيهاً كما كان محدثا ، وكان له شبه بجدّه علي بن أبي طالب في قدرته على الاحاطة بالمسائل الفقهية من كل جوانبها والتفريع عليها ، وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحباً بكم أنتم ودائع العلم ، ويوشك ـ إذ أنتم صغار قوم ـ أن تكونوا كبار قوم آخرين ، وإذا جاءه طالب علم ، رحّب به وقال : أنت وصيّة رسول اللّه. إنّ طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرض إلى السابعة (٢).

يقول الكاتب محمّد جواد مغنيه : « وكان يحسن إلى من يسئ إليه ، من ذلك أنّ هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة وكان يتعمّد الإساءة إلى الامام وأهل بيته ، ولمّا عزله الوليد ، أمر أن يوقف للناس : في الطريق العام ليقتصوا منه ،

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ١٧٤ طبع قم.

٢ ـ المقرّم : الامام زيد ٣١.


وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الامام السجاد ، ولكن الامام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه ، وذهب إليه بنفسه ، وقال له : لا بأس عليك منّا ، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها (١).

____________

١ ـ محمّد جواد مغنيه : الشيعة والتشيّع ٢٤٤.



الامام الخامس :

أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين :

الباقر

هو خامس أئمّة أهل البيت ، الطاهر ، المعروف بالباقر ، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب : لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه (١) وقال ابن حجر : سمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض أي شقّها ، وإثارة مخبآتها ، ومكامنها. فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام ، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة. ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه (٢).

__________________

١ ـ لسان العرب ٤ / ٧٤.

٢ ـ الصواعق المحرقة ٢٠١.


قال ابن خلكان : أبو جعفر محمّد بن زين العابدين ، الملقّب بالباقر أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الامامية وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً وانّما قيل له الباقر لأنّه تبقّر في العلم أي توسّع وفيه يقول الشاعر :

يا باقر العلم لأهل التُّقى

وخير من لبّى على الأجبل (١)

ولد بالمدينة غرة رجب سنة ٥٧ وقيل ٥٦ وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة ١١٤ وعمره الشريف ٥٧ سنة. عاش مع جدّه الحسين 7 ٤ سنين ومع أبيه 7 بعد جدّه 7 تسعاً وثلاثين سنة وكانت مدة إمامته 7 ١٨ سنة (٢).

وأمّا النصوص الدالّة على إمامته من أبيه وأجداده التي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الأعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني وغيره (٣).

قال ابن سعد : محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من المدينة كان عالماً عابداً ثقة وروى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره.

قال أبو يوسف : قلت لأبي حنيفة : لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال : نعم وسألته يوماً فقلت له : أراد اللّه المعاصي؟ فقال : أفيعصى قهراً؟ قال أبو حنيفة : فما رأيت جوابا أفحم منه.

وقال عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ويعني الحكم بن عيينة ، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه.

وذكر المدائني : عن جابر بن عبداللّه انّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي إلى

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ٤ / ١٠٧٤.

٢ ـ إعلام الورى بأعلام الهدى ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٣ ـ الكافي ١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، اثبات الهداة ٣ / ٣٣ ـ ٣٥.


الكتاب وهو صغير فقال له : رسول اللّه 6 يسلّم عليك ، فقيل لجابر : وكيف هذا؟ فقال : كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال : يا جابر يولد مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ، ثمّ يولد له ولد ، اسمه محمّد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام.

وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة قوله : انّ النبيّ 6 قال لجابر : وإن لاقيته فاعلم انّ بقاءك في الدنيا قليل فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال : هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام وفضيلة شهد له بها الخاص والعام (١).

وقال عبداللّه بن عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر لقد رايت الحكم عنده كأنّه متعلّم (٢).

وقال المفيد : لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين 8 في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر 7 (٣).

وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الأخبار واُنشدت في مدائحه الأشعار ... (٤).

قال ابن حجر : صفا قلبه ، وزكاه علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة

__________________

١ ـ تذكرة الخواص لابن الجوزي ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، الفصول المهمّة ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢ ـ كشف الغمة ٢ / ٣٢٩.

٣ ـ الارشاد ٢٦١.

٤ ـ الفصول المهمّة ٢١٠ نقله عن ارشاد الشيخ المفيد : ٢٦١ ـ ٢٦٢.


الواصفين وله كلمات كثرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (١).

وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولا حرج فقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج (٢).

قال الشيخ المفيد في الارشاد : وجاءت الأخبار : انّ نافع بن الأزرق (٣) جاء إلى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر في عرض كلامه : قل لهذه المارقة بم استحللتم فراق أميرالمؤمنين ، وقد سفكتم دماءكم بين يديه في طاعته والقربة إلى اللّه بنصرته ، فسيقولون له أنّه حكم في دين اللّه فقل لهم قد حكّم اللّه تعالى في شريعة نبيّه 6 رجلين من خلقه فقال : ( فَابَعثوا حَكَماً مِن أهلِهِ وحَكَماً مِن أهلِها إن يُرِيدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَينَهُما ) (٤). وحكّم رسول اللّه 6 سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم فيهم بما أمضاه اللّه. أو ما علمتم انّ أميرالمؤمنين انّما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّياه ، واشترط رد ما خالف القرآن في أحكام الرجال وقال حين قالوا له حكّمت على نفسك من حكم عليك ، فقال : ما حكّمت مخلوقاً وانّما حكّمت كتاب اللّه فأين تجد المارقة تضليل من أمر بالحكم بالقرآن ، واشترط رد ما خالفه لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتان؟ فقال : نافع بن الأزرق هذا واللّه كلام ما مرّ بسمعي قط ولا خطر منّي ببال وهو الحق إن شاء اللّه (٥).

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة ٣٠١.

٢ ـ الاحتجاج ٢ / ٥٤ ـ ٦٩ طبع النجف.

٣ ـ ولعلّ المناظر هو عبداللّه بن نافع بن الأزرق ، لأنّ نافع قتل عام ٦٥ من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبداللّه بن نافع فلاحظ المناقب ٤ / ٢٠١.

٤ ـ النساء / ٣٥.

٥ ـ الارشاد : ٢٦٥.


الراوون عنه :

وقد روى بعض الصحابة وأكثر التابعين عنه 7 وقد نهلوا من معين علمه ، وقدجمع الشيخ الطوسي أسماء من روى عنه من العلماء والحفّاظ مبتدئاً بإبراهيم بن مناف الأسدي ومنتهيا بحبابة الوالبية بلغ عددهم ٤٦٦ شخصاً.

وقال ابن شهر آشوب بعد نقل كلام المفيد : فمن الصحابة نحو جابر بن عبداللّه الأنصاري ومن التابعين جابر بن يزيد الجعفي ، وكيسان السختياني صاحب العوفية. ومن الفقهاء نحو ابن مبارك ، والزهري ، والأوزاعي وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وزياد ابن منذر النهري. ومن المصنّفين نحو الطبري والبلاذري ... (١).

ثمّ إنّ الشيعة الامامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه وعن ولده البار جعفر الصادق وحسب الترتيب المتداول في الكتب الفقهية وأمّا ما روي عنه في الحكم والمواعظ فقد نقلها أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه (٢).

ثمّ إنّ الامام محمّد الباقر توفّي عام ١١٤ ودفن في جنب قبر أبيه في البقيع ومن أراد البحث عن فصول حياته في شتى المجالات فليراجع الموسوعات.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ١٩٥ ومن المعلوم أنّ المقصود هو الأعم ممّن روى عن الإمام مباشرة أو مع الواسطة ولاحظ حلية الأولياء ٣ / ١٩٨.

٢ ـ حلية الأولياء ٣ / ١٨٠ ـ ٢٣٥ وفي بعض ما نقل عنه تأمّل ونظر. والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول ٢٨٤ ـ ٣٠٠.



الامام السادس :

جعفر بن محمّد 8

الصادق

هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر ـ رضي اللّه عنه ـ أجمعين ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله ، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام ٨٠ وتوفّي عام ١٤٨ ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر وجدّه علىّ زين العابدين وعمّ جدّه الحسن بن عليّ ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ـ فللّه درّه من قبر ما أكرمه وأشرفه (١).

وقال محمّد بن طلحة : هو من عظماء أهل البيت وساداتهم وذو علوم جمّة ، وعبادة موفورة ، وزهادة بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتبع معاني القران الكريم ،

__________________

١ ـ وفيات الأعيان ١ / ٣٢٧ رقم الترجمة ٣١.


ويستخرج من بحره ، جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليه نفسه ، رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع كلامه يزهّد في الدنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة. نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم. مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني (١) وغيرهم وعدّوا أخذهم عنه منقبه شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها.

وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر ، ويُحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر حتّى انّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى ، صارت الأحكام التي لا تدرك عللها ، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها ، تضاف إليها وتروى عنه (٢).

وقال ابن الصباغ المالكي : كان جعفر الصادق 7 من بين اخوته ، خليفة أبيه ، ووصيّه والقائم بالامامة من بعده ، برزعلى جماعة بالفضل ، وكان أنبههم ذكراً ، وأجلّهم قدراً ، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته وذكره في البلدان ، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقلوا عنه من الحديث.

وروى عنه جماعة. من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وأبو عيينة ، وأبو حنيفة ، وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم (٣).

__________________

١ ـ وفي الأصل أيّوب السختياني والصحيح ما ذكرناه.

٢ ـ كشف الغمة ٢ / ٣٦٨.

٣ ـ الفصول المهمة ٢٢٢.


إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على نظير هذه الكلمات وأشباهها ، كلّها تعرب عن اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل اللّه عزّوجلّ ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها (١).

إنّ الامام قام بهداية الاُمّة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار ، واشتعلت فيه نار الحرب بين الامويين ومعارضيهم من العباسيين ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغلّ الامام الفرصة فنشر من أحاديث جدّه ، وعلوم آبائه ما سارت إليه الركبان وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف آرائهم ومقالاتهم فكانوا أربعة آلاف رجل (٢) وهذه فضيلة رابية لم تكتب لأحد من الأئمّة قبله ولا بعده.

إنّ الامام 7 قام بالتحديث عن جدّه وآبائه عندما اندفع المسلمون إلى تدوين أحاديث النبي 6 بعد الغفلة التي استمرّت إلى عام ١٤٣ (٣) وقد اختلط الصحيح بالضعيف وتسرّب إلى السنّة الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات بالاضافة إلى المختلقات والمجعولات على يد علماء السلطة ومرتزقة البلاط الاموي. وبالامام عرفوا الصحيح من الزائف ، والحقيقة من الباطل فأخذوا عنه الحكم والأحاديث النبويّة ولو نهلت الاُمّة من مناهل علمه وتركوا الروايات التي رواها الوضّاعون والكذّابون. لما ابتلت الاُمة بمصائب الحديث التي تركها الرواة على جبين الدهر وترى كثيراً من هذه المصائب في الصحاح والمسانيد

____________

١ ـ لاحظ الكافي ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ وإثبات الهداة للحر العاملي ٥ / ٣٢٢ ـ ٣٣٠.

٢ ـ الارشاد ٢٧٠ والمناقب لابن شهر آشوب ٤ / ٢٤٧.

٣ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، خلافة المنصور الدوانيقي فقد حدّد تاريخ التدوين بسنة ١٤٣.


خصوصاً في صحيح البخاري.

والعجب انّ الامام البخاري ، احتجّ بمثل مروان بن الحكم ، وعمران بن حطّان وحريز بن عثمان الرحبي وغيرهم ولم يرو عن الامام الصادق 7.

أمّا الأوّل فهو الوزغ ابن الوزغ ، اللعين ابن اللعين على لسان رسول اللّه ، وأمّا الثاني فهو الخارجي المعروف الذي أثنى على ابن ملجم بشعره لا بشعوره ، وأمّا الثالث فكان ينتقص عليّاً وينال منه ومع ذلك لم نجد رواية للبخاري عن الامام الصادق ونعم ما قال القائل :

قضية أشبه بالمرزئة

هذا البخاري إمام الفئة

بالصادق الصدّيق ما احتجّ في

صحيحه واحتجّ بالمرجئة

ومثل عمران بن حطان أو

مروان وابن المرأة المخطئة

مشكلة ذات عوار إلى

حيرة أرباب النهى ملجئة

انّ الامام الصادق المجتبى

بفضله الآي أتت منبئة

أجلّ من في عصره رتبة

لم يقترف في عمره سيّئة

قلامة من ظفر ابهامه

تعدل من مثل ... مئة (١)

إنّ للامام الصادق وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات آلاف ، مناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشفين من الصوفية ضبط المحققون كثيراً منها وهي في حد ذاتها ثروة علمية تركها الامام 7 أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روى عنه أبان بن تغلب ٣٠ ألف حديث.

حتّى انّ الحسن بن علي الوشاء قال : أدركت في هذا المسجد ( مسجد الكوفة )

__________________

١ ـ النصايح الكافية لمن يتولى معاوية ، كما في أعيان الشيعة ١ / ٦٦٧.


تسعمائة شيخ كل يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ( كان 7 يقول : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول اللّه 6 وحديث رسول اللّه قول اللّه عزّوجلّ ) (١).

وأمّا ما اثر عنه في المعارف والعقائد فحدّث عنه ولا حرج ولا يسعنا نقل حتّى القليل منه ومن اراد فليرجع إلى مظانّه (٢).

وأمّا حكمه وقصار كلمه. فلاحظ تحف العقول. وأمّا رسائله فكثيرة منها رسالته الي النجاشي ، والي الأهواز ، ومنها رسالته في شرائع الدين نقلها الصدوق في الخصال ، ومنها ما أملاه في التوحيد للمفضل بن عمر إلى غير ذلك من الرسائل التي رسمها بخطّه (٣).

ولمّا توفّي الامام شيّعه عامّة الناس في المدينة وحمل إلى البقيع وقد أنشد فيه أبو هريرة العجلي قوله :

أقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى

ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه

ترابا وأولى كان فوق المفارق

فسلام اللّه عليه يوم يولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.

__________________

١ ـ الرجال للنجاشي ١٣٩ برقم ٧٩.

٢ ـ الاحتجاج ٢ / ٦٩ ـ ١٥٥ والتوحيد للصدوق وقد بسطها على أبواب مختلفة.

٣ ـ ولقد جمع أسماء هذه الرسائل السيد الأمين في أعيانه ١ / ٦٦٨.



الإمام السابع :

أبوالحسن موسى بن جعفر 8

الكاظم

سابع أئمّة أهل البيت الطاهر. ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في ٧ صفر سنة ١٢٨ واستشهد بالسم في سجن الرشيد عام ١٨٣ ودفن في بغداد في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية.

يعرف بالعبد الصالح ، وبالكاظم ، والصابر ، والأمين.

هو الإمام الكبير القدر والأوحد الحجة الحبر ، الساهر ليله قائما ، القاطع نهاره صائما ، المسمّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظما.

قال الشيخ المفيد : هو الإمام بعد أبيه ، والمقدّم على جميع بنيه لاجتماع خصال الفضل فيه ، وورود صحيح النصوص وجلي الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي


عهده والإمام القائم من بعده (١).

إنّ الكلام في خلقه ، وحلمه ، وكظمه الغيظ ، وفي مناقبه وفضائله ، وفي تواضعه ومكارم أخلاقه ، وكرمه وسخائه ، وشدّة خوفه من اللّه سبحانه ، وكثرة صدقاته ، وأخباره مع الرشيد وأخيراً في القاء القبض عليه من قبله ، وحبسه في ظُلم السجون قرابة سبع سنين واستشهاده ، يحتاج إلى تأليف مفرد قام به المحققون ونحن نترك البحث في جميع ذلك ونشير إلى بعض الجوانب خصوصاً في ما يتعلق بعلمه والذين تخرّجوا على يده من الشيعة والسنّة حتّى يقف القارئ على انّه إمام الكل.

١ ـ روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده قال : حجّ هارون الرشيد فأتى قبر النبي 6 زائراً وحوله قريش ومعه موسى بن جعفر ولمّا انتهى إلى القبر قال : السلام عليك يا رسول اللّه يابن عمّي ـ افتخاراً على من حوله ـ ، فدنى موسى بن جعفر فقال : السلام عليك يا أبة ، فتغيّر وجه الرشيد وقال : هذا الفخريا أبا الحسن حقّاً (٢).

٢ ـ ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أنّ هارون كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً ـ وهو يمتنع عليه ـ ، فلمّا ألحّ عليه قال : ما آخذها إلاّ بحدودها قال : وما حدودها؟ قال : الحد الأوّل عدن ـ فتغيّر وجه الرشيد ـ قال : والحد الثاني؟ قال : بسمرقند ـ فأربد وجهه ـ قال : والحد الثالث؟ قال : أفريقيا قال : والحد الرابع؟ قال : سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينيا فقال هارون : فلم يبق لنا شيء فتحوّل من

__________________

١ ـ لاحظ للوقوف على تلك النصوص الكافي ١ / ٣٠٧ ـ ٣١١ ، إثبات الهداة ٣ / ١٥٦ ـ ١٧٠ فقد نقل في الأخير ٦٠ نصّاً على إمامته.

٢ ـ وفيات الأعيان ٥ / ٣٠٩.


مجلسي فقال موسى : قد أعلمتك انّي إن حدّدتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله واستكفى أمره (١).

٣ ـ كان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس ويخرّ للّه ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس وكان يدعو كثيرا. فيقول : اللّهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرّر ذلك ، وكان من دعائه 7 : عظم الذنب من عبدك ، فليحسن العفو من عندك وكان يبكي من خشية الله حتّى تخضل لحيته بالدموع وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم الزنبيل فيه العين والورق والادقة والتمور فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو (٢).

٤ ـ في تحف العقول للحسن بن علي بن شعبة : قال أبو حنيفة : حججت في ايام أبي عبداللّه الصادق 7 فلمّا أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت : يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم؟ قال : على رسلك. ثمّ جلس مستنداً إلى الحائط ، ثمّ قال : توقَّ شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية المساجد ، وقارعة الطريق ، وتوار خلف جدار ، وشل ثوبك ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حيث شئت ، فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له : ما اسمك؟ فقال : أنا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت له : يا غلام ممّن المعصية؟ فقال : إنّ السيّئات لاتخلو من احدى ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليست من العبد فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب ، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي

__________________

١ ـ الزمخشري : ربيع الأبرار ، كما في أعيان الشيعة ٢ / ٨.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٢٩٦.


للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه ، فإن عفا فكرمه وجوده وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته ، قال أبو حنيفة : فانصرفت ولم ألق أبا عبداللّه واستغنيت بما سمعت. ورواه ابن شهر آشوب في المناقب نحوه إلاّ أنّه قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وقال : فلمّا سمعت هذا القول منه نبل في عيني ، وعظم في قلبي. وقال في آخر الحديث : فقلت : ذرّية بعضها من بعض (١).

٥ ـ روى أبو الفرج الاصفهاني : حدثنا يحيى بن الحسن قال : كان موسى من جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير. وكان صراره ما بين الثلاثمائة وإلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلا.

وقال : إنّ رجلا من آل عمر بن الخطاب كان يشتم علي بن أبي طالب إذا رأى موسى بن جعفر ، ويؤذيه إذا لقيه ، فقال له بعض مواليه وشيعته : دعنا نقتله ، فقال : لا ، ثمّ مضى راكباً حتّى قصده في مزرعة له فتواطأها بحماره ، فصاح : لا تدس زرعنا.

فلم يصغ إليه وأقبل حتّى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا؟ قال : مائة درهم ، قال : فكم ترجو أن تربح؟ قال : لا أدري ، قال : إنّما سألتك كم ترجو. قال : مائة اُخرى. قال : فأخرج ثلاثمائة دينار فوهبه له فقام فقبّل رأسه ، فلمّا دخل المسجد بعد ذلك وثب العمري فسلّم عليه وجعل يقول : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

وكان بعد ذلك كلّما دخل موسى خرج وسلّم عليه ويقوم له. فقال موسى لجلسائه الذين طلبوا قتله : أيّما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟ (٢).

__________________

١ ـ تحف العقول ٣٠٣ ، المناقب لابن شهر آشوب ٤ / ٣١٤.

٢ ـ مقاتل الطالبيين ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٢٨.


٦ ـ حكي انّ الرشيد سأله يوماً : كيف قلتم نحن ذرّية رسول اللّه 6 وأنتم بنو علي وانّما ينسب الرجل إلى جدّه لأبيه دون جدّه لاُمّه؟ فقال الكاظم 7 : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بِسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم : ( ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسلَيْمانَ وأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهرون وَكَذلكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ * وَزكريّا وَيحْيى وعيسى وألْياسَ ... ) وليس لعيسى أب إنّما اُلحق بذريّة الأنبياء من قبل اُمّه وكذلك اُلحقنا بذريّة النبي من قبل اُمّنا فاطمة الزهراء ، وزيادة اُخرى يا أميرالمؤمنين : قال اللّه عزّوجلّ : ( فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعدِ جاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأنْفُسَنا وأنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ ... ) ولم يدع 6 عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين وهما الأبناء (١).

٧ ـ أمّا علمه واحديث عنه فقد روى عنه العلماء في فنون العلم ما ملأ الكتب وكان يعرف بين الرواة بالعالم. وقد روى الناس عنه فأكثروا وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه (٢).

وقد ذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم مائتين واثنين وستين شخصاً وقام الزميل المتتبّع الشيخ العطاردي بجمع اسماء من رووا عنه الأحاديث في مجالات شتّى فبلغ ستمائة وثمانية وثلاثين رجلا وأسماه بمسند الامام موسى الكاظم فجاء جميع ذلك في أجزاء ثلاثة.

ولقد اتّفقت كلمة المؤرّخين على أنّه استشهد مسموماً في سجن السندي ابن شاهك بأمر من الرشيد وكان الخليفة يخاف من أن ينتشر خبر شهادته في بغداد

__________________

١ ـ الفصول المهمة ٢٣٨ ، والآيتان من سورتي الأنعام ٨٤ وآل عمران ٦١.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٢٩٨.


ولأجل ذلك لمّا مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه بغداد وفيهم الهيثم بن علي وغيره حتّى يشهدوا على أنّه مات بأجله ، واُخرج ووضع على الجسر ببغداد فنودي هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت (١).

وأمّا الكلام في شهادته وأخباره ممّا يطول بنا الكلام إذا أردناه ذكره فليرجع إلى محلها.

ومن أحسن كلماته ما وصّى به هشام بن الحكم (٢).

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ٥٠٤.

٢ ـ لاحظ الكافي ١ / ١٣ ـ ٢٠ وتحف العقول ٢٨٣ ـ ٢٩٧.


الإمام الثامن :

علي بن موسى بن جعفر :

الرضا

هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه موسى بن جعفر 8 وقد اجتمع أهل البيت في عصره على علمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته (١).

ولد في المدينة سنة ١٤٨ واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر ٢٠٣ وله يومئذ ٥٥ سنة وكانت مدّة إمامته بعد أبيه ٢٠ سنة (٢).

قال الواقدي : علي بن موسى سمع الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم وكان ثقة يفتي بمسجد رسول اللّه 6 وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو

____________

١ ـ لاحظ للوقوف على النصوص : الكافي ١ / ٣١١ ـ ٣١٩ والارشاد ٣٠٤ ـ ٣٠٥ واثبات الهداة ٣ / ٢٢٨ ، وروي فيه ٦٨ نصاً على إمامته.

٢ ـ الارشاد ٣٠٤.


من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة (١).

قال الشيخ كمال الدين بن طلحة : ومن أمعن نظره وفكره ، وجده في الحقيقة وارثهما ( المراد علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين : ) نمى إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانته ، وكثر أعوانه ، وظهر برهانه ، حتّى أدخله الخليفة المأمون ، محل مهجته ، وأشركه في مملكته ، وفوّض إليه أمر خلافته ، وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته ، وكانت مناقبه علية ، وصفاته ثنية ، ونفسه الشريفة زكية هاشمية ، وارومته النبوية كريمة (٢).

وقد عاش الامام في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازداد التشكيك في الاُصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث.

وفي تلك الأزمة اُتيحت له 7 الفرصة للمناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم فظهر برهانه وعلا شأنه. يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء (٣).

ولأجل ايقاف القارئ على نماذج من احتجاجاته نذكر ما يلي :

دخل أبو قرة المحدّث على أبي الحسن الرضا 7 فقال : روينا أنّ اللّه قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين ، فقسم لموسى 7 الكلام ولمحمّد 6 الرؤية. فقال أبو الحسن 7 فمن المبلِّغ عن اللّه إلى الثقلين الجنّ والإنس : انّه ( لا تدركه الأبصار ) و ( لا يحيطون به علما ) و ( ليس

__________________

١ ـ تذكرة الخواص ابن الحوزي ٣١٥.

٢ ـ الفصول المهمة ٢٤٣ نقلا عن مطالب السؤول.

٣ ـ لقد جمع الشيخ الطبرسي قسماً من هذه الاحتجاجات في كتابه الاحتجاج ٢ / ١٧٠ ـ ٢٣٧ طبع النجف.


كمثله شي ) أليس محمّد 6؟ قال : بلى. قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلف جميعا فيخبرهم انّه جاء من عنداللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لا تدركه الأبصار ) و ( ولا يحيطون به علما ) و ( ليس كمثله شئ ).

ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني واُحطت به علما ، وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عنداللّه بشيئ ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة : فانّه يقول : ( ولَقَدْ رَآهُ نزلةً اُخْرى ) فقال أبو الحسن 7 إنّ بعده هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤادُ ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمّد 6 ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى ) فآيات اللّه غير اللّه. وقال ( لا يُحيطون بِهِ عِلْما ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة : فتكذب الروايات؟ فقال أبو الحسن : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه انّه لا يحاط به علما ، ولاتدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (١).

انتشر علم الامام وفضله فأخذت الأفئدة والقلوب تشدّ إليه وفي الاُمّة الإسلامية رجال واعون يميزون الحق من الباطل ، فكانت تأتي الأخبار المرعبة إلى مركز الخلافة العباسية بمرو. فحاول المأمون الرشيد القاء القبض على الامام من خلال لعبة سياسية لقتل الثورة في مهدها ، فأنفذ رجالا إلى المدينة حتّى يحملوا الطالبيين وفيهم علي بن موسى الرضا 7 إلى مرو. فساروا بالامام عن طريق البصرة حتّى وصلوا به إلى مرو. فأنزلوه داراً وأكرموه.

واجتمع المأمون معه في مجلس ليس فيه غيرهما وقال له : إنّي اُريد أن أخلع

__________________

١ ـ الاحتجاج للطبرسي ٢ / ١٨٤ ، البحراني : البرهان ٤ / ٢٢٨.


نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها فما رأيك؟ فأنكر الرضا 7 هذا الأمر وقال له : اُعيذك باللّه يا أميرالمؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد ، فرد عليه الرسالة فإذا أبيت ما عرضت عليك فلابد من ولاية العهد بعدي فرد عليه الرضا اباءً شديداً ، ثمّ استدعاه إليه ثانياً وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرياستين ليس في المجلس غيرهم وقال له : إنّي قد رايت أن اُقلّدك أمر المسلمين وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك فقال له الرضا 7 : اللّه اللّه يا أميرالمؤمنين انّه لا طاقة لي بذلك ولا قوّة لي عليه قال له : فانّي موليك العهد من بعدي فقال له : اعفني من ذلك يا أميرالمؤمنين فقال له المأمون كلاما فيه التهديد له على الامتناع عليه وقال في كلامه : انّ عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك أميرالمؤمنين 7 وشرط في من خالف منهم أن يضرب عنقه ولابد من قبولك ما اُريد منك فإنّي لا أجد محيصاً عنه فقال له الرضا 7 : فإنّي اُجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على انّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا اقضي ولا اُولي ولا أعزل ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه (١).

بعد قبول علي بن موسى الرضا 8 بولاية العهد قامَ بين يديه الخطباء والشعراء فخفقت الألوية على رأسه وكان فيمن ورد عليه من الشعراء دعبل ابن علي الخزاعي فلمّا دخل عليه قال : قلت قصيدة وجعلت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك فأمره بالجلوس حتّى خف مجلسه ثم قال له : هاتها. فأنشد قصيدته المعروفة :

ذكرت محل الربع من عرفات

فأجريت دمع العين على الوجنات

__________________

١ ـ الارشاد للمفيد ٣١٠.


وقد خانني صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار اقفرت وعرات

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

حتّى أتى على آخرها. فلمّا فرغ من إنشادها قام الرضا 7 فدخل إلى حجرته وأنفذ إليه صُرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه فردّها دعبل وقال : واللّه ما لهذا جئت وانّما جئت للسلام عليك والتبرّك بالنظر إلى وجهك الميمون وانّي لفي غنى فإن رأيت أن تعطيني شيئاً من ثيابك للتبرّك فهو أحب فأعطاه الرضا جبّة خز وردّ عليه الصرة (١).

كان الامام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعند ذلك أحسَّ المأمون أنّ اعطاءه ولاية العهد ربّما يؤدّي إلى الاطاحة بخلافته ، وقوّى ذلك الظن أنّ المأمون بعث إليه يوم العيد في أن يصلّي بالناس ويخطب فيهم فأجابه الرضا 7 : إنّك قد علمت ما كان بيني وبينك ما كان من الشروط في دخول الأمر فاعفني في الصلاة بالناس فقال له المأمون : إنَّما اُريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضلك ، ولم تزل الرسل تتردّد بينهما في ذلك حتّى ألحّ عليه المأمون. فارسل إليه الرضا : إن أعفيتني فهو أحبّ إلىّ وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول اللّه 6 وأميرالمؤمنين 7 فقال له المأمون : اُخرج كيف شئت وأمر القوّاد والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا قال : فعقد الناس لأبي الحسن 7 في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه فاغتسل أبو الحسن ولبس ثيابه وتعمّم بعمامة بيضاء من قطنٍ ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه ومسّ

__________________

١ ـ ابن الصباغ : الفصول المهمة ٢٤٦ والمفيد : الارشاد ٣١٦ وللقصة صلة ومن أراد فليرجع إلى المصدرين المذكورين.


شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازة وقال لمواليه : افعلوا ما فعلت فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر وكبّر مواليه معه ، فلمّا رآه الجند والقواد سقطوا كلّهم عن الدواب إلى الأرض ثمّ كبّر وكبر الناس فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لما رأوه فبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل : إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل فتن به الناس ، وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فرجع الرضا 7 واختلف أمر الناس في ذلك اليوم (١).

وقد أشار الشاعر البحتري إلى تلك القصّة بأبيات :

ذكروا بطلعتك النبي (ص) فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتّى انتهيت إلى المصلى لابساً

نور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع

للّه لا يزهى ولا يتكبر (٢)

إنّ هذا وأمثاله وبالأخص خروج أخ المأمون زيد بن موسى بالبصرة على المأمون. لأنّه فوض ولاية العهد لعلي بن موسى الرضا وبالتالي سيؤدي إلى خروج الأمر من بيت العباسيين ـ كل ذلك ـ دفع المأمون إلى أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السم على النحو المذكور في التاريخ.

ومن لطيف ما نقل عن أبي نواس انّه كان ينشد الشعر في كل جليل وطفيف ولم يمدح الامام فاعتذر عنه بالأبيات التالية.

قيل لي أنت أحسن الناس طرّاً

في فنون من الكلام النبيه

لك من جوهر الكلام بديع

يثمر الدر في يدي مجتنيه

فعلام تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

__________________

١ ـ المفيد : الارشاد ٣١٢.

٢ ـ أعيان الشيعة ٢ / ٢١ ـ ٢٢.


قلت لا أستطيع مدح إمام

كان جبرئيل خادماً لأبيه

ولمّا لم يقبل هذا العذر منه أنشد قصيدة مطوّلة فيها مايلي :

مطهّرون نقيّات جيوبهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علويا حين تنسبه

فما له في قديم الدهر مفتخر

اللّه لمّا برأ خلقاً فأتقنه فأنتم

صفاكم واصطفاكم أيّها البشر

الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور (١)

وأمّا من روى عن الرضا 7 فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله (٢) والسيد الأمين في أعيانه أسماء من رووا عنه. وقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عنه من الأحاديث والخطب والمواعظ والمناظرات وأسماه مسند الامام الرضا 7 ورتّب أسماء الراوين عنه حسب حروف المعجم فجاء ٣١٢ رجلا.

فسلام اللّه عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

__________________

١ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٣ / ٢٧٠.

٢ ـ رجال الشيخ ٣٦٦ ـ ٣٩٧ ذكر فيه ٣١٥ رجلا.



الإمام التاسع :

محمّد بن علي بن موسى :

الجواد

هو من أئمّة أهل البيت ، تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام ١٩٥. ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا 7 عام ٢٠٣ واستشهد ببغداد عام ٢٢٠. أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة (١).

لمّا توفّي الرضا 7 كان الامام الجواد في المدينة وقام بأمر الامامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين غير انّ المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه 7 خلافاً لأسلافه من العباسيين ،

__________________

١ ـ الكافي ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣ ، اثبات الهداة ٣ / ٣٢١ ـ ٣٢٨.


حيث انّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضا للخلفاء ، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الاسلوب باسلوب آخر وهو استقدام أئمة أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم ، وقد استمرت هذه السياسة في حقّهم إلى الامام الحادي عشر كما ستعرف.

ولمّا جيئ بالامام الجواد إلى مركز الخلافة ، شغف به المأمون ، لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته اُم الفضل وحملها معه إلى المدينة وكان حريصاً على اكرامه وتعظيمه واجلال قدره ، ونكتفي في المقام بذكر أمرين :

١ ـ لمّا توفّي الامام الرضا 7 وقدم المأمون بغداد. اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد وعمره آنذاك تسع سنين. فلمّا قرب منه الخليفة فقال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعا : يا أميرالمؤمنين فرّ أصحابي فرقا والظن بك حسن انّه لا يفر منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فأنتحي. فأعجب المأمون كلامه. وحسن صورته قال : ما اسمك يا غلام؟ قال : محمّد بن علي الرضا 7 فترحّم على أبيه (١).

٢ ـ لمّا أراد المأمون تزويج ابنته اُم الفضل من الامام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له : ننشدك اللّه أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا 7 فانّا نخاف أن يخرج به عنّا أمرا ، قد ملّكناه اللّه وينزع عنّا

__________________

١ ـ الفصول المهمة ٢٦٦.


به عزّا. قد ألبسناه اللّه وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفى اللّه المهم من ذلك ، وأضافوا : انّه صبي لا معرفة له فامهلة حتى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماترى.

قال المأمون : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى والهامه. ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله ، قالوا : رضينا فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك ، واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر 7 فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال : إستأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال : سل إن شئت.

فقال : ما تقول جعلت فداك في مُحْرم قتل صيدا؟ فقال أبو جعفر 7 : في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبدا؟ صغيراً كان أو كبيرا؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادما؟ ليلا كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لأبي جعفر 7 : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك


اُم الفضل ابنتي (١).

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده فقال أبو جعفر 7 : إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن اصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ، فإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبيا فعليه شاة ، فان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان احرامه بالعمرة نحره بمكّة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ... (٢).

رجوع الجواد إلى المدينة :

ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن اقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم ، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي

__________________

١ ـ الارشاد ٣١٩ ـ ٣٢١ وإعلام الورى ٣٥٢ وللقصّة صلة فراجع.

٢ ـ المفيد : الارشاد ٣٢٢.


مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدمه إلى بغداد سنة ٢٢٠ (١) وتوفّي في بغداد آخر ذي القعدة من تلك السنة وله من العمر ٢٥ سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.

وأمّا الرواة عنه فقد ذكرهم ابن شهر آشوب في مناقبه فقال : من ثقاته أيوب ابن نوح بن دراج الكوفي ، وجعفر بن محمّد بن يونس الأحول ، والحسين ابن مسلم بن الحسن ، والمختار بن زياد العبدي البصري ، ومحمّد بن الحسين أبي الخطاب الكوفي.

ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري ، ونوح بن شعيب البغدادي ، ومحمّد بن أحمد المحمودي ، وأبو يحيى الجرجاني ، وأبوالقاسم إدريس القمّي ، وعلي بن محمّد بن هارون بن الحسن بن محبوب ، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري ، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ، وأبو علي بن بلال وعبداللّه بن محمّد الحضيني ، ومحمّد بن الحسن بن شمعون البصري وقال في موضع آخر : وقد روى عنه المصنّفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، ومحمّد بن منده بن مهربذ في كتابه (٢).

هذا فقد قام الفاضل المعاصر الشيخ العطاردي بجمع ما روي عن الامام الجواد 7 أسماه « مسند الامام الجواد » وقد ذكر أسماء الرواة عنه من

__________________

١ ـ وفي الارشاد ٣٢٦ وفي إعلام الهدى ٣٠٤ : وكان سبب ورود الامام إلى بغداد وإشخاص المعتصم له من المدينة فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة ٢٢٥ ... ثمّ يقول : وكان له يوم قبض ٢٥ سنة.

ولا يخفى انّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة ٢٢٥ يكون له يوم وفاته ٣٠ سنة من العمر لأنّه ولد عام ١٩٥.

٢ ـ ابن شهر آشوب : المناقب ٤ / ٢٥٨.


المحدّثين والفقهاء الذين يربو عددهم على ١٢١ شخصا. شكر اللّه مساعيه.

وسلام اللّه على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسم ويوم يبعث حيّا.


الامام العاشر :

أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا :

الهادي

الامام علي الهادي ، هو الامام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام ٢١٢ هـ وتوفّي بسامراء سنة ٢٥٤ هـ وهو من بيت الرسالة والامامة ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرّة من شجرة النبوّة ، قام بأمر الامامة بعد والده الامام الجواد ، وقد عاصر خلافة المعتصم فالواثق ، فالمتوكل فالمنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يقتضي المقام ذكر البعض فكيف الكل.

قال ابن شهر آشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمَت ، عَلتْه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء (١)!

__________________

١ ـ مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٠١ طبع قم.


وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيهاً إماماً متعبّداً (١).

وقال المفيد : تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن علي بن محمّد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالامامة ، والاشارة إليه من أبيه بالخلافة (٢).

وقدتضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن اراد فليرجع إلى الكافي واثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك (٣).

وقد مارس المتوكّل نفس الاسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثم أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الاقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطلعوا على دقيق حياتهم وجليلها ، وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين وأشدّهم عداءً لعليّ فبلغه مقام علي الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعى يحيى بن هرثمة ، وقال : إذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

قال يحيى : فذهبت إلى المدينة. فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ، خوفاً على علي الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ، لأنّه كان مُحْسِنا اليهم ، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا. قال يحيى : فجعلت اُسكِّنهم وأحْلِف لهم أنّي لم اُؤمر فيه بمكروه ، وانّه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن

__________________

١ ـ شذرات الذهب ٢ / ١٢٨ في حوادث سنة ٢٥٤.

٢ ـ الارشاد ٣٢٧.

٣ ـ الكليني ، الكافي ١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥ ، الشيخ الحر العاملي : اثبات الهداة ٣ / ٣٥٥ ـ ٣٥٨.


إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللّه ، والمتوكل مَنْ تَعْلَم ، فإن حرّضته عليه قتله ، وكان رسول اللّه خصمك يوم القيامة. فقلت له : واللّه ما وقعت منه إلاّ على كلّ أمر جميل ، ثمّ صرت به إلى « سرّ من راى » ، فبدأت بـ « وصيف » التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : واللّه لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلاّ المصاحف وكتب العلم وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سامراء (١).

ومع انّ الامام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، وشي إلى المتوكل بعلي بن محمّد أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم وأنّه عازم بالوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك ، إلى المتوكل ، قالوا للمتوكل : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشراب فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكل ، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال : واللّه ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني ، فأعفاه ، فقال له : أنشدني شعراً ، فقال علي : أنا قليل الرواية للشعر ، فقال : لابد ، فأنشده وهو جالس عنده :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنلزوا بعد عزّ من معاقلهم

واُسْكِنُوا حُفراً يابئس ما نزلوا

__________________

١ ـ سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص ٣٢٢.


ناداهم صارخ من بعد دفنهم

أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعّمة

من دونها تضرب الأستار والكل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل (١)

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكِلوا

فبكى المتوكّل حتّى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ورفع إلى علي أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرماً (٢).

آثاره العلمية :

روى الحفّاظ والرواة عن الامام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم وبثّها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة على أبواب مختلفة ، وممّا نلفت إليه النظر انّ للإمام رسائل.

١ ـ رسالته في الرد على الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحلبي في كتابه (٣).

٢ ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضا أوردها في تحف العقول.

٣ ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهر آشوب في المناقب.

ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاص من تفسير الامام نأتي بنموذج من تفسيره :

__________________

١ ـ ربما يروى « ينتقل ».

٢ ـ المسعودي : مروج الذهب ٤ / ١١.

٣ ـ تحف العقول ٣٣٨ ـ ٣٥٢.


قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الايمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الامام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتّى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ( فَلمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشركينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعْهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بأسنا سُنَّة اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ في عبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ ) (١) ، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات (٢).

وفاته :

توفّي أبوالحسن 7 في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّ من رأى ، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمّد وجعفر وابنته عايشة ، وكان مقامه بسرّ من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة (٣).

وقد ذكر المسعودي في اثبات الوصيّة ، تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري. فمن أراد فليراجع.

__________________

١ ـ غافر / ٨٤ ـ ٨٥.

٢ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

٣ ـ الإرشاد ٣٢٧.


الرواة عن الامام الهادي :

ذكر ابن شهر آشوب في المناقب مشاهير الرواة عنه (١) ، وذكر الشيخ الطوسي أسماء الرواة عنه في رجاله فبلغ عددهم ١٨٥ شخصاً (٢) ثمّ إنّ الشيخ المعاصر العطاردي قام بجمع ما روي عنه في مجالات شتى فأسماه « مسند الإمام الهادي » شكر اللّه سعيه.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ٤٠٢.

٢ ـ رجال الشيخ الطوسي ٤٠٩ ـ ٤٢٧.


الإمام الحادي عشر :

أبو محمّد الحسن بن علي الهادي 8

العسكري

أبو محمّد : الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد ، أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقّب بالعسكري ولد عام ٢٣٢ (١) ، وقال الخطيب في تاريخه (٢) وابن الجوزي في تذكرته (٣) أنّه ولد عام ٢٣١ ، وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة ٢٣٦ ، وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدّمه

____________

١ ـ الكليني : الكافي ١ / ٥٠٣.

٢ ـ الخطيب : تاريخ بغداد ٧ / ٣٦٦.

٣ ـ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ٣٢٢.


على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة (١) روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين ما يربو على ١٥٠ شخصاً (٢) وتوفّي عام ٢٦٠ ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.

وخلّف إبنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ويراد به سرّ من رأى الذي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، وأمّا نسبة الإمام إليه لأنّ المتوكّل أشخص اباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنسب هو وولده إليها (٣).

وقال السبط ابن الجوزي : كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.

ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزىّ في كتابه المسمّى بتحريم الخمر ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى ابائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : اشهد باللّه لقد سمعت محمّداً رسول اللّه 6 يقول : أشهد باللّه لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد باللّه لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد باللّه على اللوح المحفوظ انّه قال : سمعت اللّه يقول « شارب الخمر كعابد الوثن » (٤).

__________________

١ ـ المفيد : الارشاد ٣٣٥.

٢ ـ العطاردي : مسند الامام العسكري وقد جمع فيه كل ما روي عنه وأسند إليه.

٣ ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان ٢ / ٩٤.

٤ ـ تذكرة الخواص ٣٢٤.


إنّ الإمام أسند الحديث إلى النبيّ الأكرم ولعلّ السبط ابن الجوزي زعم انّه مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإنّ أحاديث أئمّة أهل البيت مروية كلها عن النبىّ الأكرم ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلاّ ما وصل إليهم عن النبىّ الأكرم 6 عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصية وهو في قياسه خاطئ ، فهم منذ نعومة أظفار هم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبية لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر 7 : إذا حدّثتني بحديث فأسنده لك؟ فقال : حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه 6 عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى ، فكل ما اُحدثك بهذا الإسناد. ثمّ قال : لحديث واحد تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها (١).

وروى حفص ابن البختري ، قال : قلت لأبي عبداللّه الصادق 7 : أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك؟ فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه 6 (٢).

فأئمة المسلمين على حد قول القائل :

__________________

١ ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة ج ١٨ ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي الحديث ٦٧.

٢ ـ المصدر نفسه ، الحديث ٨٦.


ووال اناسا نقلهم وحديثهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الامام الباقر 7 سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : شرقّا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ أشياء خرج من عندنا أهل البيت.

رغم أنّ الخلفاء وضعوا الامام تحت الاقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات نذكر أسماء الرواة عنه :

قال ابن شهرآشوب : من ثقاته علي بن جعفر ، وأبو هاشم ، داود بن القاسم الجعفري وقد أدرك خمسة من الأئمّة : وداود بن أبي يزيد النيسابوري ، ومحمّد بن علي بن بلال ، وعبداللّه بن جعفر الحميري القمّي ، وأبو عمر عثمان ابن سعيد العمري ، وإسحاق بن ربيع الكوفي ، وأبو القاسم جابر بن اليزيد الفارسي ، وإبراهيم بن عبدة بن إبراهيم النيسابوري و ... (١).

ثمّ إنّ الكلام في أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته ، وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة. وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماءنا الأبرابر بيد أنّا نشير هنا إلى لمحة من علومه :

١ ـ لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً ويساراً وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولا ، ولكن الامام 7 يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.

__________________

١ ـ المناقب ٤ / ٤٢٣.


فقال اللّه : ( الم ذلِك الكتابُ ) ( فقل ) يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّه لا يقدرون عليه بقوله : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ) ـ الإسراء / ٨٨ ـ (١).

وقد روي هذا المعنى عن أبيه الامام الهادي 7 (٢).

٢ ـ كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهدِنا الصِّراط المُسْتقيم ) أولستم فيه؟

فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».

ثمّ فسّر الصراط بقوله : الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة (٣).

وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الامام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة اُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركّز الامام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.

__________________

١ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٢٤ ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

٢ ـ الكليني : الكافي ج ١ كتاب العقل والجهل الحديث ٢٠ / ٢٤ ـ ٢٥.

٣ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٣٣.


٣ ـ ربّما يغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كل هذا نعمة من اللّه ، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولا الضّالِّين ) هو نعمة التوفيق والهداية.

ولأجل ذلك نرى انّ الامام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّقينَ والشُّهَداءِ والصّالِحينَ وحَسُنَ اُولئِكَ رفيقاً ) ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة » (١).

٤ ـ لقد تفشّت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء ، قبل أن تخلق استلهاماً من بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتابِ ) (٢) فقال : هل يمحو إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. إنّه لا يعلم الشيء حتّى يكون ، فنظر إلىَّ شزرا ، وقال :

« تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه » (٣).

__________________

١ ـ الصدوق : معاني الأخبار ٣٦.

٢ ـ الرعد / ٣٩.

٣ ـ المسعودي : اثبات الوصية ٢٤١.


حصيلة البحث :

هولاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم بل أئمة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك؟ وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الاُمّة على التمسّك بهما وقال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً (١).

ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين وإنّما استعانوا في تفسيره باُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقون غبارهم ، نظراء مجاهد بن جبر ( ت ١٠٤ ) وعكرمة البربري ( ت ١٠٤ ) وطاووس بن كيسان اليماني ( ت ١٠٦ ) وعطاء بن أبي رباح ( ت ١١٤ ) ومحمّد بن كعب القرظي ( ت ١١٨ ) إلى غير ذلك من اُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت ـ صلوات اللّه عليهم ـ ...

فالإسلام عقيدة وشريعة ، فالنجاة عن الضلال ـ حسب مفاد حديث الثقلين هو الرجوع إليهما وأمّا غيرهما فإن رجع إليهما فنعم المطلوب وإلاّ فلا قيمة له ـ أمّا الصحابة والتابعون ، فلا يعتد برأيهم إلاّ إذا كان مأخوذاً عن كتابه سبحانه أو سنّة نبيّه ، وليس حديث أئمّة أهل البيت إلاّ إشراقاً خالداً لحديث جدّهم الأكرم وسنّته.

__________________

١ ـ رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم 6.



الإمام الثاني عشر :

الخلف الصالح

المهدي صاحب الزمان ( عجل اللّه تعالى فرجه)

هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة ، الخلف الصالح ، ولد 7 بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه اللّه الحكم صبيّا كما حدث ليحيى قال سبحانه : ( يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا ) (١) وجعله إماماً وهو طفل ، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه : ( إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَجَعَلنِى نَبِّيا ) (٢) وقد تواتر النص عليه من النبيّ الأكرم وآبائه

__________________

١ ـ مريم / ١٢.

٢ ـ مريم / ٣٠.


الكرام.

اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، والجور ، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق ، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون ، فهو بإذن اللّه ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير اللّه ، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويمحي أسباب العداء ، والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الاُمّة ، وافتراق الكلمة ، ويحقق به سبحانه بظهوره ، وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

١ ـ ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْركُونَ بِى شَيْئاً وَمنْ كَفَرَ بَعَدَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُون ) (١).

٢ ـ ( وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ ) (٢).

٣ ـ ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ ) (٣).

ويأتي عصر ذهبي لا يبقى فيه على الأرض بيت إلاّ ودخلته كلمة الإسلام ولا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها بشهادة « لا إله إلاّ اللّه » بكرة وعشيا.

__________________

١ ـ النور / ٥٥.

٢ ـ القصص / ٥.

٣ ـ الأنبياء / ١٠٥.


١ ـ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه 6 : ولو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جورا (١).

٢ ـ أخرج أبو داود عن عبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه 6 قال : لا تنقضي الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (٢).

٣ ـ أخرج أبو داود عن اُمّ سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : سمعت رسول اللّه 6 يقول : المهدي من عترتي من ولد فاطمة (٣).

٤ ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود أنّ رسول اللّه 6 قال : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي (٤).

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه يقول الدكتور عبدالباقي : إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين انّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريبا ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (٥).

هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه ، وانّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته ، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الامام الثاني عشر الذي ولد بسامراء عام ٢٥٥ هـ واختفى بعد وفاة أبيه عام ٢٦٠ هـ ، وقد تضافرت

____________

١ ـ مسند أحمد ١ / ٩٩ ، ٣ / ١٧ ـ ٧٠.

٢ ـ جامع الاُصول ١١ / ٤٨ برقم ٧٨١٠.

٣ ـ المصدر نفسه برقم ٧٨١٢.

٤ ـ المصدر نفسه برقم ٧٨١٠.

٥ ـ الدكتور عبدالباقي : بين يدي الساعة ١٢٣.


عليه النصوص من آبائه ، على وجه ماترك شكّاً ولا شبهة (١) ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة ، وقالوا بأنّه ولد وأنّه محمّد بن الحسن العسكري.

نعم كثير منهم قالوا بأنّه سيولد في آخر الزمان ، وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهر له الحق ، وأنّ المولود للامام العسكري هو المهدي الموعود.

وممّن وافق من علماء أهل السنّة بأنّ وليد بيت الحسن العسكري هو المهدي الموعود :

١ ـ كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي الشافعي في كتابه « مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ». وقد أثنى عليه من ترجم له مثل اليافعي في « مرآة الجنان » في حوادث سنة ٦٥٠. قال بعد سرد اسمه ونسبه : « المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر ، فأمّا مولده فبسرّ من رأى ، وأمّا نسبه أبا فأبوه الحسن الخالص » ثمّ أورد عدّة أخبار واردة في المهدي من طريق أبي داود ، والترمذي ، ومسلم والبخاري وغيرهم ثمّ اعترض بأنّها لا تدل على أنّه محمّد بن الحسن العسكري وأجاب بأنّ الرسول لمّا وصفه وذكر اسمه ونسبه وجدنا تلك الصفات والعلامات موجودة في محمّد بن الحسن العسكري علمنا أنّه هو المهدي.

٢ ـ أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابيه : « البيان في اخبار صاحب الزمان » و « كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ».

٣ ـ نور الدين علي بن محمّد بن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة الأئمّة.

__________________

١ ـ اقرأ هذه النصوص في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق ٣٠٦ ـ ٣٨١ ترى فيه النصوص المتضافرة على أنّ المهدى الموعود هو ولد الامام أبو محمّد الحسن العسكري وانّ له غيبة.


٤ ـ الفقيه الواعظ شمس الدين المعروف بالسبط ابن الجوزي « في تذكرة الخواص ».

إلى غير ذلك من علماء وحفّاظ ذكر أسماءهم وكلماتهم السيد الأمين في أعيان الشيعة وأنهاه إلى ثلاثة عشر ، ثمّ قال : والقائلون بوجود المهدي من علماء أهل السنّة كثيرون وفيما ذكرناه منهم كفاية ومن أراد الاستقصاء فليرجع إلى كتابنا « البرهان إلى وجود صاحب الزمان » ورسالة « كشف الأستار » للشيخ حسين النوري (١).

وقد كان الاعتقاد بظهور المهدي في عصر الأئمّة الهداة أمراً مسلّماً حتّى أنّ دعبل الخزاعي ذكره في قصيدته التي أنشدها لعلي بن موسى الرضا 7 فقال :

خروج إمام لا محالة قائم

يقوم على اسم اللّه والبركات

يميز فينا كل حق وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

ولمّا وصل دعبل إلى هذين البيتين بكى الرضا 7 بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه ، فقال له : يا خزاعيّ نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الامام ومتى يقوم؟ ، فقلت : لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ، ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً ، فقال : يا دعبل ، الامام بعدي محمّد ابني ( الجواد ) وبعد محمّد ابنه علي ( الهادي ) وبعد علي ابنه الحسن ( العسكري ) وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جورا ، وأمّا متى؟ فاخبار عن الوقت ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ٢ / ٦٤ ـ ٧٥.


آبائه عن علي 7 إنّ النبي 6 قيل له : يا رسول اللّه متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ هو. ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلاّ بغتة (١).

ثمّ إنّ للمهدي ـ عجّل اللّه تعالى فرجه ـ غيبتين صغرى وكبرى ، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت ، أمّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء وعدم نصب غيرهم ، وقد مات السفير الأخير علي بن محمّد السمري عام ٣٢٩ هـ ، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في اُمور شتّى.

وأمّا الغيبة الكبرى فهي بعد الاُولى إلى أن يقوم بإذن اللّه تعالى.

وأمّا من رأى الحجّة في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتّى بعد الكبرى ، فحدّث عنه ولا حرج فقد اُلف في ذلك كتب أحسنها وأجملها : كمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي.

ثمّ إنّ حول الامام المهدي أسئله وشبهات ربّما يتجاوز العشرة ، وقد ذكرها المحقّقون من علماء الإمامية في كتبهم وأجابوا عنها بوضوح (٢).

__________________

١ ـ الصدوق : كمال الدين وتمام النعمة ٢ / ٣٧٢.

٢ ـ لاحظ محاضراتنا : الإلهيات : بقلم الشيخ الفاضل حسن مكّي ٢ / ٦٤١ ـ ٦٥٣ وفي كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لشيخنا : لطف اللّه الصافي ـ دام ظله ـ غنى وكفاية لطالب الحق.


الفصل الثاني عشر

دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية

وازدهار العلوم



الحضارة تقابل البداوة ، وتطلق على الاقامة في الحضر وهي الكلمة الدارجة في أيّامنا هذه على ألسن الخطباء وقلم الكتّاب وكلمة التمدّن هي التي كانت رائجة سابقاً.

ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب ( الأرض ) حضارات متعدّدة ، لكلٍّ ميزاتها وخصائصها التي ضبطها التاريخ ، وأفصحت عنها الاكتشافات الأثرية.

ومن مشاهير هذه الحضارات : الحضارة الصينية ـ المصرية ـ البابلية ـ اليونانية الرومانية ـ الفارسية ـ وأخيراً الحضارة الغريبة ولكل انطباعاتها الخاصة.

وأمّا الحضارة الإسلامية فهي التي تتوسّط بين الحضارة الأخيرة ( الغربية ) وما تقدّمها. وهي أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والأدب والفنون. وهي الأساس الوطيد الذي قامت عليه حركة النهضة الاوربية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتب لبيان ما قدّمته الحضارة الإسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة.

وليست الحضارة الإسلامية حضارة عربية ابتدعتها العرب ، بمواهبها وتجاربها بل حضارة الشعوب الإسلامية من عرب وفرس وترك وغيرهم من القوميات ، الذين ذابوا في الإسلام ونسوا قومياتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية. وكلّما


تُستخدم الحضارة العربية يراد منها الحضارة الإسلامية. التي انبثقت بطلوع فجر الإسلام في الجزيرة العربية وانتشرت بانتشاره بسرعة عجيبة فخفقت راياتها في بقاع واسعة من العالم فامتدّت من حدود الصين شرقا ، إلى المحيط الأطلسي غربا.

إنّ الحضارة الحقيقة تتميّز بانعدام الهمجية والفوضى الاجتماعية ، وباستغلال الموارد الطبيعية والمواهب البشرية إلى أقصى الحدود. كما تتميز بتقدّم العلوم وازدهار الآداب والفنون ، وسموّ المطامح الإنسانية وحلول التنظيم الاجتماعي.

إنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة :

١ ـ الموارد الاقتصادية.

٢ ـ النظم السياسية.

٣ ـ التقاليد الخلقية.

٤ ـ متابعة العلوم والفنون.

وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق لأنّه إذا ما أمن الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التضلّع وعوامل الابداع والانشاء وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها (١).

وما ذكره ذلك العالم الباحث من اُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الإلهية والمادّية. وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الاُسس الدينية فمن أهم أركانها توعية الإنسان في ظلال الاعتقاد باللّه سبحانه واليوم الآخر. حتّى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني. فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية

__________________

١ ـ ويل دورانت : قصة الحضارة ١ / ٣.


لا إنسانية ، وتمدّن مادّي وليس بالهي.

إنّ مؤسّس الحضارة الإسلامية هو النبيّ الأكرم 6 وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق ومتابعة العلوم والفنون ، واستغلال الموارد الطبيعية وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة.

ولا يشك في ذلك من قرأ تاريخ الإسلام وتاريخ النبيّ الأكرم 6 خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الإسلام بما قبلها.

ثمّ إنّ المسلمين شيدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبيّ الأكرم من خلال القرآن والسنّة فأصبح لهم قوّة اقتصادية ، ونظم سياسية ، وتقاليد دينية وخلقية وأصبحت العلوم والفنون تتطوّر وتتقدم. وقد قاموا بترجمة كتب اليونانيين والفرس وغيرهم إلى لغتهم فصارت الحضارة الإسلامية مزدهرة. بفضل هذه العلوم وتطويرها. فصارت المكتبات عامرة بآلاف الكتب المتنوّعة.

انّ لكلّ حضارة طابعاً خاصاً. فلبعضها طابع اقتصادي ولاُخرى طابع عسكري ، ولثالث طابع فنّي معماري وهكذا ، ولكن الحضارة الإسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات فلم تترك ميزة دون اُخرى.

والذي يطيب لنا في هذا الفصل ، ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة خصوصاً فيما يرجع إلى الركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون ، وأمّا الأركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا الفصل وذلك :

لأنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالاُمور التالية :

١ ـ التنمية الزراعية بأنواعها المختلفة من الحبوب والفاكهة وغيرهما.


٢ ـ استخراج المعادن الذهبية ، والفضّية ، والأحجار ، النفيسة الكريمة ، كالفيروز ، والعقيق ، والزمرّد واللؤلؤ والمرجان.

٣ ـ إحداث القنوات المائية وبناء السدود. وتقسيم الماء ، ومحاربة طغيانه.

٤ ـ تربية الحيوانات الأليفة وصيد السمك والطيور.

٥ ـ صناعة الألبسة والأقمشة والستور والسجاد.

٦ ـ صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم.

٧ ـ ايجاد المواصلات البرّية والبحريّة ، وتنظيم حركة الملاحة ، ومحاربة قطاع الطرق واللصوص في البحر والبر.

٨ ـ العناية الفائقة بالتجارة وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة ، إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي ، فلا يصح ابعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون اُخرى فإنّ الإنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي ، ينساق إلى ذلك.

وأمّا النظم السياسية فقد نضجت في الدولتين الاموية والعباسية في حقول شتى : الادارة والعسكرية البرية منها والبحرية ، فقد قامت كل دولة في مصر الخلفاء بواجبها من غير فرق بين الدول الشيعية منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالسامانية والسلاجقة والغزاونة وهكذا.

وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة من صميم الإسلام ومأخوذة من الكتاب والسنّة وأمّا التقاليد القومية لقد أفسح الإسلام لها المجال إذا لم تكن معارضة لمبادئ الشريعة والمثل الأخلاقية الإسلامية.

فلأجل ذلك نركز على الركن الرابع من هذه الأركان الأربعة للحضارة ، وهو متابعة العلوم والفنون فهي الطابع الأساسي للحضارة الإسلامية وبها تتميّز عن ما تقدّم عليها وعن ما تأخّر عنها ، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن أي ازدهار


العلوم والفنون ليظهر أنّهم كانوا في الطليعة وكان لهم الدور الأساسي.

إنّ الحضارة الإسلامية تستمد من الكتاب والسنّة فكل من قدّم خدمة للقرآن لفظاً ومعنى ، صورة ومادة فقد شارك في بناء الحضارة الإسلامية ومثله السنّة وإليك البيان.

١ ـ قدماء الشيعة وعلم النحو :

إنّ دراسة القرآن بين الاُمة ونشر مفاهيمه ، يتوقّف على معرفة العلوم التي تعد مفتاحاً له إذ لولا تلك العلوم لكانت الدراسة ممتنعة ، ونشرها في ربوع العالم غير ميسور ، جدّاً. بل لولا هذه العلوم ونضجها لحرم جميع المسلمين حتّى العرب منهم من الاستفادة من القرآن الكريم. لأنّ الفتوحات فرضت على المجتمع العربي الاختلاط مع بقية القوميات وسبَّب ذلك خطراً على بقاء اللغة العربية وكان العرب عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على النحو الذي في القرآن إلاّ من خالطهم من الموالي والمتعرّبين ، ولكن اللحن لم يكثر إلاّ بعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق فشاع اللحن في قراءة القرآن فمست الحاجة الشديدة إلى ضبط قواعد اللغة (١).

فقام أبو الأسود الدؤلي بوضع قواعد نحوية بأمر الامام أميرالمؤمنين 7 فأبو الأسود إمّا واضع علم النحو أو مدوّنه وكان من سادات التابعين ، صاحب عليّاً وشهد معه صفين. ثمّ أقام في البصرة. يقول الشيخ أبو الحسن سلامة الشامي النحوي : إنّ علياً دخل عليه أبو الأسود يوماً. قال : فرأيته مفكّراً ، فقلت له : مالي أراك مفكّراً يا أميرالمؤمنين؟ قال : إنّي سمعت من بعض الناس لحناً وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب. فقلت : إن فعلت ذلك أحييت

__________________

١ ـ جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٢١٩.


أقواماً من الهلاك فألقى إليّ صحيفة فيها : الكلام كلّه إسم وفعل وحرف. فالإسم ما دلّ على المسمّى ، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس بإسم ولا فعل وجعل يزيد على ذلك زيادات قال : واستأذنته أن اصنع في النحو ما صنع فأذِن وأتيته به فزاد فيه ونقص ، وفي رواية أنّه ألقى إليه الصحيفة وقال له : انح نحو هذه فلهذا سمّي النحو نحوا (١).

ومن المعلوم انّ هذه القواعد لم تكن تسد الحاجة الملحّة. ولكن أبا الأسود قام باكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب من المرفوع والاسم من الفعل بعلامات نسمّيها الاعراب فالروايات مجمعة على أنّ أبا الأسود ( وهو شيعي المذهب توفّي سنة ٦٩ ) إمّا مدوّن علم النحو أو واضعه وأضحى مادوَّنه مصدراً لهذا العلم في العصور الّلاحقة وهناك كلام لابن النديم دونك لفظه. يقول :

قال محمّد بن إسحاق : زعم أكثر العلماء أنّ النحو اُخذ عن أبي الأسود الدؤلي وأنّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب 7.

ثمّ نقل عن الطبري وقال : انّما سمّي النحو نحواً لأنّ أبا الأسود الدؤلي قال لعلي 7 وقد ألقى عليه شيئاً من اُصول النحو قال أبو الأسود : واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع ، فسمّي ذلك نحواً (٢).

٢ ـ وإذا كان أبو الأسود الدؤلي واضعاً للنحو فالخليل بن أحمد الفراهيدي هو المنقّح له والباسط له. قال أبوبكر محمّد بن الحسن الزبيدي : والخليل بن أحمد ، أوحد العصر ، وفريد الدهر ، وجهبذ الاُمة واُستاذ أهل الفطنة الذي لم ير نظيره ولا

__________________

١ ـ حسن الصدر : تأسيس الشيعة ٥١ ولقد بلغ الغاية في ذلك المجال فنقل كلمات المؤرّخين في ما قام به الأمام وتلميذه في تأسيس علم النحو.

٢ ـ ابن النديم : الفهرست ٦٦ وللكلام صلة من أراد فليرجع إلى المصدر.


عرف في الدنيا عديلة ، وهو الذي بسط النحو ومدّ اطنابه وسبب علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج فيه ، حتّى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى ابعد غايته ...

وسيوافيك انّ الخليل من أصحاب الامام الصادق ومن شيعته.

ثمّ إنّ علماء الفريقين شاركوا في نضج هذا العلم وايصاله إلى القمة.

وليس للمنصف بخس حق طائفة لمصالح اُخرى ولكن لمّا كان الهدف هو بيان دور الشيعة في تطوير العلوم وتتبّعها نذكر من خدم علم النحو من قدماء الشيعة فقط منهم.

١ ـ عطاء بن أبي الأسود : قال الشيخ الطوسي في باب أصحاب الحسين بن علي : ومنهم ابن أبي الأسود الدؤلي. وقال الحافظ السيوطي في الطبقات : عطاء ، استاذ الأصمعي وأبو عبيدة (١).

٢ ـ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي الكوفي : قال السيوطي : هو أوّل من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو وسمّاه الفيصل وهو اُستاذ الكسائي والفرّاء (٢).

قال النجاشي : روى هو وأبوه عن أبي جعفر وأبي عبداللّه 8 وله كتاب الوقف والابتداء ، وكتاب الهمز ، وكتاب اعراب القرآن (٣).

٣ ـ حمران بن أعين أخو زرارة بن أعين : كان نحوياً إماماً فيه ، عالماً بالحديث واللغة والقرآن ، أخذ النحو والقراءة عن ( ابن ) أبي الأسود ، وأخذ عنه الفراء وحمزة أحد السبعة وأخذ الحديث عن الامام السجاد والباقر والصادق. وآل أعين بيت كبير بالكوفة من أجلّ بيوت الشيعة ولأبي غالب الزراري

__________________

١ ـ تأسيس الشيعة ٦٥.

٢ ـ تأسيس الشيعة ٦٧.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٠٠ برقم ٨٨٤.


رسالة في ترجمة آل أعين قال : كان حمران من أكابر مشايخ الشيعة وكان عالماً بالنحو واللغة (١).

٤ ـ أبو عثمان المازني : بكر بن محمّد : قال النجاشي : كان سيد أهل العلم بالنحو والعربية واللغة ومقدمته بذلك مشهورة ، وكان من علماء الإمامية ، قد تأدّب على يد إسماعيل بن ميثم (٢) له في الأدب كتاب التصريف ، كتاب ما يلحن فيه العامة ، التعليق. مات سنة ٢٤٨ (٣).

٥ ـ ابن السكيت : يعقوب بن إسحاق السكيت : كان مقدّماً عند أبي جعفر ( الجواد ) وأبي الحسن ( الهادي ) 8 وكانا يختصّانه. وله عن أبي جعفر 7 رواية ومسائل ، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه ، وأمره مشهور ، وكان وجيهاً في علم العربية واللغة ، ثقة ، مصدّقاً ، لا يطعن عليه. وله كتب : إصلاح المنطق ، كتاب الألفاظ ، كتاب ما اتّفق لفظه واختلف معناه ، كتاب الأضداد ، كتاب المذكّر والمؤنّث ، كتاب المقصور والممدود ، و ... (٤).

وسبب قتله : انّ المتوكل سأله يوماً وهو يعلّم ابنيه وقال : يا يعقوب أيّهما أحبّ إليك ، ابناي هذان ، أم الحسن والحسين؟ فأجابه : « انّ قنبراً خادم علي خير منك ومن ابنيك » فأمر المتوكّل فسلّوا لسانه من قفاه فمات ، وقد خلّف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر (٥) واستشهد سنة ٢٤٤.

__________________

١ ـ أبو غالب : رسالة في آل أعين ٢ ـ ٣ بتلخيص.

٢ ـ وهو من أئمّة المتكلّمين في الشيعة.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٧٢ برقم ٢٧٧ وذكره ابن النديم في أخبار النحويين واللغويين ٩٠ والخطيب البغدادي في تاريخ مدينة بغداد ج ٧ برقم ٣٥٢٩.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٤٢٥ برقم ١٢١٥.

٥ ـ جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية ١ / ٤٢٤ وترجمه ابن خلكان : في وفياته ، وياقوت في طبقات الادباء وغيرهما.


٦ ـ ابن حمدون : أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون : قال النجاشي : الكاتب النديم ، شيخ أهل اللغة ووجههم. اُستاذ أبي العباس (١) وكان خصيصاً بسيدنا أبي محمّد العسكري وأبي الحسن قبله. له كتب ثمّ ذكر كتبه (٢).

٧ ـ أبو إسحاق النحوي : ثعلبة بن ميمون : قال النجاشي : كان وجهاً في أصحابنا ، قارئاً ، فقيهاً ، نحويّاً ، لغويّاً ، راوية ، وكان حسن العمل ، كثير العبادة والزهد ، روى عن الصادق والكاظم (٣). وبما أنّ الامام الكاظم توفّي عام مائة وثلاث وثمانين ، فهو من أهل المائة الثانية.

٨ ـ قتيبة النحوي ، الجعفي ، الكوفي : قال النجاشي : المؤدب المقري ، ثقة ، عين ، روى عن الصادق (٤) وذكره السيوطي في بغية الوعاة ووصفه في تأسيس الشيعة بأنّه إمام أهل النحو واللغة (٥).

٩ ـ إبراهيم بن أبي البلاد : قال النجاشي : كان ثقة ، قارئاً ، أديباً ، روى عن الصادق والكاظم 8 (٦).

١٠ ـ محمّد بن سلمة اليشكري : قال النجاشي : جليل من أصحابنا الكوفيين ، عظيم القدر ، فقيه ، قارئ ، لغوي ، راوية ، خرج إلى البادية ، ولقى العرب وأخذ

__________________

١ ـ يريد ثعلب ( ٢٠٠ ـ ٢٩١ م ).

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٣٧ برقم ٢٢٨.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٩٤ برقم ٣٠٠ وذكره ابن حجر في لسان الميزان ج ٢ برقم ٣٣٢.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٨٥ برقم ٨٦٧.

٥ ـ تأسيس الشيعة ٧٦.

٦ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٠٢ برقم ٣١.


عنهم ، وأخذ عنه : يعقوب بن السكيت ، ثمّ ذكر كتبه (١) وبما أنّه شيخ ابن السكيت فهو أهل المائة الثانية وأوائل الثالثة.

١١ ـ أبو عبداللّه النحوي : الحسين بن أحمد بن خالويه ، سكن حلب ومات بها ، وكان عارفاً بمذهبنا ، مع علمه بعلوم العربية ، واللغة ، والشعر ، وله كتب ومن كتبه : مستحسن القراءات والشواذ ، كتاب في اللغة (٢). ووصفه السيوطي في الطبقات إنّه إمام اللغة والعربية ، وغيرهما من العلوم الأدبية ، دفن ببغداد سنة ٣١٤ هـ.

١٢ ـ أبو القاسم التنوخي : قال الشيخ رشيد الدين ابن شهر آشوب : انّه من جملة الشعراء المجاهرين بالشعر في مدح أهل البيت ، وقال ياقوت : كان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة والعروض قدوة ، وكان يحفظ من اللغة والنحو شيئاً عظيما (٣).

ما ذكرناه نماذج من أئمّة اللغة من الشيعة الامامية في القرون الاُولى ، وأمّا من وليهم من الأئمّة فحدّث عنهم ولا حرج ، فإنّ ذكر أسمائهم ونبذ من حياتهم يدفعنا إلى تأليف مفرد ، وقد كفانا في ذلك ما كتبه السيد الصدر في هذا المجال ، فقد بلغ النهاية ، وقد ذكر أئمّة النحو من الشيعة إلى القرن السابع (٤) فبلغ ١٤٠ إماماً واُستاذاً ومؤلّفاً في الأدب العربي ولا سيما النحو وبينهم شخصيات بارزة كالشريف المرتضى ( ت ٤٣٦ هـ ) والشريف الرضي وابن الشجرىّ الذي يقول في حقه السيوطي : كان أوحد زمانه ، وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب توفّي ٥٤٢ ـ

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢١٨ برقم ٨٩٧.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٨٨ برقم ١٥٩.

٣ ـ تأسيس الشيعة ٩١.

٤ ـ لاحظ تأسيس الشيعة ٣٩ ـ ١٣٧.


ونجم الأئمّة الرضي الاستر آبادي ، إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة.

٢ ـ قدماء الشيعة وعلم الصرف :

إنّ أوّل من دوّن الصرف أبو عثمان المازني وكان قبل ذلك مندرجاً في علم النحو ، كما ذكره في كشف الظنون ، وشرحه أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفّي في ٣٩٢ هـ (١) وأبسط كتاب في الصرف ، ما كتبه نجم الأئمة أعني محمّد بن الحسن الاسترآبادي الغروي ، له شرح الشافية في الصرف ، كما له شرح الكافية في النحو وكلا كتابيه جليل الخطر محمود الأثر ، قد جمع بين الدلائل والمباني ، قال في كشف الظنون : للكافية شروح أعظمها شرح الشيخ رضيّ الدين محمّد بن الحسن الطوسي الاستر آبادي النحوي قال السيوطي : لم يؤلّف عليها ، بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً فتداوله الناس واعتمدوا عليه وله فيه أبحاث كثيرة ومذاهب ينفرد بها فرغ من تأليفه سنة ٦٨٣ .

أقول : فرغ من شرح الكافية سنة ٦٨٦ في النجف الأشرف ، كما هو مذكور في آخر الكتاب.

ولنكتف بهذا المقدار في مساهمة الشيعة ، مع غيرهم في بناء الأدب العربي وتجد قواعده وارسائها في مجالي النحو والصرف ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

٣ ـ قدماء الشيعة وعلم اللغة :

ونريد بعلم اللغة ، الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث اُصولها ، واشتقاقها ، ومعناها وهو يطلب لنفسه تأليف معاجم لغوية إمّا في موضوعات خاصّة كالخيل

__________________

١ ـ كشف الظنون ١ / ٢٤٩ مادة « كافية ».


والشاة والوحوش والإنسان فقد اُلّف حولهما كتب تحتوي كلّ منها أسماء الحيوانات وأعضائها ، ومن الإنسان أعضائه وأسماؤه. أو موضوعات عامة وأوّل من ألّف في القسم الثاني هو :

١ ـ أبو عبدالرحمان الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي : سيد أهل الأدب ، هو أوّل من ضبط اللغة وأوّل من استخرج علم العروض إلى الوجود ، فهو أسبق العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم فألّف كتابه « العين » جمع فيه ما كان معروفاً في أيّامه من ألفاظ اللغة وأحكامها ، وقواعدها ، ورتّب ذلك على حروف الهجاء ، لكنّه رتّب الحروف حسب مخارجها من الحلق ، فاللسان ، فالأسنان ، فالشفتين ، وبدأ بحرف العين وختمها بحروف العلّة « واى » وسُمِّي الكتاب بأوّل لفظ من ألفاظه (١).

وكان الكتاب مخطوطاً عزيز النسخة ، لكنّه رأى النور أخيراً وطبع محقّقاً. لم يشك أحد من علمائنا أنّ الخليل كان شيعيّاً وعن المرزباني أنّه ولد عام مائة من الهجرة وتوفي سنة ١٧٠ أو ١٧٥ وقال ابن قانع أنه توفّي سنة ١٦٠ (٢) قد ألّف كتاباً في الإمامة ، أورده بتمامه محمّد بن جعفر المراغي في كتابه واستدرك عليه ما لم يذكره وأسماه « الخليلي » قال النجاشي محمّد بن جعفر بن محمّد : أبو الفتح الهمداني الوادعي المعروف بـ « المراغي » كان يتعاطى الكلام ، له كتاب مختار الأخبار ، كتاب الخليلي في الامامة ، وكتاب ذكر المجاز من القرآن (٣).

قال العلاّمة في الخلاصة : كان خليل بن أحمد أفضل الناس في الأدب

__________________

١ ـ آداب اللغة العربية ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٢ ـ المامقاني : تنقيح المقال ١ / ٤٠٣ برقم ٣٧٣٩.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣١٨ برقم ١٠٥٤.


وقوله حجّة فيه واخترع علم العروض ، وفضله أشهر من أن يذكر وكان إماميّ المذهب (١).

وقال ابن داود : الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب فضله وزهده أشهر من أن يخفى ، كان إماميّ المذهب (٢).

٢ ـ أبان بن تغلب بن رباح الجُرَيري : من أصحاب الباقر والصادق ، قال النجاشي : كان قارئاً من وجوه القرّاء ، فقيهاً ، لغوياً ، سمع من العرب وحكى عنهم (٣) وقال ياقوت : ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفّي الامامية. وقال : هو ثقة جليل القدر عظيم المنزلة وقال : كان قارئاً ، فقيهاً ، لُغويّاً ، نبيهاً ثبتا (٤).

٣ ـ ابن حمدون النديم : شيخ أهل اللغة ووجههم واُستاذ أبي العباس ثعلب (٥).

٤ ـ أبوبكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي : الأديب اللغوي ، صاحب الجمهرة في اللغة مات هو وأبو هاشم الجبّائي في يوم واحد فقال الناس : مات علم اللغة والكلام. ألّف كتاب « جمهرة اللغة » على منوال « العين » واختصره الصاحب وسمّاه « جوهرة الجمهرة » (٦).

٥ ـ الصاحب بن عباد : عظيم الشأن ، جليل القدر في العلم والأدب ، وألّف الصدوق ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ ) كتابه عيون أخبار الرضا 7 لأجله ، ومن كتبه في اللغة : « المحيط » عشر مجلدات وقد عرفت تلخيص الجوهرة. وأمّا تشيّعه فحدّث

__________________

١ ـ العلامة الحلّي : الخلاصة ، القسم الأول ٦٧.

٢ ـ ابن داود الحلّي : الرجال ، القسم الأول ٨٨ برقم ٥٧٤.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧٣ برقم ٦.

٤ ـ ياقوت : معجم الاُدباء ١ / ١٠٧.

٥ ـ الطوسي : الفهرست ١١ / ٥٦.

٦ ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ٢ / ١٩٥.


عنه ولا حرج.

وكم له من قصائد في مدح أهل البيت نذكر منها مايلي :

ألم تعلموا انّ الوصي هو الذي

أتى الزكاة وكان في المحراب

ألم تعلموا انّ الوصي هو الذي

حكم الغدير له على الأصحاب (١)

ولنكتف بهذا المقدار فانّ المقصود اراءة نماذج من كبار القدماء الذين شاركوا المسلمين في تأسيس العلوم العربية وتطويرها وأمّا التفصيل فيرجع إلى محالّه (٢).

٤ ـ قدماء الشيعة وعلم العروض :

إذا كانت الشيعة هي التي ابتكرت علم النحو بهداية من باب علم النبي الأكرم 7 ولحسن الحظ أنّها المبتكرة أيضاً لعلم العروض واستخراجه إلى الوجود وإليك المؤسّسين والمؤلّفين فيه بوجه موجز.

١ ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري قال ابن خلّكان : هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود ، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً (٣).

٢ ـ كافي الكفاة الصاحب بن عباد الطائر الصيت ، له كتاب الاقناع في

__________________

١ ـ الغدير ٤ / ٦٦ وله قصائد اُخرى مذكورة فيه.

٢ ـ لاحظ تأسيس الشيعة للسيد الصدر فقد ترجم فيه ٢٤ شخصاً كلّهم من أقطاب علم اللغة وللمناقشة في بعض ما ذكره وان كان مجالا لكنّه لا ينقص عن عظم الجهد الذي بذله في طريق منشوده.

٣ ـ وفيات الأعيان ٢ / ٢٤٤ برقم ٢٢٠.


العروض (١) وقد توإلى التأليف بعده إلى عصرنا هذا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المعاجم حول مصنّفات الشيعة.

ومن أبرز ما اُلّف في العروض أخيراً أثران :

أحدهما : للسيد الشريف هبة الدين الشهرستاني ١٣٠١ ـ ١٣٨٦ أسماه : رواشح الفيوض في علم العروض وقد طبع في طهران ١٣٢٤.

ثانيهما : منظومة رصينة قيّمة قلّما رأى الدهر مثلها للشيخ مصطفى التبريزي ( ١٢٩٨ ـ ١٣٣٨ ) شرحها العلاّمة أبو المجد الشيخ محمّد رضا الاصفهاني ( ١٢٨٦ ـ ١٣٦٢ ) وأسماها « اداء المفروض في شرح ارجوزة العروض » وإليك مستهلّها :

الحمد للّه على اسباغ ما

أولى لنا من فضله وأنعما

وخصّنا منه بواف وافر

من بحر جوده المديد الزاخر

صلّى على نبيّنا المختار

ما عاقب الليل على النهار

وآله معادن الرسالة

بهم يداوي علل الجهالة

خذها ودع عنك رموز الزامرة

كعادة تجلى عليك بارزة

تجمع كل ظاهر وخاف

في علمي العروض والقوافي (٢)

ولنكتف بهذا المقدار والمقصود عرض موجز من مشاطرتهم غيرهم في تتبّع العلوم وتطويرها.

____________

١ ـ كشف الظنون ١ / ١٣٢.

٢ ـ نحتفط منها بنسخة بخط السيد الامام الخميني 1 وفرغ من نسخها عام ١٣٤٦.


٥ ـ قدماء الشيعة وطرائف الشعر :

لا نريد من الشعر في المقام ، الألفاظ المسبوكة ، والكلمات المنضَّدة على أحد الأوزان الشعرية. وانّما نريد منه ما يحتوي على المضامين العالية ، في الحياة ويبث روح الجهاد في الإنسان أو الذي يشتمل على حجاج في الدين أو تبليغ للحق. وعلى مثل هذا الشعر بنيت الحضارة الإنسانية وهو مقياس ثقافة الاُمّة ورقيّها وله خلود عبر القرون لا تطمسه الدهور والأيّام.

فلو نرى في الذكر الحكيم ، تنديداً بالشعراء لقوله عزّوجلّ : ( والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون ) (١) فانّما يريد بها الشعراء المأجورين الذين يتغافرون بالأباطيل فيجعلون من الشعر تجارة ، ويصنعون من الظالم مظلوماً ، ومن المظلوم ظالماً ولأجل ذلك قال سبحانه : ( ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِى كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ * وأنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) (٢).

فإذا كان المراد من الشعراء هذه الطائفة المثلى ، الذين لا يقصدون بشعرهم وأدبهم وطرائفهم إلاّ ترويج الحق ودعمه ونشره في الملاء ، فنرى في الشيعة طبقة راقية منهم في القرون الاُولى وكان أئمة أهل البيت يقدّرون جهودهم ويرحبّون بهم بكل حفاوة كما نطق به التاريخ في حقّ الفرزدق وميميته وهاشميات الكميت ، وعينية الحميري وتائية دعبل ، لقد حظوا جميعاً بتقدير واحترام الأئمة وصار عملهم في هذا المجال اسوة الشيعة.

وإليك أسماء قليل من شعراء الشيعة مع ذكر ابيات من شعرهم الخالد.

__________________

١ ـ الشعراء / ٢٢٤.

٢ ـ الشعراء / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.


١ ـ قيس بن سعد بن عبادة :

وهو سيد الخزرج ، الصحابي الجليل ، كان زعيماً مطاعاً ، كريماً ممدوحاً ، وكان من شيعة علي 7 بعثه علي أميراً على مصر سنة ٣٦ وهو وأبوه وأهل بيته من الذين لم يبايعوا ابابكر وقالوا لا نبايع إلاّ عليّاً (١).

ومن أشعاره التي أنشدها بين يدي أميرالمؤمنين 7 :

قلتُ لمّا بغى العدو علينا

حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا الذي فتح البصر

ة بالأمس والحديث الطويل

يوم قال النبي من كنت مولا

ه فهذا مولاه خطب جليل

انّما قاله النبي على الاُمّة

حتم ما فيه قال وقيل (٢)

٢ ـ الكميت ( ٦٠ ـ ١٢٦ ) :

وهو الكميت بن زيد شاعر مقدم ، عالم بلغات العرب ، خبير بأيّامها من شعراء مضر. وكان معروفاً بالتشيّع لبني هاشم مشهوراً بذلك وقد حظى بتقدير الأئمة لا صحاره بالحق ، ولجهاده في سبيله ، وهاشمياته المقدّرة بـ ٥٧٨ بيتاً أخلد ذكراه في التاريخ وهي مشتملة على ميمية وبائية ورائية وغيرها.

وإليك أبياتاً من عينيته :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الولاية لو اُطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطراً مبيعا

__________________

١ ـ الطبري : التاريخ ٣ / ٤٦٢.

٢ ـ المفيد : الفصول المختارة ٨٧ ، الكراجكي : كنز الفوائد ٢٣٤ ، سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص ٢٠.


إلى أن قال :

أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا

وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه

بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لبني اُميّة حيث حلّوا

وإن خفت المهنَّد والقطيعا

ولقد طبع ديوان الكميت غير مرة وشرحه الاُستاذ محمّد شاكر الخياط والاُستاذ الرافعي (١).

٣ ـ السيد الحميري ( ت ١٧٣ ) :

أبو هاشم إسماعيل بن محمّد الملقّب بالسيد ، الشاعر المعروف ، ومن المكثرين المجيدين ، ومن الثلاثة الذين عدّوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم « السيّد » و« بشار » و« أبو العتاهية » وكان متفانياً في حبّ العترة الطاهرة فلم يكن يرى لمناوئيهم حرمة وقدراً وكان يشدّد النكير عليهم في كل موقف ويهجوهم بألسنة حداد في كل حول طول.

ومن قصائده المعروفة ، عينيته وقد شرحها عدة من الأدباء ومستهلّها :

لاُم عمرو باللوى مربَع

طامسة أعلامها بلقع

تروع عنها الطير وحشيَّة

والوحشُ من خيفته تفزعُ (٢)

٤ ـ دعبل الخزاعي ( ت ٢٤٦ ) :

أبو علي دعبل بن علي الخزاعي وهو من بيت علم وفضل وأدب ، يرجع نسبه

__________________

١ ـ إقرأ حياة الكميت في الغدير ٢ / ١٨٠ ـ ٢١٢.

٢ ـ إقرأ ترجمة السيد في الغدير ٢ / ٢١٣ ـ ٢٨٩.


إلى بديل بن ورقاء الخزاعي الذي دعا في حقّه النبيّ 6.

قال النجاشي : أبو علي الشاعر المشهور في أصحابنا ، صنّف كتاب طبقات الشعراء ومن أراد التوغّل في حياته وسيرته ، فليقرأ النواحي الأربعة من حياته :

١ ـ تهالكه في ولائه لأهل البيت :.

٢ ـ نبوغه في الشعر والأدب والتاريخ وتآليفه.

٣ ـ روايته للحديث والرواة عنه ومن يروي عنهم.

٤ ـ سيرته مع الخلفاء ثم ملحه ونوادره وثم ولادته ووفاته (١).

وإليك نزراً من تائيته المعروفة :

تجاوبن بالأرنان والزفراتِ

نوائح عجم اللفظ والنطقات

إلى أن يقول :

هم نقضوا عهد الكتاب و

فرضه ومحكمه بالزور والشبهات

ولم تك إلاّ محنة قد كشفتهم

بدعوى ضلال من هن وهنات

تراث بلا قربى وملك بلا هوى

وحكم بلا شورى بغير هدات

٥ ـ أبو فراس ( ٣٢٠ ـ ٣٥٧ ) :

أبو فراس الحرث ابن أبي العلاء قال الثعالبي : كان فرد دهره ، وشمس عصره ، أدباً وفضلا وكرماً ونبلا ومجداً وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة ، والسهولة والجزالة ، والعذوبة والفخامة ، والحلاوة والمتانة (٢).

__________________

١ ـ لاحظ حياته في الغدير ٢ / ٣٦٩ ـ ٣٦٨.

٢ ـ يتيمة الدهر ٢٧٠.


وتبعه في اطرائه والثناء عليه ابن عساكر.

ومن قصائده المعروفة الميمية. التي مستهلّها.

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول اللّه مقتسم

والناس عندك لا ناس فيحفظهم

سوم الرعاة ولا شاء ولا نعم

إلى أن قال :

ياللرجال أما للّه منتصر

من الطغاة أما للّه منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم

إلى أن قال :

ابلغ لديك بني العباس مالكة

لا يدَّعوا ملكها ملاّكها العجم

أيّ المفاخر أمست في منازلكم

وغيركم آمر فيها ومحتكم

أنّى يزيدكم في مفخر علم

وفي الخلاف عليكم يخفق العلم

يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم

لمعشرٍ بَيْعهم يوم الهياج دم (١)

ويطيب لي في المقام أن اُشير إلى أسماء بعض من أنجبتهم مدرسة أهل البيت في حلبة الشعر والأدب في القرن الرابع والخامس من اناس معدودين في القمّة فعلى القارئ الكريم أن يطالع عن حياتهم ويقرأ دواوينهم.

١ ـ ابن الحجاج البغدادي المتوفّى ٣٢١ صاحب القصيدة المعروفة :

يا صاحب القبّة البيضاء على النجف

من زار قبرك واستشفى لديك شفي

٢ ـ الشريف الرضي ٣٥٧ ـ ٤٠٦ الغني عن كل تعريف وبيان.

٣ ـ الشريف المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ وهو كأخيه أشهر من أن يعرّف.

٤ ـ مهيار الديلمي المتوفّى ٤٤٨ الذي هو في الرعيل الأوّل من شعراء القرن

__________________

١ ـ الغدير ٣ / ٣٩٩ ـ ٤٠١.


الرابع وله غديريات كثيرة منها :

هل بعد مفترق الأظغان مجتمع

أم هل زمان بهم قد فات يرتجع

هذا عرض موجز لبعض الشعراء البارزين من الشيعة وفيه كفاية لمن أراد الاجمال وأمّا من أراد التوسّع فليرجع إلى الكتب التالية :

١ ـ الأدب في ظلّ التشيّع للشيخ عبداللّه نعمة.

٢ ـ تأسيس الشيعة : للسيّد حسن الصدر. الفصل السادس.

٣ ـ الغدير للعلاّمة الأميني بأجزائه الأحد عشر.

٦ ـ قدماء الشيعة وعلم التفسير :

إنّ القرآن هوالمصدر الرئيسي للمسلمين في مجالي العقيدة والشريعة ، وهو المعجزة الخالدة للنبي الأكرم ، وقد قام المسلمون بأروع الخدمات لهذا الكتاب الإلهي على وجه لا تجد له مثيلا بين أصحاب الشرائع السابقة ، حتّى أسّسوا لفهم كتابهم علوماً قد بقي في ظلّها القرآن مفهوماً للأجيال ، كما قاموا بتفسيره وتبيين مقاصده بصور شتى ، لا يسع المقام لذكرها. فأدّوا واجبهم تجاه كتاب اللّه العزيز ـ شكر اللّه مساعيهم ـ من غير فرق بين الشيعة والسنّة.

إنّ مدرسة الشيعة منذ أن ارتحل النبيّ الأكرم إلى يومنا هذا ، أنتجت تفاسيراً على أصعدة مختلفة ، وخدمت الذكر الحكيم بصور شتّى ، فأتى بوجه موجز ، لما اُلّف في القرون الإسلامية الاُولى.

إنّ أئمّة أهل البيت ـ بعد الرسول الأكرم ـ هم المفسّرون للقرآن الكريم حيث فسّروا القرآن ، بالعلوم التي نحلهم الرسول بأقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم التي لا تشذّ عن قول الرسول وفعله وحجته ، ومن الظلم الفادح أن نذكر الصحابة والتابعين في عداد المفسّرين ولا نعترف بحقوق أئمّة أهل البيت إلاّ شيئاً لا يذكر.


هذا هو الدكتور محمّد حسين الذهبي ، جعل عليّاً ـ وهو الوصي وباب علم النبي ـ في الطبقة الثالثة من حيث نقل الرواية عنه ، وجعل تلميذه ابن عباس في الدرجة الاُولى (١) ولم يذكر عن بقية الأئمّة شيئاً مع ما نقل عنهم في مجال التفسير من الروايات الوافرة.

ارتحل النبيّ الأكرم وعكف المسلمون على دراسة القرآن وأوّل ما فوجئوا به ، هو قصور باع لفيف منهم عن فهم بعض ألفاظ القران. والقرآن وإن نزل بلغة الحجاز ، لكن يوجد فيه ألفاظ غير رائجة فيها وربّما كانت رائجة بين القبائل الاُخرى ، وهذا النوع من الألفاظ ما سمّوه « غريب القرآن » وقد سأل ابن الأزرق ـ رأس الخوارج ـ ابن عباس عن شيء كثير من غريب القرآن وأجاب عنه مستشهداً بشعر العرب الأقحاح وقد جمعها السيوطي في اتقانه (٢).

وبما أنّ تفسير غريب القرآن كان الخطوة الاُولى لتفسيره ، ألّف أصحابنا في أبان التدوين كتباً في ذلك المضمار ، نذكر قليلا من كثير.

١ ـ غريب القرآن : لأبان بن تغلب بن رباح البكري ( ت ١٤١ ) (٣).

٢ ـ غريب القرآن : لمحمّد بن السائب الكلبي من أصحاب الامام الصادق 7 (٤).

٣ ـ غريب القرآن : لأبي روق ، عطية بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي ، قال ابن عقدة : كان ممّن يقول بولاية أهل البيت (٥).

__________________

١ ـ الذهبي : التفسير والمفسّرون ١ / ٨٩ ـ ٩٠.

٢ ـ السيوطي : الاتقان ٤ / ٥٥ ـ ٨٨.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧٣ برقم ٦.

٤ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧٨ برقم ٦.

٥ ـ ابن النديم : الفهرست ٥٧ ، النجاشي : الرجال ١ / ٧٨.


٤ ـ غريب القرآن : لعبد الرحمان بن محمّد الأزدي الكوفي ، جمع فيه ما ورد في الكتب الثلاثة المتقدّمة (١).

٥ ـ غريب القرآن : للشيخ ابن جعفر أحمد بن محمّد الطبري الآملي الوزير الشيعي المتوفّى عام ٣١٣ (٢).

وقد توالى التأليف حول غريب القرآن في القرون الماضية ، فبلغ العشرات أخيرها ـ لا آخرها ـ ما ألّفه السيد محمّد مهدي الخرسان في جزأين (٣).

مجازات القرآن :

إذا كان الهدف من هذه الكتب بيان معاني مفرداته وألفاظه ، هناك لون آخر من التفسير يهدف لبيان مقاصده ومعانيه إذا كانت الآية مشتملة على المجاز والكناية والاستعارة. ونأتي بنماذج قليلة ممّا اُلّف في ذلك المجال بيد أعلام الشيعة :

١ ـ مجاز القرآن : لشيخ النحاة الفراء يحيى بن زياد الكوفي المتوفّى عام ٢٠٧ ، وقد طبع أخيراً في جزأين (٤).

٢ ـ مجاز القرآن : لمحمّد بن جعفر أبو الفتح الهمداني. قال النجاشي : له كتاب « ذكر المجاز من القرآن » (٥).

٣ ـ مجازات القرآن : للشريف الرضي المسمّى بتلخيص البيان في مجازات القرآن ، وهو أحسن ما اُلّف في هذا الباب وهو مطبوع.

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧٨.

٢ ـ ابن النديم : الفهرست ٥٨.

٣ ـ الطهراني آغا بزرگ : الذريعة ١٦ / ٥٠ برقم ٢٠٨.

٤ ـ الطهراني آغا بزرگ : الذريعة ١٩ / ٣٥١ برقم ١٥٦٧.

٥ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣١٩ برقم ١٠٥٤


التفسير بصور متنوّعة :

وهناك لون آخر من التفسير ، يندفع المفسّر إلى توضيح قسم من الآيات تجمعها صلة خاصة كالمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ، وآيات الاحكام ، وقصص الأنبياء ، وأمثال القرآن ، وأقسامه ، والآيات الواردة في مغازي النبي 6 والنازلة في حق العترة الطاهرة : إلى غيرها من الموضوعات التي لا تعم جميع آيات القرآن ، بل تختص بموضوع واحد.

فقد خدمت الشيعة كتاب اللّه العزيز بهذه الأنواع من التفاسير ، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى المعاجم ، وأخص بالذكر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة.

الشيعة والتفسير الموضوعي

إنّ نزول القرآن نجوماً وتوزّع الآيات الراجعة إلى موضوع واحد ، في سور متعدّدة ، يطلب لنفسه نمطاً آخر ، غير النمط المعروف بالتفسير الترتيبي ، فإنّ النمط الثاني ، يتّجه إلى تفسير القرآن سورة بعد سورة ، وآية بعد آية ، وأمّا النمط الأوّل فيحاول فيه المفسّر إيراد الآيات الواردة في موضوع خاص ، في مجال البحث ، وتفسير الجميع جملة واحدة وفي محل واحد.

فيستمدّ المفسّر من المعاجم المؤلّفة حول القرآن ، ومن غيرها في الوقوف على الآيات الواردة ، مثلاً في خلق السماء والأرض ، أو الإنسان أو أفعاله وحياته الاُخروية ، فيفسّر المجموع مرة واحدة ، ويرفع ابهام آية ، بآية اُخرى ، ويخرج بنتيجة واحدة وهذا النوع من التفسير وإن لم يهتم به القدماء واكتفوا منه بتفسير بعض الموضوعات كآيات الاحكام ، والناسخ والمنسوخ ، إلاّ أنّ المتأخّرين منهم ، بذلوا جهدهم في طريقه ، ولعلّ العلاّمة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١٠ ) أوّل من فتح


هذا الباب على مصراعيه في موسوعته « بحارالأنوار » ، حيث يورد في أوّل كل باب الآيات الواردة حوله ثمّ يفسّرها اجمالا ، وبعد الفراغ منها ، ينتقل إلى الأحاديث التي لها صلة بالباب.

وقد قام كاتب هذه السطور بتفسير الآيات النازلة حول العقائد والمعارف وخرج منه حتّى الآن سبعة أجزاء وانتشر باسم « مفاهيم القرآن » ولقي اقبالاً واسعا ، أساله سبحانه أن يوفّقني لا تمامه.

الشيعة والتفسير الترتيبي :

قد تعرّفت على أنّ المنهج الراسخ بين القدماء وأكثر المتأخّرين هو التفسير الترتيبي ، وقد قام فضلاء الشيعة من صحابة الامام علي والتابعين له إلى العصر الحاضر ، بهذا النمط من التفسير إمّا بتفسير جميع سوره ، أو بعضها والغالب على التفاسير المعروفة في القرون الثلاثة الاُولى ، هو التفسير بالأثر ، ولكن انقلب النمط إلى التفسير العلمي والتحليلي من أواخر القرن الرابع. فأوّل من ألف من الشيعة على هذا المنهاج هو الشريف الرضي ( ٣٥٧ ـ ٤٠٦ ) مؤلّف كتاب « حقائق التأويل » في عشرين جزءاً (١) ثمّ جاء بعده أخوه الشريف المرتضى فسلك مسلكه في أماليه المعروفة بالدرر والغرر. ثمّ توالى التأليف على هذا المنهاج من عصر الشيخ الأكبر الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) مؤلّف « التبيان في تفسير القرآن » في عشرة أجزاء كبار ، إلى عصر هذا.

فقد قامت الشيعة في كل قرن بتأليف عشرات التفاسير وفق أساليب متنوّعة ،

__________________

١ ـ وللأسف لم توجد منه نسخة كاملة في عصرنا الحاضر إلاّ الجزء الخامس وهو يكشف عن عظمة هذا السفر ويدل على جلالة المؤلّف.


ولغات متعدّدة. لا يحصيها إلاّ المتوغّل في المعاجم ورفوف المكتبات.

ولقد فهرسنا على وجه موجز أسماء مشاهير المفسّرين من الشيعة وأعلامهم في ١٤ قرناً ، وفصلنا كل قرن عن القرن الآخر واكتفينا بالمعروفين ، لأنّ ذكر غيرهم عسير ومحوج إلى تأليف حافل. فبلغ عددهم ١٢٢ مفسّرا. ومن أراد الالمام بذلك فعليه الرجوع إلى المقدمة التي قدّمناها لتفسير التبيان للشيخ الطوسي ولأجل ذلك نطوي الكلام في المقام.

٧ ـ قدماء الشيعة وعلم الحديث :

إنّ السنّة هو المصدر الثاني للثقافة الإسلامية بجميع مجالاتها ولم يكن شيء أوجب بعد كتابة القرآن وتدوينه وصيانته من نقص وزيادة ، من كتابة حديث الرسول وتدوينه وصيانته من الدس والدجل وقد أمر به الرسول غير مرة ، روى الامام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه انّه قال للنبي : يا رسول اللّه أكتب كل ما أسمع منك؟ قال : نعم. قلت : في الرضا والسخط؟ قال 6 : نعم فانّه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلاّ حقّا (١).

إنّ اللّه سبحانه أمر بكتابة الدَّين حفظاً له ، واحتياطاً عليه واشفاقاً من دخول الريب فيه فالعلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدَّين أحرى بأن يكتب ويحفظ من دخول الريب والشك فيه (٢).

فإذا كان النبي 6 لا ينطق عن الهوى وانّما ينطق عن

__________________

١ ـ مسند أحمد ٢ / ٢٠٧.

٢ ـ الخطيب البغدادي : تقييد العلم ٧٠.


الوحي الذي يوحى إليه (١) فيجب حفظ كلمه وأفعاله وتقريره. حتّى تصدر الاُمة عنها ويستغني المسلم عن المقاييس الظنّية والاستنباطات الذوقية.

وبالرغم من وضوح الأمر وانّه كان من واجب ووظيفة المسلمين الاهتمام بدراسة سنّة النبيّ 6 وتدوينها. حالت الخلافة دون ذلك فأصبحت كتابة السنّة جريمة لا تغتفر حتّى انّ الخليفة الثاني قال لأبي ذرّ وعبداللّه بن مسعود وأبي الدرداء : « ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد؟ » (٢).

ولقد أضحى عمل الخليفة سنّة فاتّبعه عثمان ومشى على خطاه معاوية ، فأصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية وعُدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.

إنّ الرزيّة الكبرى هي المنع عن التحدّث بحديث رسول اللّه 6 وكتابته وتدوينه ، وفسح المجال في نفس الوقت للرهبان والأحبار للتحدّث بما عندهم من صحيح وباطل ، ولقد أذن عمر لتميم الداري النصراني الذي استسلم في عام ٩ من الهجرة أن يقص (٣).

ولمّا تسنّم عمر بن عبدالعزيز منصب الخلافة ، أدرك ضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة ، أن يقوم بتدوين الحديث قائلا : إنّ العلم لا يهلك حتّى يكون سرّا (٤).

ومع ذلك فلم يقدر ابن حزم على القيام بما أمر به الخليفة. لأنّ رواسب الحظر

__________________

١ ـ اقتباس عن قوله سبحانه : ( ما ضَلَّ صاحبُكُم وما غوى * وما ينطقُ عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى ) ـ النجم / ٢ ـ ٤.

٢ ـ كنز العمال ١٠ / ٢٩٣ برقم ٢٩٤٧٩. وفيه : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول اللّه الآفاق؟

٣ ـ كنز العمال ١٠ / ٢٨١.

٤ ـ صحيح البخاري ١ / ٢٧.


السابق المؤكد من قبل الخلفاء ، حالت دون اُمنيته إلى أن زالت دولة الاُمويين وجاءت دولة العباسيين. فقام المسلمون بتدوين الحديث في عصر أبي جعفر المنصور سنة ١٤٣. وأنت تعلم انّ الخسارة التي لحقت بالتراث الاسلامي من منع تدوين السنّة لا تجبر بتدوينه بعد مضي قرن ونيّف ، وبعد موت الصحابة وكثير من التابعين الذين رأوا النور وسمعوا منه الحديث. ولم يحدثوا ما سمعوه إلاّ سرّاً ومن ظهر القلب إلى مثله.

أضف إلى ذلك أنّ الأحبار والرهبان والمأجورين للبلاط الأموي نشروا كل كذب وافتراء بين المسلمين.

اهتمام الشيعة بتدوين الحديث :

قام الامام أميرالمؤمنين علي 7 بتأليف عدة كتب في زمان النبي ، فقد أملى رسول اللّه كثيراً من الأحكام عليه وكتبها الامام واشتهر بكتاب علي وقد روى عنه البخاري في صحيحه في باب « كتابة الحديث » (١) وباب « أثم من تبرّأ من مواليه » (٢) وقد تبعه ثلّة من الصحابة الذين كانوا شيعة الامام وإليك أسماء من اهتمّ بتدوين الآثار وما له صلة بالدين وإن لم يكن حديث الرسول.

١ ـ قام أبو رافع صحابي الرسول 6 بتدوين كتاب السنن والأحكام والقضايا (٣).

٢ ـ قام الصحابي الكبير سلمان الفارسي المتوفى سنة ٣٤ بتأليف كتاب حديث

__________________

١ ـ صحيح البخاري ١ / ٢٧ كتاب العلم.

٢ ـ صحيح البخاري ٨ كتاب الفرائض الباب ٢٠ ص ١٥٤.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٦٤ برقم ١.


الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد وفاة الرسول 6 قال الشيخ الطوسي : روى سلمان حديث الجاثليق الذي بعثه ملك الروم بعد النبي 6 (١).

٣ ـ وألّف الصحابي الورع أبو ذر الغفاري المتوفّى سنة ٣٢ كتاب الخطبة يشرح فيها الاُمور بعد رسول اللّه 6 (٢).

هذا ما يرجع إلى الصحابة من الشيعة وأمّا الشيعة من غير الصحابة أعني التابعين وتابعي التابعين منهم ، فقد قام لفيف منهم بتدوين السنّة إلى عصر الغيبة الكبرى ، قد تكفّل بذكرهم وتآليفهم معاجم الرجال قديماً وحديثاً وإليك عرضاً موجزاً من محدّثي الشيعة وموّلّفيهم في القرن الأوّل وبداية الثاني.

الطبقة الاُولى :

١ ـ الأصبغ بن نباتة المجاشعي ، كان من خاصة أميرالمؤمنين 7 روى عنه 7 عهد الأشتر ، ووصيته إلى ابنه محمّد (٣).

٢ ـ عبيداللّه بن أبي رافع ، المدني ، مولى النبي 6 ، كان كاتب أميرالمؤمنين 7 ، له كتاب قضايا أميرالمؤمنين 7 وتسمية من شهد مع أميرالمؤمنين الجمل وصفين والنهروان (٤).

٣ ـ ربيعة بن سميع ، له كتاب في زكاة النعم عن أميرالمؤمنين 7 (٥).

__________________

١ ـ الطوسي : الفهرست ٨.

٢ ـ الطوسي : الفهرست ٥٤.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧٠ برقم ٤.

٤ ـ الطوسي : الفهرست ١٠٧.

٥ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٦٧ برقم ٢.


٤ ـ سليم بن قيس الهلالي : أبو صادق ، له كتاب وهو مطبوع باسم كتاب سليم بن قيس.

٥ ـ علي بن أبي رافع ، قال النجاشي : ولابن أبي رافع كتاب آخر ، وهو علي بن أبي رافع ، تابعي من خيار الشيعة ، كانت له صحبة من أميرالمؤمنين 7 ، وكان كاتباً له ، حفظ كثيراً ، وجمع كتاباً في فنون من الفقه : الوضوء ، والصلاة ، وسائر الأبواب (١).

٦ ـ عبيداللّه بن الحر الجعفي ، الفارس ، الفاتك ، الشاعر ، له نسخة يرويها عن أميرالمؤمنين 7 (٢).

٧ ـ زيد بن وهب الجهني ، له كتاب خطب أميرالمؤمنين 7 على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها (٣).

الطبقة الثانية :

١ ـ الامام السجاد زين العابدين 7 ، له الصحيفة الكاملة ، المشتهرة بزبور آل محمّد :.

٢ ـ جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي ، أبو عبداللّه ، المتوفّى سنة ١٢٨ ، له كتب (٤).

٣ ـ زياد بن المنذر ، الضعيف ، كان مستقيماً ثم انحرف ، له أصل ،

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٦٥ برقم ١.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٧١ برقم ٥.

٣ ـ الطوسي : الفهرست ٧٢.

٤ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣١٣ برقم ٣٣٠.


وله كتاب التفسير (١).

٤ ـ لوط بن يحيى بن سعيد ، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ، له كتب كثيرة ، أورده الشيخ في رجاله (٢) في أصحاب الحسن والصادق 8.

٥ ـ جارود بن منذر الثقة ، أورده الشيخ في أصحاب الحسن والباقر والصادق : ، له كتب (٣).

الطبقة الثالثة :

وهم من أصحاب السجاد والباقر 8 :

١ ـ برد الاسكاف ، من أصحاب السجاد والصادقين : ، له كتاب (٤).

٢ ـ ثابت بن دينار ، أبو حمزة الثمالي الأزدي ، الثقة ، المتوفّى سنة ١٥٠ روى عنهم : ، له كتاب ، وله النوادر والزهد ، وله تفسير القرآن (٥).

٣ ـ ثابت بن هرمز ، الفارسي ، أبو المقدم العجلي ، مولاهم الكوفي ، روى نسخة عن علي بن الحسين 8 (٦).

٤ ـ بسام بن عبداللّه ، الصيرفي ، مولى بني أسد ، أبو عبداللّه ، روى عن

__________________

١ ـ الطوسي : الفهرست ٧٢.

٢ ـ الطوسي : الرجال ٢٧٩ من أصحاب الصادق 7 ولاحظ تعليقة المحقق.

٣ ـ الطوسي : الرجال ١١٢ في أصحاب الباقر 7.

٤ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٨٤ برقم ٢٨٩.

٥ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٨٩ برقم ٢٩٤.

٦ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٩٢ برقم ٢٩٦.


أبي جعفر وأبي عبداللّه 8 ، له كتاب (١).

٥ ـ محمّد بن قيس البجلي ، له كتاب قضايا أميرالمؤمنين 7 (٢).

٦ ـ حجر بن زائدة الحضرمي ، روى عن الباقر والصادق 8 ، له كتاب (٣).

٧ ـ زكريا بن عبداللّه الفياض ، له كتاب (٤).

٨ ـ ثوير بن أبي فاختة « أبو جهم الكوفي » ، واسم أبي فاختة : سعيد بن علاقة (٥).

٩ ـ الحسين بن ثور بن أبي فاختة سعيد بن حمران ، له كتاب نوادر (٦).

١٠ ـ عبدالمؤمن بن القاسم بن قيس ، الأنصاري ، المتوفّى سنة ١٤٧ ، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب السجّاد والصادقين : ، له كتاب (٧).

ولقد خصّص أبو عمرو الكشّي باباً للمحدّثين المتقدّمين من الشيعة وجعله في صدر رجاله ، وتبعه النجاشي في رجاله فخصّ الطبقة الاُولى بباب ثمّ أورد أسماء الرواة على حسب الأحرف الهجائية.

ولقد أجاد الشيخ الطوسي في التعرّف على طبقات الشيعة بعد رسول اللّه 6 إلى عصره فذكر الأئمّة الاثني عشر ، وذكر أصحاب كل إمام

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٨٢ برقم ٢٨٦.

٢ ـ الطوسي : الفهرست ١٣١.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٤٧ برقم ٣٨٢.

٤ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٩١ برقم ٤٥٢.

٥ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٩٥ برقم ٣٠١.

٦ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٦٦ برقم ١٢٤.

٧ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٦٨ برقم ٦٥٣.


وفق الترتيب الزمني ، ثمّ ذكر باباً آخر باسم من لم يرهم ولكن روى عنهم بالواسطة.

وأحسن كتاب اُلّف في هذا المجال هو ما ألّفه اُستاذنا الجليل السيد النحرير المحقق البروجردي الذي أخرج رجال الشيعة في ٣٤ طبقة ، من عصر الصحابة إلى زمانه ( ١٢٩٢ ـ ١٣٨٠ ) فهذا الكتاب يكشف عن سبق الشيعة في نظم الحديث وتدوينة ، وأنّهم لم يقيموا لمنع الخلفاء وزناً ولا قيمة. وبذلك حفظوا نصوص النبي الأكرم وأهل بيته وقدّموها إلى المجتمع الاسلامي ، فعلى جميع علماء المسلمين أن يتمسّكوا بهذا الحبل الذي هو أحد الثقلين.

هذا عرض موجز لمحدّثي الشيعة إلى عصر السجاد والباقر 8 وأمّا الطبقات الاُخرى فيأتي الكلام في فصل قدماء الشيعة والفقه لأنّهم تجاوزوا عن التحديث إلى درجة الاجتهاد.

٨ ـ قدماء الشيعة والفقه الاسلامي :

إنّ الفقه الشيعي هو الشجرة الطيّبة ، الراسخة الجذور ، المتّصلة الاُسس بالنبوّة ، امتازت بالسعة والشمولية ، والعمق ، والدقّة ، والقدرة على مسايرة العصور المختلفة ، والمستجدّات من دون أن تتخطّى عن الحدود المرسومة في الكتاب والسنّة.

إنّ الفقه الامامي يعتمد في الدرجة الاُولى على القرآن الكريم ثمّ على السنّة المحمدية المنقولة عن النبي 6 عن طريق العترة الطاهرة : أو الثقات من أصحابه والتابعين لهم باحسان.

وكما يعتمد الفقه الشيعي على الكتاب والسنّة كذلك يتّخذ من العقل مصدراً في المجال الذي له الحق في ابداء الرأي. كأبواب الملازمات العقلية أو قبح التكليف بلا بيان أو لزوم البراءة اليقينية عند الاشتغال اليقيني.


ولا يكتفي بذلك بل يستفيد من الاجماع في الاستنباط ولكن الاجماع المفيد هو الكاشف عن وجود النص في المسألة أو موافقة الامام المعصوم مع المجمعين في عصر الحضور.

إنّ الشيعة الامامية قدّمت في ظلّ هذه الاُسس الأربعة فقهاً يتناسب مع المستجدّات ، جامعاً لما تحتاج إليه الاُمّة ولم يقفل باب الاجتهاد ، منذ رحلة النبي إلى يومنا هذا. بل فتح بابه طيلة القرون فأنتج عبر العصور فقهاءً عظاماً ، وموسوعات كبارا. لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلاً وإليك عرضاً موجزاً لمشاهير فقهائهم والايعاز إلى بعض كتبهم في القرون الأولى.

فقهاء الشيعة في القرنين الأوّلين :

تخرّجت من مدرسة أهل البيت وعلى أيدي أئمة الهدى عدة من الفقهاء العظام لا يستهان بهم فبلغوا الذروة في الاجتهاد كزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم الطائفي ، وبريد بن معاوية ، والفضيل بن يسار ، وكلّهم من أفاضل خريجي مدرسة أبي جعفر الباقر وولده الصادق 8. فأجمعت العصابة على تصديق هؤلاء وانقادت لهم في الفقه والفقاهة.

ويليهم في الفضل لفيف آخر ، هم أحداث خريجي مدرسة أبي عبداللّه الصادق نظراء جميل بن دراج ، وعبداللّه بن مسكان ، وعبداللّه بن بكير ، وحماد بن عثمان ، وحماد بن عيسى ، وأبان بن عثمان.

وهناك ثلة اُخرى يعدّون من تلاميذ مدرسة الامام موسى الكاظم وابنه أبي الحسن الرضا 8 نظراء يونس بن عبدالرحمان ، ومحمّد بن أبي عمير ، وعبداللّه بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، والحسين بن علي بن فضال ، وفضالة


ابن أيوب (١).

أكثر هؤلاء من فقهاء أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.

هؤلاء أعلام الشيعة في الفقه والحديث في القرنين الأوّلين وكلّهم خريجو مدرسة أهل البيت : ولقد خلّفوا آثاراً علمية باسم الأصل ، والكتاب ، والنوادر ، والجامع ، والمسائل وعناوين اُخرى.

أصحاب الجوامع الفقهية في القرن الثالث :

لم تزل تنجب مدرسة أهل البيت : في القرن الثالث فقهاءاً كباراً ألّفوا جوامع فقهية. نشير إلى بعضهم :

١ ـ يونس بن عبدالرحمان ، ولقد وصفه ابن النديم في فهرسته بعلاّمة زمانه ، له جوامع الآثار والجامع الكبير ، وكتاب الشرائع.

٢ ـ صفوان بن يحيى البجلي ، الذي كان أوثق أهل زمانه وصنّف ٣٠ كتابا.

٣ و ٤ ـ الحسن والحسين ابنا سعيد بن حماد الأهوازي ، صنّفا الكتب الثلاثين.

٥ ـ أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، المتوفّى ٢٧٤ صاحب كتاب المحاسن وغيره.

٦ ـ محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمّي ، صاحب نوادر الحكمة المتوفّى حوالي ٢٩٣. صاحب الجامع المعروف.

٧ ـ أحمد بن محمّد أبي نصر البزنطي ، المتوفّى ٢٢١ ، صاحب الجامع

__________________

١ ـ أبو عمرو الكشي : الرجال ٢٠٦ ـ ٣٢٢ ـ ٤٦٦ ، وراجع رجال النجاشي في ترجمتهم وذكر آثارهم ومنزلتهم في الفقه.


المعروف.

فقهاء الشيعة في القرن الرابع :

هؤلاء هم فقهاء الشيعة في القرن الثالث ويليهم عدة اُخرى في القرن الرابع نذكر أسماءهم على وجه الاجمال :

١ ـ الحسن بن علي بن أبي عقيل شيخ الشيعة وفقيهها صاحب كتاب المتمسك بحبل آل الرسول.

٢ ـ علي بن الحسين بن بابويه ، المتوفّى ٣٢٩ ، صاحب كتاب الشرائع.

٣ ـ محمّد بن الحسن بن الوليد القمي ، جليل القدر ، شيخ القميين وفقيههم ومتقدّمهم مات سنة ٣٤٣ ولقد بلغ في الوثاقة والدقة على حد يسكن إليها الشيخ الصدوق في تصحيحاته وتضعيفاته.

٤ ـ جعفر بن محمّد بن قولويه. اُستاذ الشيخ الصدوق مؤلّف كامل الزيارات ، يقول النجاشي : إنّه من ثقات أصحابنا وأجلاّئهم في الفقه والحديث. توفّي عام ٣٦٩.

٥ ـ محمّد بن علي بن الحسين الصدوق ٣٠٦ ـ ٣٨١ ، مؤلّف من لا يحضره الفقيه والمقنع والهداية.

٦ ـ محمّد بن أحمد بن الجنيد المعروف بالاسكافي ، المتوفّي سنة ٣٨٥.

قال النجاشي : وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنّف فأكثر ، ثمّ ذكر فهرس كتبه ومنها كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة. وكتاب الأحمدي للفقه المحمّدي.

مشاهير الفقهاء في القرن الخامس :

وفي القرن الخامس نبغ فقهاء كبار ، احتفل الفقه الشيعي بل الاسلامي


بأسمائهم وآرائهم كالشيخ المفيد ٣٣٦ ـ ٤١٣ والسيد المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ والشيخ الكراجكي ٤٤٩ والشيخ الطوسي ٣٨٥ ـ ٤٦٠ وسلار الديلمي مؤلف المراسم ، وابن البراج ٤٠١ ـ ٤٨٩ مؤلف المهذب ، وغيرهم الذين ملأت أسماؤهم كتب التراجم والرجال ، ومن أراد الوقوف على حياتهم وكتبهم فعليه بالرجوع إلى الموسوعات الرجالية وأخص بالذكر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة.

هذا عرض موجز لمشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية على المستوى الفقهي. وبعين اللّه انّ علماء الشيعة قاموا بهذه الجهود في ظروف قاسية ورهيبة ، وكانت الحكومات ومرتزقة البلاط تطاردهم وتسجنهم وتقتلهم ومع ذلك نرى هذا الانتاج العلمي الهائل في مجال الفقه. ولو وقف عليها علماء الإسلام لا ندهشوا من سعة الفكر ، وعمق النظر ، وغزارة الانتاج.

هذا هو الشيخ الطوسي الذي ألّف المبسوط في الفقه المقارن في ٨ أجزاء في زمن كانت نار الحرب مشتعلة على الشيعة ولقد أحرقت داره ، ومكتبته في كرخ بغداد فالتجأ سرّاً إلى النجف الأشرف تاركاً بلده الذي عاش فيه قرابة نصف قرن ، وأين هؤلاء من الفقهاء الذين تنعّموا بالهدوء والاستقرار ، واستقبلتهم السلطات الحاكمة بصدر رحب ، واُجيزوا بازاء شعر أو كتيب أو رسالة صغيرة بالهبات والعطايا.

٩ ـ قدماء الشيعة وعلم اُصول الفقه :

إنّ السنّة النبوية بعد القرآن الكريم هي المصدر للتشريع ، وقد سبق أنّ الخلاقة ـ بعد رحلة الرسول ـ حالت دون تحديث ما تركه بين الاُمة ، وكتابته وتدوينه. فلم تدوّن السنّة إلى عصر أبي جعفر المنصور إلاّ صحائف غير منظّمة ولا مرتّبة إلى أن


شرع علماء الإسلام في التدوين سنة ٥٣ (١).

إنّ الحيلولة بين السنّة وتدوينها ونشرها أدّت إلى نتائج سلبية عظيمة منها قصور ما وصل إلى الفقهاء في ذلك العصر صحيحاً من الرسول ، عن تلبية متطلّباتهم في مجال الأحكام. حتّى اشتهر عن امام الحنفية أنّه لم يثبت عنده من أحاديث الرسول في مجال التشريع إلاّ سبعة عشر حديثا.

نحن لا نوافق مع ما حكي عن النعمان ولكن نؤكّد على شيء وآخر ، وهو أنّ ما ورد في مجموع الصحاح والمسانيد والسنن الأعم من الصحيح والضعيف في مجال الأحكام الشرعية ، لا يتجاوز ٥٠٠ حديثاً ، قال السيد محمّد رشيد رضا : إنّ أحاديث الأحكام الاُصول لا تتجاوز ٥٠٠ حديثاً تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر (٢).

ويقول أيضاً في تفسيره : يقولون انّ مصدر القوانين ، الاُمة ، ونحن نقول بذلك ، في غير المنصوص في الكتاب والسنّة. كما قرّره الامام الرازي والمنصوص قليل جدّاً (٣).

وما ذكره من قضية الامداد ، يوحي إلى الموقوفات عن الصحابة من دون أن يثبت صدورها عن النبي 6 فهذه الموقوفات تعرب عن اجتهادات الصحابة في المسألة. ومن المعلوم انّ قول الصحابي لا يكون حجّة إلاّ إذا نسبه إلى الرسول.

هذا وأنّ الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفّى ٨٥٢ جمع كل ما ورد في

__________________

١ ـ جلال الدين السيوطي : تاريخ الخلفاء ٢٦١.

٢ ـ الوحي المحمّدي ، الطبعة السادسة ٢١٢ ، نعم أنهاه ابن حجر في كتابه « بلوغ المرام » إلى ١٥٩٦ لكن كثيراً منها لا يتضمّن حكماً شرعياً وانّما هي أحاديث أخلاقية وغيرها فلاحظ.

٣ ـ المنار ٥ / ١٨٩.


مجال التشريع في كتاب أسماه بلوغ المرام من أدلّة الأحكام (١) وهو كتاب صغير جدّاً.

إنّ افتقاد النص في مجال التشريع الذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة الرسول ، هو الذي دعاهم إلى التفحّص عن حلول لهذه الأزمة حتّى تسد حاجاتهم الفقهية فعكفوا على المقاييس الظنية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان كالقياس ، والاستقراء ، والاستحسان ، وسد الذرائع ، وسنّة الخلفاء ، أو سنّة الصحابة ، أو رأي أهل المدينة إلى غير ذلك من القواعد وأسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية ، وقد جاء ذلك نواة لتأسيس علم اُصول الفقه بصورة مختصرة نمت ونضجت في الأجيال.

وأمّا الشيعة حيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول بعد وفاته لوجود باب علم النبي ، علي 7 والأئمة المعصومين بين ظهرانيهم فلم تكن هناك أية حاجة للعمل بتلك المقاييس وبالتالي لم يكن هناك أي دافع للاتّجاه نحو اُصول الفقه.

نعم لمّا كان الإسلام ديناً عالمياً والنبيّ 6 خاتم الأنبياء ، والاُصول والسنن مهما كثرت لا يمكن أن تلبّي بحرفيتها حاجات المسلمين إلى يوم القيامة ، انبرى أئمّة أهل البيت إلى املاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النص أو اجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات التي يواجه بها الفقيه. وتلك الاُصول هي التي تشكّل أساساً لعلم اُصول الفقه ولقد جمعها عدّة من الأعلام في كتاب خاص أفضلها الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة للشيخ المحدث الحر العاملي المتوفّي ١١٠٤.

فلو تأخّرت الشيعة في تدوين مسائل اُصول الفقه فانّما لأجل ذاك الغنى الذي

__________________

١ ـ بلوغ المرام من أدلة الأحكام ، طبع مصر تحقيق محمّد حامد الفقي.


عرفت ، ومع ذلك نرى انّ لفيفاً من صحابة الأئمّة درسوا بعض مسائل اُصول الفقه نظير :

١ ـ هشام بن الحكم المتوفّى سنة ١٩٩ ، صنّف كتاب الألفاظ (١).

٢ ـ يونس بن عبدالرحمان ، صنّف كتاب اختلاف الحديث ومسائله. وهو مبحث تعارض الحديثين (٢).

٣ ـ إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت ٢٣٧ ـ ٣١١.

قال النجاشي : كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وذكر مصنّفاته وعدّ منها كتاب الخصوص والعموم (٣) وذكره ابن النديم في فهرسته وعدّ من مصنّفاته كتاب ابطال القياس. وكتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي (٤).

٤ ـ أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من علماء القرن الثالث له كتاب الخصوص والعموم والخبر الواحد والعمل به (٥).

٥ ـ أبو منصور صرام النيشابوري من علماء القرن الثالث وأوائل الرابع له ابطال القياس (٦).

٦ ـ محمّد بن أحمد بن داود بن علي المتوفّى عام ٣٦٨ قال النجاشي : شيخ

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٩٨ برقم ١١٦٥ وهو مردد بين كونه كتاب لغة أو أدب ، أو كونه باحثاً عن الألفاظ التي يستخدمها الفقيه في استنباط الأحكام لكون الأمر للوجوب والمرّة والتكرار أو الفورية والتأخير إلى غير ذلك.

٢ ـ الطوسي : الفهرست ٢١١ برقم ٨١٠ والنجاشي ٢ / ٤٢٠.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٢١ برقم ٦٧.

٤ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٥ طبع مطبعة الاستقامة القاهرة.

٥ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٨٠ ـ ١٨١ برقم ١٤٦.

٦ ـ الطوسي : الفهرست قسم الكنى ٣٨١ برقم ٥٨٨.


هذه الطائفة وعالمها له كتاب الحديثين المختلفين (١).

٧ ـ محمّد بن أحمد بن الجنيد المتوفّى سنة ٣٨١ له كتاب كشف التمويه والالتباس في ابطال القياس (٢).

والطابع السائد على هذه الكتب هو دراسة بعض المسائل الاُصولية كحجّية خبر الواحد ، أو حل مشكلة اختلاف الحديثين أو نقد بعض الأساليب الرائجة في تلك الأجيال في استنباط الأحكام ، كالقياس وغيره ولا يصح عدّها كتباً اُصوليّة بالمعنى المصطلح ، نعم يمكن عدّها مرحلة اُولى ، ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية.

وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت ، بالسعة والشمول ، بادخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم اُصول الفقه وأوّل من فتح هذا الباب على وجه الشيعة بمصراعيه :

معلم الاُمّة الشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ) فألّف رسالة في هذا المضمار وأدرجها تلميذه العلاّمة الكراجكي في كتابه كنز الفوائد (٣).

وألّف بعده تلميذه الجليل علم الهدى المعروف بالسيد المرتضى كتابه القيم الذريعة إلى اُصول الشريعة طبع في جزأين ، وقد رأيت منها نسخة مخطوطة في مدينة قزوين جاء فيها تاريخ فراغ المؤلّف منه عام ٤٠٠.

الشيخ الطوسي : ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) ألّف عدّة اُصول وطبع مرات ، وعن طريق هذه الكتب ، انتشرت آراء الشيعة في علم الاُصول.

ثمّ دخلت المرحلة الثالثة فقد اُلّف فيها كتب منها :

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٠٥ برقم ١٠٤٦.

٢ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٠٤ برقم ١٠٤٨.

٣ ـ كنز الفوائد ٢ / ١٥ ـ ٣٠ طبع بيروت.


١ ـ التقريب في اُصول الفقه للشيخ أبي ليلى المعروف بسلار بن عبدالعزيز الديلمي صاحب المراسم توفّي عام ٤٤٨.

٢ ـ غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع تأليف أبي المكارم حمزة بن علي ابن زهرة المعروف بابن زهرة المتوفّى عام ٥٨٥.

٣ ـ المصادر تاليف الشيخ سديد الدين الحمصي المتوفّى حدود سنة ٦٠٠.

هذه هي المراحل الثلاثة إلتي مرّ بها علم الاُصول ، وقد تلتها مراحل اُخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشر ذروتها وقمّتها وبلغ أعلى مراحل كمالها ، ويتّضح ذلك من ملاحظة ما اُلّف من عصر الاُستاذ الأكبر المحقق البهبهاني ( ١١١٨ ـ ١٢٠٦ ) إلى يومنا ، فقد راج التحقيق في المسائل الاُصولية من عصره إلى عصر الشيخ مرتضى الأنصاري ( ١٢١٢ ـ ١٢٨١ ) وعصر تلميذه الشيخ محمّد كاظم الخراساني ( ١٣٢٩ ـ ١٢٥٥ ) ففي هذه الفترة : أي القرون الثلاثة ، اُلّفت مئات الكتب والرسائل في ذاك المجال ، ولا اُغالي إذا قلت : انّه لم تبلغ طائفة من الطوائف الإسلامية تلك الدرجة التي وصلت إليها الشيعة في علمي الفقه والاُصول من جانب كثرة الانتاج والاستيعاب ودقه النظر ، شكر اللّه مساعيهم.

١٠ ـ قدماء الشيعة وعلم المغازي والسير :

مغازي النبيّ الأكرم جزء من تاريخ حياته وسيرته ، والرسول قدوة واُسوة وفعله كقوله حجّة بلا اشكال وقد وضع بعضهم كتباً في فقه السيرة (١) فكان على المسلمين ضبط دقيقها وجليلها ، وقد قاموا بذلك لولا أنّ الخلافة حالت دون الاُمنية. ولكن قيض اللّه سبحانه ، رجالا في الشيعة في ذلك المجال ضبطوا سيرة الرسول

__________________

١ ـ كزاد المعاد لابن القيم ، وفقه السيرة للشيخ الغزالي المعاصر.


ومغازيه :

١ ـ منهم محمّد بن إسحاق بن يسار ( ت ١٥١ ) : عدّه الشيخ الطوسي في رجاله (١) من أصحاب الإمام الصادق. ولأجل ولائه لأهل بيت النبوّة وصفه ابن حجر في التقريب « بأنّه امام المغازي ، صدوق ، يدلس ورمي بالتشيّع والقدر » (٢) وفي مختصر الذهبي : انّه كان صدوقاً من بحور العلم ، وعن تاريخ اليافعي عن شعبة بن الحجاج انّه قال : محمّد بن إسحاق أميرالمؤمنين في الحديث ، وعن الشافعي : من أراد أن يتبحّر في المغازي فهو عيال محمّد بن إسحاق (٣).

لمّا كان المترجم شيعياً مجاهراً في ولائه لأهل البيت عمد ابن هشام ( ت ٢١٢ ) بتلخيص كتابه على أساس حذف ما لا يلائم نزعته فحذف أكثر ما له صلة بفضائل الامام علي وأهل بيته.

فعلى الشيعة الغيارى التفحّص في مكتبات العالم وفهارسها ، حتّى يعثروا على نسخة الاُم ، وينشروا هذا الكنز الدفين ، وقد أذعن بعض المستشرقين انّه عثر على الأصل ونشره باسم سيرة ابن إسحاق ، لكنّه جزء من السيرة لا كلّها.

ومن حسن الحظ انّ سيرة ابن إسحاق وإن لم تكن موجودة بصورتها لكنّها موجودة بمادتها فقد بثّها الطبرسي ( ٤٧٠ ـ ٥٤٨ ) في أجزاء مجمع البيان ، وابن الجوزي (١٥٩٥) في المنتظم ، وابن كثير في تاريخه وغيرهم ، فعلى المحققين العظام ، استخراج مادة السيرة عن هذه الكتب ، وملخّصها المعروف بالسيرة النبوية لابن هشام.

__________________

١ ـ الطوسي : الرجال ١٨١.

٢ ـ ابن حجر : التقريب ٢ / ١٤٤ برقم ٤٠.

٣ ـ المامقاني : تنقيح المقال ٣ / ٧٩ برقم ١٠٣٨.


٢ ـ نعم سبق ابن إسحاق ، عبيداللّه بن أبي رافع من أصحاب الامام أميرالمؤمنين ، فقد عمل كتاباً أسماه تسمية من شهد مع أميرالمؤمنين ، الجمل وصفين والنهروان من الصحابة ، ذكره الشيخ في الفهرس (١) لكنّه في مغازي الوصيّ لا النبيّ.

٣ ـ كما ألّف جابر الجعفي ( ت ١٢٨ ) كتباً في ذلك المجال : قال النجاشي : جابر عربي قديم. ثمّ ذكر نسبه وعدّ من كتبه : كتاب الجمل وكتاب صفّين ، وكتاب نهروان ، وكتاب مقتل أميرالمؤمنين 7 وكتاب مقتل الحسين (٢).

٤ ـ وألّف في ذلك المجال : أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي الذي ربّما يسكن البصرة وقد أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنّى ( ١١٠ ـ ٢٠٩ ) وأبو عبداللّه بن القاسم بن سلام ( ١٥٧ ـ ٢٢٤ ) وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام ، له كتاب حسن يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردة (٣).

وقد جمع فيه أخبار ابتداء أمر النبي 6 من مبعثه ومغازيه ووفاته وأخبار يوم السقيفة وارتداد بعض القبائل.

٥ ـ ومن مشاهير هذا الفن من الشيعة أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ، روى عن جعفر بن محمّد 8. وصنّف كتباً : منها كتاب المغازي ، كتاب السقيفة ، كتاب الردة ، كتاب فتوح الإسلام ... (٤).

٦ ـ ومن أعلامه ، نصر بن مزاحم (٢١٢) ألّف كتباً كثيرة في ذلك

__________________

١ ـ الطوسي : الفهرست ٢٠٢.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣١٣ برقم ٣٣٠.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٨٠ برقم ٧.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٨٤ برقم ١١٤٩.


المجال (١).

٧ ـ هشام بن محمّد بن السائب الكلبي ( ٢٠٦ ) أعلم علماء النسب والسير والآثار ، ذكره النجاشي وقال : الناسب ، العالم بالأيام ، المشهور بالفضل والعلم وكان يختص بمذهبنا ثمّ ذكر كتبه (٢).

هذا عرض موجز لمن شارك المسلمين من قدماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تدوين السيرة والمغازي والمقاتل والتاريخ ، وأمّا المتأخرون فسل عنهم ولا حرج ، وراجع المعاجم : كأعيان الشيعة للسيد الأمين العاملي ، والذريعة لشيخنا المجيز الطهراني.

١١ ـ قدماء الشيعة وعلم الرجال :

اهتمّ علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال ، نذكر المؤلّفين الأوائل :

١ ـ عبداللّه بن جبلة الكناني ( ٢١٩ ) قال النجاشي : وبيت جبلة مشهور بالكوفة وكان واقفاً ، وكان فقيهاً ثقة مشهوراً. له كتب ، منها كتاب الرجال ... (٣).

٢ ـ علي بن الحسن بن فضال كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث ، من أصحاب الامام الهادي والعسكري له كتب منها كتاب الرجال (٤).

وهذا المعروف بابن فضال الصغير ، وأبوه الحسن هو ابن فضال الكبير وكلاهما فطحيان.

____________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٩١ ـ ١٩٢ برقم ٨٧٣.

٢ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٩٩ برقم ١١٦٧.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٣ برقم ٥٦١.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٨٢ برقم ٦٧٤.


٣ ـ الحسن بن محبوب السراد ( ١٥٠ ـ ٢٢٤ ) الراوي عن ستين رجلاً ، من أصحاب الصادق له كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار » (١).

٤ ـ أبو عمرو الكشي البصير بالأخبار والرجال ، تلميذ الشيخ العياشي ، وكتابه المعروف بـ « معرفة الرجال » هو الذي لخّصه الشيخ الطوسي وأسماه بـ « اختيار معرفة الرجال » وهو الموجود في الاعصار الأخيرة.

٥ ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي ( ٣٧٢ ـ ٤٥٠ ) من نقّاد هذا الفن ومن أجلاّئه وأعيانه حاز فصب السبق في ميدان علم الرجال ، له كتاب فهرس مصنفي الشيعة المعروف برجال النجاشي وقد طبع أخيراً محقّقاً في مؤسستنا « الامام الصادق 7 ».

٦ ـ والشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) الغني عن التعريف عمل كتابين أحدهما الفهرست والآخر الرجال ويعدّان من اُمّهات الكتب الرجالية ، وتوالى التأليف في علم الرجال وأخيه علم الدراية إلى عصرنا هذا ، وقد أنهى الشيخ الطهراني المؤلّفين من الشيعة في علم الرجال فبلغ قرابة خمسمائة مؤلّف شكر اللّه مساعي الجميع.

هذا عرض موجز من مشاركة علماء الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية عن طريق تأسيس العلوم واكمالها وتطويرها ، وأنت إذا وقفت على جهودهم الجبّارة في القرون الاُولى وما بعدها إلى عصرنا الحاضر ، تقف على طائفة كبيرة من عمالقة العلم وجهابذة الفضل ، كرسوا حياتهم الثمينة في ارساء صرح الحضارة الإسلامية ورفع قواعدها فأخلدوا لأنفسهم صحائف بيضاء ولصالح اُمّتهم حضارة انسانية ، كل ذلك في ظروف قاسية وسلطات شديدة الكلب ، وأضغان محتدمة ، إلاّ في فترات

__________________

١ ـ الطوسي : الفهرست ٧١ ، برقم ١٦٢ ، ابن شهرآشوب : معالم العلماء ٣٣٣ برقم ١٨٢ ، الطهراني : مصفى المقال ١٢٨.


يسيرة.

١٢ ـ قدماء الشيعة والعلوم العقلية :

جاء الإسلام ليحرّر عقل الإنسان وتفكيره من الأغلال المتراكمة الموروثة التي خلقتها له الأجيال الماضية وهو يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمّل والتفكير ، ويخاطب القلب والضمير بما حوله من الأدلّة الناطقة ، ويكفيك أنّ الذكر الحكيم استعمل مادة « العقل » بمختلف صورها ٤٧ مرة ، و « التفكّر » ١٨ مرة و « اللب » ١٦ مرّة ، و « التدبّر » ٤ مرات و « النهى » مرتين. فبذلك نهى عن التقليد وحثّ على التعقّل ببيانات مختلفة.

فتارة فتح عيون الإنسان إلى الكائنات لما فيها من دلائل ناطقة على وجوده سبحانه وصفاته.قال سبحانه : ( أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقاً أمِ السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها * وأغْطَشَ لَيْلَها وأخْرَجَ ضُحاها * والأرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها * أخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمرْعاها * وألجِبالَ أرْساها * متاعاً لَكُمْ ولأنْعامِكُمْ ) (١).

واُخرى دعاه إلى التفكير والاستدلال المنطقي ، فقال سبحانه : ( أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أمْ هُمُ الخالِقُونَ * أمْ خَلَقُوا السَّمواتِ والأرْضَ بَلْ لا يوقِنُونَ ) (٢).

فعالج المشاكل العلمية والفلسفية تارة بالدعوة إلى النظر في الكون نظرة فاحصة ، واُخرى بالحثِّ عى التفكير في المعارف باسلوب منطقي وبرهاني ، وبذلك أيقظ عقول المسلمين وبعثهم إلى اعمال الحس والتعقّل وأعطى لكلّ قدره

__________________

١ ـ النازعات / ٢٧ ـ ٣٣.

٢ ـ الطور / ٣٥ ـ ٣٦.


وقيمته غير أنّ المسلمين سوى قليل منهم تنكّبوا عن هذا الطريق ، خصوصاً في ما يرجع إلى المعارف العليا ، فصاروا بين مشبّه ومعطّل ، فالبسطاء منهم بنوا عقائدهم على الجمود بالمفردات الواردة في الكتاب والسنّة ، وبذلك استغنوا عن أيّ تعقّل وتفكّر ، إلى أن بلغت جرأتهم إلى حدّ قال بعضهم في الخالق : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك (١) ، فهؤلاء هم المجسّمة والمشبّهة ، وأمّا غيرهم فاختاروا تعطيل العقول عن التفكّر في اللّه سبحانه ، فقالوا : اُعطينا العقل لاقامة العبودية لا لادراك الربوبيّة ، فمن شغل ما اُعطي لاقامة العبودية بادراك الربوبية فاتته العبودية ، ولم يدرك الربوبية (٢).

فالأكثرية الساحقة في القرون الاُولى كانوا بين مشبّه ومعطّل ، غير أنّه سبحانه شملت عنايته اُمّة من المسلمين رفضوا التشبيه والتعطيل ، وسلكوا طريقاً ثالثاً ، وقالوا بأنه يمكن للانسان التعرّف على ما وراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال عن طريقين :

١ ـ النظرة الفاحصة إلى عالم الوجود وجمال الطبيعة كما وردت في القرآن الكريم.

٢ ـ ترتيب الأقيسة المنطقية للوصول إلى الحقائق العليا ، وهذا هو الخط الذي رسمه القرآن الكريم ، ومشى على هذا الخط أئمّة أهل البيت : من أوّلهم إلى آخرهم.ترى ذلك في كلام الامام علي 7 بوضوح ، في أحاديثه وخطبه ، ورسائله وكلمه ولا يمكن لنا نقل معشار منه ، ونكتفي بحديث واحد.

__________________

١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل ١ / ١٠٥ ط دار المعرفة لبنان.

٢ ـ علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجة في بيان المحجة ٣٣.


سأله سائل : هل يقدر ربّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يُصغّر الدنيا أو يُكبّر البيضة؟ فقال : إنّ اللّه تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون (١).

إنّ خطب الامام 7 ورسائله وقصار حكمه صار هو الحجر الأساس لكلام الشيعة وآرائهم في العقائد والمعارف ، ولم يقف نشاط الشيعة في ذلك المجال ، بل جاءت الأئمة بعد الامام ، ففتحوا عقول شيعتهم بالدعوة إلى التدبّر والتفكّر في المعارف ، حتّى تربّى في مدرستهم عمالقة الفكر من عصر سيد الساجدين إلى عصر الامام العسكري ، تجد أسماءهم وتآليفهم وافكارهم في المعاجم وكتب الرجال ، وقد نبغ في عصر أئمة أهل البيت مفكّرون بارزون افادوا الأجيال من بعدهم ، نأتي بأسماء البارزين بعد استفحال علم الكلام في أوائل القرن الثاني.

متكلّموا الشيعة في القرن الثاني :

١ ـ زرارة بن أعين بن سُنسُن : مولى ( بني عبداللّه بن عمرو السمين بن اسعد ابن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان ) ، أبوالحسن. شيخ أصحابنا في زمانه ، ومتقدّمهم ، وكان قارئاً ، فقيهاً ، متكلّماً ، شاعراً أديباً ، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين ، صادقاً في ما يرويه.

قال أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه : رأيت له كتاباً في الاستطاعة والجبر (٢) وقال ابن النديم : وزرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثا

__________________

١ ـ الصدوق : التوحيد ١٣٠ باب « القدرة » برقم ٩.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٩٧ برقم ٤٦١ ، الطوسي : الفهرست برقم ٣١٤ ، الكشي : الرجال برقم ٦٢ ، الذهبي : ميزان الاعتدال ٢ برقم ٢٨٥٣.


ومعرفة بالكلام والتشيّع (١) وهو من الشخصيات البارزة للشيعة التي اجتمعت العصابة على تصديقهم ، وهو غنيّ عن التعريف والتوصيف.

٢ ـ محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي : مولى الأحول « أبو جعفر » ، كوفي ، صيرفي يلقب بـ « مؤمن الطاق » و « صاحب الطاق » ، ويلقّبه المخالفون بـ « شيطان الطاق » ... وكان دكانه في طاق المحامل ، بالكوفة ، فيرجع إليه في النقد فيردّ ردّاً فيخرج كما يقول ، فيقال « شيطان الطاق ». أمّا منزلته في العلم وحسن الخاطر ، فاشهر وقد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا. وله كتاب « افعل لا تفعل » رأيته عند أحمد بن الحسين بن عبيداللّه ; ، كتاب حسن كبير ، وقد أدخل فيه بعض المتأخرين أحاديث تدل فيه على فساد ، ويذكر تباين أقاويل الصحابة. وله كتاب « الاحتجاج في إمامة أميرالمؤمنين 7 » وكتاب كلامه على الخوارج ، وكتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة ... (٢) فقد توفي الامام الصادق عام ١٤٨ ، وأبو حنيفة عام ١٥٠ ، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني.

وقال ابن النديم وكان متكلّماً حاذقاً وله من الكتب كتاب الامامة ، كتاب المعرفة ، كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول ، كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة (٣).

٣ ـ هشام بن الحكم : قال ابن النديم : هو من متكلّمي الشيعة الإمامية وبطانتهم ، وممّن دعا له الصادق 7 ، فقال : أقول لك ما قال رسول اللّه لحسان : لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وهو الذي فتق الكلام في

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٣٢٣.

٢ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٠٣ برقم ٨٨٧ ، الطوسي : الرجال أصحاب الكاظم برقم ١٨ والفهرست للطوسي برقم ٥٩٤ ، الكشي : الرجال برقم ٧٧.

٣ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٤ وأيضاً ٢٥٨.


الإمامة وهذّب المذهب وسهّل طريق الحجاج فيه ، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب (١).

يقول الشهرستاني : وهذا هشام بن الحكم ، صاحب غور في الاُصول ، لا ينبغي أن يغفل عن الزاماته على المعتزلة ، فانّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ، ودون ما يظهره من التشبيه ، وذلك أنّه ألزم الغلاة ... (٢).

وقال النجاشي : هشام بن الحكم أبو محمّد مولى كندة ، وكان ينزل بني شيبان بالكوفة ، انتقل إلى بغداد سنة ١٩٩ ، ويقال انّ في هذه السنة مات. له كتاب يرويه جماعة. ثم ذكر أسماء كتبه على النحو التالي :

١ ـ علل التحريم ٢ ـ الفرائض ٣ ـ الإمامة ٤ ـ الدلالة على حدث الأجسام ٥ ـ الرد على الزنادقة ٦ ـ الرد على أصحاب الاثنين ٧ ـ التوحيد ٨ ـ الرد على هشام الجواليقي ٩ ـ الرد على أصحاب الطبائع ١٠ ـ الشيخ والغلام في التوحيد ١١ ـ التدبير في الإمامة ١٢ ـ الميزان ١٣ ـ إمامة المفضول ١٤ ـ الوصية والرد على منكريها ١٥ ـ الميدان ١٦ ـ اختلاف الناس في الإمامة ١٧ ـ الجبر والقدر ١٨ ـ الحكمين ١٩ ـ الرد على المعتزلة وطلحة والزبير ٢٠ ـ القدر ٢١ ـ الألفاظ ٢٢ ـ الاستطاعة ٢٣ ـ المعرفة ٢٤ ـ الثمانية أبواب ، ٢٥ ـ على شيطان الطاق ، ٢٦ ـ الاخبار ، ٢٧ ـ الرد على المعتزلة ، ٢٨ ـ الرد على ارسطاطاليس في التوحيد ٢٩ ـ المجالس في التوحيد ٣٠ ـ المجالس في الإمامة (٣).

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٥٧.

٢ ـ الشهرستاني : الملل والنحل ١ / ١٨٥.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٩٧ برقم ١١٦٥.


يقول أحمد أمين : أكبر شخصية شيعية في الكلام ، وكان جداً قوىّ الحجة ، ناظر المعتزلة وناظروه ، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته وقوّة حججه.

إنّ الرجال كان في بداية أمره من تلاميذ أبي الشاكر الديصاني ، صاحب النزعة الالحادية في الإسلام ثمّ تبع الجهم بن صفوان ، الجبري المتطرّف المقتول بترمذ عام ١٢٨ هـ ، ثم لحق بالإمام الصادق 7 ودان بمذهب الإمامية ، وما تنقل منه من الآراء التي لا توافق اُصول الامامية ، فانّما هي راجعة إلى العصرين اللذين كان فيهما على النزعة الالحادية أو الجهمية ، وأمّا بعد ما لحق بالإمام الصادق 7 فقد انطبعت عقليته بمعارف أهل البيت إلى حد كبير ، حتّى صار أحد المناضلين عن عقائد الشيعة الامامية (١).

٤ ـ قيس الماصر : أحد أعلام المتكلمين ، تعلّم الكلام من علي بن الحسين 7 روى الكليني انّه أتى شامي إلى أبي عبداللّه الصادق ليناظر أصحابه ، فقال 7 ليونس بن يعقوب : اُنظر من ترى بالباب من المتكلمين ... إلى أن قال يونس : فأدخلت زرارة بن أعين وكان يحسن الكلام ، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام ، وأدخلت هشام بن الحكم وهو يحسن الكلام ، وأدخلت قيس الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً وقد تعلم الكلام من علي بن الحسين 8 (٢).

٥ ـ عيسى بن روضة ، حاجب المنصور : كان متكلّماً ، جيّد الكلام ، وله

__________________

١ ـ إنّ للعلامة الحجة الشيخ عبداللّه نعمة كتاباً في حياة هشام بن الحكم ، فقد أغرق نزعاً في التحقيق وأغنانا عن كل بحث وتنقيب.

٢ ـ الكليني : الكافي ١ / ١٧١.


كتاب في الإمامة. وقد وصفه أحمد بن أبي طاهر في كتاب بغداد ، وذكر أنّه رأى الكتاب. وقال بعض أصحابنا 4 : انّه راى هذا الكتاب. وقرأت في بعض الكتب : انّ المنصور لمّا كان بالحيرة ، تسمّع على عيسى بن روضة ، وكان مولاه ، وهو يتكلّم في الإمامة فاُعجب به واستجاد كلامه (١) وبما أنّ المنصور توفّي عام ١٥٨ ، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني.

٦ ـ الضحاك ، أبو مالك الحضرمي : كوفي ، عربي ، أدرك أبا عبداللّه 7 وقال قوم من أصحابنا : روى عنه وقال آخرون : لم يرو عنه. وروى عن أبي الحسن ، وكان متكلّماً ثقة ثقة في الحديث. وله كتاب : في التوحيد ، رواية علي بن الحسن الطاطري (٢) فالرجل من متكلّمي القرن الثاني. وقال ابن النديم : من متكلّمي الشيعة وله مع ابي علي الجبّائي مجلس في الإمامة وتثبيتها بحضرة أبي محمّد القاسم بن محمّد الكوفي وله من الكتب كتاب الإمامة ، نقض الإمامة على أبي علي ولم يتمّه (٣).

٧ ـ علي بن الحسن بن محمّد الطائي : المعروف بـ « الطاطري » كان فقيهاً ثقة في حديثه له كتب منها : التوحيد ، الامامة ، الفطرة ، المعرفة ، الولاية (٤) وغيرها وعدّه ابن النديم من متكلمي الامامية وقال : ومن القدماء : الطاطري وكان شيعياً واسمه ... وتنقّل في التشيّع وله من الكتب كتاب الإمامة حسن (٥) وبما أنّه من أصحاب الإمام الكاظم فهو من متكلّمي القرن الثاني.

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٤٥ برقم ٧٩٤.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٤٥١ برقم ٥٤٤.

٣ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٦.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٧٧ برقم ٦٦٥.

٥ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٦.


٨ ـ الحسن بن علي بن يقطين بن موسى : مولى بني هاشم ، وقيل مولى بني أسد ، كان فقيهاً متكلّماً روى عن أبي الحسن والرضا 8 ، وله كتاب مسائل أبي الحسن موسى 7 (١) وبما أنّ أبا الحسن الأول توفّي عام ١٨٣ ، والثاني توفّي عام ٢٠٣ ، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني وأوائل الثالث ، وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الرضا (٢) وهو الذي سأل الإمام الرضا 7 بأنّه لا يقدر على لقائه في كل وقت فعمّن يأخذ معالم دينه؟ فأجاب الامام 7 خذ عن يونس بن عبدالرحمان (٣).

٩ ـ حديد بن حكيم : أبو علي الأزدي المدائني ، ثقة ، وجه ، متكلّم ، روى عن ابي عبد الله ، وأبي الحسن 8 له كتاب يرويه محمّد بن خالد (٤) وبما أنّه من تلاميذ الصادق والكاظم 8 فالرجل من متكلّمي الشيعة في القرن الثاني.

١٠ ـ فضال بن الحسن بن فضال : وهو من متكلّمي عصر الصادق 7 وذكره الطبرسي في احتجاجه ومناظرته مع أبي حنيفة فلاحظ (٥).

وما ذكرناه نماذج من مشاهير المتكلّمين في عصر الصادقين والكاظم ، وهناك من لم نذكرهم ولهم مناظرات واحتجاجات احتفلت بهم الكتب التاريخية والكلامية كحمران بن أعين الشيباني ، وهشام بن سالم الجواليقي ، والسيد الحميري ،

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٤٨ برقم ٩.

٢ ـ الشيخ الطوسي : الرجال برقم ٧.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٤٢١ برقم ١٢٠٩.

٤ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٧٧ برقم ٣٨٣ ، وذكره الخطيب في تاريخه ج ٨ برقم ٤٣٧٧.

٥ ـ التستري : قاموس الرجال ٤ / ٣١٣.


والكميت الاسدي (١).

متكلّموا الشيعة في القرن الثالث :

١ ـ الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمّد الأزدي النيشابوري : كان أبوه من أصحاب يونس ، وروى عن أبي جعفر الثاني وقيل الرضا 8 وكان ثقة ، أحد اصحابنا الفقهاء ، والمتكلمين ، وله جلالة في هذه الطائفة وهو في قدره أشهر من أن نصفه وذكر الكنجي انّه صنّف مائة وثمانين كتابا.

وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والعسكري ، وقد توفّي عام ٢٦٠ فهو من متكلّمي القرن الثالث. وقد ذكر النجاشي فهرس كتبه نقتبس منه ما يلي :

كتاب النقض على الاسكافي في تقوية الجسم ، كتاب الوعيد ، كتاب الرد على أهل التعطيل ، كتاب الاستطاعة ، كتاب مسائل في العلم ، كتاب الاعراض والجواهر ، كتاب العلل ، كتاب الايمان ، كتاب الرد على الثنوية ، كتاب اثبات الرجعة ، كتاب الرد على الغالية المحمدية ، كتاب تبيان اصل الضلالة ، كتاب الرد على محمّد بن كرام ، كتاب التوحيد في كتب اللّه ، كتاب الرد على أحمد بن الحسين ، كتاب الرد على الأصم ، كتاب في الوعد والوعيد آخر ، كتاب الرد على بيان ايمان ابن رباب ( الخارجي ) ، كتاب الرد على الفلاسفة ، كتاب محنة الإسلام ، كتاب الأربع مسائل في الامامة ، كتاب الرد على المنّانية ، كتاب الرد على المرجئة ، كتاب الرد على القرامطة ، كتاب الرد على البائسة ، كتاب اللطيف ، كتاب القائم 7 ، كتاب الإمامة الكبير ، كتاب حذو النعل بالنعل ، كتاب فضل أميرالمؤمنين 7 ، كتاب معرفة الهدى

____________

١ ـ لاحظ أعيان الشيعة ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥.


والضلالة ، كتاب التعري والحاصل ، كتاب الخصال في الإمامة ، كتاب المعيار والموازنة ، كتاب الرد على الحشوية ، كتاب الرد على الحسن البصري في التفضيل ، كتاب النسبة بين الجبرية والبترية (١).

٢ ـ حكم بن هشام بن الحكم : أبو محمّد ، مولى كندة ، سكن البصرة ، وكان مشهوراً بالكلام ، كلّم الناس ، وحكي عنه مجالس كثيرة ، ذكر بعض أصحابنا أنّه راى له كتاباً في الامامة (٢) وقد توفّي والده ٢٠٠ أو ١٩٩ ، فهو من متكلمي أواخر القرن الثاني ، وأوائل القرن الثالث.

٣ ـ داود بن أسد بن أعفر : أبو الأحوص البصري ; شيخ جليل ، فقيه متكلّم من أصحاب الحديث ثقة ثقة ، وأبوه من شيوخ أصحاب الحديث الثقات ، له كتب منها ، كتاب في الإمامة على سائر من خالفه من الاُمم ، والآخر مجرد الدلائل والبراهين (٣). وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست في باب الكنى وقال : انّه من جملة متكلّمي الإمامية ، لقيه الحسن بن موسى النوبختي ، وأخذ عنه ، واجتمع معه في الحائر على ساكنه السلام ، وكان ورد للزيارة (٤). فبما أنّه من مشايخ الحسن بن موسى النوبختي المعاصر للجبّائي ( ت ٣٠٣ ) فهو من متكلّمي القرن الثالث المعاصر.

٤ ـ محمّد بن عبداللّه بن مملك الاصبهاني : أصله جرجان ، وسكن اصبهان ، جليل في أصحابنا ، عظيم القدر والمنزلة كان معتزلياً ورجع على يد عبدالرحمان بن أحمد بن جبرويه ;. له كتب منها ، كتاب الجامع في سائر أبواب الكلام كبير ، وكتاب المسائل والجوابات في الإمامة ، كتاب مواليد الأئمة

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٦٨ برقم ٨٣٨ ، والطوسي : الرجال برقم ١ و ٢ في أصحاب الهادي والعسكري 8 ، والكشي : الرجال برقم ٤١٦.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٢٨ برقم ٣٤٩.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٣٦٤ برقم ٤١٢.

٤ ـ الطوسي : الفهرست ٢٢١ برقم ٨٧٥.


: ، كتاب مجالسه مع أبي علي الجبّائي ( ٢٣٥ ـ ٣٠٣ ) (١).

٥ ـ ثبيت بن محمّد ، أبو محمّد العسكري : صاحب أبي عيسى الوراق ( محمّد بن هارون ) متكلّم حاذق ، من أصحابنا العسكريين ، وكان أيضاً له اطّلاع بالحديث والرواية ، والفقه. له كتب ، منها :

١ ـ كتاب توليدات بني اُمية في الحديث وذكر الأحاديث الموضوعة.

٢ ـ الكتاب الذي يعزى إلى أبي عيسى الوراق في نقض العثمانية له.

٣ ـ كتاب الأسفار.

٤ ـ دلائل الأئمة : (٢).

وبما أنّه من أصحاب أبي عيسى الوراق ، وقد توفّي هو في ٢٤٧ ، فالرجل من متكلّمي القرن الثالث.

٦ ـ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزومي : أبو محمّد ، أحد أصحابنا ، ثقة فيما يرويه ، قدم العراق ، وسمع أصحابنا منه ، مثل أيوب بن نوح ، والحسن بن معاوية ، ومحمّد بن الحسين ، وعلي بن الحسن بن فضال ، له كتاب التوحيد ، كتاب المعرفة ، كتاب الإمامة.

وبما أنّ الراوي عنه كعلي بن الحسن بن فضال من أصحاب الهادي والعسكري 8 وقد توفّي الامام العسكري عام ٢٦٠ ، فهو في رتبة الحسن بن علي بن فضال ، الذي هو من أصحاب الإمام الرضا 7 فيكون من متكلّمي القرن الثالث (٣).

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٩٧ برقم ١٠٣٤.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٢٩٣ برقم ٢٩٨ ، وثبيت على وزان زبير.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٢٠ برقم ٦٦.


٧ ـ محمّد بن هارون : أبو عيسى الوراق : له كتاب الإمامة ، وكتاب السقيفة ، وكتاب الحكم على سورة لم تكن وكتاب اختلاف الشيعة والمقالات. قال ابن حجر : له تصانيف على مذهب المعتزلة ، وقال المسعودي له مصنّفات حسان في الإمامة وغيرها وكانت وفاته سنة ٢٤٧ (١).

٨ ـ إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزني : مولى آل طلحة بن عبيداللّه ، « أبو إسحاق » ، وكان وجه أصحابنا البصريين في الفقه والكلام والأدب والشعر. والجاحظ يحكي عنه ، وقال الجاحظ : « حدثني إبراهيم ابن داحة ، عن محمّد بن أبي عمير » (٢).

وبما أنّ اُستاذه ابن أبي عمير توفّي عام ٢١٧ ، والجاحظ ، الراوي عنه توفّي عام ٢٥٥ ، فهو من متكلّمي القرن الثالث يروي عنه الجاحظ في البيان والتبيين (٣).

٩ ـ الشكّال : قال ابن النديم : صاحب هشام بن الحكم وخالفه في اشياء إلاّ في اصل الإمامة وله من الكتب كتاب المعرفة ، كتاب في الاستطاعة ، كتاب الامامة ، كتاب على من أبى وجوب الإمامة بالنص (٤) وبما أنّ هشاماً توفّي عام ١٩٩ ، فالرجل من متكلّمي أوائل القرن الثالث.

١٠ ـ الحسين بن اشكيب : شيخ لنا ، ثقة مقدم ، ذكره أبو عمرو في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن ، صاحب العسكر 7 ووصفه بأنّه عالم متكلّم مؤلّف للكتب ، المقيم بسمرقند وكش. له من الكتب ، كتاب الرد على من

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٨٠ برقم ١٠١٧ ، ابن حجر : لسان الميزان ج ٥ برقم ١٣٦٠ ، المحقق الداماد : الرواشح السماوية ٥٥ ومر ذكره في ترجمة تثبيت وما في كلام ابن حجر من عده من المعتزلة ، ناشئ عن الخلط بين المعتزلة والامامية.

٢ ـ النجاشي : الرجال ١ / ٨٧ برقم ١٣ ، و ٢ / ٢٠٥ برقم ٨٨٨.

٣ ـ البيان والتبيين ١ / ٦١.

٤ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٤.


زعم أنّ النبيّ كان على دين قومه ، والرد على الزيدية ، وبما أنّه من أصحاب أبي الحسن المتوفى عام ٢٦٠ ، فهو من متكلمي القرن الثالث (١).

وعده الشيخ في رجاله من أصحابه الامام الهادي 7 (٢).

١١ ـ عبدالرحمان بن أحمد بن جبرويه ، أبو محمّد العسكري : متكلّم من أصحابنا ، حسن التصنيف ، جيّد الكلام ، وعلى يده رجع محمّد بن عبداللّه بن مملك الاصبهاني عن مذهب المعتزلة إلى القول بالإمامة ، وقد كلّم عباد بن سليمان ، ومن كان في طبقته ، وقع إلينا من كتبه : كتاب الكامل في الإمامة ، كتاب حسن (٣).

وبما أنّ محمّد بن عبداللّه معاصر للجبّائي ( ٢٣٥ ـ ٣٠٣ ) وله مجالس معه (٤) فالرجل من متكلّمي القرن الثالث ، ولعلّه أدرك أوائل القرن الرابع.

١٢ ـ علي بن منصور ، أبو الحسن : كوفي سكن بغداد ، متكلّم ، من أصحاب هشام ، له كتب ، منها كتاب التدبير في التوحيد والإمامة (٥). وقال النجاشي في ترجمة هشام بن الحكم : كتاب التدبير في الإمامة ، وهو جمع علي بن منصور من كلامه (٦) وبما أنّ هشام توفّي عام ١٩٩ ، فالرجل من متكلّمي القرن الثاني ، وأوائل القرن الثالث.

١٣ ـ علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمّار : أبو الحسن مولى بني أسد ، كوفي ، سكن البصرة ، وكان من وجوه المتكلّمين من أصحابنا ،

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٤٦ برقم ٨٧.

٢ ـ الشيخ الطوسي : الرجال برقم ١٨.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٤٧ برقم ٦٢٣.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٩٧ برقم ١٠٣٤.

٥ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٧١ برقم ٦٥٦.

٦ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٩٧ برقم ١١٦٥.


كلّم أبا الهذيل ( ١٣٥ ـ ٢٣٥ ) والنظام ( ١٦٠ ـ ٢٣١ ) له مجالس وكتب منها كتاب الإمامة ، كتاب مجالس هشام بن الحكم وكتاب المتعة (١). وعدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الرضا برقم ٥٢ فهو من متكلّمي القرن الثاني. وقال ابن النديم : أوّل من تكلّم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار ، وميثم ( جده ) من أجلّة أصحاب علي ـ رضي اللّه عنه ـ ولعلي من الكتب كتاب الإمامة ، كتاب الاستحقاق (٢).

متكلّموا الشيعة في القرن الرابع :

١ ـ الحسن بن علي بن أبي عقيل : أبو محمّد العماني الحذّاء ، فقيه متكلّم ثقة ، له كتب في الفقه والكلام ، منها كتاب المتمسّك بحبل الرسول. قال النجاشي : وقرأت كتابه المسمّى : الكرّ والفرّ ، على شيخنا أبي عبداللّه المفيد ; وهو كتاب في الإمامة ، مليح الوضع.

وذكره الشيخ في الفهرست والرجال (٣) ، وبما أنّه من مشايخ أبي القاسم جعفر ابن محمّد المتوفّي عام ٣٦٨ فالرجل من أعيان القرن الرابع ، المعاصر للكليني ، المتوفّي عام ٣٢٩.

٢ ـ إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت : كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم ، له جلالة في الدنيا والدين ، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب ، صنف كتباً كثيرة ، منها كتاب الاستيفاء في الإمامة ، التنبيه في الإمامة. قال النجاشي : قرأته على شيخنا أبي عبداللّه ( المفيد ) ; ،

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٧٢ برقم ٦٥٩.

٢ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٣.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٥٣ برقم ٩٩ ولاحظ فهرست الشيخ رقم ٢٠٤ ، ورجاله في باب من لم يرو عنهم برقم ٥٣.


كتاب الجمل في الإمامة ، كتاب الرد على محمّد بن الأزهر في الإمامة ، كتاب الرد على اليهود ، كتاب في الصفات للرد على أبي العتاهية ( ١٣٠ ـ ٢١١ ) في التوحيد في شعره ، كتاب الخصوص والعموم والأسماء والأحكام ، كتاب الإنسان والرد على ابن الراوندي ، كتاب التوحيد ، كتاب الارجاء ، كتاب النفي والاثبات ، مجالسه مع أبي علي الجبّائي ( ٢٣٥ ـ ٣٠٣ ) بالأهواز ، كتاب في استحالة رؤية القديم ، كتاب الرد على المجبرة في المخلوق ، مجالس ثابت بن أبي قرة ( ٢٢١ ـ ٢٨٨ ) ، كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، نقض مسألة أبي عيسى الوراق في قدم الاجسام ، كتاب الإحتجاج لنبوّة النبي 6 ، كتاب حدوث العالم (١).

وقال ابن النديم أبو سهل : إسماعيل بن علي بن نوبخت من كبار الشيعة وكان أبو الحسن الناشي يقول إنّه اُستاذه وكان فاضلاً ، عالماً ، متكلماً ، وله مجالس بحضرة جماعة من المتكلمين ... وذكر فهرس كتبه (٢).

٣ ـ الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ( أخو الصدوق ) القمي أبو عبداللّه ، ثقة روى عن أبيه اجازة ، وله كتب منها :

١ ـ كتاب التوحيد ونفي التشبيه.

٢ ـ كتاب عمله للصاحب أبي القاسم بن عباد ( ٣٢٦ ـ ٣٨٥ ) وقد توفّي أخوه عام ٣٨١ فهو من أعيان القرن الرابع ، وهو وأخوه ولدا بدعوة صاحب الأمر 7 ، ترجمه ابن حجر في لسان الميزان (٣).

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٢١ برقم ٦٧ ( وهو خال الحسن بن موسى مؤلّف فرق الشيعة ).

٢ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٥.

٣ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٨٩ برقم ١٦١ ، ابن حجر : لسان الميزان ٢ / ٣٠٦ برقم ١٢٦٠.


٤ ـ محمّد بن بشر الحمدوني « أبو الحسين السوسنجردي » : متكلم جيد الكلام ، صحيح الاعتقاد ، كان يقول بالوعيد ، له كتب ، منها كتاب المقنع في الإمامة ، كتاب المنقذ في الإمامة (١) وقال ابن النديم : السوسنجردي من غلمان أبي سهل النوبختي. ويكنّى أبا الحسن ، ويعرف بالحمدوني منسوباً إلى آل حمدون ، وله من الكتب كتاب الانقاذ في الامامة (٢) وقال ابن حجر : كان زاهداً ورعاً متكلماً ، على مذهب الإمامية وله مصنّفات في نصرة مذهبه (٣).

٥ ـ يحيى أبو محمّد العلوي من بني زبارة : علوي ، سيد ، متكلّم ، فقيه ، من أهل نيشابور. قال الشيخ الطوسي : جليل القدر ، عظيم الرياسة ، متكلّم ، حاذق ، زاهد ، ورع ، لقيت جماعة ممّن لقوه وقرأوا عليه ، له كتاب ابطال القياس ، وكتاب في التوحيد (٤) ، وعلى هذا فالرجل في درجة شيخ مشايخ الطوسي ، فهو من متكلّمي القرن الرابع.

٦ ـ محمّد بن القاسم ، أبوبكر ، بغدادي : متكلم عاصر بن همام ، له كتاب في الغيبة ، كلام (٥). وابن همام هو محمّد بن أبي بكر بن سهيل الكاتب الاسكافي الذي ترجم له النجاشي في رجاله برقم ١٠٣٣ وذكره الخطيب في تاريخه ٣ / ٣٦٥ وقال أحد شيوخ الشيعة ، ولد عام ٢٥٨ وتوفّي عام ٣٣٨ وعلى هذا فالمترجم من متكلّمي أوائل القرن الرابع.

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٩٨ برقم ١٠٣٧.

٢ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٦.

٣ ـ ابن حجر : لسان الميزان ٥ / ٩٣ برقم ٣٠٤.

٤ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٤١٣ برقم ١١٩٢ ، وقد جاءت ترجمته أيضاً برقم ١١٩٥ ، الشيخ الطوسي : الفهرست برقم ٨٠٣.

٥ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٩٨ برقم ١٠٣٦.


٧ ـ محمّد بن عبدالملك بن محمّد التبان : يكنّى أبا عبداللّه ، كان معتزلياً ، ثمّ أظهر الانتقال ، ولم يكن ساكنا ، له كتاب في تكليف من علم اللّه انّه يكفر ، وله كتاب في المعدوم ، ومات لثلاث بقين من ذي القعدة سنة ٤١٩ (١).

٨ ـ محمّد بن عبدالرحمان بن قبة الرازي أبو جعفر : متكلّم ، عظيم القدر حسن العقيدة ، قوي في الكلام ، كان قديماً من المعتزلة ، وتبصّر وانتقل ، له كتب في الكلام ، وقد سمع الحديث ، وأخذ عنه ابن بطة وذكره في فهرسته الذي يذكر فيه من سمع منه فقال : وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة.

له كتاب الانصاف في الامامة ، وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي ( ت ٣١٩ ) ، وكتاب الرد على الزيدية ، وكتاب الرد على ابي علي الجبائي ، المسالة المفردة في الامامة.

قال النجاشي : سمعت أبا الحسين السوسنجردي ; وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين ، وله كتاب في الإمامة معروف به ، وقد كان حج على قدميه خمسين حجة يقول : مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا 7 بطوس فسلمت عليه وكان عارفاً بي ومعي كتاب أبي جعفر بن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف ، فوقف عليه ، ونقضه بالمسترشد في الإمامة فعدت إلى الري ، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بالمستثبت في الامامة ، فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بنقض المستثبت ، فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات ; (٢).

وقال ابن النديم : أبو جعفر بن محمّد بن قبة من متكلّمي الشيعة وحذّاقهم

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٣٣ برقم ١٠٧٠.

٢ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٢٨٨ برقم ١٠٢٤.


وله من الكتب : كتاب الانصاف في الإمامة ، كتاب الإمامة (١).

وقال العلاّمة : وكان حاذقاً شيخ الإمامية في عصره (٢).

٩ ـ علي بن وصيف ، أبوالحسن الناشي : ( ٢٧١ ـ ٣٦٥ ) الشاعر المتكلّم ، ذكر شيخنا ـ رضي اللّه عنه ـ انّ له كتاباً في الإمامة (٣). قال الطوسي : وكان شاعراً مجوداً في أهل البيت : ومتكلّماً بارعاً وله كتب (٤). قال ابن خلكان : من الشعراء المحبين وله في أهل البيت قصائد كثيرة ، وكان متكلماً بارعاً ، أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت المتكلم ، وكان من كبار الشيعة ، وله تصانيف كثيرة ، وقال ابن كثير : إنّه كان متكلماً ، بارعاً من كبار الشيعة (٥) ، فهو من متكلمي القرن الرابع.

١٠ ـ الحسن بن موسى ، أبو محمّد النوبختي : شيخنا المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها ، له على الأوائل كتب كثيرة ، منها :

١ ـ كتاب الآراء والديانات ، يقول النجاشي : كتاب كبير حسن يحتوي على علوم كثيرة قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبداللّه ( المفيد ) ;.

٢ ـ كتاب فرق الشيعة.

٣ ـ كتاب الرد على فرق الشيعة ما خلا الإمامية.

٤ ـ كتاب الجامع في الإمامة.

٥ ـ كتاب الموضع في حروب أميرالمؤمنين 7.

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٢.

٢ ـ العلامة : الخلاصة ـ القسم الأول ـ ١٤٣.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ١٠٥ برقم ٧٠٧.

٤ ـ الطوسي : الفهرست ٢٣٣ طبع ليدن.

٥ ـ المامقاني : تنقيح المقال ٢ / ٣١٣ برقم ٨٥٤٩.


٦ ـ كتاب التوحيد الكبير.

٧ ـ كتاب التوحيد الصغير.

٨ ـ كتاب الخصوص والعموم.

٩ ـ كتاب الأرزاق والآجال والأسعار.

١٠ ـ كتاب كبير في الجزء.

١١ ـ مختصر الكلام في الجزء.

١٢ ـ كتاب الرد على المنجّمين.

١٣ ـ كتاب الرد على أبي علي الجبّائي في ردّه على المنجّمين.

١٤ ـ كتاب النكت على ابن الراوندي.

١٥ ـ كتاب الرد على من أكثر المنازلة.

١٦ ـ كتاب الرد على أبي الهذيل العلاف في أنّ نعيم أهل الجنة منقطع.

١٧ ـ كتاب الإنسان غير هذه الجملة.

١٨ ـ كتاب الرد على الواقفة.

١٩ ـ كتاب الرد على أهل المنطق.

٢٠ ـ كتاب الرد على ثابت بن قرة.

٢١ ـ الرد على يحيى بن أصفح.

٢٢ ـ جواباته لأبي جعفر بن قبة.

٢٣ ـ جوابات اُخر لأبي جعفر.

٢٤ ـ شرح مجالسه مع أبي عبداللّه بن مملك.

٢٥ ـ حجج طبيعية مستخرجة من كتاب أرسطاطاليس في الرد على من زعم أنّ الفلك حي ناطق.

٢٦ ـ كتاب في المرايا وجهة الرؤية فيها.


٢٧ ـ كتاب في خبر الواحد والعمل به.

٢٨ ـ كتاب في الاستطاعة على مذهب هشام وكان يقول به.

٢٩ ـ كتاب في الرد على من قال بالرؤية للباري عزّوجلّ.

٣٠ ـ كتاب الاعتبار والتمييز والانتصار.

٣١ ـ كتاب النقض على أبي الهذيل في المعرفة.

٣٢ ـ كتاب الرد على أهل التعجيز ، وهو نقض كتاب أبي عيسى الوراق.

٣٣ ـ كتاب الحجج في الإمامة.

٣٤ ـ كتاب النقض على جعفر بن حرب ( ١٧٧ ـ ٢٣٦ ) في الإمامة.

٣٥ ـ مجالسه مع أبي القاسم البلخي ( ت ٣١٩ ).

٣٦ ـ كتاب التنزيه وذكر متشابه القرآن.

٣٧ ـ الرد على أصحاب المنزلة بين المنزلتين في الوعيد.

٣٨ ـ الرد على أصحاب التناسخ.

٣٩ ـ الرد على المجسّمة.

٤٠ ـ الرد على الغلاة.

٤١ ـ مسائله للجبّائي في مسائل شتّى (١).

والرجل من أكابر متكلّمي الشيعة ، عاصر الجبّائي ( ت ٣٠٣ ) والبلخي ( ت ٣١٩ ) وأبو جعفر بن قبة المتوفّى قبل البلخي فهو من أعيان متكلّمي الشيعة في أواخر القرن الثالث ، وأوائل القرن الرابع.

وقال ابن النديم : أبو محمّد الحسن بن موسى بن اُخت أبي سهل بن نوبخت ،

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٧٩ برقم ١٤٦ ترجمه ابن حجر في لسان الميزان ٢ / ٢٥٨ برقم ١٠٧٥ وترجمه هبة الدين الشهرستاني في مقدمة فرق الشيعة.


متكلّم ، فيلسوف كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة ، مثل أبي عثمان الدمشقي ، وإسحاق وثابت وغيرهم وكانت المعتزلة تدّعيه ، والشيعة تدّعيه ولكنّه إلى حيّز الشيعة ما هو ( كذا ) لأنّ آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده : في الظاهر ، فلذلك ذكرناه في هذا الموضع ... وله مصنفات وتأليفات في الكلام والفلسفة وغيرها ثمّ ذكر فهرس كتبه ولم يذكر إلاّ القليل من الكثير (١).

إنّ بيت نوبخت من أرفع البيوتات الشيعية خرج منه فلاسفة كبار ، متكلّمون عظام ، وقد آثرنا الاقتصار ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب المؤلّفة حول هذا البيت.

هؤلاء أعلام الشيعة ومتكلّموهم في القرون الأربعة فهم الذين ذادوا عن حياض الإسلام والتشيّع ببيانهم وبنانهم أتينا بأسمائهم في المقام ليكونوا كنموذج لما لم نذكره أو لم يحتفل بذكرهم التاريخ فإنّ الإستقصاء يخرجنا إلى تأليف منفرد.

ونختم هذا الفصل بمتكلّم فحل وبارع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات يسيرة أعني اُستاذ الشيعة وشيخ الاُمة الشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٤ ) الذي أنطق علمه وفضله وورعه وتقاه ، لسان كل موافق ومخالف وإليك نموذج ممّا ذكره أصحاب التذكرة وعلماء الرجال في كتبهم على وجه الإيجاز ونركّز على كلمات أهل السنّة ونذكر القليل من كلمات الشيعة في حقه.

١ ـ هذا هو ابن النديم ( ت ٣٨٨ ) معاصره ويعرّفه في الفهرست بقوله :

« ابن المعلم ، أبو عبداللّه ، في عصرنا انتهت رياسة متكلّمي الشيعة إليه ، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه ، دقيق الفطنة ، ماضي الخاطرة ، شاهدته

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٥ ـ ٢٦٦ الفن الثاني من المقالة الخامسة.


فرأيته بارعا ... (١)

والمعروف انّه ألّف الفهرست عام ٣٧٧ ، وتوفّي حوالي ٣٨٨ ، وعلى ضوء هذا فالمفيد انتهت إليه رياسة متكلّمي الشيعة وله من العمر ما لا يجاوز الخمسين.

٢ ـ وقال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( ت ٤٦٣ ) :

أبو عبداللّه المعروف بابن المعلم ، شيخ الرافضة ، والمتعلم على مذهبهم ، صنّف كتباً كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم (٢).

٣ ـ وقال عبدالرحمان ابن الجوزي ( ت ٥٩٧ ) :

شيخ الإمامية وعالمها ، صنّف على مذهبه ، ومن أصحابه المرتضى ، كان لابن المعلم مجلس نظر بداره ، بدرب رياح ، يحضره كافة العلماء ، له منزلة عند اُمراء الأطراف ، لميلهم إلى مذهبه (٣).

٤ ـ وقال أبو السعادات عبداللّه بن أسعد اليافعي ( ت ٧٦٨ ) :

وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة توفّي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد ، وابن المعلم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي : وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ، وقال غيره : كان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر ، عاش ستاً وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنّف ، وكانت جنازته مشهورة وشيّعه ثمانون الفاً من الرافضة والشيعة (٤).

__________________

١ ـ ابن النديم : الفهرست ٢٦٦ في فصل أخبار متكلّمي الشيعة.

٢ ـ الخطيب البغدادي : ٣ / ٣٣١ برقم ١٧٩٩.

٣ ـ ابن الجوزي : المنتظم ١٥ / ١٥٧.

٤ ـ اليافعي : مرآة الجنان ٣ / ٢٨ طبع الهند.


٥ ـ ووصفه أبوالفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي ( ت ٧٧٤ ) بقوله :

شيخ الإمامية الروافض ، والمصنّف لهم ، والمحامي عن حوزتهم ، وكان يحضر ملجسه خلق كثير من العلماء وسائر الطوائف (١).

٦ ـ وقال الذهبي ( ت ٧٤٨ ) :

محمّد بن محمّد بن النعمان ، الشيخ المفيد ، عالم الرافضة ، أبو عبداللّه ابن المعلم ، صاحب التصانيف البدعية ، وهي مائتا مصنف (٢).

عالم الشيعة ، وإمام الرافضة وصاحب التصانيف الكثيرة ، قال ابن ابي طي في تاريخه ـ تاريخ الإمامية ـ : هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية (٣).

٧ ـ قال ابن حجر ( ت ٨٥٢ ) بعد نقل ما ذكره الذهبي :

وكان كثير التعقيب والتخشّع والاكباب على العلم ، تخرج به جماعة ، وبرع في المقالة الإمامية حتّى يقال : له على كل إمام منّة ، وكان أبوه معلماً بواسط وما كان المفيد ينام من الليل إلاّ هجعة ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن (٤).

٨ ـ وقال ابن العماد الحنبلي : ( ت ١٠٨٩ ) :

« وفيها توفّي المفيد ، ابن المعلم ، عالم الشيعة ، إمام الرافضة ، وصاحب التصانيف الكثيرة ، قال ابن أبي طي في تاريخ الإمامية : هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان

__________________

١ ـ ابن كثير : البداية والنهاية ١١ / ١٥.

٢ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال ٤ / ٣٠.

٣ ـ الذهبي : العبر ٢ / ٢٢٥.

٤ ـ ابن حجر : لسان الميزان ٥ / ٣٦٨ برقم ١١٩٦.


الإمامية ، رئيس الكلام ، والفقه والجدل وكان يناظر اهل كل عقيدة مع الجلاله والعظمة في الدولة البويهية » (١).

هذا بالنسبة للسنّة ، وأمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه : الطوسي والنجاشي ونترك الباقي لمترجمي حياته.

١ ـ يقول الشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) في الفهرست :

المفيد يكنّى أبا عبداللّه المعروف بابن المعلم ، من جملة متكلّمي الإمامية ، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته ، وكان مقدّماً في العلم ، وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدماً فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار وفهرست كتبه معروف ، ولد سنة ٣٣٨ وتوفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ٤١٣ ، وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق (٢).

٢ ـ ويقول تلميذه الآخر ، النجاشي ( ٣٧٢ ـ ٤٥٠ ) :

شيخنا واُستاذنا ـ رضي اللّه عنه ـ فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والوثاقة والعلم ثمّ ذكر تصانيفه (٣).

وهذه الكلم تعرّفنا منزلته الرفيعة وانّه لم يكن يومذاك للشيعة متكلّم أكبر منه ، وكفى في ذلك انّه تخرّج على يديه لفيف من متكلّمي الشيعة نظير : السيد المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ) والشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) وهما كوكبان في سماء الكلام ، وحاميان عظيمان عن حياض التشيع ، ببيانهم وبنانهم.

__________________

١ ـ ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ٣ / ١٩٩ وفيه مكان الطائفة : الصوفية. وهو لحن.

٢ ـ الشيخ الطوسي : الفهرست برقم ٧١٠.

٣ ـ النجاشي : الرجال ٢ / ٣٢٧ برقم ١٠٦٨.


ولنكتف في سرد أسماء أئمة الكلام بهذا المقدار ولنترك الباقي من القرن الخامس إلى عصرنا هذا غير انّه يطيب لي أن اشير إلى بعض أساتذة الفلسفة منهم.

مشاهير أئمّة الفلسفة بعد القرن الرابع :

١ ـ إذا كان الشيخ المفيد أكبر متكلّم للشيعة ظهر في العراق ، فإنّ الشيخ الرئيس ابن سينا ( ٣٨٠ ـ ٤٢٤ ) أكبر فيلسوف اسلامي شيعي ظهر في المشرق ، وهو من الذين دفعوا عجلة الفكر والعلم إلى الأمام في خطوات كثيرة وقد طار صيته شرقاً وغرباً ، وكتبت عنه دراسات ضافية من المسلمين والمستشرقين ونحن في غنى عن افاضة القول في ترجمة حياته ، وآثاره التي خلّفها ، والتلاميذ الذين تربّوا في مدرسته ولكن نشير إلى كتابين من كتبه لأنّهما كوكبان.

الف ـ الشفاء وهو يشتمل على المنطق ، والطبيعيات والإلهيات والرياضيات وقد طبع أخيراً في مصر في أجزاء ، وبالامعان فيما ذكره في مبحث النبوّة يعلم مذهبه قال : والاستخلاف بالنص أصوب فانّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف (١).

باء ـ الاشارات وهو يشتمل على المنطق والطبيعات والإلهيات وهو من أحسن مؤلّفاته وفيه آراءه النهائية وقد وقع موقع العناية لمن بعده ، فشرحه الامام الرازي ( ٥٤٣ ـ ٦٠٦ ) والمحقق الطوسي ( ٥٩٧ ـ ٦٧٢ ) والشرح الثاني ، كان محور الدراسة في الحوزات العلمية.

٢ ـ نصير الدين الطوسي : الخواجه نصير الدين الطوسي ، سلطان المحققين واُستاذ الحكماء والمتكلمين ( ٥٩٧ ـ ٦٧٢ ) وهو أشهر من أن يذكر ، شارك في

__________________

١ ـ الشفاء قسم الإلهيات ٢ / ٥٦٤ طبع ايران.


جميع العلوم النظرية فاصبح اُستاذاً محقّقاً مؤسّساً أثنى عليه الموافق والمخالف.

٣ ـ الشيخ كمال الدين : الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني ( ٦٣٦ ـ ٦٩٩ ) الفيلسوف المحقّق ، والحكيم المدقّق ، قدوة المتكلمين ، تظهر جلالة شأنه وسطوع برهانه من الامعان في شرحه لنهج البلاغة في أربعة أجزاء وله « قواعد المرام في الكلام » وكلاهما مطبوعان.

٤ ـ العلاّمة الحلّي : شيخ الشيعة جمال الدين المعروف بالعلاّمة الحلّي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٨ ) له الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد ، وكشف المراد في الكلام ، وكتبه في المنطق والكلام والفلسفة تنوف على العشرين.

٥ ـ الرازي : قطب الدين الرازي ( ت ٧٦٦ ) ، تلميذ العلاّمة الحلّي واُستاذ الشهيد الأوّل ، له شرح المطالع في المنطق والمحاكمات بين العلمين : الرازي ونصير الدين الطوسي.

إلى غير ذلك من أدمغة كبيرة ظهرت في الحوزات الشيعيّة ، كالفاضل المقداد ( ت ٨٠٨ ) مؤلّف نهج المسترشدين في الكلام ، والشيخ بهاء الدين العاملي ( ٩٥٣ ـ ١٠٣٠ ) ، والسيد محمّد باقر المعروف بالداماد ( ت ١٠٤٠ ) ، وتلميذه المعروف بصدر المتألّهين مؤلّف الأسفار الأربعة ( ٩٧١ ـ ١٠٥٠ ) وغيرهم ممّن يتعسّر علينا احصاء أسمائهم فضلاً عن تحرير تراجمهم.

هذه لمحة عابرة عن مشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية في مجال العلوم العقلية واقتصر نا على المشاهير منهم إلى أواسط القرن الحادي عشر ، وتركنا أسماء الكثيرين. هذا وقد قام المتتبّع المتضلّع الشيخ عبداللّه نعمة بتأليف كتاب حول فلاسفة الشيعة ومتكلّميهم أسماه « فلاسفة الشيعة » وسدّ بذلك بعض الفراع حيّاه اللّه وبيّاه.

ومن حسن الحظ أنّ ركب التفكير والبرهنة والاستدلال لم يقف ، بل توالت


إلى عصرنا ، فترى في حقول الكلام والفلسفة شخصيات بارزة ومؤلّفات لا تحصى في الكلام والفلسفة والمنطق ، وقد عاش كثير من هؤلاء في الظروف السياسية الصارخة بالدم والرعب ، وقد صار ذلك سبباً في اختفاء آثارهم وضياعها ، بل وتراكم الأساطير حولها.

وبذلك تقف على قيمة ما ذكره المستشرق آدم متز في حق كلام الشيعة :

« أمّا من حيث العقيدة والمذهب ، فانّ الشيعة هم ورثة المعتزلة ، ولابدّ أن يكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لاءم أغراض الشيعة ولم يكن للشيعة في القرن الرابع مذهب كلامي خاص به » (١).

إنّ الشيعة منذ بكرة أبيهم ، كانوا مقتفين أثر أئمتهم ، ولم يكونوا ورثة المعتزلة ، وانّما أخذت المعتزلة اُصول مذهبهم عن أئمة أهل البيت ، كما أوضحنا حاله في الجزء الثالث من هذه الموسوعة ، والعجب أنّ الشيعة كانت تناظر المعتزلة من عصر الامام الصادق 7 إلى عصر المفيد وبعدهم حتّى أنّ الشيخ المفيد وضع كتباً في نقد المعتزلة ، كما وضع قبلهم بعض أئمة المتكلمين من الشيعة ردوداً على المعتزلة ، فكيف يكون الشيعة ورثة للمعتزلة ، نعم وأنّ القائل خلط مسألة الاتّفاق في بعض المسائل بالتبعية والاقتفاء ، فالشيعة والمعتزلة تتفقان في بعض الاُصول ، لا أنّ أحدهما عيال على الآخر.

١٣ ـ قدماء الشيعة والعلوم الكونية :

لم يكن اتّجاه الشيعة مختصّاً بالعلوم العقلية كالكلام والفلسفة والمنطق ،

__________________

١ ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، تعريب محمّد عبدالهادي أبو ريدة ١ / ١٠٦ الطبعة الثالثة.


بل امتدّ نشاطهم وحركتهم الفكرية إلى العلوم الرياضية ، والكونية ، فتجد هذا النشاط بارزاً في مؤلّفاتهم طيلة القرون ، ونحن نأتي هنا بذكر موجز عن مشاهير علمائهم ومؤلّفاتهم في القرون الاُولى تاركين غيرهم للمعاجم :

١ ـ هشام بن الحكم ( ت ١٩٩ ) له آراء في الاعراض كاللون والطعم والرائحة ، وقد أخذ منه إبراهيم بن سيار النظام ، وحاصل هذا الرأي أنّ الرائحة جزئيات متبخّرة من الأجسام تتأثّر بها الغدد الأنفية وأنّ الأطعمة جزئيات صغيرة تتأثّر بها الحليمات اللسانية (١).

٢ ـ إنّ بيت بني نوبخت بيت شيعي عريق ، فقد قاموا بترجمة الكتب الفارسية إلى العربية وقد خدموا بذلك العلوم الكونية.

قال ابن النديم : آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده ، وقال الأفندي في رياض العلماء : بنو نوبخت طائفة من متكلّمي الإمامية منهم.

الف ـ أبو الفضل بن نوبخت قال ابن النديم : كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد ، وقال ابن القطفي في تاريخ الحكماء : إنّه مذكور مشهور من أئمة المتكلمين وذكر في كتب المتكلمين وكان في زمن هارون الرشيد وولاّه القيام بخزانة كتب الحكمة ، وهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني.

ب ـ ولده إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت من متكلمي القرن الثالث.

ج ـ يعقوب بن اسحاق بن أبي سهل بن نوبخت متقدم في الحكمة والكلام والنجوم (٢).

٣ ـ أبو علي أحمد بن محمّد بن يعقوب بن مسكويه ، من أعيان الشيعة

__________________

١ ـ عبداللّه نعمة : فلاسفة الشيعة ٥٦.

٢ ـ العاملي : أعيان الشيعة ١ / ١٣٥.


وأعلام فلاسفتهم ، صنّف في علوم الأوائل وله تعليقات في المنطق ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة (١).

٤ ـ من أشهر علماء الشيعة وأقدمهم الذين برزوا بالكيمياء هو جابر بن حيان ، فهو الذي ظهر في حقل الكيمياء ، وهو أوّل من أشار إلى طبقات العين قبل يوحنا بن ماسويه ( ت ٢٤٣ ) وقبل حنين بن إسحاق ( ت ٢٦٤ ) وأوّل من أثبت امكان تحويل المعدن الخسيس إلى الذهب والفضة ، فلم تقف عبقريته في الكيمياء ، عند هذا الحد بل دفعته إلى ابتكار شيء جديد في الكيمياء فأدخل فيها ما سمّاه بعلم الميزان ، والمقصود منه معادلة ما في الأجسام والطبائع ، وجعل لكل جسم من الأجسام ، موازين خاصة (٢) وقد اُلّفت حول جابر وعبقريته كتب كثيرة ، فمن أراد فليرجع إليها ، وقد اتّفق الكل على أنّه تلميذ الامام الصادق 7.

٥ ـ الشريف أبوالقاسم علي بن القاسم القصري ، وهو من علماء القرن الرابع ، ذكره ابن طاووس في فرج المهموم في عداد منجّمي الشيعة (٣).

وهذه نماذج من علماء الشيعة في الطبيعيات والفلكيات ، وأمّا المتأخّرون ، فحدّث عنهم ولا حرج ، وقد أتى بقسم كبير منهم الشيخ عبداللّه نعمة في كتابه « فلاسفة الشيعة » فمن أراد فليرجع ، غير أنّا نذكر هنا المحقق الطوسي الذي له حقّ على الاُمّة جمعاء تقول في حقّه المستشرقة الألمانية :

« وحصل نصير الدين الطوسي على مرصده ، فكان معهداً لأبحاث لا مثيل له ، وزوّده بالآلات الفلكية التي زادت في شهرة المعهد ، ورفعت مكانته ... ويحكى أنّ

____________

١ ـ محمّد باقر الخونساري : روضات الجنات ١ / ٢٥٤.

٢ ـ فلاسفة الشيعة ١ / ٥٧.

٣ ـ فرج المهموم.


زائراً قصد ابن الفلكي نصير الدين في مرصده في مراغه فلمّا رأى الآلات الفلكية المتنوعّة ذهل ، وقد زاد دهشة حين رأى « المحلقة » ذات الخمس حلقات والدوائر من النحاس : اولاها تمثّل خطّ الطول الذي كان مركّزاً في الأسفل ، وثانيتها خطّ الاستواء ، وثالثتها الخطّ الاهليلجي ، ورابعتها دائرة خطّ الأرض ، وخامستها دائرة الانقلاب الصيفي والشتوي ، وشاهد أيضاً دائرة السمت التي يمكن للمرء بواسطتها أن يُحدّد سمت النجوم ، أي الزاوية الناتجة على خطّ اُفقيّ ثابت وخطّ اُفقيّ آخر صادر عن كوكب في السماء.

وتقول أيضاً : إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد وسوريا وبلاد بابل ، وقد استدعى علماء ذوي شهرة طائرة من اسبانيا ودمشق وتفليس والموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت يمكن » (١).

ويناسب في المقام ذكر اجمالي عمّا قدموا من الخدمة في مجال الجغرافية وعلم البلدان فنقول :

الجغرافية وتقويم البلدان :

نذكر في المقام ، رحّالتين طافا في البلاد الإسلامية وكتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان ، وقد صار كتاباهما أساساً للآخرين :

١ ـ أحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي المتوفّى في أواخر القرن الثالث ، فهو أوّل جغرافي بين العرب ، وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته

__________________

١ ـ السيدة زيغريد هونكه : شمس العرب تسطع على الغرب ١٣٣ والصحيح أن يسمى : شمس الإسلام...


الخاصة ، ومتوخّياً قصد ما أراد من وصف البلد وخصائصها وهو يقول عن نفسه : انّه عنى في عنفوان شبابه ، وحدّة ذهنه بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد ، لأنّه سافر حديث السن واتّصلت أسفاره ودام تغرّبه ، وقد طاف في بلاد المملكة الإسلامية كلّها ، فنزل أرمينية وورد خراسان وأقام بمصر والمغرب بل سافر إلى الهند ، وكان متى لقى رجلا سأله عن وطنه ومصره وعن زرعه ما هو؟ وساكنيه منهم؟ عرب أو عجم؟ وعن شرب أهله ولباسهم ودياناتهم ومقالاتهم من غير أن يلحقه من ذلك ملال ولا فتور ، وقد وصف المملكة الإسلامية مبتدئاً ببغداد وصفاً منظّماً مع اصابة جديرة بالثقة والاعجاب (١).

٢ ـ أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ( ت ٣٤٦ ) فقد ألّف في ذلك المضمار كتابه « مروج الذهب ومعادن الجوهر » وكتابه الآخر « التاريخ في أخبار الاُمم من العرب والعجم » وكتابه الثالث « التنبيه والاشراف » فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية وتقويم البلدان ، وقد جرّه حُبّه للاستطاع إلى بلاد بعيدة ، فكتب ما رآه وشاهده.

__________________

١ ـ آدم متز : الحضارة الإسلامية ٢ / ٣٤ وكتاب اليعقوبي في الجغرافية هو كتاب « البلدان » المنتشر.



الفصل الثالث عشر

في بلدان الشيعة وجامعاتهم العلمية



قد عرفت الخطوط العريضة في التشيّع وأنّه ليس شيئاً سوى الإسلام على أساس كون القيادة والخلافة ـ بعد رحلة النبي ـ لعلي 7 وأهل بيته ، كما تعرّفت على حياة الأئمّة الاثني عشر ، وعلى عمالقة الفكر والعلم والفلسفة ، والأدب والشعر ، من شيعتهم ، الذين شاركوا المسلمين في بناء حضارة قامت على العلم ، والثقافة.

ولكن ـ اكمالاً للبحث ـ نذكر بلدان الشيعة أوّلاً ، والجوامع والمعاهد العلمية التي أنشأوها ثانياً ودورهم ثالثاً وعددهم رابعاً. حتّى يتم التعرّف عليهم ، على القدر المستطاع.

١ ـ بلدان الشيعة :

تتواجد الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة وربّما يعدّ بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها ويكون المذهب السائد عليه هو التشيّع. وإليك أسماء بعضها وهي إيران ، والعراق ، والحجاز ، والشامات ، وتركيا ، وأفغانستان ، والباكستان ، والهند ، واليمن ، ومصر ، والامارات المتّحدة العربية ، والبحرين ، والاحساء ، والقطيف ، والكويت ، ومسقط ، وعمان ، والتبت ، والصين ،


وجمهورية آذربايجان ، وطاجيكستان والجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي ، وماليزيا ، وأندونيسيا ، وسيلان ، وتايلند ، وسنغافورة ، والأفريقية الشمالية ، والصومال ، والأرجنتين ، وبريطانيا ، وألمانيا ، وفرنسا ، وألبانيا ، والولايات المتّحدة ، وكندا وغيرها ممّا يعسر عدّها.

ولا بأس بالإيعاز إلى خصوصيات بعض البلدان إذ فيه تسليط لبعض الضوء للتعرّف على ماضي التشيّع وما لاقه أتباعه من العدوان والويلات والمصائب.

التشيّع حجازي المحتد والمولد :

التشيّع حجازي المحتد والمولد ، إذ فيه نشأ ، وفي تربته غرست شجرته ثمّ نمت وكبرت ، فصارت شجرة طيّبة ذات أغصان متّسقة وثمار يانعة. وفيه حثّ النبيّ الأكرم على ولاء الإمام وسمّى أولياءه شيعة ، وحدّث بحديث الثقلين وجعل أئمة أهل البيت قرناء الكتاب في العصمة ولزوم الاقتفاء والطاعة ، وفيه رقى النبيّ المنبر الذي صنعوه من رحال الابل وأخذ بيد وصيّه وولي عهده عليّ المرتضى وحمد اللّه وأثنى عليه وقال : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ » فقالوا : اللّهمّ بلى ، ولمّا أخذ من الجمع المحتشد ، الاقرار بأولويته على النفس والنفيس عرّف علياً خليفة عنه وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ونزل من المنبر ثمّ نزلت آيات ، وتبودلت التهاني والتحيّات بين الامام والصحابة (١).

وقد أشار إلى بعض ما ذكر مؤلّف خطط الشام وقال : « إنّ النبي 6 هو الذي حثّ على ولاء علي وأهل بيته :

__________________

١ ـ لاحظ الفصل الثالث من هذا الجزء.


وهو أوّل من سمّى أولياءه بالشيعة وفي عهده ظهر التشيّع وسمّى جماعة بالشيعة (١).

ولمّا ارتحل النبي الأكرم إلى دار البقاء تناسى اُولوا القوة والمنعة من الصحابة عهد النبي الأكرم فحالوا بين النبي واُمنيته كما حالوا بين اُمّته وإمامها ، فتداولوا كرة الخلافة بينهم ، وأخذوا بمقاليد الحكم واحداً بعد آخر ، والإمام منعزل عن الحكم ، لا عمل له إلاّ هداية الاُمّة وارشادها بلسانه وبيانه وقلمه وبنانه.

إنّ الذي دعا عليّاً إلى السكوت والانحياز ، هو مشاهدة ظاهرة الردّة ، الطارئة على المجتمع الاسلامي عن طريق مسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد الأفّاك ، وسجاح بنت الحرث الدجّالة ، واصحابهم الهمج الرعاع فكانوا مهتمّين بمحق الإسلام وسحق المسلمين. ويحدّث عنه الامام في رسالته إلى أهل مصر التي أرسلها مع مالك الأشتر يقول : « فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد 6 فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم » (٢).

رأى الامام أنّ صيانة الإسلام وردّ عادية الأعداء تتوقّفان على المسالمة والموادعة فألقى حبل الخلافة على غاربها ، تقديماً للأهم على المهمّ ، وتبعته شيعته صابرين على مضض الحياة ومرّها.

بقي الامام منعزلاً عن الحكم قرابة ربع قرن إلى أن قتل عثمان في عقر داره وانثال الناس إلى دار علي من كلّ جانب مجتمعين حوله كربيضة الغنم ، يطلبون منه القيام بالأمر وأخذ مقاليد الحكم ، وفيهم شيعته المخلصون الأوفياء ، فلم ير بدّاً من

__________________

١ ـ محمد كرد علي : خطط الشام ٥ / ٢٥١.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة قسم الكتب برقم ٦٢.


قبول دعوتهم لقيام الحجة بوجود الناصر (١).

ولمّا نكث الناكثون البيعة ، وقادوا حبيسة رسول اللّه « عائشة » ، معهم إلى البصرة ، ارتحل الإمام بأنصاره وشيعته إلى العراق إلاّ قليلاً بقوا في الحجاز لقلع مادة الفساد قبل أن تستفحل ، ولمّا قلع عين الفتنة ، استوطن الإمام الكوفة واستوطنها معه شيعته وصارت الكوفة عاصمة التشيّع ، ومعقله ، وفيها نما وأينع وأثمر ومنها انحدر إلى سائر البلدان ، بعدما كان الحجاز مهبط التشيّع ومغرسه ومحتده. فكان حجازي المحتد والمغرس عراقي النشوء والنمو. ولم يكن يوم ذاك يتظلّل في ظلال التشيّع ، إلاّ عربي صميم ، من عدنانيّ وقحطانيّ ولم يكن بينهم فارسىّ المحتدّ ولا بربريّ الأصل ولا شعوبيّ العقيدة.

ومضت على التشيّع في مغرسه ( الحجاز ) قرون ومرّت به أجواء قاسية ، وظروف رهيبة كادت تقضي على الشيعة ـ مع ذلك ـ نرى اليوم تواجدهم في مكة والمدينة وحضر موت ونجران ، الحدود اليمنية ، وقبائل الأطراف رغم العدوانية السائدة في هذه الآونة الأخيرة ضدّهم ورغم سيادة السيف والوحشية الكاسرة فيها ، فبنو جهم ، وبنو علي ، وبعض بني عوف ، ونخاولة المدينة والفلاحون في رساتيقاها كلّهم شيعة.

وأمّا المنطقة الشرقية كالاحساء والقطيف والدمّام ، فالأكثرية الساحقة فيها هي الشيعة ، ولأجل سحق هذه الأكثرية عمدت السلطة الوهابية بزرع السنّة في بلادهم باستيطان بعض القبائل والموظفين فيها واللّه من وراء القصد.

__________________

١ ـ إشار إلى قوله 7 : « أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر ... لأقيت حبلها على غاربها » نهج البلاغة ، الخطبة ٣.


التشيّع عراقيّ النشوء والنموّ :

قد عرفت أنّه لمّا غادر الامام المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى العراق واستوطن الكوفة هاجر كثير من شيعته معه واستوطنوا العراق ، فصار ذلك أقوى سبب لنشوء التشيّع ونموّه ، في العراق ولا سيما في الكوفة ، فصارت معقل الشيعة ، ولمّا قضى الامام نحبه حاولت السلطة الاموية وعمّالها استئصال التشيّع منها بأبشع صورة مذكورة في التاريخ.

بالرغم من أنّ العراق وأخص منه الكوفة كان علوي النزعة هاشمي الولاء ، إلاّ أنّ الحسين ، ابن الإمام قتل بسيف الكوفيين ، وسقط عطشاناً وحوله أجساد أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه ولكن ذلك لا يدل على انسلاخهم عن التشيّع لأنّ الشيعة يوم ذاك كانوا بين مسجون في زنزانات الامويين ، ومرعوب فاقد للتصميم والحميّة وخاذل ، ومنتظر لما تؤول إليه الاُمور ، وناصر التحق بالحسين في اُحلك الظروف.

هؤلاء هم الشيعة.

وأمّا الذين شاركوا في قتل الحسين فلم يكونوا من الشيعة أبداً بل كانوا أتباع الامويين والمنضوين تحت راياتهم. ولمّا قتل الحسين أثار قتله أعمق الأشجان وأعنف العواطف في الشيعة وبعد اطلاق سراح المسجونين قاموا بجد وحماس بأخذ الثأر بقيادة المختار ، باكين ليلاً ونهاراً على ما أصاب الحسين من مصيبة.

وقد حاول الامويون جعل العراق أموياً ، وبذلوا جهودهم ، لكن عادت الجهود فاشلة فهي إلى اليوم هاشمي وعلوي وحتّى أنّ دعوة العباسيين نجحت في بداية الأمر في العراق فى ظل طلب ثأر الحسين وأهل بيته وكانت الدعوة للرضا من آل محمّد.

تبلور التشيّع بعد حادثة الطف بقليل واتّسع نطاقه وصار العراق مركزه ، وكانت القوافل من أنحاء العراق وغيرها تؤمّ قبر الحسين 7 وأصحابه ،


فصارت مشاهد أهل البيت فيها معمورة بالزائرين والمجاورين ، وكانت المآتم تقام في حواضرها واتّخذت الشيعة مشاهد أئمّتهم ، حوزات علمية ومعاهد فكرية ، فازدهر العراق بعمالقة الفكر ، وأساتذة الفقه وأساطين الكلام ، وأعان على نشر التشيّع ونموّه في العراق نشوء دول وإمارات للشيعة في القرن الرابع وما بعده.

يقول الشيخ المظفر : وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق ، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وإمارات كسلطنة آل بويه ، وامارة بني مزيد في الحلّة والنيل ، وبني شاهين في البطائح ، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل ، ونصيبين ، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد ، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك امارات عليه إلاّ أنّه لم يصارح به ، وكدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قواد المغول وابن اُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده ، وكانت بغداد عاصمة ملكه ، وكالدولة الصفوية التي ناصرت التشيّع ونشرته في البلاد بشتّى الطرق ، فكانّما هي دولة دينية تأسّست لنشر مذهب أهل البيت.

وأيّد مذهب التشيّع أيضاً أن انعقدت عدّة وزارات من رجاله فقد استوزر السفاح أوّل ملوك بني العباس : ابا سلمة الخلال الكوفي الهمداني داعية أهل البيت وقتله على التشيّع. واستوزر المنصور : محمّد بن الأشعث الخزاعي. واستوزر المهدي : أبا عبداللّه يعقوب بن داود وحبسه لتشيّعه. واستوزر الرشيد : علي بن يقطين ، وجعفر بن الأشعث الخزاعي. والمأمون : الفضل بن سهل ذا الرياستين لجمعه بين القلم والسيف وقتله عند ما أحسّ بميله إلى الرضا 7. واستوزر من بعده أخاه الحسن بن سهل. واستوزر المعتزّ والمهتدي : أبا الفضل جعفر بن محمود الاسكافي. واستوزر المقتدى : أبا شجاع ظهر الدين محمّد بن الحسين الهمداني وعزله لتشيّعه. واستوزر المستظهر : أبا المعالي هبة الدين بن محمّد بن المطلب


وعزله لتشيّعه ثم أعاده على أن لا يخرج من مذهب أهل السنّة ثم تغيّر عليه وعزله ، واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر : مؤيد الدين محمّد بن عبدالكريم القمي من ذرية المقداد ـ رضوان اللّه عليه ـ واستوزر المستعصم آخر ملوك بني العباس : أبا طالب محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي وأقرّه هولاكو على الوزارة ، ولمّا مات ; استوزر : ولده أبا الفضل عز الدين ، إلى ما سوى هؤلاء.

وأمّا الإمارات ، والقيادات ، والكتابة ، والخزانة ، فما أكثرها ، أمثال امارة آل قشتمر ، وآل أبي فراس الشيباني ، وآل دبيس كما أشرنا إليهم ، وقيادة طاهر ابن الحسين الخزاعي وقيادة أولاده كابنه عبد اللّه ، ومحمّد بن عبداللّه وغيرهما ، وتولّيهم امارة هرات ، وكان عبداللّه بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وكان من ثقاة الرواة لأبي عبداللّه الصادق 7 ، إلى ما يعسر استقصاؤه.

وكفاك برهاناً على أنّ التشيّع كان ضارباً أطنابه على بسيطة العراق ، ما كان من نقابة الطالبيين في بغداد ، فما أكثر ما كان يتولاّها الشيعة ، أمثال الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى ، وقد تولّوا المظلم أيضاً ، وتولّى الشريف الرضي وأبوه أيضاً امارة الحاج ، كما تولاّها ثلاث عشرة حجة حسام الدين أبو فراس جعفر بن أبي فراس الشيباني.

وتولّى آل طاووس نقابة الطالبيين في العراق عامة ، تولاها منهم السيدان العلمان رضي الدين وغياث الدين عبدالكريم (١) كما تولّى الأوقاف في العراق

__________________

١ ـ اُنظر ـ الحوادث الجامعة ـ في حوادث عام ٦٦١ وما ذكره فيها من تولّي السيد رضي الدين بن طاووس نقابة الطالبيين بالعراق ، وذكر أنّ وفاته عام ٦٦٤ ، وفي حوادث عام ٦٩٣ قال : وفيها توفّي النقيب غياث الدين عبدالكريم بن طاووس.


وغيرها ممّا كان تحت حكم المغول الخواجا نصير الدين الطوسي ـ طاب ثراه ـ ، وعندما قبض عليها ، أقام ببغداد وتصفّح الأوقاف وأدار أخبار الفقهاء والمدرسين وقرر القواعد في الوقف وأصلحها بعد اختلالها (١) ومن بعده تولاّها ابنه أحمد فخر الدين ، ولمّا وليها حذف الحصة الديوانية في الوقوف ، ووفرت على أربابها (٢).

ثمّ إنّ شيخنا المظفر ـ وهو عراقي المحتد والمنشأ ـ عارف بخصوصيات بلده وما جرى على الشيعة فيها طيلة القرون خصوصاً بعد ما نشبت فيها مخالب آل عثمان ، خرج بالنتيجة التالية :

« انّ جنوب العراق شيعة خالصة ولو وجد فيه غيرهم فهو نادر وأمّا البلاد الشمالية ، فسكّانها على العموم من أهل السنّة إلاّ أنّ الشيعة فيها ليسوا بالقليل ، ولو أمنوا الغوائل من اظهار هم لولاء أهل البيت ، كما يأمن العدد القليل من أهل السنّة في الجنوب ، لعجبت من كثرتهم في تلك البلاد لا سيما في لواء الموصل وكركوك.

وأمّا البلاد الوسطى كالحلّة فهي شيعية خالصة سوى أفراد معدودين في نفس القصبة ، ولواء بغداد فأكثريته من الشيعة ، ومثله لواء ديالى ، بعكس لواء الديلم ففيه من الشيعة عدد قليل. وعليه ، فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة وفيها شوب من غيرهم ، وخمسة سنّة وفيها خليط من الشيعة ولواءان مختلطان يغلب التشيع عليهما ، هذا ما يعرفه المستقرئ ، لبلاد العراق.

ومن ثمّ لا نحتاج إلى استقراء لجميع بلاد الجنوب أمثال الكوت والعمارة والغرّاف وما سواها من بلاد دجلة ، والسماوة والديوانية والناصرية وماسواها من

__________________

١ ـ اُنظر تاريخ ـ مختصر الدول ـ للعبرى ٥٠٠ و ـ الحوادث الجامعة ـ في حوادث عام ٢٧٢.

٢ ـ اُنظر ـ الحوادث الجامعة ـ في حوادث عام ٦٨٣.


بلاد الفرات (١).

الشيعة في اليمن :

دخل التشيّع في اليمن منذ أن أسلموا بيد علي 7 يحدثنا التاريخ انّ رسول اللّه 6 بعث خالد بن الوليد إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام فأقام هناك ستة أشهر فلم يجيبوه إلى شيء. فبعث النبي 6 علي بن أبي طالب7 وأمره أن يرجع خالد بن الوليد ومن معه. قال البراء : فلمّأ انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فجمعوا له فصلّى بنا عليّ الفجر ، فلمّا فرغ صفّنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فحمداللّه واثنى عليه ثمّ قرأ عليهم كتاب رسول اللّه فأسلمت همدان كلّها في يوم واحد وكتب بذلك إلى رسول اللّه ، فلمّا قرأ كتابه خرّ ساجداً ثمّ جلس فقال : السلام على همدان ، السلام على همدان ثمّ تتابع أهل اليمن على الاسلام (٢) فكان تمسّكهم بعرى الإسلام على يد علي وصار هذا أكبر العوامل لصيرورتهم علويين مذهباً ونزعة. وفي ظل هذه النزعة ضحّوا بأنفسهم ونفيسهم بين يدي علي في حروبه.

أضف إليه أنّهم سمعوا من المصطفى 6 فضائل إمامهم ومناقبه غير مرّة وهذا ممّا زادهم شوقاً وملأ قلوبهم حبّاً وولاءً له ، روى المحدثون : انّ اليمانيين طلبوا من النبي أن يبعث إليهم رجلاً يفقّههم في الدين ويعلّمهم السنن ويحكم بينهم بكتاب اللّه ، فبعث النبي علياً وضرب على صدره وقال : « اللّهمّ اهد قلبه ، وثبّت لسانه ». قال الامام 7 : فما شككت في قضاء بين اثنين حتى

__________________

١ ـ محمّد حسين المظفر : تاريخ الشيعة ٦٩ ـ ٧١ و ١١٠ ـ ١١١.

٢ ـ ابن الأثير : الكامل ٢ / ٣٠٠ في حوادث السنة العاشرة. دار صادر.


الساعة (١).

بقى بينهم مدّة يفقّههم في الدين ، ويقضي بكتاب اللّه ، ويحلّ المشاكل القضائية ، بما يبهر العقول.

انّ هذا وذاك ، والقتل الذريع الذي ارتكبه عمّال معاوية كبسر بن أرطاة ، سبّب اتّجاه اليمانيين نحو صاحب الولاية من يومهم إلى يومنا هذا وقد خامر التشيّع قلوبهم وعقولهم ولأجل وجود أواصر الحبّ والولاء بين اليمانيين والامام علي 7 ذكرهم علي في شعره وقال :

فلو كنت بوّاباً على باب جنّة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وممّا يدل على فرط حبّهم وولائهم لعلي 7 ما قاله سيدهم سعيد بن قيس الهمداني ـ رضوان اللّه عليه ـ في وقعة الجمل :

قل للوصي أقبلتْ قَحْطانُها

فادع بها تكفيكها هَمْدانُها

همُ بنوها وهمُ اخوانها (٢)

نعم رحل يحيى بن الحسين الرسي العلوي من العراق إلى اليمن في القرن الثالث ودعا إلى المذهب الزيدي في ظل ولاء أهل البيت وأخذ بمجامع القلوب وانتشرت دعوته فانتموا إلى زيد ، فالشيعة إلى اليوم في اليمن زيديّو المذهب يهتفون في الأذان بـ « حيّ على خير العمل ».

ويوجد هناك شيعة إماميون قليلون.

كانت الحكومة منذ دعوة الرسي العلوي بيد الزيدية وكان آخر حاكم مقتدر زيدي يحكم البلاد هو حميد الدين يحيى المتوكّل على اللّه ، ولمّا اغتيل هو وولداه

__________________

١ ـ كنز العمال ٦ / ١٥٨ و ٣٩٢ باب فضائل علي.

٢ ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥.


الحسن والمحسن ، وحفيده الحسين بن الحسن بيد بعض وزرائه عام ١٣٦٧ هـ ق في ظل مؤامرة أجنبية ، قام مكانه ولده الامام بدر الدين ولم يكن له نصيب من الحكم إلاّ مدّة قليلة حتّى اُزيل عن الحكم عن طريق انقلاب عسكري ، وبذلك انتهى الحكم الزيدي في اليمن ولكن اليمنيين بقوا على انتمائهم إلى التشيّع. نعم إنّ السلطة الوهابية في هذه الآونة بصدد تصدير التوهّب وفرضها عليها في ظل تزويد الدولة بامكانيات مالية.

واللّه من وراء القصد ...

الشيعة في سوريا ولبنان :

ظلّ التشيّع سائداً في الشام وحلب وبعلبك وجبل عامل منذ القرن الأوّل إلى يومنا هذا ، ومن المعروف انّ أباذر هو الذي بذر بذرته ، أو غرس شجرته عندما نفاه عثمان من المدينة إلى الشام ، وكان يجول في الشام وضواحيه وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، من دون أن يخاف قوّة أو سطوة ، أو إهانة أو قسوة ، وطبع الحال يقتضي أن يبوح بما انطوت عليه جوانحه من الولاء لعلي وأهل بيته ، يدعو له على القدر المستطاع ، وقد نمت البذرة في ظل التستّر والتقيّة وأمّا اليوم فالشيعة مجاهرون ولهم شأن عند الدولة ولهم مظاهر في الشام وضواحيه ، ترى اسم علي والحسين مكتوبين تحت قبّة المسجد الأموي ، وفي الجانب الشرقي مسجد خاص باسم رأس الحسين وفي نفس البلد قباب مشيّدة لأهل البيت وفي الوقت نفسه لاتجد أثراً لمعاوية (١) ويزيد والحكام الأمويين. إنّ في ذلك لعبرة لاُولي الألباب.

__________________

١ ـ نعم في داخل البلد بيت يقال فيه قبر معاوية لا يزوره أحد إلاّ للعبرة ، والاطّلاع على ما آل إليه أعمال الامويين من مصير بائس بعد مماتهم.


قويت شوكة التشيّع في سوريا حين ما قامت دولة الحمدانيين في الشام والجزيرة فلسيف الدولة أيدي بيضاء في رفع منارة التشيع ، كيف وأبو فراس صاحب القصيدة الميمية هو ابن عمّه الذي يقول :

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول اللّه مقتسم

وأمّا جبل عامل فقد انتشر فيه التشيّع منذ دخل إلى الشام ، وقد خرج منها علماء طبقوا البلاد شهرة وصيتاً أخص منهم بالذكر :

١ ـ محمّد بن مكي المعروف بالشهيد الأوّل ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ ) وكان إماماً في الفقه ولكنّه صلب بيد الجور ، ثمّ رجم ، ثمّ اُحرق ، بذنب أنّه شيعيّ موال لأهل البيت ولا يفتي بفتوى أئمّة المذاهب الأربعة.

وله كتب فقهية أشهرها اللمعة الدمشقية ألّفها في السجن خلال اسبوع ولم يكن عنده من الكتب الفقهية سوى المختصر النافع للمحقّق الحلّي ( ٦٠٠ ـ ٦٧٦ ).

٢ ـ زين الدين بن علي الجبعي ( ٩١١ ـ ٩٦٦ ) صاحب الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية والمسالك في شرح الشرائع الذي يتضمّن مجموع الكتب الفقهية مع ذكر المستند والدليل. وهو قدس اللّه سرّه استشهد قرب شاطئ البحر وفصل رأسه عن جسده واُرسل إلى السلطان. ولا ذنب له إلاّ كذنب الشهيد الأوّل.

ولعمري الحق أنّ هذه المواقف من الحكومات السنّية عبر القرون ، تقشعرّ منها الجلود ، ويندى منها جبين الإنسانية ويرفضها الدين والعقل فأين الكرامة والحرّية؟ أين السماحة ، والرأفة؟

أقول : إذا كان هذا مصير الشيعة مع كونهم سائرين خلف حُجب التقية ، فما ظنّك لو لم يتّخذوا من التقيّة ستارا؟

ولقد خرج من جبل عامل وراء هذين الشخصين علماء كبار ، فقهاء عظام ولم يزل منار التشيّع مرتفعاً ولواؤه خفّاقاً بهم ، ولقد تحمّلوا عبر القرون وخصوصاً في


عهد السلطة العثمانية ، المصاعب الجسام والتي ذكرها التاريخ واقرأ في هذا المجال جرائم أحمد باشا الجزّار ، ممثّل الدولة العثمانية في بلاد الشام من ( ١١٩٥ ـ ١١٩٨ ). ولقد ألّف الشيخ الحرّ العاملي كتاباً أسماه أمل الآمل في علماء جبل عامل طبع في جزأين واستدرك عليه السيد الجليل حسن الصدر.

بعلبك : إنّ بعلبك تعد من المدن الشيعية العريقة ولقد ظهر بها التشيّع منذ دخل بلاد الشام وراج في ظلّ الدولة الحمدانية. والعيشة فيها كالعراق ، عيشة قبليّة وأهلها معروفون بالبسالة والبطولة والجود والكرم.

الشيعة في مصر :

دخل التشيّع مصر في اليوم الذي دخل فيه الإسلام ولقد شهد جماعة من شيعة عليّ فتح مصر منهم المقداد بن الأسود الكندي ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو رافع ، وأبو أيوب الأنصاري ، وزارها عمّار بن ياسر في خلافة عثمان (١) وهؤلاء ما كانوا يبطنون فكرة التشيّع التي كانوا يؤمنون بها منذ عهد رسول اللّه.

ولأجل ذلك حين قتل عثمان باجهاز المصريين عليه ، بايعوا عليّاً كما بايع أهلها طوعاً ورغبة.

لمّا بعث علي قيس بن سعد أميراً على مصر بايع أهلها طوعاً إلاّ قرية يقال لها خربتاء (٢).

كان هذا نواة لمذهب التشيّع في تلك البلاد وإن تغلّب عليها الأمويون بعد علي ، وقتل عمرو بن العاص والي علي محمّد بن أبي بكر. وجعلوا جثّته في جيفة

__________________

١ ـ الخطط المقريزية ٢ / ٧٤.

٢ ـ الخطط المقريزية ٤ / ١٤٩ ، الجزري : الكامل ٣ / ٦١ حوادث عام ٣٦.


حمار وأحرقوه بالنار ولكن للحق دولة وللباطل جوله ، فهذه الأعمال الاجرامية وما ارتكبه العباسيون من الجرائم صارت سبباً لابتعاد الناس عن السلطات وتعاطفهم مع العلويين ، خصوصاً عندما ذهب إليها بعض السادة الحسنيين ، إلى أن قامت دولة الفاطميين وبثّوا الدعاة في أفريقيا فاعتنق المصريون التشيّع برغبة وجهروا بحيّ على خير العمل. وتفضيل عليّ على غيره ، وكما جهروا بالصلاة على النبي وآله.

لقد قامت في عهد الفاطميين مراسم عاشوراء وعيد الغدير ، ولم تزل هذه المراسم إلى يومنا هذا. وكان التشيّع مخيّماً على مصر في عهد الفاطميين وضارباً أطنابه في القرى والبلدان لولا أنّ صلاح الدين يوسف الأيوبي أزال سلطتهم ومذهبهم من مصر بقوّة السيف والنار.

وهذه الصفحة في تاريخ مصر صفحة مليئة بالأسى والحزن ومع ذلك تتواجد في هذه الأيام الشيعة ، وأمّا السنّة فهم علويون روحاً وعاطفة يتفاخرون بالحب والميل لأهل البيت ويعبّرون عن ذلك بزيارتهم للمشاهد المعروفة برأس الحسين ومرقد السيدة زينب والسيدة سكينة.

وبذلك يعلم حال التشيّع بأفريقيا الشمالية فانّ حكومة الفاطميين امتدّت إلى الجزائر ومراكش وتونس وليبيا والسودان ، أضف إلى ذلك انّ كثيراً من العلويين ارتحلوا إلى تلك البلاد وأسّسوا دويلات وكان ذلك سبباً لانتشار التشيّع.

الشيعة في إيران :

إنّ التشيّع هو المذهب الساحق في إيران من أوائل القرن العاشر (٩٠٥) إلى يومنا هذا انّ الدولة الصفوية هم الذين أشاعوا التشيّع في إيران ، بعد ملوك المغول فلو كان نجاح الثاني قليلاً ، كان نجاح الصفويين كبيراً ، فلو بلغ عدد النفوس في إيران الإسلامية قرابة ستين مليوناً ، فالأكثرية هم الشيعة ، ولا تتجاوز سائر الطوائف عن


أربع ملايين والجميع يعيشون في حرّية وسلام. يلمسها كل من ورد الجمهورية الإسلامية.

إنّ هنا اُموراً لا محيص ، عن طرحها وتحليلها لأنّها من المواضع التي كثر فيها اللغط وقد أكثر المستشرقون وغيرهم فيها الصخب والهياج وهي :

١ ـ ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الاسلام؟

٢ ـ ما هو السبب الحقيقي لجنوحهم آل البيت؟

٣ ـ سببان مزعومان : الاصهار ، وإرادة هدم الإسلام وإليك تحليل تلك النقاط.

١ ـ ما هو السبب لدخول الفرس في الإسلام

إنّ الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب والعلّة في الجميع واحدة أو متقاربة وحاصلها أنّهم وقفوا على أنّ في هذه الشريعة الغرّاء ، من سمات العدل والمساواة ، ورفض التمييز العنصري ، والنظام الطبقي ، وأنّ الناس فيه كأسنان المشط لافضل لعجمي على عربي ، ولا لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى ، وكانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجّرها رايات العدل ، وكان ذلك هو الدافع المهم للشعوب للدخول في الإسلام والانضواء تحت رايته ، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب.

٢ ـ ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت :

إنّ السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنّهم شاهدوا أنّ علياً وأهل بيته ـ خلافاً للخلفاء عامتهم ـ يكافحون فكرة القومية ويطبّقون المساواة فأخذوا يتحنّنون إليهم حيناً بعد حين ، وشبراً بعد شبر ، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في


قلوب بعضهم ، يرثه الأبناء من الآباء وإن لم يكن الحب ـ يوم ذاك ـ ملازماً للقول بخلافتهم عن الرسول وامامتهم بعده ، بل كان حبّاً وودّاً خالصاً لأسباب نفسية لا قيادية ، ويدل على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها.

١ ـ روى الفضل بن أبي قرة عن الامام الصادق 7 قال : أتت الموالي أميرالمؤمنين 7 فقالوا : نشكوا إليك هؤلاء العرب. انّ رسول اللّه 6 كان يعطينا معهم العطايا بالسوية وزوّج سلمان ، وبلالا وصهيباً ، وأبوا علينا هؤلاء ، وقالوا : لا نفعل ، فذهب إليهم أميرالمؤمنين 7 فكلّمهم فيهم فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن ، أبينا ذلك ، فخرج وهو مغضب يجرّ رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي إنّ هؤلاء قد صيّروكم بمنزلة اليهود والنصارى يتزوّجون إليكم ولا يزوّجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتَّجروا بارك اللّه لكم ، فانّي قد سمعت رسول اللّه 6 يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها (١).

٢ ـ روى أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي في غاراته : عن عباد ابن عبداللّه الأسدي ، قال : كنت جالساً يوم الجمعة ، وعلي 7 يخطب على منبر من آجر ، وابن صوحان جالس فجاء الأشعث فقال : يا أميرالمؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب ، فقال ابن صوحان : ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفي ، فقال علي 7 : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة يقبل أحدهم يتقلب على حشاياه ، ويهجِّد قوم لذكر اللّه ، فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين؟ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت محمّداً 6 يقول : ليضربنّكم واللّه على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً.

__________________

١ ـ الكليني : الكافي ٥ / ٣١٨.


قال مغيرة : كان علي 7 أميل إلى الموالي وألطف بهم ، وكان عمر أشدّ تباعداً منهم (١).

٣ ـ روى ابن شهر آشوب : لمّا ورد بِسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء ، وأن يجعل الرجال عبيد العرب ، وعزم على أن يحملوا العليل والضعيف ، والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم ، فقال أميرالمؤمنين 7 : إنّ النبي 6 قال : أكرموا كريم قوم ، وإن خالفوكم ، وهؤلاء الفرس حكماء كرماء ، فقد ألقوا إلينا بالسلم ، ورغبوا في الإسلام وقد أعتقت منهم لوجه اللّه حقّي وحقّ بني هاشم ، فقالت المهاجرون والأنصار : وقد وهبنا حقّنا لك يا أخا الرسول اللّه فقال : اللّهمّ فاشهد انّهم قد وهبوا ، وقبلت وأعتقت ، فقال عمر : سبق إليها علي بن أبي طالب 7 ونقض عزمتي في الأعاجم (٢).

٤ ـ روى الصدوق عن الامام الصادق ، قال : قال رجل له : إنّ الناس يقولون : من لم يكن عربياً صلباً ، أو مولى صريحاً ، فهو سفلي فقال : وأي شيء المولى الصريح ، فقال له الرجل : من ملك أبواه ، فقال : ولم قالوا هذا؟ قال : يقول رسول اللّه 6 مولى القوم من أنفسهم فقال سبحان اللّه : أما بلغك أنّ رسول اللّه 6 قال : أنا مولى من لا مولى له ، أنا مولى كل مسلم ، عربيها وعجميها ، فمن والى رسول اللّه أليس يكون من نفس رسول اللّه؟ ثمّ قال : أيّهما أشرف ، من كان من نفس رسول اللّه 6 أو من كان

__________________

١ ـ الثقفي : الغارات ٣٤٠ طبع بيروت ، الحمراء : الموالي ، الضياطرة جمع الضياطر : الضخام الذين لا عناد عندهم.

٢ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٨.


من نفس أعرابي جلف بايل على عقبيه؟ ثمّ قال : من دخل في الإسلام رغبة ، خير ممن دخل رهبة ، ودخل المنافقون رهبة ، والموالي دخلوا رغبة (١).

٥ ـ روى الفضل بن شاذان ( ت ٢٦٠ ) أنّ عمر بن الخطاب نهى عن أن يتزوّج العجم في العرب وقال : لأمنعنّ فروجهنّ إلاّ من الأكفّاء (٢).

٦ ـ روى المفيد أنّ سلمان الفارسي ـ رضي اللّه عنه ـ دخل مسجد رسول اللّه ذات يوم فعظّموه وقدّموه وصدّروه اجلالاً لحقّه ، واعظاماً لشيبته واختصاصه بالمصطفى 6 فدخل عمر فنظر إليه ، فقال : من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب؟ فصعد رسول اللّه المنبر وخطب ، فقال : إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى ، سلمان بحر لا ينزف ، وكنز لا ينفذ ، سلمان منّا أهل البيت ، سلسل يمنح الحكمة ويؤتي البرهان (٣).

٧ ـ روى الثقفي في « الغارات » عن مغيرة أنّه قال : كان علي أميل إلى الموالي وألطف بهم ، كان عمر أشد تباعداً منهم (٤).

٨ ـ وروى أيضاً : إنّ امرأتين أتتا علياً 7 عند القسمة ، إحداهما من العرب ، والاُخرى من الموالي ، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً ، وكرّاً من الطعام ، فقالت العربية : يا أميرالمؤمنين! إنّي امرأة من العرب ، وهذه امرأة من العجم ، فقال علي 7 إنّي لا أجد لبني إسماعيل في هذا

__________________

١ ـ الصدوق : معاني الأخبار كما في سفينة البحار ٢ مادة ولى.

٢ ـ الايضاح ٢٨٠.

٣ ـ المفيد : الاختصاص ٣٤١.

٤ ـ الغارات ٤٦.


الفيء فضلا على بني إسحاق (١).

٩ ـ روى المفيد عن ربيعة وعمارة وغيرهما : انّ طائفة من أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرّق الناس عنه ، وفرار كثير منهم إلى معاوية ، طلباً لما في يديه من الدنيا ، فقالوا له : يا أميرالمومنين اعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب ، وقريش على الموالي والعجم ، ومن يخاف خلافه عليك من الناس ، وفراره إلى معاوية ، فقال لهم أميرالمؤمنين 7 : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللّه ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم (٢).

١٠ ـ روى المبرد : قال الأشعث بن قيس لعلي بن ابي طالب ; وأتاه يتخطّى رقاب الناس وعلي على المنبر ، فقال : يا أميرالمؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك ، قال : فركض على المنبر برجله ، فقال صعصعة بن صوحان العبدي : ما لنا ولهذا؟ ـ يعني الأشعث ـ ليقولن أميرالمؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر ، فقال علي : من يعذرني من هذه الضياطرة يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار ، ويهجر قوم للذكر ، فيأمرني أن أطردهم ، ما كنت لأطردهم فأكون فأكون من الجاهلين ، والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً (٣).

هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجّه الفرس والموالي إلى آل البيت وأنّه لم يكن إلاّ لصمودهم في طريق تحقيق العدل والمساواة ، والمكافحة

__________________

١ ـ الغارات ٣٤١.

٢ ـ المفيد : المجالس ٥٧ طبع النجف.

٣ ـ الكامل ٢ / ٥٣ طبع مصر سنة ١٣٣٩ هـ.


ضد العنصرية.

١ ـ هل الاصهار كان سبباً للولاء :

روى الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره : انّ الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد ، فباعوا السبايا وأمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الامام علي : « إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن » فقال الخليفة : كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال : « يقوّمن ومهما بلغ ثمنهنّ قام به من يختارهنّ « فقوّمن فأخذهنّ » علي فدفع واحدة لعبداللّه بن عمر واُخرى لولده الحسين واُخرى لمحمّد بن أبي بكر ، فأولد عبداللّه بن عمر ولده سالماً ، وأولد الحسين زين العابدين ، وأولد محمّد ولده القاسم ، فهؤلاء أولاد خالة واُمّهاتهم بنات يزدجرد (١).

وقد استند إلى هذه القصة أحمد أمين في فجر الإسلام ، والدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للاسلام (٢) وذهبا إلى أنّ الاصهار صار سبباً لتشيّع الفرس.

نحن لا نقوم حول هذه القصة وأنّها هل هي صادقة أو ممّا وضعها أصحاب الأساطير ، وكفانا لتكذيب هذه القصة من رأسها ما ألّفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي (٣) ولو وقفنا إلى جانب هذه القصة وسلمنا بها نسأل : أيّ صلة بين دخول الفرس في التشيّع ومصاهرة الامام الحسين يزدجرد ، فلو كانت تلك علّة فليكن تسنّن

__________________

١ ـ ربيع الأبرابر.

٢ ـ التاريخ الإسلام السياسي ٢ / ٧.

٣ ـ الامام علي بن الحسين ـ باللغة الفارسية ـ.


الفرس لاصهار عبداللّه بن عمر ومحمّد بن أبي بكر لهم ، فانّ الرجلين من أبناء الخليفتين ، على أنّ هناك من الخلفاء الاُمويين والعباسيين ينسبون من جانب الاُم إلى البلاط الايراني ، والحق أنّ تفسير إنتماء التشيّع وجنوحهم إلى آل البيت على هذا الحدث منطق ضئيل أشبه بمنطق الصبيان.

٣ ـ إرادة هدم الإسلام :

دخل الفرس في المذهب الشيعي وتستّر بحب أهل البيت لغاية هدم الإسلام تحت ذلك الغطاء وقد اعتمد عليه أحمد أمين وقال : والحق أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد ادخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية ، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته ، كل هؤلاء كانوا يتّخذون حبّ أهل البيت ستاراً (١).

وقد استغلّ الفكرة الكاتب الأمريكي « لو تروب ستودارد » في كتابه « حاضر العالم الاسلامي » الذي نقله إلى العربية الأمير شكيب أرسلان ، وتجد الفكرة أيضاً عند صاحب المنار ومحبّ الدين الخطيب وغيرهم من كتّاب العصر.

وهذا الكلام أشبه بكلام من أعمى اللّه بصره وبصيرته ، فإنّ من نظر إلى تاريخ الفرس وجد أنّهم خدموا الإسلام بنفسهم ونفيسهم وأقلامهم وآرائهم من غير فرق بين الشيعي والسنّي ، وهؤلاء أصحاب الصحاح فانّ أكثرهم فارسي الأصل والمنشأ فقد نصّ من بينهم على أنّ مسلم بن الحجاج القشيري عربي وما عداه فارسي ، وقد كفانا في ذلك كتب الرجال والتراجم. على أنّ المذهب السائد بين الفرس يوم أسلموا ، إلى أوائل القرن العاشر ، كان هو التسنّن فلو كانت الفرس أسلموا لغاية هدم الاسلام

__________________

١ ـ فجر الإسلام : فصل الشيعة.


فقد تستروا بالسنّة لا بالشيعة.

دول الشيعة :

حاول الأمويون القضاء على التشيّع وأراد العباسيّون الوقوف في وجه انتشاره بعد اليأس عن استئصاله. ولكن نما وازدهر عبر القرون بالرغم من تلك العوائق بل قامت لهم هنا وهناك دول ودويلات نظير :

١ ـ دولة الأدراسة في المغرب ١٩٤ ـ ٣٠٥.

٢ ـ دولة العلويين في الديلم ٢٠٥ ـ ٣٠٤.

٣ ـ دولة البويهيين في العراق وما يتّصل به من بلاد فارس ٣٢١ ـ ٤٤٧.

٤ ـ دولة الحمدانيين في سوريا والموصل وكركوك ٢٩٣ ـ ٣٩٢.

٥ ـ دولة الفاطميين في مصر ٢٩٦ ـ ٥٦٧.

٦ ـ دولة الصفويين في إيران ٩٠٥ ـ ١١٣٣.

٧ ـ دولة الزنديين ١١٤٨ ـ ١١٩٣.

٨ ـ دولة القاجاريين ١٢٠٠ ـ ١٣٤٤.

أضف إلى ذلك وجود امارات للشيعة في نقاط مختلفة.

إنّ افاضة القول في مؤسّسي هذه الدول وترجمة أحوالهم وما آل إليه مصيرهم يحوجنا إلى تأليف كتاب مستقل في ذلك (١) فنترك المقال في ذلك فعلى القرّاء مراجعة الكتب المؤلفة في هذه المواضيع.

__________________

١ ـ ومن أراد الالمام على وجه الايجاز فعليه الرجوع إلى كتاب « الشيعة والتشيّع » للكتاب القدير محمّد جواد مغنية ـ رضوان اللّه عليه ـ.


الجامعات العلمية للشيعة :

الإسلام دين العلم والمعرفة ، دفع الإنسان من حضيض الجهل والاُمّية إلى أعلى مستويات العلم والكمال من خلال تشجيعه على القراءة والكتابة (١) ، والتدبّر في آثار الكون ومظاهر الطبيعة ونبذ التقليد في تبنّي العقيدة فأراد للانسان حياة نابضة بالفكر والثقافة.

وقد كانت للشيعة خلال القرون الماضية جامعات وحوزات علمية نشير إلى بعضها اجمالا :

١ ـ المدينة المنورة :

إنّ المدينة المنوّرة هي المنطلق العلمي الأوّل ، لنشر العلم والثقافة فهي المدرسة الاُولى للمسلمين نشأ فيها عدّة من الأعلام من شيعة أمير المؤمنين وعلى رأسهم ابن عباس حبر الاُمّة ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو رافع. الذي هو من خيار شيعة الامام علي مؤلّف كتاب السنن والأحكام والقضاء (٢) وغيرهم.

جاءت بعدهم طبقة من التابعين تخرّجوا من تلك المدرسة على يد الامام علي بن الحسين زين العابدين 8 ولقد روى الكليني عن الامام الصادق أنّه قال : كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمّد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من

__________________

١ ـ قال سبحانه : ( إقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقْ ) وهي أوّل سورة نزلت على النبي الأكرم. وأقسم اللّه عزّوجلّ بالقلم وقال سبحانه : ( ن والقلم ). وبذلك أوقف المجتمع الانساني ، على قيمة وعلو شأنه.

٢ ـ النجاشي : الرجال ٦٤ برقم ١.


ثقات علي بن الحسين 8 (١).

وازدهرت تلك المدرسة في عصر الامامين الصادق والباقر 8 وزخرت بطلاّب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية فكان بيتهما ، جامعة إسلامية يزدحم فيها رجال العلم وحملة الحديث ، يأتون إليها من كل فجّ عميق ، وقد عرفت دور الامامية في بسط العلوم في الفصل الثاني عشر.

٢ ـ الكوفة وجامعها الكبير :

قد سبق أنّ الامام أمير المؤمنين هاجر من المدينة إلى الكوفة واستوطن معه خيار شيعته ومن تربّى على يديه من الصحابة والتابعين.

ولقد أتى ابن سعد في طبقاته الكبرى على ذكر جماعة من التابعين الذين سكنوا الكوفة (٢) ولقد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الامام الصادق المدينة المنوّرة إلى الكوفة أيّام أبي العباس السفاح حيث بقى فيها مدّة سنتين.

اغتنم الامام فرصة ذهبيّة أو جدتها الظروف السياسية آنذاك وهي أنّ الحكومة العباسية كانت جديدة العهد وقد سقطت الحكومة الاموية. فلم يكن للعباسيين يومذاك قدرة على الوقوف في وجه الامام لانشغالهم باُمور الدولة. بالاضافة إلى أنّهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلى السلطة وقد نشر زمن اقامته بها علوماً جمّة.

ولمّا انتشر نبأ وروده الحيرة تقاطرت وفود للارتواء من منهله العذب. وهذا الحسن بن علي بن زياد الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف ويقول :

__________________

١ ـ الكليني : الكافي ، كما في تأسيس الشيعة ٢٩٩.

٢ ـ الطبقات الكبرى ٦و قسّمهم على تسع طبقات.


أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد. ويضيف النجاشي : كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة وله كتب ثم ذكر اسماءها (١).

وكان من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين نظراء أبان بن تغلب بن رباح الكوفي ، ومحمّد بن مسلم الطائفي ، وزرارة بن أعين إلى غير ذلك ممّن تكفّل ذكرهم كتب الرجال وقد وقفت على أسماء عدّة منهم سابقاً باسم تلاميذ الامام الباقر والصادق 8.

ولقد ألّف فقهاء الشيعة ومحدّثوهم في هذه الظروف في الكوفة ٦٦٠٠ كتاب ولقد امتاز من بينها ٤٠٠ كتاب اشتهرت بالأُصول ٤٠٠ (٢) فهذه الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم كما مرّ آنفا.

ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه بل شملت علوماً اُخرى ولأجل ذلك خرج منها مؤلّفون كبار صنّفوا كتباً كثيرة في علوم مختلفة ومتنوّعة كهشام بن محمّد بن السائب الكلبي ألّف أكثر من مائتي كتاب (٣) وابن شاذان ألّف ٢٨٠ كتابا (٤) وابن عمير صنّف ١٩٤ وابن دول الذي صنّف ١٠٠ كتابا (٥) وجابر بن حيان اُستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية إلى غير ذلك من المؤلّفين العظام ، في كافّة العلوم الإسلامية.

____________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٣٧ رقم ٧٩.

٢ ـ وسائل الشيعة ج ٢٠ الفائدة الرابعة وقد بيّنا الفرق بين الكتاب والأصل في كتابنا « كليات في الرجال ».

٣ ـ الطهراني : الذريعة ١ / ١٧.

٤ ـ المصدر نفسه.

٥ ـ المصدر نفسه.


٣ ـ مدرسة قم والري :

دخل الفرس الإسلام وكان أكثرهم على غير مذهب الشيعة نعم كانت قم والري وكاشان وقسم من خراسان مركزاً للشيعة وقد عرفت انّ الأشعريين هاجروا ـ خوفاً من الحجاج ـ إلى قم وجعلوها موطنهم ومهجرهم ، وكانت تلك الهجرة نواة للشيعة في ايران.

كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم والثقافة ، ولكن ربّما كانوا يعانون من الضغط العباسي. ففي هذه الفترة إلى حوالي سنة ٢٥٠ هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي تلميذ يونس بن عبدالرحمان وهو من أصحاب الامام الرضا 7 إلى قم ونشر فيها حديث الكوفيين فصارت مدرسة قم والري مزدهرة بعد ذاك بالمحدّثين والرواة الكبار. وساعد على ذلك ، بسط الدولة البويهية نفوذهم على تلك البلدان ولقد خرج من تلك المدرسة علماء ومحدّثون نظراء :

١ ـ علي بن إبراهيم شيخ الكليني. الذي كان حيّاً سنة ٣٠٧ (١).

٢ ـ محمّد بن يعقوب الكليني. المتوفّى سنة ٣٢٩. مؤلّف الكافي في الفروع والاُصول.

٣ ـ علي بن الحسين بن بابويه والد الشيخ الصدوق صاحب الشرائع المتوفّى ٣٢٩.

٤ ـ ابن قولويه أبو القاسم جعفر بن محمّد ( ٢٨٥ ـ ٣٦٨ ) من تلامذة الكليني واُستاذ الشيخ المفيد. والذي يدل على وجود النشاط الفكري في أوائل القرن الثالث ما رواه الشيخ في كتاب الغيبة أنّه أنفذ الشيخ حسين بن روح ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ ، النائب الخاص للإمام المنتظر ـ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ كتاب التأديب إلى فقهاء

__________________

١ ـ الطهراني : الذريعة ٤ / ٣٠٢ برقم ١٣١٦.


قم. وقال لهم : اُنظروا ما في هذا الكتاب. وانظروا فيه شيء يخالفكم (١).

فهذه الرواية وغيرها تعرب عن وجود نشاط فكري وفقهي في ذينك البلدين في القرن الثالث والرابع ، وكفى في فضلها أنّ كتاب « الكافي » وكتاب « من لا يحضره الفقيه » وكتب محمّد بن أحمد بن خالد البرقي ت ٢٧٤ من ثمار هذه المدرسة العظيمة.

٤ ـ مدرسة بغداد :

كانت مدرسة الكوفة تزدهر بمختلف النشاطات العلمية عندما كانت بغداد عاصمة الخلافة. ولمّا دبّ الضعف في السلطة العباسية وصارت السلطة بيد البويهيين تنفّس علماء الشيعة في أكثر مناطق العراق فاُسّست مدرسة رابعة للشيعة في العاصمة أنجبت شخصيات مرموقة تفتخر بها الإنسانية ومن نتائجها ظهور أعلام نظير :

١ ـ الشيخ المفيد ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ ) تلك الشخصية الفذّة الذي اعترف الموافق والمخالف بعلمه ، ترجم له اليافعي في مرآة الجنان بقوله : عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة ، المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان ينازع كل عقيدة بالجلالة والعظمة ومقدّماً في الدولة البويهية وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة ، والصوم ، خشن اللباس وكان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد وكان شيخاً ربعة ، نحيفاً أسمر ، عاش ستّاً وسبعين سنة وله أكثر من ٢٠٠ مصنّف وكان يوم وفاته مشهور وشيّعه ٨٠ ألفاً من الرافضة والشيعة وأراح اللّه منه (٢).

__________________

١ ـ الطهراني : الذريعة ٣ / ٢١٠ برقم ٧٧٥.

٢ ـ مرآة الجنان ٣ / ٢٨ حوادث عام ٤١٣.


٢ ـ السيد المرتضى.

٣ ـ السيد الرضي وهما كوكبان في سماء العلم والأدب غنيان عن التعريف.

٤ ـ الشيخ الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) وهو شيخ الطائفة ومن أعلام الاُمّة ، تربّى على يد شيخه المفيد والسيد المرتضى وله كتاب « التبيان في تفسير القران » و « التهذيب » و « الاستبصار » وهما من المصادر المهمّة عند الشيعة وكانت مدرسة بغداد زاهرة في عهد هذه الأعلام الثلاثة واحد بعد الآخر ، وقام كل منهم بدور كبير في تطوير العلوم وتقدّمها ، وكان يحضر في حلقات دروسهم مئات من المجتهدين والمحدثين من الشيعة والسنّة.

إلى أن ضعفت سلطة البويهيين ، ودخل طغرل بك الحاكم التركي بغداد ، وأشعل نار الفتنة بين الطائفتين السنّة والشيعة ، وأحرق دوراً في الكرخ ولم يكتف بذلك حتّى كبس دار الشيخ الطوسي وأخذ ما وجد من دفاتره وكتبه ، وأحرق الكرسي الذي كان الشيخ يجلس عليه (١).

٦ ـ مدرسة النجف الأشرف :

إنّ هذه الحادثة المؤلمة التي أدّت إلى ضياع الثروة العلمية للشيعة وقتل الأبرياء ، دفعت الشيخ لمغادرة بغداد واللجوء إلى النجف الأشرف وتأسيس مدرسة علمية شيعية في جوار قبر أميرالمؤمنين 7 ، وشاء اللّه تبارك وتعالى أن تكون هذه المدرسة مدرسة كبرى أنجبت خلال ألف سنة من عمرها ، عشرات الآلاف من العلماء والفقهاء والمتكلّمين والحكماء.

المعروف أنّ الشيخ هو المؤسّس لتلك الجامعة العلمية المباركة. وهو حق

__________________

١ ـ ابن الجوزي : المنتظم حوادث عام ٤٤٧ ـ ٤٤٩ ، ج ١٦ / ٨ و ١٦ ط بيروت.


لا غبار عليه ، ومع ذلك يظهر من النجاشي وغيره أنّ الشيخ ورد عليها وكانت غير خالية من النشاط العلمي. يقول في ترجمة الحسين بن أحمد بن المغيرة : له كتاب عمل السلطان. أجازنا بروايته أبو عبداللّه بن الخمري الشيخ صالح في مشهد مولانا أميرالمؤمنين سنة ٤٠٠ عنه (١).

ولقد استغلّ الشيخ تلك الأرضية العلمية وأعانه على ذلك ، الهجرة العلمية الواسعة التي شملت أكثر الأقطار الشيعية فتقاطرت الوفود إليها ، من كل فجّ ، فصارت حوزة علمية وكلية جامعة في جوار النبأ العظيم علي أميرالمؤمنين ـ من عصر تأسيسه ٤٤٨ ـ إلى يومنا هذا. ولقد مضى على عمرها قرابة ١٠٠٠ سنة. وهي بحق شجرة طيبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء آتت اُكلها كل حين باذن ربّها.

إنّ لجامعة النجف الأشرف حقوقاً كبرى على الإسلام والمسلمين عبر القرون ، فمن أراد الوقوف على تاريخها والبيوتات العلمية التي أنجبتها ، فعليه الرجوع إلى كتاب « ماضي النجف وحاضرها » في ثلاثة أجزاء (٢) ، وقد قام الباحث ، وهو الشيخ هادي الأميني بتخريج أسماء لفيف من العلماء الذين تخرّجوا من هذه المدرسة الكبرى.

٧ ـ مدرسة الحلّة :

في الوقت الذي كانت جامعة النجف تزدهر وتنجب أفذاذاً ، إذ أسّست الشيعة في الحلّة الفيحاء جامعة كبيرة اُخرى كانت تحتفل بكبار العلماء ، وتزدهر بالنشاط

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال ١ / ١٩٠ برقم ١٦٣.

٢ ـ تأليف الشيخ جعفر آل محبوبة طبع النجف.


الفكري عقدت فيها ندوات البحث والجدل ، وحلقات الدراسة والمدارس والمكاتب ، وظهر في هذا الدور فقهاء كان لهم الأثر الكبير في تطوير الفقه الشيعي واُصوله نأتي بأسماء بعضهم :

١ ـ المحقق الحلّي : نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد ، من كبار فقهاء الشيعة يصفه تلميذه ابن داود بقوله : الامام العلاّمة واحد عصره ، كان ألسن أهل زمانه وأقواهم بالحجّة وأسرعهم استحضارا (١) توفّي عام ٦٧٦ هـ. له من الكتب « شرائع الإسلام » في جزأين ، وهو أثر خالد شرحه العلماء وعلّقوا عليه. واختصره في كتاب أسماه « المختصر النافع » وشرحه أيضاً وأسماه « المعتبر في شرح المختصر ».

٢ ـ العلامة الحلّي ، جمال الدين حسن بن يوسف ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) تخرّج على يد خاله المحقق الحلّي في الفقه ، وعلى يد المحقق الطوسي في الفلسفة والرياضيات ، وعرف بالنبوغ ، وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة ، وقد بلغ الفقه الشيعي في عصره القمة ، وله موسوعات فيه أجلّها « تذكرة الفقهاء » ولعلّه لم يؤلّف مثله.

٣ ـ فخر المحققين ، محمّد بن الحسن بن يوسف ( ٦٨٢ ـ ٧٧١ هـ ) ولد العلاّمة الحلّي ، تتلمذ على يد أبيه ونشأ تحت رعايته وعنايته ، وألّف والده لفيفاً من كتبه بالتماس منه ، وقد تتلمذ عليه امام الفقه الشهيد الأوّل ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ).

إلى غير ذلك من رجال الفكر كابن طاووس وابن ورام ، وابن نما وابن أبي الفوارس الحلّيين ، الذين احتلفت بهم مدرسة الحلّة ، ولهم على العلم وأهله أيادي بيضاء لا يسعنا ذكر حياتهم.

__________________

١ ـ ابن داود : الرجال / القسم الأول ٦٢ برقم ٣٠٤.


٨ ـ الجامع الأزهر :

امتدّ سلطان الدولة الفاطمية من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً ونافست الدولة الفاطمية الشيعية ، خلافة الحكّام العباسيين في بغداد ، وكان المعز لدين اللّه أحد الخلفاء الفاطميين بمصر رجلا مثقّفاً ومولعاً بالعلوم والآداب وقد اتّخذ بفضل تدبير قائده العكسري القاهرة عاصمة للدولة الجديدة ، وبنى الجامع الأزهر ، وعقدت فيه حلقات الدرس ، وكان يركز على نشر المذهب الشيعي بين الناس وقد أمر أن يؤذّن في جميع المساجد بـ « حىّ على خير العمل » ومنع من لبس السواد شعار العباسيين.

إنّ المسلمين عامة وفي طليعتهم المصريين مدينون في ثقافتهم وازدهار علومهم وتقدّمهم في مجال العلم والصنعة للفاطميين وهممهم العالية ، فانّ الجامع الأزهر لا يزال مزدهراً من يوم بني إلى يومنا هذا كأعظم الجامعات العلمية (١) وهي كانت جامعة شيعية من بدء تأسيسها إلى قرنين.

وإن شئت أن تقف على صورة صغيرة من خدماتهم الجليلة فاقرأ ما كتبه السيد مير علي : « كان الفاطميون يشجّعون على العلم ، ويكرمون العلماء فشيّدوا الكليّات والمكاتب العامة ، ودار الحكمة ، وحملوا إليها مجموعات عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون ، والآلات الرياضية ، لتكون رهن البحث والمراجعة ، وعيّنوا لها أشهر الأساتذة ، وكان التعليم فيها حرّاً على نفقة الدولة كما كان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجّاناً ، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم ، كالمنطق والرياضيات والفقه والطب ، وكان الأساتذة يتشحون بلباس خاص عرف بالخلعة ، أو العباءة الجامعية ـ كما هي الحال

__________________

١ ـ بروكلمان : تاريخ الشعوب الإسلامية ٢ / ١٠٨.


اليوم ـ واُرصدت للانفاق على تلك المؤسّسات وعلى أساتذتها ، وطلاّبها وموظّفيها أملاك بلغ إيرادها السنوي ٤٣ مليون درهم ، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لالقاء المحاضرات في دار الحكمة ، فازدادت بهم روعة وبهاء (١).

وقد ألّف غير واحد من المؤرّخين كتباً ورسائل حول الأزهر الشريف ومن أراد التفصيل فليرجع إليه.

مدارس الشيعة في الشامات :

كانت الشيعة تعيش تحت الضغط والارهاب السياسي من قبل الأمويين والعباسيين ، ولمّا دبّ الضعف في جهاز الخلافة العباسي وظهرت دول شيعية في العراق خصوصاً دولة الحمدانيين في الموصل وحلب ، استطاعت الشيعة أن تجاهر بنشاطها الثقافي ، وفي ظل هذه الحرية أسّست مدارس شيعية في جبل عامل ، وحلب فقد خرج من مدرسة حلب شخصيات كبيرة كأبناء زهرة وغيرهم.

الذين احتفل تاريخ حلب الشهباء بذكرهم ، وأمّا مدرسة جبل عامل فقد كانت تتراوح بين القوة والضعف ، إلى أن رجع الشهيد الأوّل من العراق إلى مسقط رأسه « جزين » ، فأخذت تلك المدرسة في نفسها نشاطاً ، واسعاً ، وقد خرج من تلك المدرسة منذ تلك العهود إلى يومنا هذا مئات من الفقهاء والعلماء لا يحصيها إلاّ اللّه سبحانه ، ومن أكبر الشخصيات المنتجبة في هذه المدرسة المحقق الشيخ علي الكركي ( ت ٩٤٠ ) مؤلّف « جامع المقاصد » وبعده الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني ( ٩١١ ـ ٩٦٦ ) الذي كان منذ صباه تظهر منه ملامح النبوغ والذكاء ، وله الأثر الخالد الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ».

__________________

١ ـ السيد مير علي : مختصر تاريخ العرب ٥١٠ ط ١٩٣٨.


هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّن أنجبتهم هذه التربة الخصبة بالعلم والأدب.

ولنكتف بهذا المقدار من الاشارة إلى الجامعات الشيعية فانّ الاحصاء يحوجنا إلى بسط في المقال ، ويطيب لنا الاشارة إلى أسماء المعاهد الاُخرى مجردة.

جامعات اُخر للشيعة في أقطار العالم :

كانت للشيعة جامعات في أقطار العالم ولم تزل بعضها زاهرة إلى اليوم.

إنّ الشرق الاسلامي كافغانستان والباكستان والهند تزخر بالشيعة ولهم هناك جامعات وكليّات في هرات وبمباي ولكنهو ، كما أنّ للشيعة نشاطات ثقافية في آسيا الجنوبية الشرقية كماليزيا وتايلند ، ومن أراد الوقوف على الخريجين من هذه المدارس فعليه أن يقرأ تاريخ هذه البلاد خصوصاً بلاد الهند.

فمذ تسنّم الصفوية منصّة الحكم اُسّست في ايران حوزات فقهية ، كلامية ، فلسفية زاهرة ، وقد خرج منها آلاف من العلماء كجامعة اصفهان ، وطهران ، وخراسان ، وتبريز ، وقزوين ، وزنجان ، وشيراز وأخيراً الجامعة الكبرى للشيعة في قم المحمية بجوار الحضرة الفاطمية التي أسّسها رجل العلم والزهد الشيخ عبدالكريم اليزدي ( ١٢٧٤ ـ ١٣٥٥ ) سنة ١٣٤٠ هـ ، ولم تزل هذه الجامعة مُشعَّة زاهرة ، وقد تقاطرت إليها الأساتذة ووفود الطلاب من نقاط شتّى ، من جنسيات مختلفة منذ أوّل يومها ويتجاوز عدد الطلاب فيها في هذه السنين ٢٥٠٠٠ وفيها مكتبات زاخرة ، ومؤسّسات علمية ، ومراكز تحقيقية ، ومطابع حديثة ، وعمالقة الفكر وأساتذة القلم ، ومنها تفجّرت الثورة الإسلامية على يد أحد خريجيها الامام الخميني ـ قدس اللّه سره ـ فانبثقت أنوارها على ربوع العالم وأيقظت الاُمّة من سباتها العميق.


عدد الشيعة :

إنّ مراكز الاحصائيات في العالم تخضع لنفوذ أعداء الإسلام خصوصاً الصهاينة ، وقد صار ذلك سبباً لعدم وجود احصاء دقيق بأيدينا عن عدد المسلمين وعامة طوائفهم ومنهم الشيعة. ولكن القرائن تشهد على أنّ الشيعة بطوائفها الثلاث : الإمامية والزيدية والاسماعيلية يشكّلون خمس أو ربع المسلمين ، فلو كان عدد المسلمين ـ على ما يقولون ـ مليار نسمة فالشيعة تبلغ ٢٠٠ مليون ، وأكثرهم عدداً هم الإمامية المعروفة بالاثني عشرية أو الجعفرية.

نسأله سبحانه أن يرفع كلمة التوحيد في ربوع العالم ، ويوفّق المسلمين لتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف إنّه على ذلك لقدير.


الفصل الرابع عشر

مصادر الاُصول والفروع عند الإماميّة



إنّ بعض المتعصّبين يحاولون التشكيك في انتهاء الشيعة الامامية في مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت وقد نقل هذه المحاولة السيد عبدالحسين شرف الدين في مراجعاته (١).

ولا شك أنّ هذه المحاولة فاشلة ، ولا نحتاج إلى بسط في الجواب وربّما يتّضح استناد مذهبهم إلى أئمّة أهل البيت : ممّا مضى في الفصل الحادي والثاني عشر.

يقول السيد شرف الدين : إنّ الشيعة الامامية في الفروع والاُصول وسائر ما يؤخذ من الكتاب والسنّة أو يتعلّق بهما من جميع العلوم ، لا يعولون في شيء من ذلك إلاّ عليهم ولا يرجعون فيه إلاّ إليهم ، فهم يدينون اللّه تعالى ويتقرّبون إليه بمذهب أئمّة أهل البيت : لا يجدون عنه حولاً ولا يرتضون به بدلاً. على ذلك مضى سلفهم الصالح في عهد أميرالمؤمنين والحسن والحسين. والأئمّة التسعة من ذريّة الحسين : إلى زماننا هذا وقد أخذ الفروع والاُصول عن كل واحد منهم جمّ من ثقات الشيعة وحفّاظهم (٢).

__________________

١ ـ راجع المراجعات ١٠٩.

٢ ـ المراجعات ٣٠٣ المراجعة ١١٠.


إنّ الشيعة يتّخذون الكتاب مصدراً رئيسياً في العقيدة والتشريع كما يتّخذون سنّة النبي 6 مصدراً رئيسياً ثانياً ويعملون بحكم العقل في المجال الذي له صلاحية القضاء ، ويتّخذون من الاجماع دليلاً فيما لو كشف عن الدليل الشرعي وهذا ممّا لا شك فيه.

ولكن انّ في الكتاب عمومات ومطلقات وقد خصّصت في السنّة كما أنّ فيه مجملات تطلب لنفسها بياناً من السنّة ، والشيعة ترجع إلى أئمّة أهل البيت في هاتيك الموارد لأجل أنّ كلامهم وقولهم هو كلام وقول النبي الأكرم وهناك مسائل مستحدثة واُمور طارئة لا يجد لها الفقيه حلولا في السنّة النبوية. لأنّها طرأت بعد رحلة النبي 6 فقام أئمة أهل البيت بالاجابة عنها من غير فرق بين مجالي الالتزام والعمل.

هذا هو مذهب الامامية وعلى ذلك جرى سلفهم وخلفهم من عصر أميرالمؤمنين إلى يومنا هذا.

إنّ انتماء الشيعة الامامية إلى أئمّة أهل البيت أظهر من الشمس ، وقد تعرّفت على الرواة الثقات الذين أخذوا الاُصول والفروع عن الباقر والصادق والكاظم والرضا : ، كما تعرّفت على الجوامع التي دوّنها أصحابهم في تلك العصور وكانت الجوامع مفزعاً للشيعة في عصر الأئمة ، حتّى عصر الغيبة لأنّها تحتوي علوم أهل البيت :.

ولمّا كانت هذه الجوامع غير خالية عن النقص الفنّي في التبويب وغير جامعة لما تركه أئمة أهل البيت من العلوم والمعارف قام المحمدون الثلاثة بتأليف جوامع ثانوية أحسن ترتيباً وتبويباً وأكثر شمولا.

١ ـ محمّد بن يعقوب الكليني ولد في عهد امامة العسكري ( ٢٥٤ ـ ٢٦٠ ) وتوفّي عام ٣٢٩ فهو أوثق الناس في الحديث وأعرفهم به ، صنّف كتاب الكافي


وهذبه في عشرين سنة (١) ولقد حصروا أحاديثه في ستة عشر الف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا (١٦١٩٩) والصحيح منها باصطلاح المتأخرين خمسة الآف واثنان وسبعون حديثاً ، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً ، والموثّق مائة حديث وألف حديث وثمانية عشر حديثاً ، والقويّ منها اثنان وثلاثمائة ، والضعيف منها أربعمائة وتسعة آلاف وخمسة وثمانون حديثا (٢).

وقال الشهيد في الذكرى : « إنّ ما في الكافي يزيد على ما في مجموع الصحاح الستّة للجمهور وعدّة كتب الكافي اثنان وثلاثون كتاباً » (٣).

وقال في كشف الظنون نقلاً عن الحافظ « ابن حجر » : إنّ جميع أحاديث صحيح البخاري بالمكرّر سوى المعلّقات والمتابعات على ما حرّرته وحقّقته سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثاً ، والخالص من ذلك بلا تكرير الفا حديث وستمائة وحديثان ، وإذا انضمّ إليه المتون المعلّقة المرفوعة وهي مائة وخمسون حديثاً ، صار مجموع الخالص ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا.

وروى ايضاً عن مسلم أنّ كتابه أربعة آلاف حديث دون المكررات وبالمكررات سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا.

وقال أبو داود في أوّل سننه : « وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثمانية أحاديث في الصحيح وما يشبهه وما يقاربه » (٤).

٢ ـ محمّد بن علي بن الحسين الصدوق ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ ) مؤلّف « من

__________________

١ ـ النجاشي : الرجال برقم ١٠٢٧.

٢ ـ لؤلوة البحرين للمحدث البحراني وما ذكره عند الجمع ينقص ٧٨ حديثاً فلا حظ.

٣ ـ الذكرى ٦.

٤ ـ كشف الظنون كما في مستدرك الوسائل ٣ / ٥٤١ ، لاحظ فتح الباري في شرح أحاديث البخاري ١ / ٤٦٥.


لا يحضره الفقيه » وهو الجامع الثاني للشيعة.

إنّ أحاديث كتاب الفقيه لا تتجاوز عن ٥٩٦٣ حديثاً منها ألفان وخمسون حديثاً مرسلاً.

٣ ـ محمّد بن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ ) مؤلّف تهذيب الأحكام والاستبصار وعدد أحاديث الأوّل ١٣٥٩٠ (١) وعدد أحاديث الثاني ٥٥١١ حديثاً كما ذكره المؤلّف في آخر الكتاب.

هذه هي الكتب الأربعة ، المصادر المهمة عند الشيعة.

الجوامع الحديثية الأخيرة :

إنّ هناك لفيفاً من العلماء قاموا بجمع روايات الكتب الأربعة وإليك ايعاز إلى أسماء مؤلّفيها.

١ ـ محمّد بن الحسن الحر العاملي توفّي ١١٠٤ مؤلّف كتاب تفصيل وسائل الشيعة طبع في عشرين جزءاً في الفروع والأحكام فقط ، ولم يجمع ما يرجع إلى الاُصول والعقائد.

٢ ـ محمّد بن المرتضى المعروف بالفيض ١٠٩١ مؤلّف الوافي في ١٤ جزء في الفروع والاُصول والسنن والأحكام ولو طبع الكتاب طبعة حديثة لبلغ ٣٠ جزءاً.

٣ ـ المجلسي محمّد باقر ١٠٢٧ ـ ١١١٠ مؤلّف بحارالأنوار في ١١٠ أجزاء وهو من أبسط الجوامع وأكثرها شمولاً.

وهناك جوامع اُخرى طوينا الكلام عنها فمن أراد فليرجع إلى مظانّها.

__________________

١ ـ المستدرك ٣ / ٧٥٦.


هذه هي المصادر التي تفزع إليها الشيعة في اُصولها وفروعها أتينا على ذكرها على وجه الاجمال ليكون القارئ على بصيرة.

هذا هو مذهب الشيعة وهؤلاء هم خلفهم وسلفهم ، ومبدأ نشوئهم ، وهذه آراؤهم وعقائدهم ، وهؤلاء أئمتهم ، وهذه بلدانهم ودولهم ، وعدد نفوسهم ، وهذه جامعاتهم وحوزاتهم ، فهم اُمّة منتشرة في العالم وبلادهم مفتوحة لكل قاصد ، وهذه كتبهم المعبّرة عن تاريخهم وعقائدهم وكيانهم وشرفهم وهذا تاريخهم المأساوي جزاءً للخدمات الجليلة التي قدموها للحضارة الإسلامية بأفكارهم وآرائهم وأقلامهم وكتبهم.



خاتمة المطاف :

بيان لكتّاب المقالات ومؤرخي العقائد

لقد حصحص الحق وبانت الحقيقة لذوي النصفة ونختم الكتاب بذكر اُمور مهمة ربّما مضى البحث عن بعضها في الفصول السابقة وإليك البيان.

الأوّل : إنّ التشيّع لم يكن فكرة سياسية ابتدعتها الأهواء ، وطبعته بطابع الدين ، ولا عقيدة دينية لاتمتُّ إلى الإسلام بصلة ، بل هو نفس الإسلام في مجالي العقيدة والتشريع ، جاء به النبي الأكرم في كتابه وسنّته ، وليس التشيّع إلاّ تعبيراً آخر عن الإسلام ، في إطار ولاء أهل بيته الطاهرين وتتبّع آثارهم وأقوالهم وآرائهم.

الثاني : إنّ كلّما تدين به الشيعة التزاماً وعملاً ، له مصدر متسالم على صحّته عند أهل السنّة ، وأنّهم لو نظروا إليه بعين الانصاف وطلب الحقيقة ، وابتعدوا عن كل رأي مسبق ، لوجدوا الفوارق الموجودة بين الطائفتين اُموراً واقعية لها دليل في الكتاب والسنّة ، حتّى في الاُمور التي يستنكرونها في بدء الأمر ، كالقول بالبداء ،


وعصمة الامام وميلاد المهدي المنتظر ، وحياته فعلاً وكون الأئمة محصورين في اثني عشر.

الثالث : إنّ الشيعة ليست من الفرق البائدة التي خيّم الظلام عليها ، وعلى آثارهم وصارت مستورة تحت أطباق الثرى ، حتّى لا يعاب فيه التقوّل والحدس والتخمين ، وانّما هي فرقة حيّة منتشرة في العالم ولهم بلاد واسعة ، وحكومات قائمة ، وجامعات وكليات ، ومعاهد وحلقات ، ومكتبات غاصة بالكتب ، فعلى طالب الحقيقة ومؤرّخ العقائد أن يتّصل بعلمائهم عن كتب أو أن يرجع إلى الكتب المؤلّفة بايدي علمائهم الذين اجتمعت كلمتهم على وثاقته وعلمه ومعرفته ويجتنب عن الرجوع إلى كتب المتطفّلين على موائد العربية من مستشرق حاقد ، أو كاتب متحامل ، بل يجتنب عن الرجوع إلى كتاب عالم من الشيعة إذا لم تجتمع كلمتهم على وثاقته وعلمه أو صحة نظريته ، إذ في كل طائفة غال متنكّب عن الصراط ، خابط خبطة عشواء ، رفض العلماء كتابه وكلامه.

إنّ بين كل طائفة ومنهم الشيعة كاتب غال خلط الغث بالسمين ، والصحيح بالزائف ، وربّما تكون له مكانة علمية و ـ مع ذلك ـ لا يصحّ الاستناد إلى مثل ذلك الكاتب ولا إلى كتابه ، بل يطرح الشاذ ، ويؤخذ بالمجمع عليه أو المشهور بينهم.

إنّ المستند لرمي التشيّع بالاعتقاد بالتحريف في هذه الأيام هو كتاب « فصل الخطاب » الذي ألّفه الشيخ المحدّث النوري ، وجمع مواده من هنا وهناك من غير تحقيق في السند ولا تحليل في الدلالة ، ولكن الاستناد إلى هذا الكتاب ورمي طائفة كبيرة بهذه التهمة الشائنة تقوّل بالباطل ، لأنّ علماء الشيعة أنكروا هذا الكتاب


على المؤلّف من أوّل يوم نشره ، وأخذوا بالردّ عليه ردّاً عنيفا (١) ولو كان تأليف ذلك الكتاب دليلاً على قول الشيعة بالتحريف فليكن كتاب « الفرقان » الذي عرّفه أحد الأزهرين المعاصرين دليلا على قول السنّة بها.

الرابع : التعرّف الصحيح على المبادئ التي تعتمد عليها كل طائفة في مجال الالتزام القلبي يحصل من خلال السبر في الكتب العقائدية الكلامية المؤلّفة بيد عمالقة الفكر منهم ، وأمّا الكتب الحديثية المعتبرة فبما أنّ فيه الصحيح والسقيم ، والمشهور والشاذ ، والمحكم والمتشابه ، فلا يصحّ الاستناد إلى رواية رويت في كتب الحديث في مجال تبيين عقائد الفرقة ، فلو وجد في الكافي الذي هو من أتقن الكتب الحديثية عند الشيعة ما يضاد المشهور بين العلماء ، لما صحّ لنا الاعتماد عليه وترك ما ذهب إليه المشهور من علمائهم ، فليس معنى كون الكتاب معتبراً انّ جميع ما ورد فيه قابل للالتزام والعمل ، وهذا أمر واضح لدى الشيعة عامة ، وإن غفل عنه كتاب تاريخ الفرق.

الخامس : إنّ هناك فرقاً بين الجوامع الحديثية عند الشيعة والصحاح عند السنّة ، فانّ الاُولى لديهم كتب معتبرة بمعنى أنّها صالحة للرجوع إليها بعد تمحيصها وتمييز الجيّد من الرديء فيها. وعلى ضوء ذلك لا يكون وجود الحديث فيها دليلاً على كون مضمونه حجّة في مفاده. وأمّا الصحاح الستّة عند السنّة فبما أنّ أكثرهم أضفى على الجميع وصف الصحة فلقائل أن يتصوّر أنّ وجود الحديث فيها دليل على كون مضمونه مذهباً لأهل السنّة.

__________________

١ ـ ردّ عليه في حياته وبعده لفيف من العلماء أخص بالذكر العلامة الحجة : الشيخ محمد هادي معرفة بكتاب أسماه صيانة القرآن عن التحريف وقد طبع وانتشر.


السادس : إنّ المطلوب في العقائد ، غير المطلوب في الأحكام فالغاية من الثانية هي العمل وإن لم يكن اذعان بصحّته وكونه مطابقاً للواقع ، بل يكفي قيام الدليل على جواز تطبيق العمل عليه. بخلاف الاُولى فانّ الغرض المنشود منها هو الاعتقاد والايمان ، ومن المعلوم أنّ اليقين رهن مقدّمات مفيدة لليقين ومجرّد وجود خبر حتّى الصحيح في الجوامع الحديثية لا يؤدّي إلى اليقين فلا يمكن أن يحتجّ بها في مجال العقيدة إلاّ إذا كانت مفضية إلى اليقين ، والاذعان ، والخبر الواحد ، وإن صحّ ، خال من هذا الشأن.

السابع : عرفت الشيعة بالتقيّة وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض المشاغبين والمغالطين فيقولون : بما أنّ التقيّة من مبادئ التشيّع فلا يصحّ الاعتماد بكل ما يقولون ويكتبون وينشرون إذ من المحتمل جدّاً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرة ، ويكرّره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه الردية على الشيعة.

ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقيّة انّما هي القضايا الشخصية الجزئية أي عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في اظهار العقيدة أو تطبيق العمل عل مذهب إمام من أئمّة أهل البيت احتمال توجّه الضرر ، يصير المورد من مواردها ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتّقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الاُمور الكليّة الخارجة عن إطار الخوف فلا يتصوّر فيها التقيّة ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في النوع الثاني إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، بل لا ملزم للكتابة أصلاً فله أن يسكت ولا يكتب شيئا.


فما يدّعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناش عن عدم عرفانهم لحقيقة التقية عند الشيعة.

والحاصل : انّ الشيعة انّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ، ولا قدرة ومنعة تدفع عنهم ، وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

إنّ الشيعة منذ أن تعرضوا للضغط ، عاشت عندهم التقية على مستوى الفتاوى ، ولم تعش على المستوى العملى ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الامويين ، والحكام العباسيين ، كحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية (١).

إنّ القول بالتقية ليس شيئاً مختصّاً بالشيعة ، بل يقول به المسلمون جميعاً هذا أبو الهذيل العلاف رئيس المعتزلة يقول : إنّ المكره إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما اُكره عليه فله أن يكذب ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه (٢).

بل يقول به كل مسلم واع ، وكل كاتب قدير وناطق مصقع ، يعيش في بلاد يسود عليه الاستبداد وسلب الحريات الاجتماعية والسياسية بمختلف اشكاله وصوره.

الثامن : لم يزل أهل السنّة يصفون المسانيد والسنن بالصحاح وربّما يغالون في حق بعض الصحاح كالبخاري بأنّه أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه. أو ليس هذا مغالاة

__________________

١ ـ الدكتور أحمد الوائلي : هوية التشيّع ٢٠٣.

٢ ـ أبو الحسن الخياط : الانتصار ١٢٨.


في القول؟ وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما نتلوه عليك عن ذلك الكتاب الذي هو الأصحّ في زعمهم بعد كتاب اللّه.

١ ـ روى في تفسير سورة الاسراء انّ جبرائيل ليلة اُسري بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين ، أحدهما من لبن وآخر من خمر ، وخيّره بين شرب واحد منهما (١).

أفيصح في منطق العقل أن يأتي جبرئيل في تلك الليلة بقدح من الخمر التي وصفها رسول اللّه باُمّ الخبائث ووصفه الكتاب العزيز بأنّه من عمل الشيطان؟! ولا يصحّ لمتقوّل أن يفسّرها بخمر الجنّة التي لا سكر فيها وهو بعد في الدنيا؟

٢ ـ روى عن عائشة أنّها قالت : سحر النبي حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله (٢).

فعلى ذلك لا يحصل أي ثقة بكلام النبي وقوله ، ولأجل ذلك نرى انّ الجصاص يقول في حقّ هذه الروايات : ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين (٣).

٣ ـ وأخرج في صحيحه في كتاب الغسل باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد عن أنس بن مالك قال : كان النبي 6 يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار وهنّ إحدى عشرة ، قال : قلت لأنس : أو كان يطيقه؟ قال : كنّا نتحدّث أنّه اُعطي قوّة ثلاثين (٤).

إنّ النبي الأكرم كان يقضي ليلة بالتهجّد والعبادة ، قال سبحانه : ( إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثَىِ الَّيْلِ أو نِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) (٥)

__________________

١ ـ البخاري ج ٤ باب صفة إبليس وجنوده.

٢ ـ أحمد بن حنبل : المسند ٦ / ٥.

٣ ـ الجصاص : احكام القرآن ١ / ٥٥.

٤ ـ البخاري : الصحيح ٦ / ١٣.

٥ ـ المزّمّل / ٢٠.


وما جاء في الرواية انّما يلائم حال الخلفاء الامويين والعباسيين الذين كانت قصورهم تزخر بالجواري والنساء وحاشا النبي الأكرم الذي عبداللّه سبحانه حتّى تورّمت قدماه ونزل قوله سبحانه : ( طه * ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى إلاّ تَذْكِرَهً لِمَنْ يَخْشى ) (١).

إنّ الرواية وضعت لتبرير أعمال هؤلاء الذين يعرّفهم الامام في كتابه إلى عامله بالبصرة ، عثمان بن حنيف ويقول : « كالبهيمة المربوطة ، همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها » (٢) ولا يهمهم سوى ارضاء البطن والفرج.

٤ ـ والعجب أنّه روي عن عائشة خلاف ذلك وأنّه لم يكن للنبي الأكرم الطروقة وقوة النكاح وكثرة الجماع قالت : إنّ رجلاً سأل رسول اللّه ، عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل ( لا ينزل منه المني ) هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة فقال رسول اللّه 6 : إنّي لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل (٣).

حاشا نبيّ العظمة والقداسة أن يتفوّه بحضرة زوجته ما لا يتكلّم به إلاّ الإنسان الماجن ، المنهمك في الشهوات البهيمية ، واللّه سبحانه يصف حياءه بقوله : ( فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسينَ لِحَديثٍ إنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيِى مِنْكُمْ واللّهُ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الحَقِّ ) (٤).

هذه نماذج من الأحاديث الواردة في أصح الكتب عند أهل السنّة ، لا أظن أنّ من يملك شيئاً من الدراية يحتمل صحّتها ، وهذا يدفع كلّ مسلم واع إلى دراسة هذه الكتب من جديد ، وتنزيه الحديث النبوي عن هذه الأباطيل ، ولعلّك إذا رجعت إلى

__________________

١ ـ طه / ١ ـ ٢.

٢ ـ الرضي : نهج البلاغة ، قسم الكتب ٤٥.

٣ ـ مسلم : الصحيح ١ / ١٨٦ باب وجوب الغسل بالتقاء الختانين.

٤ ـ الأحزاب / ٥٣.


الجزء الأوّل من موسوعتنا في مجال التوحيد والتنزيه تجد هناك أحاديث لا يصدقها العقل ولا النقل.

التاسع : لقد ذكر أبو زهرة سبب نمو المذهب الامامي ، وقال :

« لقد نما هذا المذهب وانتشر لأسباب :

١ ـ إنّ باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة ، وهذا يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والننفسية.

٢ ـ كثرة الأقوال في المذهب ـ أي في المسائل الفقهية النظرية ـ واتّساع الصدر للاختلاف مادام كل مجتهد يلتزم المنهاج المسنون ، ويطلب الغاية التي يبتغيها من يريد محص الشرع الاسلامي ، خالصاً غير مشوب باية شائبة من هوى.

٣ ـ إنّ المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات حيث اوربا وما حولها ، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. إنّ هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان ، يحمل في سيره ، ألوانها وأشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

٤ ـ كثرة علماء المذهب الذين يتصدّون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة ، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفوا على دراسة وعلاج المشاكل على مقتضاه (١).

العاشر : نجد بعض المشاغبين يتّهمون الشيعة بالقول بالتحريف ، بحجة أنّ لدى الشيعة مصحفاً باسم « مصحف فاطمة » واختصاصه بها كاشف عن مغايرته مع المصحف الرائج.

__________________

١ ـ أبو زهرة : الامام الصادق ، بتلخيص محمّد جواد مغنية في كتابه الشيعة والتشيّع ٢٢٥.


إنّ هذا المشاغب ، لم يقرأ تاريخ الشيعة ولم يقف على كلمات أئمتهم حول هذا المصحف. وزعم أنّ المصحف بمعنى القرآن ، وغفل عن أنّ المقصود منه ، هو الكتاب قال سبحانه : ( وأذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) (١) وقد أملى النبيّ الأكرم في مجالي العقيدة والتشريع والملاحم اُموراً على ابنته وزوجها فجمعت في « صحف مكرمة » ، سميت مصحف فاطمة. وهذا هو الامام الصادق حفيد فاطمة الطاهرة وهو من أهل البيت ، وهم أدرى بما في البيت ، يحدّثنا عن هذا المصحف ويقول : عندنا مصحف فاطمة أما واللّه ما فيه حرف من القرآن ولكنّه املاء من رسول اللّه.

روى الكليني انّ المنصور سأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة فما أجابه عنها إلاّ الإمام الصادق ولمّا سَئِل من أين أخذ هذا؟ قال : من كتاب فاطمة (٣).

نرى انّ الامام يعبّر عن مصحف فاطمة بكتاب ، مشيراً إلى أنّه كتاب لا قرآن يختص به.

فإذا كان الغرض هو التعرّف على الواقع فهذا هو الواقع. وإن كان الهدف هو الشغب فالاُولى بهذه النسبة هي عائشة ، روى السيوطي أنّه قالت حميدة بنت أبي يونس : قرأ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة : انّ اللّه وملائكته يصلّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلّون في الصفوف الاُولى (٢).

__________________

١ ـ التكوير / ١٠.

٢ ـ الكليني الكافي ٣ / ٥٠٧ ط طهران.

٣ ـ الاتقان ٢ / ٢٥.


هذه من الشيعة الامامية وهذا تاريخها المشرق وهؤلاء أئمتها أئمة أهل البيت وهذه عقائدها الوضّاءة ، وهؤلاء علماؤها وأبطالها المشاركون في بناء الحضارة الإسلامية وهذه وهذه وهذه.

فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. نسأله سبحانه أن يتفضّل علينا بتوحيد الكلمة كما أولانا بكلمة التوحيد إنّه خير مدعو وخير مجيب وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

وآخر دعوانا أن الحمد اللّه رب العالمين.

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق 7

جعفر السبحاني


الفهارس

فهرس الآيات القرانية

البقرة :

رقم الآية

الصفحة

وإنّ منها لما يهبط من خشية الله

٧٤

١٠٥

وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات

١٢٤

١٤٨ و ٢٩٤

وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت

٢٤٧

٢٩٦

وآتاه الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء

٢٥١

٢٩٥

آل عمران :

إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء

٥

٣٠٦

إنّ الدين عند الله الإسلام

١٩

٢٥٩

لايتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء

٢٨

٣٤٥

ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين

٥٤

٣٣٨

مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب

٥٩

٢٧٠

فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم

٦١

٧٤

وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل

١٤٤

١٨٠ و ١٨٢

فبما رحمة من الله لنت لهم

١٥٩

١٧٧


رقم الآية

الصفحة

الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم

١٧٣

٤٠٠

النساء :

وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى

٣

٣٧٣

وآتوا النساء صدقاتهن نحلة

٤

٣٧٣

وإن كان رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرَأَةٌ

١٢

٢٦

وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ

٢٣ و ٢٤

٣٧٣ و ٣٧٥

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ

٢٥

٣٧٣

مِنَ الَّذِيَنَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَللِمَ عَن مَواضِعِه

٤٦

٣٠

أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ

٥٤

١٤٨ و ٢٩٤

أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسولَ واُولِى الأمْر مِنْكُمْ

٥٩

٢٩١

وَكلَّمَ اللّهُ مَوسى تَكْلِيماً

١٦٤

٢٦٨

يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة

١٧٦

٢٦ و ٢٧

المائدة :

اليوم أكملت لكم دينكم

٣

٣١ و٣٢ و١٧٥

أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلوةِ

٦

٢٥ و ٣٦٨

إِنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ

٣٣

١٣٠

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا

٣٨

٢٦

يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وألنَّصارى

٥١ و ٥٦

٦٦ و ٦٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا دِينَكُمْ هُزُواً

٥٧

٧١ و ٧٣

وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ

٦٤

٢٧٩ و ٣٢٠

يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ

٨٧

٣٨١


رقم الآية

الصفحة

الأنعام :

ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسلَيْمانَ

٨٤ و ٨٥

٤٦٩

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار

١٠٣

٢٦٨ و ٢٦٩

الأعراف :

قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ

٢٨

٣٤٠

وَلَوْ أَنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقُوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ

٩٦

٣١١

وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ

١٣٠

٣١٦

وقال موسى لأخيه هارون اخلفني

١٤٢

٣٣٠

... لن تراني

١٤٣

٢٦٩

الأنفال :

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ

٣٣

٣١١

ذلِكَ بِاَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَها

٥٣

٣١٦

إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين

٦٥

٢٤٢

التوبة :

يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ

٢٣

٧٣

وَآخَرُون مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبَهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ

١٠٦

٢٦٣

يونس :

فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها

٩٨

٣١١ و ٣٣٠


رقم الآية

الصفحة

هود :

وَمَا مِنْ دَابَّة فِى الاَرْضِ اِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها

٦

٣٠٧

ولا تركنوا إلى الذين ظلموا

١١٣

٢٩٧

يوسف :

إن الحكم إلّا الله

٤٠

٢٨٣

ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث

١٠١

٢٩٤

الرعد :

اِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ

١١

٣١ و ٣٢١

ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وكَرْهاً

١٥

٤١٨

يمحوا اللّهُ ما يشاءُ ويثبتُ وعندَهُ اُمّ الكتاب

٣٩

٣١٤ و٣٢٢ و

٣٣٢ و ٥١٦

إبراهيم :

وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ

٧

٣١١

النحل :

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للِنّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ

٤٤

٢٤

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ

٦٤

٢٤

من كفر بالله بعد ايمانه إلّا من اُكره

١٠٦

٣٣٩ و٣٤٣

و٣٥٠

وضرب الله مثلاً قرية كانت مطمئنة يأتيها رزقها

١١٢

٣١٥


رقم الآية

الصفحة

الإسراء :

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ

٨٨

٥١٥

الكهف :

وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرضَ بارِزَةً

مريم :

يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّة وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّا

١٢

٤١٩

إنِّى عَبْدُ اللّهِ آتانِىَ الكِتابَ وَجَعَلنِى نَبِّيا

٣٠

٤١٩

طه :

طه * ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى إلاّ تَذْكِرَهً لِمَنْ يَخْشى

١ و ٢

٦٥٥

واجعل لي وزيراً من أهلي

٢٩ و ٣٦

٥٣ و ٥٤

الأنبياء :

لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا

٢٢

٢٦٨

وَنُوحاً إِذْ نَادى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ

مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ

٧٦

٣١١

وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنَّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ

٨٣ و ٨٤

٣١١

فَاستَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيناهُ مِنَ الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِى المُؤْمِنِينَ

٨٨

٣١١

و حرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون

٩٥

٣٦٨

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يورثها


رقم الآية

الصفحة

عبادي الصالحون

١٠٥

١٨٤ و ٢٦٨

٣٠٢ و ٥٢٠

الحج :

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ

٤١

١٨٣

المؤمنون :

قد أفلح المؤمنون . . . فاُولئك هم العادون

١ و ٧

٣٧٤ و٣٧٧ و٣٨٣

فِي بُيُوتٍ أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ

٣٦

٧٤

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعمِلُوا الصَّالِحَاتِ

٥٥

٣٠٢ و٥٢٠

حتى إذا جاء أحدهم الموت

١٠٠ و١٠١

٣٦٨

أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا

١١٥

٢٧٠

الشعراء :

وأنذر عشيرتك الأقربين

٢١٤

٤٤

والشعراء يتبعهم الغاوون

٢٢٤

٥٢٢

ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِى كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ * وأنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ

٢٢٥ و٢٢٦

٥٢٢

النمل :

وإذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ

تُكَلِّمُهُمْ

٨٢ و ٨٣

٢٧٥ و ٣٦٥


رقم الآية

الصفحة

القصص :

وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ

وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثِينَ

٥

٥٢٠

فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ

١٥

٧

قَالَ يَا مُوسَى اِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ

٢٠

٣٤٩

وأخِى هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنِّى لِساناً فَأَرْسِلْهُ

٣٤

٥٣

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي

الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ

٨٣

٢٠٩

إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعاد

٨٥

١٢٤

الأحزاب :

صدقوا ما عاهدوا الله عليه

٢٣

٣٨٠

إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت

ويطهركم تطهيرا

٣٣

٧٤ و ٢٨٨

فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسينَ لِحَديثٍ

٣٥

٦٣٥

ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللّهِ

وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

٤٠

٢٧٢

يا أيُّها النَّبِىُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً

٤٥

٤٤٤

إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكل شيء عليما

٥٤

٣٠٦

فاطر :

الحمد لله فاطر السموات والأرض

١

٣٢٠

وما تحمل من اُنثى ولا تضع إلّا يعلمه

١١

٣٢٠


رقم الآية

الصفحة

يس :

لتنذر قوماً ما اُنذر آباؤهم فهم غافلون

٦

٤٦

الصافات :

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْراهيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم

٨٣ و ٨٤

٧

فَبَشِّرْنَاهُ بِغُلام حَلِيم * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ

١٠١ و١٠٢

٣٢٩

فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ

١٤٣ و١٤٦

٣١١

ص :

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ

٢٠

٢٩٥

ذلكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفروا فويلٌ

٢٧

٣٢٥

رُدّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والأعْناق

٣٣

٣٩٢

وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ

٣٥

٢٩٥

الزمر :

ولا يرضى لعباده الكفر

٧

٢٩١

إنّك ميّت وإنّهم ميّتون

٣٠

١٨٠ و ١٨٢

وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

٤٧

٣٣١

غافر :

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه

٢٨

٣٤٠ و ٣٤٨

فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا بالله وحده

٨٤ و ٨٥

٥٠٩


رقم الآية

الصفحة

فصّلت :

لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله

٣٧

٤١٨

فوقاه الله سيئات ما مكروا

٤٥

٣٤٨

الشورى :

قُلْ لا أسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرَاً إلاّ المَوَدَّةَ فِى القُربَى ومن

يقترف حسنة نزد له فيها حسنا

٢٣

٧ و ٧٤ و٤٢٧

وأمرهم شورى بينهم

٣٨

١٧٨

الزخرف :

وَإِنَّهُ فِى اُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلىٌّ حَكِيمٌ

٤

٣٢٨

الحجرات :

يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله

١

١٠٢

النجم :

ما ضَلَّ صاحبُكُم وما غوى * وما ينطقُ عن الهوى *

إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى

٢ و ٤

٥٥٣

الحديد :

فَالْيَوْمَ لا يُؤخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ولاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

١٥

٥١

مَا اَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِى الاَرْضِ وَلا فِى اَنْفُسِكُمْ اِلاّ

فِى كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا اِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه يَسيرٌ

٢٢

٣٠٦ و ٣٢٨


رقم الآية

الصفحة

وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً وإبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ

والكِتابَ

٢٦

١٤٨

المنافقون :

إذا جاءك المنافقون قالوا ...

١

٣٤٠

الطلاق :

وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ

٢ و ٣

٣١١

نوح :

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ

١٠ و ١٢

٣١٠

المزّمّل :

إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم

٢٠

٦٥٥

البروج :

بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ

٢١ و ٢٢

٣٢٧

البيّنة :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اُولئك هم خير البرية

٧

١٠٣

الإخلاص :

قل هو الله أحد

١

٢٦٨


فهرس مصادر الكتاب

القرآن الكريم

حرف الألف :

١ ـ أبوالعباس السفاح : محمّد أحمد براق.

٢ ـ الا تقان : جلال الدين السيوطي ( ٨٤٩ ـ ٩١١ هـ ) دار ابن كثير ، بيروت.

٣ ـ اثبات الهداة : الحر العاملي : محمّد بن الحسن ( م ١١٠٤ هـ ) المطبعة العلمية ، قم.

٤ ـ اثبات الوصية : المسعودي : علي بن الحسين بن علي ( م ٣٤٥ هـ ) قم ـ ١٤٠٤ هـ.

٥ ـ الإثنا عشرية وأهل البيت : محمّد جواد مغنية.

٦ ـ الإحتجاج : أبو منصور : أحمد بن علي الطبرسي ( من اعلام القرن السادس ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٧ ـ أحسن التقاسيم : شمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي ، طبع ليدن ـ ١٩٠٦ م.

٨ ـ الأحكام السلطانية : الماوردي : علي بن محمّد البصري ( م ٤٥٠ هـ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

٩ ـ أحكام القرآن : الجصّاص : أحمد بن علي ( م ٣٧٠ هـ ) دار الكتب العربي ، بيروت ـ ١٤٠١ هـ.


١٠ ـ أخبار اصبهان : أبو نعيم الاصفهاني : أحمد بن عبداللّه ( م ٤٣٠ هـ ) انتشارات جهان ، طهران.

١١ ـ أخبار النحويين واللغويين : ابن النديم ( م ٣٨٥ هـ ).

١٢ ـ الاختصاص : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ ) مؤسسه النشر الاسلامي ، قم.

١٣ ـ الأربعون حديثاً : النبهاني.

١٤ ـ الارشاد : المفيد : محمّد بن محمّد بن النعمان ( م ٤١٣ هـ ) طبع قم ـ ١٤٠٢ هـ .

١٥ ـ الأرض والتربة الحسينية : الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ( م ١٣٧٣ هـ ).

١٦ ـ الاستيعاب : أبو عمرو : يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ ، دار نهضة مصر ، القاهرة.

١٧ ـ أسد الغابة : ابن الأثير : علي بن أبي الكرم ( م ٦٣٠ هـ ) دار احياء التراث العربي بيروت.

١٨ ـ الإصابة : ابن حجر : أحمد بن علي العسقلاني ( م ٨٥٢ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت.

١٩ ـ أصل الشيعة واُصولها : الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء ( ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ هـ ) مطبعة العرفان ، صيدا ـ ١٣٥٥ هـ.

٢٠ ـ اُصول الدين : محمّد بن عبدالكريم البزدوي ( ٤٢١ ـ ٤٩٣ هـ ) دار احياء الكتب العربية ، القاهرة ـ ١٣٨٣ هـ.

٢١ ـ اُصول الفقه : الدواليبي.

٢٢ ـ اعتقادات الإمامية : الصدوق : محمّد بن بابويه القمي ( ٣٨١ هـ ) طبعة حجر.

٢٣ ـ إعلام الورى : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( ٤٧١ ـ ٥٤٨ هـ ) طبع إيران.

٢٤ ـ أعيان الشيعة : السيد محسن الأمين العاملي ( م ١٣٧١ هـ ) دار التعارف ، بيروت.

٢٥ ـ الإلهيات : محمّد مكي العاملي من محاضرات الاُستاذ جعفر السبحاني ، الدار الإسلامية ، بيروت ـ ١٤١٠ هـ.


٢٦ ـ الأمالي : الصدوق : محمّد بن بابويه القمي ( م ٣٨١ هـ ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

٢٧ ـ الأمالي : المفيد : محمّد بن محمّد بن النعمان ( م ٤١٣ هـ ) قم ـ ١٤٠٤ هـ.

٢٨ ـ الامام جعفر الصادق : محمّد أبو زهرة ( م ١٣٩٦ هـ ).

٢٩ ـ الامام علي صوت العدالة الإنسانية : جورج جرداق ، دار الروائع ، بيروت.

٣٠ ـ الامامة والسياسة : ابن قتيبة : عبداللّه بن مسلم الدينوري ( م ٢٧٦ هـ ) مطبعة مصطفى محمّد ، مصر.

٣١ ـ الانتصار : ابو الحسين الخياط المعتزلي ، تحقيق د. نيبرج ، طبع مصر ـ ١٣٤٤ هـ.

٣٢ ـ أنساب الأشراف : البلاذري : أحمد بن يحيى ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٣٩٤ هـ.

٣٣ ـ أوائل المقالات : المفيد : محمّد بن محمّد بن النعمان ( م ٤١٣ هـ ) مكتبة الحقيقة ، تبريز ـ ١٣٧١ هـ.

٣٤ ـ الإيضاح : الفضل بن شاذان ( م ٢٦٠ هـ ) انتشارات جامعة طهران ، طهران ـ ١٤٠٤ هـ.

حرف الباء :

٣٥ ـ بحارالأنوار : محمّد باقر المجلسي ( م ١١١٠ هـ ) مؤسسة الوفاء ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٣٦ ـ البداية والنهاية : ابن كثير : الحافظ أبو الفداء ( م ٧٧٤ هـ ) دار الفكر ، بيروت ـ ١٤٠٢ هـ.

٣٧ ـ البرهان في تفسير القرآن : السيد هاشم التوبلي البحراني ( م ١١٠٧ هـ ) قم ـ ١٣٧٥ هـ.

٣٨ ـ البلدان : اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من أعلام القرن الثالث ).

٣٩ ـ بلوغ المرام : ابن حجر العسقلاني ( م ٨٥٢ هـ ) دار النهضة ، مصر.


٤٠ ـ البيان والتبيين : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م ٢٥٥ هـ ) دار الفكر للجميع ، بيروت ـ ١٩٦٨ م.

٤١ ـ بين يدي الساعة : الدكتور عبدالباقي المعاصر.

* حرف التاء :

٤٢ ـ تاريخ آداب اللغة العربية : جرجي زيدان ، دار الهلال ، القاهرة ـ ١٩٣١ م.

٤٣ ـ تاريخ ابن خلدون : عبدالرحمان بن خلدون ( م ٨٠٨ هـ ) بيروت ـ ١٩٥٦م.

٤٤ ـ تاريخ الإسلام السياسي : الدكتور حسن إبراهيم حسن ( المعاصر ) مصر ـ ١٩٣٥ م.

٤٥ ـ تاريخ الإمامية : الدكتور عبداللّه فياض ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٣٩٥ هـ.

٤٦ ـ تاريخ الاُمم والملوك : الطبري : محمّد بن جرير ( م ٣١٠ هـ ) مؤسسة الأعلمي بيروت.

٤٧ ـ تاريخ بغداد : الخطيب البغدادي : أحمد بن علي ( م ٤٦٣ هـ ) المكتبة السلفية ، المدينة المنورة.

٤٨ ـ تاريخ الخلفاء : جلال الدين السيوطي ( ٨٤٩ ـ ٩١١ هـ ) مطبعة المدني ، القاهرة ـ ١٣٨٣ هـ.

٤٩ ـ تاريخ الشعوب الإسلامية : كارل بروكلمان ، طبع بيروت ـ ١٩٦٥ م.

٥٠ ـ تاريخ الشيعة : محمّد حسين المظفر ( م ١٣٧٥ هـ ) منشورات مكتبة بصيرتي ، قم.

٥١ ـ تاريخ المذاهب الإسلامية : محمّد أبو زهرة ( م ١٣٩٦ هـ ) دارالفكر العربي ، بيروت.

٥٢ ـ تاريخ مختصر الدول : ابن العبري : العلامة غريغوريوس الملطي ( م ٦٨٥ هـ ) مؤسسة منابع الثقافة الإسلامية ، قم.

٥٣ ـ تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث الهجري ) المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف ـ ١٣٨٤ هـ.


٥٤ ـ تأسيس الشيعة : السيد حسن الصدر ( ١٢٧٢ ـ ١٣٥٤ هـ ) ، مطبعة المعارف ، بغداد ـ ١٣٧٠ هـ.

٥٥ ـ التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : محمّد بن الحسن ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

٥٦ ـ التبصير في الدين : أبو المظفر الاسفرائيني ( م ٤٧١ هـ ) بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٥٧ ـ التحرير الطاووسي : الشيخ حسن بن زين الدين العاملي ( م ١٠١١ هـ ).

٥٨ ـ تحف العقول : الحرّاني : الحسن بن علي ( من أعلام القرن الرابع الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٣٩٤ هـ.

٥٩ ـ تذكرة الخواص : سبط ابن الجوزي ( ٥٨١ ـ ٦٥٤ هـ ) مؤسسة أهل البيت ، بيروت ـ ١٤٠١ هـ.

٦٠ ـ ترتيب المدارك : القاضي عياض ، بيروت ـ ١٩٧٦ م.

٦١ ـ تصحيح الاعتقاد : المفيد : محمّد بن محمّد بن النعمان ( م ٤١٣ هـ ) مكتبة الحقيقة ، تبريز ـ ١٣٧١ هـ.

٦٢ ـ تطهير الجنان : ابن حجر الهيتمي ( م ٩٧٤ هـ ) المطبوع بهامش الصواعق المحرقة ، القاهرة ـ ١٣٨٥ هـ.

٦٣ ـ تفسير ابن كثير : إسماعيل الدمشقي ( م ٧٧٤ هـ ) دار الفكر ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٦٤ ـ تفسير الخازن : الشيخ علاء الدين محمّد البغدادي ، طبع القاهرة.

٦٥ ـ تفسير الرازي ( مفاتيح الغيب ) : محمّد بن عمر الخطيب ( ٥٤٤ ـ ٦٠٦ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٦٦ ـ تفسير روح البيان : إسماعيل حقّي.

٦٧ ـ تفسير الطبري ( جامع البيان ) : محمّد بن جرير ( م ٣١٠ هـ ) دار المعرفة ، بيروت.

٦٨ ـ تفسير القرطبي ( جامع أحكام القرآن ) : محمّد بن أحمد الأنصاري ( م ٦٧١ هـ )دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.


٦٩ ـ تفسير المراغي : أحمد مصطفى المراغي ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٤٠٦ هـ.

٧٠ ـ تفسير المنار : محمّد رشيد رضا ( م ١٣٥٤ هـ ) دار المنار ، مصر ـ ١٣٧٣ هـ.

٧١ ـ تفسير النسفي : المطبوع بهامش تفسير الخازن ، طبع القاهرة ، مصر.

٧٢ ـ التفسير والمفسرون : الدكتور محمّد حسين الذهبي ( م ١٣٩٦ هـ ) دار الكتب الحديثة ، مصر ـ ١٣٩٦ هـ.

٧٣ ـ تقريب التهذيب : ابن حجر العسقلاني ( م ٨٥٢ هـ ) ، بيروت ـ ١٩٧٥ م.

٧٤ ـ تقييد العلم : الخطيب البغدادي ( م ٤٦٣ هـ ) نشر دار السنّة ـ ١٩٧٤ م.

٧٥ ـ التمهيد : الباقلاني : محمّد بن الطيب ( م ٤٠٣ هـ ) القاهرة ـ ١٣٦٦ هـ.

٧٦ ـ تنقيح المقال : عبد اللّه المامقاني ( ١٢٩٠ ـ ١٣٥١ هـ ) النجف الأشرف ـ ١٣٥٠ هـ.

٧٧ ـ تهذيب التهذيب : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( ٧٧٣ ـ ٨٥٢ هـ ) دار الفكر ، بيروت ـ ١٤٠٤ هـ.

٧٨ ـ التوحيد : الصدوق : محمّد بن بابويه القمي ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ هـ ) مكتبة الصدوق ، طهران.

حرف الثاء :

٧٩ ـ الثقات العيون : آغا بزرگ الطهراني ( ١٢٩٣ ـ ١٣٨٩ هـ ).

حرف الجيم :

٨٠ ـ جامع الاُصول : ابن الأثير الجزري : المبارك بن محمّد ( ٥٤٤ ـ ٦٠٦ هـ ) دارالفكر ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.


٨١ ـ الجرح والتعديل : أبو حاتم الرازي ( م ٣٢٧ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٣٧١ هـ.

٨٢ ـ جمل العلم والعمل : الشريف المرتضى : علي بن الحسين الموسوي ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ هـ ).

٨٣ ـ جنة المأوى : محمّد حسين كاشظف الغطاء ( م ١٣٧٣ هـ ) مكتبة الحقيقة ، تبريز ١٣٨٠ هـ.

حرف الحاء :

٨٤ ـ الحضارة الإسلامية : آدم متز ، ترجمة الدكتور عبدالهادي أبو ريدة ، مصر ـ ١٣٦٧ هـ.

٨٥ ـ حقائق التنزيل : الشريف الرضي ( ٣٥٩ ـ ٤٠٤ هـ ) مؤسسة البعثة ، طهران ـ ١٤٠٦ هـ.

٨٦ ـ حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبداللّه الاصبهاني ( م ٤٣٠ هـ ) دار الكتاب العربي ، بيروت ـ ١٣٨٧ هـ.

٨٧ ـ الحوادث الجامعة : ابن الفوطي : عبدالرزاق بن أحمد ( م ٧٣٣ هـ ) تحقيق الدكتور مصطفى جواد ، بغداد ـ ١٣٥١ هـ.

حرف الخاء :

٨٨ ـ الخصائص العلوية : النسائي : أبو عبدالرحمان : أحمد ( م ٣٠٣ هـ ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ـ ١٣٨٨ هـ.

٨٩ ـ الخصال : الشيخ الصدوق : محمّد بن بابويه ( م ٣٨١ هـ ) منشورات دارالنشر الاسلامي ، قم ـ ١٤٠٣ هـ.

٩٠ ـ خطط الشام : محمّد كرد علي ، مصر ـ ١٩٦٣ م.

٩١ ـ الخطط المقريزية : تقي الدين المقريزي ( م ٨٤٥ هـ ) دار صادر ، بيروت.


٩٢ ـ الخلاصة : العلاّمة الحلي ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ ) النجف الأشرف.

٩٣ ـ الخلاف : الشيخ الطوسي ( م ٤٦٠ هـ ) دارالكتب العلمية ، قم.

٩٤ ـ الخلافة والإمامة : عبدالكريم الخطيب ( م ١٣٩٦ هـ ) دار المعرفة ، بيروت ـ ١٣٩٥ هـ.

٩٥ ـ الخوارج والشيعة : يوليوس فلهوزن ، ترجمة الدكتور عبدالرحمان بدوي ، وكالة المطبوعات ، الكويت.

حرف الدال :

٩٦ ـ دائرة المعارف : فريد وجدي ، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين ـ ١٣٨٦ هـ.

٩٧ ـ الدرجات الرفيعة : صدر الدين السيد علي خان المدني الحسيني ( م ١١٢٠ هـ ) منشورات المكتبة ، الحيدرية ، النجف الأشرف ـ ١٣٨١ هـ.

٩٨ ـ الدر المنثور : جلال الدين السيوطي ( ٨٤٩ ـ ٩١١ هـ ) دارالفكر ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٩٩ ـ ديوان ابن الرومي : أبو الحسن علي بن العباس بن جريج ( م ٢٨٣ هـ ) تحقيق كامل الكيلاني ، طبعة مصر ١٩٢٤ م.

حرف الذال :

١٠٠ ـ الذخيرة : الشريف المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ هـ ) طبع ايران.

١٠١ ـ الذريعة : آغا بزرگ الطهراني ( م ١٣٨٩ هـ ) دارالأضواء ، بيروت.

١٠٢ ـ الذكرى : الشهيد الأول : محمّد بن مكي العاملي ( ٧٣٣ ـ ٧٨٦ هـ ) طبعة حجر ، إيران.

حرف الراء :

١٠٣ ـ ربيع الأبرار : الزمخشري : محمود بن عمر ( ٤٦٧ ـ ٥٣٨ هـ ) منشوراتالشريف الرضي ، قم ـ ١٤١٠ هـ.


١٠٤ ـ الرجال : ابن داود : الحسن بن علي الحلي ( من علماء القرن السابع الهجري ) طهران ـ ١٣٤٢ هـ.

١٠٥ ـ الرجال : البرقي : أحمد بن عبداللّه ( ٢٧٤ أو ٢٨٠ هـ ) طهران ـ ١٣٨٣ هـ.

١٠٦ ـ الرجال : الطوسي : محمّد بن الحسن ( م ٤٦٠ هـ ) النجف الأشرف ـ ١٣٨١ هـ.

١٠٧ ـ الرجال : الكشي : أبو عمرو ( من علماء القرن الرابع ) مؤسسة الأعلمي ، كربلاء ـ العراق.

١٠٨ ـ الرجال : النجاشي : أحمد بن علي ( ٣٧٢ ـ ٤٥٠ هـ ) بيروت ـ ١٤٠٩ هـ.

١٠٩ ـ الرحلة ( تحفة النظّار في غرائب الأمصار ) : ابن بطوطة : محمّد بن عبداللّه ( م ٧٧٩ هـ ) دارالكتب العلمية ، بيروت ـ ١٤٠٧ هـ.

١١٠ ـ الرسائل : الإمام الخميني ( ١٣٢٠ ـ ١٤٠٩ هـ ) مؤسسة إسماعيليان ، قم ـ ١٣٨٥ هـ.

١١١ ـ الرسائل : أبو عثمان عمرو الجاحظ ( م ٢٥٥ هـ ) طبع مصر.

١١٢ ـ رسالة في آل أعين : أبو غالب الزراري ( م ٣٦٨ هـ ) مطبعة ربّاني ، اصفهان ـ ١٣٩٩ هـ.

١١٣ ـ الرواشح السماوية : المحقق الداماد ( م ١٠٤١ ) طبعة حجر ، إيران.

١١٤ ـ روح المعاني : الآلوسي : أبوالفضل : شهاب الدين السيد محمود البغدادي ( م ١٢٧٠ هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

١١٥ ـ روضات الجنات : محمّد باقر الخوانساري ( م ١٣١٣ هـ ) طهران ـ ١٣٩٠ هـ.

١١٦ ـ روضة الواعظين : الفتّال النيسابوري : محمّد بن علي ( من علماء القرن السادس الهجري ) تبريز ـ ١٣٣٠ هـ.

حرف الزاي :

١١٧ ـ الزيدية نظرية وتطبيق : علي عبدالكريم فضيل ، شرف الدين ، طبع عمان ـ ١٤٠٥ هـ.


حرف السين :

١١٨ ـ السجدة على التربة.

١١٩ ـ السجود على الأرض : العلاّمة علي الأحمدي ، مؤسسة في طريق الحق ، قم.

١٢٠ ـ السراج المنير : الخطيب الشربيني ، دار المعرفة ، بيروت.

١٢١ ـ سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( ١٢٩٤ ـ ١٣٥٩ هـ ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

١٢٢ ـ السنة والشيعة : محمّد رشيد رضا ( م ١٣٥٤ هـ ).

١٢٣ ـ السنن : ابن ماجة : محمّد بن يزيد القزويني ( ٢٠٧ ـ ٢٧٥ هـ ) داراحياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٣٥٩ هـ.

١٢٤ ـ السنن الكبرى : البيهقي : أحمد بن الحسين ( م ٤٥٨ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت ١٤٠٦ هـ.

١٢٥ ـ سيد المرسلين : محاضرات جعفر السجاني ( مؤلف هذا الكتاب تولد ١٣٤٧ هـ ) بقلم : جعفر الهادي ، مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ـ ١٤١٢ هـ.

١٢٦ ـ سير أعلام النبلاء : الذهبي : شمس الدين محمّد بن أحمد ( م ٨٤٨ هـ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ ١٤٠٩ هـ.

١٢٧ ـ السيرة الحلبية : الحلبي : برهان الدين علي بن ابراهيم ( م ١٠٤٤ هـ ) المكتبة الإسلامية ، بيروت.

١٢٨ ـ سيرتنا وسنتنا : العلامة عبدالحسين الأميني ( ١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ هـ ) طبع النجف الأشرف.

١٢٩ ـ السيرة النبوية : ابن هشام : عبدالملك بن أيوب الحميري ( م ٢١٣ أو ٢١٨ هـ ) دارالتراث العربي ، بيروت.

حرف الشين :

١٣٠ ـ الشافي في الإمامة : الشريف المرتضى ( م ٤٣٦ هـ ) مؤسسة الصادق ،

طهران ـ


١٤١٠ هـ.

١٣١ ـ شذرات الذهب : ابن عماد الحنبلي ( ١٠٣٢ ـ ١٠٨٩ هـ ) دارالفكر ، بيروت ـ ١٣٩٩ هـ.

١٣٢ ـ شرح التجريد : القوشچي : علاء الدين ، طبعة حجر ، تبريز.

١٣٣ ـ شرح العقائد النسفية : سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ( م ٧٩٢ هـ ) مكتبة المثنى ، بغداد.

١٣٤ ـ شرح مقاصد الطالبيين : سعد الدين التفتازاني ( م ٧٩٢ هـ ) طبع مصر.

١٣٥ ـ شرح نهج البلاغة : ابن ابي الحديد ( م ٦٥٥ هـ ) دار احياء الكتب العربية ، القاهرة ـ ١٣٧٨ هـ.

١٣٦ ـ الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م ٤٢٨ هـ ) انتشارات بيدار ، إيران.

١٣٧ ـ شمس العرب تسطع على الغرب : المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ، الترجمة العربية ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ـ ١٤١٠ م.

١٣٨ ـ الشيعة بين الأشاعرة وألمعتزلة : هاشم معروف الحسني ( م ١٤٠٧ هـ ) دار القلم ، بيروت ـ ١٩٧٨ م.

١٣٩ ـ الشيعة والتشيّع : محمّد جواد مغنية ، مكتبة المدرسة ودارالكتاب العربي ، بيروت.

١٤٠ ـ الشيعة والحاكمون : محمّد جواد مغنية ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ـ ١٤٠٤ هـ

حرف الصاد :

١٤١ ـ الصحيح : أبو داود السجستاني ( م ٢٧٥ هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

١٤٢ ـ الصحيح : البخاري : محمّد بن اسماعيل ( م ٢٥٦ هـ ) مكتبة عبدالحميد أحمد حنفي ، مصر ـ ١٣١٤ هـ.

١٤٣ ـ الصحيح : الترمذي : محمّد بن عيسى بن سورة ( ٢٠٩ ـ ٢٧٩ هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.


١٤٤ ـ الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( م ٢٦١ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت.

١٤٥ ـ الصحيفة السجادية الجامعة : الإمام زين العابدين علي بن الحسين 7 مؤسسة الإمام المهدي ـ عجل اللّه فرجه الشريف ـ قم ـ ١٤١١ هـ.

١٤٦ ـ الصلة بين التصوّف والتشيع : الدكتور كامل مصطفى الشيبي ، دار المعارف ، مصر ـ ١٩٦٩ م.

١٤٧ ـ الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيتمي ( م ٩٧٤ هـ ) مكتبة القاهرة ، مصر ـ ١٣٨٥ هـ.

حرف الطاء :

١٤٨ ـ الطبقات الكبرى : محمّد بن سعد ( م ٢٣٠ هـ ) دار صادر ، بيروت ـ ١٣٨٠ هـ .

حرف العين :

١٤٩ ـ عبداللّه بن سبأ : السيد مرتضى العسكري ( المعاصر ) النجف الأشرف.

١٥٠ ـ العبر في خبر من غبر : الذهبي : أبو عبداللّه محمّد بن أحمد ( ٦٧٣ ـ ٧٤٨ هـ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

١٥١ ـ عبقات الأنوار : السيد مير حامد حسين الهندي ( ت ١٣٠٦ هـ ) مؤسسة الامام المهدي ـ عجل اللّه فرجه الشريف ـ قم ـ ١٤٠٦ هـ.

١٥٢ ـ العقائد الجعفرية : الطوسي : محمّد بن الحسن ( م ٤٦٠ هـ ) طبعت على شكل رسالة مع كتاب جواهر الفقه ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ـ ١٤١٢ هـ.

١٥٣ ـ العقد الفريد : ابن عبد ربه الاندلسي ( ٢٤٦ ـ ٣٢٨ هـ ) دارالكتب العلمية ، بيروت ـ ١٤٠٤ هـ.

١٥٤ ـ العقيدة والشريعة في الإسلام : المستشرق اجناس جولد تسيهر ( ١٨٥٠ ـ ١٩٢١ م ) دارالكتاب العربي ، مصر.

١٥٥ ـ العقيدة الطحاوية : أبو جعفر الطحاوي ( ٣٢١ هـ ).


١٥٦ ـ علل الشرائع : الشيخ الصدوق ( م ٣٨١ هـ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ١٤٠٨ هـ.

١٥٧ ـ عمدة الطالب : ابن مهنا : جمال الدين أحمد بن علي ( م ٨٢٨ هـ ) النجف الاشرف ـ ١٣٨٠ هـ.

١٥٨ ـ عمدة القارىء : محمود بن أحمد العيني الحنفي ، طبع مصر.

١٥٩ ـ عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ( م ٣٨١ هـ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٤٠٤ هـ.

حرف الغين :

١٦٠ ـ الغارات : ابن هلال الثقفي ( م ٢٨٣ هـ ) دارالكتاب الإسلامي ، قم ـ ١٤١١ هـ.

١٦١ ـ غاية المرام : السيد هاشم البحراني ( م ١١٠٧ هـ ) طبعة حجر ، إيران.

١٦٢ ـ الغدير : العلاّمة عبدالحسين أحمد الأميني ( ١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ هـ ) دارالكتاب العربي ، بيروت ـ ١٣٨٧ هـ.

حرف الفاء :

١٦٣ ـ فتح الباري : ابن حجر : شهاب الدين أحمد العسقلاني ( م ٨٥٢ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت.

١٦٤ ـ فتح البيان : صديق حسن خان.

١٦٥ ـ الفتنة الكبرى : الدكتور طه حسين ، القاهرة ـ ١٩٥١ م.

١٦٦ ـ فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( م ٢٧٩ هـ ) المكتبة التجارية ، مصر ـ ١٩٥٩ هـ.

١٦٧ ـ فجر الإسلام : أحمد أمين ( م ١٣٨٨ هـ ) نشر دارالكتاب العربي.

١٦٨ ـ فرج المهوم : علي بن موسى بن طاووس ( م ٦٦٤ هـ ) ، النجف الأشرف ـ ١٣٦٨ هـ.


١٦٩ ـ فرق الشيعة : النوبختي : الحسن بن موسى ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) دارالأضواء ، بيروت ـ ١٤٠٤ هـ.

١٧٠ ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل : ابن حزم الأندلسي ( م ٤٥٦ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت ـ ١٣٩٥ هـ.

١٧١ ـ الفصول المختارة : الشيخ المفيد ( م ٤١٣ هـ ) ، مكتبة الداوري ، قم ـ ١٣٩٦ هـ.

١٧٢ ـ الفصول المهمة : ابن الصبّاغ المالكي ( م ٨٥٥ هـ ) المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف ـ ١٣٨١ هـ.

١٧٣ ـ فضائل القرآن : الدارمي.

١٧٤ ـ فلاسفة الشيعة : الشيخ عبداللّه نعمة ( المعاصر ) ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت.

١٧٥ ـ الفهرست : ابن النديم : محمّد بن اسحاق ( ٢٩٦ ـ ٣٨٥ هـ ) القاهرة ـ ١٣٤٨ هـ .

١٧٦ ـ الفهرست : محمّد بن الحسن الطوسي ( م ٤٦٠ هـ ) جامعة مشهد ، ايران ـ ١٣٥١ هـ.

١٧٧ ـ في رحاب أئمة أهل البيت : السيد محسن الأمين العاملي ( م ١٣٧١ هـ ) دار التعارف ، بيروت ـ ١٤٠٠ هـ.

حرف القاف :

١٧٨ ـ قاموس الرجال : التستري : محمّد تقي ( المعاصر ) طهران ـ ١٣٩٧ هـ.

١٧٩ ـ قصة الحضارة : ويل دورانت ، دارالجيل ، بيروت ـ ١٤٠٨ هـ.

حرف الكاف :

١٨٠ ـ الكافي : الكليني : محمّد بن يعقوب ( م ٣٢٩ هـ ) دارالكتب الإسلامية ، طهران ـ ١٣٩٧ هـ.

١٨١ ـ الكامل في التاريخ : ابن الأثير الجزري : محمّد بن محمّد ( م ٦٣٠ هـ )


دارالكتاب العربي ، بيروت.

١٨٢ ـ الكشّاف : الزمخشري : محمود بن عمر ( م ٥٣٨ هـ ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة ـ ١٣٦٧ هـ.

١٨٣ ـ كشف الظنون : حاج خليفة مصطفى بن عبداللّه ( م ١٠٦٧ هـ ) طبع استانبول ـ ١٣٦٢ هـ.

١٨٤ ـ كشف الغمة : الأربلي : علي بن عيسى ( م ٦٩٣ هـ ) دارالأضواء ، بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.

١٨٥ ـ كمال الدين : الشيخ الصدوق ( م ٣٨١ هـ ) طهران ـ ١٤٠٥ هـ.

١٨٦ ـ كنز العمال : المتقي الهندي ( م ٩٧٥ هـ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.

١٨٧ ـ كنز الفوائد : الكراجكي : محمّد بن علي بن عثمان ( م ٤٤٩ هـ ) دارالأضواء ، بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.

حرف اللام :

١٨٨ ـ اللئالي المصنوعة : جلال الدين السيوطي ( م ٩١١ هـ ) دار المعرفة ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

١٨٩ ـ لسان العرب : العلامة ابن منظور : محمّد بن مكرم ( م ٧١١ هـ ) قم ـ ١٤٠٥ هـ.

١٩٠ ـ لسان الميزان : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( م ٨٥٢ هـ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

١٩١ ـ لؤلؤة البحرين : المحدث البحراني : الشيخ يوسف ، النجف الأشرف ـ ١٣٨٦ هـ

حرف الميم :

١٩٢ ـ ماضي النجف وحاضرها : الشيخ جعفر آل محبوبة ( م ٣٧٧ هـ ) دارالأضواء ، بيروت ـ ١٤٠٦ هـ.


١٩٣ ـ مجمع البيان : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( ٤٧١ ـ ٥٤٨ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت ـ ١٤٠٨ هـ.

١٩٤ ـ مجمع الزوائد : الهيثمي : الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر ( ٧٣٥ ـ ٨٠٧ هـ ) درالكتاب العربي ، بيروت ـ ١٤٠٢ هـ.

١٩٥ ـ محاسن التأويل : جمال الدين القاسمي ( ١٣٣٢ هـ ).

١٩٦ ـ المحاسن والمساوئ : البيهقي : أحمد بن الحسين ( م ٤٥٨ هـ ) مكتبة النهضة ، مصر.

١٩٧ ـ محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية : محمّد الخضري ، دار احياء الكتب العربية ـ ١٣٤٩ هـ.

١٩٨ ـ مختصر تاريخ العرب : السيد أمير علي ، طبع مصر ـ ١٩٣٨ م.

١٩٩ ـ مرآة الجنان : أبو محمّد ، عبداللّه بن أسعد اليافعي ( م ٧٦٨ هـ ) دائرة المعارف العثمانية ، الهند ـ ١٣٣٧ هـ.

٢٠٠ ـ المراجعات : السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي ( ١٢٩٠ ـ ١٣٧٧ هـ ) طبع مصر.

٢٠١ ـ مروج الذهب : المسعودي : علي بن الحسين ( م ٣٤٥ هـ ) منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت ـ ١٩٦٥ م.

٢٠٢ ـ مسائل فقهية : السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي ( م ١٣٧٧ هـ ) منظمة الاعلام الإسلامي ، طهران ـ ١٤٠٧ هـ.

٢٠٣ ـ المستدرك : الحاكم النيسابوري : محمّد بن عبداللّه ( م ٤٠٥ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت.

٢٠٤ ـ مستدرك الوسائل : الشيخ النوري : الحسين بن محمّد تقي ( ١٢٥٤ ـ ١٣٢٠ هـ ) مؤسسة آل البيت ، قم ـ ١٤٠٧ هـ.

٢٠٥ ـ المسند : أحمد بن حنبل ( م ٢٤١ هـ ) دارالفكر ، بيروت.

٢٠٦ ـ مصفى المقال : آغا بزرگ الطهراني ( م ١٣٨٩ هـ ) دار العلوم ، بيروت ـ


١٤٠٨ هـ.

٢٠٧ ـ المصنف : أبوبكر بن أبي شيبة.

٢٠٨ ـ المصنف : عبدالرزاق ، تحقيق حبيب الرحمان الأعظمي ، ١١ مجلداً ، دار الكتب السلفية ، القاهرة.

٢٠٩ ـ مظاهر الشعوبية في الأدب العربي : الدكتور محمّد نبيه حجاب ، طبع مصر ـ ١٩٦١ م.

٢١٠ ـ معالم العلماء : ابن شهر آشوب : محمّد بن علي السروي المازندراني ( ٤٨٨ ـ ٥٨٨ هـ ) النجف الأشرف ـ ١٣٨٠ هـ.

٢١١ ـ معاني الأخبار : الصدوق : محمّد بن بابويه القمي ( م ٣٨١ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت ـ ١٣٩٩ هـ.

٢١٢ ـ معجم الادباء : الحموي : ياقوت بن عبداللّه ( م ٢٦٢ هـ ) دارالفكر ، بيروت ـ ١٤٠٠ هـ.

٢١٣ ـ معجم البلدان : الحموي : ياقوت بن عبداللّه ( م ٢٦٢ هـ ) دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٣٩٩ هـ.

٢١٤ ـ المغني : عبداللّه بن قدامة ( ٥٤١ ـ ٦٢٠ هـ ) مطبعة الإمام ، مصر.

٢١٥ ـ مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الاصفهاني ( ٢٨٤ ـ ٣٥٦ هـ ) مؤسسة دار الكتاب ، قم.

٢١٦ ـ مقالات الإسلاميين : الأشعري : علي بن اسماعيل ( م ٣٢٤ هـ ) الطبعة الثالثة ١٤٠٠ هـ.

٢١٧ ـ مقتل الامام الحسين : أبو مخنف : لوط بن يحيى الغامدي ( م ١٥٨ هـ ) المكتبة العلمية ، قم.

٢١٨ ـ الملل والنحل : الشهرستاني : محمّد بن عبدالكريم ( ٤٧٩ ـ ٥٤٨ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت ـ ١٤٠٢ هـ.

٢١٩ ـ المناقب : الخوارزمي : أحمد بن محمّد ( م ٥٦٨ هـ ) مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ـ ١٤١١ هـ.


٢٢٠ ـ مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : محمّد بن علي السروي المازندراني ( ٤٨٨ ـ ٥٨٨ هـ ) المطبعة العلمية ، قم.

٢٢١ ـ مناقب علي بن أبي طالب 7 : ابن المغازلي : علي بن محمّد الشافعي الواسطي ( م ٤٨٣ هـ ) المكتبة الإسلامية ، طهران ـ ١٤٠٣ هـ.

٢٢٢ ـ منتخب كنز العمال ( هامش مسند أحمد ) : المتقي الهندي ( م ٩٧٥ هـ ) دار الفكر.

٢٢٣ ـ المنتظم : ابن الجوزي : عبدالرحمان بن علي البغدادي ( م ٥٩٧ هـ ) حيدرآباد ١٣٥٧ هـ وأخيراً في لبنان.

٢٢٤ ـ منهاج السنة : أحمد بن تيمية ( م ٦٦١ ـ ٧٢٨ هـ ) طبع مصر.

٢٢٥ ـ الموطأ : مالك بن أنس ( م ١٧٩ هـ ) دارالآفاق الجديدة ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٢٢٦ ـ الميزان في تفسير القرآن : العلاّمة الطباطبائي ( ١٣٢١ ـ ١٤٠٢ هـ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٢٢٧ ـ ميزان الاعتدال : محمّد بن أحمد الذهبي ( م ٧٤٨ هـ ) دارالمعرفة ، بيروت.

* حرف النون :

٢٢٨ ـ نظرية الإمامية : أحمد محمود صبحي ( المعاصر ) دارالمعارف ، مصر.

٢٢٩ ـ نقد المحصل : فخر الدين الرازي ( م ٦٠٦ هـ ).

٢٣٠ ـ النهاية : ابن الأثير : مبارك بن محمّد الجزري ( م ٦٠٦ هـ ) مؤسسة اسماعيليان قم ـ ١٤٠٥ هـ.

٢٣١ ـ نهاية المرام : العلاّمة الحلي : الحسن بن يوسف ( م ٧٢٦ هـ ) مخطوط.

٢٣٢ ـ نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي ( ٣٥٩ ـ ٤٠٤ هـ ) بيروت ـ ١٣٨٧ هـ.

حرف الهاء :

٢٣٣ ـ الهدى الساري مقدمة فتح الباري : ابن حجر العسقلاني ( م ٨٥٢ هـ )


دار احياء التراث العربي ، بيروت.

٢٣٤ ـ هشام بن الحكم : عبداللّه النعمة ، دارالفكر العربي ، بيروت ـ ١٤٠٥ هـ.

٢٣٥ ـ هوية التشيع : الدكتور الشيخ أحمد الوائلي ( المعاصر ) دارالكتبي ، بيروت ـ ١٤٠٧ هـ.

حرف الواو :

٢٣٦ ـ الوحي المحمّدي : محمّد رشيد رضا ( م ١٣٥٤ هـ ) طبع مصر.

٢٣٧ ـ وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمّد بن الحسن ( ١٠٣٣ ـ ١١٠٤ هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ ١٤٠٣ هـ.

٢٣٨ ـ وفيات الأعيان : ابن خلّكان ، أحمد بن أحمد ( ٦٠٨ ـ ٦٨١ هـ ) منشورات الشريف الرضي ، قم ١٣٦٤ هـ.

٢٣٩ ـ وقعة صفين : نصر بن مزاحم المنقري ( م ٢١٢ هـ ) دار احياء الكتب العربية ، القاهرة ـ ١٣٦٥ هـ.

حرف الياء :

٢٤٠ ـ يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر : أبو منصور : عبدالملك بن اسماعيل الثعالبي النيسابوري ( م ٤٢٩ هـ ) دارالفكر ، بيروت ـ ١٣٩٢ هـ.

٢٤١ ـ ينابيع المودة : القندوزي : سليمان بن إبراهيم البلخي ( م ١٢٩٤ هـ ) مطبعة اختر ، اسلامبول ، ١٣٠١ هـ.

٢٤٢ ـ يوم الإسلام : أحمد أمين ( م ١٣٨٨ هـ ).



فهرس المواضيع

مقدمة المؤلف................................................................. ٥

الشيعة لغةً واصطلاحاً......................................................... ٧

الفصل الأول

بيان متطلبات الظروف في عصر الرسول........................................ ١٣

في مجال القيادة الإسلامية....................................................... ١٣

١ ـ القرآن الكريم والابهامات الطارئة........................................ ٢٤

٢ ـ الرسالة الإسلامية والحوادث المستجدّة ................................... ٢٧

٣ ـ المسلمون وصيانة الدين من التحريف .................................... ٣٠

الفصل الثاني

ماهو المرتكز في أمر القيادة في.................................................. ٣٥

ذهن الرسول والاُمّة........................................................... ٣٥

الفصل الثالث

ما هو مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة الخلافة بعد الرسول....................... ٤١

١ ـ التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة :............................ ٤٣

٢ ـ حديث المنزلة :........................................................ ٤٥


٣ ـ حديث الغدير......................................................... ٤٦

شبهتان واهيتان ............................................................. ٥١

الشبهة الاُولى .............................................................. ٥١

الشبهة الثانية ............................................................... ٥٢

حصيلة البحث.............................................................. ٥٣

مرجعية أهل البيت الفكرية بعد الرسول ....................................... ٥٤

٤ ـ حديث الثقلين ........................................................ ٥٤

٥ ـ حديث السفينة........................................................ ٥٦

الائمّة الاثنا عشر في حديث الرسول .......................................... ٥٧

الائمة الاثنا عشر ........................................................... ٥٨

مقتضى الكتاب في صيغة القيادة بعد الرسول ................................... ٦٦

الفصل الرابع

ما هو السرّ في مخالفة الجمهور نص الرسول 6.............................. ٧٧

مخالفتهم لنصوص الرسول أيام حياته........................................... ٨٠

١ ـ اختلافهم مع النبي في الأنفال والاُسرى ................................... ٨٠

٢ ـ مخالفتهم الأمر الرسول في اُحد .......................................... ٨١

٣ ـ مخالفتهم في صلح الحديبية .............................................. ٨٢

٤ ـ مخالفتهم في تجهيز جيش اُسامة .......................................... ٨٣

٥ ـ مخالفتهم النبي 6 في احضار القلم والدواة ............................ ٨٤

١ ـ التصرّف في أذان الفجر................................................. ٨٧


٢ ـ الحيلولة بين فاطمة وميراثها ............................................. ٨٨

٣ ـ النهي عن متعة الحج ................................................... ٩٠

٤ ـ اسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بعد وفاة الرسول ..................... ٩٢

٥ ـ قطع سهم المؤلّفة قلوبهم ................................................ ٩٣

الفصل الخامس

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه.................................................... ٩٩

النصوص الواردة في حق شيعة الامام عن لسان النبيّ الأكرم..................... ١٠٢

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفرق ................................. ١٠٦

روّاد التشيّع في عصر النبي ................................................. ١٠٩

الكتب المؤلّفة حول روّاد التشيّع ............................................ ١١١

الفصل السادس

افتراضات وهمية حول تاريخ الشيعة.......................................... ١١٥

الافتراض الأول : الشيعة ويوم السقيفة....................................... ١١٩

الافتراض الثاني : التشيّع صنيع عبدالله بن سبأ................................. ١٢٣

نظر المحقّقين في الموضوع.................................................... ١٢٩

عبداللّه بن سبأ ، اُسطورة تاريخية ........................................... ١٣٤

الافتراض الثالث : التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة............................. ١٤١

شهادة المستشرقين على انّ التشيّع عربي المبدأ ................................. ١٤٣

تحليل النظرية الثانية........................................................ ١٤٦

الافتراض الرابع : الشيعة ويوم الجمل........................................ ١٥٣


أصحاب أميرالمؤمنين ....................................................... ١٥٤

الافتراض الخامس : الشيعة ويوم صفين....................................... ١٥٧

الافتراض السادس : الشيعة والبويهيون....................................... ١٥٩

الافتراض السابع : الشيعة والمغول........................................... ١٦١

الإفتراض الثامن : الشيعة والصفوية.......................................... ١٦٣

زلّة لاتستقال ............................................................. ١٦٤

الفصل السابع

صيغة الحكومة عند أهل السنّة................................................ ١٦٩

آيتان حول الشورى ....................................................... ١٧٧

خلافة الخلفاء ومسألة الشورى ............................................. ١٧٩

السقيفة وخلافة أبي بكر ................................................... ١٨٠

نقاش مع الخليفة .......................................................... ١٨١

مأساة السقيفة ............................................................ ١٨٢

الخلفاء وتناسي الشورى ................................................... ١٨٨

شورى سداسية أو لعبة سياسية؟ ............................................ ١٩٠

إجابه عن سؤال ........................................................... ١٩٤

الفصل الثامن

نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع..................................... ١٩٧

تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن ...................................... ٢٠٧

إغارة معاوية على البلاد الآمنة .............................................. ٢١٢


الفصل التاسع

الشيعة في العصرين الأموي والعباسي......................................... ٢١٧

رسالة الامام الحسين إلى معاوية ............................................. ٢٢١

الشيعة في خلافة العباسيّين ................................................. ٢٣٠

الفصل العاشر

في عقائد الشيعة الإمامية..................................................... ٢٤٣

١ ـ ما كتبه الامام الرضا 7 للمأمون في محض الإسلام .................... ٢٤٨

٢ ـ عرض السيّد عبدالعظيم الحسني عقائده على الإمام الهادي ................ ٢٤٨

٣ ـ رسالة الصدوق ٣٠٦ ـ ٣٨١ في عقائد الإمامية ....................... ٢٥٠

٤ ـ ما أملاه هو أيضاً على جماعة في المجلس الثالث والتسعون.................. ٢٥٢

٥ ـ جمل العلم والعمل للسيّد الشريف المرتضى ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ............... ٢٥٢

بيان ما يجب اعتقاده أبواب التوحيد ......................................... ٢٥٢

٦ ـ البيان عن جمل اعتقاد أهل الإيمان للكراجكي ت ٤٤٩................... ٢٥٥

في توحيده سبحانه ........................................................ ٢٥٥

في عدله سبحانه .......................................................... ٢٥٦

في النبوّة العامّة والخاصّة .................................................... ٢٥٧

في الإمامة والخلافة ........................................................ ٢٥٩

في التوبة والحشر والنشر ................................................... ٢٦٢

٧ ـ العقائد الجعفرية تأليف الشيخ الطوسي ٣٨٥ ـ ٤٦٠................... ٢٦٦

ماهو الهدف من نقل هذه الرسائل............................................ ٢٧٦

الفوارق بين الشيعة والمعتزلة.................................................. ٢٧٦


الفوارق بين الإمامية والأشاعرة ............................................. ٢٧٨

الفوارق بين الشيعة وسائر الفرق............................................ ٢٨٢

المسألة الأُولى : وجوب تنصيب الإمام على اللّه سبحانه........................ ٢٨٣

المسألة الثانية : عصمة الإمام................................................ ٢٨٧

حقيقة العصمة ............................................................ ٢٨٨

الدليل على لزوم عصمة الامام بعد النبيّ ..................................... ٢٩٠

ما هو مراد من الظالم ...................................................... ٢٩٦

العصمة في القول والراي ................................................... ٢٩٨

المسألة الثالثة : الإمام المنتظر................................................ ٣٠١

المسألة الرابعة : القول بالبداء................................................ ٣٠٥

الف ـ الصدقة وأثرها في دفع البلاء ........................................ ٣١٢

ب ـ أثر الاستغفار في الرزق .............................................. ٣١٣

ج ـ الدعاء وآثاره ....................................................... ٣١٣

د ـ أثر صلة الرحم....................................................... ٣١٥

البداء في مقام الثبوت والاثبات.............................................. ٣١٩

البداء في الذكر الحكيم .................................................... ٣٢٢

الأثر التربوي للاعتقاد بالبداء .............................................. ٣٢٦

البداء في مقام الاثبات ..................................................... ٣٢٧

تلميحات إلى البداء في الذكر الحكيم ........................................ ٣٢٩

الأمر الأوّل ............................................................... ٣٣٤

الأمر الثاني ............................................................... ٣٣٥

الأمر الثالث .............................................................. ٣٣٥

المسألة الخامسة : ألتقيّة..................................................... ٣٣٩


مفهومها ................................................................. ٣٤٠

غايتها ................................................................... ٣٤١

دليلها في القرآن والسنّة .................................................... ٣٤٣

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة ..................................... ٣٤٩

الظروف العصبية التي مرت بها الشيعة ....................................... ٣٥١

بيان معاوية إلى عماله ...................................................... ٣٥٢

حدّها .................................................................... ٣٥٧

التقية المحرّمة .............................................................. ٣٥٨

المسألة السادسة : الرجعة................................................... ٣٦٣

ذكر نكات .............................................................. ٣٦٧

المسألة السابعة : زواج المتعة................................................ ٣٧١

١ ـ الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه ....................... ٣٧٣

٢ ـ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع ..................................... ٣٧٤

٣ ـ تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها ............................ ٣٧٤

المنكرون للتحريم .......................................................... ٣٨١

المسألة الثامنة : مسح الأرجل في الوضوء..................................... ٣٨٧

المسألة التاسعة : عقيدة الشيعة الإماميّة في الصحابة............................ ٣٩٧

الصحابة في القرآن الكريم .................................................. ٤٠٣

الردّة بعد وفاة الرسول 6 ............................................. ٤٠٦

المسألة العاشرة : الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته..................... ٤١٧

١ ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه................................ ٤١٨

٢ ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه .................................. ٤٢٠

٣ ـ السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده .............................. ٤٢٠


المرحلة الاُولى : السجود على الأرض ....................................... ٤٢١

تبريد الحصى للسجود عليها ................................................ ٤٢٢

الأمر بالتتريب ............................................................ ٤٢٣

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة .............................................. ٤٢٤

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر ...................... ٤٢٥

السجود على الثياب لعذر .................................................. ٤٢٦

حصيلة البحث ........................................................... ٤٢٨

ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة ............................................ ٤٢٩

الفصل الحادي عشر

في الأئمّة الإثني عشر........................................................ ٤٣٣

الامام الأوّل : الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب 7....................... ٤٣٧

فصول حياته الخمسة ...................................................... ٤٣٩

بعض خصائصه ........................................................... ٤٤٠

الامام الثاني : أبو محمد الحسن بن علي 7.................................. ٤٤٣

الإمام الثالث : الحسين بن علي بن أبي طالب 8.......................... ٤٥١

إباؤه للضيم ومعاندة الجور ................................................. ٤٥٢

رفضه البيعة ليزيد ......................................................... ٤٥٤

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق ........................................... ٤٥٦

الإمام الرابع : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :زين العابدين......... ٤٦٣

الثروة العلمية للامام ....................................................... ٤٦٧

رسالة الحقوق ............................................................ ٤٦٩


الراوون عنه............................................................... ٤٦٩

الامام الخامس : أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين : ألباقر................ ٤٧٣

الراوون عنه .............................................................. ٤٧٧

الامام السادس : جعفر بن محمّد 8 الصادق............................... ٤٧٩

الإمام السابع : أبوالحسن موسى بن جعفر 8 الكاظم...................... ٤٨٥

الإمام الثامن : علي بن موسى بن جعفر : ألرضا.......................... ٤٩١

الإمام التاسع : محمّد بن علي بن موسى : الجواد........................... ٤٩٩

رجوع الجواد إلى المدينة :................................................... ٥٠٢

الامام العاشر : أبوالحسن علي بن محمّد الجواد بن علي الرضا : ألهادي...... ٥٠٥

آثاره العلمية............................................................... ٥٠٨

وفاته..................................................................... ٥٠٩

الرواة عن الامام الهادي .................................................... ٥١٠

الإمام الحادي عشر : أبو محمّد الحسن بن علي الهادي 8العسكري.......... ٥١١

حصيلة البحث ........................................................... ٥١٧

الإمام الثاني عشر : الخلف الصالح المهدي صاحب الزمان ( عجل اللّه تعالى فرجه ) ٥١٩

الفصل الثاني عشر

دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية وازدهار العلوم.......................... ٥٢٥

١ ـ قدماء الشيعة وعلم النحو.............................................. ٥٣١

٢ ـ قدماء الشيعة وعلم الصرف ........................................... ٥٣٧


٣ ـ قدماء الشيعة وعلم اللغة............................................... ٥٣٧

٤ ـ قدماء الشيعة وعلم العروض .......................................... ٥٤٠

٥ ـ قدماء الشيعة وطرائف الشعر.......................................... ٥٤٢

١ ـ قيس بن سعد بن عبادة ............................................... ٥٤٣

٢ ـ الكميت ............................................................ ٥٤٣

٣ ـ السيد الحميري ...................................................... ٥٤٤

٤ ـ دعبل الخزاعي ....................................................... ٥٤٤

٥ ـ أبو فراس............................................................ ٥٤٥

٦ ـ قدماء الشيعة وعلم التفسير............................................ ٥٤٧

الشيعة والتفسير الموضوعي.................................................. ٥٥٠

الشيعة والتفسير الترتيبي.................................................... ٥٥١

٧ ـ قدماء الشيعة وعلم الحديث ........................................... ٥٥٢

اهتمام الشيعة بتدوين الحديث .............................................. ٥٥٤

الطبقة الاُولى ............................................................. ٥٥٥

الطبقة الثانية .............................................................. ٥٥٦

الطبقة الثالثة .............................................................. ٥٥٧

٨ ـ قدماء الشيعة والفقه الاسلامي ........................................ ٥٥٩

فقهاء الشيعة في القرنين الأوّلين ............................................. ٥٦٠

أصحاب الجوامع الفقهية في القرن الثالث .................................... ٥٦١

فقهاء الشيعة في القرن الرابع ............................................... ٥٦٢

مشاهير الفقهاء في القرن الخامس ............................................ ٥٦٢

٩ ـ قدماء الشيعة وعلم اُصول الفقه ....................................... ٥٦٣

١٠ ـ قدماء الشيعة وعلم المغازي والسير ................................... ٥٦٨


١١ ـ قدماء الشيعة وعلم الرجال .......................................... ٥٧١

١٢ ـ قدماء الشيعة والعلوم العقلية ......................................... ٥٧٣

متكلّموا الشيعة في القرن الثاني .............................................. ٥٧٥

١ ـ زرارة بن أعين بن سُنسُن ............................................. ٥٧٥

٢ ـ محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي .......................... ٥٧٦

٣ ـ هشام بن الحكم ..................................................... ٥٧٦

٤ ـ قيس الماصر ......................................................... ٥٧٨

٥ ـ عيسى بن روضة..................................................... ٥٧٨

٦ ـ الضحاك ، أبو مالك الحضرمي......................................... ٥٧٩

٧ ـ علي بن الحسن بن محمّد الطائي........................................ ٥٧٩

٨ ـ الحسن بن علي بن يقطين بن موسى ................................... ٥٨٠

٩ ـ حديد بن حكيم ..................................................... ٥٨٠

١٠ ـ فضال بن الحسن بن فضال .......................................... ٥٨٠

متكلّموا الشيعة في القرن الثالث ............................................ ٥٨١

١ ـ الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمّد الأزدي النيشابوري ................ ٥٨١

٢ ـ حكم بن هشام بن الحكم ............................................. ٥٨٢

٣ ـ داود بن أسد بن أعفر ................................................ ٥٨٢

٤ ـ محمّد بن عبداللّه بن مملك الاصبهاني ................................... ٥٨٢

٥ ـ ثبيت بن محمّد....................................................... ٥٨٣

٦ ـ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن هلال المخزومي ........................ ٥٨٣

٧ ـ محمّد بن هارون ..................................................... ٥٨٤

٨ ـ إبراهيم بن سليمان بن أبي داحة المزني .................................. ٥٨٤

٩ ـ الشكّال ............................................................ ٥٨٤


١٠ ـ الحسين بن اشكيب ................................................ ٥٨٤

١١ ـ عبدالرحمان بن أحمد بن جبرويه...................................... ٥٨٥

١٢ ـ علي بن منصور..................................................... ٥٨٥

١٣ ـ علي بن إسماعيل بن شعيب.......................................... ٥٨٥

متكلّموا الشيعة في القرن الرابع ............................................. ٥٨٦

١ ـ الحسن بن علي بن أبي عقيل........................................... ٥٨٦

٢ ـ إسماعيل بن علي بن إسحاق........................................... ٥٨٦

٣ ـ الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه.......................... ٥٨٧

٤ ـ محمّد بن بشر الحمدوني............................................... ٥٨٨

٥ ـ يحيى أبو محمّد العلوي................................................. ٥٨٨

٦ ـ محمّد بن القاسم...................................................... ٥٨٨

٧ ـ محمّد بن عبدالملك بن محمّد التبان...................................... ٥٨٩

٨ ـ محمّد بن عبدالرحمان بن قبة الرازي..................................... ٥٨٩

٩ ـ علي بن وصيف، أبو محمّد الناشي...................................... ٥٩٠

١٠ ـ الحسن بن موسى، أبو محمد النوبختي.................................. ٥٩٠

مشاهير أئمّة الفلسفة بعد القرن الرابع ....................................... ٥٩٧

١ ـ الشيخ المفيد......................................................... ٥٩٧

٢ ـ نصير الدين الطوسي.................................................. ٥٩٧

٣ ـ الشيخ كمال الدين................................................... ٥٩٨

٤ ـ العلاّمة الحلّي ........................................................ ٥٩٨

٥ ـ الرازي.............................................................. ٥٩٨

١٣ ـ قدماء الشيعة والعلوم الكونية ........................................ ٥٩٩

الجغرافية وتقويم البلدان .................................................... ٦٠٢


الفصل الثالث عشر

في بلدان الشيعة وجامعاتهم العلمية............................................ ٦٠٥

بلدان الشيعة ............................................................. ٦٠٧

التشيّع حجازي المحتد والمولد ............................................... ٦٠٨

الشيعة في اليمن ........................................................... ٦١٥

الشيعة في سوريا ولبنان .................................................... ٦١٧

الشيعة في مصر ........................................................... ٦١٩

الشيعة في إيران ........................................................... ٦٢٠

١ ـ ما هو السبب لدخول الفرس في الإسلام................................ ٦٢١

٢ ـ ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت ............................... ٦٢١

١ ـ هل الاصهار كان سبباً للولاء ......................................... ٦٢٦

٣ ـ إرادة هدم الإسلام ................................................... ٦٢٧

دول الشيعة .............................................................. ٦٢٨

الجامعات العلمية للشيعة ................................................... ٦٢٩

١ ـ المدينة المنورة ........................................................ ٦٢٩

٢ ـ الكوفة وجامعها الكبير ............................................... ٦٣٠

٣ ـ مدرسة قم والري .................................................... ٦٣٢

٤ ـ مدرسة بغداد ....................................................... ٦٣٣

٦ ـ مدرسة النجف الأشرف .............................................. ٦٣٤

٧ ـ مدرسة الحلّة ........................................................ ٦٣٥

٨ ـ الجامع الأزهر........................................................ ٦٣٧

مدارس الشيعة في الشامات ................................................. ٦٣٨


جامعات اُخر للشيعة في أقطار العالم :........................................ ٦٣٩

الفصل الرابع عشر

مصادر الاُصول والفروع عند الإماميّة........................................ ٦٤١

الجوامع الحديثية الأخيرة .................................................... ٦٤٦

خاتمة المطاف : بيان لكتّاب المقالات ومؤرخي العقائد.......................... ٦٤٩

الفهارس.................................................................. ٦٥٩

فهرس الآيات القرانيةفهرس مصادر الكتاب................................... ٦٦١

فهرس مصادر الكتاب...................................................... ٦٧١

فهرس المواضيع............................................................ ٦٩١

وفي الختام : أتقدَّم بالشكر إلى مرتّب الحروف وناضدها ، أعني فضيلة الشيخ عباس « رحيمي » حيث بذل الجُهد الأكيد في إخراج الكتاب بحُلَّة قشيبة ، شكر الله مساعيه الجميلة.

المؤلِّف

٢٠ رمضان المبارك ١٣

* * * *

بحوث في الملل والنّحل - ٦

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الصفحات: 704