بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

تقديم

لما كانت «العربية» لغة حية فقد كان من الطبيعي أن تجد نفسها على مدى العصور في حالة بحث دائم عما يلبي حاجات أبنائها المتجددة أبدا تبعا لسنة التطور، وإذا كانت اللغة موروثا يملكه الفرد والجماعة على السواء، فلا مفر من تثميره بلا انقطاع لتوظيفه في مجاله الطبيعي بما يعود بالخير والنفع على مالكيه، ومن هنا كان سهر الطلائع من أهل الفكر والأدب والشعر عبر الأجيال على رصد مخزونهم اللغوي، والوقوف على ما يمكن أن يكون قد لحق به من نقص أو ضمور بفعل مستجدات الحياة لمده بدماء جديدة تكفل له النماء والصمود في وجه كل طارىء.

والبلاغة هي مرتقى علوم اللغة وأشرفها فالمرتبة الدنيا من الكلام هي التي تبدأ بألفاظ تدل على معانيها المحددة، ثم تتدرج حتى تصل إلى الكلمة الفصيحة والعبارة البليغة. وقد قيل: إذا تكلم المرء بلغة ما فهو يحدد هويته الحضارية والإنسانية، وإذا امتلك لغته، حدد مركزه في المجتمع، فاللغة وإن كانت وسيلة للتعبير عن الفكر، فهي تمثل الفكر كله، ولا عجب بعد ذلك إذا تحققت أسباب التطور والرقي نتيجة العناية بها.

واللغة ليست هدفا بحد ذاته، بل هي أداة تنقل الأفكار والمشاعر بين البشر، وهي أداة اتصال وحاملة معلومات، فقد قامت اللغة بدور الوسيط الاجتماعي ونجحت في تحقيق الاتصال والتواصل بين الناس، وكان أكثرهم قدرة على التأثير في نفوس سامعيه، هو من يمتلك مهارة الكلام، ويستعمل لغته بمرونة وطواعية في مختلف المجالات، وكانت الفعالية الاجتماعية ترتبط بالبلاغة، وهذه لم تكن تحتاج إلى أي أساس مادي، بل تشترط قوالب تعبير إبلاغية جيدة عند المتكلم ليصنّف بين المؤثرين في مجتمعه.

وقد ذكر كثير من العلماء وجوها عديدة لبيان إعجاز القرآن الكريم، كالتنبؤ بالمستقبل، وذكر أخبار وقصص الأولين وأحوالهم، والإشارات إلى الاكتشافات العلمية


والدقة العددية. وغيرها الكثير، غير أن هذه الوجوه لم يجمع على صحتها العلماء، وإنما وجدوا في كل وجه منها ثغرة تنفذ منها أقوال المعارضين. ولكن الوجه الأمثل في سبب إعجاز القرآن الكريم الذي لم يجد سبيلا إلى الطعن فيه أحد، هو الإعجاز البلاغي للقرآن الذي يتمثل في كل سورة، ولم تتخلف عنه سورة واحدة سواء كانت طويلة أم قصيرة.

والبلاغة علم له قواعده، وفن له أصوله وأدواته، كما لكل علم وفن. وهو ينقسم إلى ثلاثة أركان أساسية:

١ ـ علم المعاني.

٢ ـ علم البيان.

٣ ـ علم البديع.

وهذه نبذة مختصرة ومبسطة عن كل واحد منهم.

١ ـ علم المعاني

هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال، مع وفائه بغرض بلاغي يفهم ضمنا من السياق، وما يحيط به من القرائن، أو هو علم يبحث في الجملة بحيث تأتي معبّرة عن المعنى المقصود.

وأحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال هي: الحذف، والذكر، والتعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير، والفصل، والوصل، والمساواة، والإيجاز، والإطناب، وما إلى ذلك.

وأحوال اللفظ العربي، تارة تكون أحوالا لمفرد وتارة تكون أحوالا لجملة.

وعلم المعاني يتألف من المباحث التالية:

١ ـ الخبر والإنشاء.

٢ ـ أحوال الإسناد الخبري.

٣ ـ أحوال متعلقات الفعل.

٤ ـ القصر.

٥ ـ الفصل والوصل.

٦ ـ المساواة والإيجاز والإطناب.


وذلك لأن الكلام العربي نوعان: أما خبر أو إنشاء، ولا بد له من إسناد؛ مسند ومسند إليه. والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو في معناه كاسم الفاعل، وكل من التعلق والإسناد إما قصر أو غير قصر. والجملة إذا قرنت بأخرى فالثانية إما معطوفة على الأولى، أو غير معطوفة، وهما الفصل والوصل.

ولفظ الكلام البليغ إما مساو لأصل المراد وهو المساواة، وإما ناقص عن المراد وهو الإيجاز، أو زائد عن أصل المراد لفائدة، وهو الإطناب.

٢ ـ علم البيان

هو علم يبحث في الطرق المختلفة للتعبير عن المعنى الواحد، وعلم المعاني يتألف من المباحث التالية:

١ ـ التصريح والمداورة.

٢ ـ التشبيه.

٣ ـ المجاز، والمجاز المرسل.

٤ ـ الاستعارة.

٥ ـ الكناية.

والبيان لغة: الظهور والوضوح. تقول: بان الشيء يبين إذا ظهر. واصطلاحا كما تقدم: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة من تشبيه واستعارة ومجاز مرسل وكناية.

٣ ـ علم البديع

هو علم يبحث في طرق تحسين الكلام، وتزيين الألفاظ والمعاني بألوان بديعة من الجمال اللفظي أو المعنوي، وسمي بديعا لأنه لم يكن معروفا قبل وضعه.

وأول من دوّن قواعد البديع ووضع أصوله: عبد اللّه بن المعتز، وهو أحد الشعراء المطبوعين والبلغاء الموصوفين.

استقصى ابن المعتز ما في الشعر من المحسنات فجمعها في كتاب سماه «البديع» وذكر فيه سبعة عشر نوعا، وقال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف. ومن رأى إضافة شيء من المحاسن فله اختياره. ثم ألّف معاصره قدامة بن جعفر كتابا سماه «نقد قدامة».


ومن أهم أساليب علم البديع:

١ ـ الجناس.

٢ ـ الطباق.

٣ ـ السجع.

٤ ـ المقابلة.

٥ ـ التورية.

ـ كتاب الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع).

هذا كتاب «الإيضاح في علوم البلاغة» للخطيب القزويني، حيث تميّز المؤلف في كتابه هذا بالاستقصاء، فلم يترك شاردة أو واردة من مسائل البلاغة، إلا عرضها عرضا مفصلا ودقيقا، وملما فيها بالآراء كافة، سواء التي كانت في عصره، أو قبل عصره.

ويقول المؤلف في مقدمته للكتاب: «هذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها، ترجمته بـ «الإيضاح» وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته «تلخيص المفتاح» ، وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة، وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر، مما تضمنه «مفتاح العلوم» وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه اللّه في كتابيه «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» ، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما، فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري، ولم أجده لغيري. فجاء بحمد اللّه جامعا لأشتات هذا العلم، وإليه أرغب في أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم، وهو حسبي ونعم الوكيل».

أما عملنا في هذا الكتاب فهو:

أولا: وضع ترجمة المؤلف.

ثانيا: وضع مقدمة في علم البلاغة وفنونه.

ثالثا: بذلنا ما أمكننا من الجهد في مقابلة ومقارنة النصوص الذي ناقشها المؤلف، مع المتقدمين لكي يعالجها ويدلي فيها بدلوه. مثل عبد القاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة» ، والزمخشري في «الكشاف» ، والسكاكي في «مفتاح العلوم» وغيرهم.

رابعا: شرحنا في حواشي الكتاب ما في متنه من غريب اللغة أو صعب المتناول منها، وذلك استنادا إلى المعاجم اللغوية المشهورة.


خامسا: وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا ـ مع ذكر المراجع والمصادر ـ بجمع الأعلام، والكتب والمؤلفات، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور، ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المراجع والمصادر.

سادسا: خرّجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار، تخريجا وافيا، وضبطنا نص الحديث استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة.

سابعا: خرّجنا جميع الآيات القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

ثامنا: خرّجنا الشواهد الشعرية في مظانها.

وأخيرا، نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى. وللّه الكمال وحده وهو ولي التوفيق.

إبراهيم شمس الدين


ترجمة المؤلف(١)

هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن علي بن أحمد بن دلف بن أبي العجلي القزويني، جلا الدين أبوالمعالي بن سعد الدين بن أبي القاسم ابن إمام الدين الشافعي العلامة.

ولد سنة ٦٦٦هـ بالموصل ، وسكن الروم مع والده وأخيه واشتغل وتفقه حتى ولي قضاء ناحية بالروم ، وله دون العشرين، ثم قدم هو أخوه أيام الثئر من بلادهم إلى دمشق.

صفته

كان فهماً ذكياً مفوهاً حسن الإيراد ، جميل الذات والهيئة والمكارم، وكان جميل المحاضرة، حسن الملتقى ، حلو العبارة، حاد الذهن، جيد البحث، منصفاً فيه مع الذكاء والذوق في الأدب حسن الخط.

وكان جواداً، صرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين ، وكان مليح الصورة، فصيح العبارة، كبير الذقن، موطاً الأكناف ، جم الفضيلة، يحب الأدب ويحاضر به، ويستحضر نكته.

طلبه للعلم ومشايخه

سمع من العز الفاروئي وطائفة، أخذ عن الإيكي وغيره، وخرج له البرزالي جزءاً

__________________

١) انظر ترجمته في:

١ ـ الدرر الكامنة لابن حجر ٤/٣،٤.

٢ ـ البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ١٤/١٨٥.

٣ ـ بغية الوعاة للسيوطي ١/١٥٦،١٥٧.

٤ ـ مفتاح السعادة لطاش كبري زاده ١/١٩٤.

٥ ـ الأعلام للزركلي ٦/١٩٢.

٦ ـ كشف الظنون لحاجي خليفة ٦/١٥٠.


من حديثه، وحدث به وتفقه واشتغل في الفنون، وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان.

وكان يرغّب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان.

ولي القضاء في ناحية الروم، ثم دمشق، ثم مصر، ثم دمشق، وخطب بجامع القلعة لما أتى مصر بأمر من السلطان.

قال عنه صاحب كشف الظنون «المعروف بخطيب دمشق» : ولعل هذا سبب شهرته بالخطيب القزويني، وكان يفتي كثيرا.

مصنفاته

قال ابن كثير: «له مصنفات في المعاني، مصنف مشهور اسمه «التلخيص» اختصر فيه «المفتاح» للسكاكي، وهو من أجلّ المختصرات فيه، كما قال السيوطي. وله: إيضاح التلخيص، والسور المرجاني من شعر الأرجاني.

وذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون المصنفات التالية:

١ ـ الإيضاح على صاحب المفتاح، في المعاني والبيان.

٢ ـ تلخيص المفتاح للسكاكي.

٣ ـ المشذر المرجاني من شعر الأرجاني.

وفاته

قال ابن حجر: «قال الذهبي: مات في منتصف جمادى الأولى سنة ٧٣٩ ه‍، وشيّعه عالم عظيم، وكثر التأسف عليه، وسيرته تحتمل كراريس وما كل ما يعلم يقال. هذا كلام الذهبي على عادته في الرمز إلى الحط على من يخشى غائلة التصريح فيه» اه‍ كلام ابن حجر.

وقال الحافظ ابن كثير الدمشقي: «دفن بالصوفية، وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها».



بسم الله الرّحمن الرّحيم

تصدير

قال الشيخ الإمام ، العالم العلامة ، خطيب الخطباء ، مفتي المسلمين ، جلال الدين أبو عبد الله محمد ، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن ، ابن إمام الدين أبي حفص عمر ؛ القزويني الشافعي ، متع الله المسلمين بمحياه ، وأحسن عقباه :

الحمد لله رب العالمين ، وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين.

أما بعد : فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها ؛ ترجمته بـ «الإيضاح» وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح. وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له ؛ فأوضحت مواضعه المشكلة ، وفصلت معانيه المجملة ؛ وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر ، مما تضمنه «مفتاح العلوم» (١) ، وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني (٢) رحمه الله في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما ، فاستخرجت زبدة ذلك كله ، وهذبتها ورتبتها ، حتى استقر كل شيء منها في محله ، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري ، ولم أجده لغيري.

فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم ، وإليه أرغب في أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________________

(١) هو كتاب «مفتاح العلوم» للعلامة سراج الدين أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦ ه‍. (كشف الظنون ٢ / ١٧٦٢).

(٢) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني ، أبو بكر الشافعي الأديب النحوي ، المتوفى سنة ٤٧٤ ه‍. من تصانيفه : أسرار البلاغة ، الإيجاز في مختصر الإيضاح ، في النحو ، الجرجانية ، درج الدرر في تفسير الآي والسور ، دلائل الإعجاز في المعاني والبيان ، شرح الفاتحة ، عمدة في التصريف ، عوامل المائة ، في النحو ، مختار الاختيار في فوائد معيار النظار ، في المعاني والبيان والبديع والقوافي ، المعتضد في شرح إعجاز القرآن للواسطي ، المغني في شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي ، المقتصد في تلخيص المغني. (كشف الظنون ٥ / ٦٠٦).



في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة

وانحصار علم البلاغة في المعاني والبيان

وللناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة ، لم أجد ـ فيما بلغني منها ـ ما يصلح لتعريفهما به ، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم ؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين ، فنقول

كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين :

أحدهما : الكلام ، كما في قولك «قصيدة فصيحة ، أو بليغة» و «رسالة فصيحة ، أو بليغة».

والثاني : المتكلم ، كما في قولك «شاعر فصيح ، أو بليغ» و «كاتب فصيح ، أو بليغ».

والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد ، فيقال : «كلمة فصيحة» ولا يقال : «كلمة بليغة».

أما فصاحة المفرد ، فهي خلوصه من تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي.

فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان ، وعسر النطق بها ، كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته ؛ فقال : تركتها ترعى الهعخع. ومنه ما هو دون ذلك. كلفظ مستشزر في قول امرىء القيس (١) :

__________________

(١) امرؤ القيس : هو امرؤ القيس بن حجر الكندي ، أبو وهب أو أبو الحارث ، يلقب بالملك الضليل وبذي القروح ، ولد سنة ١٣٠ قبل الهجرة ، وأمه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب والمهلهل التغلبيين ، نشأ في قبيلة كندة وهي أسرة ملوك ، وكان حجر والد امرىء القيس ملكا على بني أسد فقتلوه ، ولما أتاه نعي أبيه جعل يتنقل بين القبائل مؤلبا الأحلاف للثأر من بني أسد ، توفي سنة ٨٠ قبل الهجرة. ـ يقال : امرؤ القيس أول من ورد له نظم من العرب ، وعرف بأنه أول من وقف على الأطلال واستوقف ، وقيّد الأوابد ، وأول من سن عمود الشعر الذي جرى عليه الشعراء بعده ، (معجم الشعراء الجاهليين ص ٣٢ ـ ٣٣).


غدائره مستشزرات إلى العلا (١)

والغرابة : أن تكون الكلمة وحشيّة ، لا يظهر معناها ، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة ، كما روي عن عيسى بن عمر النحوي (٢) أنه سقط عن حمار ، فاجتمع عليه الناس ، فقال : «ما لكم تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذي جنّة؟

افرنقعوا عنّي» أي اجتمعتم تنحّوا.

أو يخرّج لها وجه بعيد. كما في قول العجّاج :

وفاحما ومرسنا مسرّجا (٣)

فإنه لم يعرف ما أراد بقوله «مسرّجا» حتى اختلف في تخريجه ، فقيل : هو من قولهم للسيوف «سريجيّة» منسوبة إلى قين يقال له سريج ، يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السّريجيّ ، وقيل : من السّراج ، يريد أنه في البريق كالسّراج ، وهذا يقرب من قولهم «سرج وجهه» بكسر الراء ـ أي حسن ، وسرّج (الله) وجهه» أي بهّجه وحسّنه.

ومخالفة القياس كما في قول الشاعر :

الحمد لله العليّ الأجلل (٤)

__________________

(١) عجز البيت :

تضلّ المدارى في مثنّى ومرسل

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ١٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٧١ ، ولسان العرب (شزر) ، (عقص) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٧ ، وتاج العروس (شقأ) ، وأساس البلاغة (دري). ومستشزرات : مرتفعات.

(٢) عيسى بن عمر : هو أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري ، مولى خالد بن الوليد ، توفي سنة ١٤٩ ه‍ ، صنف : الإكمال في النحو ، جامع في النحو. (كشف الظنون ٥ / ٨٠٥).

(٣) الرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ٣٤ ، ولسان العرب (سرج) ، (رسن) ، وتاج العروس (سرج) ، (رسن) ، وجمهرة اللغة ص ٤٥٨ ، ٧٢٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٣٨ ، وأساس البلاغة (رسن) ، وكتاب العين ٦ / ٥٣ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٠ / ٥٨٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٥٦ ، والمخصص ١٠ / ٩٢ ، ٢ / ١٥٥.

(٤) يلبه :

أعطى فلم يبخل ولم يبخّل

والرجز لأبي النجم في خزانة الأدب ٢ / ٣٩٠ ، ولسان العرب (جلل) ، والدرر ٦ / ١٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٤٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٩٥ ، وجمهرة اللغة ص ٤٧١ ، وتاج العروس ـ (


فإن القياس «الأجلّ» بالإدغام.

وقيل : خلوصه مما ذكر ، ومن الكراهة في السمع ، بأن تمجّ الكلمة ، ويتبرّأ من سماعها ، كما يتبرّأ من سماع الأصوات المنكرة ، فإن اللفظ من قبيل الأصوات ، والأصوات منها ما تستلذّ النفس سماعه ، ومنها ما تكره سماعه.

كلفظ «الجرشّى» في قول أبي الطيب :

كريم الجرشّى. شريف النّسب (١)

أي كريم النّفس ، وفيه نظر.

ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا ، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها.

وأما فصاحة الكلام فهي خلوصه من ضعف التأليف ، وتنافر الكلمات ، والتعقيد ، مع فصاحتها.

فالضعف كما في قولنا : «ضرب غلامه زيدا» فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور ، لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة ، وقيل :

يجوز ؛ لقول الشاعر (٢) [النابغة الذبياني] :

جزى ربّه عنّي عديّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات ، وقد فعل

وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر «جزى» أي ربّ الجزاء ، كما في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : الآية ٨] أي العدل.

__________________

جزل) ، (جلل) ، (خول) ، وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ٨٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٠٨ ، ٨٩٣ ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣ ، والممتع في التصريف ٢ / ٦٤٩ ، والمصنف ١ / ٣٣٩ ، ونوادر أبي زيد ص ٤٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧.

(١) صدر البيت :

مبارك الاسم أغرته اللقب

والبيت من المتقارب ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٩٨ ، (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٩١ ، والخصائص ١ / ٢٩٤ ، وله أو لأبي الأسود الدؤلي في خزانة الأدب ١ / ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٨١ ، ٢٨٧ ، والدرر ١ / ٢١٧ ، وللنابغة أو لأبي الأسود أو لعبد الله بن همارق في شرح التصريح ١ / ٢٨٣ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٨٧ ، ولأبي الأسود الدؤلي في ملحق ديوانه ص ٤٠١ ، وتخليص الشواهد ص ٤٩٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٢٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٥٩ ، وشرح شذور الذهب ص ١٧٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٥٢ ، ولسان العرب (عوي) ، وهمع الهوامع ١ / ٦٦.


والتنافر : منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة ، كما في البيت الذي أنشده الجاحظ (١) :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر (٢)

ومنه ما دون ذلك ، كما في قول أبي تمام :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي ، وإذا ما لمته لمته وحدي (٣)

فإن في قوله : «أمدحه» ثقلا ما ؛ لما بين الحاء والهاء من تنافر.

والتعقيد : أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به ، وله سببان :

__________________

(١) الجاحظ : هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني ، أبو عثمان البصري الإمام اللغوي النحوي المعروف بالجاحظ تلميذ النظام البلخي ، كان من المعتزلة رئيس الفرقة الجاحظية ، سمي بالجاحظ لجحوظ في عينيه ، ولد سنة ١٦٣ ه‍ ، وتوفي سنة ٢٥٥ ه‍ قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه. له من التصانيف : أخلاق الشطار ، أخلاق الملوك ، البيان والتبيين ، تحصين الأموال ، جوابات كتاب المعرفة ، حانوت عطار ، الرد على أصحاب الإلهام ، الرد على المشبهة ، الرد على النصارى ، رسالة في الحسد ، سحر البيان ، سلوة الخريف بمناظرة الربيع والخريف ، عناصر الأدب ، فضيلة المعتزلة ، كتاب آي القرآن ، كتاب الإبل ، كتاب الأخبار ، كتاب الإخوان ، كتاب الاستبداد والمشاورة في الحروب ، كتاب الاستطاعة ، كتاب الأصنام ، كتاب الاعتزال ، كتاب الإمامة ، كتاب الأمثال ، كتاب الأمصار ، كتاب الأنس والسكن ، كتاب البخلاء ، كتاب البغل ، كتاب البلدان ، كتاب النبي والمتنبي ، كتاب التربيع ، كتاب التسوية بين العرب والعجم ، كتاب التعبير ، كتاب التفكر والاعتبار ، كتاب الجواري ، كتاب الحجر والفتوة ، كتاب الحزم والجزم ، كتاب الحيوان ، كتاب الخطاب في التوحيد ، كتاب الدلال ، كتاب السلطان ، كتاب السلوك ، كتاب السودان ، كتاب الشارب والمشروب ، كتاب الصرحاء والهجناء ، كتاب صناعة الكلام ، كتاب الصولجان ، كتاب الطبائع ، كتاب الطفيليين ، كتاب العثمانية ، كتاب العرس والعرائس ، كتاب الفتيان ، كتاب الفخر بين عبد شمس وبني مخزوم ، كتاب فخر القحطانية والعدنانية ، كتاب اللصوص ، كتاب المحاسن والأضداد ، كتاب المزاح والجد ، كتاب المعرفة ، كتاب المعلمين ، كتاب المغنين ، كتاب الناشي والمنتشي ، كتاب النجم وجوابه ، كتاب النرد والشطرنج ، كتاب النساء ، كتاب الوعيد ، كتاب الوكلاء والمتوكلين ، كتاب الهدايا ، مسائل القرآن ، مسائل كتاب المعرفة ، معاني القرآن ، مقالة في أصول الدين ، نظم القرآن ، نقض الطب ، نوادر الجن. (كشف الظنون ٥ / ٨٠٢ ـ ٨٠٣).

وكانت للجاحظ آراء كثيرة ، وكان يقول : إن المعارف كلها طباع ، وأن العباد لا يفعلون إلا الإرادة فقط ، وإن المعارف ضرورية وغير ذلك كثير (انظر الملل والنحل ص ٧٥ ، الفرق ص ١٧٥).

(٢) الرجز بلا نسبة في نهاية الإيجار للفخر الرازي ص ١٢٣.

(٣) البيت من الطويل ، والبيت في نهاية الإيجاز ص ١٢٣.


أحدهما : ما يرجع إلى اللفظ ، وهو أن يختل نظم الكلام ، ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه ، كقول الفرزدق :

وما مثله في الناس إلّا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (١)

كان حقّه أن يقول : وما مثله في الناس حيّ يقاربه إلا مملّكا أبو أمه أبوه ، فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان ، فقال : وما مثله ـ يعني إبراهيم الممدوح ـ في الناس حيّ يقاربه ، أي أحد يشبهه في الفضائل ، إلا مملّكا ، يعني هشاما ، أبو أمّه ، أي أبو أمّ هشام أبوه ، أي أبو الممدوح ؛ فالضمير في «أمه» للمملّك. وفي «أبوه» للممدوح ، ففصل بين «أبو أمه» وهو مبتدأ و «أبوه» وهو خبره بـ «حيّ» وهو أجنبي ، وكذا فصل بين «حي» و «يقاربه» وهو نعت حي بـ «أبوه» وهو أجنبي ، وقدّم المستثنى على المستثنى منه ؛ فهو كما تراه في غاية التعقيد.

فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل ، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل ـ من تقديم ، أو تأخير ، أو إضمار ، أو غير ذلك ـ إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة ـ لفظية ، أو معنوية ـ كما سيأتي تفصيل ذلك كله ، وأمثلته اللائقة به.

والثاني : ما يرجع إلى المعنى ، وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ـ الذي هو لازمه والمراد به ـ ظاهرا ، كقول العباس بن الأحنف :

سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا (٢)

كنى بسكب الدّموع عما يوجبه الفراق من الحزن ، وأصاب لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه ، كقولهم : أبكاني ، وأضحكني ، أي أساءني وسرّني ، كما قال الحماسيّ [حطان بن المعلّى] :

أبكاني الدّهر ويا ربّما

أضحكني الدّهر بما يرضي (٣)

ثم طرد ذلك في نقيضه ، فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في لسان العرب (ملك) ، ومعاهد التنصيص ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ١٤٦ ، ٣٢٩ ، ٢ / ٣٩٣.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان العباس بن الأحنف ص ١٠٦ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٨ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٢ ، وبلا نسبة في التلخيص للقزويني ص ٨.

(٣) البيت من السريع ، وهو لحطان بن المعلى في شرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٥٢ ، ودلائل الإعجاز ٢٦٩ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٥.


بالجمود ، لظنّه أن الجمود خلوّ العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر ، وأخطأ ، لأن الجمود خلوّ العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها ؛ فلا يكون كناية عن المسرة ، وإنما يكون كناية عن البخل ، كما قال الشاعر :

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود (١)

ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل ، فيقال : لا زالت عينك جامدة ، كما يقال : لا أبكى الله عينك ، وذلك مما لا يشك في بطلانه ، وعلى ذلك قول أهل اللغة : «سنة جماد» لا مطر فيها ، و «ناقة جماد» لا لبن لها ، فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر ، والناقة لا تسخو بالدّرّ ، لا تجعل العين جمودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها ، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت ، وإذا لم تبك مسيئة وموصوفة بأنها قد ضنّت.

فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا ، حتى يخيّل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ. كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية.

وقيل : فصاحة الكلام هي خلوصه مما ذكر ، ومن كثرة التكرار ، وتتابع الإضافات ، كما في قول أبي الطيب :

سبوح لها منها عليها شواهد (٢)

وفي قول ابن بابك :

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي (٣)

وفيه نظر ؛ لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثّقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم ، وإلا فلا تخلّ بالفصاحة ، وقد قال النبى صلّى الله عليه وسلّم : «الكريم ابن الكريم ابن

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأبي عطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٥١ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٩ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٢.

(٢) صدر البيت :

وتسعدني في غمرة بعد غمرة

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٧٠ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٣) عجز البيت :

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

والبيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (جندل).


الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» (١).

قال الشيخ عبد القاهر (٢) : قال الصاحب (٣) : إياك والإضافات المتداخلة فإنها لا تحسن. وذكر أنها تستعمل في الهجاء ، كقول القائل :

يا عليّ بن حمزة بن عماره

أنت ـ والله ـ ثلجة في خياره (٤)

ثم قال الشيخ : ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر ، لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف.

ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا :

وظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح (٥)

ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدي (٦) يصف غلاما له :

ويعرف الشّعر مثل معرفتي

وهو على أن يزيد مجتهد

وصيرفيّ القريض وزّان دينار

المعاني الدّقاق ، منتقد

وأما فصاحة المتكلم فهي : ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح.

فالملكة : قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارّة لا تقتضي قسمة ولا نسبة ، وهو مختص بذوات الأنفس ، راسخ في موضوعه.

وقيل : «ملكة» ولم يقل : «صفة» ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة ؛ حتى لا

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ١٩ ، والمناقب باب ١٣ ، وتفسير سورة ١٢ ، باب ، والترمذي في تفسير سورة ١٢ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٦ ، ٣٣٢ ، ٤١٦.

(٢) الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، تقدمت ترجمته.

(٣) الصاحب بن عباد : هو إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد ، الصاحب ، أبو القاسم الطالقاني الشيعي نزيل الري ، ولد سنة ٣٢٦ ه‍ وزير غلب عليه الأدب ، لقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه فكان يدعوه بذلك ، توفي بأصبهان سنة ٣٥٨ ه‍. من مصنفاته : الإقناع ، في العروض ، الجوهرة مختصر الجمهرة ، في النحو ، ديوان شعره ، فضائل النيروز ، كافي الرسائل ، كتاب أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته ، كتاب الإمامة ، كتاب الوزراء ، الكشف عن مساوي شعر المتنبي ، المحيط في اللغة ، سبعة مجلدات ، أخبار أبي العيناء ، تاريخ الملك واختلاف الدول ، ديوان الرسائل ، العروض الكافي ، عنوان المعارف ، في التاريخ ، كتاب الأعياد ، كتاب الزيدين ، نهج السبيل ، في الأصول (كشف الظنون ٥ / ٢٠٩).

(٤) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ١٠٤ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٦.

(٥) البيت لابن المعتز في ديوانه (باب الشراب) ، ودلائل الإعجاز ص ٦٠٤.

(٦) هو سعيد بن هشام ، من شعراء اليتيمة ، توفي سنة ٣٧٠ ه‍.


يكون المعبّر عن مقصود بلفظ فصيح فصيحا إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه.

وقيل : «يقتدر بها» ولم يقل : «يعبر بها» ليشمل حالتي النّطق وعدمه.

وقيل : «بلفظ فصيح» ليعم المفرد والمركب.

وأما بلاغة الكلام فهي : مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته.

ومقتضى الحال مختلف ؛ فإن مقامات الكلام متفاوتة ، فمقام التنكير يباين مقام التعريف ، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ، ومقام التقديم يباين مقام التأخير ، ومقام الذّكر يباين مقام الحذف ، ومقام القصر يباين مقام خلافه ، ومقام الفصل يباين مقام الوصل ، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة ، وكذا خطاب الذكيّ يباين خطاب الغبيّ.

وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام ، إلى غير ذلك ، كما سيأتي تفصيل الجميع.

وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب ، وانحطاطه بعدم مطابقته له.

فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب.

وهذا ـ أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال ـ هو الذي يسمّيه الشيخ عبد القاهر بالنظم حيث يقول : النظم تأخّي معاني النّحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام.

فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب. وكثيرا ما يسمى ذلك فصاحة أيضا ، وهو مراد الشيخ عبد القاهر بما يكرره في «دلائل الإعجاز» من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ ، كقوله في أثناء فصل منه : علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني ، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ ، دون الألفاظ أنفسها.

وإنما قلنا مراده ذلك لأنه صرّح في مواضع من «دلائل الإعجاز» بأن فضيلة الكلام للفظ ، لا لمعناه ، منها أنه حكي قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال : فأنت تراه لا يقدّم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر.

ثم قال : والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصّلون لأنا لا نرى متقدّما في علم البلاغة مبرّزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي.


ثم نقل عن الجاحظ (١) في ذلك كلاما منه قوله : والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وصحة الطّبع ، وكثرة الماء ، وجودة السّبك.

ثم قال : ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة ، وأن سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه ، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار ، فكما أنه محال ـ إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته ـ أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة ، أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل ؛ كذلك محال ـ إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام ـ أن تنظر في مجرد معناه ، وكما (أنّا) لو فضلنا خاتما على خاتم ، بأن تكون فضّة هذا أجود ، أو فصّه أنفس ؛ لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه ، أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام.

هذا لفظه ، وهو صريح في أن الكلام ـ من حيث هو كلام ـ لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة ، فلا تكون راجعة إلى المعنى ، وقد صرّح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ ؛ فالجمع بينهما بما قدمناه ، بحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على أنها من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب ، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاتها باعتبار إفادته المعنى عند التركيب.

وللبلاغة طرفان : أعلى إليه تنتهي ، وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه ، وأسفل منه تبتدىء ، وهو ما إذا غيّر الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب.

وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة.

وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام ، وأقسامها ، ومراتبها ؛ فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة ـ غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ، ولا إلى الفصاحة ـ تورث الكلام حسنا وقبولا.

وأما بلاغة المتكلم فهي : ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ.

وقد علم بما ذكرنا أمران ، أحدهما : أن كل بليغ ـ كلاما كان أو متكلما ـ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، الثاني : أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ

__________________

(١) الجاحظ : تقدمت ترجمته.


في تأدية المعنى المراد ، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره ، والثاني ـ يعني التمييز ـ منه ما يتبين في علم متن اللغة ، أو التصريف ، أو النحو ، أو يدرك بالحس ، وهو ما عدا التعقيد المعنوي.

وما يحترز به عن الأول ـ أعني الخطأ ـ هو علم المعاني.

وما يحترز به عن الثاني ـ أعني التعقيد المعنوي ـ هو علم البيان.

وما يعرف به وجوه تحسين الكلام ـ بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته ـ هو علم البديع.

وكثير من الناس يسمي الجميع «علم البيان» ؛ وبعضهم يسمي الأول «علم المعاني» ، والثاني والثالث «علم البيان» ، والثلاثة «علم البديع».


علم المعاني

وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال. وقيل : «يعرف» دون «يعلم» رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات ، كما قال صاحب القانون (١) في تعريف الطب : «الطبّ علم يعرف به أحوال بدن الإنسان» وكما قال الشيخ أبو عمرو (٢) رحمه الله : «التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم».

وقال السكاكي (٣) : «علم المعاني هو تتبّع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة ، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره».

وفيه نظر ؛ إذ التتبع ليس بعلم ، ولا صادق عليه ؛ فلا يصح تعريف شيء من العلوم به.

__________________

(١) صاحب القانون : هو كتاب القانون في الطب للشيخ الرئيس أبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍. (كشف الظنون ٢ / ١٣١١ ـ ١٣١٣).

(٢) هو ابن الحاجب : هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي الأسنائي ثم المصري ، جمال الدين أبو عمرو المالكي النحوي المعروف بابن الحاجب ، ولد في إسنا (من صعيد مصر) سنة ٥٧٠ ه‍ ، ونشأ في القاهرة ، وسكن دمشق ، وتوفي بالإسكندرية سنة ٦٤٦ ه‍ ، وكان أبوه حاجبا فعرف به ، من تصانيفه : الأمالي ، الإيضاح في شرح المفصل ، جامع الأمهات ، في الفقه ، جمال العرب ، في علم الأدب ، الشافية ، في التصريف ، شرح كتاب سيبويه ، عقيدة ابن الحاجب ، كافية ذوي الأرب في معرفة كلام العرب ، معجم الشيوخ ، المقصد الجليل في علم الخليل ، المكتفي للمبتدي شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي ، في النحو ، منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٦٥٤ ـ ٦٥٥ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٤).

(٣) السكاكي : هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي الخوارزمي الحنفي الأديب ، الشهير بالسكاكي ، ولد سنة ٥٥٥ ه‍ ، وتوفي سنة ٦٢٦ ه‍ ، من تصانيفه : كتاب الطلسم ، فارسي ، مفتاح العلوم ، في النحو والأدب والاشتقاق والمعاني والبيان ، مشهور وعليه شروح وحواش. (كشف الظنون ٦ / ٥٥٣).


ثم قال : «وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء».

ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة.

وقد عرفها في كتابه بقوله : «البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدّا له اختصاص بتوفية خواصّ التراكيب حقّها ، وإيراد أنواع التشبيه ، والمجاز ، والكناية على وجهها».

فإن أراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء ـ وهو الظاهر ـ فقد جاء الدور ، وإن أراد غيرها فلم يبينه ، على أن قوله «وغيره» مبهم لم يبين مراده به.

ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب :

أولها : أحوال الإسناد الخبري.

وثانيها : أحوال المسند إليه.

وثالثها : أحوال المسند.

ورابعها : أحوال متعلقات الفعل.

وخامسها : القصر.

وسادسها : الإنشاء.

وسابعها : الفصل والوصل.

وثامنها : الإيجاز والإطناب والمساواة.

ووجه الحصر : أن الكلام إما خبر أو إنشاء ؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، أو لا يكون لها خارج. الأول الخبر ، والثاني الإنشاء ، ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند ، وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى ، ثم المسند قد يكون له متعلّقات إذا كان فعلا ، أو متصلا به ، أو في معناه ، كاسم الفاعل ونحوه ، وهذا هو الباب الرابع ، ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر ، أو بغير قصر ، وهذا هو الباب الخامس ، والإنشاء هو الباب السادس ، ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى ، أو غير معطوفة ، وهذا هو الباب السابع ، ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة ، أو غير زائد عليه ، وهذا هو الباب الثامن.


تنبيه

اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب

فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ، ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم : صدقه مطابقة حكمه للواقع ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. هذا هو المشهور وعليه التعويل.

وقال بعض الناس : صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له واحتجّ بوجهين :

أحدهما : أن من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال : ما كذب ، ولكنه أخطأ ، كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك : «ما كذب ولكنه وهم».

وردّ بأن المنفي تعمّد الكذب ، لا الكذب ، بدليل تكذيب الكافر ـ كاليهودي ـ إذا قال : الإسلام باطل ، وتصديقه إذا قال : الإسلام حق ، فقولها : «ما كذب» متأوّل بما كذب عمدا.

الثاني : قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : الآية ١] كذّبهم في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١] وإن كان مطابقا للواقع ؛ لأنهم لم يعتقدوه.

وأجيب عنه بوجوه :

أحدها : أن المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا ، كما يترجم عنه «إنّ» واللام ، وكون الجملة اسمية في قولهم (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : الآية ١] فالتكذيب في قولهم «نشهد» وادعائهم فيه المواطأة ، لا في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١].

وثانيها : أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة ؛ لأن الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة.

وثالثها : أن المعنى لكاذبون في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : الآية ١] عند أنفسهم ؛ لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين ، وزعم أنه ثلاثة أقسام : صادق ، وكاذب ، وغير صادق ولا كاذب ، لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر لو أو عدمه. وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه ؛ فالأول ـ أي المطابق مع الاعتقاد ـ هو الصادق ، والثالث ـ أي غير المطابق مع الاعتقاد ـ هو الكاذب ، والثاني والرابع ـ أي


المطابق مع عدم الاعتقاد ، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد ـ كل منهما ليس بصادق ولا كاذب.

فالصدق عنده : مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده. والكذب : عدم مطابقته مع اعتقاده ، وغيرهما ضربان : مطابقته مع عدم اعتقاده ، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده.

واحتج بقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : الآية ٨] فإنهم حصروا دعوى النبي صلّى الله عليه وسلّم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون ، بمعنى امتناع الخلو ، وليس إخباره حال الجنون كذبا ؛ لجعلهم الافتراء في مقابلته ، ولا صدقا ؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه. فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب.

وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد ؛ فهو نوع من الكذب ؛ فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا ؛ لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب ، وهو الكذب لا عن عمد ؛ فيكون التقسيم للخبر الكاذب ، لا للخبر مطلقا ، والمعنى افترى أم لم يفتر؟ وعبّر عن الثاني بقوله : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : الآية ٨] لأن المجنون لا افتراء له.

تنبيه آخر : وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم ـ قال السكاكي : ليس من الواجب في صناعة ـ وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل ـ أن يكون الدخيل فيها كالناشىء عليها في استفادة الذوق منها. فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكّمات وضعية واعتبارات إلفيّة؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلّد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك ، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق.

وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى هذا ، كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا :

اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ، ولا يجد لديه قبولا ، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة ، وحتى يكون ممن تحدّثه نفسه بأنّ لما نومىء إليه من الحسن أصلا ، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام ؛ فيجد الأريحيّة تارة ويعرى منها أخرى. وإذا عجّبته تعجب ، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كانت الحالان عنده على سواء ، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة ، وإلا إعرابا ظاهرا ، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع التي يدرك به وزن الشعر ، ويميز به مزاحفة من سالمه ، في أنك لا تتصدّى لتعريفه ؛ لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف.


واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب ، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس ، وحظا من القبول ، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل ، ولأن تعرف العلة في بعض الصور ، فتجعله شاهدا في غيره ، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك ، وتعوّدها الكسل والهوينا.

قال الجاحظ : وكلام كثير جرى على ألسنة الناس ، وله مضرة شديدة وثمرة مرّة ، فمن أضر ذلك قولهم : «لم يدع الأول للآخر شيئا» فلو أن علماء كل عصر ـ مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم ـ تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا.

القول في أحوال الإسناد الخبري

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم كقولك : «زيد قائم» لمن لا يعلم أنه قائم ، ويسمى هذا فائدة الخبر ، وإما كون المخبر عالما بالحكم ، كقولك لمن زيد عنده ، ولا يعلم أنك تعلم ذلك : «زيد عندك» ويسمى هذا لازم فائدة الخبر.

قال السكاكي : والأولى بدون هذه تمتنع ، وهذه بدون الأولى لا تمتنع ، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة ، أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه ، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول ، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ، ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه ؛ لجواز حصول الأول قبل الثاني ، وامتناع حصول الحاصل.

وقد ينزّل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم ؛ فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.

قال السكاكي : وإن شئت فعليك بكلام رب العزة : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ١٠٢] كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسميّ ، وآخره ينفيه عنهم ، حيث لم يعملوا بعلمهم؟! ونظيره في النفي والإثبات : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : الآية ١٧] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) [التوبة : الآية ١٢].


هذا لفظه ، وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما ، وليست منها ، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به ، لعدم جريه على موجب العلم ، والفرق بينهما ظاهر.

وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة.

فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر ، والتردد فيه ؛ استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك : «جاء زيد ، وعمرو ذاهب» فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليا.

وإن كان متصوّر الطرفين ، مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر ، طالبا له ؛ حسن تقويته بمؤكد ، كقولك : «لزيد عارف» أو «إن زيدا عارف».

وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار ؛ فتقول : «إني صادق» لمن ينكر صدقك ، ولا يبالغ في إنكاره. و «إني لصادق» لمن يبالغ في إنكاره.

وعليه قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (١٦) [يس : الآيات ١٣ ـ ١٦] حيث قال في المرة الأولى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) [يس : الآية ١٤] وفي الثانية : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) [يس : الآية ١٦].

ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس (١) للكندي (٢) عن قوله : إني أجد في كلام

__________________

(١) أبو العباس المبرد : هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن ثمالة الأزدي البصري ، أبو العباس المعروف بالمبرد الأديب النحوي اللغوي الفقيه ، ولد سنة ٢١٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٢٨٥ ه‍ ، له من التصانيف : احتجاج القراء ، أدب الجليس ، أسماء الدواهي عند العرب ، إعراب القرآن ، الحث على الأدب والصدق ، الرد على سيبويه ، الرسالة الكاملة ، شرح شواهد سيبويه ، شرح الفصيح في اللغة ، شرح المقدمة له ، صفات الله جل وعلا ، ضرورة الشعر ، طبقات النحاة البصريين ، قواعد الشعر ، الكامل في اللغة ، كتاب الاشتقاق ، كتاب الأنواء والأزمنة ، كتاب البلاغة ، كتاب التصريف ، كتاب التعازي ، كتاب الحروف ، في معاني القرآن ، كتاب الخط والهجاء ، كتاب الروضة ، كتاب الرياض ، كتاب الزيادة المنتزعة من سيبويه ، كتاب العبارة ، كتاب العروض ، كتاب الفضل والمفضول ، كتاب القوافي ، كتاب المذكر والمؤنث ، كتاب الناطق ، كتاب الوشي ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، مدخل إلى سيبويه ، مدخل إلى النحو ، معاني القرآن ، معنى كتاب الأوسط للأخفش ، معنى كتاب سيبويه ، المقتضب في الخطب ، مقدمة في النحو ، المقصور والممدود ، نسب عدنان وقحطان. (كشف الظنون ٦ / ٢٠ ـ ٢١).

(٢) الكندي : هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن ـ


العرب حشوا ، يقولون : «عبد الله قائم» و «إن عبد الله قائم» و «إن عبد الله لقائم» والمعنى واحد ، بأن قال : بل المعاني مختلفة ؛ فـ «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه ، و «إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل ، و «إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر.

ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا ، والثاني طلبيّا ، والثالث إنكاريّا ، وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا على مقتضى الظاهر.

وكثيرا ما يخرج على خلافه ، فينزّل غير السائل منزلة السائل ؛ إذا قدم إليه ما يلوّح له بحكم الخبر ؛ فيستشرف له استشراف المتردد الطالب ، كقوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : الآية ٣٧] ، وقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : الآية ٥٣] ، وقول بعض العرب :

فغنّها ، وهي لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء (١)

وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض ، وروي عن الأصمعي (٢) أنه قال : كان أبو عمرو بن العلاء (٣) وخلف الأحمر (٤) يأتيان بشّارا (٥) ، فيسلمان عليه

__________________

الأشعث الكندي البصري ثم البغدادي ، المعروف بالكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها ، كان عارفا بالطب والرياضيات والمنطق وسائر العلوم. ولد بالبصرة ، وتوفي ببغداد سنة ٢٦٠ ه‍ له المئات من المصنفات. (انظر كشف الظنون ٦ / ٥٣٧ ـ ٥٤٣).

(١) الرجز بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٩٦٤ ، ١٠٤٧.

(٢) الأصمعي : هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي الباهلي ، الإمام أبو سعيد البصري الأديب اللغوي ، ولد سنة ١٢٣ ه‍ ، وتوفي بالبصرة سنة ٢١٥ ه‍ ، له من التصانيف : الأحناس ، في أصول الفقه ، أسماء الخمر ، أصول الكلام ، الأضداد في اللغة ، خلق الإنسان ، خلق الفرس ، كتاب الإبل ، كتاب الأبواب ، كتاب الأخبية والبيوت ، كتاب الأراجيز ، كتاب الاشتقاق ، كتاب الأصوات ، كتاب فعل وأفعل ، كتاب الألفاظ ، كتاب الأمثال ، كتاب الأنواء ، كتاب الأوقات ، كتاب جزيرة العرب ، كتاب الخراج ، كتاب الخيل ، كتاب الدلو ، كتاب الرحل ، كتاب السرج واللجام والشوى والنعال ، كتاب السلاح ، كتاب الشاة والغنم ، كتاب الصفات ، كتاب غريب الحديث والقرآن ، كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي ، كتاب الفتوح ، كتاب الفرق ، كتاب القلب والإبدال ، كتاب اللغات ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، كتاب ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس ، كتاب المذكر والمؤنث ، كتاب المصادر ، كتاب معاني الشعر ، كتاب المقصور والممدود ، كتاب مياه العرب ، كتاب الميسر والقداح ، كتاب النبات ، كتاب النحل والعسل ، كتاب النسب ، كتاب النوادر ، كتاب نوادر الأعراب ، كتاب الوحوش ، كتاب الهمزة وتحقيقها ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤).

(٣) هو أبو عمرو بن العلاء ، زبان بن العلاء بن عمار بن الريان المازني البصري ، أكثر القراء السبعة شيوخا ، أخذ القراءة عن أنس بن مالك ، وحميد بن قيس الأعرج ، وسعيد بن جبير ، وشيبة بن نصاح ، وأبي العالية ، وعاصم بن أبي النجود ، وعبد الله بن كثير المكي ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن ـ ـ


بغاية الإعظام ، ثم يقولان : يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ، ويكتبان عنه متواضعين له ، حتى يأتي وقت الزوال ، ثم ينصرفان ، فأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة (١)؟ قال : هي التي بلغتكما. قالا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب ، قال : نعم ، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف ، قالا : فأنشدناها يا أبا معاذ ، فأنشدهما :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير (٢)

حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح : بكّرا فالنجاح ؛ كان أحسن ، فقال بشار : إنما بنيتها أعرابيّة وحشية ، فقلت : إن ذاك النجاح ، كما يقول الأعراب البدويون ، ولو قلت : بكرا فالنجاح ؛ كان هذا كلام المولّدين ، ولا يشبه ذلك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف ، فقبل بين عينيه ؛ فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء ـ وهم من فحولة هذا الفن ـ إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟

__________________

محيصن ، وغيرهم. وروى عنه كثير منهم عبد الله بن المبارك ، ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهما ، ولد بمكة سنة ٦٨ ه‍ ، وتوفي سنة ١٥٤ ه‍. (شذرات الذهب ١ / ٢٣٧ ، غاية النهاية ١ / ٢٨٨).

خلف : هو خلف بن حيان ، أبو محرز البصري المعروف بخلف الأحمر ، توفي سنة ١٨٠ ه‍ ، صنف كتاب خيال العرب وما قيل فيه من الشعر. (كشف الظنون ٥ / ٣٤٨ ، وانظر ترجمته في :

مراتب النحويين ٤٦ ، طبقات النحويين ١٦١ ، نزهة الألباء ٣٧ ، إنباه الرواة ١ / ٣٤٨ ، بغية الوعاة ٢٤٢).

هو أبو معاذ ، بشار بن برد ، شاعر ، راجز ، شجاع ، خطيب ، صاحب منثور ومزدوج ، له رسائل معروفة ، هكذا وصفه الجاحظ ، أصله من طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة ، يلقب بالمرعّث ، لقب بذلك لأنه كانت في أذنه حلقة في صغره (والمرعّث : الذي في أذنه رعاث ، وهو جمع رعثة وهي القرط) ، رمي بشار بن برد بالزندقة ، ويروى أنه كان يفضّل النار على الأرض ، ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم ، ونسب إليه القول :

الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبود مذ كانت النار

فأمر المهدي العباسي بضربه ، فضرب سبعين سوطا ، فمات من ذلك سنة ١٦٨ ه‍ ، وقيل سنة ١٦٧ ه‍ ، وكان قد هجا المهدي (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٦٠ ـ ٦١).

(١) ابن قتيبة : ليس هو ابن قتيبة الدينوري ، لأنه لم يعاصر الأعلام السابق ذكرهم ، فقد توفي ابن قتيبة الدينوري سنة ٢٧٦ ه‍ ، والفارق بينهم مائة سنة على الأقل. وهو سلم بن قتيبة والي أبي جعفر المنصور على البصرة.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان بشار ص ١٢١ ، (طبعة دار الثقافة) ، ودلائل الإعجاز ص ٢٧٢ ، ٣١٦ ، ٣٢٣ ، والإشارات والتنبيهات للجرجاني ص ٣١ ، والأغاني ٣ / ١٨٥.


وكذلك ينزّل غير المنكر منزلة المنكر ؛ إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار ، كقوله :

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمّك فيهم رماح (١)

فإن مجيئه هكذا ، مدلّا بشجاعته ، قد وضع رمحه عارضا ؛ دليل على إعجاب شديد منه ، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد ، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.

وكذلك ينزّل المنكر منزلة غير المنكر ، إذا كان معه ما إن تأمّله ارتدع عن الإنكار ، كما يقال لمنكر الإسلام : «الإسلام حق» وعليه قوله تعالى في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : الآية ٢].

ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) [المؤمنون : الآيتان ١٥ ، ١٦] أكد إثبات الموت تأكيدين ـ وإن كان مما لا ينكر ـ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت ؛ لتماديهم في الغفلة ، والإعراض عن العمل لما بعده ، ولهذا قيل : «ميّتون» دون «تموتون» كما سيأتي الفرق بينهما ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا ـ وإن كان مما ينكر ـ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر. بل إما أن يعترف به ، أو يتردد فيه ؛ فنزّل المخاطبون منزلة المترددين ، تنبيها لهم على ظهور أدلته ، وحثّا على النظر فيها ، ولهذا جاء «تبعثون» على الأصل.

هذا كله اعتبارات الإثبات ، وقس عليه اعتبارات النفي ، كقولك :

«ليس زيد ، أو ما زيد ؛ منطلقا ، أو بمنطلق» و «والله ليس زيد ، أو ما زيد ، منطلقا ، أو بمنطلق» و «ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد» ، و «ما كان زيد ينطلق» و «ما كان زيد لينطلق» و «لا ينطلق زيد» و «لن ينطلق زيد» و «والله ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد».

فصل

الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

الإسناد منه حقيقة عقلية ، ومنه مجاز عقلي.

أما الحقيقة فهي إسناد الفعل ، أو معناه ، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لحجل بن نضلة الباهلي في دلائل الإعجاز ص ٣٠٤ ، ٣١٢ ، والمصباح لبدر الدين بن مالك (٦).


والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر ، واسم الفاعل.

وقولنا : «في الظاهر» ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع ، وما لا يطابقه ، فهي أربعة أضرب :

أحدها : ما يطابق الواقع واعتقاده ، كقول المؤمن : «أنبت الله البقل ، وشفى الله المريض».

والثاني : ما يطابق الواقع دون اعتقاده ، كقول المعتزليّ لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه : «خالق الأفعال كلها هو الله تعالى».

والثالث : ما يطابق اعتقاده دون الواقع ، كقول الجاهل : «شفى الطبيب المريض» معتقدا شفاء المريض من الطبيب ، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفرة : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : الآية ٢٤] ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ ؛ لما فيه من إيهام الخطأ ، بدليل قوله تعالى عقيبه : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [الجاثية : الآية ٢٤] والمتجوّز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن ، وإنما الظّانّ من يعتقد أن الأمر على ما قاله.

والرابع : ما لا يطابق شيئا منهما ، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائم عالما بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز ؛ فهو إسناد الفعل ، أو معناه ، إلى ملابس له ، غير ما هو له ، بتأوّل.

وللفعل ملابسات شتى ، يلابس الفاعل ، والمفعول به ، والمصدر ، والزمان ، والمكان ، والسبب.

فإسناده إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة كما مر ، وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له ، وقولنا : «ما هو له» يشملهما ، وإسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ مجاز ، كقولهم في المفعول به : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة : الآية ٧] و (ماءٍ دافِقٍ) [الحاقّة : الآية ٢١] وفي عكسه «سيل مفعم» وفي المصدر «شعر شاعر» وفي الزمان «نهاره صائم» و «ليله قائم» وفي المكان «طريق سائر» و «نهر جار» وفي السبب «بنى الأمير المدينة» وقال :

إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها (١)

__________________

(١) صدر البيت :

فلا تسأليني واسألي ما خليقتي

والبيت من الطويل ، وهو لمضرس الأسدي في لسان العرب (عفا) ، وتاج العروس (عفا) ، ـ


وقولنا : «بتأوّل» يخرج نحو قول الجاهل : «شفى الطبيب المريض» ؛ فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأوّل.

ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسيّ :

أشاب الصغير وأفنى الكبي

ر كرّ الغداة ؛ ومرّ العشي (١)

على المجاز ، ما لم يعلم أو يظنّ أن قائله لم يرد ظاهره.

كما استدلّ على أن إسناد «ميّز» إلى «جذب الليالي» في قول أبي النّجم (٢) :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميّز عنه قنزعا عن قنزع

جذب الليالي : أبطئي ، أو أسرعي

مجاز بقوله عقيبه :

أفناه قيل الله للشمس : اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي

وسمّي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا ؛ لاستناده إلى العقل ، دون الوضع ؛ لأن إسناد الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم ، دون واضع اللغة ، فلا يصير «ضرب» خبرا عن «زيد» بواضع اللغة ، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له ، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن «ضرب» لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج ، وأنه لإثباته في زمان ماض ، وليس لإثباته في زمان مستقبل ، فأما تعيين من ثبت له ، فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين.

ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا : «خطّ أحسن مما وشّى الرّبيع» من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر ـ حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن

__________________

وللكميت في أساس البلاغة (عفو) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (فور) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٥٧ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٢٨ ، وأساس البلاغة (زبن).

(١) البيت من المتقارب ، وهو للصلتان العبدي في المصباح لابن مالك ص ١٤٤ ، وأسرار البلاغة ص ٢٤٤.

(٢) الرجز لأبي النجم في تلخيص الشواهد ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، ٤٤١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والكتاب ١ / ٨٥ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٠١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وتاج العروس (خير) ، وبلا نسبة في الأغاني ١٠ / ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، والخصائص ٢ / ٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ، والكتاب ١ / ١٢٧ ، ١٣٧ ، ١٤٦ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧.


يختص الفعل بالحي القادر ، دون الجماد ، وذلك مما لا يشك في بطلانه.

وقال السكاكي : «الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه».

وقال : وإنما قلت : «ما عند المتكلم» دون أن أقول : «ما عند العقل» ليتناول كلام الجاهل إذا قال : «شفى الطبيب المريض» رائيا شفاء المريض من الطبيب ، حيث عدّ منه حقيقة ، مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه.

وفيه نظر ؛ لأنه غير مطرد ، لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ، ولا متصلا به ، كقولنا : «الإنسان حيوان» مع أنه لا يسمّى حقيقة ولا مجازا ، ولا منعكس ، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ، وما لا يطابق شيئا منهما منه ، مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق.

وقال : «المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأوّل ، إفادة للخلاف ، لا بواسطة وضع ، كقولك : أنبت الربيع البقل ، وشفى الطبيب المريض ، وكسا الخليفة الكعبة».

قال : وإنما قلت : خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ، دون أن أقول : خلاف ما عند العقل ؛ لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري ـ عن اعتقاد جهل ـ أو جاهل غيره : أنبت الربيع البقل ، رائيا إنباته من الربيع ، فإنه لا يسمى كلامه مجازا ، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر ، واحتجّ ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم.

ثم قال : ولئلا يمتنع عكسه بمثل «كسا الخليفة الكعبة» و «هزم الأمير الجند» فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ، ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي.

وإنما قلت لضرب من التأوّل ؛ ليحترز به عن الكذب ، فإنه لا يسمى مجازا ، مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم.

وإنما قلت : إفادة للخلاف لا بواسطة وضع ؛ ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة ، وهي إذا ادّعي أن «أنبت» موضوع لاستعماله في القادر المختار ، أو وضع لذلك.

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر ؛ لخروجه بقوله : «لضرب من التأول» ولا بطلان عكسه بما ذكر ؛ إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر.

وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك ؛ حيث عرّف الحقيقة العقلية بقوله :


كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه ، فإن قوله : «واقع موقعه» معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله.

وكذا في كلام الزمخشري (١) حيث عرّف المجاز العقلي بقوله : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبّس بالذي هو في الحقيقة له ، فإن قوله : «في الحقيقة» معناه في نفس الأمر ، ونحو «كسا الخليفة الكعبة» ـ إذا كان الإسناد فيه مجازا ـ كذلك.

ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر ؛ ضعيف ، وهو معترف بضعفه ، وقد رده في كتابه بوجوه ، منها أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة ، وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق ، فقوله : «إفادة للخلاف لا بوساطة وضع» لا حاجة إليه ، وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار ، على أن تمثيله بقول الجاهل : «أنبت الربيع البقل» ينافي هذا الاحتراز.

تنبيه : قد تبين بما ذكرناه أن المسمّى بالحقيقة العقلية ، والمجاز العقلي ـ على ما ذكره السكاكي ـ هو الكلام لا الإسناد ، وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من دلائل الإعجاز.

وعلى ما ذكرناه هو الإسناد ، لا الكلام ، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب (٢) رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر ، وهو قول الزمخشري في الكشاف ، وقول غيره ، وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء ، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل ، أعني الإسناد.

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه ـ أعني المسند والمسند إليه ـ أربعة أقسام لا غير :

__________________

(١) الزمخشري : هو العلامة جار الله ، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن أحمد بن عمر الأديب النحوي اللغوي الفقيه الشافعي الشهير بالزمخشري ، ولد سنة ٤١٧ ه‍ ، وتوفي بجرجانية خوارزم سنة ٥٣٨ ه‍ ، من تصانيفه : أساس البلاغة ، أمالي ، جواهر اللغة ، ديوان الرسائل ، ديوان شعر ، الرائض في الفرائض ، ربيع الأبرار وفصوص الأخبار ، في الأدب والنوادر ، شرح كتاب سيبويه ، صحيح العربية ، شقائق النعمان في مناقب النعمان الإمام أبي حنيفة ، الفائق في غريب الحديث ، فصوص الأخبار ، فصوص النصوص ، القسطاس في العروض ، المستقصى في الأمثال ، معجم الجدود ، المفصل في النحو ، المقامات ، نوابغ الكلم ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٦ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣).

(٢) أبو عمرو بن الحاجب : تقدمت ترجمته.


لأنهما إما حقيقتان ، كقولنا : «أنبت الربيع البقل» وعليه قوله :

فنام ليلي وتجلّى همّي (١)

وقوله : [جرير]

وشيّب أيام الفراق مفارقي (٢)

وقوله :

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٣)

وإما مجازان ، كقولنا : «أحيا الأرض شباب الزمان».

وإما مختلفان ، كقولنا : «أنبت البقل شباب الزمان» وكقولنا : «أحيا الأرض الربيع» وعليه قول الرجل لصاحبه : «أحيتني رؤيتك» أي : آنستني وسرّتني ، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرّة حياة ، ثم جعل الرؤية فاعلة له ، ومثله قول أبي الطّيّب :

وتحيي له المال الصّوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسّم والجدا (٤)

جعل الزيادة والوفور حياة للمال ، وتفريقه في العطاء قتلا له ، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم ، والقتل فعلا للتبسّم ، مع أن الفعل لا يصح منهما ، ونحوه قولهم : «أهلك الناس الدينار والدرهم» جعلت الفتنة إهلاكا. ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم.

وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : الآية ٢] نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات ، لكونها سببا فيها. وكذا قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) [فصّلت : الآية ٢٣].

ومن هذا الضرب قوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) [القصص : الآية ٤] فإن الفاعل غيره ، ونسب الفعل إليه ؛ لكونه الآمر به.

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٤٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٩٤ ، ٤٦٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٢٠٢ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥.

(٢) الشعر من الطويل ، وهو في ديوان جرير ٨٧٦.

(٣) صدر البيت :

لقد لمتنا يا أم غيلان في السّرى

والبيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٩٩٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٦٥ ، ٨ / ٢٠٢ ، والكتاب ١ / ١٦٠ ، ولسان العرب (ربح) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٦٠ ، والإنصاف ١ / ٢٤٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٣٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٢٢ ، والمحتسب ٢ / ١٨٤ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥ ، ٤ / ٣٣١.

(٤) البيت من الطويل ، ولم أجده في ديوان أبي الطيب المتنبي ، وهو في أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني ص ٣٢١.


وكقوله : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [الأعراف : الآية ٢٧] نسب النزغ ـ الذي هو فعل الله تعالى ـ إلى إبليس ، لأن سببه أكل الشجرة ، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين.

وكذا قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) [إبراهيم : الآية ٢٨] نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم ، لأن سببه كفرهم ، وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر.

وكقوله تعالى : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمّل : الآية ١٧] نسب الفعل إلى الظّرف ؛ لوقوعه فيه ، كقولهم : «نهاره صائم».

وكقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) [الزّلزلة : الآية ٢].

وهو غير مختص بالخبر ، بل يجري في الإنشاء ، كقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : الآية ٣٦] ، وقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) [القصص : الآية ٣٨] ، وقوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : الآية ١١٧].

ولا بد من قرينة إما لفظية ، كما سبق في قول أبي النجم ؛ أو غير لفظي ، كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور ، أو قيامه به عقلا ، كقولك : محبتك جاءت بي إليك» أو عادة ، كقولك : «هزم الأمير الجند» و «كسا الخليفة الكعبة» و «بنى الوزير القصر» وكصدور الكلام من الموحّد في مثل قوله : «أشاب الصغير» البيت.

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة ، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيّىء الشيء ، وتصلحه له ، بشيء تتوخّاه في النظم ، كقول من يصف جملا :

تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر (١)

يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ، ويمكنه بها أن يخرقها ، ويمضي فيها ، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد الذي لا يجد السائر شيئا يفرّجه به ، ويجعل لنفسه فيه سبيلا ، فلولا أنه قال : «تجوب له» فعلّق «له» بـ «تجوب» لما تبين جهة التجوّز في جعل الجوب فعلا للعين كما ينبغي ، لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظّلمة ومضيّه فيها بنورها ، وكذلك لو قال : «تجوب له الظلماء عينه» لم يكن له هذا الموقع ، ولا نقطع السّلك ؛ من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به.

__________________

(١) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


واعلم أن الفعل المبنيّ للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير ، إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة ؛ لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق.

وذلك قد يكون ظاهرا ، كما في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : الآية ١٦] فما ربحوا في تجارتهم.

وقد يكون خفيا ، لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل ، كما في قولك : «سرّتني رؤيتك» أي : سرني الله وقت رؤيتك ، كما تقول : «أصل الحكم في أنبت الربيع البقل» أنبت الله البقل وقت الربيع ، وفي «شفى الطبيب المريض» شفى الله المريض عند علاج الطبيب ، وكما في قولك : «أقدمني بلدك حقّ لي على فلان» أي : أقدمتني نفسي بلدك لأجل حقّ لي على فلان ، أي : قدمت لذلك ، ونظيره «محبتك جاءت بي إليك» أي : جاءت بي نفسي إليك لمحبتك ، أي : جئتك لمحبتك ، وإنما قلنا : «إن الحكم فيهما مجاز» لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي ، والداعي لا يكون فاعلا ، وكما في قول الشاعر :

وصيّرني هواك ، وبي

لحيني يضرب المثل (١)

أي : وصيرني الله لهواك وحالي هذه ، أي أهلكني الله ابتلاء ، بسبب هواك. وكما في قول الآخر وهو أبو نواس :

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا (٢)

أي يزيدك وجهه حسنا في وجهه ـ لما أودعه من دقائق الجمال ـ متى تأمّلت.

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام ، وقال : الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية ، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه ـ على ما عليه مبنى الاستعارة ، كما سيأتي ـ وجعل نسبة الإثبات إليه قرينة للاستعارة ، وبجعل الأمير المدبّر لأسباب هزيمة العدوّ استعارة بالكناية عن الجند الهازم ، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة.

وفيما ذهب إليه نظر ، لأنه يستلزم أن يكون المراد بـ «عيشة» في قوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) [الحاقّة : الآية ٢١] صاحب العيشة ، لا العيشة ، وب «ماء» في قوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) [الطّارق : الآية ٦] فاعل الدفق ، لا المنيّ ؛ لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية.

__________________

(١) البيت لابن البواب علي بن هلال الكاتب في دلائل الإعجاز ص ٩١ ، ولمحمد بن أبي محمد اليزيدي في الأغاني ٢٠ / ٢٥٦.

(٢) البيت من مجزوء الوافر ، وهو بلا نسبة في نهاية الإيجاز ص ١٧٧.


وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم : «فلان نهاره صائم وليله قائم» لأن المراد بالنهار ـ على هذا ـ فلان نفسه ، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح.

وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين ـ وبالبناء ـ فيهما ـ لهامان ، مع أن النداء له.

وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم : «أنبت الربيع البقل ، وسرتني رؤيتك» على اذن الشرعي ، لأن أسماء الله تعالى توقيفيّة.

وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء.

ثمّ ما ذكره منقوض بنحو قولهم : «فلان نهاره صائم» فإن الإسناد فيه مجاز ، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان ؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ، ويوجب حمله على التشبيه ، ولهذا عدّ نحو قولهم : «رأيت بفلان أسدا ، ولقيني منه أسد» تشبيها لا استعارة ، كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه.

تنبيه : إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان ، كما فعل السكاكي ومن تبعه ؛ لدخوله في تعريف علم المعاني ، دون تعريف علم البيان.

القول في أحوال المسند إليه

أما حذفه فإما لمجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر.

وإما لذلك مع ضيق المقام.

وإما لتخييل أن في تركه تعويلا على شهادة العقل ، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر ، وكم بين الشهادتين!!

وإما لاختبار تنبّه السامع له عند القرينة ، أو مقدار تنبهه.

وإما لإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك ، أو تطهيرا للسانك عنه.

وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مسّت إليه حاجة.

وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له ، حقيقة ، أو ادعاء.

وإما لاعتبار آخر مناسب ، لا يهدي إلى مثله إلا العقل السليم ، والطبع المستقيم ، كقول الشاعر :

قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم ، وحزن طويل (١)

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ١٨٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٠٠.


وقوله : [أبو الأسود الدؤلي]

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت (١)

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذا النعل زلّت

وقوله : [لقيط بن زرارة]

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه (٢)

نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

وقول بعض العرب في ابن عم له موسر ، سأله ، فمنعه ، وقال : كم أعطيك مالي ، وأنت تنفقه فيما لا يعنيك؟! والله لا أعطيتك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم ، وهو فيهم ، فشكاه إلى القوم ، وذمّه ، فوثب إليه ابن عمه ، فلطمه ، فأنشأ يقول : [المغيرة بن عبد الله]

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندا بسريع (٣)

حريص على الدنيا ، مضيع لدينه

ولي سلما في بيته بمضيع

وعليه قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : الآية ١٨] وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١) [القارعة : الآيتان ١٠ ، ١١].

وقيام القرينة شرط في الجميع.

وأما ذكره فإما لأنه الأصل ولا مقتضي للحذف.

وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة.

وإما للتنبيه على غباوة السامع.

وإما لزيادة الإيضاح والتقرير.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص ١٤٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٦٥ ، ولأبي الأسود الدؤلي ، أو لمحمد بن سعيد ، أو لعبد الله بن الزبير في سمط اللآلي ص ١٦٦ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٤٧٤.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما لأبي الطمحان القيني في الأغاني ١٣ / ٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٥٧ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٩٥ ، ٩٦ ، وديوان المعاني ١ / ٢٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٩٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٦٠ ، ولسان العرب (خضض) ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٦٧ ، وهما للقيط بن زرارة في الحيوان ٣ / ٩٣ ، والشعر والشعراء ص ٧١٥.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما للأقيشر الأسدي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٣٤ ، والمصباح ص ١٦٥.


وإما لإظهار تعظيمه أو إهانته ، كما في بعض الأسامي المحمودة ، أو المذمومة.

وإما للتبرك بذكره.

وإما لاستلذاذه.

وإما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب ، كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السّلام : (هِيَ عَصايَ) [طه : الآية ١٨] ولهذا زاد على الجواب ، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : وإما لكون الخبر عام بالنسبة إلى كل مسند إليه ، والمراد تخصيصه بمعين ، كقولك : زيد جاء ، وعمرو ذهب ، وخالد في الدار ، وقوله : [امرؤ القيس بن عابس ، الصحابي]

الله أنجح ما طلبت به

والبرّ خير حقيبة الرّحل (١)

وقوله : [أبو ذؤيب الهذلي]

النفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع (٢)

وفيه نظر ؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف ، فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما ؛ لا يقتضيان ذكره ، وإلا فيكون ذكره واجبا.

وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم ؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى ، ومتى كان أقرب كانت أضعف ، وبعده بحسب تخصيص المسند إليه ، والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا ، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا ، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا : «شيء ما موجود» وفي قولنا : «فلان بن فلان يحفظ الكتاب» ، والتخصيص كماله بالتعريف.

ثم التعريف مختلف :

فإن كان بالإضمار فإما لأن المقام مقام التكلم : كقول بشار [بن برد] :

أنا المرعّث ، لا أخفى على أحد

ذرّت بي الشمس للقاصي وللدّاني (٣)

وإما لأن المقام مقام الخطاب ، كقول الحماسية : [أمامة]

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٣٨ ، وأساس البلاغة (حقب) ، وتاج العروس (حقب).

(٢) البيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في الدرر ٣ / ١٠٢ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٦٩٣ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٩٣ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٢٠٦.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٢٤٠ (طبعة دار الثقافة).


وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمتّ بي من كان فيك يلوم (١)

وإما لأن المقام مقام الغيبة ؛ لكون المسند إليه مذكورا ، أو في حكم المذكور لقرينة ، كقوله (٢) :

من البيض الوجوه بني سنان

لو أنّك تستضيء بهم أضاؤوا

هم حلّوا من الشّرف المعلّى

ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا

وقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : الآية ٨] أي العدل ، وقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [النّساء : الآية ١١] أي ولأبوي الميت.

وأصل الخطاب أن يكون لمعين ، وقد يترك إلى غير معين ، كما تقول : «فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك» فلا تريد مخاطبا بعينه ، بل تريد : إن أكرم ، وإن أحسن إليه ، فتخرجه في صورة الخطاب ، ليفيد العموم ، أي سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد.

وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السّجدة : الآية ١٢] أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم ؛ للقصد إلى تفظيع حالهم ، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها ، فلا تختص بها رؤية راء مختص به ، بل كلّ من يتأتّى منه رؤية داخل في هذا الخطاب.

وإن كان بالعلمية فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم يخصّه كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : الآية ١] وقول الشاعر [المتنخل الهذلي] :

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ، ومشيع غناه (٣)

وقوله : [الحارث بن هشام]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمعشوقة ابن الدمينة في ديوانه ص ٤٢ ، ولأميمة امرأته في الأغاني ١٧ / ٥٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٨١ ، وبلا نسبة في البيان والتبيين ٣ / ٣٧٠ ، والحيوان ٣ / ٥٥ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٠٤.

(٢) البيتان من المتدارك ، وهما لأبي البرج المري في زفر بن سنان ، وبعدهما :

بناة مكارم وأساة كلم

دماؤهم من الكلب الشفاء

(٣) البيت من المتقارب ، وهو للمتنخل الهذلي في الأغاني ٢٣ / ٢٦٥ ، وأمالي المرتضى ١ / ٣٠٦ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٤٦ ، والدرر ٢ / ١٢٣ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٧٦ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٦٤ ، ولذي الإصبع العدواني في خزانة الأدب ٤ / ١٥٠ ، برواية :

وما إن أسيد أبو مالك

بوان ولا بضعيف قواه


الله يعلم ما تركت قتالهم

حتّى علوا فرسي بأشقر مزبد (١)

وإما لتعظيمه ، أو لإهانته ، كما في الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة.

وإما للكناية حيث الاسم صالح لها ، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) [المسد : الآية ١] أي جهنّميّ.

وإما لإيهام استلذاذه ، أو التبرك به.

وإما لاعتبار آخر مناسب.

وإن كان بالموصولية فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة ، كقولك : الذي كان معنا أمس رجل عالم.

وإما لاستهجان التصريح بالاسم.

وإما لزيادة التقرير ، نحو قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : الآية ٢٣] فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السّلام عن الفحشاء ، والمذكور أدلّ عليه من (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) وغيره.

وإما للتفخيم كقوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : الآية ٧٨] وقول الشاعر : [أبو نواس]

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي (٢)

ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) [النّجم : الآية ٥٤] وبيت الحماسة : [الشاعر دريد بن الصمة]

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه

فلما علاه قال للباطل : ابعد (٣)

وقول أبي نواس :

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم

وأسمت سرح اللّحظ حيث أساموا (٤)

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فإذا عصارة كلّ ذاك أثام

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للمخزومي في المخصص ١ / ٤.

(٢) البيت من البسيط. ونسب أيضا لعبد الله بن العباس الربيعي.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لدريد بن الصمة في ديوانه ص ٦٩ ، والأصمعيات ص ١٠٨ ، والشعر والشعراء ص ٧٥٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٢١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٩٨.

(٤) البيتان من الطويل. ونهز الدلو في البئر : إذا ضرب بها في الماء لتملىء.


وإما لتنبيه المخاطب على خطأ ، كقول الآخر : [عبدة بن الطبيب]

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا (١)

إما للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، نحو (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : الآية ٦٠].

ثم إنه ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر ، كقوله : [الفرزدق]

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٢)

أو لشأن غيره ، نحو (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : الآية ٩٢].

قال السكاكي : وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر ، كقوله : [عبدة بن الطبيب]

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول (٣)

وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ ، كقوله : «إن الذين ترونهم» البيت.

وفيه نظر ؛ إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق ، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني؟! والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه ، بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه.

وإن كان بالإشارة فإما لتمييزه أكمل تمييز ؛ لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة حسا ، كقوله : [ابن الرومي]

هذا أبو الصّقر فردا في محاسنه (٤)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان عبدة بن الطبيب ص ١٥٥ ، والتبيان ١ / ١٥٦ ، والمفتاح ص ٩٧ ، ولطائف التبيان ص ٥١.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٥٥ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٥٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥٣٩ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٧ ، ٩٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ٢٥٧ ، ولسان العرب (كبر) ، (عزز) ، وتاج العروس (عزز) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٢ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٣٨٨ ، وشرح ابن عقيل ٤٦٧ ، وتاج العروس (بنى).

(٣) البيت من البسيط ، وهو لعبدة بن الطبيب العبشمي في ديوانه ص ٥٩ ، وتاج العروس (كوف) ، ومعجم البلدان (الكوفة) ، وشرح اختيارات المفضّل ص ٦٤٦.

(٤) عجز البيت :

من نسل شيبان بين الضال والسلم

والبيت من البسيط ، وهو لابن الرومي في الإشارات والتنبيهات ص ٣٨.


وقوله : [الحطيئة]

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا (١)

وقوله : [ابن المولى]

وإذا تأمّل شخص ضيف مقبل

متسربل سربال ليل أغبر

أوما إلى الكوماء : هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري (٢)

وقوله : [المتلمس ، جرير بن عبد المسيح]

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلّان غير الحيّ والوتد (٣)

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحسّ ، كقول الفرزدق :

أولئك آبائي ، فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع (٤)

وإما لبيان حاله في القرب ، أو البعد ، أو التوسط ، كقولك : هذا زيد ، وذلك عمرو ، وذاك بشر.

وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : الآية ٣٦] ، وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١) [الفرقان : الآية ٤١] ، وقوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) [العنكبوت : الآية ٦٤] ، وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [البقرة : الآية ٢٦] وقول عائشة رضي الله عنها لعبد الله بن عمرو بن العاص : «يا عجبا لابن عمرو هذا» وقول الشاعر : [الهذلول العنبري]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٤١ ، ولسان العرب (عقد) ، (بنى) ، والمخصص ٢ / ١٦٤ ، ٥ / ١٢٢ ، ١٥ / ١٣٩ ، وتهذيب اللغة ١ / ١٩٧ ، ١٥ / ٤٩٢ ، وتاج العروس (بنى).

(٢) البيتان من الكامل ، وينسبان لابن المولى ، وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. وقيل إنهما في مدح حاتم الطائي.

(٣) يروى البيت الأول :

ولا يقيم بدار الذل يعرفها

إلّا الأذلان غير الأهل والوتد

والبيتان من الطويل ، وهما للمتلمس في ديوانه ص ٢٠٨ ، والبيت الأول بلا نسبة في تاج العروس (وتد) ، وجمهرة الأمثال ١ / ٩٠ ، والدرة الفاخرة ١ / ٢٠٣ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٨٣ ، والمستقصى ١ / ١٣٣.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الفرزدق ١١ / ٤١٨ ، وأساس البلاغة (جمع) ، والإشارات والتنبيهات ١٨٤ ، والتبيان للطيبي ١ / ١٥٧ ، ويروي «الجوامع بدل المجامع».


تقول ودقّت نحرها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس (١)

وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم ، كقوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : الآيتان ١ ، ٢] ذهابا إلى بعد درجته ، ونحوه (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) [الزّخرف : الآية ٧٢] ولذا قالت : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : الآية ٣٢] لم تقل : «فهذا» وهو حاضر ؛ رفعا لمنزلته في الحسن ، وتمهيدا للعذر في الافتتان به.

وقد يجعل ذريعة إلى التحقير ، كما يقال : ذلك اللعين فعل كذا ، وإما للتنبيه إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور ، وعقّب بأوصاف ؛ على أن يرد بعد اسم الإشارة فالمذكور جدير باكتسابه ؛ من أجل تلك الأوصاف ، كقول حاتم الطائي :

ولله صعلوك يساور همّه

ويمضي على الأحداث والدّهر مقدما (٢)

فتى طلبات ، لا يرى الخمص ترحة

ولا شبعة ، إن نالها عدّ مغنما

إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمم كبراهنّ ، ثمت صمما

ترى رمحه ، ونبله ، ومجنّه

وذا شطب عضب الضّريبة مخذما

وأحناء سرج قاتر ، ولجامه

عتاد أخي هيجا ، وطرفا مسوّما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما

فعدّد له كما ترى خصالا فاضلة ، من المضاء على الأحداث مقدما ، والصبر على ألم الجوع ، والأنفة من أن يعدّ الشّبعة مغنما ، وتيمّم كبرى المكرمات ، والتأهّب للحرب بأدواتها. ثم عقّب بذلك بقوله : «فذلك» فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذكر بعده.

وكذا قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) [البقرة : الآية ٥] أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح.

وإما لاعتبار آخر مناسب.

__________________

(١) يروى صدر البيت بلفظ :

تقول وصكّت صدرها بيمينها

والبيت من الطويل ، وهو لهذلول بن كعب الحميري في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٩٦ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٤٣٠ ، والخصائص ١ / ٢٤٥ ، والدرر ١ / ٢٩٣ ، واللامات ص ٥٨ ، والمنصف ١ / ١٣٠.

(٢) الأبيات من الطويل ، وهي في ديوان حاتم الطائي ص ٢٢٤.


وإن كان باللام فإما للإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك ، كما إذا قال لك قائل : جاءني رجل من قبيلة كذا ؛ فتقول : ما فعل الرجل؟ وعليه قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : الآية ٣٦] أي وليس الذكر الذي طلبت ، كالأنثى التي وهبت لها.

وإما لإرادة نفس الحقيقة ، كقولك : الرجل خير من المرأة ، والدينار خير من الدّرهم ، ومنه قول أبي العلاء المعرّي :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفاء ويخفيها مع الكدر (١)

وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : الآية ٣٠] أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس الذي هو الماء ، روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجنّ من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه ، ونحوه : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [الأنعام : الآية ٨٩].

والمعرف باللام قد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن ، لمطابقته الحقيقة كقولك : أدخل السوق ، وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج ، وعليه قول الشاعر : [عميرة بن جابر]

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني (٢)

وهذا يقرب في المعنى من النكرة ، ولذلك يقدّر «يسبني» وصفا للّئيم ، لا حالا.

وقد يفيد الاستغراق ، وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد ، وعلى بعضها دون بعض ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : الآيتان ٢ ، ٣].

والاستغراق ضربان :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في سر الفصاحة ص ٢٦٧ ، والمصباح ص ١١٤.

(٢) عجز البيت :

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

والبيت من الكامل ، وهو لرجل من سلول في الدرر ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١٠ ، والكتاب ٣ / ٢٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص ١٧١ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ٢٦٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٩٠ ، والأضداد ص ١٣٢ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٦٣١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٠٦ ، وجواهر الأدب ص ٣٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٧ ، والخصائص ٢ / ٣٣٨ ، والدرر ٦ / ١٥٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٧٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٩ ، ولسان العرب (ثمم) ، (مني) ، ومغني اللبيب ١ / ١٠٢ ، ٢ / ٤٢٩ ، ٦٤٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٩ ، ٢ / ١٤٠.


حقيقي ، كقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الرّعد : الآية ٩] أي كل غيب وشهادة.

وعرفي كقولنا : جمع الأمير الصّاغة. إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب ، لا صاغة الدنيا.

واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ؛ بدليل أنه لا يصدق «لا رجل في الدار» في نفي الجنس ، إذا كان فيها رجل أو رجلان ، ويصدق «لا رجال في الدار».

ولا تنافي بين الاستغراق وأفراد اسم الجنس ؛ لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا على الدلالة على الوحدة والتعدد ، ولأنه بمعنى كل الإفراديّ لا كل المجموعي ، أي معنى قولنا : «الرجل» كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال ، ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع ، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا.

فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام ؛ إما نفس الحقيقة ، لا ما صدق عليه من الأفراد ، وهو تعريف الجنس والحقيقة ، ونحوه علم الجنس ، كأسامة.

وإما فرد معيّن ، وهو العهد الخارجيّ ، ونحوه العلم الخاص ، كزيد.

وإما فرد غير معيّن ، وهو العهد الذّهنيّ ، ونحوه النكرة ، كرجل.

وإما كلّ الأفراد ، وهو الاستغراق ، ونحوه لفظ كل مضافا إلى النكرة ، كقولنا : كل رجل.

وقد شكك السكاكي على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا ، ثم اختار ـ بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير ـ أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية ؛ إما لكون الشيء حاضرا في الذهن ؛ لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم ، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم على أحد الطريقين ، وإما لأنه لا يغيب عن الحسن على أحد الطريقين لو كان معهودا.

وقال : الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة ؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى ، وإن كانت لا تنفكّ في الوجود عن أحدهما ، فهي صالحة للتوحّد والتكثّر ، فكون الحكم استغراقا أو غير استغراق ؛ إلى مقتضى المقام ، فإذا كان خطابيا مثل «المؤمن غرّ كريم والفاجر خبّ لئيم» (١) حمل المعرّف باللام ـ مفردا كان أو جمعا ـ

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو داود في الأدب باب ٥ ، والترمذي في الوتر باب ٤١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٩٤.


على الاستغراق ، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين ، وإذا كان استدلاليا حمل على أقل ما يحتمل ، وهو الواحد في المفرد ، والثلاثة في الجمع.

وإن كان بالإضافة فإنا لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخصر منها ، كقوله : [جعفر بن علبة]

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب ، وجثماني بمكّة موثق (١)

وإما لإغنائها عن تفصيل متعذّر أو مرجوح لجهة ، كقوله : [مروان بن أبي حفصة]

بنو مطر يوم اللّقاء كأنهم

أسود لها في غيل خفّان أشبل (٢)

وقوله : [الحارث بن وعلة]

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي (٣)

وإما لتضمّنها تعظيما لشأن المضاف إليه ، كقولك : عبدي حضر فتعظّم شأنك ، أو لشأن المضاف ، كقولك : عبد الخليفة ركب ، فتعظم شأن العبد ، أو لشأن غيرهما كقولك : عبد السلطان عند فلان ، فتعظم شأن فلان ، أو تحقيرا نحو : ولد الحجام حضر.

وإما لاعتبار آخر مناسب.

وأما تنكيره فللإفراد كقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) [القصص : الآية ٢٠] أي فرد من أشخاص الرجال ، أو للنوعية كقوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : الآية ٧] أي نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله.

ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزّمر : الآية ٢٩].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجعفر بن علبة في معاهد التنصيص ١ / ١٢٠ ، وبلا نسبة في تاج العروس (شعر).

(٢) يروى البيت بلفظ :

شرنبث أطراف البنان ضبارم

هصور له في غيل خضان أشبل

والبيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (خفف) ، وتاج العروس (خفف).

(٣) البيت من الكامل ، وهو للحارث بن وعلة في لسان العرب (جلل) ، والدرر ٥ / ١٢٣ ، وسمط اللآلي ص ٣٠٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٠٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٦٣.


وللنوعية قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : الآية ٩٦] ، أي نوع من الحياة مخصوص ، وهو الحياة الزائدة كأنه قيل : ولتجدنّهم أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي والحاضر حياة في المستقبل ، فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له حال وصفه بالحرص عليه ، وقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النّور : الآية ٤٥] يحتمل الإفراد والنوعية أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة ، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه.

أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير ، أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حدّ لا يمكن معه أن يعرف ، كقول ابن أبي السّمط :

له حاجب عن كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب (١)

أي له حاجب أيّ حاجب ، وليس له حاجب ما.

أو للتكثير ، كقولهم : إن له لإبلا ، وإن له لغنما ، يريدون الكثرة.

وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالى : (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) [الشّعراء : الآية ٤١] عليه.

أو للتقليل ، كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) [التّوبة : الآية ٧٢] أي شيء من رضوانه أكبر من ذلك كله ؛ لأن رضاه سبب كلّ سعادة وفلاح ، من النعم ، وإنما تهنأ له برضاه ، كما إذا علم بسخطه تنغّصت عليه ، ولم يجد لها لذة وإن عظمت.

وقد جاء التعظيم والتكثير جميعا ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر : الآية ٤] أي رسل ذوو عدد كثير ، وآيات عظام ، وأعمار طويلة ، ونحو ذلك.

والسكاكيّ لم يفرق بين التعظيم والتكثير ، ولا بين التحقير والتقليل ؛ ثم جعل التنكير في قولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» للتعظيم ، وفي قوله تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) [الأنبياء : الآية ٤٦] لخلافه ، وفي كليهما نظر ، أما الأول فلما سيأتي ، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة ، لأنها إما من قولهم : نفحت الريح ، إذا هبّت ، أي هبة ، أو من قولهم : نفح الطّيب ، إذا فاح ، أي

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي الطمحان القيني في ديوان المعاني ١ / ١٢٧ ، ولابن أبي السمط في معاهد التنصيص ١ / ١٢٧ ، ولمروان بن أبي حفصة في شرح شواهد المغني ص ٩٠٩ ، وبلا نسبة في أمالي القالي ١ / ٢٣٨ ، ومغني اللبيب ص ٥٧٧.


فوحة ، كما يقال : شمة ، واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة ؛ إذ أصله أن يستعمل في الخير ، يقال : له نفحة طيبة ، أي هبّة من الخير.

وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : الآية ٤٥] بالتنكير ـ دون «عذاب الرحمن» بالإضافة ـ إما للتهويل ، أو لخلافه ، والظاهر أنه لخلافه ، وإليه ميل الزمخشري ؛ فإنه ذكر أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه ، حيث لم يصرح فيه أن العذاب لا حق له لاصق به ، ولكنه قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : الآية ٤٥] فذكر الخوف ، والمس ، ونكّر العذاب.

وأما التنكير في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩] فيحتمل النوعية والتعظيم ، أي لكم في هذا الجنس من الحكم ـ الذي هو القصاص ـ حياة عظيمة ؛ لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا ، أو نوع من الحياة ، وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص ، فإن الإنسان إذا همّ بالقتل تذكّر الاقتصاص فارتدع ، فسلم صاحبه من القتل وهو من القود ، فتسبب لحياة نفسين.

ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) [النّمل : الآية ٥٨] أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا ، يعني الحجارة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [النّمل : الآية ٥٨]؟ وللتحقير (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : الآية ٣٢].

وأما وصفه فلكون الوصف تفسيرا له كاشفا عن معناه ، كقولك : الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله ، ونحوه في الكشف قول أوس : [بن حجر]

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظنّ

كأن قد رأى وقد سمعا (١)

حكي أن الأصمعي سئل عن الألمعي ، فأنشده ، ولم يزد ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) [المعارج : الآيات ١٩ ـ ٢١] قال الزمخشري : الهلع ، سرعة الجزع عند مسّ المكروه ، وسرعة المنع عند مسّ الخير ، ومن قولهم : ناقة هلوع ، سريعة السير ، وعن أحمد بن يحيى : قال لي محمد بن

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص ٥٣ ، ولسان العرب (حظرب) ، (لمع) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٤٢٤ ، وديوان الأدب ١ / ٢٧٣ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢١٤ ، والكامل ص ١٤٠٠ ، وذيل أمالي القالي ص ٣٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٢٨ ، ولأوس أو لبشر بن أبي خازم في تاج العروس (لمع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٢١٢.


عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ قلت : قد فسّره الله تعالى. انتهى كلام الزمخشري ؛ أو لكونه مخصصا له نحو : زيد التاجر عندنا. أو لكونه مدحا له ، كقولنا : جاء زيد العالم ، حيث يتعين فيه «زيد» قبل ذكر «العالم» ونحوه من غيره قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١) وقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر : الآية ٢٤].

أو لكونه ذما له ، كقولنا : ذهب زيد الفاسق ؛ حيث يتعين فيه «زيد» قبل ذكر «الفاسق» ، ونحوه من غيره قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨) [النّحل : الآية ٩٨].

أو لكونه تأكيدا له ، كقولك : أمس الدابر وكان يوما عظيما.

أو لكونه بيانا له ، كقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [النّحل : الآية ٥١].

قال الزمخشري : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دالّ على شيئين : على الجنسية ، والعدد المخصوص ، فإذا أريد الدلالة على أن المعنيّ به منهما ، والذي يساق له الحديث ، هو العدد ؛ شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه ، والعناية به ، ألا ترى أنك لو قلت : «إنما هو إله» ولم تؤكده بواحد ، لم يحسن ، وخيّل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية؟.

وأما قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : الآية ٣٨] فقال السكاكي : شفع دابة ب (فِي الْأَرْضِ) وطائرا ب (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين ، وقال الزمخشري : معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة ، كأنه قيل : وما من دابة قطّ في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قطّ في جوّ السماء من جميع ما يطير بجناحيه.

واعلم أن الجملة قد تقع صفة للنكرة ، وشرطها أن تكون خبرية ؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر ؛ فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله ، وقال السكاكي : لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقّق الوصف للموصوف ، لأن الوصف إنما يؤتى به ليميز الموصوف عما عداه ، وتميز المتكلم شيئا من شيء بما لا يعرفه له محال ، فما لا يكون عنده محققا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفا له ، بحكم عكس النقيض ، ومضمون الجمل الطلبية كذلك ؛ لأن الطلب يقتضي مطلوبا غير متحقق لامتناع طلب الحاصل ؛ فلا يقع شيء منها صفة لشيء.

والتعليل الأول أعمّ ؛ لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية ، كقولنا : نعم الرجل


زيد ، وبئس الصاحب عمرو ، وربما يقوم بكر ، وكم غلام ملكت؟ وعسى أن يجيء بشر ، وما أحسن خالدا ، وصيغ العقود ، نحو : بعت واشتريت ، فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي.

ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرا قيل في قوله : [عبد الله بن رؤبة]

جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ (١)

تقديره : جاؤوا بمذق مقول عنده هذا القول ، أي بمذق يحمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه له : هل رأيت الذئب قطّ؟ فهو مثله في اللون ؛ لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لزرقته ، وفي مثل قولنا : زيد اضربه ، أو لا تضربه ، تقديره : مقول في حقّه : اضربه ، أو لا تضربه.

وأما توكيده : فللتقرير ، كما سيأتي في باب تقديم الفعل وتأخيره.

أو لدفع توهّم التجوّز ، أو السهو ، كقولك : عرفت ، أنا ، وعرفت أنت ، وعرف زيد زيد ، أو عدم الشمول ، كقولك : عرفني الرجلان كلاهما ، أو الرجال كلهم.

قال السكاكي : ومنه «كلّ رجل عارف» ، و «كلّ إنسان حيوان».

وفيه نظر ؛ لأن كلمة «كل» تارة تقع تأسيسا ، وذلك إذا أفادت الشمول من أصله ، حتى لو لا مكانها لما عقل ، وتارة تقع تأكيدا ، وذلك إذا لم تفده من أصله ، بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملا في غيره.

أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة ، كقوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : الآية ٥٣] وقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢) [الإسراء : الآية ١٢] وقوله : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء : الآية ٩٦].

وأما الثاني فما عدا ذلك ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) [الحجر : الآية ٣٠].

__________________

(١) قبله :

حتى إذا جنّ الظلام واختلط

والرجز للعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٤ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٠٩ ، والدرر ٦ / ١٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١١٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٦١ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١١٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٧٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٤١ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٢ ، ٥٣ ، ولسان العرب (خضر) ، (مذق) ، والمحتسب ٢ / ١٦٥ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٤٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١٧ ، وتهذيب اللغة ٧ / ١٠٦ ، وتاج العروس (خضر) ، والمخصص ١٣ / ١٧٧ ، وأساس البلاغة (ضيح).


وهي في قوله : «كل رجل عارف» ، و «كل إنسان حيوان» من الأول لا الثاني ؛ لأنها لو حذفت منهما لم يفهم الشمول أصلا.

وأما بيانه وتفسيره فلإيضاحه باسم مختص به ، كقولك قدم صديقك خالد.

وأما الإبدال منه فلزيادة التقرير والإيضاح ، نحو : جاءني زيد أخوك ، وجاء القوم أكثرهم ، وسلب عمر ثوبه ، ومنه في غيره قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : الآيتان ٦ ، ٧].

وأما العطف فلتفصيل المسند إليه مع اختصار ، نحو : «جاء زيد ، وعمرو ، وخالد» أو لتفصيل المسند مع اختصار ، نحو «جاء زيد فعمرو ، أو ثمّ عمرو ، أو جاء القوم حتى خالد» ، ولا بد في «حتّى» من تدريج كما ينبىء عنه قوله : [أبو نواس]

وكنت فتى من جند إبليس فارتمى

بي الحال حتى صار إبليس من جندي (١)

أو لردّ السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب ، كقولك : «جاءني زيد لا عمرو» لمن اعتقد أن عمرا جاءك دون زيد ، أو أنهما جاءاك جميعا ، وقولك : «ما جاءني زيد لكن عمرو» لمن اعتقد أن زيدا جاءك دون عمرو.

أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر ، نحو «جاءني زيد بل عمرو ، وما جاءني زيد بل عمرو».

أو للشك فيه ، أو للتشكيك ، نحو : «جاءني زيد أو عمرو» ، أو «إما زيد وإما عمرو» ، أو «إما زيد أو عمرو».

أو للإبهام ، كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : الآية ٢٤].

أو للإباحة أو التخيير ، وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب ، ثالهما قولك : ليدخل الدار زيد أو عمرو ، والفرق بينهما واضح ؛ فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما ، أو بها جميعا.

وأما توسط الفصل بينه وبين المسند فلتخصصه به ، كقولك : زيد هو المنطلق ، أو هو أفضل من عمرو ، أو هو خير منه ، أو هو يذهب.

وأما تقديمه فلكون ذكره أهمّ ، إما لأنه الأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وإما

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي نواس في المفتاح ص ١٠٢.


ليتمكن الخبر في ذهن السامع ، لأن في المبتدأ تشويقا إليه ، كقوله : [أبو العلاء المعري]

والذي حارت البريّة فيه

حيوان مستحدث من جماد (١)

وهذا أولى من جعله شاهدا لكون المسند إليه موصولا كما فعل السكاكي.

وإما لتعجيل المسرّة ، أو المساءة : لكونه صالحا للتفاؤل أو التطيّر ، نحو : سعد في دارك ، والسفّاح في دار صديقك.

وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر ، أو أنه يستلذّ ، فهو إلى الذكر أقرب.

وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب ، لا نفس الخبر ، كما إذا قيل لك : كيف الزاهد؟ فتقول : الزاهد يشرب ، ويطرب ؛ وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص ، كقوله :

متى تهزز بني قطن تجدهم

سيوفا في عواتقهم سيوف (٢)

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيف ألمّ فهم خفوف

والمراد : هم خفوف.

وفيه نظر ؛ لأن قوله : «لا نفس الخبر» يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر ، وهو باطل ؛ لأن نفس الخبر تصور لا تصديق ، والمطلوب بها إنما يكون تصديقا ، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا فغير صحيح أيضا ؛ لما سيأتي : أن العبارة عن مثله لا يتعرّض فيها إلى ما هو مسند إليه ، كقولك : وقع القيام.

ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده للتخصيص نظر ؛ لما سيأتي : أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليا ، وقوله : «والمراد هم خفوف» تفسير للشيء بإعادة لفظه.

قال عبد القاهر : وقد يقدّم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي إن ولي حرف النفي ، كقولك : «ما أنا قلت هذا» أي لم أقله مع أنه مقول : فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك ، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول وأنت تريد نفي كونك قائلا له ، ومنه قول الشاعر : [أبو الطيب المتنبي]

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا (٣)

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لأبي العلاء المعري في سقط الزند ٢ / ١٠٠٤ ، والمصباح ص ١٥.

(٢) البيتان من الوافر ، وهما بلا نسبة في التبيان ١ / ١٧٢ ، والمفتاح ص ١٠٥ ، والمصباح ص ٢٧.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١١٨ (طبعة دار الكتب العلمية).


إذ المعنى أن هذا السقم الموجود والضّرم الثابت ؛ ما أنا جالب لهما ، فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما ، ولهذا لا يقال : «ما أنا قلت ، ولا أحد غيري» لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول ، بل يقال : «ما قلت أنا ولا أحد غيري» ولا يقال : «ما أنا رأيت أحدا من الناس» ولا «ما أنا ضربت إلا زيدا» بل يقال : «ما رأيت» أو «ما رأيت أنا أحدا من الناس» و «ما ضربت» أو «ما ضربت أنا إلا زيدا» لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كلّ واحد من الناس ، وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم سوى زيد ، وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور ، هو ما نفي عن المذكور ، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كلّ الناس ، والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب من عدا زيدا منهم ، وكلاهما محال.

وعلّل الشيخ عبد القاهر والسكاكيّ امتناع الثاني بأن نقض النفي بـ «إلّا» يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا ، وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي أن لا يكون ضربه ، وذلك تناقض.

وفيه نظر لأنا لا نسلّم إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك.

فإن قيل : الاستثناء الذي فيه مفرغ ، وذلك يقتضي أن لا يكون ضرب أحدا من الناس ، وذلك يستلزم أن لا يكون ضرب زيدا.

قلنا : إن لزم ذلك فليس للتقديم ؛ لجريانه في غير صورة التقديم أيضا ، كقولنا : ما ضربت إلا زيدا.

هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي ، وإلا فإن كان معرفة كقولك : «أنا فعلت» كان القاصد إلى الفاعل ، وينقسم قسمين :

أحدهما : ما يفيد تخصيصه بالمسند ؛ للرد على من زعم انفراد غيره به ، أو مشاركته فيه ، كقولك : أنا كتبت في معنى فلان ، وأنا سعيت في حاجته ، ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول : أنا كتبت في معنى فلان لا غيري ، ونحو ذلك ، وفي الوجه الثاني : أنا كتبت في معنى فلان وحدي ، ونحو ذلك.

فإن قلت : «أنا فعلت كذا وحدي» في قوة «أنا فعلته لا غيري» فلم اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟

قلت : لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع ، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك ، وفي الثاني أنه صدر منك ؛ بشركة الغير ؛ أكّدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك : «غيري» وفي الثاني بقولك : «وحدي» لأنه محزّه ، ولو عكست


أحلت ، ومن البيّن في ذلك المثل : «أتعلمني بضبّ أنا حرشته؟» وعليه قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التّوبة : الآية ١٠١] أي لا يعلمهم إلا نحن ، ولا يطلع على أسرارهم غيرنا ؛ لإبطانهم الكفر في سويداوات قلوبهم.

الثاني : ما لا يفيد إلا تقوّي الحكم وتقرّره في ذهن السامع وتمكّنه ، كقولك : «وهو يعطي الجزيل» لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل ، ولا أن تعرّض بإنسان ، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقّق أنه يفعل إعطاء الجزيل.

وسبب تقوّيه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء ، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه ، فينعقد بينهما حكم ، سواء كان خليا عن ضميره نحو «زيد غلامك» أو متضمنا نحو «أنا عرفت ، وأنت عرفت ، وهو عرف أو زيد عرف» ثم إذا كان متضمنا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا ؛ فيكتسي الحكم قوة.

ومما يدل على أن التقديم يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء. فيما سبق فيه إنكار من منكر ، نحو أن يقول الرجل : «ليس لي علم بالذي تقول» فتقول : «أنت تعلم أن الأمر على ما أقول» وعليه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : الآية ٧٥] لأن الكاذب ـ لا سيما في الدين ـ لا يعترف بأنه كاذب ، فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.

وفيما اعترض فيه شك ، نحو أن تقول للرجل : «كأنك لا تعلم ما صنع فلان» فيقول : «أنا أعلم».

وفي تكذيب مدّع ، كقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) [المائدة : الآية ٦١] فإن قولهم : «آمنا» دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به.

وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠) [النّحل : الآية ٢٠] فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يتّخذ إلها مخلوقا.

وفيما يستغرب ، كقولك : «ألا تعجب من فلان؟ يدّعي العظيم وهو يعيا باليسير».

وفي الوعد والضّمان ، كقولك للرجل : «أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر» لأن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان ؛ فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.

وفي المدح والافتخار ؛ لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما


يمدح فيه ، ويبعدهم عن الشبهة ، وكذلك المفتخر.

أما المدح فكقول الحماسي : [المعذل الليثي]

هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة (١)

وقول الحماسية : [عمرة الخثعمية]

هما يلبسان المجد أحسن لبسة (٢)

وقول الحماسي : [الأخنس بن شهاب التغلبي]

هم يضربون الكبش يبرق بيضه (٣)

وأما الافتخار فكقول طرفة : [بن العبد]

نحن في المشتاة ندعو الجفلى (٤)

ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦) [الأعراف : الآية ١٩٦] ، وقوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) [الفرقان : الآية ٥] ، وقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) [النّمل : الآية ١٧] ، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على الاسم ؛ لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى ، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها.

وكذا إذا كان الفعل منفيا ، كقولك : «أنت لا تكذب» فإنه أشدّ لنفي الكذب عنه من قولك «لا تكذب» وكذا من قولك : «لا تكذب أنت» أنه لتأكيد المحكوم عليه ، لا

__________________

(١) صدر البيت من الطويل ، وعجزه :

 ...

وأجرد سباح يبذّ المغاليا

(٢) صدر البيت من الطويل ، وعجزه :

 ...

شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما

(٣) صدر البيت من الطويل ، وعجزه :

 ...

على وجهه من الدماء سبائب

(٤) عجز البيت :

لا ترى الآدب فينا ينتقر

والبيت من الرمل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٥٥ ، وأدب الكاتب ص ١٦٣ ، وإصلاح المنطق ص ٣٨١ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٩٠ ، ولسان العرب (أدب) ، (نقر) ، (جفل) ، ونوادر أبي زيد ص ٨٤ ، وأساس البلاغة (شتو) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٩٥ ، والمنصف ٣ / ١١٠.


الحكم ، وعليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (٥٩) [المؤمنون : الآية ٥٩] فإنه يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم ما لا يفيده قولنا : والذين لا يشركون بربهم ، ولا قولنا : والذين بربهم لا يشركون ، وكذا قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : الآية ٨] ، وقوله تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) [القصص : الآية ٦٦] ، وقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥) [الأنفال : الآية ٥٥].

هذا كله إذا بني على معرف ، فإن بني على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس أو الواحد بالفعل ، كقولك : «رجل جاءني» أي لا امرأة ، أو لا رجلان.

وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس ، فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط ، كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ، ولم يدر جنسه : أرجل هو أو امرأة؟ أو اعتقد أنه امرأة ، وتارة إلى الوحدة فقط ، كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال ، ولم يدر ؛ أرجل هو أم رجلان ، أو اعتقد أنه رجلان. واشترط السكاكي في إفادة التقديم الاختصاص أمرين :

أحدهما : أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرا ، بأن يكون فاعلا في المعنى فقط ، كقولك : «أنا قمت» فإنه يجوز أن تقدر أصله «قمت أنا» على أن «أنا» تأكيد للفعل الذي هو التاء في «قمت» فقدّم «أنا» وجعل مبتدأ.

وثانيهما : أن يقدّر كونه كذلك.

فإن انتفى الثاني دون الأول كالمثال المذكور إذا أجري على الظاهر ـ وهو أن يقدّر الكلام من الأصل مبنيا على المبتدأ والخبر ، ولم يقدّر تقديم وتأخير ـ أو انتفى الأول ، بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا ؛ فإنه لا يفيد إلا تقوّي الحكم.

واستثنى المنكّر ، كما في نحو «رجل جاءني» بأن قدّر أصله «جاءني رجل» لا على أن «رجل» فاعل «جاءني» بل على أنه بدل الفاعل الذي هو الضمير المستتر في «جاءني» ، كما قيل في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : الآية ٣] : إن (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من الواو في (أَسَرُّوا) وفرق بينه وبين المعروف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفى تخصيصه ؛ إذ لا سبب لتخصيصه «سواه» ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ ، بخلاف المعرّف ؛ لوجود شرط الابتداء فيه ، وهو التعريف.

ثم قال : وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع ، كقولنا : «رجل جاءني» أي لا امرأة ، أو لا رجلان ، دون قولهم : «شر أهر ذا ناب» أما على التقدير الأول فلامتناع أن


يراد المهرّ شر لا خير ، وأما على الثاني فلكونه نابيا عن مكان استعماله ؛ وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه ، حيث تأولوه بـ «ما أهرّ ذا ناب إلا شر» ، فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق.

هذا كلامه ، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر ؛ لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يليه حرف النفي ؛ القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا ، معرفا أو منكّرا ، من غير شرط ، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر.

وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرا ، أو منكرا بشرط تقدير التأخير في الأصل.

فنحو «ما زيد قام» يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ ، ولا يفيده على قول السكاكي.

ونحو «ما أنا قمت» يفيده على قول الشيخ مطلقا : وعلى قول السكاكي بشرط.

وظاهر كلام الشيخ أن المعرّف إذا لم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي ؛ قد يفيد الاختصاص ، مضمرا كان أو مظهرا ، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر.

وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر.

فنحو «زيد قام» قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ ، ولا يفيده عند السكاكي.

ثم فيما احتج به لما ذهب إليه نظر ؛ إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم ، ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا ، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكّم ظاهر.

ثم لا نسلم انتفاء التخصيص في صورة المنكّر لو لا تقدير أنه كان في الأصل مؤخّرا فقدم ، لجواز حصول التخصيص فيها بالتهويل ـ كما ذكر ـ وغير التهويل.

ثم لا نسلم امتناع أن يراد : المهرّ شرّ لا خير ؛ قال الشيخ عبد القاهر : إنما قدم «شرّ» لأن المراد أن يعلم أن الذي أهرّ ذا ناب هو من جنس البشر لا من جنس الخير ، فجرى مجرى أن تقول : رجل جاءني ، تريد أنه رجل لا امرأة ، وقول العلماء : إنه إنما صلح لأنه بمعنى «ما أهر ذا ناب إلا شرّ» بيان ذلك ، وهذا صريح في خلاف ما ذكره.

ثم قال السكاكي : ويقرب من قبيل «هو عرف» في اعتبار تقوّي الحكم «زيد عارف» وإنما قلت : «يقرب» دون أن أقول : نظيره لأنه لما لم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في «أنا عارف» و «أنت عارف» و «هو عارف» أشبه الخالي عن الضمير ، ولذلك لم


يحكم على «عارف» بأنه جملة ، ولا عومل معاملتها في البناء ، حيث أعرب في نحو : «رجل عارف ، ورجلا عارفا ، ورجل عارف» وأتبعه في حكم الإفراد نحو : «زيد عارف أبوه» يعني أتبع «عارف» «عرف» في الإفراد إذا أسند إلى الظاهر ، مفردا كان ، أو مثنى ، أو مجموعا.

ثم قال [السكاكي] : ومما يفيد التخصيص ما يحكيه علت كلمته عن قوم شعيب عليه السّلام : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : الآية ٩١] أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت لكونهم من أهل ديننا ، ولذلك قال عليه السّلام في جوابهم : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : الآية ٩٢] أي من نبي الله ، ولو كان معناه معنى «ما عززت علينا» لم يكن مطابقا.

وفيه نظر ؛ لأن قوله (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : الآية ٩١] من باب «أنا عارف» لا من باب «أنا عرفت» والتمسك بالجواب ليس بشيء لجواز أن يكون عليه السّلام فهم كون رهطه أعزّ عليهم من قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : الآية ٩١].

وقال الزمخشري : دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : «وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزة علينا».

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر.

فإن قيل : الكلام واقع فيه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صحّ قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ؟).

قلنا : قال السكاكي : معناه من نبي الله ، فهو على حذف المضاف ، وأجود منه ما قال الزمخشري ، وهو أن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله ، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : الآية ٨٠]؟ ويجوز أن يقال : لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها ، بل هي للإنكار ، للتوبيخ ، فيكون معنى قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : الآية ٩٢] إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه ، لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا ، أي أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله ، والله أعلم.

ومما يرى تقديمه كاللازم لفظ : «مثل» إذا استعمل كناية من غير تعريض كما في قولنا : «مثلك لا يبخل» ونحوه مما لا يراد بلفظ «مثل» غير ما أضيف إليه ولكن أريد أنّ


من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرب أن يفعل ما ذكر ، أو أن لا يفعل ، ولكون المعنى هذا قال الشاعر : [أبو الطيب المتنبي]

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه (١)

وعليه قوله :

مثلك يثني المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه (٢)

وكذا قول القبعثرى للحجّاج (٣) لما توعده بقوله : «لأحملنك على الأدهم» : «مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب» ، أي من كان على هذه الصفة من السلطان وبسطة اليد ، ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله.

وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك : فقيل : غيري يفعل ذاك ، على معنى أني لا أفعله فقط ، من غير إرادة التعريض بإنسان ، وعليه قوله : [أبو الطيب المتنبي]

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع (٤)

فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد هناك ، فيصفه بأنه ينخدع ، بل أراد أنه ليس ممن يخدع ، وكذا قول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

ويشحب عنده بيض الأيادي (٥)

فإنه لم يرد أن يعرّض بشاعر سواه ، فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاء ؛ كان من ذلك الشاعر لا بد منه ، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير.

واستعمال «مثل» و «غير» هكذا مركوز في الطباع ، وإذا تصفّحت الكلام وجدتهما

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٣٢٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) البيت من السريع ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٣٢٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٣) الحجاج : هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن قيس الثقفي ، ولّاه عبد الملك بن مروان العراق ، وكان له في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها ، بنى مدينة واسط ، وتوفي سنة ٩٥ ه‍. (انظر أخباره في مروج الذهب ٣ / ١٥١ ـ ١٩١ ، والكامل في اللغة ١ / ١٥٨ ، ٢٢٤ ، ٢ / ٢٦٢ ، ٢٦٨ ، ٢٨٨ ، ووفيات الأعيان ٣ / ٢٩ ـ ٥٤ ، والأعلام ٢ / ١٦٨).

(٤) عجز البيت :

إن قاتلوا جنبوا أو حدّثوا شجعوا

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٦٢ (طبعة دار الكتب العلمية) ودلائل الإعجاز ص ١٣٩.

(٥) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما نحو ما ذكرناه ، ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما.

والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوّي الحكم كما سبق تقريره ، وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا : «مثلك لا يبخل» و «غيرك لا يجود» هو الحكم ، وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها ، فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جلبا لأجله.

قيل : وقد يقدّم لأنه دال على العموم ، كما تقول : «كل إنسان لم يقم» فيقدّم ليفيد في نفي القيام عن كل واحد من الناس ؛ لأن الموجبة المعدولة المهملة في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الافراد ، دون كل واحد منها ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة العموم ، لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الافراد ، لأن التأسيس خير من التأكيد ، ولو لم تقدم فقلت : «لم يقم كل إنسان» كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد ، دون كل واحد منها ؛ لأن السالبة المهملة في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد ؛ لورود موضوعها في سياق النفي ، فإذا سوّرت بـ «كل» وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد ؛ لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس.

وفيه نظر ؛ لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى ، أعني الموجبة المعدولة : المهملة ، كقولنا : «إنسان لم يقم» وعن كل فرد في الصورة الثانية ، أعني السالبة المهملة ، كقولنا : «لم يقم إنسان» إنما أفاده الإسناد إلى «إنسان» فإذا أضيف «كل» إلى «إنسان» وحوّل الإسناد إليه ، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الافراد ، وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها ؛ كان «كل» تأسيسا لا تأكيدا ؛ لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ولئن سلمنا أنه يسمّى تأكيدا كقولنا : «لم يقم إنسان» إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد ؛ كان مفيدا للنفي عن جملة الافراد لا محالة ، فيكون «كل» في «لم يقم كل إنسان» إذا جعل مفيدا للنفي عن جملة الافراد تأكيدا لا تأسيسا كما قال في «كل إنسان لم يقم» ؛ فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس.

ثم جعله قولنا : «لم يقم إنسان» سالبة مهملة في قوة سالبة كلية ـ مع القول بعموم موضوعها لورودها نكرة في سياق النفي ـ خطأ ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت للقضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية ، فكيف تكون سالبة مهملة؟.

ولو قال : «لم يكن الكلام المشتمل على كلمة «كل» مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها ؛ لم يكن في الإتيان بها فائدة» لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى ، لجواز أن يقال : إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الافراد بالمطابقة.


واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون «كل» في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة أخرى ؛ مشهور ، وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر وغيره.

قال الشيخ : كلمة «كل» في النفي إن أدخلت في حيزه بأن قدم عليها لفظا ، كقول أبي الطيب : [المتنبي]

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه (١)

وقول الآخر : [أبو العتاهية]

ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد (٢)

وقولنا : «ما جاء القوم كلهم» و «ما جاء كل القوم» و «لم آخذ الدراهم كلها» و «لم آخذ كلّ الدراهم» أو تقديرا ، بأن قدّمت على الفعل المنفي وأعمل فيها ؛ لأن للعامل رتبته التقدم على المعمول ، كقولك : «كل الدراهم لم آخذ» ؛ توجّه النفي إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل ، وأفاد الكلام ثبوته لبعض ، أو تعلقه ببعض ، وإن أخرجت من حيّزه ، بأن قدمت عليه لفظا ، ولم تكن معمولة لفعل المنفي ، توجّه النفي إلى أصل الفعل ، وعمّ ما أضيف إليه «كل» كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال له ذو اليدين : «أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله» : «كل ذلك لم يكن» (٣) أي لم يكن واحد منهما ، لا القصر ، ولا النسيان ، وقول أبي النّجم :

قد أصبحت أمّ الحيارى تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٤)

__________________

(١) عجز البيت :

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٣٥ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) صدر البيت من البسيط ، وعجزه :

 ...

إذا بدا لك رأي مشكل فقف

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ ، والأذان باب ٦٩ ، والسهو باب ٤ ، ٥ ، والأدب باب ٤٥ ، والأيمان باب ١٥ ، ومسلم في المساجد حديث ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٨٩ ، والترمذي في الصلاة باب ١٧٥ ، والنسائي في السهو باب ٢٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٣٤ ، ومالك في النداء حديث ٥٨ ، ٥٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٧٧ ، ٢٣٥ ، ٤٢٣ ، ٤٦٠.

(٤) الرجز لأبي النجم في تخليص الشواهد ص ٢٨١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والكتاب ١ / ٨٥ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٠١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وتاج العروس (خير) ، وبلا نسبة في الأغاني ١٠ / ١٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٠ ، ٦ / ٢٧٢ ، والخصائص ٢ / ٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ ، والكتاب ١ / ١٢٧ ، والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧ ، ويروى «أم الخيار» بدل «أم الحيارى».


ثم قال : وعلّة ذلك أنك إذا بدأت بـ «كل» كنت قد بنيت النفي عليه وسلّطت الكلية على النفي ، وأعملتها فيه ، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النفي ، فاعرفه.

هذا لفظه ، وفيه نظر.

وقيل : إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون التأخير لأن صورة التقديم تفهم سلب لحوق المحمول للموضوع ، وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو إثبات.

وفيه نظر أيضا ؛ لاقتضائه أن لا تكون «ليس» في نحو قولنا : «ليس كل إنسان كاتبا» مفيدة لنفي كاتب.

هذا إن حمل كلامه على ظاهره ، وإن تؤوّل بأن مراده أن التقديم يفيد سلب لحوق المحمول عن كل فرد والتأخير يفيد سلب لحوقه لكل فرد اندفع هذا الاعتراض ، لكن كان مصادرة على المطلوب.

واعلم أن المعتمد في المطلوب الحديث وشعر أبي النجم ، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب ، وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه.

والاحتجاج بالخبر من وجهين : أحدهما أن السؤال بـ «أم» عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام ؛ فجوابه إما بالتعيين ، أو بنفي كل واحد منهما ، وثانيهما ما روي بأنه لما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «كلّ ذلك لم يكن» قال له ذو اليدين : «بعض ذلك قد كان» والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي.

وبقول أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر ، وهو أن الشاعر فصيح والفصيح الشائع في مثل قوله نصب «كل» وليس فيه ما يكسر له وزنا ، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت عليه هذه المرأة ؛ فلو كان النصب مفيدا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة.

ومما يجب التنبه له في فصل التقديم أصل ، وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان :

١ ـ تقديم على نية التأخير ، وذلك في شيء أقرّ مع التقديم على حكمه الذي كان عليه ، كتقديم الخبر ، على المبتدأ ، والمفعول على الفاعل كقولك : «قائم زيد» و «ضرب عمرا زيد» ؛ فإن «قائم» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه ، من كون هذا مسندا ومرفوعا بذلك ، وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله.


٢ ـ وتقديم لا على نية التأخير ، ولكن أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم ، ويجعل له إعراب غير إعرابه ، كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يجعل مبتدأ والآخر خبرا له ، فيقدّم تارة هذا على هذا ، وأخرى ذاك على هذا ، كقولنا : «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» فإن «المنطلق» لم يقدم على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير ، فيكون خبر مبتدأ كما كان ، بل على أن ينقل عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ ، وهكذا القول في تأخير «زيد».

وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند.

هذا كله مقتضى الظاهر ، وقد يخرج المسند إليه على خلافه.

فيوضع المضمر موضع المظهر ، كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظا أو قرينة حال : «نعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو» مكان : «نعم الرجل ، وبئس الرجل» على قول من لا يرى الأصل «زيد نعم رجلا ، وعمرو بئس رجلا» وقولهم : «هو زيد عالم ، وهي عمرو شجاع» مكان الشأن زيد عالم ، والقصة عمرو شجاع ؛ ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه ؛ فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون ، فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن ، وهو السر في التزام تقديم ضمير الشأن أو القصة ، قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : الآية ١] ، وقال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : الآية ١١٧] ، وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحجّ : الآية ٤٦].

وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر ؛ فإن كان المظهر اسم إشارة ؛ فذلك إما لكمال العناية بتمييزه ؛ لاختصاصه بحكم بديع ، كقوله : [ابن الراوندي ، أحمد بن عيسى]

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا (١)

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

وإما للتهكّم بالسامع ، كما إذا كان فاقد البصر ، أو لم يكن ثم مشار إليه أصلا.

وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر ، أو على كمال فطانته ، بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره.

وإما لادعاء أنه كمل ظهوره ، حتى كأنه محسوس بالبصر ، ومنه في غير باب المسند إليه قوله : [ابن الدمينة]

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما لابن الراوندي في المصباح ص ٢٩ ، والتبيان ١ / ١٥٨.


تعاللت كي أشجى ، وما بك علّة

تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك (١)

وإما لنحو ذلك.

وإن كان المظهر غير اسم إشارة ؛ فالعدول إليه من المضمر إما لزيادة التمكين كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : الآيتان ١ ، ٢] ، ونظيره من غيره قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : الآية ١٠٥] ، وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : الآية ٥٩] ، وقول الشاعر : [عبد الله بن عنمة الضبي]

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله (٢)

بدل نعطكم إياه ، وإما لإدخال الرّوع في ضمير السامع ، وتربية المهابة.

وإما لتقوية داعي المأمور ، مثالهما قول الخلفاء : أمير المؤمنين يأمرك بكذا ، وعليه من غيره (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : الآية ١٥٩].

وإما للاستعطاف ، كقوله :

إلهي عبدك العاصي أتاكا (٣)

وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : هذا غير مختص بالمسند إليه ، ولا بهذا القدر ، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا ينقل كلّ واحد منها إلى الآخر ، ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء المعاني ، كقول ربيعة بن مقروم :

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا

وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا (٤)

فالتفت كما ترى حيث لم يقل : وأخلفتني ، وقوله : [ربيعة بن مقروم]

تذكّرت والذكرى تهيجك زينبا

وأصبح باقي وصلها قد تقضّبا (٥)

وحلّ بفلج بالأباتر أهلنا

وشطّت فحلّت غمرة فمثقّبا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لابن الدمينة في ديوانه ص ١٦.

(٢) صدر بيت من الطويل ، وسيأتي عجزه مع بيت آخر صفحة ٧٥.

(٣) عجز البيت :

مقرا بالذنوب وقد دعاكا

والبيت من الوافر ، وهو لرابعة العدوية أو لإبراهيم بن أدهم في الإشارات والتنبيهات ص ٥٥ ، والمصباح ص ٣٠.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لربيعة بن مقروم في شرح اختيارات المفضل ص ٩٥٩.

(٥) البيتان من الطويل ، وهما لربيعة بن مقروم في ديوانه ص ٢٤٩.


فالتفت في البيتين.

والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها.

وهذا أخصّ من تفسير السكاكي ؛ لأنه أراد بالنقل أن يعبّر بطريق من هذه الطرق عما عبّر عنه بغيره ، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبّر عنه بغيره منها.

فكل التفات عندهم التفات عنده ، من غير عكس.

مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) [يس : الآية ٢٢] ومن التكلم إلى الغيبة ، قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٢) [الكوثر : الآيتان ١ ، ٢]. ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة :

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب (١)

يكلّفني ليلى وقد شطّ وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب

ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : الآية ٢٢].

ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) [الرّوم : الآية ٤٨] ، ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : الآيتان ٤ ، ٥] ، وقول عبد الله بن عنمة :

ما إن ترى السّيد زيدا في نفوسهم

كما يراه بنو كوز ومرهوب (٢)

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله

والدّرع محقبة ، والسّيف مقروب

وأما قول امرىء القيس :

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخليّ ولم ترقد (٣)

وبات ، وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لعلقمة بن عبدة في ديوانه ص ٣٣ ، والمصباح ص ٣٢.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان علقمة بن عبدة ص ٣٤ ، ونسبهما المؤلف لعبد الله بن عنمة.

(٣) الأبيات من المتقارب ، وهي في ديوان امرىء القيس ص ١٨٥ ، والمستقصى ٢ / ٥٠ ، وسمط اللآلي ص ٥٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٧١ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٨٠.


وذلك من نبإ جاءني

وخبّرته عن أبي الأسود

فقال الزمخشري : فيه ثلاث التفاتات ، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة.

لا يقال : الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر ؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات ، لوروده على مقتضى الظاهر ، لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم.

وأما على المشهور فلا التفات في البيت الأول ، وفي الثاني التفاتة واحدة ، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان فقيل : هما في قوله : «جاءني» إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول ، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني ، وفيه نظر ؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به ، وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبسا به ، فيكون الانتقال إلى المتكلم في الثالث من الغيبة وحدها ، لا منها ومن الخطاب جميعا ، فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة ، وقيل : إحداهما في قوله «وذلك» لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والثانية في قوله «جاءني» لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم ، وهذا أقرب.

واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام ، ووجه حسنه ـ على ما ذكر الزمخشري ـ هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب ؛ كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.

وقد تختص مواقعه بلطائف كما في سورة الفاتحة ؛ فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ، ونفس ذاكرة لما هو فيه ، بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على اختصاصه بالحمد ، وأنه حقيق به ؛ وجد من نفسه لا محالة محرّكا للإقبال عليه ، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : الآية ٢] الدالّ على مالك للعالمين ، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيّته ؛ قوي ذلك المحرّك ، ثم إذا انتقل إلى قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣) [الفاتحة : الآية ٣] الدالّ على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها ؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك ، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام ، وهي قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : الآية ٤] الدالّ على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء ؛ تناهت قوته ، وأوجب الإقبال عليه ، وخطا به بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات.


وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) [النّساء : الآية ٦٤] لم يقل : واستغفرت لهم ، وعدل عنه إلى طريق الالتفات تفخيما لشأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعظيما لاستغفاره ، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان.

وذكر السكاكي لالتفات امرىء القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها :

أحدها : أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه ؛ فنبّه في التفاتة الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثّكلى ، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلّى بعض التّسلّي إلا بتفجّع الملوك له ، وتحزّنهم عليه ، وخاطبها بـ «تطاول ليلك» تسلية أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ، ولم تتصبّر ـ فعل الملوك ـ فشك في أنها نفسه ، فأقامها مقام مكروب وخاطبها بذلك تسلية ، وفي الثاني على أنه صادق في التحزّن ـ خاطب أو لا ـ وفي الثالث على أنه يريد نفسه.

أو نبّه في الأول على أن النبأ لشدّته تركه حائرا ، فلما فطن معه لمقتضى الحال فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا ، وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا ، فلم يجد النفس معه ، فبنى الكلام على الغيبة ، وفي الثالث على ما سبق.

أو نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ، ولم تتبصّر غاظه ذلك فأقامها مقام المستحقّ للعتاب ، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك ، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب ، وسكن عنه الغضب بالعتاب الأول ، ولّى عنها الوجه وهو يدمدم قائلا : «وبات وباتت له» وفي الثالث على ما سبق.

هذا كلامه ، ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف.

ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي الأسلوب الحكيم ، وهو تلقّي المخاطب بغير ما يترقّب ، بحمل كلامه على خلاف مراده ، تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، أو السائل بغير ما يتطلب ، بتنزيل سؤاله منزلة غيره ، تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهمّ له.

أما الأول فكقول القبعثرى للحجاج ـ لما قال له متوعّدا بالقيد : «لأحملنّك على الأدهم» ـ : «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد وأراه بألطف وجه أن من كان على صفته في السلطان وبسطة اليد فجدير بأن يصفد ، لا


أن يصفد. وكذا قوله له في الثانية : «إنه حديد» ـ : «لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا».

وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطب عبّر من قال مفتخرا : [حاتم الطائي]

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي (١)

فقلت كأنّي ما سمعت كلامها :

هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة.

وأما الثاني فكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : الآية ١٨٩]. قالوا : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ، وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة : الآية ٢١٥] ، سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان الصرف.

ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ المضيّ تنبيها على تحقق وقوعه ، وأن ما هو للوقوع كالواقع ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النّمل : الآية ٨٧] ، وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) [الكهف : الآية ٤٧] ، وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : الآية ٥٠] ، وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [الأعراف : الآية ٤٨] جعل المتوقّع الذي لا بدّ من وقوعه بمنزلة الواقع ، وعن حسّان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور ، وهو طفل ، فجاء إليه يبكي ، فقال له : يا بنيّ ما لك؟ قال : لسعني طويّر كأنه ملتف في بردى حبرة ، فضمّه إلى صدره ، وقال : يا بني قد قلت الشّعر.

ومثله التعبير عنه باسم الفاعل كقوله تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦) [الذّاريات : الآية ٦] وكذا اسم المفعول ، كقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : الآية ١٠٣].

ومنه القلب ، كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض ، وردّه مطلقا قوم ، وقبله مطلقا قوم منهم السكاكي ، والحق إنه إن تضمّن اعتبارا لطيفا قبل ، وإلا ردّ.

أما الأول فكقول رؤبة : [بن العجاج]

ومهمه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه (٢)

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان حاتم الطائي ص ١٧٤.

(٢) الرجز لرؤبة في ديوانه ص ٣ ، والمصباح ص ٤٢ ، والإشارات والتنبيهات ص ٥٩.


أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه للمبالغة ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح :

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (١)

وأما الثاني فكقول القطاميّ ؛ [عمير بن شبيم]

كما طيّنت بالفدن السّياعا (٢)

وقول حسّان :

يكون مزاجها عسل وماء (٣)

وقول عروة بن الورد :

فديت بنفسه نفسي ومالي (٤)

وقول الآخر : [القطامي ، عمير بن شبيم]

ولا يك موقف منك الوداعا (٥)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ص ٢٢٧.

(٢) صدر البيت :

فلما أن جرى سمن عليها

والبيت من الوافر ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٤٠ ، وأساس البلاغة (فون) ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، ولسان العرب (تيز) ، (سيع) ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٦.

(٣) صدر البيت :

كأن سبيئة من بيت رأس

والبيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٤ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٤٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٩٣ ، والكتاب ١ / ٤٩ ، ولسان العرب (سبأ) ، (رأس) ، (جني) ، والمحتسب ١ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ص ٤٥٣ ، ٦٩٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٩.

(٤) عجز البيت :

وما آلوك إلا ما أطيق

والبيت من الوافر ، وهو لعروة بن الورد في الأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، ولسان العرب (تيز) ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٦ ، ولم أعثر عليه في ديوانه.

(٥) صدر البيت :

قفي قبل التفرق يا ضباعا

والبيت من الوافر ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٣١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٧ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٩ ، والكتاب ٢ / ٢٤٣ ، ولسان العرب (ضبع) ، (ودع) ، واللمع ص ١٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٩٥ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٢٨٥ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٨ ، وشرح المفصل ٧ / ٩١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٥٢.


وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : الآية ٤] ليس واردا على القلب ؛ إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف ، وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (٨) [النّجم : الآية ٨] ، وكذا قوله تعالى : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) [النّمل : الآية ٢٨] فأصل الأول : أردنا إهلاكها ، فجاءها بأسنا ، أي إهلاكنا ، وأصل الثاني : ثمّ أراد الدنّو من محمد صلّى الله عليه وسلّم فتدلّى فتعلق عليه في الهواء ، ومعنى الثالث : تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ؛ ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ما ذا يرجعون فيقال : إنه دخل عليها من كوّة ، فألقى الكتاب إليها ، وتوارى في الكوّة.

وأما قول خداش :

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (١)

فقد ذكر له سوى القلب وجهان ؛ أحدهما : أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها ، والثاني : أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها ؛ تحقيرا لشأنهم ، وأنهم ليسوا أهلا لأن يطعنوا بها ، كما يقال : شقي الخزّ بجسم فلان ، إذا لم يكن أهلا للبسه.

وقيل في قول قطري بن الفجاءة :

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام (٢)

إنه من باب القلب على أن «لم أصب» بمعنى لم أجرح أي قارح البصيرة جذع الإقدام ، كما يقال : إقدام غر ورأي مجرّب ، وأجيب عنه بأن «لم أصب» بمعنى لم ألف ، أي ألف بهذه الصفة ، بل وجدت بخلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ، على أن قوله : «جذع البصيرة قارح الإقدام» حال من الضمير المستتر في «لم أصب» فيكون متعلقا بأقرب مذكور ، ويؤيد هذا الوجه قوله قبله :

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام (٣)

فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي

__________________

(١) صدر البيت :

ونركب خيلا لا هوادة بينها

والبيت من الطويل ، وهو لخداش بن زهير في الأضداد ص ١٥٣ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٦٦ ، ولسان العرب (ضطر) ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٢٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٠٣.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لقطري بن الفجاءة في ديوانه ص ١٧٢ ، ولسان العرب (بزل).

(٣) الأبيات من الكامل ، وهي في ديوان قطري بن الفجاءة ص ١٧١.


حتى خضبت بما تحدّر من دمي

أكناف سرجي أو عنان لجامي

فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جرح ، وأيضا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح ولم يمت إعلاما أن الإقدام غير علّة للحمام ، وحثّا على الشجاعة وبغض الفرار.

القول في أحوال المسند

أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه ، من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين ، ومن اختبار تنبّه السامع عند قيام القرينة ، أو مقدار تنبّهه ، ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر ، إما مع ضيق المقام كقوله : [ضابىء بن الحارث]

فإني وقيّار بها لغريب (١)

أي وقيّار كذلك ، وقوله : [قيس بن الخطيم]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف (٢)

أي نحن بما عندنا راضون ، وكقول أبي الطّيّب :

قالت وقد رأت اصفراري : من به؟

وتنهّدت ، فأجبتها : المتنهّد (٣)

أي المتنهد هو المطالب به ، دون المطالب به هو المتنهد ، إن فسّر بمن المطالب به ؛ لأن مطلوب السائلة ـ على هذا ـ الحكم على شخص معيّن بأنه المطالب به؟ ليتعين عندها ، لا الحكم على المطالب به بالتعيين ، وقيل : معناه من فعل به؟ فيكون التقدير «فعل به المتنهد».

وإما بدون الضّيق ، كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التّوبة : الآية ٦٢]

__________________

(١) صدر البيت :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

والبيت من الطويل ، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، والإنصاف ص ٩٤ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولسان العرب (قير).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص ٢٣٩ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولعمرو بن امرىء القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٧٩ ، ولدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف ١ / ٩٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٠٠ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٧٢٦ ، ولسان العرب (قعد).

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩١ ، (طبعة دار الكتب العلمية).


على وجه ، أي والله أحق أن يرضوه ، ورسوله كذلك ؛ ويجوز أن يكون جملة واحدة وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله ، فكانا في حكم مرضيّ واحد ، كقولنا : «إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني». وكقولك : «زيد منطلق ، وعمرو» أي «عمرو كذلك» وعليه قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطّلاق : الآية ٤] أي واللائي لم يحضن مثلهن ، وقولك : خرجت فإذا زيد ، وقولك لمن قال : «هل لك أحد؟ إن الناس إلب عليك» : إن زيدا وإنّ عمرا ، أي إنّ لي زيدا ، وإن لي عمرا ، وعليه قوله : [ميمون بن قيس ، الأعشى]

إنّ محلّا ، وإنّ مرتحلا (١)

أي إنّ لنا محلا في الدنيا ، وإن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) [الإسراء : الآية ١٠٠] تقديره : لو تملكون تملكون مكررا لفائدة التأكيد ، فأضمر تملك الأول إضمارا على شريطة التفسير ، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم ؛ لسقوط ما يتصل به من اللفظ ، فـ «أنتم» فاعل الفعل المضمر ، وتملكون تفسيره. قال الزمخشري : هذا ما يقتضيه علم الإعراب ، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن «أنتم تملكون» فيه دلالة على الاختصاص ، وأن الناس هم المختصون بالشحّ المتبالغ ، ونحوه قول حاتم :

لو ذات سوار لطمتني

وقول المتلمّس : [جرير بن عبد المسيح]

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي (٢)

وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسّر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر ، وكقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : الآية ٨] أي كمن لم يزيّن له سوء عمله. والمعنى : أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما : الذين كفروا ، والذين آمنوا ، كمن لم يزيّن له سوء عمله ، ثم كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له ذلك ؛ قال : لا ، فقيل : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ

__________________

(١) عجز البيت :

وإن في السفر إذ مضوا مهلا

والبيت من المنسرح ، وهو في ديوان الأعشى ص ٢٨٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٢ ، والخصائص ٢ / ٣٧٣ ، والدرر ٢ / ١٧٣ ، والشعر والشعراء ص ٧٥ ، والكتاب ٢ / ١٤١ ، ولسان العرب (رحل) ، وتاج العروس (حلل).

(٢) صدر البيت من الطويل ، وعجزه :

جعلت لهم فوق العرانين ميسما


عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وقيل : «المعنى : أفمن زيّن له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات ؛ فحذف الجواب ، لدلالة : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أو : أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ؛ فحذف لدلالة «فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء».

وأما قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : الآية ١٨] وقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النّور : الآية ١] ، وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النّور : الآية ٥٣] فكل منها يحتمل الأمرين ؛ حذف المسند إليه ، وحذف المسند ، أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل ، وهذه سورة أنزلناها ، أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها ، وأمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة ، لا يشكّ فيها ، ولا يرتاب كطاعة الخلّص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره ، لا إيمان تقسمون بها بأفواهكم ، وقلوبكم على خلافها ، أو طاعتكم طاعة معروفة ، أي بأنها بالقول دون الفعل ، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) [النّساء : الآية ١٧١] قيل : التقدير ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، وردّ بأنه تقرير لثبوت آلهة ؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدإ ، كما تقول : ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء ، وذلك إشراك ، مع أن قوله تعالى بعده : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : الآية ١٧١] يناقضه.

والوجه أن «ثلاثة» صفة مبتدأ محذوف ، أي يكون مبتدأ محذوفا مميّزه لا خبر مبتدأ ، والتقدير : «ولا تقولوا : لنا ـ أو في الوجود ـ آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة» ثم حذف الخبر كما حذف من «لا إله إلا الله» و «ما من إله إلا الله» ثم حذف الموصوف أو المميّز كما يحذفان في غير هذا الموضع ؛ فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة ، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين ، مع أن ما بعده ـ أعني قوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : الآية ١٧١] ـ ينفي ذلك ، فيحصل النهي عن الإشراك ، والتوحيد من غير تناقض ؛ ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال : «ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان» لأنه كقولنا : ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان ، وهذا صحيح ، ولا يصلح أن يقال عن التقدير الأول : ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان ؛ لأنه كقولنا : ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين ، وهذا فاسد ، ويجوز أن يقدر : ولا تقولوا : الله والمسيح وأمّه ثلاثة ، أي لا تعبدوهما كما تعبدونه لقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : الآية ٧٣] فيكون : المعنى ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة ؛ فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما


شبيهان له ؛ أن يقال : هم ثلاثة ، كما يقال ـ إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه ـ هما اثنان.

واعلم أن الحذف لا بدّ له من قرينة ، كوقوع الكلام جوابا عن سؤال : إما محقق ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : الآية ٢٥] ، وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٦٣] وإما مقدّر نحو :

ليبك يزيد ضارع لخصومة (١)

وقراءة من قرأ : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [النّور : الآية ٣٦] ، وقوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) [الشّورى : الآية ٣] ببناء الفعل للمفعول.

وفضل هذا التركيب على خلافه ـ أعني نحو : «ليبك يزيد ضارع» ببناء الفعل للفاعل ، ونصب «يزيد» ـ من وجوه :

أحدها : أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين : إجمالا ، ثم تفصيلا.

الثاني : أن نحو «يزيد» فيه ركن الجملة لا فضله.

الثالث : أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل ؛ فيكون عند ورود ذكره كمن تيسّرت له غنيمة من حيث لا يحتسب ، وخلافه بخلاف ذلك.

ومن هذا الباب ـ أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : الآية ١٠٠] على وجه ؛ فإن «لله شركاء» إن جعلا مفعولين لـ «جعلوا» فـ «الجنّ» يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر ، كأنه قيل : من جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنّ ، فيفيد الكلام إنكار الشّرك مطلقا ، فيدخل اتخاذ الشّريك من غير الجنّ في الإنكار ، دخول اتخاذه من الجن.

والثاني : ما ذكره الزمخشري ، وهو أن ينتصب «الجنّ» بدلا من «شركاء» فيفيد إنكار

__________________

(١) عجز البيت :

ومختبط مما تطيح الطوائح

والبيت من الطويل ، وهو للحارث بن نهيك في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، وشرح المفصل ١ / ٨٠ ، والكتاب ١ / ٢٨٨ ، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ص ٣٦٢ ، ولنهشل بن حري في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، ولضرار بن نهشل في الدرر ٢ / ٢٨٦ ، وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه ١ / ١١٠ ، ولنهشل أو للحارث أو لضرار أو لمزرد بن ضرار ، أو للمهلهل في المقاصد النحوية ٢ / ٤٥٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٥ ، والشعر والشعراء ص ١٠٥ ، والكتاب ١ / ٣٦٦ ، ولسان العرب (طوح).


الشريك مطلقا أيضا كما مر ، وإن جعل «لله» لغوا كان «شركاء الجنّ» مفعولين قدّم ثانيهما على الأول ، وفائدة التقديم استعظام أن يتّخذ لله شريك ـ ملكا كان ، أو جنّيا ، أو غيرهما ـ ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء ، ولو لم يبن الكلام على التقديم ، وقيل : وجعلوا الجنّ شركاء لله ؛ لم يفد إلا إنكار جعل الجنّ شركاء ، والله أعلم.

ومنه ارتفاع المخصوص في باب «نعم وبئس» على أحد القولين.

وأما ذكره ؛ فإما لنحو ما مرّ في باب المسند إليه ، من زيادة التقرير ، والتعريض بغباوة السامع ، والاستلذاذ ، والتعظيم ، والإهانة وبسط الكلام ، وإما ليتعين كونه اسما ؛ فيستفاد منه الثبوت ، أو كونه فعلا ، فيستفاد منه التجدّد أو كونه ظرفا ، فيورث احتمال الثبوت والتجدد ، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : وإما للتعجب من المسند إليه بذكره ، كما إذا قلت : «زيد يقاوم الأسد» مع دلالة قرائن الأحوال ، وفيه نظر ؛ لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة.

وأما إفراده فلكونه غير سببي ، مع عدم إفادة تقوّي الحكم ، كقولك : زيد منطلق ، وقام عمرو ، والمراد بالسببي نحو زيد أبوه منطلق.

قال السكاكي : وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوّي الحكم ، وأعني بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه ، كقولك : أبو زيد منطلق والكرّ من البرّ بستين ، وضرب أخو عمرو ، ويشكرك بكر إن تعطه ، وفي الدار خالد ، إذ تقديره : استقرّ أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين ؛ لتمام الصلة بالظرف كقولك : الذي في الدار أخوك.

وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا ، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي ؛ إذ فسّر المسند السببيّ بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعليّ ومثله بقولنا : «زيد أبوه منطلق أو انطلق ، والبرّ الكرّ منه بستّين» فجعل ـ كما ترى ـ أمثلة السببيّ مقابلة لأمثلة الفعليّ مع الاشتراك في أصل المعنى.

والثاني : أن الظرف الواقع خبرا ، إذا كان مقدّرا بجملة كما اختاره ، كان قولنا : «الكرّ من البرّ بستين» تقديره : الكر من البر استقر بستين ، فيكون المسند جملة ، ويحصل تقوي الحكم كما مرّ ، وكذا إذا كان «في الدار خالد» تقديره : «استقر في الدار خالد» كان المسند


جملة أيضا ، لكون «استقر» مسندا إلى ضمير «خالد» لا إلى «خالد» على الأصح ؛ لعدم اعتماد الظرف على شيء.

وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد.

وأما كونه اسما فلإفادة عدم التقييد والتجدد ، ومن البيّن فيهما قول الشاعر : [النصر بن جؤبة]

لا يأنف الدّرهم المضروب صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطلق (١)

وقوله :

وكلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم (٢)؟!

إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه ، ومعنى الثاني على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك.

وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه ، فلتربية الفائدة ، كقولك : ضربت ضربا شديدا ، وضربت زيدا ، وضربت يوم الجمعة ، وضربت أمامك ، وضربت تأديبا ، وضربت بالسوط ، وجلست والسّارية ، وجاء زيد راكبا ، وطاب زيد نفسا ، وما ضرب إلا زيد ، وما ضربت إلا زيدا.

والمقيّد في نحو «كان زيد قائما» هو «قائما» لا كان.

وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة.

وأما تقييده بالشرط فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل ، وقد بين ذلك في علم النحو ، ولكن لا بدّ من النظر هاهنا في «إن» و «إذا» و «لو».

أما «إن» و «إذا» فهما للشرط في الاستقبال ، لكنهما يفترقان في شيء ، وهو أن الأصل في «إن» أن لا يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه ، كما تقول لصاحبك : «إن تكرمني أكرمك» وأنت لا تقطع بأنه يكرمك ، والأصل في «إذا» أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه ، كما تقول : «إذا زالت الشمس آتيك».

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للنضر بن جؤية في الإشارات والتنبيهات ص ٦٥.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لطريف بن تميم العنبري في الأصمعيات ص ١٢٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٨٠ ، والكتاب ٤ / ٧ ، ولسان العرب (ضرب) ، (عرف) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٠٤ ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٥٦١ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٢٥٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٧٢ ، والمنصف ٣ / ٦٦ ، وتاج العروس (وسم).


ولذلك كان الحكم النادر موقعا لـ «إن» لأنّ النادر غير مقطوع به في غالب الأمر ، وغلب لفظ الماضي مع «إذا» لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع : نظرا إلى اللفظ.

قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : الآية ١٣١] أتى في جانب الحسنة بلفظ «إذا» لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به ؛ ولذلك عرّفت تعريف الجنس ، وجوّز السكاكيّ أن يكون تعريفها للعهد ، وقال : وهذا أقضى لحقّ البلاغة ، وفيه نظر. وأتى في جانب السيئة بلفظ «إن» لأنّ السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ؛ ولذلك نكرت.

ومنه قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) [الرّوم : الآية ٣٦] أتى بـ «إذا» في جانب الرحمة ، وأما تنكيرها فجعله السكاكي للنوعية ؛ نظرا إلى لفظ الإذاقة ، وجعله للتقليل ـ نظرا إلى لفظ الإذاقة كما قال ـ أقرب.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) [الرّوم : الآية ٣٣] بلفظ «إذا» مع الضّرّ ؛ فللنظر إلى لفظ المسّ ، وإلى تنكير الضّر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضّرّ ، وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرّ ، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضّر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصّلت : الآية ٥١] بعد قوله عزّ وجلّ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [فصّلت : الآية ٥١] أي أعرض عن شكر الله ، وذهب بنفسه ، وتكبّر وتعظم ؛ فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسّه للمعرض المتكبّر ، ويكون لفظ «إذا» للتنبيه على أن مثله يحقّ أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا به.

قال الزمخشري : وللجهل بموقع «إن» و «إذا» يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب ، فيغلطون ، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة ، وقد سأله حاجة فلم يقضها ، ثم شفع له فيها فقضاها :

ذممت ولم تحمد ، وأدركت حاجتي

تولّى سواكم أجرها واصطناعها (١)

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، ويروى عجز البيت الثالث :

عصاها وإن تأمر بسوء أطاعها

والبيت الثالث لسعيد بن عبد الرحمن في الأغاني ٨ / ٢٧١ ، والبيان والتبيين ٣ / ١٨٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٧٣ ، ولعبد الرحمن بن حسان بن ثابت في أمالي القالي ٢ / ٢٢٢ ، والحماسة البصرية ٢ / ٢٦٦ ، والعقد الفريد ٦ / ١٩٢ ، وعيون الأخبار ٣ / ١٩٣.


أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثّته على الخير مرّة

عصاها ، وإن همّت بشرّ أطاعها

فلو عكس لأصاب.

وقد تستعمل «إن» في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة.

كالتجاهل : لاستدعاء المقام إيّاه.

وكعدم جزم المخاطب ، كقولك لمن يكذبك فيم تخبر : إن صدقت فقل لي ما ذا تفعل؟

وكتنزيله منزلة الجاهل ؛ لعدم جريه على موجب العلم ، كما تقول لمن يؤذي أباه : إن كان أباك فلا تؤذه.

وكالتوبيخ على الشرط ، وتصوير أن المقام ـ لاشتماله على ما يقلعه عن أصله ـ لا يصحّ إلا لفرضه كما يفرض الحال لغرض ، كقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزّخرف : الآية ٥] فيمن قرأ «إن» بالكسر ؛ لقصد التوبيخ ، والتجهيل في ارتكاب الإسراف ، وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء ؛ حقيق أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض.

وكتغليب غير المتّصف بالشرط على المتّصف به ، ومجيء قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : الآية ٢٣] بـ «إن» يحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين منهم ؛ فإنه كان فيهم من يعرف الحق ، وإنما ينكر عنادا ، وكذلك قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) [الحجّ : الآية ٥].

والتغليب باب واسع يجري في فنون كثيرة ، كقوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : الآية ٨٨] أدخل شعيب عليه السّلام في (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بحكم التغليب ؛ إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا ، ومثله قوله تعالى : (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) [الأعراف : الآية ٨٩] ، وكقوله تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التّحريم : الآية ١٢] عدّت الأنثى من الذكور بحكم التغليب ، وكقوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : الآية ٣٤] عدّ إبليس من الملائكة بحكم التغليب ، وكقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النّمل : الآية ٥٥] بتاء الخطاب ، غلّب جانب «أنتم» على جانب «قوم» ، ومثله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النّمل : الآية ٩٣] فيمن قرأ بالتاء ، وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) [البقرة : الآية ٢١] غلّب المخاطبون في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهما جميعا ؛ لأن


«لعل» متعلقة بـ «خلقكم» لا بـ «اعبدوا» وهذا من غوامض التغليب ، وكقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام ، فغلّب فيه المخاطبون على الغيّب ، والعقلاء على الأنعام ، وقوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يبثّكم ، ويكثّركم في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ، ولذلك قيل : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشّورى : الآية ١١] ولم يقل : «به» كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩].

واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره ـ أعني الجزاء بالشرط ـ في الاستقبال ؛ امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت ، وفي أفعالهما المضيّ ، أعني أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسميّة أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا.

ولا يخالف ذلك لفظا ـ نحو إن أكرمتني أكرمتك ، وإن أكرمتني أكرمك ، وإن تكرمني أكرمتك ، وإن تكرمني فأنت مكرم ، وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس ـ إلا لنكتة ما ، مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل ، إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه ، كقولك : «إن اشترينا كذا» حال انعقاد الأسباب في ذلك ، وإما لأن ما هو للواقع كالواقع ، كقولك : «إن متّ كان كذا وكذا» كما سبق ، وإما للتفاؤل ، وإما لإظهار الرغبة في وقوعه ، نحو : إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام ؛ فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر ، يكثر تصوّره إياه ، فربما يخيّل إليه حاصلا ، وعليه قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النّور : الآية ٣٣]. وقد يقوى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحسّ بخلاف حكمه غلّطه تارة واستخرج له محملا أخرى ، وعليه قول أبي العلاء المعري :

ما سرت إلّا وطيف منك يصحبني

سرى أمامي ، وتأويبا على أثري (١)

يقول : لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي ، فأعدّك بين يديّ مغلّطا للبصر بعلّة الظلام إذا لم يدركك ليلا أمامي وأعدّك خلفي إذا لم يتيسّر لي تغليطه حين لا يدركك بين يديّ نهارا ، وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : أو للتعريض كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزّمر : الآية ٦٥] ، وقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً

__________________

(١) البيت من البسيط. والسرى : سير الليل ، والتأويب : سير النهار كله.


لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : الآية ١٤٥] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) [البقرة : الآية ٢٠٩] ونظيره في التعريض بقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) [يس : الآية ٢٢] المراد : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ والمنبه عليه «ترجعون» ، وقوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) [يس : الآيتان ٢٣ ، ٢٤] إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذوكم؟ إنكم إذا لفي ضلال مبين ، ولذلك قيل : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) [يس : الآية ٢٥] دون (بربي) وأتبعه (فَاسْمَعُونِ). ووجه حسنه تطلب إسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع الحقّ على وجه لا يورثهم مزيد غضب ، وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك ، ويعين على قبوله ؛ لكون أدخل في إمحاض النصح لهم ، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) [سبأ : الآية ٢٥] فإن حقّ النّسق من حيث الظاهر : «قل لا تسالون عما عملنا ولا نسئل عما تجرمون» وكذا ما قبله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : الآية ٢٤].

قال السكاكي رحمه الله : وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف.

ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدّر قوله تعالى : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] عطفا على جواب الشرط في قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) [الممتحنة : الآية ٢] ، وقال : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودوا قبل كلّ شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعا : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفارا ، وردّكم كفارا أسبق المضارّ عندهم وأولها ؛ لعلمهم أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم ؛ لأنكم بذّالون لها دونه ، والعدوّ أهمّ شيء عنده أن يقصد أعزّ شيء عند صاحبه.

هذا كلامه ، وهو حسن دقيق ، لكن في جعل (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] ، عطفا على جواب الشرط نظر ، لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم ، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة. فالأولى أن يجعل قوله : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : الآية ٢] ، عطفا على الجملة الشرطية ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : الآية ١١١].


وأما «لو» فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط ، فيلزم انتفاء الجزاء ، كانتفاء الإكرام في قولك : «لو جئتني لأكرمتك» ولذلك قيل : هي امتناع الشيء لامتناع غيره.

ويلزم كون جملتيها فعليتين ، وكون الفعل ماضيا ؛ فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات : الآية ٧] لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا ، كما في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآية ١٥] بعد قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] ، وفي قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : الآية ٧٩] ودخولها عليه في نحو قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السّجدة : الآية ١٢] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سبأ : الآية ٣١] لتنزيله منزلة الماضي ؛ لصدوره عمن لا خلاف في إخباره ، كما نزل «يودّ» منزلة «ودت» في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : الآية ٢] ويجوز أن يردّ الغرض من لفظ «ترى» و «يودّ» إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون ، وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات ، وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : الآية ٩] ، إذ قال : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : الآية ٩] استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب مسخّرا بين السماء والأرض ، تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف ، ثم تتضامّ متقلّبة بين أطوار حتى يعدن ركاما ، وكقول تأبّط شرا : [ثابت بن جابر]

ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحا بطان (١)

بأنّي قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فقلت لها : كلانا نضو أرض

أخو سفر ، فخلّي لي مكاني

فشدّت شدّة نحوي ، فأهوت

لها كفّي بمصقول يماني

فأضربها بلا دهش ، فخرّت

صريعا لليدين وللجران

إذ قال : «فأضربها» ليصور لقومه الحالة التي تشجّع فيها على ضرب الغول ، كأنه يبصّرهم إيّاها ، ويتطلّب منهم مشاهدتها ؛ تعجيبا من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ

__________________

(١) الأبيات من الوافر ، وتنسب أيضا لأبي الغول الطهوي.


كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران : الآية ٥٩] ، إذ قال : (كُنْ فَيَكُونُ) [الأنعام : الآية ٧٣] دون «كن فكان» وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحجّ : الآية ٣١].

وأما تنكيره فإما لإرادة عدم الحصر والعهد ، كقولك : زيد كاتب ، وعمرو شاعر.

وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] أي هدى لا يكتنه كنهه.

وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلتكون الفائدة أتمّ.

وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق.

وأما تعريفه فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر له كذلك ، وإما لازم حكم بين أمرين كذلك.

تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ، ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى ، فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى ؛ تعمد إلى اللفظ الدال على الأول ، وتجعله مبتدأ ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية ، وتجعله خبرا ، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه للثانية ، كما إذا كان للسامع أخ يسمّى زيدا ، وهو يعرف بعينه واسمه ، ولكن لا يعرف أنه أخوه ، وأردت أن تعرفه أنه أخوه ، فتقول له : «زيد أخوك» سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه ، أو لم يعرف أن له أخا أصلا.

وإن عرف أن له أخا في الجملة ، وأردت أن تعيّنه عنده ؛ قلت : «أخوك زيد».

أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا ؛ فلا يقال ذلك ؛ لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا ؛ فظهر الفرق بين قولنا : «زيد أخوك» وقولنا : «أخوك زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه ، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ، ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره ، فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق ، فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت : «المنطلق زيد».

وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمّى زيدا بعينه واسمه ، وهو يعرف معنى جنس المنطلق ، وأردت أن تعرّفه أن زيدا متصف به ؛ فتقول : «زيد المنطلق» وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت : «المنطلق زيد».

لا يقال : زيد دالّ على الذات ؛ فهو متعيّن للابتداء تقدّم أو تأخّر ، والمنطلق دال


على أمر نسبي ، فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر.

لأنا نقول : «المنطلق» لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا ، و «زيد» لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم «زيد» وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ.

ثم التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعرّف على ما حكم عليه به ، كقول الخنساء : [تماضر بنت عمرو]

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا (١)

وقد يفيده قصره ؛ إما تحقيقا ، كقولك : «زيد الأمير» إذا لم يكن أمير سواه ، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه ، كقولك : «عمرو الشجاع» أي الكامل في الشجاعة ، فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلّا فيه ؛ لعدم الاعتداد بشجاعة غيره ، لقصورها عن رتبة الكمال.

ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقا ، أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر ، وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره كقولك : هو الوفيّ حين لا تظن نفس بنفس خيرا ؛ فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت ، لا الوفاء مطلقا ، وكقول الأعشى :

هو الواهب المائة المصطفا

ة : إمّا مخاضا ، وإمّا عشارا (٢)

فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين ، لا هبتها مطلقا ، ولا الهبة مطلقا.

وهذه الوجوه الثلاثة ـ أعني العهد ، والجنس للقصر تحقيقا ـ والجنس للقصر مبالغة ـ تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها على ما حكم عليه بالمعرّف ، بخلاف المنكّر ؛ فلا يقال : «زيد المنطلق وعمرو» ولا «زيد الأمير وعمرو» ولا «زيد الشجاع وعمرو».

وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوّي الحكم بنفس التركيب كما سبق ، وإما لكونه سببا ، وقد تقدم بيان ذلك.

وفعليتها لإفادة التّجدّد ، واسميتها لإفادة الثبوت ؛ فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد ، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للخنساء في ديوانها ص ٢٢٦ (طبعة المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت) ، ولسان العرب (بكا) ، وتاج العروس (بكا) ، ودلائل الإعجاز ص ١٨١ ، وشرح عقود الجمان ١ / ١٢١.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان الأعشى ص ١٠١ ، ولسان العرب (علق) ، وتاج العروس (علق).


وعليها قول ربّ العزّة : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : الآية ١٤].

وقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : الآية ٦٩] إذ أصل الأول : نسلم عليك سلاما ، وتقدير الثاني سلام عليكم ، كأن إبراهيم عليه السّلام قصد أن يحيّيهم بأحسن ما حيّوه به ؛ أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [النّساء : الآية ٨٦].

وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة ، غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه ، وهو أن التسليم دعاء للمسلّم عليه بالسلامة من كل نقص ، ولهذا أطلق ، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجدد ؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم ، فناسب أن يحيّوا بما يدل على الثبوت دون التجدد وكمال الإنسان متجدّد ؛ لأنه بالقوة ، وخروجه إلى الفعل بالتدريج ، فناسب أن يحيّا بما يدل على التجدّد دون الثبوت ، وفيه نظر.

وقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : الآية ١٩٣] أي أحدثتم دعاءهم ، أم استمر صمتكم عنه ، فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم ، فقيل : لم يفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

وقوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) (٥٥) [الأنبياء : الآية ٥٥] أي أحدثت عندنا تعاطي الحقّ فيما نسمعه منك أم اللعب أي أحوال الصّبا بعد مستمرة عليك.

وأما قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٨] في جواب (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : الآية ٨] فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم ، ولهذا أطلق قوله «مؤمنين» وأكد نفيه بالباء .. ونحوه : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [المائدة : الآية ٣٧].

وشرطيتها لما مر.

وظرفيتها لاختصار الفعلية ؛ إذ هي مقدّرة بالفعل على الأصح.

وأما تأخيره فلأن ذكر المسند أهم كما سبق.

وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه ، كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦) [الكافرون : الآية ٦] وقولك : «قائم هو» لمن يقول : زيد إما قائم أو قاعد ، فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما ، ومنه قولهم : تميميّ أنا. وعليه قوله تعالى : (لا


فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧) [الصّافات : الآية ٤٧] أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول ؛ ولهذا لم يقدّم الظرف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : الآية ٢] لئلا يفيد ثبوت الرّيب في سائر كتب الله تعالى.

وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله : [حسان بن ثابت]

له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر (١)

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : الآية ٣٦].

وإما للتفاؤل ، وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه كقوله : [محمد بن وهيب الحميري]

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (٢)

وقوله : [أبو العلاء المعري] :

وكالنّار الحياة ؛ فمن رماد

أواخرها ، وأوّلها دخان (٣)

قال السكاكي رحمه الله : وحقّ هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند ، وإلّا لم يحسن ذلك الحسن.

تنبيه : كثير مما في هذا الباب والذي قبله غير مختص بالمسند إليه والمسند ، كالذكر ، والحذف ، وغيرهما مما تقدمت أمثلته ، والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما.

القول في أحوال متعلّقات الفعل

حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل ، فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل ؛ كان غرضك أن تفيد وقوعه منه ، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط ؛ كذلك إذا عدّيته إلى المفعول ؛ كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه ، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط ، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما ، فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه.

أما إذا أريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممّن وقع في نفسه ، أو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لبكر بن النطاح في الإشارات والتنبيهات ص ٧٨.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لمحمد بن وهيب الحميري في الإشارات والتنبيهات ص ٧٩.

(٣) البيت في مفتاح العلوم للسكاكي ص ٣٢٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٧٨.


على من وقع ؛ فالعبارة عنه أن يقال : كان ضرب أو وقع ضرب ؛ أو وجد ، أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد.

وإذا تقرر هذا فنقول : الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين :

الأول : أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك ، وقولنا : «على الإطلاق» أي من غير اعتبار عمومه وخصوصه ، ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه ؛ فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم ، فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهّم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول ، ولا يقدّر أيضا ؛ لأن المقدّر في حكم المذكور.

وهذا الضرب قسمان ؛ لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة ، أو لا.

الثاني : كقوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزّمر : الآية ٩] أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث.

قال السكاكي : ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا ؛ أفاد العموم في أفراد الفعل ، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما نحكم ، ثم جعل قولهم في المبالغة : «فلان يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع» محتملا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي.

وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشهار بشيء من ذلك.

والأول : كقول البحتري يمدح المعتزّ بالله ، ويعرّض بالمستعين بالله :

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ، ويسمع واعي (١)

أي أن يكون ذو رؤية وذو سمع ، يقول : محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر ؛ لكثرتها واشتهارها ، ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع ؛ لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد ، فحساده وأعداؤه يتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها ، كي يخفى استحقاقه للإمامة ، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها ، فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٨١.


رؤية محاسنه وآثاره ، ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره وكقول عمرو بن معديكرب :

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ، ولكن الرماح أجرّت (١)

لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرّماح إجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم ، حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرّته ، وكقول طفيل الغنويّ لبني جعفر بن كلاب :

جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين ، فزلّت (٢)

أبوا أن يملّونا ، ولو أن أمنا

تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت

هم خلطونا بالنفوس ، وألجأوا

إلى حجرات أدفأت وأظلّت

فإن الأصل : لملّتنا ، وأدفأتنا ، وأظلتنا ، إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدلّ على مطلوبه بطريق الكناية.

فإن قلت : لا شك أن قوله ألجأوا أصله ألجأونا فلأيّ معنى حذف المفعول منه؟

قلت : الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار ؛ لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله : «خلطونا».

الضرب الثاني : أن يكون الغرض إفادة تعلّقه بمفعول ، فيجب تقديره بحسب القرائن ، ثم حذفه من اللفظ.

إما للبيان بعد الإبهام ، كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلّقه بمفعوله غرابة ، كقولك : لو شئت جئت أو لم أجىء ، أي لو شئت المجيء أو عدم المجيء ؛ فإنك متى قلت : «لو شئت» علم السامع أنك علقت المشيئة بشيء ، فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلّقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون ، فإذا قلت : «جئت» أو «لم أجىء» عرف ذلك الشيء ، ومنه قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : الآية ١٤٩] ، وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) [الشّورى : الآية ٢٤] ، وقوله تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) [الأنعام : الآية ٣٩].

وقول طرفة : [بن العبد]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ٧٣ ، ولسان العرب (جرر) ، ومقاييس اللغة ١ / ٤١١ ، ومجمل اللغة ١ / ٣٨٩ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٤٧٦ ، وتاج العروس (جرر) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٦ / ١١٤.

(٢) الأبيات من الطويل ، والبيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (شرف).


فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت

مخافة ملويّ من القدّ محصد (١)

وقول البحتري :

لو شئت عدت بلاد نجد عودة

فحللت بين عقيقه وزروده (٢)

وقوله : [البحتري]

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ، ولم تهدم مآثر خالد (٣)

فإن كان في تعليق الفعل به غرابة ذكرت المفعول ؛ لتقرّره في نفس السامع وتؤنسه به ، يقول الرجل يخبر عن عزّه : لو شئت أن أردّ على الأمير رددت ، وإن شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيته ، وعليه قول الشاعر : [إسحاق بن حسان الخريمي]

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ، ولكن ساحة الصبر أوسع (٤)

فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد :

فلم يبق منّي الشوق غير تفكّري

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا (٥)

فليس منه ؛ لأنه لم يرد أن يقول : فلو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، ولكنه أراد أن يقول : أفناني النّحول ، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول ، حتى لو شئت البكا ، فمريت جفوني ، وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ، ولخرج منها بدل الدمع التفكّر ، فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي ، وفي الثاني غير الحقيقيّ ، فالثاني لا يصح لأن يكون تفسيرا للأول.

وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد ، كقول البحتري :

وكم ذدت عني من تحامل حادث

وسورة أيّام حززن إلى العظم (٦)

إذ لو قال : «حززن اللحم» لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحزّ كان في بعض اللحم ، ولم ينته إلى العظم ، فترك ذكر اللحم ؛ ليبرىء السامع من هذا الوهم ، ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يردّه إلا العظم.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ص ٨١٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ص ٨١٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الخريمي ص ٤٣ ، والكامل ٣ / ٢٠٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦٤.

(٥) البيت في التلخيص ص ٣٤.

(٦) البيت في الإشارات والتنبيهات ص ٨٢ ، والتلخيص ص ٣٤.


وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه ؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه ، كقول البحتري أيضا :

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا (١)

أي قد طلبنا لك مثلا في السّؤدد والمجد والمكارم ، فحذف المثل ؛ إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل ، ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله : [غيلان بن عقبة]

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أصاب مالا (٢)

فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو «أمدح» في صريح لفظ «اللئيم» والثاني الذي هو «أرضي» في ضميره ؛ إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون الإرضاء ، ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتريّ قصد المبالغة في التأدّب مع الممدوح ، بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل ، فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده.

وإما للقصد إلى التعميم في المفعول ، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره ، مع الاختصار ، كما تقول : «قد كان منك ما يؤلم» أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كلّ أحد وكلّ إنسان ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : الآية ٢٥] أي يدعو كلّ أحد.

وإما للرعاية على الفاصلة ، كقوله سبحانه وتعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) [الضّحى : الآيات ١ ـ ٣] أي وما قلاك.

وإما لاستهجان ذكره ، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «ما رأيت منه ولا رأى منّي» تعني العورة.

وإما لمجرد الاختصار ، كقولك : «وأضغيت إليه» أي أذني ، و «أغضيت عليه» أي بصري. ومنه قوله تعالى : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : الآية ١٤٣] أي ذاتك ، وقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : الآية ٤١] أي بعثه الله ، وقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ٢٢] أي أنه لا يماثل ، أو ما بينه وبينها من التفاوت ، أو أنها لا تفعل كفعله ، كقوله تعالى : (مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الرّوم : الآية ٤٠] ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم ، أي :

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٨٢.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٥٥١.


وأنتم من أهل العلم والمعرفة ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم ـ من جعل الأصنام لله أندادا ـ غاية الجهل.

ومما عدّ السكاكي الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما) [القصص : الآيتان ٢٣ ، ٢٤] والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر ، وهو ظاهر قول الزمخشري ؛ فإنه قال : ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذّياد وهم على السّقي ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيّهم إبل مثلا؟ وكذلك قولهما : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) [القصص : الآية ٢٣] المقصود منه : السّقي لا المسقيّ.

واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل ، كما في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : الآية ١١٠] ؛ فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء ؛ فلا يقدّر في الكلام محذوف.

وليس بمعناه ، لأن لو كان بمعناه لزم : إما الإشراك ، أو عطف الشيء على نفسه ؛ لأنه إن كان مسمّى الآخر لزم الأول ، وإن كان مسمّاهما واحد لزم الثاني ، وكلاهما باطل ، تعالى كلام الله عز وجل على ذلك.

فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي : سمّوه الله ، أو الرحمن ، أيّا ما تسمّوه فله الأسماء الحسنى ، كما يقال : «فلان يدعى الأمير» أي : يسمّى الأمير.

وكما في قراءة من قرأ : «وقالت اليهود : عزير بن الله» بغير تنوين ، على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين ، كما في قولنا : زيد بن عمرو قائم ؛ فإنه قد يظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة ، كما هو أصله ، فقيل : تقدير الكلام : عزير ابن الله معبودنا. وهذا باطل ، لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد ، لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة ، كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال : زيد بن عمرو سيّد ، ثم كذبته فيه ؛ لم يكن تكذيبك أن يكون زيد بن عمرو ، لكن أن يكون زيد سيدا ، فلو كان التقدير ما ذكر لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم ، وفيه تقدير أن عزيرا ابن الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ فالقول في الآية بمعنى الذّكر ، لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشّرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيرا هذا


الذّكر ، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلوّ في أمر صاحبهم وتعظيمه. إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما ؛ فهم يقولون أبدا : زيد الأمير ، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم له إذا ذكروه.

واعلم أن لحذف التنوين من عزير في الآية وجهين :

أحدهما : أن يكون لمنعه من الصّرف لعجمته وتعريفه ، كعازر.

والثاني : أن يكون لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الإخلاص : الآيتان ١ ، ٢] بحذف التنوين من «أحد» وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : الآية ٤٠] بحذف التنوين من «سابق» ونصب «النهار» فقيل له : وما تريد؟ فقال : سابق النهار.

فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين ؛ فـ «عزير» مبتدأ و «ابن الله» خبره ، و «قال» على أصله ، والله أعلم.

وأما تقديم مفعوله ونحوه عليه فلردّ الخطأ في التعيين ، كقولك : «زيدا عرفت» لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا وأنه غير زيد ، وأصاب في الأول دون الثاني ، وتقول لتأكيده وتقريره : «زيدا عرفت لا غيره» ولذلك لا يصح أن يقال : «ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس» لتناقض دلالتي الأول والثاني ، ولا أن تعقب الفعل المنفيّ بإثبات ضدّه ، كقولك : «ما زيدا ضربت ولكن أكرمته» لأن مبنى الكلام ليس على الخطأ في الضرب ، فترده إلى الصواب في الإكرام ، وإنما هو على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه زيد ، فردّه إلى الصواب أن تقول : «ولكن عمرا».

وأما نحو قولك : «زيدا عرفته» فإن قدّر المفسّر المحذوف قبل المنصوب أي : عرفت زيدا عرفته ؛ فهو من باب التوكيد ، أعني تكرير اللفظ ؛ وإن قدّر بعده ، أي : زيدا عرفت عرفته ؛ أفاد التخصيص.

وأما نحو قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصّلت : الآية ١٧] فيمن قرأ بالنصب فلا يفيد إلا التخصيص ؛ لامتناع تقدير : أما فهدينا ثمود.

وكذلك إذا قلت : «بزيد مررت» أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد ، فأزلت عنه الخطأ مخصصا مرورك بزيد دون غيره.

والتخصيص في غالب الأمر لازم للتقديم ، ولذلك يقال في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة : الآية ٥] : معناه نخصّك بالعبادة ، لا نعبد غيرك ونخصّك بالاستعانة ، لا نستعين غيرك.


وفي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : الآية ١٧٢] معناه : إن كنتم تخصونه بالعبادة.

وفي قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : الآية ١٤٣] أخّرت صلة الشهادة في الأول ، وقدّمت في الثاني ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

وفي قوله تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : الآية ١٥٨] معناه : إليه لا إلى غيره.

وفي قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النّساء : الآية ٧٩] معناه : لجميع الناس من العرب والعجم ـ على أن التعريف للاستغراق ـ لا لبعضهم المعيّن ـ على أنه للعهد ـ أي للعرب ، ولا لمسمّى الناس ـ على أنه للجنس ـ لئلا يلزم من الأول اختصاصه بالعرب دون العجم ، لانحصار الناس في الصّنفين ، ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجنّ ؛ لانحصار من يتصوّر الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك ؛ لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدّم ، ونفيه عما يقابله ؛ كان تقديم «للناس» على «رسولا» مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة ؛ لأنه هو المقابل لجميع الناس ، لا لبعضهم مطلقا ، ولا غير جنس الناس.

وكذلك يذهب في معنى قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : الآية ٤] إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب ـ فيما يقولون : إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وإنه لا تمسّهم النار فيها إلا أياما معدودات ، وإن أهل الجنة فيها لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ـ ليست بالآخرة ، وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء ، أي : بالآخرة يوقنون ، لا بغيرها كأهل الكتاب.

ويفيد التقديم في جميع ذلك وراء التخصيص اهتماما بشأن المقدّم ، ولهذا قدّر المحذوف في قوله : (بِسْمِ اللهِ) مؤخّرا وأورد قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق :

الآية ١] فإن الفعل فيه مقدم ، وأجيب بأن تقديم الفعل هناك أهمّ ؛ لأنها أول سورة نزلت ، وأجاب السكاكي بأن (بِاسْمِ رَبِّكَ) [الواقعة : الآية ٧٤] متعلق بـ «اقرأ» الثاني ، ومعنى الأول : افعل القراءة وأوجدها ، على نحو ما تقدم في قولهم «فلان يعطي ويمنع» يعني إذا لم يحمل على العموم ، وهو بعيد.

وأما تقديم بعض معمولاته على بعض ، فهو إما لأن أصله التقديم ولا مقتضي للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، نحو : «ضرب زيد عمروا» وتقديم المفعول


الأول على الثاني ، نحو «أعطيت زيدا درهما».

وإما لأن ذكره أهمّ ، والعناية به أتم ، فيقدّم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه ، لا وقوعه ممن وقع منه ، كما إذا خرج رجل على السلطان ، وعاث في البلاد ، وكثر منه الأذى ، فقتل ، وأردت أن تخبر بقتله ، فتقول : «قتل الخارجيّ فلان» بتقديم «الخارجي» ؛ إذ ليس للناس فائدة في أن يعرفوا قاتله ، وإنما الذي يريدون علمه ؛ هو وقوع القتل به ، ليخلصوا من شرّه.

ويقدّم الفاعل على المفعول إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه لا وقوعه على من وقع عليه ، كما إذا كان رجل ليس له بأس ، ولا يقدّر فيه أن يقتل ، فقتل رجلا ، وأردت أن تخبر بذلك ، فتقول : «قتل فلان رجلا» بتقديم القاتل ؛ لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن ، ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه ، بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه.

وعليه قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام : الآية ١٥١] ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء : الآية ٣١] قدّم المخاطبين في الأولى دون الثانية ؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء ؛ بدليل قوله تعالى : (مِنْ إِمْلاقٍ) فكان رزقهم أهمّ عندهم من رزق أولادهم ؛ فقدّم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم ، والخطاب في الثانية للأغنياء ؛ بدليل قوله : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع ، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم ، لأنه حاصل ؛ فكان أهم ؛ فقدّم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم.

وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى ، كقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : الآية ٢٨] فإنه لو أخّر (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : الآية ٤٩] عن (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : الآية ٢٨] لتوهم أن «من» متعلقة بـ «يكتم» فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون.

أو بالتناسب ، كرعاية الفاصلة ، نحو (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) [طه : الآية ٦٧].

وإما لاعتبار آخر مناسب.

وقسم السكاكي التقديم للعناية ـ مطلقا ـ قسمين :

أحدهما : أن يكون أصل ما قدّم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه ، كالمبتدأ المعرّف ؛ فإن أصله التقديم على الخبر ، نحو «زيد عارف» وكذي الحال المعرّف ،


فإن أصله التقديم على الحال ، نحو «جاء زيد راكبا» وكالعامل فإن أصله التقديم على معموله ، نحو «عرف زيد عمرا ، وكان زيد عارفا ، وإن زيدا عارف» وكالفاعل ، فإن أصله التقديم على المفعولات وما يشبهها من الحال والتمييز ، نحو «ضرب زيد الجاني بالسوط ، يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا ، تأديبا له ، ممتلئا من الغضب» ، «وامتلأ الإناء ماء» وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب «علمت» نحو «علمت زيدا منطلقا» أو في حكم الفاعل من مفعولي باب «أعطيت» و «كسوت» نحو «أعطيت زيدا درهما ، وكسوت عمرا جبّة» وكالمفعول المتعدّى إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدّى إليه بواسطة ، نحو «ضربت الجاني بالسّوط» وكالتوابع ، فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات.

وثانيهما : أن تكون العناية بتقديمه ، والاعتناء بشأنه ؛ لكونه في نفسه نصب عينك ، والتفات خاطرك إليه في التزايد ، كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك ، وقيل لك : ما تتمنى؟

تقول : وجه الحبيب أتمنى ، وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الأنعام : الآية ١٠٠] أي على القول بأن «لله شركاء» مفعولا «جعلوا».

أو لعارض يورثه ذلك ، كما إذا توهّمت أن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ، ينتظر أن تذكره ، فيبرز في معرض أمر يتجدّد في شأنه التقاضي ساعة فساعة ، فمتى تجد له مجالا للذكر صالحا أوردته ، نحو قوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) [يس : الآية ٢٠] قدّم فيه المجرور لاشتمال ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل من إصرارهم على تكذيبهم ، فكان مظنّة أن يلعن السامع ـ على مجرى العادة ـ تلك القرية ، ويبقى مجيلا في فكره : أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر ـ دان أم قاص ـ منبت خير؟ منتظرا لإلمام الحديث به ، بخلاف ما في سورة القصص.

أو كما إذا وعدت ما تبعد وقوعه من جهتين ، إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى ، فإنك ـ حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما ـ تجد تفاوتا في إنكارك إياه قوة وضعفا بالنسبة ؛ ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره ، فالبلاغة توجب أنك ـ إذا أنكرت ـ تتمول في الأول : شيء حاله في البعد عن الوقوع هذه ؛ أنى يكون؟! لقد وعدت هذا أنا وأبي وجدّي ، فتقدّم المنكر على المرفوع ، وفي الثاني : لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا ، فتؤخّر.

وعليه قوله تعالى في سورة النمل : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا) [النّمل : الآية ٦٨] ، وقوله تعالى في سورة المؤمنين : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) [المؤمنون : الآية ٨٣] ، فإن ما قبل الأولى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [النّمل : الآية ٦٧] ، وما قبل الثانية : (أَإِذا


مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : الآية ٨٢] فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابا ، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ، ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث.

أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا ، كما في قوله تعالى في سورة المؤمنين : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ) [المؤمنون : الآية ٣٣] بتقديم المجرور على الوصف ؛ لأنه لو أخّر عنه ـ وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول ، وتمامه : (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [المؤمنون : الآية ٣٣] ـ لاحتمل أن يكون من صلة «الدنيا» واشتبه الأمر في القائلين ؛ أنهم من قومه أم لا ، بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [المؤمنون : الآية ٢٤] فإنه جاء على الأصل بعدم المانع ، وكما في قوله تعالى في سورة طه : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : الآية ٧٠] للمحافظة على الفاصلة ، بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) [الشّعراء : الآية ٤٨].

وفيما ذكره نظر من وجوه :

أحدها : أنه جعل تقديم «لله» على «شركاء» للعناية والاهتمام ، وليس كذلك ؛ فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي ؛ فيمتنع أن يكون تعلق «جعلوا» بـ «الله» منكرا من غير اعتبار تعلقه بـ «شركاء» إذ لا ينكر أن يكون جعل ما متعلقا به ، فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بـ «شركاء» وتعلّقه بـ «شركاء» كذلك منكر باعتبار تعلّقه بـ «الله» فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها.

وقد علم بهذا أن كل فعل متعدّ إلى مفعولين ، لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر ؛ إذا قدّم أحدهما على الآخر ؛ لم يصح تعليل تقديمه بالعناية.

وثانيها : أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني ، وليسا منه.

وثالثها : أن تعلّق «من قومه» بـ «الدنيا» على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد.

القول في القصر

القصر حقيقيّ وغير حقيقيّ ، وكل واحد منهما ضربان : قصر الموصوف على الصفة ، وقصر الصفة على الموصوف ، والمراد الصفة المعنوية لا النعت.


والأول من الحقيقي كقولك : «ما زيد إلا كاتب» إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة ، وهذا لا يكاد يوجد في الكلام ، لأنه ما من متصوّر إلا وتكون له صفات تتعذّر الإحاطة بها أو تتعسّر.

والثاني منه كثير ، كقولنا : «ما في الدار إلا زيد».

والفرق بينهما ظاهر ، فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة ، وفي الثاني يمتنع.

وقد يقصد به المبالغة ؛ لعدم الاعتداد بغير المذكور ، فينزّل منزلة المعدوم.

والأول من غير الحقيقي : تخصيص أمر بصفة دون أخرى ، أو مكان أخرى.

والثاني منه : تخصيص صفة بأمر دون آخر أو مكان آخر ، فكل واحد منهما ضربان.

والمخاطب بالأول من ضربي كلّ ـ أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى ، وتخصيص صفة بأمر دون آخر ـ من يعتقد الشركة ، أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة وغيرها جميعا في الأول ، واتصاف ذلك الأمر وغيره جميعا بتلك الصفة في الثاني.

فالمخاطب بقولنا : «ما زيد إلا كاتب» من يعتقد أن زيدا كاتب وشاعر ، وبقولنا : «ما شاعر إلا زيد» من يعتقد أن زيدا شاعر ، لكن يدّعي أن عمرا أيضا شاعر ، وهذا يسمى قصر إفراد ، لقطعه الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف ، أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة.

والمخاطب بالثاني من ضربي كل ـ أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى وتخصيص صفة بأمر مكان آخر ـ إما من يعتقد العكس ، أي اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضا عنها في الأول ، واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضا عنه في الثاني ، وهذا يسمى قصر قلب ، لقلبه حكم السامع.

وإما من تساوى الأمران عنده ، أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول ، واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني ، وهذا يسمى تعيين.

فالمخاطب بقولنا : «ما زيد إلا قائم» من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم ، أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعينه؟ وبقولنا : «ما قائم إلا زيد» من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا ، أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما ، لكن لا يعلم من هو منهما بعينه؟


وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافي الصفتين ؛ حتى تكون المنفية في قولنا : «ما زيد إلا شاعر» كونه كاتبا ، أو منجّما ، أو نحو ذلك ، لا كونه مفحما لا يقول الشعر ؛ ليتصوّر اعتقاد المخاطب اجتماعهما.

وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما ؛ حتى تكون المنفية في قولنا : «ما زيد إلا قائم» كونه قاعدا ، أو جالسا ، أو نحو ذلك ، لا كونه أسود ، أو أبيض ، أو نحو ذلك ؛ ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها.

وقصر التعيين أعمّ ، لأن اعتقاد كون الشيء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق ، لا يقتضي جواز اتصافه بهما معا ، ولا امتناعه.

وبهذا علم أن كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد ، أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين ، من غير عكس.

وقد أهمل السكاكي القصر الحقيقي ، وأدخل قصر التعيين في قصر الإفراد ، فلم يشترط في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الصفتين ، ولا في قصره قلبا تحقق تنافيهما.

وللقصر طرق :

منها : العطف ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «زيد شاعر لا كاتب» أو «ما زيد كاتبا بل شاعر» وقلبا : «زيد قائم لا قاعد» أو «ما زيد قاعدا بل قائم» وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام : «زيد قائم لا عمرو» أو «ما عمرو قائما بل زيد».

ومنها : النفي والاستثناء ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «ما زيد إلا شاعر» وقلبا : «ما زيد إلا قائم» وتعيينا كقوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) [يس : الآية ١٥] أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدّعي إذا ادّعى ، بل أنتم عندنا كاذبون فيها ، وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين : «ما قائم ـ أو ما من قائم ، أو لا قائم ـ إلا زيد».

وتحقيق وجه القصر في الأول أنه متى قيل : «ما زيد» توجّه النفي إلى صفته لا ذاته ؛ لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها ، وإنما تنفى صفاتها كما بيّن ذلك في غير هذا العلم ، وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك ، وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا ؛ تناولهما النفي ، فإذا قيل «إلا شاعر» جاء القصر.

وفي الثاني أنه متى قيل : «ما شاعر» فأدخل النفي على الوصف المسلّم ثبوته ـ أعني الشعر ـ لغير من الكلام فيهما ، كزيد وعمر مثلا ؛ توجّه النفي إليهما ، فإذا قيل : «إلا زيد» جاء القصر.


ومنها : «إنما» كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا ، «إنما زيد كاتب» وقلبا «إنما زيد قائم» وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين : «إنما قائم زيد».

والدليل على أنها تفيد القصر كونها متضمنة معنى «ما» و «إلّا».

لقول المفسرين في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : الآية ١٧٣] بالنصب : معناه «ما حرّم عليكم إلا الميتة» وهو المطابق لقراءة الرفع ؛ لما مر في باب «المنطلق زيد».

ولقول النحاة : «إنما» لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه.

ولصحة انفصال الضمير معها ، كقولك : «إنما يضرب أنا» كما تقول : «ما يضرب إلا أنا».

قال الفرزدق :

أنا الذّائد الحامي الذّمار ، وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (١)

وقال عمرو بن معد يكرب :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنا (٢)

قال السكاكي : ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الرّبعي (٣) ، وهو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٥٣ ، وتذكرة النحاة ص ٨٥ ، والجنى الداني ص ٣٩٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٥ ، والدرر ١ / ١٩٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٨ ، ولسان العرب (قلا) ، والمحتسب ٢ / ١٩٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٧٧ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٤٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١١١ ، وأوضح المسالك ١ / ٩٥ ، ولسان العرب (أنن) ، وهمع الهوامع ١ / ٦٢ ، وتاج العروس (ما).

(٢) البيت من السريع ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٦٧ ، والأغاني ١٥ / ١٦٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٩٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٤١١ ، والكتاب ٢ / ٣٥٣ ، وله أو للفرزدق في شرح شواهد المغني ٢ / ٧١٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٤٣ ، وتخليص الشواهد ص ١٨٤ ، وشرح المفصل ٣ / ١٠١ ، ١٠٣ ، ولسان العرب (قطر) ، ومغني اللبيب ١ / ٣٠٩.

(٣) الربعي : هو علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي ، أبو الحسن الزهيري الأصل البغدادي المنشأ والدار ، الأديب النحوي ، ولد سنة ٣٢٨ ه‍ ، وتوفي سنة ٤٢٠ ه‍. له من المصنفات : البديع في النحو ، شرح الإيضاح ، لأبي علي الفارسي في النحو ، شرح مختصر الجرمي ، شرح البلغة ، كتاب التنبيه على خطأ ابن جني في تفسير شعر المتنبي ، كتاب ما جاء من المبني على فعال. (كشف الظنون ٥ / ٦٨٦).


أنه لما كانت كلمة «إنّ» لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ، ثم اتصلت بها «ما» المؤكدة ـ لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ـ ناسب أن يضمن معنى القصر ؛ لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد ؛ فإن قولك : «زيد جاء لا عمر» ـ لمن يردّد المجيء الواقع بينهما ـ يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا ، وفي الآخر ضمنا.

ومنها : التقديم ، كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا : «شاعر هو» لمن يعتقده شاعرا وكاتبا ، وقلبا «قائم هو» لمن يعتقده قاعدا ، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى وحدي ـ لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمّه ، وقلبا : «أنا كفيت مهمّك» ـ بمعنى لا غيري ـ لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمة دونك ، كما تقدم.

وهذه الطرق تختلف من وجوه :

الأول : أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع.

الثاني : أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفيّ جميعا بالنص ؛ فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار ، كما إذا قيل : «زيد يعلم النحو ، والتصريف ، والعروض ، والقوافي» أو «زيد يعلم النحو ، وعمرو ، وبكر ، وخالد» فتقول فيهما : «زيد يعلم النحو لا غير» وفي معناه «ليس إلا» أي لا غير النحو ، ولا غير زيد ، وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفيّ.

الثالث : أن النفي لا يجامع الثاني ؛ لأن شرط المنفي بـ «لا» أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ، ويجامع الآخرين ، فيقال : «إنما زيد كاتب لا شاعر» و «هو يأتيني لا عمرو» ولأن النفي فيهما غير مصرّح به ، كما يقال : «امتنع زيد عن المجيء لا عمرو».

قال السكاكي : شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف كقوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : الآية ٣٦] فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع ، وكذا قولهم : «إنما يعجّل من يخشى الفوت».

قال الشيخ عبد القاهر : لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص ، وهذا أقرب.

قيل : ومجامعته له إما مع التقديم ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) [الغاشية : الآيتان ٢١ ، ٢٢] ، وإما مع التأخير كقولك : «ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو» وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر.

الرابع : أن أصل الثاني أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره ، كقولك


لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد : «ما هو إلا زيد» إذا وجدته يعتقده غير زيد ، ويصر على الإنكار ، وعليه قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : الآية ٦٢].

وقد ينزّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب ، فيستعمل له الثاني.

إفرادا نحو (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : الآية ١٤٤] أي أنه صلّى الله عليه وسلّم مقصور على الرسالة لا يتعدّاها إلى التبري من الهلاك ، نزّل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه ، ونحوه (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) [فاطر : الآيتان ٢٢ ، ٢٣] فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين عن الإيمان ، ولا يرجع عنها ، فكان في معرض من ظنّ أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إيّاه.

أو قلبا ؛ كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : الآية ١٠] أي أنتم بشر لا رسل ، نزّلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر ، لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة ، وأما قوله تعالى حكاية عن الرسل : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : الآية ١١] فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام ؛ فإن من عادة من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه ، كما إذا قال لك من يناظرك : «أنت من شأنك كيت وكيت» فتقول : «نعم أنا من شأني كيت وكيت ، ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم» فالرسل عليهم السّلام كأنهم قالوا : إن ما قلتم من أنّا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره ، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد منّ علينا بالرسالة.

وأصل الثالث أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره ، على عكس الثاني ، كقولك : «إنما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم» لمن يعلم ذلك ويقرّ به ، وتريد أن ترقّقه عليه ، وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب ، وعليه قول أبي الطيب :

إنما أنت والد ، والأب القا

طع أحنى من واصل الأولاد (١)

لم يرد أن يعلم كافورا أنه بمنزلة الوالد ، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام. ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ؛ ليبني عليه استدعاء ما يوجبه.

وقد ينزّل المجهول منزلة المعلوم ؛ لادعاء المتكلم ظهوره ؛ فيستعمل له الثالث ،

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٦.


نحو (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : الآية ١١] ادّعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جليّ ، ولذلك جاء : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : الآية ١٢] للرد عليهم مؤكدا بما ترى : من جعل الجملة اسمية ، وتعريف الخبر باللام ، وتوسيط الفصل ، والتصدير بحرف التنبيه ، ثم بـ «إنّ» ومثله قول الشاعر :

إنّما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظّلماء (١)

ادّعى أن كون مصعب كما ذكر جليّ معلوم لكل أحد ، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدّعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء ، وأنهم قد شهروا به حتى إنه لا يدفعه أحد ، كما قال الآخر : [الحطيئة]

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلّا بالتي علمت سعد (٢)

وكما قال البحتري :

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة

حتّى يسلّمها إليه عداه (٣)

واعلم أن لطريق «إنما» مزيّة على طريق العطف ، وهي أنه يعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة ، بخلاف العطف ، وإذا استقريت وجدتها أحسن ما تكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : الآية ١٩] فإنه تعريض بذمّ الكفار ، وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل ، فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا ، كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النّازعات : الآية ٤٥] وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : الآية ١٨] المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له أذن تسمع ، وقلب يعقل ، فالإنذار معه كلا إنذار.

قال الشيخ عبد القاهر : ومثال ذلك من الشعر قوله : [العباس بن الأحنف]

أنا لم أرزق محبّتها

إنّما للعبد ما رزقا (٤)

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في مصعب بن الزبير بن العوام. والبيت في مفتاح العلوم ص ١٢٨ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٥٥ ، والعقد الفريد (١ / ٢٤) ، والكامل للمبرد (١ / ٣٩٩).

(٢) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٤١.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في الدلائل ص ٢٥٥ و٣٧٦ ، والمفتاح ص ١٢٨.

(٤) من الرجز ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٢٧٢.


فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها ، فيئس من أن يكون منها إسعاف به ، وقوله :

وإنما يعذر العشاق من عشقا (١)

يقول : ينبغي للعاشق أن لا ينكر لوم من يلومه ؛ فإنه لا يعلم كنه بلوى العاشق ، ولو كان قد ابتلي بالعشق مثله لعرف ما هو فيه ؛ فعذره ، وقوله :

ما أنت بالسّبب الضعيف ، وإنما

نجح الأمور بقوّة الأسباب (٢)

فاليوم حاجتنا إليك ، وإنما

يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

يقول في البيت الأول : إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه ، وفي الثاني : إنا قد طلبنا الأمر من جهته حين استعنّا بك فيما عرض لنا من الحاجة ، وعوّلنا على فضلك ، كما أن من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السقم ؛ كان قد أصاب في فعله.

ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرنا يقع بين الفعل والفاعل وغيرهما ؛ ففي طريق النفي والاستثناء يؤخّر المقصور عليه مع حرف الاستثناء ، كقولك في قصر الفاعل على المفعول إفرادا أو قلبا بحسب المقام : «ما ضرب زيد عمرا» وعلى الثاني لا الأول قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : الآية ١١٧] لأنه ليس المعنى «إني لم أزد على ما أمرتني به شيئا» إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئا على ذلك أو نقص منه ، ولكن المعنى «إني لم أترك ما أمرتني به أن أقوله لهم إلى خلافه» لأنه قال في مقام اشتمل على معنى «إنك يا عيسى تركت ما أمرتك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقوله ؛ فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ، ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري» ، بدليل قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : الآية ١١٦].

وفي قصر المفعول على الفاعل : «ما ضرب عمرا إلا زيد» وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحو «كسوت» و «ظننت» : «ما كسوت زيدا إلا جبّة ، وما ظننت زيدا إلا منطلقا» وفي قصر الثاني على الأول : «ما كسوت جبّة إلا زيدا ، وما ظننت منطلقا إلا زيدا» وفي قصر ذي الحال على الحال «ما جاء زيد إلا راكبا» وفي قصر الحال على ذي

__________________

(١) وهذا أيضا للعباس بن الأحنف.

(٢) البيتان من الكامل ، وهما لأحمد بن أبي دؤاد أو الباخرزي أو محمد بن أحمد بن سليمان كما في معجم الشعراء ص ٤٤٧ ، والتبيان في الدلائل صفحة ٢٧٣.


الحال «ما جاء راكبا إلا زيد».

والوجه في جميع ذلك أن النفي في الكلام الناقص ـ أعني الاستثناء المفرّغ ـ يتوجّه إلى مقدّر هو مستثنى منه عام مناسب للمستثنى في جنسه وصفته.

أما توجهه إلى مقدّر هو مستثنى منه فلكون «إلّا» للإخراج ، واستدعاء الإخراج مخرجا منه.

وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه ، ولذلك قيل : تأنيث المضمر في «كانت» على قراءة أبي جعفر المدني : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) [يس : الآية ٢٩] بالرفع وفي «ترى» مبنيا للمفعول في قراءة الحسن : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : الآية ٢٥] برفع «مساكنهم» وفي «بقيت» في بيت ذي الرّمّة :

فما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع (١)

للنظر إلى ظاهر اللفظ ، والأصل التذكير ؛ لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء.

وأما مناسبته في جنسه وصفته فظاهرة ؛ لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو «ما ضرب زيد إلّا عمرا» «أحدا» وفي نحو قولنا : «ما كسوت زيدا إلا جبّة» «لباسا» وفي نحو «ما جاء زيد إلا راكبا» كائنا على حال من الأحوال ، وفي نحو «ما اخترت رفيقا إلا منكم» «من جماعة من الجماعات» ومنه قول السيد الحميري : [إسماعيل بن محمد]

لو خيّر المنبر فرسانه

ما اختار إلّا منكم فارسا (٢)

لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله «ما اختار فارسا إلا منكم».

والمراد بصفته كونه فاعلا أو مفعولا ، أو ذا حال ، أو حالا ، وعلى هذا القياس إذا كان النفي متوجها إلى ما وصفناه فإذا أوجب منه شيء جاء القصر.

ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما على المقصور ، كقولك : «ما ضرب إلّا عمرا زيد ، وما ضرب إلّا زيد عمرا ، وما كسوت إلّا جبّة زيدا ، وما ظننت إلّا زيدا منطلقا ، وما جاء إلّا راكبا زيد ، وما جاء راكبا».

__________________

(١) صدر البيت :

طوى النحز والإجراز ما في غروضها

والبيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٢٩٦ ، وتخليص الشواهد ص ٤٨٢ ، وتذكرة النحاة ص ١١٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٧ ، والمحتسب ٢ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٧٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ١٧٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٤٣.

(٢) البيت من السريع ، وهو في مفتاح العلوم للسكاكي ص ١٣٠.


وقولنا : «بحالهما» احتراز من إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه ، كقولك في الأول : «ما ضرب عمرا إلا زيد» فإنه يختلّ المعنى ؛ فالضابط أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي «إلا».

ولكن استعمال هذا النوع ـ أعني تقديمها ـ قليل ؛ لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها ، كالضرب الصادر من زيد في «ما ضرب زيد إلا عمرا» والضرب الواقع على عمرو في «ما ضرب عمرا إلا زيد».

وقيل : إذا أخّر المقصور عليه والمقصور عن «إلا» وقدّم المرفوع ، كقولنا : «ما ضرب إلا عمرو زيدا» فهو على كلامين ، و «زيدا» منصوب بفعل مضمر ، فكأنه قيل : «ما ضرب إلا عمرو» أي ما وقع ضرب إلا منه ، ثم قيل : «من ضرب؟» فقيل : «زيدا» أي ضرب زيدا.

وفيه نظر ؛ لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعا.

وأما في «إنما» فيؤخّر المقصور عليه ، تقول : «إنما زيد قائم» ، و «إنما ضرب زيد» و «إنما ضرب زيد عمرا» و «إنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة» و «إنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السّوق» أي : ما زيد إلا قائم ، وما ضرب إلا زيد ، وما ضرب زيد إلا عمرا ، وما ضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة ، وما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السّوق ، فالواقع أخيرا هو المقصور عليه أبدا ؛ ولذلك تقول : «إنّما هذا لك ، وإنّما لك هذا» أي : ما هذا إلّا لك ، وما لك إلّا هذا ، حتى إذا أردت الجمع بين «إنما» والعطف فقل : «إنّما هذا لك ، لا لغيرك» و «إنما لك هذا ، لا ذاك» و «إنما أخذ زيد ، لا عمرو» و «إنما زيد يأخذ ، لا يعطي» ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : الآية ٢٨] وقولنا : «إنما يخشى العلماء من عباد الله الله» فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء ، والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله.

واعلم أن حكم «غير» حكم «إلّا» في إفادة القصرين ـ أي قصر الموصوف على الصفة ، وقصر الصفة على الموصوف ـ وفي امتناع مجامعة «لا» العاطفة ، تقول في قصر الموصوف إفرادا : «ما زيد غير شاعر» وقلبا : «ما زيد غير قائم» وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام «لا شاعر غير زيد» ولا تقول «ما زيد غير شاعر لا كاتب» ولا «لا شاعر غير زيد لا عمرو».


القول في الإنشاء

الإنشاء ضربان : طلب ، وغير طلب.

والطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب ؛ لامتناع تحصيل الحاصل ، وهو المقصود بالنظر هاهنا.

وأنواعه كثيرة ، منها التمنّي ، واللفظ الموضوع له «ليت». ولا يشترط في التمني الإمكان ، تقول : ليت زيدا يجيء ، وليت الشباب يعود ، قال الشاعر : [العجاج]

يا ليت أيام الصّبا رواجعا (١)

وقد يتمنى بـ «هل» كقول القائل : «هل لي من شفيع؟» في مكان يعلم أنه لا شفيع له ، لإبراز المتمنّى ـ لكمال العناية به ـ في صورة الممكن ، وعلى قوله حكاية عن الكفار : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف : الآية ٥٣]؟.

وقد يتمنى بـ «لو» كقولك : «لو تأتيني فتحدّثني» بالنصب.

قال السّكاكي : وكأن حروف التّنديم والتحضيض ـ وهي : «هلّا» و «ألّا» بقلب الهاء همزة و «لولا» و «لوما» ـ مأخوذة منهما مركبتين مع «لا» و «ما» المزيدتين ؛ لتضمينهما معنى التمني ؛ ليتولّد منه في الماضي التنديم نحو «هلّا أكرمت زيدا» وفي المضارع التحضيض ، نحو «هلّا تقوم».

وقد يتمنّى بـ «لعلّ» فتعطى حكم «ليت» نحو «لعلّي أحجّ فأزورك» بالنصب ، لبعد المرجوّ عن الحصول ، وعليه قراءة عاصم في رواية حفص : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : الآيتان : ٣٦ ، ٣٧] بالنصب.

ومنها الاستفهام ، والألفاظ الموضوعة له : الهمزة ، و «هل» و «ما» ، و «من» و «أي» و «كم» و «كيف» و «أين» و «أنّى» و «متى» و «أيّان».

فالهمزة لطلب التصديق ، كقولك : «أقام زيد؟» و «أزيد قائم» أو التصوّر ، كقولك :

__________________

(١) الرجز لرؤبة في شرح المفصل ١ / ١٠٤ ، وليس في ديوانه ، وللعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٠ ، وتاج العروس (ليت) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٢٦٢ ، والجنى الداني ص ٤٩٢ ، وجواهر الأدب ص ٣٥٨ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، والدرر ٢ / ١٧٠ ، ورصف المباني ص ٢٩٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٣٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٣٤ ، وشرح المفصل ١ / ١٠٤ ، والكتاب ٢ / ١٤٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٨٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٤ ، ولسان العرب (ليت).


«أدبس في الإناء أم عسل؟» و «أفي الخابية دبسك أم في الزّقّ» ولهذا لم يقبح «أزيد قائم؟» و «أعمرا عرفت؟».

والمسؤول عنه بها هو ما يليها ؛ فتقول : «أضربت زيدا؟» إذا كان الشّكّ في الفعل نفسه ، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده ، وتقول : «أأنت ضربت زيدا؟» إذا كان الشكّ في الفاعل : من هو؟ وتقول : «أزيدا ضربت؟» إذا كان الشكّ في المفعول : من هو؟.

و «هل» لطلب التصديق فحسب ، كقولك : «هل قام زيد؟» و «هل عمرو قاعد؟» وهذا امتنع : «هل زيد قام أم عمرو؟» وقبح : «هل زيدا ضربت؟» لما سبق أنّ التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل ، والشكّ فيما قدّم عليه ، ولم يقبح : «هل زيدا ضربته؟» لجواز تقدير المحذوف المفسّر مقدّما كما مرّ.

وجعل السكاكيّ قبح نحو «هل رجل عرف؟» لذلك ، أي لما قبح له «هل زيدا ضربت؟» ويلزمه أن لا يقبح نحو «هل زيد عرف؟» لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق.

وعلّل غيره القبح فيهما بأن أصل «هل» أن تكون بمعنى «قد» إلّا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام.

و «هل» تخصّص المضارع بالاستقبال ، فلا يصح أن يقال : «هل تضرب زيدا وهو أخوك» كما تقول : «أتضرب زيدا وهو أخوك؟» ولهذين ـ أعني اختصاصها بالتصديق ، وتخصيصها المضارع بالاستقبال ـ كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيّا أظهر ، كالفعل.

أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلأن الفعل لا يكون إلا صفة والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء ، والنفي والإثبات إنما يتوجّهان إلى الصفات لا الذوات ؛ ولهذا كان قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء : الآية ٨٠] أدلّ على طلب الشكر من قولنا : «فهل تشكرون؟» وقولنا : «فهل أنتم تشكرون» لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدلّ على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله ، وكذا من قولنا : «أفأنتم شاكرون؟» وإن كان صيغته للثبوت ، لأن «هل» أدعى للفعل من الهمزة ، فتركه معه أدلّ على كمال العناية بحصوله ، ولهذا لا يحسن «هل زيد منطلق؟» إلا من البليغ.

وهي قسمان : بسيطة ، وهي التي يطلب بها وجود الشيء ، كقولنا : «هل الحركة موجودة؟» ومركّبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء ، كقولنا : «هل الحركة دائمة؟».

والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط ...


أما «ما» فقيل : يطلب به إما شرح الاسم ، كقولنا : «ما العنقاء؟» وإما ماهيّة المسمّى ، كقولنا : «ما الحركة؟» والقسم الأول يتقدم على قسمي «هل» جميعا ، والثاني يتقدم على «هل» المركبة دون البسيطة ، فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي «ما».

وقال السكاكي : يسأل بـ «ما» عن الجنس ، تقول : «ما عندك» أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه : إنسان ، أو فرس ، أو كتاب ، أو نحو ذلك ، وكذلك تقول : «ما الكلمة؟ وما الكلام؟» وفي التنزيل : (فَما خَطْبُكُمْ) [الحجر : الآية ٥٧]؟ أي : أيّ أجناس الخطوب خطبكم ، وفيه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [البقرة : الآية ١٣٣] أي : أيّ من في الوجود تؤثرونه للعبادة؟.

أو عن الوصف ، تقول : «ما زيد؟ وما عمرو؟» وجوابه : الكريم ، أو الفاضل ، ونحوهما.

وسؤال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : الآية ٢٣]؟ إما عن الجنس ؛ لاعتقاده ـ لجهله بالله تعالى ـ أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام ، كأنه قال : أيّ أجناس الأجسام هو؟ ، وعلى هذا جواب موسى عليه السّلام بالوصف ؛ للتنبيه على النظر المؤدّي إلى معرفته ، لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجّب الجهلة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشّعراء : الآية ٢٥]؟ ثم لما وجده مصرّا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية : (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) [الشّعراء : الآية ٢٦] ؛ استهزأ به وجنّنه ، بقوله : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) [الشّعراء : الآية ٢٧] وحين رآهم موسى عليه السّلام لم يفطنوا لذلك في المرّتين غلّظ عليهم في الثالثة بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران : الآية ١١٨]. وإما عن الوصف طمعا في أن يسلك موسى عليه السّلام في الجواب معه مسلك الحاضرين لو كانوا هم المسؤولين مكانه ؛ لشهرته بينهم بربّ العالمين ، إلى درجة دعت السّحرة إذ عرفوا الحق أن أعقبوا قولهم : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : الآية ٤٧] قولهم : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) [الشّعراء : الآية ٤٨] نفيا لاتّهامهم أن عنوه ، جهله بحال موسى إذ لم يكن جمعهما قبل ذلك مجلس ، بدليل (أنه) قال : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [الشّعراء : الآية ٣٠](قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١) [الشّعراء : الآية ٣١] فحين سمع الجواب تعدّاه وتعجب واستهزأ ، وجنّن ، وتفيهق بما تفيهق من قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشّعراء : الآية ٢٩].

وأما «من» فقال السكاكيّ : هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم ، تقول : من جبريل؟ بمعنى : أبشر هو أم ملك أم جنّيّ ، وكذا : من إبليس؟ ومن فلان؟ ومنه قوله


تعالى حكاية عن فرعون : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩) [طه : الآية ٤٩]؟ أي : أملك هو أم بشر أم جنّيّ؟ منكرا لأن يكون لهما ربّ سواه ؛ لادّعائه الرّبّوبيّة لنفسه ، ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى : ألكما ربّ سواي؟ فأجاب موسى عليه السّلام بقول : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : الآية ٥٠] كأنه قال : نعم لنا ربّ سواك ، هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بيّن بإيجاده لما أوجد ، وتقديره إيّاه على ما قدّر ، واتّبعت فيه الخرّيت الماهر ، وهو العقل الهادي عن الضلال ؛ لزمك الاعتراف بكونه ربّا ، وأن لا ربّ سواه ، وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حقّ لا مدفع له.

وقيل : هو للسؤال عن العارض المشخّص لذي العلم ، وهذا أظهر ؛ لأنه إذا قيل : «من فلان؟ يجاب بـ «زيد» ونحوه مما يفيد التشخيص ، ولا نسلّم صحة الجواب بنحو «بشر» أو «جنّيّ» كما زعم السكّاكيّ.

أما «أيّ» فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما ، يقول القائل : عندي ثياب ، فتقول : أيّ الثياب هي؟ فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبيّة ، وفي التنزيل : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : الآية ٧٣] أي : أنحن أم أصحاب محمد عليه السّلام؟ وفيه : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) [النّمل : الآية ٣٨] أي : الإنسيّ أم الجني؟.

وأما «كم» فللسؤال عن العدد ، وإذا قلت : كم درهما لك؟ وكم رجلا رأيت؟ فكأنك قلت : أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا ، وتقول : كم دراهمك وكم مالك؟ أي : كم دانقا؟ أو كم دينارا؟ وكم ثوبك؟ أي : كم شبرا؟ أو كم ذراعا؟ وكم زيد ماكث؟ أي : كم يوما؟ أو كم شهرا؟ وكم رأيتك؟ أي : كم مرّة؟ وكم سرت ؛ أي كم فرسخا؟ أو كم يوما؟ قال الله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) [الكهف : الآية ١٩] أي كم يوما ، أو كم ساعة؟ وقال : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [المؤمنون : الآية ١١٢] ، وقال : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) [البقرة : الآية ٢١١] ، ومنه قول الفرزدق :

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري (١)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٣٦١ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١٢٣ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٥٨ ، والدرر ٤ / ٤٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥١١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٣٦ ، وشرح المفصل ٤ / ١٣٣ ، والكتاب ٢ / ٧٢ ، ولسان العرب (عشر) ، واللمع ص ٢٢٨ ، ومغني اللبيب ١ / ١٨٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٩ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٣١ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١١٦ ، ولسان العرب (كمم) ، والمقتضب ٣ / ٥٨ ، والمقرب ١ / ٣١٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٤.


فيمن روى بالنصب ، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية.

وأما «كيف» فللسؤال عن الحال ، إذا قيل : كيف زيد؟ فجوابه : صحيح أو سقيم ، أو مشغول ، أو فارغ ، ونحو ذلك.

وأما «أين» فللسؤال عن المكان ، إذا قيل : أين زيد؟ فجوابه : في الدار ، أو في المسجد ، أو في السوق ، ونحو ذلك.

وأما «أنّى» فتستعمل تارة بمعنى «كيف» قال الله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : الآية ٢٢٣] أي : كيف شئتم ، وآخر بمعنى «من أين» قال الله تعالى : (أَنَّى لَكِ هذا) [آل عمران : الآية ٣٧]؟ أي : من أين لك؟.

وأما «متى» و «أيّان» فللسؤال عن الزمان ، إذا قيل : متى جئت؟ أو : أيّان جئت؟ قيل : يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، أو شهر كذا ، أو سنة كذا ، وعن علي بن عيسى الربعي : أن «أيّان» تستعمل في مواضع التفخيم كقوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٦) [القيامة : الآية ٦] ، (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) [الذّاريات : الآية ١٢].

ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معان غير الاستفهام بحسب ما يناسب المقام.

منها الاستبطاء ، نحو : كم دعوتك؟ وعليه قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : الآية ٢١٤]؟.

ومنها التعجّب ، نحو قوله : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النّمل : الآية ٢٠].

ومنها التنبيه على الضلال ، نحو : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) [التّكوير : الآية ٢٦].

ومنها الوعيد ، كقولك لمن يسيء الأدب : ألم أؤدّب فلانا؟ إذا كان عالما بذلك ، وعليه قوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) [المرسلات : الآية ١٦]؟.

ومنها الأمر ، نحو قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : الآية ١٤] ، ونحو : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : الآية ٤٠]؟.

ومنها التقرير ، ويشترط في الهمزة أن يليها المقرّر به ، كقولك : أفعلت؟ إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه ، وكذلك : أأنت فعلت؟ إذا أردت أن تقرّره بأنه الفاعل.

وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي وغيرهما إلى أن قوله : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : الآية ٦٢]؟ من هذا الضرب ، قال الشيخ : لم يقولوا ذلك له عليه السّلام وهم يريدون أن يقرّ لهم بأن كسر الأصنام قد كان ، ولكن أن يقرّ بأنه منه كان ، وكيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) [الأنبياء : الآية ٦٢] وقال


عليه السّلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : الآية ٦٣] ولو كان التقرير بالفعل في قولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) [الأنبياء : الآية ٦٢] لكان الجواب : «فعلت ، أو لم أفعل».

وفيه نظر ؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها ؛ إذ ليس في السياق ما يدلّ على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السّلام هو الذي كسر الأصنام.

وكقولك : «أزيدا ضربت» إذا أردت أن تقرّره بأن مضروبه زيد.

ومنها الإنكار : إما للتوبيخ ، بمعنى ما كان ينبغي أن يكون ، نحو : أعصيت ربك؟ أو بمعنى لا ينبغي أن يكون ، كقولك للرجل يضيّع الحقّ : أتنسى قديم إحسان فلان؟ وكقولك للرجل يركب الخطر : أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه ، فيخجل أو يرتدع عن فعل ما همّ به.

وإما للتكذيب بمعنى : «لم يكن» كقوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [الإسراء : الآية ٤٠] ، وقوله : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣) [الصّافات : الآية ١٥٣] أو بمعنى «لا يكون» نحو : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [طه : الآية ٢٨] وعليه قول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟! (١)

فيمن روى : «أيقتلني؟» بالاستفهام ، وقول الآخر : [عمارة بن عقيل]

أأترك إن قلّت دراهم خالد

زيارته؟! إنّي إذا للئيم (٢)

والإنكار كالتقرير ، يشترط أن يلي المنكر الهمزة ، كقوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : الآية ٤٠] ، (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) [الأنعام : الآية ١٤] ، (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : الآية ٢٤] وكقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزّخرف : الآيتان ٣١ ، ٣٢] أي ليسوا هم المتخيّرين للنبوة من يصلح لها ، المتولّين لقسمة رحمة الله التي لا يتولّاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته.

وعدّ الزمخشري قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : الآية ٩٩] وقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) [الزّخرف : الآية ٤٠] من هذا الضرب ، على أن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعمارة بن عقيل في الكامل للمبرد ١ / ١٤٩.


المعنى : أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ أو أفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء؟ أي : إنما يقدر على ذلك الله ، لا أنت.

وحمل السكاكي تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث على البناء على الابتداء دون تقدير التقديم والتأخير ، كما مرّ في نحو : أنا ضربت ، فلا يفيد إلا تقوّي الإنكار.

ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزّمر : الآية ٣٦] ، وقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١)

أي : الله كاف عبده ، وأنتم خير من ركب المطايا ؛ لأن نفي النفي إثبات ، وهذا مراد من قال : إن الهمزة فيه للتقرير ، أي للتقرير بما دخله النفي ، لا للتقرير بالانتفاء.

وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى ، وهي نحو قولك : أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يدّعي أنه ضرب إمّا زيدا وإمّا عمرا ، دون غيرهما ؛ لأنه إذا لم يتعلّق الفعل بأحدهما ، والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما ؛ فقد انتفى من أصله لا محالة.

وعليه قوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) [الأنعام : الآية ١٤٣]؟ أخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ، ثم أريد معرفة عين المحرّم ، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله.

وكذا قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه ، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله ، فأضافوه إلى الله ، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ؛ ليكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله ، فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام ولا فاعل له غيره ، لزم نفيه من أصله.

قال السكاكي رحمه الله : وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو : أنا ضربت ، وأنت ضربت ، وهو ضرب ؛ من احتمال الابتداء ، واحتمال التقديم ، وتفاوت المعنى في الوجهين ؛ فلا تحمل نحو قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : الآية ٥٩]؟ على التقديم ؛ فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ، ولكن احمله على الابتداء ، مرادا منه تقوية حكم الإنكار.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، ٨٩ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢ ، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب ١ / ١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٦٣ ، ٣ / ٢٦٩ ، ورصف المباني ص ٤٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١٢٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٢.


وفيه نظر ؛ لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب ـ أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مظهرا ـ لا يفيد توجّه الإنكار إلى كونه فاعلا للفعل الذي بعده ، فهو ممنوع ، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدّر تقديم وتأخير وإلا فلا ـ على ما ذهب إليه فيما سبق ـ فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم.

لا يقال : قد يلي الهمزة غير المنكر في غير ما ذكرتم ، كما في قوله : [امرؤ القيس]

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي؟! (١)

فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ؛ بدليل قوله :

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني ، والمرء ليس بقتّال (٢)

لأنا نقول : ليس ذلك معناه ، لأنه قال : والمشرفي مضاجعي ، فذكر ما يكون منعا من الفعل ، والمنع إنما يحتاج إليه مع من يتصوّر صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه.

ومنها التهكم ، نحو : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : الآية ٨٧].

ومنها التحقير ، كقولك : من هذا؟ وما هذا؟

ومنها التهويل ، كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدّخان : الآيتان ٣٠ ، ٣١]؟ بلفظ الاستفهام ، لما وصف الله تعالى العذاب بأنه معين لشدته وفظاعة شأنه ؛ أراد أن يصوّر كنهه ، قال : (مِنْ فِرْعَوْنَ) [يونس : الآية ٨٣] أي : أتعرفون من هو في فرط عتوّه وتجبّره؟ ما ظنّكم بعذاب يكون هو المعذّب به؟ ثم عرّف حاله بقوله : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [الدّخان : الآية ٣١].

ومنها الاستبعاد ، نحو : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) [الدّخان : الآيتان ١٣ ، ١٤].

ومنها التوبيخ والتّعجيب جميعا ، كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً

__________________

(١) تقدم البيت بتمامه مع تخريجه قبل قليل.

(٢) يروى صدر البيت بلفظ :

يكرّ كرير البكر شدّ خناقه

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (كرر) ، وجمهرة اللغة ص ١٤٩ ، وتاج العروس (غطط) ، وأساس البلاغة (غطط) ، وبلا نسبة في تاج العروس (كرر).


فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) [البقرة : الآية ٢٨] أي : كيف تكفرون ، والحال أنكم عالمون بهذه القصة.

أما التوبيخ ؛ فلأن الكفر مع هذه الحال ينبىء عن الانهماك في الغفلة أو الجهل.

وأما التعجب ؛ فلأن هذه الحال تأبى أن لا يكون للعاقل علم الصانع وعلمه به يأبى أن يكفر ، وصدور الفعل مع الصارف القوي مظنة تعجّب.

ونظيره : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) [البقرة : الآية ٤٤].

ومن أنواع الإنشاء الأمر ، والأظهر أن صيغته ـ من المقترنة باللام نحو : ليحضر زيد ، وغيرها نحو : أكرم عمرا ، ورويد بكرا ـ موضوعة لطلب الفعل استعلاء ؛ لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك ، وتوقف ما سواه على القرينة.

قال السكاكي : ولإطباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر بقولهم : صيغة الأمر ، ومثال الأمر ، ولام الأمر ، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

ثم إنها ـ أعني صيغة الأمر ـ قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام ، كالإباحة كقولك في مقام الإذن : جالس الحسن أو ابن سيرين.

ومن أحسن ما جاء فيه قول كثيّر : [بن عبد الرحمن «عزّة»]

أسيئي بنا أو أحسني ، لا ملومة

لدينا ، ولا مقليّة إن تقلّت (١)

أي : لا أنت ملومة ولا مقليّة.

ووجه حسنه إظهار الرّضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب ، أي : مهما اخترت في حقّي من الإساءة والإحسان فأنا راض به غاية الرّضا ، فعامليني بهما ، وانظري : هل تتفاوت حالي معك في الحالين؟

والتهديد ، كقولك لعبد شتم مولاه وقد أدّبه : أشتم مولاك ، وعليه : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصّلت : الآية ٤٠].

والتعجيز ، كقولك لمن يدّعي أمرا تعتقد أنه ليس في وسعه : افعله ، وعليه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : الآية ٢٣].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ١٠١ ، ولسان العرب (سوأ) ، (حسن) ، (قلا) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢١ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣١٨ ، والأغاني ٩ / ٣٨ ، وأمالي القالي ٢ / ١٠٩ ، وتزيين الأسواق ١ / ١٢٤ ، وتاج العروس (سوأ) ، (قلي).


والتسخير ، نحو : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الأعراف : الآية ١٦٦].

والإهانة ، نحو : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (٥٠) [الإسراء : الآية ٥٠] ، وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) [الدّخان : الآية ٤٩].

والتسوية ، كقوله : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التّوبة : الآية ٥٣] ، وقوله : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) [الطّور : الآية ١٦].

والتمنّي ، كقول امرىء القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي (١)

والدعاء ، إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرّع ، نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [نوح : الآية ٢٨].

والالتماس ، إذا استعملت فيه على سبيل التلطّف ، كقولك لمن يساويك في الرتبة : «افعل» بدون الاستعلاء.

والاحتقار ، نحو : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) [يونس : الآية ٨٠].

ثم الأمر ، قال السكاكي : حقّه الفور ؛ لأنه الظاهر من الطلب ، ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التّراخي ، والحقّ خلافه ؛ لما تبيّن في أصول الفقه.

ومنها النّهي ، وله حرف واحد ، وهو «لا» الجازمة في قولك : «لا تفعل» وهو كالأمر في الاستعلاء.

وقد يستعمل في غير طلب الكفّ أو التّرك ، كالتهديد ، كقولك لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمتثل أمري.

واعلم أن هذه الأربعة ـ أعني التمنّي ، والاستفهام ، والأمر ، والنّهي ـ تشترك في كونها قرينة دالّة على تقدير الشرط بعدها ، كقولك : ليت لي مالا أنفقه ، أي : إن أرزقه ، وقولك : أين بيتك أزرك ، أي : إن تعرّفنيه ، وقولك : أكرمني أكرمك ، أي : إن تكرمني.

__________________

(١) عجز البيت :

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٨ ، والأزهية ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢٦ ، ٣٢٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥١٣ ، ولسان العرب (شلل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣١٧ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٩٣ ، وجواهر الأدب ص ٧٨ ، ورصف المباني ص ٧٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٩٣.


قال الله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : الآية ٥] بالجزم ، فأما قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف ، وقال السكاكي : الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف ؛ لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السّلام ، وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدّر تضمنه ما قبله ، فكأنه لما قال : فهب لي وليا ، قيل : ما تصنع به؟ فقال : «يرثني» فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء ، وقولك : لا تشتم يكن خيرا لك ، أي : إن لا تشتم.

وأما العرض ، كقولك لمن تراه لا ينزل : ألا تنزل تصب خيرا ، أي : إن تنزل ؛ فمولّد من الاستفهام ، وليس به ؛ لأن التقدير أنه لا ينزل ، فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل ، وهو محال.

وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا ، كقوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) [الشّورى : الآية ٩] أي : إن أرادوا وليا بالحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه ، وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ) [المؤمنون : الآية ٩١] أي : لو كان معه إله إذن لذهب.

ومنها النداء ، وقد تستعمل صيغته في غير معناه ، كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم : يا مظلوم ، والاختصاص في قولهم : أنا أفعل كذا أيها الرجل ، ونحن نفعل كذا أيّها القوم ، واغفر اللهمّ لنا أيتها العصابة. أي : متخصصا من بين الرجال ، ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب.

ثم الخبر يقع موقع الإنشاء ، إما للتفاؤل ، أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مرّ ، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين ، أو للاحتراز عن صورة الأمر ، كقول العبد للمولى إذا حوّل عنه وجهه : ينظر المولى إليّ ساعة ، أو لحمل المخاطب على المطلوب ، بأن يكون المخاطب ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطالب ، أو لنحو ذلك.

تنبيه : ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر ، بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر ، يظهر ذلك بأدنى تأمّل ، فليعتبره الناظر.

القول في الوصل والفصل

الوصل عطف بعض الجمل على بعض ، والفصل تركه.

وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فنّ منها عظيم الخطر ، صعب المسلك ، دقيق المأخذ ، لا يعرفه على وجهه ، ولا يحيط علما بكنه : إلا من أوتي فهم كلام العرب طبعا سليما ، ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ، ولهذا


قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل ، وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك ، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه ، وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها ؛ فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان ، فنقول والله المستعان :

إذا أتت جملة بعد جملة ؛ فالأولى منهما ؛ إما أن يكون لها محلّ من الإعراب أو لا.

وعلى الأول إن قصد التشريك بينهما وبين الثانية في حكم الاعراب عطفت عليها ، وهذا كعطف المفرد على المفرد ؛ لأن الجملة لا يكون لها محلّ من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد ، فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة ، كما في قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) [سبأ : الآية ٢] ؛ يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك ، كقولك : زيد يكتب ويشعر ، أو يعطي ويمنع ، وعليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : الآية ٢٤٥] ولهذا عيب على أبي تمام قوله :

لا والّذي هو عالم أنّ النّوى

صبر ، وأنّ أبا الحسين كريم (١)

إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النّوى ، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر.

وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها ، كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٥) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآيتان : ١٤ ، ١٥]. ولم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين ، وليس منه ، وكذا قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) (١٢) [البقرة : الآيتان ١١ ، ١٢] وكذا قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) [البقرة : الآية ١٣].

وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو ؛ عطفت عليها بذلك الحرف ، فتقول : «دخل زيد فخرج عمرو» إذا أردت أن تخبر أنّ خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة ، وتقول : «خرجت ثمّ خرج زيد» إذا أردت أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة ، وتقول : «يعطيك زيد دينارا ،

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٩٠ ، ودلائل الإعجاز ص ١٧٣ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٩١ ، ونهاية الإيجاز ص ٣٢٣ ، وعقود الجمان ص ١٧٣.


أو يكسوك جبّة» إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه ، وعليه قوله تعالى : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النّمل : الآية ٢٧].

وإن لم يقصد ذلك ؛ فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية ، تعيّن الفصل ، كقوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٥) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآيتان ١٤ ، ١٥] لم يعطف (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على «قالوا» لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدّم ، وهو قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) فإن استهزاء الله تعالى بهم ـ وهو أن خذلهم ، فخلّاهم وما سوّلت لهم أنفسهم ، مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون ـ متصل لا ينقطع بكل حال : خلوا إلى شياطينهم ، أم لم يخلوا إليهم ، وكذلك في الآيتين الأخيرتين فإنهم مفسدون في جميع الأحيان ، قيل لهم : لا تفسدوا ، أو لا ، وسفهاء في جميع الأوقات ، قيل لهم : آمنوا ، أو لا.

وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق ، فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع ، وليس في الفصل إبهام خلاف المقصود كما سيأتي ، أو كمال الاتّصال ، أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى ، أو بمنزلة المتصلة بها ، فكذلك يتعين الفصل.

أما في الصورة الأولى ؛ فلأن الواو للجمع ، والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مرّ.

أما في الثانية ، فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه ، مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.

وأما في الثالثة والرابعة ، فظاهر مما مرّ.

وأما كمال الانقطاع ؛ فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد ، أو إلى طرفيه.

الأول : أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء ، ولفظا ومعنى ، كقولهم : لا تدن من الأسد يأكلك ، وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة؟ بالرفع فيهما ، وقول الشاعر : [الأخطل ، غياث بن غوث التغلبي]

وقال رائدهم ؛ أرسوا نزاولها

فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار (١)

أو معنى لا لفظا ، كقولك : مات فلان رحمه الله.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأخطل في خزانة الأدب ٩ / ٨٧ ، والكتاب ٣ / ٩٦ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧١ ، والمفتاح ص ٢٦٩ ، وشرح عقود الجمان ١ / ٢٠٢ ، والمصباح ص ٦٤ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٧ / ٥١.


أما قول اليزيدي :

ملّكته حبلي ، ولكنّه

ألقاه من زهد على غاربي (١)

وقال : إنّي في الهوى كاذب

انتقم الله من الكاذب

فعدّه السكاكي رحمه الله من هذا الضرب ، وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله على الاستئناف بتقدير «قلت».

الثاني : أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي.

وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة :

الأول : أن تكون الثانية مؤكّدة للأولى ، والمقتضي للتأكيد دفع توهّم التجوّز والغلط ، وهو قسمان :

أحدهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى ، كقوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) [البقرة : الآيتان ١ ، ٢] فإنّ وزان «لا ريب فيه» في الآية وزان «نفسه» في قولك : «جاءني الخليفة نفسه» فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال ، بجعل المبتدأ «ذلك» وتعريف الخبر باللام ؛ كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنّة أنه مما يرمى به جزافا من غير تحقّق ، فأتبع «لا ريب فيه» نفيا لذلك ، إتباع «الخليفة نفسه» إزالة لما عسى أن يتوهّم السامع أنك في قولك : «جاءني الخليفة» متجوّز أو ساه.

وكذا قوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [لقمان : الآية ٧] الثاني مقرّر لما أفاده الأول.

وكذا قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] لأن قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : الآية ١٤] معناه الثبات على اليهودية ، وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : الآية ١٤] ردّ للإسلام ، ودفع له منهم ؛ لأن المستهزىء بالشيء المستخفّ به منكر له ، ودافع له لكونه غير معتدّ به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ، ويحتمل الاستئناف ، أي : فما بالكم ـ إن صحّ أنكم معنا ـ توافقون أصحاب محمد (صلّى الله عليه وسلّم)؟.

وثانيهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى ، كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) [البقرة : الآية ٢] فإن (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] معناه : أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها ، حتى

__________________

(١) البيتان من السريع ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.


كأنه هداية محضة ، وهذا معنى قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : الآية ٢] لأن معناه كما مرّ : الكتاب الكامل ، والمراد بكماله كماله في الهداية ؛ لأن الكتب السماويّة بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : الآية ٦] ، فإن معنى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٦٥] معنى ما قبله ، وكذا ما بعده تأكيد ثان ؛ لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه ؛ لا يصح إلا في حقّ من ليس له قلب يخلص إليه حقّ ، وسمع تدرك به حجة ، وبصر تثبت به عبرة ، ويجوز أن يكون (لا يُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٦٥] خبرا لإن ، فالجملة قبلها اعتراض.

الثاني : أن تكون الثانية بدلا من الأولى ، والمقتضي للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية ، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ، ككونه مطلوبا في نفسه ، أو فظيعا ، أو عجيبا ، أو لطيفا ، وهو ضربان :

أحدهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه ، كقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٣٤) [الشّعراء : الآيات ١٣٢ ـ ١٣٤] فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين ، وقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٣٤) أوفى بتأديته مما قبله ؛ لدلالته عليها بالتفصيل ، من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين ، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ، ويحتمل الاستئناف.

وثانيهما : أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال ، من متبوعه ، كقوله تعالى : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآيتان ٢٠ ، ٢١] فإن المراد به حمل المخاطبين على اتّباع قوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآية ٢١] أوفى بتأدية ذلك؟ لأن معناه : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحّة دينكم ، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. وقول الشاعر :

أقول له : ارحل ، لا تقيمنّ عندنا

وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما (١)

فإن المراد به كمال الكراهة لإقامته بسبب خلاف سرّه العلن ، وقوله : «لا تقيمنّ» عندنا أوفى بتأديته ؛ لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد ، بخلاف «ارحل» ووزان الثانية ـ من كل واحد من الآية والبيت وزان «حسنها» في قولك : أعجبتني الدار حسنها ؛ لأن

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٥ / ٢٠٧ ، ٨ / ٤٦٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٤٠ ، وشرح التصريح ٢ / ١٦٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، ومجالس ثعلب ص ٩٦ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٠.


معناها مغاير لمعنى ما قبلها ، وغير داخل فيه ، مع ما بينهما من الملابسة.

الثالث : أن تكون الثانية بيانا للأولى ، وذلك بأن تنزّل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح ، والمقتضي للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء ، مع اقتضاء إزالته ، كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) [طه : الآية ١٢٠] فصل جملة «قال» عما قبلها ؛ لكونها تفسيرا وتبيينا ، ووزانه وزان عمر في قوله :

أقسم بالله أبو حفص عمر (١)

وأما قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : الآية ٣١] فيحتمل التبيين والتأكيد.

وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ، ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان (ما هذا بَشَراً) حال تعظيم له ، وتعجّب مما يشاهد منه ، من حسن خلق أو خلق ، كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية.

فإن قيل : هلّا نزّلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور ومنزلة النعت من متبوعه في بعض.

قلنا : لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه ، وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه ، بخلاف التأكيد ، والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحواله متبوعه لا عليه ، عطف البيان بالعكس ، وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده.

وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى ؛ فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ، ويسمى الفصل لذلك قطعا ، مثاله قول الشاعر :

__________________

(١) الرجز لرؤبة في شرح المفصل ٣ / ٧١ ، وليس في ديوانه ، ولا يمكن أن يكون رؤبة هو الذي قاله لعمر بن الخطاب ، ذلك أنه توفي سنة ١٤٥ ه‍ ، ولم يعتبره أحد من التابعين فضلا عن المخضرمين ، والرجز لعبد الله بن كسيبة أو لأعرابي في خزانة الأدب ٥ / ١٥٤ ، ولأعرابي في شرح التصريح ١ / ١٢١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١١٥ ، ولسان العرب (نقب) ، (فجر) ، وتاج العروس (نقب) ، (فجر) ، وتهذيب اللغة ١ / ٥٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٢٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٥٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٥٦١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٨٩ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٩ ، وأساس البلاغة (نقب) ، وديوان الأدب ٢ / ١١١ ، وكتاب العين ٨ / ٣٠٧ ، ويليه :

ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر


وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها

بدلا ، أراها في الضّلال تهيم (١)

لم يعطف «أراها» على «تظن» لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على «أبغي» لقربه منه ، مع أنه ليس بمراد ، ويحتمل الاستئناف.

وقسّم السكاكي القطع إلى قسمين :

أحدهما : القطع للاحتياط ، وهو ما لم يكن لمانع من العطف ، كما في هذا البيت.

والثاني : القطع للوجوب ، وهو ما كان لمانع ، ومثّله بقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : الآية ١٥] قال : لأنه لو عطف لعطف إما على جملة «قالوا» وإما على جملة «إنا معكم» وكلاهما لا يصح لما مر ، وكذا قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : الآية ١٢] وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) [البقرة : الآية ١٣].

وفيهما نظر ؛ لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدّرة بالظرف ، وهذا القسم لم يبين امتناعه.

وأما كونها بمنزلة المتصلة بها ، فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى ؛ فتنزّل منزلته ، فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال.

وقال السكاكي : فينزّل ذلك منزلة الواقع ، ثم قال : وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة : إما لتنبيه السامع على موقعه ، أو لإغنائه أن يسأل ، أو لئلا يسمع منه شيء ، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه ، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف ، أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السّلك.

ويسمى الفصل لذلك استئنافا ، وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا.

والاستئناف ثلاثة أضرب :

لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا ، كقوله:[أبو العلاء المعري]

قال لي : كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم ، وحزن طويل (٢)

أي : ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك؟ وكقوله : [أبو العلاء المعري]

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي تمام في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٩ ، والمفتاح ص ٢٦١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٧٩ ، والمصباح ص ٥٨ ، وعقود الجمان ص ١٨١.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٥.


وقد غرضت من الدنيا ، فهل زمني

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا؟ (١)

جرّبت دهري وأهليه ، فما تركت

لي التجارب في ودّ امرىء غرضا

أي : لم تقول هذا ويحك؟! وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك؟!

وإما عن سبب خاص له ، كقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : الآية ٥٣] ، كأنه قيل : هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل : إن النفس لأمارة بالسوء.

وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم ، كما مر في باب أحوال الإسناد.

وإما عن غيرهما ، كقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : الآية ٦٩] كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم عليه السّلام؟ فقيل : قال : سلام ، ومنه قول الشاعر :

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (٢)

فإنه لما أبدى الشّكاية من جماعات العذّال ، كان ذلك مما يحرّك السامع ليسأل : أصدقوا في ذلك ، أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ؛ ففصل ، ومثله قول جندب بن عمّار :

زعم العواذل أن ناقة جندب

بجنوب خبت عرّيت وأجمّت (٣)

كذب العواذل ، لو رأين مناخنا

بالقادسيّة ؛ قلن : لجّ وذلت

وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر ، من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله ، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام ، ومن الأمثلة قول الوليد :

عرفت المنزل الخالي

عفا من بعد أحوال (٤)

عفاه كلّ حنّان

عسوف الوبل هطّال

فإنه لما قال «عفا» وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه ؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل ، ومثله قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما للمعري في المفتاح ص ١١٥.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٥ ، والتبيان للطيبي ص ١٤٢.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان الحماسة شرح الرافعي ١ / ١٨ ، والمفتاح ص ١١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ١٨٢.

(٤) البيتان من الهزج ، وهما للوليد بن يزيد في المفتاح ص ١١٥ ، ودلائل الإعجاز ص ١٨٤.


وما عفت الرّياح له محلّا

عفاه من حدا بهم وساقا (١)

فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح ؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل.

وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه ، كقولك : أحسنت إلى زيد ، زيد حقيق بالإحسان.

ومنه ما يبنى على صفته ، كقولك : أحسنت إلى زيد ، صديقك القديم أهل ، وهذا أبلغ ؛ لانطوائه على بيان السبب.

وقد يحذف صدر الاستئناف ، لقيام قرينة ، كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ) [النّور : الآيتان ٣٦ ، ٣٧] فيمن قرأ «يسبّح» مبنيّا للمفعول ، وعليه نحو قولهم : نعم الرجل أو رجلا زيد. وبئس الرجل أو رجلا عمرو ، على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو زيد ، كأنه لما قيل ذلك فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا ، مظهرا أو مضمرا ، سئل عن تفسيره ، فقيل : هو زيد ، ثم حذف المبتدأ.

وقد يحذف الاستئناف كله ، ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي : [مساور بن هند]

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف ، وليس لكم إلاف (٢)

حذف الجواب الذي هو : كذبتم في زعمكم ، وأقام قوله : «لهم ألف ، وليس لكم إلاف» مقامه لدلالته عليه ، ويجوز أن يقدّر قوله : «لهم إلف وليس لكم إلاف» جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف ، كأنه لما قال المتكلم : كذبتم ؛ قالوا : لم كذبنا؟ فقال : لهم إلف ، وليس لكم إلاف ؛ فيكون في البيت استئنافان.

وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه ، كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : الآية ٣٠] أي : أيّوب ، أو هو ؛ لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه ، ونحوه قوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذّاريات : الآية ٤٨] أي : نحن.

وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل.

إما لدفع إيهام خلاف المقصود كقول البلغاء : لا ، وأيّدك الله ، وهذا عكس الفصل للقطع.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٤٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لمساور بن هند في لسان العرب (ألف) ، وتاج العروس (ألف) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٤٤٩ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٥ / ٣٧٩ ، وتاج العروس (ألت).


وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال الاتصال ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يتّفقا خبرا أو إنشاء ، لفظا ومعنى ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) [الانفطار : الآيتان ١٣ ، ١٤] ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) [الرّوم : الآية ١٩] ، وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : الآية ١٤٢] ، وقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : الآية ٣١].

والثاني : أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا) [البقرة : الآية ٨٣] عطف قوله : (قُولُوا) [البقرة : الآية ١٣٦] على قوله : (لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : الآية ٨٣] لأنه بمعنى : لا تعبدوا ، وأما قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة : الآية ٨٣] فتقديره : إما «وتحسنون» بمعنى «وأحسنوا» وإما «وأحسنوا» وهذا أبلغ من صريح الأمر والنّهي ؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.

وأما قوله في سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : الآية ٢٥] فقال الزمخشري فيه : فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ، ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت : ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر ، حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه ، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين ؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ، كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق ، وبشّر عمرا بالعفو والإطلاق ، ولك أن تقول : هو معطوف على (فَاتَّقُوا) [البقرة : الآية ٢٤] كما تقول : يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم ، وبشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم ، هذا كلامه ، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٢٢٣] : إنه معطوف على (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] لأنه بمعنى : آمنوا ، وفيه أيضا نظر ؛ لأن المخاطبين في (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] هم المؤمنون ، وفي (بَشَرٌ) [آل عمران : الآية ٤٧] هو النبي عليه السّلام ، ثم قوله : (تُؤْمِنُونَ) [النّساء : الآية ٥٩] بيان لما قبله على سبيل الاستئناف ، فكيف يصح عطف (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : الآية ٢٢٣] عليه؟

وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على «قل» مرادا قبل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : الآية ٢١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [الصّف : الآية ١٠] ؛ لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن ، وذكر صورا كثيرة ، منها قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا) [البقرة : الآية ٥٧] وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ


خُذُوا) [البقرة : الآية ٦٣] ، وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا) [البقرة : الآية ١٢٥] أي : وقلنا ، أو قائلين.

والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله ، وهو في الآية الأولى : (فأنذر) أو نحوه ، أي : فأنذرهم ، وبشّر الذين آمنوا ، وفي الآية الثانية : (فأبشر) أو نحوه ، أي : فأبشر يا محمد ، وبشّر المؤمنين ، وهذا كما قدّر الزمخشري قوله تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : الآية ٤٦] معطوفا على محذوف يدل عليه قوله : (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : الآية ٤٦] أي : فاحذرني ، واهجرني ؛ لأن (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : الآية ٤٦] تهديد وتقريع.

والجامع بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسند إليه في هذه ، والمسند إليه في هذه ، وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعا ، كقولك : يشعر زيد ، ويكتب ، ويعطي ويمنع ، وقولك : زيد شاعر ، وعمرو كاتب ، وزيد طويل ، وعمرو قصير ، إذا كان بينهما مناسبة ، كأن يكونا أخوين ، أو نظيرين ، بخلاف قولنا : زيد شاعر وعمرو كاتب ، إذا لم يكن بينهما مناسبة ، وقولنا : زيد شاعر وعمرو طويل ، كان بينهما مناسبة أو لا.

وعليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : الآية ٦] قطع عما قبله ؛ لأنه كلام في شأن الذين كفروا ، وما قبله كلام في شأن القرآن.

وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في موضع من كتابه ، أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه ، أو الخبر ، أو قيد من قيودهما ، فإنه منقوض بما مرّ ، وبنحو قولك : هزم الأمير الجند يوم الجمعة ، وخاط زيد ثوبي فيه ، ولعله سهو ؛ فإنه صرّح في موضع آخر منه بامتناع عطف قول القائل : «خفّي ضيّق» على قوله : «خاتمي ضيّق» مع اتحادهما في الخبر.

ثم قال : الجامع بين الشيئين : عقليّ ، ووهميّ ، وخياليّ.

أما العقليّ فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصوّر ، أو تماثل ؛ فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخّص في الخارج يرفع التعدّد.

أو تضايف كما بين العلّة والمعلول ، والسّبب ، والمسبّب ، والسّفل والعلو ، والأقلّ والأكثر ؛ فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذّهن.

وأما الوهمي فهو أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل ، كلون بياض ولون صفرة ؛ فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ، ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التي في قوله :


ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى ، وأبو إسحاق ، والقمر (١)

أو تضاد ، كالسواد والبياض ، والهمس والجهارة ، والطّيب والنّتن ، والحلاوة والحموضة ، والملاسة والخشونة ، وكالتحرّك والسكون ، والقيام والقعود ، والذهاب والمجيء ، والإقرار والإنكار ، والإيمان والكفر ، وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض ، والمؤمن والكافر.

أو شبه تضاد ، كالسماء والأرض ، والسهل والجبل ، والأول والثاني ؛ فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين ، فيجمع بينهما في الذهن ، ولذلك تجد الضّد أقرب خطورا بالبال مع الضدّ.

والخياليّ أن يكون بين تصوّريهما تقارن في الخيال سابق ، وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا ؛ فكم تتعانق في خيال ، وهي في آخر لا تتراءى ، وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال ، وهي في غيره نار على علم.

كما يحكى أن صاحب سلاح ملك ، وصائغا ، وصاحب بقر ، ومعلّم صبية ؛ سافروا ذات يوم ، وواصلوا سير النهار بسير الليل ، فبينما هم في وحشة الظلام ، ومقاساة خوف التخبّط والضلال ؛ طلع عليهم البدر بنوره ، فأفاض كل منهم في الثناء عليه ، وشبّهه بأفضل ما في خزانة صوره ، فشبّهه السّلاحيّ بالتّرس المذهّب يرفع عند الملك ، والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة ، والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريّا ، والمعلّم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة.

وكما يحكى عن ورّاق يصف حاله : عيشي أضيق من محبرة ، وجسمي أدقّ من مسطرة ، وجاهي أرقّ من الزجاج ، وحظّي أخفى من شقّ القلم ، وبدني أضعف من قصبة ، وطعامي أمرّ من العفص ، وشرابي أشدّ سوادا من الحبر ، وسوء الحال لي ألزم من الصّمغ.

ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع ، لا سيما الخيالي ، فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل ، والسماء والجبال والأرض ، في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) [الغاشية : الآيات ١٧ ـ ٢٠] بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جلّ انتفاعهم في معاشهم من الإبل ؛ فتكون عنايتهم مصروفة إليها ، وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب

__________________

(١) البيت من البسيط ، وقد تقدم مع تخريجه.


وذلك بنزول المطر ؛ فيكثر تقلّب وجوههم في السماء ، ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم ، وحصن يتحصّنون به ، ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ، ثم لا غنى لهم لتعذّر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها ؛ فإذا فتش البدويّ في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور ، بخلاف الحضريّ ، فإذا تلا قبل الوقوف على ما ذكرنا ظنّ النّسق لجهله معيبا.

ومن محسّنات الوصل تناسب الجملتين ، في الاسميّة والفعلية وفي المضيّ والمضارعة ، إلّا لمانع ، كما إذا أريد بإحداهما التجدّد وبالأخرى الثبوت ، كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ، ثم قام زيد دون عمرو ، وقلت : «قام زيد ، وعمرو قاعد» كما سبق.

ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا متنقلة ، فإنها تجيء تارة بالواو ، وتارة بغير الواو ؛ فنقول :

أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو ، لوجوه :

الأول : أنّ إعرابها ليس بتبع ، وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو ، وهذه الواو وإن كانت تسمّى واو الحال : فإن أصلها العطف.

الثاني : أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال ، كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ ، إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة ، لا في ضمن شيء آخر ، والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها ؛ فإن الركوب مثلا في قولنا : «جاء زيد راكبا» محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة ، بل بالتبعية ، بأن وصل بالمجيء وجعل قيدا له ، بخلافه في قولنا : زيد راكب.

الثالث : أنها في الحقيقة وصف لذي الحال ؛ فلا يدخلها الواو كالنّعت.

فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو ، لكن خولف الأصل فيها إذا كانت جملة ؛ لأنها ـ بالنظر إليها من حيث هي جملة ـ مستقلّة بالإفادة ؛ فتحتاج إلى ما يربطها بما جعلت حالا عنه.

وكلّ واحد من الضمير والواو صالح للرّبط ، والأصل الضمير ، بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة ، والخبر ، والنعت.

وإذا تمهّد هذا فنقول :

الجملة التي تقع حالا ضربان : خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه ، وغير خالية.

أما الأولى فيجب أن تكون بالواو ؛ لئلا تصير منقطعة عنه ، غير مرتبطة به.


وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال ؛ يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو ، إلا المصدّرة بالمضارع المثبت ، كقولك : «جاء زيد ويتكلم عمرو» على أن يكون «ويتكلم عمرو» حالا عن «زيد» لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده.

وأما الثانية ؛ فتارة يجب أن تكون بالواو ، وتارة يمتنع ذلك ، وتارة يترجّح أحدهما ، وتارة يستوي الأمران.

والواو غير مناف للضمير في إفادة الربط ؛ فتعيّن التنبيه على أسباب الاختلاف ؛ فنقول :

الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت ، امتنع الواو ، كقوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : الآية ١١٠] ، وقوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) [المدّثّر : الآية ٦] ، وقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) [الليل : الآيتان ١٧ ، ١٨] لأن أصل الحال المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة مقارن لما جعلت قيدا له ، والمضارع المثبت كذلك.

أما دلالته على حصول صفة غير ثابتة ، فلأنه فعل مثبت والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مرّ.

وأما دلالته على المقارنة ؛ فلكونه مضارعا.

فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة ، ولهذا امتنع نحو : جاء زيد ويتكلم عمرو ، كما مر.

وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب : «قمت وأصكّ عينه ، أو وجهه» وقول عبد الله بن همّام السّلوليّ :

فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت ، وأرهنهم مالكا (١)

فقيل : على حذف المبتدأ ، أي : وأنا أصك عينه ، وأنا أرهنهم.

وقيل : الأول شاذ ، والثاني ضرورة.

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لعبد الله بن همام السلولي في إصلاح المنطق ص ٢٣١ ، ٢٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٦ ، والدرر ٤ / ١٥ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٥٥ ، ولسان العرب (رهن) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٨٥ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٠ ، ولهمام بن مرة في تاج العروس (رهن) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ١٦٤ ، ورصف المباني ص ٤٢٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٥٦ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٤٠ ، والمقرب ١ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٦.


وقال الشيخ عبد القاهر : ليست الواو فيهما للحال ، بل هي للعطف و «أصك» و «أرهن» بمعنى «صككت» و «رهنت» ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين ، ويدعا الآخر على أصله ، كما في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ، ثمّت قلت : لا يعنيني (١)

يبين ذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثله ، كما في خبر عبد الله بن عتيك ؛ فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهوديّ حصنه ، ثم قال : «فانتهيت إليه ؛ فإذا هو في بيت مظلم ، لا أدري أين هو من البيت؟ قلت : أبا رافع ، قال : من هذا؟ فأهويت نحو الصوت ، فأضربه بالسيف ، وأنا داهش» فإن قوله : «فأضربه» مضارع عطفه بالفاء على ماض ؛ لأنه في المعنى ماض.

وإن كان الفعل مضارعا منفيّا ، فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح ؛ لدلالته على المقارنة لكونه مضارعا ، وعدم دلالته على الحصول لكونه منفيا.

أما مجيئه بالواو فكقراءة ابن ذكوان : (فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِ) [يونس : الآية ٨٩] بتخفيف النون ، وقول بعض العرب : «كنت ولا أخشى بالذيب» وقول مسكين الدارمي :

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب (٢)

وقول مالك بن رفيع وكان قد جنى جناية ، فطلبه مصعب بن الزبير :

بغاني مصعب وبنوا أبيه

فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد (٣)

أقادوا من دمي ، وتوعّدوني

وكنت وما ينهنهني الوعيد

وأما مجيئه بغير واو فكقوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) [المائدة : الآية ٨٤] ، وقول عكرمة العبسي :

مضوا لا يريدون الرّواح وغالهم

من الدهر أسباب جرين على قدر (٤)

وقول خالد بن يزيد بن معاوية :

لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السماء ، دخلتها ، لا أحجب (٥)

__________________

(١) تقدم البيت مع تخريجه.

(٢) البيت من الرمل ، وهو لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٢٢ ، وسمط اللآلي ص ٣٥٢ ، وشرح التصريح ١ / ٣٩٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٣ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧.

(٣) البيتان من الوافر ، وهما لمالك بن رقبة في شرح التصريح ١ / ٣٩٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٢ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الحماسة ١ / ١٤٤ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦١ ، والمفتاح ص ١١٩.

(٥) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩١.


وقول الأعشى :

أتينا أصبهان ، فهزّلتنا

وكنّا قبل ذلك في نعيم (١)

وكان سفاهة منّي وجهلا

مسيري ، لا أسير إلى حميم

كأنه قال : وكان سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم.

وإن كان ماضيا لفظا أو معنى فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح.

أما مجيئه بالواو ، فكقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) [آل عمران : الآية ٤٠] ، وقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : الآية ٨].

وقول امرىء القيس :

أيقتلني وقد شغفت فؤادها

كما شغف المهنوءة الرجل الطّالي (٢)؟!

وقوله : [امرؤ القيس]

فجئت ، وقد نضّت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل (٣)

وقوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) [الأنعام : الآية ٩٣] وقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [مريم : الآية ٢٠] ، وقول كعب : [بن زهير]

لا تأخذني بأقوال الوشاة ، ولم

أذنب ، وإن كثرت فيّ الأقاويل (٤)

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : الآية ٢١٤] ، وقول الشاعر : [الشرقي بن القطامي]

بانت قطام ، ولمّا يحظ ذو مقة

منها بوصل ولا إنجاز ميعاد (٥)

وأما مجيئه بلا واو فكقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النّساء : الآية ٩٠].

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما لأعشى همدان في البيان والتبيين ٣ / ٢٣٩ ، ودلائل الإعجاز ص ١٦١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٢٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٣ ، ولسان العرب (قطر) ، (شعف).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٤ ، والدرر ٣ / ٧٨ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٣ ، ولسان العرب (نضا) ، وتاج العروس (فضل) ، (نضا) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢٢٦ ، ورصف المباني ص ٢٢٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٠٦ ، وشرح قطر الندى ص ٢٢٧ ، والمقرب ١ / ١٦١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٤ ، ٢٤٧.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان كعب بن زهير ص ١٢.

(٥) البيت من البسيط ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


وقول الشاعر : [أبو صخر الهذلي]

وإنّي لتعروني لذكراك هزّة

كما انتقض العصفور بلّله القطر (١)

وقوله :

أتيناكم قد عمّكم حذر العدا

فنلتم بنا أمنا ، ولم تعدموا نصرا (٢)

وقوله : [حندج بن حندج]

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله

والليل قد مزّقت عنه السّرابيل (٣)

وكقوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : الآية ١٧٤] ، وقوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب : الآية ٢٥] ، وقول امرىء القيس :

فأدرك لم يجهد ولم يئن شأوه (٤)

وقول زهير : [بن أبي سلمى]

كأنّ فتات العهن في كل منهل

نزلن به حبّ القنا لم يحطّم (٥)

والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتا ؛ دلالته على حصول صفة غير ثابتة ، لكونه فعلا ، وعدم دلالته على المقارنة لكونه ماضيا ؛ ولهذا اشترط أن يكون مع «قد» ظاهرة أو مقدّرة ، حتى تقرّبه إلى الحال ؛ فيصح وقوعه حالا.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي صخر الهذلي في الأغاني ٥ / ١٦٩ ، ١٧٠ ، والإنصاف ١ / ٢٥٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٥٤ ، والدرر ٣ / ٧٩ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٩٥٧ ، وشرح التصريح ١ / ٣٣٦ ، ولسان العرب (رمث) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٦٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٩ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٦٤٦ ، ٦٤٨ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٢٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢١٦ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٩٨ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٦١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٢٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٧ ، والمقرب ١ / ١٦٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٤.

(٢) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لحندج بن حندج المرّي في الدرر ٦ / ٢٦٦ ، وتاج العروس (صول).

(٤) عجز البيت :

يمرّ كخذروف الوليد المثقّب

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٥١ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٢٠٢.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢ ، ولسان العرب (فتت) ، (فني) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٩.


وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفيّ لانتفاء المعنيين ، لكنه لم يجب فيه ، بل كان مثله.

أما المنفي بـ «لمّا» فلأنها للاستغراق.

وأما المنفيّ بغيرهما ؛ فلأنه لما دل على انتفاء متقدم ، وكان الأصل استمرار ذلك ؛ حصلت الدلالة على المقارنة عند إطلاقه ؛ بخلاف المثبت ؛ فإن وضع الفعل على إفادة التجدّد ، وتحقيق هذا أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب ، بخلاف استمرار الوجود ، كما بيّن في غير هذا العلم.

وإن كانت الجملة اسميّة فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران ، ومجيء الواو أولى.

أما الأول فلعكس ما ذكرناه في المصدّرة بالماضي المثبت ؛ فمجيء الواو كقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ٢٢] ، وقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) [البقرة : الآية ١٨٧] ، وقول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

وقوله : [امرؤ القيس]

ليالي يدعوني الهوى وأجيبه

وأعين من أهوى إليّ رواني (٢)

والخلوّ منها كما رواه سيبويه (٣) : «كلّمته فوه إلى فيّ» و «رجع عوده على بدئه» بالرفع ، وما أنشده أبو عليّ في الإغفال [الحسن بن أحمد النحوي](٤) :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٨٦.

(٣) سيبويه : هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، الملقب بسيبويه ، مولى بني الحارث بن كعب ، سكن الكوفة ، وتوفي بمدينة ساوة سنة ١٧٧ ه‍ ، له «الكتاب» في النحو مشهور. (كشف الظنون ٥ / ٨٠٢).

(٤) هو أبو علي الفارسي ، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفسوي ، النحوي البغدادي ، ولد سنة ٢٨٨ ه‍ ، وتوفي سنة ٣٧٧ ه‍. من تصانيفه : أبيات الإعراب ، أبيات المعاني ، الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني ، الإيضاح الشعري ، الإيضاح في النحو ، التذكرة في النحو ، تعليقة على كتاب سيبويه ، تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ،) تكملة في النحو ، الحجة في شرح السبعة ، لابن مجاهد في القراءات ، ديوان شعره ، ـ ـ


ولو لا جنان الليل ما آب عامر

إلى جعفر ، سرباله لم يمزّق (١)

وقول الآخر :

ما بال عينك دمعها لا يرقأ؟! (٢)

وقول الآخر : [طرفة بن العبد]

ثمّ راحوا ، عبق المسك بهم (٣)

وأما الثاني فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت ، مع ظهور الاستئناف فيها ؛ لاستقلالها بالفائدة ، فتحسن زيادة رابط ، ليتأكد الربط.

وقال الشيخ عبد القاهر : إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال ؛ وجب الواو ، كقولك : جاء زيد وهو يسرع ، أو وهو مسرع ، ولعل السبب فيه أن أصل الفائدة كان يصل بدون هذا الضمير ، بأن يقال : جاءني زيد يسرع ، أو مسرعا ؛ فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال ؛ فلا يصلح لأن يستقل بإفادة الربط ؛ فتجب الواو.

وقال أيضا : إن جعل نحو «على كتفه سيف» ـ بتقديم الظرف ـ حالا عن شيء ، كما في قولنا : «جاء زيد على كتفه سيف» كثر فيها أن تجيء بغير واو ، كقول بشار : [بن برد]

__________________

العوامل في النحو ، كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير ، كتاب الترجمة ، كتاب المقصور والممدود ، المسائل البصرية ، المسائل البغداديات ، المسائل الحلبيات ، المسائل الدمشقية ، المسائل الشيرازيات ، المسائل العسكرية ، المسائل القصريات ، المسائل الكرمانية ، المسائل المشكلة ، المسائل المصلحة ، المسائل المنثورة ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٢).

(١) البيت من الطويل ، وهو لسلامة بن جندل في ديوانه ص ١٧٦ ، والأصمعيات ص ١٣٥ ، ولسان العرب (جنن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢١٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٥٨.

(٢) عجز البيت :

وحشاك من خفقانه لا يهدأ

والبيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص ٤٥٧.

(٣) عجز البيت :

يلحفون الأرض هدّاب الأزر

والبيت من الرمل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٥٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٥ ، ولسان العرب (لحف) ، (عبق) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٠٨ ، وتاج العروس (لحف) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٦.


إذا أنكرتني بلدة ، أو نكرتها

خرجت مع البازي عليّ سواد (١)

يعني : عليّ بقية من الليل ، وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن :

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا (٢)

وقول الآخر : [وائلة السدوسي]

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر

تقوم عليها في يديك قضيب (٣)

ثم قال : والوجه أن يقدّر الاسم في الأمثلة مرتفقا بالظرف ؛ فإنه جائز باتفاق من صاحب الكتاب (٤) ، وأبي الحسن (٥) ؛ لاعتماده على ما قبله ، ثم اختار أن يكون الظرف هاهنا خاصة في تقدير اسم فاعل ، وجوّز أيضا أن يكون في تقدير فعل ماض مع «قد» ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع.

ولعله إنما اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ إلى أصلها في الإفراض ولهذا كثر مجيئها بلا واو ، وإنما جوّز التقدير بفعل ماض أيضا لمجيئها بالواو قليلا ، وإنما منع التقدير بفعل مضارع لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو.

ثم قال : وربما يحسن مجيء الاسمية بلا واو ؛ لدخول حرف على المبتدأ ، كما في قوله : [الفرزدق]

فقلت عسى أن تبصريني كأنّما

بنيّ حواليّ الأسود الحوارد (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٧١ ، (طبعة دار الثقافة) ، والإشارات والتنبيهات ص ١٣٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي الصلت في ديوان ابنه أمية ص ٥٢ (وفيه أن أكثر الرواة ينسب القصيدة التي من ضمنها هذا البيت لأبي الصلت ، وبعضهم ينسبها لابنه أمية ، وبعضهم ينسبها لزمعة جدّ أمية) ، ومعجم البلدان (غمدان) ، وبلا نسبة في لسان العرب (غمد) ، (رفق) ، وتاج العروس (رفق) ، وجمهرة اللغة ص ٣٤٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لوائلة السدوسي في البيان والتبيين ٣ / ٤٥.

(٤) صاحب الكتاب هو سيبويه ، تقدمت ترجمته قبل قليل.

(٥) أبو الحسن : هو الكسائي ، وهو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان ، مولى بني أسد ، أبو الحسن ، المعروف بالكسائي ، ثم البغدادي الكوفي ، أحد أئمة النحو ، توفي سنة ١٨٩ ه‍ ، له من المصنفات : اختلاف العدد ، أشعار المعاياة وطرائقها ، قصص الأنبياء ، كتاب الحروف ، كتاب العدد ، كتاب القراءات ، كتاب المصادر ، كتاب النوادر الأصغر ، كتاب النوادر الأكبر ، كتاب النوادر الأوسط ، كتاب الهاءات ، المكنى في القرآن ، كتاب الهجاء ، مختصر في النحو ، معاني القرآن ، مقطوع القرآن وموصوله. (كشف الظنون ٥ / ٦٦٨).

(٦) يروى صدر البيت بلفظ : ـ ـ


فإنه لو لا دخول «كأن» عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو ، كقولك : عسى أن تبصريني وبنيّ حواليّ الأسود.

ثم قال : وشبيه بهذا أن تقع حالا بعقب مفرد ، فيلطف مكانها ، بخلاف ما لو أفردت ، كقول ابن الرومي : [علي بن العباس]

والله يبقيك لنا سالما

برداك تبجيل وتعظيم (١)

فإنه لو قال : «والله يبقيك لنا برداك تبجيل (وتعظيم)» لم يحسن.

هذا كله إذا لم يكن صاحبها نكرة مقدّمة عليها ، فإن كان كذلك نحو : «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» وجب الواو ؛ لئلّا تشبه بالنعت.

وأما نحو قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : الآية ٤] فقال السكاكي : الوجه فيه عندي هو أن (وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : الآية ٤] حال للقرية ؛ لكونها في حكم الموصوفة ، نازلة منزلة «وما أهلكنا قرية من القرى» لا وصف ، وحمله على الوصف سهو ، لا خطأ ، ولا عيب في السهو للإنسان ، ولا ذمّ ، والسهو ما يتنبّه له صاحبه بأدنى تنبيه ، والخطأ ما لا يتنبه له صاحبه ، أو يتنبه ولكن بعد إتعاب.

وكأنه عرّض بالزمخشري حيث قال في تفسيره : «لها كتاب» جملة واقعة صفة لـ «قرية» والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما ، كما في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢٠٨) [الشّعراء : الآية ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال «جاءني زيد عليه ثوب» و «جاءني زيد وعليه ثوب».

ثم قال السكاكي : من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة تنبّه لجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو ، في مثل : «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» ولمزيد جوازه في قوله عزّ اسمه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : الآية ٤] على ما قدمت.

واعلم أن السكاكي بنى كلامه في الجملة الواقعة حالا على أصول مضطربة لا يخفى حالها على الفطن لا سيما إذا أحاط علما بما ذكرناه ، وأتقنه ، فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه ، والتعرّض لما فيه من الخلل ؛ لئلّا يطول الكتاب من غير طائل.

__________________

لعلك يوما أن تريني كأنما

والبيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٤٦ (وفيه «اللوابد» بدل «الحوارد») ، ومجمل اللغة ٢ / ٥٦ ، وأساس البلاغة (حرد) ، والحيوان ٣ / ٩٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٠٤ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥٠١ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٥٢.

(١) البيت من السريع ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٢١٢.


القول في الإيجاز والإطناب والمساواة

قال السكاكي : أما الإيجاز والإطناب ، فلكونها نسبيّين ، لا يتيسّر الكلام فيهما إلّا بترك التحقيق ، والبناء على شيء عرفيّ ، مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم ـ ولا بد من الاعتراف بذلك ـ مقيسا عليه ، ولنسمّه متعارف الأوساط وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم ولا يذمّ.

فالإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقلّ من عبارات متعارف الأوساط ، والإطناب هو أداؤه بأكثر من عبارته ، سواء كانت القلّة أو الكثرة راجعة إلى الجمل ، أو إلى غير الجمل.

ثم قال : الاختصار لكونه من الأمور النسبيّة ، يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة ، وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى.

وفيه نظر ؛ لأن كون الشيء نسبيّا لا يقتضي أن لا يتيسّر الكلام فيه إلا بترك التحقيق ، والبناء على شيء عرفيّ.

ثم البناء على متعارف الأوساط. والبسط الذي يكون المقصود جديرا به ، ردّ إلى جهالة ؛ فكيف يصلح للتعريف؟

والأقرب أن يقال :

المقبول من طرق التعبير عن المعنى : هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له ، أو ناقص عنه واف ، أو زائد عليه لفائدة.

والمراد بالمساواة : أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد ؛ لا ناقصا عنه بحذف أو غيره ، كما سيأتي ، ولا زائدا عليه بنحو تكرير ، أو تتميم ، أو اعتراض ، كما سيأتي.

وقولنا : «واف» احتراز عن الإخلال ، وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى ، كقول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا (١)

فإنه أراد : إذ يقتلون نفوسهم في السّلم ، وقول الحارث بن حلّزة :

والعيش خير في ظلا

ل النّوك ممّن عاش كدّا (٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعروة بن الورد في ديوانه ص ٨٨.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٤٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٠٠ ، ـ ـ


فإنه أراد : العيش الناعم في ظلال النّوك : خير من العيش الشّاقّ في ظلال العقل فأخلّ كما ترى.

وقولنا : «لفائدة» احتراز من شيئين :

أحدهما : التطويل ، وهو أن يتعيّن الزائد في الكلام ، كقوله : [عدي بن زيد العبادي]

وألفى قولها كذبا ومينا (١)

فإن الكذب والمين واحد.

وثانيهما : ما يشتمل على الحشو ، والحشو ما يتعين أنه الزائد ، وهو ضربان :

أحدهما : ما يفسد المعنى ، كقول أبي الطّيّب :

ولا فضل فيها للشجاعة والنّدى

وصبر الفتى ، لولا لقاء شعوب (٢)

فإن لفظ «الندى» فيه حشو يفسد المعنى ، لأن المعنى : أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لو لا الموت. وهذا الحكم صحيح في الشجاعة دون الندى ؛ لأن الشجاع لو علم أنه يخلد في الدنيا لم يخش الهلاك في الإقدام ؛ فلم يكن لشجاعته فضل. بخلاف الباذل ماله ؛ فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله ولهذا يقول إذا عوتب فيه : كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ أنّى أثق بالتمتّع بهذا المال؟ وعليه قول طرفة :[بن العبد]

فإن كنت لا تسطيع دفع منيّتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي (٣)

وقول مهيار : [بن مرزويه الديلمي]

فكل إن أكلت ، وأطعم أخاك

فلا الزّاد يبقى ولا الآكل (٤)

__________________

والأغاني ١١ / ٤٤ ، وبهجة المجالس ١ / ١٨٧ ، والشعر والشعراء ص ٢٠٤ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٧ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٦ ، ١٨٨.

(١) صدر البيت :

وقددت الأديم لراهشيه

والبيت من الوافر ، وهو لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٢١٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٩٣ ، والدرر ٦ / ٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٣٣ ، ولسان العرب (مين) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣١٠ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ١ / ٣٥٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٧٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٢٤.

(٤) البيت من المتقارب ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


فلو علم أنه يخلد ، ثم جاد بماله ، كان جوده أفضل. فالشجاعة لو لا الموت لم تحمد ، والندى بالضّدّ.

وأجيب عنه : بأن المراد بالندى في البيت بذل النفس ، لا بذل المال ، كما قال مسلم بن الوليد :

يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود (١)

وردّ بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس ، وإن استعمل فعلى وجه الإضافة. فأما مطلقا : فلا يفيد إلّا بذل المال.

والثاني : ما لا يفسد المعنى كقوله : [أبو العيال الخفاجي]

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب (٢)

فإن لفظ «الرأس» فيه حشو لا فائدة فيه ، لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس ، وليس بمفسد للمعنى.

وقول زهير : [بن أبي سلمى]

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم (٣)

فإن قوله : «قبله» مستغنى عنه غير مفسد.

وقول أبي عديّ :

نحن الرؤوس ، وما الرؤوس إذا سمت

في المجد للأقوام كالأذناب (٤)

فإن قوله : «للأقوام» حشو لا فائدة فيه ، مع أنه غير مفسد.

واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر ؛ لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته ؛ فيعدّ

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان مسلم بن الوليد ص ٢٥ ، والعقد الفريد ١ / ٥٦.

(٢) يروى عجز البيت بلفظ :

رداع السقم والوصب

والبيت من مجزوء الوافر ، وهو لأبي العيال الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٤٢٤ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٢٠٤ ، ولسان العرب (ردع) (وفيه «والوصب» بدل «والوصب») وهذا خطأ ، والبيت من قصيدة مضمومة الرويّ) ، وتاج العروس (ردع).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، ولسان العرب (عمى) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٤٥ ، وشرح المعلقات السبع ص ٦٩ ، وشرح المعلقات العشر ص ٨٦.

(٤) البيت من الكامل ، وأبو عدي هو عبد الله بن عمرو الأموي.


من الزائد على أصل المراد ما ليس منه ، كما مثّله بعض الناس بقول القائل :[كثير بن عبد الرحمن «عزّة»]

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح (١)

وشدّت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بينا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

يبيّن أنه ليس منه ما ذكره الشيخ عبد القاهر في شرحه.

قال : أول ما يتلقّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال : «ولما قضينا من منى كل حاجة» فعبّر عن قضاء المناسك ـ فرائضها وسننها ـ بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار.

ثم نبّه بقوله : «ومسح بالأركان من هو ماسح» على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر.

ثم قال : «وشدّت ـ البيت» فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زمّ الركاب وركوب الرّكبان.

ثم دلّ بلفظ «الأطراف» على الصفة التي تختصّ بها الرّفاق في السّفر : من التصرّف في فنون القول ، وشجون الحديث ، أو ما هو عادة المتظرّفين : من الإشارة ، والتلويح والرمز والإيماء ، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوّة النشاط ، وفضل الاغتباط ، كما توجبه ألفة الأصحاب ، وأنسة الأحباب ، ويليق بحال من وفّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب ، وتنسّم روائح الأحبّة والأوطان واستماع التّهاني والتحايا من الخلّان والإخوان.

ثم زان ذلك كلّه باستعارة لطيفة ؛ حيث قال : «وسالت بأعناق المطيّ الأباطح» فنبّه بذلك على سرعة السّير ، ووطأة الظهر. وفي ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة ، وكان سيرها سهلا سريعا زاد ذلك في نشاط الرّكبان ، فيزداد الحديث طيبا.

ثم قال : «بأعناق المطيّ» ولم يقل : «بالمطي» لأن السرعة والبطء في سير الإبل

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، والبيت الأول لكثير عزة في ملحق ديوانه ص ٥٢٥ ، وزهر الآداب ص ٣٤٩ ، وللمضرب عقبة بن كعب بن زهير في الحماسة البصرية ٢ / ١٠٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب (طرف) ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٥٩ ، والشعر والشعراء ص ٧٢ ، والخصائص ١ / ٢٨ ، ٢١٨ ، ٢٢٠ ، ومعجم البلدان (منى).


يظهران غالبا في أعناقها ، ويتبيّن أمرها من هواديها وصدورها ، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة ، وتتبعها في الثقل والخفّة.

القسم الأول

المساواة

كقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : الآية ٤٣] وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : الآية ٦٨] ، وقول النابغة الذبياني :

فإنك كاللّيل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (١)

القسم الثاني

الإيجاز

وهو ضربان :

أحدهما : إيجاز القصر ، وهو ما ليس بحذف ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : الآية ١٧٩] فإنه لا حذف فيه ، مع أن معناه كثير ، يزيد على لفظه ؛ لأن المراد به : أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا له قويّا إلى أن لا يقدم على القتل. فارتفع بالقتل ـ الذي هو قصاص ـ كثير من قتل الناس بعضهم لبعض ، فكان في ارتفاع القتل حياة لهم.

وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى ـ وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل» من وجوه

أحدها : أن عدّة حروف ما يناظره منه ـ وهو «في القصاص حياة» ـ عشرة في التلفّظ ، وعدّة حروفه أربعة عشر.

وثانيها : ما فيه من التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنصّ عليها. فيكون أزجر عن القتل بغير حق ، لكونه أدعى إلى الاقتصاص.

وثالثها : ما يفيد تنكير «حياة» من التعظيم ، أو النوعيّة ، كما سبق.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٨ ، ولسان العرب (طور) ، (نأى) ، وكتاب العين ٨ / ٣٩٣ ، وتاج العروس (نأى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٣٧٨ ، ومجمل اللغة ٤ / ٣٦٨.


ورابعها : اطّراده ، بخلاف قولهم. فإن القتل الذي ينفي القتل : هو ما كان على وجه القصاص ، لا غيره.

وخامسها : سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام ، بخلاف قولهم.

وسادسها : استغناؤه عن تقدير محذوف ، بخلاف قولهم. فإن تقديره : القتل أنفى للقتل من تركه.

وسابعها : أن القصاص ضدّ الحياة ، فالجمع بينهما طباق ، كما سيأتي.

وثامنها : جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال «في» عليه ، على ما تقدم.

ومنه قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢] ، أي هدى للضّالّين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال. وحسّنه التوصّل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، وإلى تصدير السّورة بذكر أولياء الله تعالى.

وقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) [يونس : الآية ١٨] أي : بما لا ثبوت له ؛ ولا علم الله متعلق بثبوته ؛ نفيا للملزوم بنفي اللازم. وكذا قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : الآية ١٨] أي : لا شفاعة ولا طاعة ، على أسلوب قوله : [امرؤ القيس]

على لاحب لا يهتدى بمناره (١)

أي : لا منار ، ولا اهتداء ، وقوله : [أوس بن حجر]

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر (٢)

أي : لا ضبّ ، ولا انجحار.

ومن أمثلة الإيجاز أيضا : قوله تعالى فيما يخاطب به النبيّ عليه الصلاة والسّلام : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) [الأعراف : الآية ١٩٩] فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق ، لأن قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) أمر لإصلاح قوّة الشّهوة. فإن العفو ضدّ الجهل ، قال

__________________

(١) عجز البيت :

إذا سافه العود الديافيّ جرجرا

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٦٦ ، ولسان العرب (ديف) ، (سوف) ، (لحف) وتهذيب اللغة ٥ / ٧٠ ، ١٣ / ٩٢ ، ١٤ / ١٩٨ ، وأساس البلاغة (سوف) ، وتاج العروس (ديف) ، (لحف) ، (سوف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نسا) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣١٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ٣٠٤.

(٢) صدر البيت :

لا تفزع الأرنب أهوالها

والبيت من السريع ، وهو لابن أحمر في ديوانه ص ٦٧ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١١ / ٣١٣ ، والخصائص ٣ / ١٦٥ ، ٣٢١.


الشاعر : [أسماء بن خارجة الفزاري]

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

أي خذي ما تيسّر أخذه وتسهّل ، وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : الآية ١٩٩] أمر بإصلاح قوّة الغضب ، أي أعرض عن السّفهاء واحلم عنهم ، ولا تكافئهم على أفعالهم. هذا ما يرجع إليه منها. وأما ما يرجع إلى أمّته : فدلّ عليه بقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الأعراف : الآية ١٩٩] أي : بالمعروف والجميل من الأفعال. ولهذا قال جعفر الصادق (١) رضي الله عنه ـ فيما روي عنه : أمر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية.

ومنها قول الشريف الرضي :

مالوا إلى شعب الرّحال وأسندوا

أيدي الطّعان إلى قلوب تخفق (٢)

فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام : عبّر عن ذلك بقوله : «أيدي الطعان».

ومنه ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون ، لرجل يعنى به ، إلى بعض العمال ، حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن : «كتابي إليك كتاب واثق ممّن كتب إليه ، معنيّ بمن كتب له ، ولن يضيع بين الثّقة والعناية حامله».

الضرب الثاني : إيجاز الحذف ، وهو ما يكون بحذف.

والمحذوف : إما جزء جملة أو جملة ، أو أكثر من جملة.

والأول : إمّا مضاف ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : الآية ٨٢] أي : أهلها ، وكقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : الآية ٣] أي : تناولها. لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال ، دون الإجرام ، وقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النّساء : الآية ١٦٠] أي : تناول طيّبات أحلّ لهم تناولها ، وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل ؛ ليدخل فيه شرب ألبان الإبل. فإنها من جملة ما حرّمت عليهم ، وقوله : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) [الأنعام : الآية ١٣٨] أي : منافع ظهورها. وتقدير المنافع أولى من تقدير الركوب. لأنهم

__________________

(١) جعفر الصادق : هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ملقب بجعفر الصادق ، سادس الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، توفي سنة ١٤٨ ه‍ (انظر ترجمته في كتاب الوفيات ص ١٢٧ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٩١ ، شذرات الذهب ١ / ٢٢٠ ، حلية الأولياء ٣ / ١٩٢ ، البداية والنهاية ١٠ / ١٠٩ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ٤٤٤).

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان الشريف الرضي ٢ / ٤٣.


حرموا ركوبها وتحميلها ، وكقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) [الأحزاب : الآية ٢١] أي : رحمة الله ، وقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) [النّحل : الآية ٥٠] أي : عذاب ربّهم. وقد ظهر هذان المضافان في قوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : الآية ٥٧].

وإما موصوف ، كقوله : [سحيم بن وثيل الرياحي]

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا (١)

أي : أنا ابن رجل جلا.

وإما صفة ، نحو : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : الآية ٧٩] أي : كلّ سفينة صحيحة أو صالحة ، أو نحو ذلك ، بدليل ما قبله. وقد جاء ذاك مذكورا في بعض القراءات ، قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : «وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا».

وإما شرط ، كما سبق. وإما جواب شرط ، وهو ضربان.

أحدهما : أن يحذف لمجرد الاختصار ، كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) [يس : الآية ٤٥] ، أي : أعرضوا ، بدليل قوله بعده : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) [يس : الآية ٤٦] ، وكقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرّعد : الآية ٣١] أي لكان هذا القرآن ، وكقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : الآية ١٠]؟ أي : ألستم ظالمين ، بدليل قوله بعده : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف : الآية ١٠].

والثاني : أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف.

أو لتذهب نفس السامع فيه كلّ مذهب ممكن ؛ فلا يتصوّر مطلوبا أو مكروها إلّا

__________________

(١) عجز البيت :

متى أضع العمامة تعرفوني

والبيت من الوافر ، وهو لسحيم بن وثيل الرياحي في الاشتقاق ص ٢٢٤ ، والأصمعيات ص ١٧ ، وجمهرة اللغة ص ٤٩٥ ، ١٠٤٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٥٥ ، والدرر ١ / ٩٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٢ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٤٧ ، والكتاب ٣ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٥٦ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢١٤ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٤٥٦ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٢٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٠٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٥٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤٩ ، وشرح قطر الندى ص ٨٦ ، وشرح المفصل ١ / ٦١ ، ولسان العرب (ثنى) ، (جلا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٢٠ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢١٢ ، ومغني اللبيب ١ / ١٦٠ ، والمعرب ١ / ٢٨٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٠.


مكروها إلا يجوّز أن يكون الأمر أعظم منه ، ولو عيّن شيء اقتصر عليه. وربما خفّ أمره عنده ، كقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزّمر : الآية ٧٣] ، وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : الآية ٢٧] ، (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : الآية ٣٠] ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السّجدة : الآية ١٢].

وقال السكاكي رحمه الله : ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم : جاء بعد اللّتيّا واللتي ، أي المشار إليه بهما ، وهي المحنة والشدائد قد بلغت شدّتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة.

وإما غير ذلك ، كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الحديد : الآية ١٠] أي : ومن أنفق من بعده وقاتل ، بدليل ما بعده.

ومن هذا الضرب قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤] لأن أصله : يا ربّ إني وهن العظم منّي ، واشتعل الرأس مني شيبا.

وعدّه السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز على ما فسره ، ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط ؛ فإن انقراض الشّباب وإلمام المشيب ؛ جديران بأبسط منه. ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها عن النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى.

ثم أفاد أن مرتبته الأولى : يا ربّي ، قد شخت. فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن ، وشيب الرأس.

ثم تركت هذه المرتبة ، لتوخّي مزيد التقرير إلى تفصيلها في «ضعف بدني ، وشاب رأسي».

ثم ترك التصريح بـ «ضعف بدني» إلى الكناية بـ «وهنت عظام بدني» ، لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح.

ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ في التقرير بنيت الكتابة على المبدأ فحصل : أنا وهنت عظام بدني.

ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت «إن» على المبتدأ ، فحصل : إني وهنت عظام بدني.

ثم لطلب تقرير أن الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة ، وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، فحصل : إني وهنت العظام من بدني.


ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة ، وهي ترك توسيط البدن ، فحصل : إني وهنت العظام مني.

ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا : قصدت مرتبة ثامنة ، وهي ترك الجمع إلى الإفراد ؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد ، فحصل ما ترى.

وهكذا تركت الحقيقة في : «شاب رأسي» إلى الاستعارة في اشتعل شيب «رأسي» لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة.

ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس ، وتفسيره بـ «شيبا» لأنها أبلغ من جهات :

إحداها : إسناد الاشتعال إلى الرأس ؛ لإفادة شمول الشّيب الرأس ؛ إذ وزان «اشتعل شيب رأسي» و «اشتعل رأسي شيبا» وزان «اشتعل النار في بيتي ، واشتعل بيتي نارا» والفرق بيّن.

وثانيتها : الإجمال والتفصيل في طريق التمييز.

وثالثتها : تنكير «شيبا» لإفادة المبالغة.

ثم ترك «اشتعل رأسي شيبا» لتوخّي مزيد التقرير إلى «اشتعل الرأس مني شيبا» على نحو (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي).

ثم ترك لفظ «منّي» لقرينة عطف (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ) على (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) لمزيد التقرير ، وهو إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ.

ثم قال عقيب هذا الكلام : واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب : هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي «ربّ» اختصرت ذلك الاختصار ، بأن حذفت كلمة النداء ، وهي «يا» وحذفت كلمة المضاف إليه ، وهي ياء المتكلم ، واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب ، وهي المنادى. والمقدمة للكلام ـ كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة ـ نازلة منزلة الأساس للبناء. فكما أن البنّاء الحاذق ؛ لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدّر من البناء عليه ، كذا البليغ يصنع بمبدأ كلامه ، فمتى رأيته قد اختصر المبدأ ؛ فقد آذنك باختصار ما يورد. انتهى كلامه.

وعليك أن تتنبّه لشيء ، وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ «العظام» إلى لفظ «العظم» فيه نظر ، لأنا لا نسلّم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض ، دون كلّ فرد.


فالوجه في ذكر «العظم» ـ دون سائر ما تركّب منه البدن ـ وتوحيده ؛ ما ذكره الزمخشري قال : إنما ذكر «العظم» لأنه عمود البدن ، وبه قوامه وهو أصل بنائه ، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشدّ ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحّده لأن الواحد هو الدّال على معنى الجنسية وقصده : إلى هذا الجنس ـ الذي هو العمود ، والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد ـ قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر. وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ، ولكن كلّها.

واعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعمّ جملته حتى لا يبقى من السواد شيء ، أو لا يبقى منه إلا مما لا يعتدّ به.

والثاني ـ أعني ما يكون جملة ـ إما مسبّب ، ذكر سببه ، كقوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : الآية ٨] أي : فعل ما فعل ، وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : الآية ٤٦] أي : اخترناك ، وقوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [الفتح : الآية ٢٥] أي : كان الكفّ ومنع التعذيب. ومنه قول أبي الطّيّب :

أتى الزّمان بنوه في شبيبته

فسرّهم ، وأتيناه على الهرم (١)

أي : فساءنا أو بالعكس ، كقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : الآية ٥٤] أي : فامتثلتم فتاب عليكم ، وقوله : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : الآية ٦٠] أي : فضربه بها فانفجرت ، ويجوز أن يقدّر : فإن ضربت بها فقد انفجرت ، أو غير ذلك ، كقوله تعالى : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذّاريات : الآية ٤٨] على ما مرّ.

والثالث : كقوله تعالى : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) [البقرة : الآية ٧٣] أي : فضربوه ببعضها فحيي ، فقلنا : كذلك يحيي الله الموتى ، وقوله : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ) [يوسف : الآيتان ٤٥ ، ٤٦] أي : فأرسلوني إلى يوسف لاستعبره الرؤيا ، فأرسلوه إليه فأتاه ، وقال له : يا يوسف ، وقوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) (٣٦) [الفرقان : الآية ٣٦] أي : فأتياهم فأبلغاهم الرسالة ، فكذّبوهما ، فدمّرناهم. وقوله : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشّعراء : الآيات ١٦ ـ ١٨] أي : فأتياه ، فأبلغاه ذلك ، فلما سمعه قال : ألم نربك ، ويجوز أن يكون التقدير : فأتياه فأبلغاه ذلك. ثم يقدّر : فماذا

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٦٢.


قال؟ فيقع قوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشّعراء : الآية ١٨] استئنافا. ونحوه قوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) [النّمل : الآيتان ٢٨ ، ٢٩] أي : ففعل ذلك ، فأخذت الكتاب فقرأته ، ثم كأن سائلا سأل قال : فما ذا قالت؟ فقيل : قالت : يا أيها الملأ.

وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النّمل : الآية ١٥] فقال الزمخشري في تفسيره : هذا موضع الفاء ، كما يقال : «أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر» وعطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم ، كأنه قال : فعملا به ، وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه ، والفضيلة ، وقالا : الحمد لله.

وقال السكاكيّ : يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عمّا صنع بهما ، وعما قالا ، كأنه قال : نحن فعلنا إيتاء العلم ، وهما فعلا الحمد ، من غير بيان ترتّبه عليه ؛ اعتمادا على فهم السامع ، كقولك : قم يدعوك ؛ بدل : قم فإنه يدعوك.

واعلم أن الحذف على وجهين :

أحدهما : أو لا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق.

والثاني : أن يقام مقامه ما يدلّ عليه ، كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) [هود : الآية ٥٧] ليس الإبلاغ هو الجواب ؛ لتقدمه على تولّيهم ، والتقدير : فإن تولّوا فلا لوم عليّ ؛ لأني قد أبلغتكم ، أو فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد أبلغتكم ، وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر : الآية ٤] أي : فلا تحزن ، واصبر ، فإنه قد كذّبت رسل من قبلك ، وقوله : (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : الآية ٣٨] أي : فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين.

وأدلة الحذف كثيرة.

منها : أن يدلّ العقل على الحذف ، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف ، كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : الآية ٣] الآية ، وقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النّساء : الآية ٢٣] الآية. فإن العقل يدل على الحذف لما مر ، والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرّم عليكم تناول الميتة ، وحرّم عليكم نكاح أمّهاتكم ، لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ، ومن النساء نكاحهنّ.

ومنها : أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : الآية ٢٢] أي أمر ربك ، أو عذابه ، أو بأسه ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : الآية ٢١٠] أي : عذاب الله ، أو أمره.


ومنها : أن يدل العقل على الحذف ، والعادة على التعيين ، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : الآية ٣٢] دلّ العقل على الحذف فيه ، لأن الإنسان إنما يلام على كسبه ؛ فيحتمل أن يكون التقدير : في حبه ؛ لقوله (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [يوسف : الآية ٣٠] ، وأن يكون : في مراودته ، لقوله : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : الآية ٣٠] ، وأن يكون في شأنه وأمره ، فيشملهما ، والعادة دلّت على تعيين المراودة ، لأن الحبّ المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته (إيّاه) ، وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.

ومنها : أن تدل العادة على الحذف والتعيين ، كقوله تعالى : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : الآية ١٦٧] مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحرب ، فكيف يقولون : بأنهم لا يعرفونها؟! فلا بد من حذف ، قدّره مجاهد (١) رحمه الله ، مكان قتال ، أي : أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ، ويخشى عليكم منه ، ويدل عليه أنهم أشاروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يخرج من المدينة ، وأن الحزم البقاء فيها.

ومنها : الشروع في الفعل ، كقول المؤمن : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كما إذا قلت عند الشروع في القراءة : (بِسْمِ اللهِ) فإنه يفيد : أن المراد «بسم الله أقرأ» وكذا عند الشروع في القيام ، والقعود ، أو أيّ فعل كان ؛ فإن المحذوف يقدّر على حسب ما جعلت التّسمية مبدأ له.

ومنها : اقتران الكلام بالفعل. فإنه يفيد تقريره ، كقولك لمن أعرس : بالرّفاء والبنين. فإنه يفيد : بالرّفاء والبنين أعرست.

القسم الثالث

الإطناب

وهو إما بالإيضاح بعد الإبهام ؛ ليرى المعنى في صورتين مختلفتين ، أو ليتمكن في النفس فضل تمكّن. فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوّقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح ، فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك ، فإذا ألقي كذلك تمكّن فيها فضل تمكّن ، وكان شعورها به أتم.

__________________

(١) مجاهد : هو مجاهد بن جبر ، أبو الحجاج المكي ، أحد الأعلام التابعين والأئمة المفسرين ، توفي سنة ١٠٤ ه‍ ، (انظر ترجمته في البداية والنهاية ٩ / ٢٣٧ ـ ٢٤٢ ، وفيه : توفي سنة ١٠٣ ه‍) ، كتاب الوفيات ص ١٠٢ ، شذرات الذهب ١ / ١٢٥ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٧٩.


أو لتكمل اللذة بالعلم به. فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدّم حصول اللذة به ألم ، وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه ، تشوّفت النفس إلى العلم بالمجهول ، فيحصل لها بسبب المعلوم لذّة ، وبسبب حرمانها عن الباقي ألم. ثم إذا حصل لها العلم به : حصلت لها لذة أخرى ، واللذة عقب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم.

أو لتفخيم الأمر وتعظيمه ، كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) [طه : الآيتان ٢٥ ، ٢٦] ، فإن قوله : (اشْرَحْ لِي) يفيد طلب شرح لشيء ما له ، وقوله : (صَدْرِي) يفيد تفسيره وبيانه ، وكذلك قوله : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) [طه : الآية ٢٦] والمقام مقتض للتأكيد ، وللإرسال المؤذن بتلقّي المكاره والشدائد ، وكقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦) [الحجر : الآية ٦٦] ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ، وتعظيم له.

ومن الإيضاح بعد الإبهام : باب «نعم وبئس» على أحد القولين ؛ إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل : نعم زيد ، وبئس عمرو.

ووجه حسنه ـ سوى الإيضاح بعد الإبهام ـ أمران آخران :

أحدهما : إبراز الكلام في معرض الاعتدال ، نظرا إلى إطنابه من وجه ، وإلى اختصاره من آخر. وهو حذف المبتدأ في الجواب.

والثاني : إيهام الجمع بين المتنافيين.

ومنه التوشيع ، وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنّى مفسّر باسمين أحدهما معطوف على الآخر ، كما جاء في الخبر : «يشيب ابن آدم ، ويشيب فيه خصلتان : الحرص ، وطول الأمل» (١) وقول الشاعر : [عبد الله بن المعتز]

سقتني في ليل شبيه بشرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب (٢)

فما زلت في ليلين : شعر وظلمة

وشمسين : من خمر ، ووجه حبيب

وقول البحتريّ :

لما مشين بذي الأراك تشابهت

أعطاف قضبان به ، وقدود (٣)

__________________

(١) الحديث أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١١٥ ، ١١٩ ، ١٦٩ ، ١٩٢ ، ٢٥٦ ، ٢٧٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٣٩ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥٤٦.

(٢) البيتان لعبد الله بن المعتز في حاشية الدسوقي ٢ / ٧٤٣ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٨٥.

(٣) الأبيات من الكامل ، وهي في ديوان البحتري ص ١٢٦.


في حلّتي حبر وروض ، فالتقى

وشيان : وشي ربى ، ووشي برود

وسفرن. فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى ، وورد خدود

وإما بذكر الخاص بعد العامّ ؛ للتنبيه على فضله ، حتى كأنه ليس من جنسه ؛ تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : الآية ٩٨] ، وقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : الآية ١٠٤] ، وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : الآية ٢٣٨].

وإما بالتكرير لنكتة ، كتأكيد الإنذار في قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) [التّكاثر : الآيتان ٣ ، ٤] وفي «ثمّ» دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد.

وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ؛ ليكمل تلقّي الكلام بالقبول ، (كما) في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) [غافر : الآيتان ٣٨ ، ٣٩].

وقد يكرّر اللفظ لطول في الكلام ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩) [النّحل : الآية ١١٩] ، وفي قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠) [النّحل : الآية ١١٠].

وقد يكرّر لتعدّد المتعلّق ، كما كرره الله تعالى من قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) [الرّحمن : الآية ١٣] لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة ، وعقّب كلّ نعمة بهذا القول. ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى.

فإن قيل : قد عقّب بهذا القول ما ليس بنعمة ، كما في قوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) [الرّحمن : الآية ٣٥] ، وقوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤) [الرّحمن : الآيتان ٤٣ ، ٤٤].

قلنا : العذاب وجهنّم ـ وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى ـ فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي ، والترغيب في الطاعات ؛ من آلائه تعالى ، ونحوه قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) [المرسلات : الآية ١٥] لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول ، فصار كأنه قال عقب كلّ قصة : ويل يومئذ للمكذّبين بهذه القصة.

وإما بالإيغال ، واختلف في معناه.

فقيل : هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها.


كزيادة المبالغة في قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (١)

لم ترض أن تشبّهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا ، وقول ذي الرمة :

قف العيس في أطلال ميّة ، واسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل (٢)

أظن الذي يجدي عليك سؤالها

دموعا كتبذير الجمان المفصّل

وكتحقيق التشبيه في قول امرىء القيس :

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا : الجزع الذي لم يثقّب (٣)

فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية ، واحتاج إليها ، جاء بزيادة حسنة في قوله : «لم يثقّب» لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

ومثله قول زهير : [بن أبي سلمى]

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به : حبّ الفنا لم يحطّم (٤)

فإن حبّ الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن ؛ فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطّم.

وكذا قول امرىء القيس :

حملت ردينيّا كأن سنانه

سنا لهب لم يتّصل بدخان (٥)

كما سيأتي.

وقيل : لا يختص بالنظم ، ومثل له بقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) [يس : الآية ٢١].

وإما بالتذليل ، وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان الخنساء ص ٣٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٨ ، وتاج العروس (صخر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٠٩.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان ذي الرمة ص ١٤٥١ ، وأساس البلاغة (سلسل).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٥٣ ، ولسان العرب (جزع) ، وأساس البلاغة (جزع) ، وكتاب العين ١ / ٢١٦ ، وتاج العروس (جزع).

(٤) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢ ، ولسان العرب (فتت) ، (فنى) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٩٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في الإشارات والتنبيهات ص ١٩٦ ، ولم أجده في ديوانه.


وهو ضربان :

ضرب لا يخرج مخرج المثل ؛ لعدم استقلاله بإفادة المراد ، وتوقفه على ما قبله ، كقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) [سبأ : الآية ١٧]؟ إن قلنا : إن المعنى «وهل يجازى ذلك الجزاء».

وقال الزمخشري : وفيه وجه آخر ، وهو أن الجزاء عامّ لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإثابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) [سبأ : الآية ١٧] بمعنى عاقبناهم بكفرهم ، قيل : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : الآية ١٧]؟ بمعنى (وهل نعاقب) فعلى هذا يكون من الضرب الثاني.

وقول الحماسي : [ربيعة بن مقروم الضبي]

فدعوا نزال ، فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ (١)

وقول أبي الطيب :

وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى

إلى قمر؟ ما واجد لك عادمه (٢)

وقوله أيضا :

تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه

فما يقول لشيء : ليت ذلك لي (٣)

وقول ابن نباتة السعدي : [عبد العزيز بن محمد]

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل (٤)

قيل : نظر فيه إلى قول أبي الطّيّب ، وقد أربى عليه في المدح ، والأدب مع الممدوح ؛ حيث لم يجعله في حيّز من تمنّى شيئا.

وضرب يخرج مخرج المثل ، كقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١) [الإسراء : الآية ٨١] وقول الذبياني : [النابغة ابن زياد بن معاوية]

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لابن مقروم الضبي في الحيوان ٦ / ٤٢٧ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٩ ، ٦ / ٣١٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٥٣٦ ، وشرح المفصل ٤ / ٢٧ ، ولسان العرب (نزل) ، وتاج العروس (نزل).

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٣.

(٣) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٨٩.

(٤) البيت من البسيط ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟ (١)

وقول الحطيئة :

تزور فتى يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المكارم يحمد (٢)

وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء : الآيتان ٣٤ ، ٣٥] ، فإن قوله : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) من الأول ، وما بعده من الثاني ، وكل منهما تذييل على ما قبله.

وهو أيضا : إما لتأكيد منطوق كلام ، كقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) [الإسراء : الآية ٨١] الآية.

وإما لتأكيد مفهومه ، كبيت النابغة ، فإن صدره دلّ بمفهومه على نفي الكامل من الرجال ؛ فحقق ذلك وقرّره بعجزه.

وإما بالتكميل ، ويسمّى الاحتراس أيضا ، وهو أن يؤتى به في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه.

وهو ضربان :

ضرب يتوسط الكلام ، كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الرّبيع ، وديمة تهمي (٣)

وقول الآخر : [كثير بن عبد الرحمن]

لو أن عزّة خاصمت شمس الضّحى

في الحسن عند موفّق ، لقضى لها (٤)

إذ التقدير : عند حاكم موفّق ؛ فقوله «موفّق» تكميل.

وقول ابن المعتزّ :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٨ ، ولسان العرب (شعث) ، (بقي) ، وتهذيب اللغة ١ / ٤٠٦ ، ٦ / ٢٦٦ ، ٩ / ٣٤٨ ، وكتاب العين ٥ / ٢٣٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٠٧ ، وجمهرة الأمثال ١ / ١٨٨ ، وفصل المقال ص ٤٤ ، والمستقصى ١ / ٤٥٠ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٣ ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٧٧ ، وأساس البلاغة (بقي) ، وتاج العروس (بقي).

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الحطيئة ص ٤٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٨٨ ، وتخليص الشواهد ص ٢٣١ ، والدرر ٤ / ٩ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٦٢ ، وبلا نسبة في لسان العرب (همي) وهمع الهوامع ١ / ٢٤١.

(٤) البيت من الكامل ، ولم أجده في ديوان كثير عزة.


صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل (١)

وضرب يقع في آخر الكلام ، كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : الآية ٥٤] فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذّلة على المؤمنين ؛ لتوهّم أن ذلّتهم لضعفهم ، فلما قيل : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) علم أنها منهم تواضع لهم ، ولذا عدّي الذّل بـ «على» لتضمينه معنى العطف ، كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. ويجوز أن تكون التعدية بـ «على» لأن المعنى : أنهم مع شرفهم ، وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين ؛ خافضون لهم أجنحتهم.

ومنه قول ابن الرومي ، فيما كتب به إلى صديق له : «إني وليّك الذي لا يزال تنقاد إليك مودّته عن غير طمع ولا جزع ، وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ، ولذي الرهبة مهربا».

وكذا قول الحماسيّ :

رهنت يدي بالعجز عن شكر برّه

وما فوق شكري للشّكور مزيد (٢)

وكذا قول كعب بن سعد الغنوي :

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم في عين العدوّ مهيب (٣)

فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ، لأوهم أن حلمه عن عجز ؛ فلم يكن صفة مدح ؛ فقال : «إذا ما الحلم زين أهله» فأزال هذا الوهم ، وأما بقية البيت : فتأكيدا للازم ما يفهم من قوله : «إذا ما الحلم زين أهله» من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله ؛ فإن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله ؛ يكون مهيبا في عين العدو لا محالة ، فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا ، كما زعم بعض الناس.

ومنه قول الحماسيّ :

وما مات منّا سيّد في فراشه

ولا طلّ منّا حيث كان قتيل (٤)

فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم ؛ لأوهم أن ذلك لضعفهم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في زهر الآداب ١ / ٨٨.

(٢) البيت من الكامل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لكعب بن سعد الغنوي في لسان العرب (حلب) ، وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٧ ، ولغريقة بن مسافع العبسي في الأصمعيات ص ١٠٠ ، ويرى محقق الأصمعيات أن القصيدة التي منها هذا البيت لكعب بن سعد لا لغريقة ، انظر الأصمعيات ص ٩٨ ، الحاشية.

(٤) البيت من الطويل ، وهو للمسوأل بن عادياء في ديوانه ص ٩١ ، وأمالي القالي ١ / ٢٧٢ ، وديوان الحماسة ١ / ٥٨.


وقلّتهم ؛ فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم ، وكذا قول أبي الطيب :

أشدّ من الرّياح الهوج بطشا

وأسرع في النّدى منها هبوبا (١)

فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش ؛ لأوهم ذلك أنه عنف كله ، ولا لطف عنده.

فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة ، ولم يتجاوز في ذلك كلّه صفة الريح التي شبّهه بها ، وقوله : إنه أسرع في الندى منها هبوبا ، كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كان كالريح المرسلة» (٢).

وإما بالتتميم ، وهو : أن يؤتي في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة ، كالمبالغة في قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : الآية ٨] أي : مع حبّه ، والضمير للطعام ، أي مع اشتهائه ، والحاجة إليه ، ونحوه : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : الآية ١٧٧] ، وكذا : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : الآية ٩٢] وعن فضيل بن عياض : «على حب الله» فلا يكون مما نحن فيه.

وفي قول الشاعر :

إنّي على ما ترين من كبري

أعرف من أين تؤكل الكتف (٣)

وفي قول زهير :

من يلق يوما ـ على علّاته ـ هرما

يلق السماحة منه والنّدى خلقا (٤)

وإما بالاعتراض ، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام ، أو بين كلامين متّصلين معنى ، بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل.

كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [النّحل : الآية ٥٧] سبحانه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النّحل : الآية ٥٧].

والدعاء في قول أبي الطّيّب :

وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كلّ ما فيها ـ وحاشاك ـ فانيا (٥)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٤٠ ،

(٢) الحديث أخرجه البخاري في الصوم باب ٧ ، والمناقب باب ٢٣ ، والأدب باب ٣٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٤٨ ، ٥٠.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ٢٣٩.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٥٣ ، والإنصاف ١ / ٦٨ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٣٥ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٨٣١ ، وبلا نسبة في المقتضب ٤ / ١٠٣.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٠٥.


فإن قوله : «وحاشاك» دعاء حسن في موضعه.

ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني :

إن الثمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (١)

والتنبيه في قول الشاعر :

واعلم ـ فعلم المرء ينفعه ـ

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (٢)

وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علّق بهما ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : الآية ١٤].

والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطّيّب :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

 ـ يا جنّتي ـ لرأيت فيه جهنّما (٣)

والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة ، كما في قول الآخر :

فلا هجره يبدو ـ وفي اليأس راحة ـ

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه (٤)

فإن قوله : «فلا هجره يبدو» يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه ، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب ؛ فقال : «وفي اليأس راحة» لينبه على سببه. وقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ) [الواقعة : الآية ٧٦] ، في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : الآيات ٧٥ ـ ٧٧] اعتراض في اعتراض ؛ لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة ، واعترض بقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) [الواقعة : الآية ٧٦] بين القسم والمقسم عليه.

ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لعوف بن محلم في الدرر ٤ / ٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢١ ، وطبقات الشعراء ص ١٨٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٦٩ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٥٩ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٨ ، ٣٩٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٣٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١٩٥ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٧٧ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٩٨ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٥٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لابن ميادة في ديوانه ص ٢٢٥ ، ونقد الشعر ص ١٥١ ، وكتاب الصناعتين ص ٤٠٩.


التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) [البقرة : الآيتان ٢٢٢ ، ٢٢٣] ، فإن قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) بيان لقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : الآية ٢٢٢] يعني : أن المأتي الذي أمركم به هو مكان الحرث ، دلالة على أن الغرض الأصليّ في الإتيان : هو طلب النّسل ، لا قضاء الشهوة ، فلا تأتوهنّ إلا من حيث يتأتى فيه الغرض ، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا.

ونحوه في كونه أكثر من جملة ، قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) [آل عمران : الآية ٣٦] ، فإن قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : الآية ٣٦] ليس من قول أمّ مريم.

وكذا قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النّساء : الآيات ٤٤ ـ ٤٦] إن جعل «من الذين» بيانا ل (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : الآية ٢٣] لأنهم يهود ونصارى أو لـ «أعداءكم» فإنه على الأول يكون قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٤٥) [النّساء : الآية ٤٥] اعتراضا ، وعلى الثاني يكون (وَكَفى بِاللهِ) ... (وَكَفى بِاللهِ) ...» اعتراضا.

ويجوز أن يكون : «من الذين» صلة لـ «نصيرا» أي : ينصركم من الذين هادوا ، كقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الأنبياء : الآية ٧٧] وأن يكون كلاما مبتدأ على أن «يحرّفون» صفة مبتدأ محذوف تقديره : «من الذين هادوا قوم يحرّفون» كقوله : [تميم بن أبي مقبل]

وما الدهر إلا تارتان ؛ فمنهما

أموت ، وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

وقد علم مما ذكرنا : أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء ؛ قد يأتي بأحدهما.

ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق : حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معوّل عليه في الإفادة ، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها.

ومن الناس من لا يقيّد فائدة الاعتراض بما ذكرناه ، بل يجوّز أن تكون دفع توهّم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لتميم بن مقبل في ديوانه ص ٢٤ ، وحماسة البحتري ص ١٢٣ ، والحيوان ٣ / ٤٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٥٥ ، والدرر ٦ / ١٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٣٤ ، والكتاب ٢ / ٣٤٦ ، ولسان العرب (كدح) ، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص ٢٠٥ ، وبلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص ٥٤٧ ، ولسان العرب (تور) ، والمحتسب ١ / ١١٢ ، والمقتضب ٢ / ١٣٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٠.


ما يخالف المقصود ، وهؤلاء فرقتان :

فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام ، أو بين كلامين متّصلين معنى. بل يجوّز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام ، أو يليه غير متّصل به معنى ، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشّاف ، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل ، ومن التكميل ما لا محلّ له من الإعراب ، جملة كان أو أكثر من جملة.

وفرقة تشترط فيه ذلك ، لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة.

فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين ، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب ، جملة كان أو أقلّ من جملة أو أكثر.

وإما بغير ذلك ، كقولهم : «رأيته بعيني».

ومنه قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النّور : الآية ١٥] أي : هذا الإفك ليس إلّا قولا يجري على ألسنتكم ، ويدور في أفواهكم ، من غير ترجمة عن علم في القلب ، كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان.

وكذا قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : الآية ١٩٦] لإزالة توهّم الإباحة ، كما في نحو قولنا : «جالس الحسن وابن سيرين» وليعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ؛ ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : «علمان خير من علم».

وكذا قوله (كامِلَةٌ) [البقرة : الآية ١٩٦] تأكيد آخر ، وقيل : أي كاملة في وقوعها بدلا من الهدي ، وقيل : أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية ، حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة.

وكذا قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : الآية ٧] فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر «ويؤمنون به» لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم ، وحسّن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه.

وكذلك قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : الآية ١] فإنه لو اختصر لترك قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : الآية ١] لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر. وحسّنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر ، ونحو قول البلغاء : «لا ، وأصلحك الله».

وكذا قوله تعالى إخبارا : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها


مَآرِبُ أُخْرى) [طه : الآية ١٨] وحسّنه أنه عليه السّلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا ؛ فينبغي أن يتنبه لصفاتها ؛ حتى يظهر له التفاوت بين الحالين.

وكذا قوله : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) [الشّعراء : الآية ٧١] وحسّنه إظهار الابتهاج بعبادتها ، والافتخار بمواظبتها ، ليزداد غيظ السائل.

واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلّتها بالنسبة إلى كلام آخر مساو له في أصل المعنى ، كالشطر الأول من قول أبي تمام :

يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سودد

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد (١)

وقول الآخر : [المعذل بن عيلان]

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر (٢)

ومنه قول الشماخ : [بن ضرار الغطفاني]

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٣)

وقول بشر بن أبي خازم :

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها (٤)

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس إليها ، فاحتواها

ويقرب من هذا الباب قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : الآية ٢٣]

وقول الحماسي : [السموأل بن عادياء]

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول (٥)

وكذا ما ورد في الحديث : «الحزم سوء الظّنّ» ، وقول العرب : الثّقة بكلّ أحد عجز.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ص ١٢٢ ، وشرح عقود الجمان ١ / ٢١٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي الحسن الكاتب في شرح عقود الجمان ١ / ٢١٨ ، وينسب أيضا لأبي سعيد المخزومي ، وللمعذل بن غيلان.

(٣) البيت من الوافر ، وهو للشماخ في ديوانه ص ٣٣٦ ، ولسان العرب (عرب) ، (يمن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٢١ ، ١٥ / ٥٢٣ ، وجمهرة اللغة ص ٣١٩ ، ٩٩٤ ، وتاج العروس (عرب) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٥٨.

(٤) البيتان من الوافر ، وهما لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ٢٢٢ ، وأساس البلاغة (رفع).

(٥) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٠٦.


الفن الثاني

في علم البيان

وهو : علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه.

ودلالة اللفظ : إما على ما وضع له ، أو على غيره.

والثاني : إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت ، أو الحيوان في مفهوم الإنسان ، أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف ، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان.

وتسمّى الأولى دلالة وضعيّة. وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية.

وتختصّ الأولى بدلالة المطابقة ، والثانية بالتضمّن ، والثالثة بدلالة الالتزام.

وشرط الثالثة : اللّزوم الذهني ، أعني أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما لحصول الخارج ؛ لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر ؛ لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجة.

ولا يشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يثبته العقل ، بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب : إما لعرف ، أو لغيره. لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي الخارجيّ.

وقد وقع في كلام بعض العلماء ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام ، وهو بعيد جدا. وإن صح ، فلعلّ السبب فيه : توهّم أن المراد باللزوم الذهني اللزوم العقليّ. لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق.

ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتّي بالدلالة الوضعية. لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض ، وإلا لم يكن كلّ واحد منها دالّا.

وإنما يتأتى بالدلالات العقلية ؛ لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض.


ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له : إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع : فهو له مجاز ، وإلا فهو كناية.

ثم المجاز منه الاستعارة ، وهي ما تبتنى على التشبيه ، فيتعين التعرض له.

فانحصر المقصود في التّشبيه والمجاز ، والكناية ، وقدّم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز على التشبيه ، وقدّم المجاز لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكلّ.

القول في التشبيه

التشبيه : الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى.

والمراد بالتشبيه هاهنا : ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية ، ولا الاستعارة بالكناية ، ولا التجريد.

فدخل فيه ما يسمّى تشبيها بلا خلاف. وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه ، كقولنا : «زيد كالأسد» أو «كالأسد» بحذف «زيد» لقيام قرينة.

وما يسمّى تشبيها على المختار كما سيأتي ، وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه ، وكان اسم المشبّه به خبرا للمشبّه ، أو في حكم الخبر ، كقولنا : «زيد أسد» وكقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : الآية ١٨] أي : هم ، ونحوه قول من يخاطب الحجّاج : [عمران بن حطان]

أسد عليّ ، وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصّافر (١)

وكقولنا : «رأيت زيدا بحرا».

وإذا قد عرّفت معنى التشبيه في الاصطلاح ؛ فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره ، وفخامة أمره في فنّ البلاغة ، وأن تعقيب المعاني به ـ يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها مدحا كانت أو ذمّا ، أو افتخارا ، أو غير ذلك.

وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى قول البحتري :

دان على أيدي العفاة وشاسع

عن كل ندّ في النّدى ، وضريب (٢)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لرجل من الخوارج في جمهرة اللغة ص ٩٢٣ ، ولعمران بن حطان في الأغاني ١٨ / ١٢٢.

(٢) البيتان من البسيط ، وهما في الأسرار ص ٩٨ ، ١١٢ ، ٢٧٢ ، والوساطة ص ٢٠٤ ، ٢٠٥.


كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤه

للعصبة السّارين جدّ قريب

أو قول ابن لنكك : [محمد بن محمد]

إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا

رأيت صورته من أقبح الصّور (١)

وهبه كالشمس في حسن ، ألم ترنا

نفرّ منها إذا مالت إلى الضّرر

أو قول ابن الروميّ :

بذل الوعد للأخلّاء سمحا

وأبى بعد ذاك بذل العطاء (٢)

فغدا كالخلاف يورق للع

ين ، ويأبى الإثمار كلّ الإباء

أو قول أبي تمّام :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت ؛ أتاح لها لسان حسود (٣)

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

أو قوله أيضا :

وطول مقام المرء في الحيّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد (٤)

فإني رأيت الشمس زيدت محبّة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وقس حالك وأنت في البيت الأول ، ولم تنته إلى الثاني ، على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت علي : تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكّن المعنى لديك.

وكذا تعهّد الفرق بين أن تقول : «الدنيا لا تدوم» وتسكت ، وأن تذكر عقيبه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «من في الدنيا ضيف ، وما في يده عارية ، والضيف مرتحل والعارية مؤدّاة» (٥) ، أو تنشد قول لبيد : [بن ربيعة]

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع (٦)

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٠.

(٢) البيتان من الوافر ، وهما في أسرار البلاغة ص ٩٩ ، ١٢٨.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٠.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٠٦.

(٥) روي الحديث بلفظ : «العارية مؤداة والمنحة مردودة ، والدين مقضي» أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في البيوع باب ٩ ، والترمذي حديث ١٢٦٥ ، ٢١٢٠ ، وابن ماجة حديث ٢٣٩٨ ، ٢٣٩٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٦٧.

(٦) البيت من الطويل ، وهو للبيد في ديوانه ص ١٧٠ ، ولسان العرب (عمر) ، وتاج العروس (شيع) ، (ودع).


وبين أن تقول : «أرى قوما لهم منظر» وتقطع الكلام ، وأن تتبعه نحو قول ابن لنكك :

في شجر السّرو منهم مثل

له رواء ، وما له ثمر (١)

وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية : كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى؟!

ولذلك أسباب :

منها : ما يحصل للنفس من الأنس بإخراجها من خفيّ إلى جليّ ، كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة ، أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته ، كما قيل : [أبو تمام]

ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل (٢)

أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم ، كانتقال من المعقول إلى المحسوس ، فإنك قد تعبّر عن المعنى بعبارة تؤدّيه وتبالغ ، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقصر يوم كأقصر ما يتصوّر. فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم : «أيام كأباهيم القطا» وقول الشاعر :

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذّباب (٣)

وكذا تقول : فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره ، وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه ، ولم يشغله عنه شيء ، فلا يصادف السامع له أريحية ، حتى إذا قلت : [سعد بن ناشب] :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه (٤)

امتلأت نفسه سرورا ، وأدركته هزّة لا يمكن دفعها عنه.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ٩٩.

(٢) صدر البيت :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ويليه :

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

والبيتان من الكامل ، وهما في ديوان الصبابة لأبي تمام ص ١٥.

(٣) البيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٥٤٣.

(٤) عجز البيت :

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا

والبيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٥٤٣.


ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس ، وتمكين المعنى ما ليس لغيره : أنك إذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمره ، على طرف نهر ، وأنت تريد أن تقرّر له : أنه لا يحصل من سعيه على طائل ، فأدخلت يدك في الماء ، ثم قلت له : «انظر ، هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك» كان لذلك ضرب من التأثير في النفس ، وتمكين المعنى في القلب ، زائد على القول المجرد.

ومنها : الاستطراف ، كما سيأتي.

ومن فضائل التشبيه : أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدّة ، نحو أن يعطيك من الزّند بإيرائه ، شبه الجواد ، والذّكيّ ، والنّجح في الأمور ، وبإصلاده شبه البخيل ، والخيبة في السعي ومن القمر الكمال عن النقصان ، كما قال أبو تمّام :

لهفي على تلك الشواهد فيهما

لو أمهلت حتى تصير شمائلا (١)

لغدا سكوتهما حجى ، وصباهما

حلما ، وتلك الأريحيّة نائلا

ولأعقب النّجم المردّ بديمة

ولعاد ذاك الطّلّ جودا وابلا

إن الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

والنقصان عن الكمال ، كقول أبي العلاء المعري :

وإن كنت تبغي العيش فابغ توسّطا

فعند التّناهي يقصر المتطاول (٢)

توقّى البدور النقص وهي أهلّة

ويدركها النقصان وهي كوامل

وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة ، كقول ابن بابك في الأستاذ أبي عليّ ـ وقد استوزره ، وأبا العباس الضّبّي ـ فخر الدولة بعد وفاة ابن عباد :

وأعرت شطر الملك شطر كماله

والبدر في شطر المسافة يكمل (٣)

وقول أبي بكر الخوارزمي : [محمد بن العباس]

أراك إذا أيسرت خيمت عندنا

مقيما ، وإن أعسرت زرت لماما (٤)

فما أنت إلا البدر ، إن قلّ ضوؤه

أغبّ ، وإن زاد الضياء أقاما

المعنى لطيف وإن لم تساعده العبارة على ما يجب. لأن الإغباب أن يتخلّل بين

__________________

(١) الأبيات من الكامل ، وهي في الأسرار ص ١١٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٠٠.

(٢) البيتان من الطويل.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١١٦.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ١١٦ ، وزهر الآداب ٢ / ١١٥.


وقتي الحضور وقت يخلو منه. فإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوال الطلوع في كل ليلة ، بل يظهر في بعض الليالي دون بعض. وليس الأمر كذلك ، لأنه ـ على نقصانه ـ يطلع كل ليلة حتى تكون السّرار.

وكذا ينظر إلى بعده وارتفاعه ، وقرب ضوئه وشعاعه ، في نحو ما مضى من بيتي البحتري ، وإلى ظهوره في كل مكان ، كما في قول أبي الطيّب :

كالبدر من حيث التفتّ وجدته

يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا (١)

إلى غير ذلك.

ثم النظر في أركان التشبيه ـ وهي أربعة : طرفاه ، ووجهه ، وأداته ـ وفي الغرض منه ، وفي تقسيمه بهذه الاعتبارات.

أما طرفاه فهما :

إما حسّيّان ، كما في تشبيه الخدّ بالورد ، والقدّ بالرّمح ، والفيل بالجبل ، في المبصرات ، والصّوت الضعيف بالهمس في المسموعات ، والنّكهة بالعنبر في المشمومات ، والريق بالخمر في المذوقات ، والجلد الناعم بالحرير في الملموسات.

وإما عقليان ، كما في تشبيه العلم بالحياة.

وإما مختلفان ، والمعقول هو المشبّه كما في تشبيه المنيّة بالسّبع أو بالعكس ، كما في تشبيه العطر بخلق كريم.

والمراد بالحسّيّ : المدرك هو ـ أو مادّته ـ بإحدى الحواسّ الظاهرة ، فدخل فيه الخيالي ، كما في قوله : [الصنوبري ، أحمد محمد الحلبي]

وكأن محمرّ الشقيق

إذا تصوّب أو تصعّد (٢)

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

وقوله :

كلّنا باسط اليد

نحو نيلوفر ندي (٣)

كدبابيس عسجد

قضبها من زبرجد

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٥٦.

(٢) البيتان من مجزوء الكامل ، وهما للصنوبري في المصباح ص ١١٦ ، وأسرار البلاغة ص ١٥٨ ، والطراز ١ / ٢٧٥.

(٣) البيتان من مجزوء المتدارك ، وهما في أسرار البلاغة ص ١٥٨.


والمراد بالعقلي : ما عدا ذلك. فدخل فيه الوهميّ ، وهو ما ليس مدركا بشيء من الحواسّ الخمس الظاهرة ، مع أنه لو أدرك لم يدرك إلا بها ، كما في قول امرىء القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

وعليه قوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) [الصّافات : الآية ٦٥] وكذا ما يدرك بالوجدان ، كاللّذة ، والألم ، والشّبع ، والجوع.

وأما وجهه : فهو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان ، تحقيقا أو تخييلا.

والمراد بالتخييل : أن لا يمكن وجوده في المشبّه به إلا على تأويل ، كما في قول القاضي التنوخي :

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهن ابتداع (٢)

فإن وجه الشبه فيه : الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض في جوانب شيء مظلم أسود ؛ فهي غير موجودة في المشبّه به إلا على طريق التخييل.

وذلك : أنه لما كانت البدعة والضلالة وكلّ ما هو جهل ؛ يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة ، فلا يهتدي إلى الطريق ، ولا يفصل الشيء من غيره. فلا يأمن أن يتردّى في مهواة ، أو يعهر على عدوّ قاتل ، أو آفة مهلكة ـ شبّهت بالظّلمة ، ولزم ـ على عكس ذلك ـ أن تشبه السنّة والهدى ، وكلّ ما هو علم بالنور ، وعليهما قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة : الآية ١٦].

وشاع ذلك ، حتى وصف الصّنف الأول بالسّواد ، كما في قول القائل : «شاهدت سواد الكفر من جبين فلان».

والصّنف الثاني بالبياض ، كما في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء» (٣) وذلك لتخييل أن السّنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين ، وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك. فصار تشبيه النجوم ما بين الدّياجي بالسّنن ما بين

__________________

(١) صدر البيت :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

والبيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (غول) ، (شطن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦١ ، وتاج العروس (زرق) ، وبلا نسبة في المخصص ٨ / ١١١.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو للقاضي التنوخي في المصباح ص ١١٠ ، ونهاية الإيجاز ص ١٩٠.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ ، وروي الحديث بلفظ : «بعثت بالحنيفية السمحة» أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٣٣.


الابتداع ؛ كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشّيب في سواد الشباب ، وبالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة. فالتأويل فيه : أنه تخيّل ما ليس بمتلون متلوّنا.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يتأوّل بأنه أراد معنى قولهم : إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا. فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحقّ نبلا في نفسه ، وحسنا في مرآة عقله ، جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك ، غير أنه لا يخرج ـ مع هذا ـ عن كونه على خلاف الظاهر ، لأن الظاهر أن يمثّل المعقول في ذلك بالمحسوس ، كما فعل البحتريّ في قوله :

وقد زادها إفراط حسن : جوارها

خلائق أصفار من المجد خيّب (١)

وحسن دراريّ الكواكب أن ترى

طوالع في داج من الليل غيهب

ومن التشبيه التخييليّ : قول أبي طالب الرّقّيّ :

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق (٢)

فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسّعا ؛ فيقال : اسودّ النهار في عينيّ ، وأظلمت الدنيا عليّ ، وكان الغزل يدّعي القسوة على من لم يعشق ، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسّعا ـ تخيّل يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد ، وجعلهما أعرف به ، وأشهر من الظلام ؛ فشبّهه بهما. وكذلك قول ابن بابك :

وأرض كأخلاق الكرام قطعتها

وقد كحل الليل السّماك فأبصرا (٣)

فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسّعة والضّيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيّقة : تخيّل أخلاق الكرام شيئا له سعة ، وجعل أصلا فيها ، فشبّه الأرض الواسعة بها. وكذا قول التّنوخي : [علي بن محمد]

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم ، وإنصاف قد اتّفقا (٤)

فإنه لما كان يقال في الحق : إنه منير واضح ؛ فيستعار له صفة الأجسام المنيرة ، وفي الظلم خلاف ذلك ـ تخيّلهما شيئين لهما إنارة وإظلام ، فشبّه النار والفحم بهما مجتمعين.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في أسرار البلاغة ص ٢٠٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٩٨ ، ١٩٩ ، والمفتاح ص ١٤٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠١.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، ٢٠١.


وكذا ما كتب به الصاحب إلى القاضي أبي الحسن ، وقد أهدى له الصاحب عطر القطر :

يا أيها القاضي الذي نفسي له

مع قرب عهد لقائه مشتاقه (١)

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدي له أخلاقه

فإنه لما كان الثناء يشبّه بالعطر ويشتقّ له منه ؛ تخيّله شيئا له رائحة طيبة وشبّه العطر به ، ليوهم أنه أصل في الطّيب ، وأحقّ به منه.

وكذا قول الآخر : [العلوي الأصفهاني]

كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمة

نجاء من البأساء بعد وقوع (٢)

فإنه لما رأى الخلاص من شدّة يشبّه بخروج البدر من تحت الغيم بانحساره عنه ؛ قلب التشبيه ليري أن صورة النجاء من البأساء لكونها مطلوبة فوق كل مطلوب ـ أعرف من صورة انتضاء البدر من تحت غيمه.

وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان ؛ علم فساد جعله في قول القائل : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» كون القليل مصلحا والكثير مفسدا. لأن القلّة والكثرة إنما يتصوّر جريانهما في الملح ، وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه ، دون النحو. فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول ـ مثلا ـ فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه ، وانتفى الفساد عنه ، وصار منتفعا به في فهم المراد منه ، وإلا لم يحصل وكان فاسدا لا ينتفع به. فالوجه فيه : هو كون الاستعمال مصلحا ، والإهمال مفسدا ؛ لاشتراكهما في ذلك.

ومما يتصل بهذا ، ما حكي أن ابن شرف القيرواني ، أنشد ابن رشيق قوله :

غيري جنى ، وأنا المعاتب فيكم

فكأنني سبّابة المتندّم (٣)

وقال له : «هل سمعت هذا المعنى؟» فقال ابن رشيق : «سمعته وأخذته أنت ، وأفسدته» أما الأخذ فمن النابغة الذبياني ، حيث يقول :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو إمّة وهو طائع (٤)

__________________

(١) الرجز ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، والمفتاح ص ١٤٧.

(٣) البيت بلا نسبة في المطوّل شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٢٧١.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٥ ، ٣٧ ، ولسان العرب (أمم) ، (عرر) ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٨ ، وكتاب العين ٨ / ٤٢٨ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٣٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٤٧ ، ومجمل اللغة ١ / ١٥٢.


لكلّفتني ذنب امرىء وتركته

كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع

وأما الإفساد ؛ فلأن سبّابة المتندّم أول شيء يتألّم منه ؛ فلا يكون المعاقب غير الجاني. وهذا بخلاف بيت النابغة ، فإن المكويّ من الإبل يألم وما به عرّ البتّة وصاحب العرّ لا يألم جملة.

وهو إما غير خارج عن حقيقة الطرفين ، أو خارج.

والأول : إما تمام حقيقتهما ، كما في تشبيه إنسان بإنسان في كونه إنسانا ، أو جزئهما ، كما في تشبيه بعض الحيوانات العجم بالإنسان في كونه حيوانا.

والثاني : صفة ، إما حقيقية ، أو إضافية.

والحقيقة : إما حسّيّة ، وهي الكيفيات الجسيمة مما يدرك بالبصر من الألوان ، والأشكال ، والمقادير ، والحركات ، وما يتصل بها من الحسن والقبح وغير ذلك. أو بالسمع ، من الأصوات القوية ، والضعيفة ، والتي بين بين ، أو بالذّوق من أنواع الطعام ، أو بالشم من أنواع الروائح ، أو باللمس ، من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والخشونة والملاسة ، واللين والصلابة ، والخفة ، والثقل ، وما ينضاف إليها.

وإما عقلية : كالكيفيات النفسية ، من الذكاء ، والتيقّظ ، والمعرفة ، والعلم ، والقدرة ، والكرم ، والسخاء ، والغضب ، والحلم ، وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق.

والإضافية : كإزالة الحجاب في تشبيه الحجّة بالشمس.

تقسيم آخر باعتبار آخر

ووجه الشبه : إما واحد ، أو غير واحد.

والواحد : إما حسّيّ ، أو عقليّ.

وغير الواحد : إما بمنزلة الواحد ـ لكونه مركّبا من أمرين أو أمور ـ أو متعدّد غير مركب.

والمركب : إما حسّيّ أو عقليّ.

والمتعدد : إما حسي ، أو عقلي ، أو مختلف.

والحسيّ لا يكون طرفاه إلا حسّيّين ، لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسّ شيء.


والعقليّ : طرفاه إما عقليان ، أو حسيان ، أو مختلفان ؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحس شيء ، ولذلك يقال : التشبيه بالوجه العقليّ أعمّ من التشبيه بالوجه الحسّي.

قال الشيخ صاحب المفتاح : وهاهنا نكتة لا بدّ من التنبّه لها ، وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي ؛ وذلك أنه متى كان حسّيّا ـ وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين ، وكل موجود فله تعيّن ـ فوجه الشبه مع المشبه متعيّن ، فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبّه به ؛ لامتناع حصول المحسوس المعيّن هاهنا ، مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة ، وبحكم التنبيه على امتناعه ـ إن شئت ـ وهو استلزامه إذا عدمت حمرة الخدّ دون حمرة الورد أو بالعكس ، كون الحمرة معدومة موجودة معا ، وهكذا في أخواتها ، بل يكون مثله مع المشبّه به ، لكنّ المثلين لا يكونان شيئا واحدا ، ووجه الشبه بين الطرفين ـ كما عرفت ـ واحد ؛ فيلزم أن يكون أمرا كليّا مأخوذا من المثلين بتجريدهما عن التعيّن ، لكن ما هذا شأنه فهو عقلي.

ويمتنع أن يقال : فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين ؛ فإن المثلين متشابهان ، فمعهما وجه تشبيه ؛ فإن كان عقليا كان المرجح في وجه الشبه العقل في المآل ، وإن كان حسّيّا استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران ، وكان الكلام فيهما كالكلام فيما سواهما ، ويلزم التسلسل.

هذا لفظه ، ويمكن أن يقال : المراد بكونه حسّيّا أن تكون افراده مدركة بالحسّ ، كالسواد ؛ فإن افراده مدرة بالبصر ، وإن كان هو في نفسه غير مدرك به ولا بغيره من الحواسّ.

الواحد الحسّيّ : كالحمرة ، والخفاء ، وطيب الرائحة ، ولذّة الطعم ، ولين الملمس ؛ في تشبيه الخدّ بالورد ، والصوت الضعيف بالهمس ، والنّكهة بالعنبر ، والريق بالخمر ، والجلد الناعم بالحرير ، كما سبق.

والواحد العقليّ : كالعراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه ؛ وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة ، فيما طرفاه معقولان.

والجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد ، ومطلق الاهتداء في تشبيه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم بالنجوم ، فيما طرفاه محسوسان.

والهداية في تشبيه العلم بالنور ، وتحصيل ما بين الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاط ، فيما المشبه فيه معقول والمشبه به محسوس.

واستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم ، وعدم الخفاء في تشبيه النجوم


بالسّنن ، فيما المشبه فيه محسوس والمشبه به معقول.

قال الشيخ صاحب المفتاح : وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح.

والمركّب الحسي : طرفاه إما مفردان كالهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكريّ والمقدار المخصوص في قول ذي الرمة :

وسقط كعين الدّيك عاورت صاحبي

أتاها ، وهيّأنا لموقعها وكرا (١)

وكالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض ، المستديرة ، الصّغار المقادير في المرأى ، على كيفيّة مخصوصة إلى مقدار مخصوص ، في قول أحيحة بن الجلاح ، أو قيس بن الأسلت :

وقد لاح في الصبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (٢)

وأما مركّبان ، كالهيئة الحاصلة من هويّ أجرام مشرقة مستطيلة ، متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم ، في قول بشّار :

كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (٣)

وكالهيئة الحاصلة من تفرّق أجرام متلألئة ، مستديرة ، صغار المقادير في المرأى ، على سطح جسم أزرق ، صافي الزّرقة ، في قول أبي طالب الرّقّي :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق (٤)

وإما مختلفان ، كما تشبيه الشّاة الجبليّ بحمار أبتر مشقوق الشّفة والحوافر نابت على رأسه شجرتا غضا ، وكما مرّ في تشبيه الشقيق والنيلوفر.

ومن بديع هذا النوع ـ أعني المركب الحسي ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة ـ ويكون على وجهين :

أحدهما : أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم ، كالشكل ، واللون ، كما في قوله : [جبار بن جزء]

__________________

(١) البيت من الكامل وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٤٢٦ ، ولسان العرب (عور) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٦٥ ، وتاج العروس (عور) ، (سقط) ، وهو بلا نسبة في كتاب العين ٥ / ٧١ ، والمخصص ١٧ / ٢١ ، وفي الديوان : «لموضعها» بدل : «لموقعها».

(٢) البيت من الطويل ، وهو ليس لأحيحة بن الجلاح ، وهو لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٧٣ ، ولسان العرب (ملح) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٧٤ ، وتاج العروس (ملح).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٤٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في يتيمة الدهر للثعالبي ١ / ٢٤٤.


والشمس كالمرآة في كفّ الأشل (١)

من الهيئة الحاصلة من الاستدارة ، مع الإشراف ، والحركة السريعة المتصلة ، ما يحصل في الإشراف بسبب تلك الحركة ، من التموّج والاضطراب ، حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة ، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدا له إلى الانقباض ، كأنه يجتمع من الجوانب إلى الوسط ؛ فإن الشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جرمها وجدها مؤدّية لهذه الهيئة ، وكذا المرآة إذا كانت في يد الأشلّ.

ومثله قول المهلّبي الوزير [الحسن بن محمد](٢)

والشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة ليس لها حاجب (٣)

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

فإن البوتقة إذا أحميت ، وذاب فيها الذهب ، تشكّل بشكلها في الاستدارة وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة ، كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها ؛ لما في طبعه من النعومة ، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض ؛ لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم ؛ ولذلك لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء.

وكما في قول الصنوبري :

كأن في غدرانها

حواجبا ظلّت تمطّ (٤)

أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال الماء كأنصاف دوائر صغار ثم تمتد امتدادا ينقص من انحنائها ، فينقلها من التقوّس إلى الاستواء ، وذلك أشبه شيء بالحواجب إذا امتدّت ، لأن للحاجب كما لا يخفى تقويسا ، ومدّه ينقص من تقويسه.

والوجه الثاني : أن تجرّد هيئة الحركة عن كلّ وصف غيرها للجسم ؛ فهناك أيضا لا

__________________

(١) الرجز لجبار بن ضرار ابن أخي الشماخ في أسرار البلاغة ص ٢٠٧ ، وديوان المعاني ١ / ٣٥٩.

(٢) الوزير المهلبي : هو الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله المهلبي ، أبو محمد الوزير لمعز الدولة بن بويه الديلمي ، ولد بالبصرة سنة ٢٩١ ه‍ ، وتوفي في طريق واسط وحمل ودفن ببغداد سنة ٣٥٢ ه‍ ، صنف ديوان الرسائل ، ديوان شعره ، كتاب في أصول النحو ، كتاب اللغة في مخارج الحروف. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٠).

(٣) البيتان من السريع ، وهما في يتيمة الدهر ٢ / ٢٠٢.

(٤) البيت من مجزوء الرجز ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٨.


بدّ من اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له ، كأن يتحرك بعضه إلى اليمين ، وبعضه إلى الشمال ، وبعضه إلى العلو ، وبعضه إلى السّفل.

فحركة الرّحا والدّولاب والسهم لا تركيب فيها ؛ لاتحاد الحركة وحركة المصحف في قول ابن المعتز :

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة وانفتاحا (١)

فيها ترتيب ؛ لأنه يتحرك في الحالتين إلى جهتين في كل حالة إلى جهة ، وكلّما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشدّ كان التركيب في هيئة المتحرّك أكثر.

ومن لطيف ذلك قول الأعشى يصف السفينة في البحر وتقاذف الأمواج بها :

تقص السفين بجانبيه كما

ينزو الرّباح خلا له كرع (٢)

قال الشيخ عبد القاهر : الرّباح : الفصيل (وقيل : القرد) والكرع : ماء السماء ؛ شبّه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه ، فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ، ويكون هناك تسفّل وتصعّد على غير ترتيب ، وبحيث (يكاد) يدخل أحدهما في الآخر ؛ فلا يتبينه الطّرف مرتفعا حتى يراه متسفّلا ، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين تتدافعها الأمواج.

ومنه قول الآخر [ابن المعتز] :

حفّت بسرو كالقيان ، ولحّفت

خضر الحرير على قوام معتدل (٣)

فكأنها والريح جاء يميلها

تبغي التعانق ، ثم يمنعها الخجل

فإن فيه تفصيلا دقيقا ؛ وذلك أنه راعى الحركتين ؛ حركة التهيّؤ للدنوّ والعناق ، وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق ، وأدّى ما يكون في الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة ؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال ؛ وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع من حركة من يهمّ بالدنو ، لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجاء.

ومما مذهبه السهل الممتنع من هذا الضرب قول امرىء القيس :

__________________

(١) البيت من المديد ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٧٧.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٩.

(٣) البيتان من الكامل ، واسمه الأخيطل الأهوازي ، أو لأحمد بن سليمان بن وهب ، أو لابن المعتز في أسرار البلاغة ص ٢٤١ ، وحماسة ابن الشجري ص ٢٢٣.


مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل (١)

يقول : إن هذا الفرس ـ لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف ـ ترى كفله في الحال التي ترى فيها لببه ؛ فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال ؛ فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السّفل ؛ لأنها مركزه ، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل؟! فهو لسرعة تقلّبه يرى أحد وجهيه حين يرى الآخر.

وكما يقع التركيب في هيئة الحركة قد يقع في هيئة السكون ؛ فمن لطيف ذلك قول أبي الطّيّب في صفة الكلب :

يقعي جلوس البدويّ المصطلي (٢)

إنما لطف من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاصّ ، وللمجموع صورة خاصة مؤلّفة من تلك المواقع.

ومنه البيت الثاني من قول الآخر في صفة مصلوب :

كأنه عاشق قد مدّ صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل (٣)

أو قائم من نعاس فيه لوثته

مواصل لتمطّيه من الكسل

والتفصيل فيه أنه شبّه بالمتمطي إذا واصل تمطّيه مع التعرّض لسببه وهو اللّوثة والكسل فيه ؛ فنظر إلى هذه الجهات الثلاث ، ولو اقتصر على أنه كالمتمطي كان قريب التناول ؛ لأن هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداء ؛ لأنه من باب الجملة.

وشبيه بهذا القول قول الآخر :

لم أر صفّا مثل صفّ الزّطّ

تسعين منهم صلبوا في خطّ (٤)

من كل عال جذعه بالشّط

كأنه في جذعه المشتطّ

__________________

(١) البيت من الطويل وهو في ديوان امرىء القيس ص ١٩ ، ولسان العرب (علا) ، وجمهرة اللغة ص ١٢٦ ، وتاج العروس (فرر) ، وكتاب العين ٧ / ١٧٤ ، وإصلاح المنطق ص ٢٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٩٧ ، والدرر ٣ / ١١٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٥٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥١ ، والشعر والشعراء ١ / ١١٦ ، والكتاب ٤ / ٢٢٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٤٩.

(٢) يليه :

بأربع مجدلة لم تجدّل

والرجز في ديوان المتنبي ١ / ١٧٥.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما في الكامل للمبرد ٢ / ٤٥ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٣.

(٤) الأبيات من السريع ، وهي لدعبل الخزاعي في الكامل للمبرد ٢ / ٤٥ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٣ ، ١٦٤.


أخو نعاس جدّ في التّمطّي

قد خامر النوم ولم يغطّ

والفرق بين هذا والأول أن الأول صريح في الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها دون بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها ، والثاني بالعكس.

قال الشيخ عبد القاهر : وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرّومي في المصلوب أيضا :

كأن له في الجوّ حيلا يبوعه

إذا ما انقضى حبل أبيح حبل (١)

فقوله : «إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل» كقوله : «مواصل لتمطيه من الكسل» في التنبيه على استدامة الشّبه ، لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه ، ولم يرسل يده ، وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال.

والمركّب العقليّ كالمنظر المطمع مع المخبر المؤيس الذي هو على عكس ما قدر ، في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النّور : الآية ٣٩] ، شبّه ما يعمله من لا يقرن الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ، ثم يخيب في العاقبة أمله ، ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ؛ فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية الله عنده ؛ فيأخذونه ، فيعتلونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغسّاق.

فهو كما ترى منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض ؛ وذلك أنه روعي من الكافر فعل مخصوص ، وهو حسبان الأعمال نافعة له ، وأن تكون للأعمال صورة مخصوصة ، وهي صورة الأعمال الصالحة التي وعد الله تعالى بالثواب عليها بشرط الإيمان به وبرسله عليهم السّلام ؛ وأنها لا تفيدهم في العاقبة شيئا ، وأنهم يلقون فيها عكس ما أمّلوه وهو العذاب الأليم ، وكذا في جانب المشبّه به.

وكحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب في استصحابه ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : الآية ٥] فإنه أيضا منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها إلى بعض ؛ وذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص ، وهو الحمل ، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهي الأسفار التي هي أوعية العلوم ، وأن الحمار جاهل ما فيها ، وكذا في جانب المشبه.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١١٦.


واعلم أنه قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظنّ أن المقصود أمر منتزع من بعضها ؛ فيقع الخطأ ؛ لكونه أمرا منتزعا من جميعها ، كقوله :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت (١)

فإنه ربما يظنّ أن الشطر الأول منه تشبيه مستقلّ بنفسه لا حاجة به إلى الثاني على أن المقصود به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة إليه ، ولكن بالتأمّل يظهر أن مغزى الشاعر في التشبيه أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس ، وذلك يتوقف على البيت كله.

فإن قيل : هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا : «زيد يصفو ويكدر» تشبيها واحدا ؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين يبطل الغرض من الكلام ؛ لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين ، وأن إحداهما لا تدوم.

قلنا : الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس ، كما مر ، وكون الشيء ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما ، وليس في قولنا : «يصفو ويكدر» أكثر من الجمع بين الصّفتين ، ونظير البيت قولنا : «يصفو لم يكدر» لإفادة «ثمّ» الترتيب المقتضي ربط أحد الوصفين بالآخر.

وقد ظهر مما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركّب في مثل ما ذكرنا بأمرين :

أحدهما : أنه لا يجب فيها ترتيب :

الثاني : أنه إذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف.

فإذا قلنا : «زيد كالأسد بأسا ، والسيف مضاء ، والبحر جودا» لا يجب أن يكون لهذه التشبيهات نسق مخصوص ، بل لو قدّم التشبيه بالبحر أو التشبيه بالسيف جاز لو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه. بخلاف المركب ؛ فإن المقصود منه يختلّ بإسقاط بعض الأمور.

والمتعدّد الحسّيّ : كاللون ، والطعم ، والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.

والمتعدد العقلي : كحدّة النظر ، وكمال الحذر ، وإخفاء السّفاد ، في تشبيه طائر بالغراب.

والمتعدّد المختلف : كحسن الطلعة ونباهة الشأن ، في تشبيه إنسان بالشمس.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح مشكاة المصابيح للطيبي ١ / ١٠٧.


واعلم أن الطريق في اكتساب وجه الشبه أن يميّز عمّا عداه ، فإذا أردت أن تشبّه جسما بجسم في هيئة حركة ، وجب أن تطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة مجرّدتين عن الجسم وسائر أوصافه من اللون وغيره ، كما فعل ابن المعتزّ في تشبيه البرق ؛ فإنه لم ينظر إلى شيء من أوصافه سوى الهيئة التي تجدها العين ، من انبساط يعقبه انقباض.

وأما أداته فالكاف في نحو قولك : «زيد كالأسد» وكأنّ في نحو قولك : «زيد كأنه أسد» و «مثل» في نحو قولك : «زيد مثل الأسد» وما في معنى «مثل» كلفظة «نحو» وما يشتقّ من لفظة «مثل» و «شبه» ونحوهما.

والأصل في الكاف ونحوها أن يليها المشبّه به ، وقد يليها مفرد لا يتأتّى التشبيه به ، وذلك إذا كان المشبّه به مركبا كقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : الآية ٤٥] ؛ إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء ، ولا بمفرد آخر يتمحّل لتقديره ، بل المراد تشبيه حالها ، في نضارتها ، وبهجتها ، وما يتعقّبها من الهلاك والفناء ، بحال ، النبات يكون أخضر وارفا ، ثم يهيج ، فتطيره الرياح كأن لم يكن.

وأما قوله عزّ وجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [الصّف : الآية ١٤] فليس منه ؛ لأن المعنى (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) ، كما كان الحواريّون أنصار عيسى ، حين قال لهم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟).

وقد يذكر فعل ينبي عن التشبيه ، كعلمت في قولك : «علمت زيدا أسدا» ونحوه.

هذا إذا قرب التشبيه فإن بعّد أدنى تبعيد ؛ قيل : خلته وحسبته ونحوهما.

وأما الغرض من التشبيه فيعود في الأغلب إلى المشبه ، وقد يعود إلى المشبه به.

أما الأول فيرجع إلى وجوه مختلفة :

منها : بيان أن وجود المشبّه ممكن ، وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدّعي امتناعه ، كما في قول أبي الطيب :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال (١)

أراد أنه فاق الأنام في الأوصاف الفاضلة ، إلى حد بطل معه أن يكون واحدا منهم ، بل صار نوعا آخر برأسه أشرف من الإنسان ، وهذا ـ أعني أن يتناهى بعض أفراد النوع في الفضائل ، إلى أن يصير كأنه ليس منها ـ أمر غريب يفتقر من يدّعيه إلى إثبات

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٦.


جواز وجوده على الجملة ، حتى يجيء إلى إثبات وجوده في الممدوح ؛ فقال :

فإن المسك بعض دم الغزال

أي : ولا يعدّ في الدّماء ؛ لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا يوجد شيء منها في الدّم ، وخلوّه من الأوصاف التي كان لها الدّم دما ؛ فأبان أن لما ادعاه أصلا في الوجود على الجملة.

ومنها : بيان حاله ، كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد ، إذا علم لون المشبه به دون المشبه.

ومنها : بيان مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان ، كما في قوله : [أبو تمام]

مداد مثل خافية الغراب (١)

وعليه قول الآخر :

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض

على الماء خانته فروج الأصابع (٢)

أي : بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها وأن أمتّع بها ؛ أقصى الغايات ، حتى لم أحظ منها بما قلّ ولا بما كثر.

ومنها : تقرير حاله في نفس السامع ، كما في تشبيه من لا يحصل على سعيه على طائل بمن يرقم على الماء ، وعليه قوله عز وجل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف : الآية ١٧١] فإنه بيّن ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة.

وهذه الوجوه تقتضي أن يكون وجه المشبه به أتمّ ، وهو به أشهر ؛ ولهذا ضعف قول البحتري :

على باب قنّسرين واللّيل لاطخ

جوانبه من ظلمة بمداد (٣)

فإنه ربّ مداد فاقد اللون ، والليل بالسواد وشدّته أحقّ وأحرى ، ولهذا قال ابن الرومي :

حبر أبي حفص لعاب الليل

يسيل للإخوان أيّ سيّل (٤)

__________________

(١) عجز البيت :

وقرطاس كرقراق السحاب

والبيت بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٦٧.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١٩٧ ، وأسرار البلاغة ص ١٣٩.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ٦٧٥.

(٤) البيت في ديوان ابن الرومي ١ / ٢٧٩.


فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل ؛ فكأنه نظر إلى قول العامّة في الشيء الأسود : «هو كالنّفس» (١) ثم تركه للقافية إلى المداد.

ومنها : تزيينه للترغيب فيه ، كما في تشبيه وجه أسود ، بمقلة الظبي.

ومنها : تشويهه للتنفير عنه ، كما في تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الدّيكة.

وقد أشار إلى هذين الغرضين ابن الرومي في قوله :

تقول : هذا مجاج النّحل ؛ تمدحه

وإن تعب قلت : ذا قيء الزّنابير (٢)

ومنها : استطرافه ، كما في تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب ؛ لإبرازه في صورة الممتنع عادة.

وللاستطراف وجه آخر ، وهو أن يكون المشبّه به نادر الحضور إما مطلقا كما مرّ ، وإما عند حضور المشبّه كما في قوله : [ابن الرومي]

ولا زورديّة تزهو بزرقتها

بين الرّياض على حمر اليواقيت (٣)

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت

فإن صورة النار بأطراف الكبريت ، لا يندر حضورها في الذهن ندرة صورة بحر من المسك موجه الذهب ، وإنما النادر حضورها عند حضور صورة البنفسج ، فإذا أحضر مع صحة الشّبه استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما.

ومما يؤيّد هذا ما يحكى أن جريرا قال : أنشدني عديّ :

عرف الدّيار توهّما فاعتادها (٤)

فلما بلغ إلى قوله :

__________________

(١) النفس : الجد ، وهو المداد الذي يكتب به.

(٢) البيت من الوافر.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما لابن الرومي في ديوانه ١ / ٣٩٤ ، وأسرار البلاغة ص ١٤٧ ، ولابن المعتز في ديوان المعاني ٢ / ٢٤.

(٤) عجز البيت :

من بعد ما شمل البلى أبلادها

والبيت من الكامل ، وهو لعدي بن الرقاع في ديوانه ص ٣٣ ، ولسان العرب (بلد) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١١ ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٩٩ ، ومجمل اللغة ١ / ٢٩١ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٢٩ ، والطرائف الأدبية ص ٨٧ ، وتاج العروس (بلد) ، والأغاني ١ / ٢٩٠.


تزجي أغنّ كأن إبرة روقه (١)

رحمته وقلت : «قد وقع ، ما عساه يقول وهو أعرابيّ جلف جاف؟» فلما قال :

قلم أصاب من الدّواة مدادها (٢)

استحالت الرحمة حسدا ، فهل كانت رحمته في الأولى والحسد في الثانية ، إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه ، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف؟

وذكر الشيخ عبد القاهر رحمه الله للاستطراف في تشبيه البنفسج بنار الكبريت وجها آخر ، وهو أنه أراك شبها لنبات غضّ يرفّ وأوراق رطبة ؛ من لهب نار في جسم مستول عليه اليبس ، ومبنى الطّباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له ؛ كانت صبابة النفوس به أكثر ، وكان الشغف به أجدر.

وأما الثاني فيكون في الغالب إيهام أن المشبه به أتمّ من المشبه في وجه الشبه وذلك في التشبيه المقلوب ، وهو أن يكون بالعكس ، كقول محمد بن وهيب : [الحميري]

وبدا الصّباح كأن غرّته

وجه الخليفة حين يمتدح (٣)

فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتمّ من الصباح في الوضوح والضياء.

واعلم أن هذا وإن كان في الظاهر يشبه قولهم : «لا أدري وجهه أنور أم الصبح؟ وغرّته أضوأ أم البدر؟» وقولهم إذا أفرطوا : «نور الصباح يخفى في ضوء وجهه» أو «نور الشمس مسروق من نور جبينه» ونحو ذلك من وجوه المبالغة ؛ فإن في الأول خلابة وشيئا من السحر ليس في الثانية ، وهو أنه كأنه يستكثر للصباح أن يشبّهه بوجه الخليفة ، ويوهم أنه احتشد له واجتهد في تشبيه يفخّم به أمره ؛ فيوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر ، ويفيدكها من غير أن يظهر ادّعاؤه لها ؛ لأنه وضع كرمه وضع من يقيس على أصل متّفق عليه ، لا يشفق من خلاف مخالف وتهكم متهكم ، والمعاني إذا وردت على النفس

__________________

(١) انظر الحاشية التالية.

(٢) هو عجز البيت ، والبيت من الكامل وهو في ديوان عدي بن الرقاع ص ٣٥ ، ولسان العرب (بلد) ، (قرش) ، (زجا) ، وأساس البلاغة (أبر) ، وطبقات فحول الشعراء ص ٧٠٧ ، وتاج العروس (قرش) ، (زجا) ، والطرائف الأدبية ص ٨٨ ، والأغاني ٩ / ٣٥٧.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لمحمد بن وهيب في الإشارات والتنبيهات ص ١٧١ ، ومعجم الشعراء ص ٣٥٨.


هذا المورد كان لها نوع من السرور عجيب ـ فكانت كالنعمة التي لا تكدّرها المنّة ، وكالغنيمة من حيث لا تحتسب ، وفي قوله : «حين يمتدح» فائدة شريفة ، وهي الدلالة على اتّصاف الممدوح ـ على ما احتشد له من تزيينه ، وقصده من تفخيم شأنه في عيون الناس ـ بالإصغاء إليه ، والارتياح له ، والدلالة بالبشر وإطلاقه على حسن موقعه عنده.

ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلّي الربا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : الآية ٢٧٥] فإن مقتضى الظاهر أن يقال : إنما الربا مثل البيع ؛ إذ الكلام في الربا لا في البيع ، فخالفوا لجعلهم الربا في الحلّ حالا من البيع وأعرف به.

ومنه قوله عز وجل : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : الآية ١٧]؟! فإن مقتضى الظاهر العكس ، لأن الخطاب للذين عبدوا الأوثان ، وسمّوها آلهة ؛ تشبيها بالله سبحانه وتعالى. فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق. فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتها ، وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإنكار على وفق ذلك.

وقال السكاكي : عندي أن المراد بمن لا يخلق : الحيّ العالم القادر من الخلق ؛ تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله عز وجل ، وقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥) [الصّافات : الآية ١٥٥] تنبيه توبيخ عليه. ونحوه قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : الآية ٤٣] بدل : أرأيت من اتخذ هواه إلهه؟!

وقد يكون الغرض العائد إلى المشبه به : بيان الاهتمام به ، كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف ؛ إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير ، وهذا يسمى إظهار المطلوب.

قال السكاكي : ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسنّي المطلوب كما يحكى عن الصاحب : أن قاضي سجستان دخل عليه ، فوجده الصاحب متفنّنا ، فأخذ يمدحه ، حتى قال :

وعالم يعرف بالسّجري

وأشار للندماء أن ينظموا على أسلوبه ، ففعلوا واحدا بعد واحد ، إلى أن انتهت النّوبة إلى شريف في البيت ، فقال :

أشهى إلى النّفس من الخبز

فأمر الصاحب أن تقدّم له مائدة.

هذا كله إذا أريد إلحاق الناقص في وجه الشبه حقيقة أو ادّعاء بالزائد. فإن أريد


مجرّد الجمع بين شيئين في أمر ؛ فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه ؛ ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به ؛ احترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر. كقول أبي إسحاق الصابىء : [إبراهيم بن هلال الحراني](١)

تشابه دمعي ـ إذ جرى ـ ومدامتي

فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب (٢)

فو الله ما أدري : أبالخمر أسبلت

جفوني ، أم من غبرتي كنت أشرب؟

وكقول الآخر : [الصاحب بن عباد]

رقّ الزّجاج ، وراقت الخمر

وتشابها ، فتشاكل الأمر (٣)

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنّما قدح ولا خمر

ويجوز التشبيه أيضا ، كتشبيه غرّة الفرس بالصبح ، وتشبيه الصبح بغرّة الفرس ، متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه ، وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة ، أو الدينار الخارج من السّكّة ، كما قال : [عبد الله بن المعتز]

وكأنّ الشمس المنيرة دينا

ر جلته حدائد الضّرّاب (٤)

وتشبيه المرآة المجلوّة أو الدينار الخارج من السكة بالشمس. فمن أريد استدارة متلألىء متضمّن لخصوص في اللون ، وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبياض الغرة ، و (بين) نور الشمس ونور المرآة والدينار ، وبين الجرمين ، فإنه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه. وعلى هذا ورد تشبيه الصبح في الظلام بعلم أبيض على ديباج أسود في قول ابن المعتز :

والليل كالحلّة السّوداء ، لاح به

من الصباح طراز غير مرقوم (٥)

فإنه تشبيه حسن مقبول ، وإن كان التفاوت في المقدار بين الصبح الطّراز ـ في الامتداد والانبساط ـ شديدا.

__________________

(١) أبو إسحاق الصابىء : هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني البغدادي الكاتب ، من الصائبة ، توفي سنة ٣٨٤ ه‍. له من المصنفات : أخبار النحاة ، أخبار الوزراء ، أخبار أهله وولد ابنه ، التاجي في أخبار الدولة الديلمية ، ديوان الرسائل ، ديوان شعره. (كشف الظنون ٥ / ٧).

(٢) البيتان في يتيمة الدهر للثعالبي ٢ / ١٨.

(٣) البيتان في ديوان الصاحب بن عباد ص ١٧٦.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٩٣ ، وزهر الآداب ١ / ٣٤٢.

(٥) البيت من البسيط ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٩٣.


وأما تقسيم التشبيه ؛ فباعتبار طرفيه أربعة أقسام :

الأول : تشبيه المفرد بالمفرد ، وهو ما طرفاه مفردان ، إما غير مقيدين كتشبيه الخدّ بالورد ونحوه ، وعليه قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : الآية ١٨٧] فإن قلت : ما وجه الشبه في الآية؟ قلت : جعله الزمخشري حسّيّا ، فإنه قال : لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ، ويشتمل كلّ واحد منهما على صاحبه في عناقه ؛ شبّه باللّباس المشتمل عليه ، قال الجعدي : [قيس بن عبد الله]

إذا ما الضّجيع ثنى عطفها

تثنّت ، فكانت عليه لباسا (١)

وقيل : شبه كل واحد منهما باللباس للآخر ؛ لأنه يصونه من الوقوع في فضيحة الفاحشة ، كاللباس الساتر للعورة.

وإما مقيدان ، كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على شيء : هو كالقابض على الماء ، وكالراقم في الماء. فإن المشبه : هو الساعي ، لا مطلقا ، بل مقيّدا بكون سعيه كذلك ، والمشبه به : هو القابض أو الراقم ، لا مطلقا ، بل مقيدا بكون قبضه على الماء ، أو رقمه فيه ؛ لأن وجه الشبه فيهما هو التسوية بين الفعل وعدمه في عدم الفائدة ، والقبض على الماء والرقم فيه كذلك. لأن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها فإذا كان مما لا يتماسك ، فقبضها عليه وعدمه سواء ، وكذلك القصد بالرقم في الشيء : أن يبقى أثره فيه ، فإذا فعل فيما لا يقبله ، كان عليه كعدمه. فالقيد في هاتين الصورتين هو الجار والمجرور.

ونحوهما قولهم : هو كمن يجمع سيفين في غمد ، وقولهم : هو كمبتغي الصيد في عرّيسة الأسد ، وقد يكون حالا.

كقولهم : هو كالحادي وليس له بعير.

ومما طرفاه مقيدان قول الشاعر :

إني وتزييني بمدحي معشرا

كمعلّق درّا على خنزير (٢)

فإن المشبه فيه : هو المتكلم بقيد اتصافه بتزيينه بمدحه معشرا ، فمتعلق التزيين ـ أعني قوله : بمدحي ـ داخل في المشبه ، والمشبه به من يعلّق درّا ، بقيد أن يكون تعليقه

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٨١ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٣٠ ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٤ ، ومجمل اللغة ٤ / ٢٦٢ ، وتاج العروس (لبس) ، ولسان العرب (لبس) ، والشعر والشعراء ص ٣٠٢.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في أسرار البلاغة ص ١٧٤.


إيّاه على خنزير. فالشبه مأخوذ من مجموع المصدر وما في صلته ، وهو أن كل واحد منهما يضع الزّينة حيث لا يظهر لها أثر. لأن الشيء غير قابل للتزيين. فالواو في قوله : «وتزييني» بمعنى «مع» إذ لا يمكن أن يقال : إني كذا ، وإن تزييني كذا ؛ لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدهما خبرا عن ضمير المتكلم ، والآخر عن «تزييني» لا يقال تقديره : إني كمعلق درّا على خنزير وإن تزييني بمدحي معشرا كتعليق درّ على خنزير. لأنه لا يتصوّر أن يشبّه المتكلم نفسه ـ من حيث هو ـ بمعلق درّا على خنزير ، بل لا بد أن يكون يشبّه باعتبار تزيينه بمدحه معشرا.

وإما مختلفان والمقيّد هو المشبّه به ، كقوله :

والشمس كالمرآة في كفّ الأشل (١)

فإن المشبّه : هو الشمس على الإطلاق ، والمشبه به : هو المرأة لا على الإطلاق بل يقيد كونها في يد الأشل.

أو على عكس ذلك ، كتشبيه المرآة في كفّ الأشل بالشمس.

الثاني : تشبيه المركّب بالمركّب ، وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعتان ، كما في قول البحتري :

ترى أحجاله يصعدن فيه

صعود البرق في الغيم الجهام (٢)

لا يريد به تشبيه بياض الحجول على الانفراد بالبرق ، بل مقصوده الهيئة الخاصّة الحاصلة من مخالطة أحد اللونين بالآخر.

وكذلك المقصود في بيت بشّار ، ولذلك وجب الحكم بأن «أسيافنا» في حكم الصّلة للمصدر ، ونصب الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال. لأن الواو فيها بمعنى «مع» كقولهم : «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها» ومما ينبّه على ذلك أن قوله : «تهاوى كواكبه» جملة وقعت صفة لليل. فإن الكواكب مذكورة على سبيل التبع لليل ، ولو كانت مستبدّة بشأنها لقال : «ليل وكواكب».

وأما بيت امرىء القيس :

كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٣)

__________________

(١) تقدم الرجز مع تخريجه.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٧٠ ، ١٧١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٤ ، ولسان العرب (أدب) ، والمقاصد النحوية ـ ـ


فهو على خلاف هذا ، لأن أحد الشيئين فيه الطرفين معطوف على الآخر.

أما في طرف المشبه به : فبيّن.

وأما في طرف المشبه فلأن الجمع في المتّفق كالعطف في المختلف ، فاجتماع شيئين أو أشياء في لفظ تثنية أو جمع ؛ لا يوجب أن أحدهما أو أحدها في حكم التابع للآخر ، كما يكون ذلك إذا جرى الثاني صفة للأول ، أو حالا منه ، أو ما أشبه ذلك. وقد صرح بالعطف فيما أجراه بيانا له من قوله : «رطبا ويابسا» وهذا القسم ضربان :

أحدهما : ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر ، كقوله : [عبد الله بن المعتز]

غدا والصبح تحت الليل باد

كطرف أشهب ملقى الجلال (١)

فإن الجلال فيه في مقابلة الليل ، ولو شبّهه به لم يكن شيئا ، وكقول الآخر : [القاضي علي بن داود التنوخي]

كأنما المرّيخ والمشتري

قدّامه في شامخ الرّفعه (٢)

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدّامه شمعه

فإنّ المرّيخ في مقابلة المنصرف عن الدعوة ، ولو قيل : كأن المرّيخ منصرف بالليل عن دعوة : كان خلفا من القول.

والثاني : ما يصحّ تشبيه كلّ جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر ، غير أن الحال تتغير. ومثاله قوله :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق (٣)

فإنه لو قيل : «كأن النجوم درر ، وكأن السماء بساط أزرق» لكان تشبيها صحيحا لكن أين يقع من التشبيه الذي يريك الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا ، من طلوع النجوم مؤتلقة ، متفرقة في أديم السماء ، وهي زرقاء زرقتها الصافية؟!

__________________

٣ / ٢١٦ ، والمنصف ٢ / ١١٧ ، وتاج العروس (بال) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٦٤ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣٢٩ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٨.

(١) البيت من الوافر ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٤٧.

(٢) البيت من السريع ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٧١ ، ١٧٣.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لأبي طالب الرقي في الإشارات والتنبيهات ص ١٦١ ، ويتيمة الدهر للثعالبي ١ / ٢٤٤.


الثالث : تشبيه المفرد بالمركب ، كما مر من تشبيه الشّاة الجبليّ ، والشّقيق ، والنّيلوفر.

الرابع : تشبيه المركب بالمفرد ، كقول أبي تمّام :

يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر (١)

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبى ، فكأنما هو مقمر

يعني : أن النبات من شدّة خضرته ـ مع كثرته وتكاثفه ـ قد صار لونه إلى الاسوداد ، فنقص من ضوء الشمس ، حتى صار كضوء القمر.

وأيضا إن تعدّد طرفاه فهو إما ملفوف ، أو مفروق.

فالملفوف : ما أتي فيه بالمشبهين ، ثم بالمشبه بهما ، كقول امرىء القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٢)

وغير الملفوف : بخلاف ذلك ، كقول المرقّش الأكبر : [عمرو بن سعد]

النّشر مسك ، والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم (٣)

ومنه قول أبي الطّيب :

بدت قمرا ، ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ، ورنت غزالا (٤)

وإن تعدّد طرفه الأول ـ أعني المشبّه ـ دون الثاني : سمي تشبيه التّسوية كقول الآخر :

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كالليالي (٥)

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي

وإن تعدد طرفه الثاني ـ أعني المشبّه به ـ دون الأول : سمي تشبيه الجمع ، كقول البحتري :

__________________

(١) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان أبي تمام ٢ / ١٩٤.

(٢) تقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.

(٣) البيت من الكامل ، وهو للمرقش الأكبر (ربيعة بن سعد بن مالك) في ديوانه ص ٥٨٦ ، وتاج العروس (نشر) ، وأساس البلاغة (نشر) ، ولسان العرب (نشر) ، وأسرار البلاغة ص ١٢٣ ، وكتاب الصناعتين ص ١٨٩.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٨٤.

(٥) البيتان من المجتث ، وهما للوطواط (محمد بن محمد بن عبد الجليل) في حدائق السحر ص ١٤٤ ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٦٤ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٨١.


كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضّد ، أو برد ، أو أقاح (١)

ومثله قول امرىء القيس :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر (٢)

يعلّ به برد أنيابها

إذا طرّب الطائر المستحر

إلا أن فيه شوبا من القصد إلى هيئة الاجتماع.

وأما باعتبار وجهه ، فله ثلاث تقسيمات : تمثيل ، وغير تمثيل ومجمل ، ومفصّل ، وقريب ، وبعيد.

التمثيل : ما وجهه وصف منتزع من متعدّد أمرين ، أو أمور.

وقيده السكاكي بكونه غير حقيقي ، ومثّل بصور ، مثل لها غيره أيضا.

منها قول ابن المعتز :

اصبر على مضض الحسو

ل فإنّ صبرك قاتله (٣)

فالنار تأكل نفسها

إن لم تجد ما تأكله

فإن تشبيه الحسود المتروك مقاولته ، مع تطلّبه إياها ، لينال بها نفثة مصدور بالنار التي لا تمدّ بالحطب ؛ في أمر حقيقي منتزع من متعدّد ، وهو إسراع الفناء ، لانقطاع ما فيه مدد البقاء.

ومنها قول صالح بن عبد القدوس :

وإنّ من أدّبته في الصّبا

كالعود يسقى الماء في غرسه (٤)

حتى تراه مونقا ناضرا

بعد الذي أبصرت من يبسه

فإن تشبيه المؤدّب في صباه بالعود المسقيّ أوان غرسه ، فيما يلزم كل واحد من كون المؤدّب في صباه مهذّب الأخلاق ، حميد الفعال ، لتأديبه المصادف وقته ، وكون

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٤٣٥ ، وفي الديوان : «كأنما يضحك» بدل : «كأنما يبسم» ، والإشارات والتنبيهات ص ١٦٤.

(٢) البيتان من المتقارب ، وهما في ديوان امرىء القيس ص ١٥٧ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٦٤.

(٣) البيتان من مجزوء الكامل ، وهما في العقد الفريد ١ / ٣٠٦ ، ومفتاح العلوم ص ١٤٨ ، وأسرار البلاغة ص ٧٧.

(٤) البيتان من السريع ، وهما في العقد الفريد ١ / ٣٦٣ ، ومفتاح العلوم ص ١٤٨ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٩.


العود المسقيّ أوان غرسه مونقا بأوراقه ونضرته ، لسقيه المصادف وقته ، من تمام الميل وكمال الاستحسان ، بعد خلاف ذلك.

ومنها قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) [البقرة : الآية ١٧] فإن تشبيه حال المنافقين بحال الموصوف بصلة الموصول في الآية ؛ في أمر حقيقي منتزع من متعدد ، وهو الطمع في حصول مطلوب ؛ لمباشرة أسبابه القريبة ، مع تعقّب الحرمان والخيبة ؛ لانقلاب الأسباب.

وغير التمثيل : ما كان بخلاف ذلك ، كما سبق في الأمثلة المذكورة.

والمجمل : ما لم يذكر وجهه.

فمنه ما هو ظاهر يفهمه كلّ أحد ، حتى العامّة ، كقولنا : «زيد أسد» إذ لا يخفى على أحد أن المراد به التشبيه في الشجاعة دون غيرها.

ومنه ما هو خفيّ لا يدركه إلا من له ذهن يرتفع به عن طبقة العامة ، كقول من وصف بني المهلب للحجاج ، لما سأله عنهم : وأن أيّهم أنجد؟ «كانوا كالحلقة المفرغة ، لا يدرى أين طرفاها» أي : لتناسب أصولهم وفروعهم في الشرف يمتنع تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منه ، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا.

وهكذا نسبه الشيخ عبد القاهر إلى من وصف بني المهلب ، ونسبه الشيخ جار الله (١) العلّامة إلى الأنمارية ، قيل : هي فاطمة بنت الخرشب ، سئلت عن بنيها : أيّهم أفضل؟ فقالت : عمارة. لا ، بل فلان ، لا ، بل فلان ، ثم قالت : ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدرى أين طرفاها.

وأيضا منه ما لم يذكر فيه وصف المشبّه ، ولا وصف المشبّه به ، كالمثال الأول.

ومنه ما ذكر فيه وصف المشبّه به وحده ، كالمثال الثاني ، ونحوه قول زياد الأعجم :

وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر ، مهما تلق في البحر يغرق (٢)

وكذا قول النابغة الذبياني :

__________________

(١) الشيخ جار الله : هو الزمخشري ، تقدمت ترجمته.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ١٧٤.


فإنّك شمس ، والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب (١)

ومنه ما ذكر فيه وصف كل واحد منهما ، كقول أبي تمّام :

صدفت عنه ، ولم تصدف مواهبه

عنّي ، وعاوده ظنّي ، فلم يخب (٢)

كالغيث إن جئته وافاك ريّقه

وإن ترحّلت عنه لجّ في الطلب

والمفصّل : ما ذكر وجهه ، كقول ابن الرومي :

يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال (٣)

جد ؛ فقد تنفجر الصّخرة بالماء الزّلال

وقول أبي بكر الخالدي : [محمد بن هاشم]

يا شبيه البدر حسنا

وضياء ومنالا (٤)

وشبيه الغصن لينا

وقواما واعتدالا

أنت مثل الورد لونا

ونسيما وملالا

زارنا حتى إذا ما

سرّنا بالقرب زالا

وقد يتسامح بذكر ما يستتبعه مكانه ، كقولهم في وصف الألفاظ إذا وجدوها لا تثقل على اللسان لتنافر حروفها أو تكرّرها. ولا تكون غريبة وحشيّة تستكره ، لكونها غير مألوفة ، ولا مما تبعد دلالتها على معانيها : هي كالعسل في الحلاوة ، وكالماء في السّلاسة ، وكالنسيم في الرّقّة. وقولهم في الحجة إذا كانت معلومة الأجزاء ، يقينيّة التأليف ، بيّنة الاستلزام للمطلوب : «هي كالشمس في الظهور».

والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة ، وهو ميل الطبع ، ولازم السلاسة والرّقّة ، وهو إفادة النفس نشاطا وروحا ، ولازم الظهور ، وهو إزالة الحجاب.

فإن شأن النفس مع الألفاظ الموصوفة بتلك الصفات ، كشأنها مع العسل الذي يلذّ طعمه ، فتهشّ النفس له ، ويميل الطبع إليه ، ويحبّ وروده عليه ، أو كشأنها مع الماء

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص ٥٦ ، وأسرار البلاغة ص ١٦٠ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٧٤.

(٢) البيتان من البسيط ، وهما في ديوان أبي تمام ١ / ١١٣.

(٣) البيت من الرمل ، وهو لابن الرومي في ديوان المعاني ١ / ١٦٦ ، وحماسة ابن الشجري ص ٢٦٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٧٥ ، وليس في ديوانه.

(٤) الأبيات من مجزوء الرمل ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ١٧٥.


الذي يسوغ في الحلق ، ومع النسيم الذي يسري في البدن ، فيتخلّل المسالك اللطيفة منه ؛ فيفيدان النفس نشاطا وروحا.

وشأنها مع الشّبهة التي تمنع القلب إدراك ما هي شبهة فيه ؛ كشأنها مع الحجاب الحسّي الذي يمنع أن يرى ما يكون من ورائه ، ولذلك توصف بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه.

قال الشيخ صاحب المفتاح : وتسامحهم هذا لا يقع إلا حيث يكون التشبيه في وصف اعتباري ، كالذي نحن فيه. وأقول : يشبه أن يكون تركهم التحقيق في وجه الشبه على ما سبق التنبيه عليه من تسامحهم هذا. انتهى كلامه. والقريب المبتذل ، وهو ما ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر ؛ لظهور وجهه في بادىء الرأي ، وسبب ظهوره أمران :

الأول : كون الشبه أمرا جمليّا ، فإن الجملة أسبق أبدا إلى النفس من التفصيل ، ألا ترى أن الرؤية لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل؟ لكن على الجملة ، ثم على التفصيل ، ولذلك قيل : النظرة الأولى حمقاء ، وفلان لم ينعم النظر.

وكذا سائر الحواس ؛ فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى ، فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة ، يريد تمييزه مما اختلط به ، ومن يروم الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا.

وكذا حكم ما يدرك بالعقل ، ترى الجمل أبدا تسبق إلى الذهن ، والتفاصيل مغمورة فيها ، لا تحضر إلا بعد إعمال الرّويّة.

والثاني : كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن : إما عند حضور المشبه لقرب المناسبة بينهما ، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجاصة في الشكل وفي المقدار ، والجرّة الصغيرة بالكوز كذلك ، وإما مطلقا ؛ لتكرّره على الحسّ ، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة في الاستدارة والاستنارة ، فإن قرب المناسبة والتكرّر كل واحد منهما يعارض التفصيل ؛ لاقتضائه سرعة الانتقال.

والبعيد الغريب ، وهو ما لا ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر ، لخفاء وجهه في بادىء الرأي ، وسبب خفائه أمران :

أحدهما : كونه كثير التفصيل كما سبق من تشبيه الشمس بالمرآة في كفّ الأشلّ. فإن ما ذكرناه من الهيئة لا يقوم في نفس الرائي للمرآة الدائمة الاضطراب إلا أن يستأنف تأمّلا ، ويكون في نظره متمهّلا.


والثاني : ندور حضور المشبه به في الذهن : إما عند حضور المشبه ؛ لبعد المناسبة بينهما ، كما تقدم من تشبيه البنفسج بنار الكبريت ، وإما مطلقا ؛ لكونه وهميّا ، أو مركبا خياليا ، أو مركبا عقليا ، كما مضى من تشبيه نصال السّهام بأنياب الأغوال ، وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد ، وتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا. فإن كلّا سبب لندرة حضور المشبه به في الذهن ، أو لقلة تكرّره على الحسّ ، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل ، فإنه ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل ، فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين.

والمراد بالتفصيل : أن ينظر في أكثر من وصف واحد لشيء واحد أو أكثر ، وذلك يقع على وجوه كثيرة ، والأغلب الأعرف منها وجهان :

أحدهما : أن تأخذ بعضا وتدع بعضا ، كما فعل امرؤ القيس في قوله :

حملت ردينيّا كأن سنانه

سنا لهب لم يتّصل بدخان (١)

ففصل السّنا عن الدخان ، وأثبته مفردا.

والثاني : أن يعتبر الجميع ، كما فعل الآخر في قوله :

وقد لاح في الصبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (٢)

فإنه اعتبر من الأنجم الشكل ، والمقدار ، واللون ، واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب ، ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنوّر من الملاحيّة.

وكلما كان التركيب من أمور أكثر ؛ كان التشبيه أبعد وأبلغ ، كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : الآية ٢٤] فإنها عشر جمل إذا فصّلّت ، وهي وإن دخل بعضها في بعض ، حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة ؛ فإن ذلك لا يمنع أن تشير إليها واحدة واحدة. ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض ، حتى لو حذف منها جملة أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه.

ومن تمام القول في هذه الآية ونحوها أن الجملة إذا وقعت في جانب المشبه به تكون على وجوه :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٤٧٧ ، والعمدة ٢ / ٥٢ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٤٧ ، وأسرار البلاغة ص ١٨٩.

(٢) تقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.


أحدها : أن تلي نكرة ، فتكون صفة لها ، كما في هذه الآية. وعليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «الناس كإبل مائة لا تجد ، فيها راحلة» (١).

والثاني : أن تلي معرفة هي اسم موصول ، فتكون صلة له ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] الآية.

والثالث : أن تلي معرفة ليست باسم موصول ، فتقع استئنافا ، كقوله عز وعلا : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : الآية ٤١].

ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه : قول ابن المعتز :

كأنّا وضوء الصبح يستعجل الدّجى

نطير غرابا ذا قوادم جون (٢)

شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان ، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضاء لأن تلك الفرق من الظّلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض.

وتمام التدقيق في هذا التشبيه : أن جعل ضوء الصبح ـ لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل ـ كأنه يحفز الدّجى ، ويستعجلها ، ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء ، راعاه آخرا ، حيث قال : «نطير غرابا» ولم يقل : «غراب يطير» ونحوه ؛ لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان ، فأزعج ، وأطير منه ، أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل ، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه ، وأدعى له أن يستمر على الطيران حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون. بخلاف ما إذا طار عن اختيار ، فإنه حينئذ يجوز أن لا يسرع في طيرانه وأن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول ، وكذا قول أبي نواس في صفة منقار البازي :

كعطفة الجيم بكفّ أعسرا (٣)

غير خاف أن الجيم خطان ، أولهما : الذي هو مبدؤه وهو الأعلى ، والثاني الذي يذهب إلى اليسار ، وإذا لم يوصل بها فلها تعريق والمنقار إنما يشبه الخط الأعلى فقط فلهذا قال : «كعطفة الجيم» ولم يقل : «كالجيم» ثم دقق بأن جعلها بكفّ أعسر لأن جيم

__________________

(١) الحديث أخرجه ابن ماجة حديث ٣٩٩٠ ، وعبد الرزاق في المصنف ٢٠٤٤٧ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٩ / ٢٣١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٤.

(٣) قبله :

في هامة غلباء تهدي منسرا

والرجز في أسرار البلاغة ص ١٥٥.


الأعسر يقال : إنه أشبه بالمنقار من جيم الأيمن ، ثم أراد أن يؤكد أن الشبه مقصور على الخط الأعلى من الجيم ، فقال :

يقول من فيها بعقل فكّرا

لو زادها عينا إلى فاء ورا (١)

فاتصلت بالجيم ؛ صارت جعفرا.

فأبان أنه لم يدخل التعريق في التشبيه ، لأن الوصل يسقطه أصلا ، ولا الخط الأسفل وإن كان لا بد منه مع الوصل ، لأنه قال : «فاتصلت بالجيم» أي : بالعطفة المذكورة ، ولم يقتصر على قوله :

لو زادها عينا إلى فاء ورا

ولأجل هذا التدقيق قال :

يقول من فيها بعقل فكّرا

فنبّه على أن بالمشبّه حاجة إلى فضل فكر ، وأن يكون فكره فكر من يراجع عقله.

وإذ قد تحققت ما ذكرنا من التفصيل ، علمت أن قول امرىء القيس في وصف السنان أعلى طبقة من قول الآخر : [عنترة بن شداد]

يتابع لا يبتغي غيره

بأبيض كالقبس الملتهب (٢)

لخلوّ الثاني عن التفصيل الذي تضمّنه الأول ، وهو قصر التشبيه على مجرد السنا ، وتصويره مقطوعا عن الدخان ، ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة ، بل لا بد فيه من أن يتثبت ، وينظر في حال كلّ من الفرع والأصل ، حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه ، وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة. وكذا قوله :

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق (٣)

أفضل من قول ذي الرّمّة :

كأنها فضّة قد مسّها ذهب (٤)

__________________

(١) الرجز في أسرار البلاغة ص ١٥٥.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان عنترة بن شداد ص ٣٢ ، وأسرار البلاغة ص ١٨٨ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٧٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لأبي طالب الرقي في الإشارات والتنبيهات ص ١٦١ ، ويتيمة الدهر للثعالبي ١ / ٢٤٤.

(٤) صدر البيت :

كحلاء في برج صفراء في دعج

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣١ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٩٤٥ ، والكامل ص ٩٣٤ ، وبلا نسبة في المخصص ١ / ٩٨.


لأن الأول مما يندر وجوده دون الثاني ؛ فإن الناس أبدا يرون في الصّياغات فضّة قد موّهت بذهب ، ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أزرق. وكذا بيت بشار أعلى طبقة من قول أبي الطيّب :

يزور الأعادي في سماء عجاجة

أسنّته في جانبيها الكواكب (١)

وكذا من قول الآخر : [عمرو بن كلثوم]

تبني سنابكها من فوق أرؤسهم

سقفا كواكبه البيض المباتير (٢)

لأن كل واحد منهما ، وإن راعى التفصيل في التشبيه ؛ فإنه اقتصر على أن أراك لمعان الأسنّة والسيوف في أثناء العجاجة ، بخلاف بشّار ، فإنه لم يقتصر على ذلك ، بل عبّر عن هيئة السيوف وقد سلّت من أغمادها ، وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب ، وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا ؛ لأنها لا تقع في النفع إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة ؛ وذلك أن للسيوف عند احتدام الحرب واختلاف الأيدي بها في الضرب ، اضطرابا شديدا ، وحركات سريعة ، ثم لتلك الحركات جهات مختلفة ، تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة ، والارتفاع والانخفاض ، ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى ، ويصدم بعضها بعضا ، ثم أشكالها مستطيلة ؛ فنبّه على هذه الدقائق بكلمة واحدة ، وهي قوله : «تهاوى» لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركتها ، ثم كان لها في التهاوي تواقع وتداخل ، ثم استطالت أشكالها.

وكذا قول الآخر في الآذريون : [عبد الله بن المعتز]

مداهن من ذهب

فيها بقايا غاليه (٣)

أعلى وأفضل من قوله فيه : [عبد الله بن المعتز]

ككأس عقيق في قرارتها مسك (٤)

لأن السواد الذي في باطن الآذريونة ، الموضوع بإزائه الغالية والمسك ، فيه أمران ، أحدهما : أنه ليس بشامل له ، والثاني أنه لم يستدر في قعرها ، بل ارتفع منه حتى

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١١٩ ، وأسرار البلاغة ص ٢٠٠ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٧٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لعمرو بن كلثوم في الشعر والشعراء ص ٥٤٩ ، وأسرار البلاغة ص ٢٠١.

(٣) البيت من مجزوء الرجز ، وهو لعبد الله بن المعتز في العمدة ٢ / ١٨٣ ، وأسرار البلاغة ص ٢٠٢.

(٤) صدر البيت :

وحمل آذريونه فوق أذنه

والبيت من الطويل ، وهو لعبد الله بن المعتز في أسرار البلاغة ص ٢٠٢ ، وديوان المعاني ٢ / ٢٦.


أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات ، وله في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن ، إذا كانت بقيّة بقيت عن الأصابع ، وقوله : «في قراراتها مسك» بين الأمر الأول ، ويؤمن من دخول النقص عليه ، كما كان يدخل لو قال : «فيها مسك» ولم يشترط أن يكون في القرارة. وأما الثاني فلا يدل عليه كما يدل قوله : «بقايا غالية» لأن من شأن المسك والشيء اليابس ، إذا حصل في شيء مستدير له قعر ، أن يستدير في القعر ، ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي في سواد الآذريونة ، بخلاف الغالية ؛ فإنها رطبة ، ثم تؤخذ بالأصابع ؛ فلا بد في البقية منها أن يرتفع عن القرارة ذلك الارتفاع ثم هي لنعومتها ترقّ ؛ فتكون كالصّبغ الذي لا يظهر له جرم ، وذلك أصد للشبه.

والبليغ من التشبيه ما كان من هذا النوع ، أعني البعيد ؛ لغرابته ، ولأن الشيء إذا نيل بعد الطلب له ، والاشتياق إليه ؛ كان نيله أحلى ، وموقعه من النفس ألطف ، وبالمسرّة أولى ، ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ ؛ كما قال : [القطامي]

وهنّ ينبذن من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي (١)

لا يقال : عدم الظهور ضرب من التعقيد ، والتعقيد مذموم ؛ لأنا نقول : التعقيد كما سبق له سببان : سوء ترتيب الألفاظ ، واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ ، والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى ودقّته أو ترتيب بعض المعاني على بعض ، كما يشعر بذلك قولنا : «في بادىء الرأي» فإن المعاني الشريفة لا بدّ فيها ـ في غالب الأمر ـ من بناء ثان على أول وردّ تال إلى سابق ، كما في قول البحتري :

دان على أيدي العفاة

 ... (البيتين)

فإنك تحتاج في تعرف معنى البيت الأول إلى معرفة وجه المجاز ، في كونه دانيا وشاسعا ، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى ، وتنظر : كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله : «شاسع»؟ لأن الشّسوع هو الشديد من البعد ، ثم قابله بما يشاكله من مراعاة التناهي في القرب ، فقال : «جدّ قريب» فهذا ونحوه هو المراد بالحاجة إلى الفكر ، وهل شيء أحلى من الفكر إذا صادف نهجا قويما إلى المراد؟.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٨١ ، ولسان العرب (صدى) ، وأساس البلاغة (نبذ).


قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر من الفضيلة : وأين تقع لذّة البهيمة بالعلوفة ، ولذّة السّبع بلطع الدّم وأكل اللحم ، من سرور الظّفر بالأعداء ، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان فرعه؟

وقد يتصرف في القريب المبتذل بما يخرجه من الابتذال إلى الغرابة ، وهو على وجوه : منها أن يكون كقوله : [أبو الطيب المتنبي]

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلّا بوجه ليس فيه حياء (١)

وقوله : [أبو تمام]

فردّت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع (٢)

فو الله ما أدري؟ أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع؟

فإن تشبيه وجوه الحسان بالشمس مبتذل ، لكن كل واحد من حديث الحياء في الأول ، والتشكيك مع ذكر يوشع عليه السّلام في الثاني ؛ أخرجه من الابتذال إلى الغرابة. وشبيه بالأول قول الآخر : [أبو نواس ، الحسن بن هانىء]

إن السحاب لتستحيي إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها (٣)

ومنها أن يكون كقوله : [رشيد الدين الوطواط]

عزماته مثل النّجوم ثواقبا

لو لم يكن للثّاقبات أفول (٤)

وقوله : [أبو تمام]

مها الوحش ، إلّا أنّ هاتا أوانس

قنا الخطّ ، إلّا أنّ تلك ذوابل (٥)

وقوله : [بديع الزمان الهمذاني ، أحمد بن الحسين]

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا (٦)

والبدر لو لم يغب ، والشمس لو نطقت

والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٧٤.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي تمام ٢ / ٣١٩ ، والإشارات والتنبيهات ص ١٧٨.

(٣) البيت بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٢١١.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لرشيد الدين الوطواط المتوفى سنة ٥٧٣ ه‍ ، في حدائق السحر ص ١٤٢ ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٧٨.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لأبي تمام في ديوانه ٣ / ١١٦.

(٦) البيتان من البسيط ، وهما لبديع الزمان الهمذاني (أحمد بن الحسين بن يحيى) صاحب المقامات المعروفة في يتيمة الدهر للثعالبي ٤ / ٢٩٣.


وهذا يسمّى التشبيه المشروط ، ومنها أن يكون كقوله : [البحتري]

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثنّيها (١)

وقول ابن بابك :

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى

نسيمك مسروق ووصفك منتحل (٢)

حكيت أبا سعد ؛ فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل

وقد يخرج من الابتذال بالجمع بين عدّة تشبيهات ، كقوله :

كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضّد ، أو برد ، أو أقاح (٣)

كما يزداد بذلك لطفا وغرابة ، كقوله : [امرىء القيس]

له أيطلا ظبي ، وساقا نعامة

وإرخاء سرحان ، وتقريب تتفل (٤)

وأما باعتبار أداته فإما مؤكّد ، أو مرسل.

والمؤكد ما حذفت أداته ، كقوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النّمل : الآية ٨٨] ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦) [الأحزاب : الآيتان ٤٥ ، ٤٦] ، وقول الحماسي [زياد بن حمل]

هم البحور عطاء حين تسألهم

وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم (٥)

وإلى غير ذلك كما سبق ، ومنه نحو قول الشاعر : [ابن خفاجة ، إبراهيم بن عبد الله]

والريح تعبث بالغصون ، وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء (٦)

وقول الآخر يصف القمر لآخر الشهر قبل السّرار : [ابن حمديس]

كأنما أدهم الإظلام حين نجا

من أشهب الصّبح ألقى نعل حافره (٧)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للبحتري في ديوانه ٤ / ٢٤١٠.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما لابن بابك في الإشارات والتنبيهات ص ١٧٩.

(٣) البيت من السريع ، وهو للبحتري في ديوانه ١ / ٤٣٥.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٢١ ، ولسان العرب (غور) ، (تفل) ، (رخا) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٨١ ، ومقاييس اللغة ١ / ١١٢ ، وشرح الأشموني ٣ / ٧٨٣ ، وتاج العروس (أطل) ، (تفل) ، والبيت بلا نسبة في تهذيب اللغة ٤ / ٣٠١ ، وشرح المفصل ٦ / ١١٢.

(٥) البيت من البسيط ، وهو لزياد بن حمل في خزانة الأدب ٥ / ٢٥٠.

(٦) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٨٣.

(٧) البيت من البسيط ، وهو لابن حمديس الصقلي في المثل السائر ص ١٢٣.


وقول الشريف الرّضي :

أرسى النّسيم بواديكم ولا برحت

حوامل المزن في أجداثكم تضع (١)

ولا يزال جنين النّبت ترضعه

على قبوركم العرّاضة الهمع

والمرسل ما ذكرت أداته ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] ، وقوله عز وجل : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : الآية ٢١] ، وقول امرىء القيس :

وتعطو برخص غير شثن كأنّه

أساريع ظبي أو مساويك إسحل (٢)

وقول البحتري :

وإذا الأسنّة خالطتها ؛ خلتها

فيها خيال كواكب في الماء (٣)

إلى ذلك كما تقدم. وأما باعتبار الغرض فإما مقبول ، أو مردود.

المقبول : الوافي بإفادة الغرض ؛ كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه ، إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه ، أو بيان المقدار.

ثم الطرفان في الثاني إن تساويا في وجه الشبه ؛ فالتشبيه كامل في القبول ، وإلا فكلما كان المشبه به أسلم من الزيادة والنقصان ؛ كان أقرب إلى الكمال. أو كأن يكون المشبه به أتمّ شيء في وجه الشبه ؛ إذا قصد إلحاق الناقص بالكامل.

أو أن يكون المشبه به مسلّم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه ؛ إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود.

والمردود بخلاف ذلك ، أي : القاصر عن إفادة الغرض.

__________________

(١) البيتان من البسيط ، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٧ ، وجمهرة اللغة ص ٣٦٣ ، ٥٤٣ ، وحاشية يس ٢ / ٨٥ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٢ ، ٧ / ١٤٤ ، ولسان العرب (سرع) ، (سحل) ، (شثن) ، (ظبا) ، والمصنف ٣ / ٥٨ ، وتاج العروس (سحل) ، (شثن) ، (ظبا).

(٣) البيت من الكامل ، ولم أجده.


خاتمة

قد سبق أن أركان التشبيه أربعة : المشبه ، والمشبه به ، وأداة التشبيه ، ووجهه.

فالحاصل في مراتب التشبيه في القوة والضعف في المبالغة باعتبار ذكر أركانه كلّها أو بعضها ثمان :

إحداها : ذكر الأربعة ، كقولك : «زيد كالأسد في الشجاعة» ولا قوّة لهذه المرتبة.

وثانيتها : ترك المشبه ، كقولك : «كالأسد في الشجاعة» أي : زيد ، وهي كالأولى في عدم القوة.

وثالثتها : ترك كلمة التشبيه ؛ كقولك : «زيد أسد في الشجاعة» وفيها نوع قوة.

ورابعها : ترك المشبه وكلمة التشبيه ، كقولك : «أسد في الشجاعة» أي : زيد ، وهي كالثالثة في القوة.

وخامستها : ترك وجه الشبه كقولك : «زيد كالأسد» وفيها نوع قوة ؛ لعموم وجه الشبه من حيث الظاهر.

وسادستها : ترك المشبه ووجه التشبيه ، كقولك : «كالأسد» أي : زيد ، وهي كالخامسة.

وسابعتها : ترك كلمة التشبيه ووجهه ، كقولك : «زيد أسد» وهي أقوى الجميع.

وثامنتها : إفراد المشبه به بالذكر ، كقولك : «أسد» أي : زيد ، وهي كالسابعة.

واعلم أن الشّبه قد ينتزع من نفس التضادّ ؛ لاشتراك الضدين فيه ثم ينزّل منزلة التناسب بوساطة تمليح أو تهكّم ؛ فيقال للجبان : «ما أشبهه بالأسد» وللبخيل : هو حاتم.

القول في الحقيقة والمجاز

وقد يقيّدان باللغويّين ، الحقيقة : الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب ، فقولنا : «المستعملة» احتراز عما لم يستعمل ، فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمّى حقيقة ، وقولنا : «فيما وضعت له» احتراز عن شيئين :

أحدهما : ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا ، كما إذا أردت أن تقول لصاحبك : «خذ هذا الكتاب» مشيرا إلى كتاب بين يديك ، فغلطت ، فقلت : «خذ هذا الفرس».

والثاني : أحد قسمي المجاز ، وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له في اصطلاح


به التخاطب ، ولا في غيره ، كلفظة «الأسد» في الرجل الشجاع. وقولنا : «في اصطلاح به التخاطب» احتراز عن القسم الآخر من المجاز.

وهو ما استعمل فيما وضع له لا في اصطلاح به التخاطب ، كلفظ «الصلاة» يستعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا. والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه.

فقولنا «بنفسه» احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة ، أعني المجاز ؛ فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا.

ودخل المشترك في الحدّ ؛ لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض ـ أعني الاشتراك ـ لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه.

وذهب السكاكي إلى أن المشترك ـ كالقرء ـ معناه الحقيقي هو ما لا يتجاوز معنييه ، كالطّهر والحيض ، غير مجموع بينهما.

قال : فهذا ما يدلّ عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين ، أما إذا خصصته بواحد ـ إما صريحا ، مثل أن يقول : «القرء بمعنى الطهر» وإما استلزاما ، مثل أن تقول : «القرء لا بمعنى الحيض» ـ فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين ، كما كان الواضع عيّنه بإزائه بنفسه.

ثم قال في موضع آخر : وأما ما يظنّ بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في دلالته على ما هو معناه ؛ فقد عرفت أن منشأ هذا الظنّ عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين.

وفيما ذكره نظر ؛ لأنّا لا نسلّم أن معناه الحقيقي ذلك ، وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه؟ ثم قوله : «إذا قيل : القرء بمعنى الطهر أو لا بمعنى الحيض ، فهو دالّ بنفسه على الطهر بالتعيين ، سهو طاهر ؛ فإن القرينة كما تكون معنويّة تكون لفظيّة ، وكل من قوله : «بمعنى الطهر» وقوله «لا بمعنى الحيض» قرينة. وقيل : دلالة اللفظ على معناه لذاته.

وهو ظاهر الفساد ؛ لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز ، وجعله علما ، ووضعه للمتضادّين ، كالجون للأسود والأبيض ، فإن ما بالذّات لا يزول بالغير ؛ ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم.

وتأوّله السكاكي رحمه الله على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف ، من أن للحروف في أنفسها خواصّ بها تختلف ، كالجهر والهمس ، والشدّة


والرّخاوة والتوسط بينها ، وغير ذلك ، مستدعية أن العالم بها ، إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى ، لا يهمل التناسب بينهما ؛ قضاء لحقّ الحكمة ، كالفصم ـ بالفاء الذي هو حرف رخو ـ لكسر الشيء من غير أن يبين ، والقصم ـ بالقاف الذي هو حرف شديد ـ لكسر الشيء حتى يبين ، وأن للتركيبات ـ كالفعلان والفعلى بالتحريك كالنّزوان والحيدى ، وفعل مثل شرف وغير ذلك ـ خواصّ أيضا ؛ فيلزم فيها ما يلزم في الحروف ، وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني.

والمجاز : مفرد ، ومركّب (وهما مختلفان).

أما المفرد فهو : الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ، في اصطلاح به التخاطب ، على وجه يصحّ ، مع قرينة عدم إرادته. فقولنا : «المستعملة» احتراز عما لم يستعمل ، لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمّى مجازا ، كما لا تسمى حقيقة.

وقولنا : «في الاصطلاح به التخاطب» ليدخل فيه نحو لفظ «الصلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا ؛ فإنه وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب.

وقولنا : «على وجه يصح» احتراز عن الغلط كما سبق.

وقولنا : «مع قرينة عدم إرادته» احتراز عن الكناية كما تقدم.

والحقيقة لغويّة ، وشرعيّة ، وعرفيّة : خاصّة ، أو عامّة. لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية ، وإن كان الشارع فشرعيّة ، وإلا فعرفية ، والعرفية إن تعيّن صاحبها نسبت إليه ، كقولنا : كلامية ، ونحويّة ، وإلا بقيت مطلقة.

مثال اللغوية : لفظ «أسد» إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص. ومثال الشرعية : لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة ، ومثال العرفيّة الخاصة : لفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة ، ومثال العرفيّة العامّة : لفظ «دابة» إذا استعمله المخاطب بالعرف العامّ في ذي الأربع. وكذلك المجاز المفرد : لغويّ ، وشرعيّ ، وعرفيّ.

مثال اللغويّ : لفظ «أسد» إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع ، ومثل الشرعيّ : لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء ، ومثال العرفيّ الخاصّ : لفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث ، ومثال العرفيّ العام : لفظ «دابة» إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان.

والحقيقة إما فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : حققت الشيء أحقّه ؛ إذا أثبتّه ، أو


فعيل بمعنى فاعل من قولك : حقّ الشيء يحقّ ، إذا ثبت ، أي المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي.

فأما التاء فقال صاحب المفتاح : هي عندي للتأنيث في الوجهين ، لتقدير لفظ «الحقيقة» قبل التسمية صفة مؤنّث غير مجراة على الموصوف وهو الكلمة ، وفيه نظر.

وقيل : هي لثقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصّرفة ، كما قيل في «أكيلة ونطيحة» إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية فلذلك لا يوصف بهما فلا يقال : شاة أكيلة أو نطيحة.

والمجاز قيل : مفعل من جاز المكان يجوزه ، إذا تعدّاه ، أي : تعدت موضعها الأصلي ، وفيه نظر.

والظاهر أنه من قولهم : جعلت كذا مجازا إلى حاجتي ، أي : طريقا له ، على أن معنى «جاز المكان» سلكه على ما فسره الجوهري (١) وغيره ، فإن المجاز طريق إلى تصور معناه. واعتبار التناسب (في التسمية) يغاير اعتبار المعنى في الوصف ، كتسمية إنسان له حمرة بأحمر ، ووصفه بأحمر ؛ فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له ، والثاني لصحة إطلاقه ، فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى في غير المسمى ، كما يلهج به بعض الضعفاء.

والمجاز ضربان : مرسل ، واستعارة ؛ لأن العلاقة المصحّحة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة ، وإلا فهو مرسل.

وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه ، فيسمّى المشبه به مستعارا منه ، والمشبه مستعارا له ، واللفظ مستعارا ، وعلى الأول لا يشتقّ منه ؛ لكونه اسما للفظ ، لا للحدث.

المجاز المرسل

الضرب الأول : المرسل ، وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه ، كاليد إذا استعملت في النّعمة ؛ لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها تصل إلى المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولى

__________________

(١) الجوهري : هو إسماعيل بن حماد الجوهري الإمام ، أبو نصر الفارابي اللغوي ، من أبناء الترك ، سكن نيسابور وتوفي بها سنة ٣٩٣ ه‍ ، له من المصنفات : الصحاح في اللغة ، شرح أدب الكاتب ، كتاب بيان الإعراب ، كتاب العروض ، مقدمة في النحو. (كشف الظنون ٥ / ٢٠٩).


لها ؛ فلا يقال : اتّسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتّسعت النعمة في البلد ، أو : اقتنيت نعمة ، وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لديّ ، ونحو ذلك.

ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل : إن له عليها إصبعا ، أرادوا أن يقولوا : له عليها أثر حذق ، فدلّوا عليه بالإصبع ؛ لأنه ما من حذق يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع. واللطف في رفعها ووضعها ، كما في الحطّ والنّقش ، وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) [القيامة : الآية ٤] أي نجعلها كخفّ البعير ؛ فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة ، فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن ، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا حتى يقال : رأيت أصابع الدار ، وله إصبع حسنة وإصبع قبيحة ، على معنى له أثر حسن وأثر قبيح ، ونحو ذلك.

وينظر إلى هذا قولهم : ضربته سوطا ؛ لأنهم عبّروا عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط ؛ فجعلوا أثر السوط سوطا ، وتفسيرهم له بقولهم : المعنى : ضربته ضربة بالسوط ؛ بيان لما كان الكلام عليه في أصله.

ونظير قولنا : «له عليّ يد» قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأزواجه : «أسرعكنّ لحوقا ـ ويروى لحاقا ـ بي أطولكنّ يدا» (١) ، وقوله : «أطولكن» نظير ترشيح الاستعارة ، ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز ، والمعنى بسط اليد بالعطاء.

وقيل : قوله «أطولكن» من الطّول بمعنى الفضل ، يقال : لفلان على فلان طول ، أي : فضل ؛ فاليد على هذين الوجهين بمعنى النعمة. ويحتمل أن يريد : أطولكن يدا بالعطاء ، أي : أمدّكنّ ، فحذف قوله : «بالعطاء» للعلم به.

وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة ؛ لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد ، وبها يكون البطش ، والضرب ، والقطع ، والأخذ ، والدفع ، والوضع ، والرفع ، وغير ذلك من الأفعال التي تنبىء عن وجود القدرة ومكانها.

وأما اليد في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم» (٢) فهو استعارة والمعنى أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة ، فكما لا يتصوّر أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضا ، وأن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الزكاة باب ١١ ، والنسائي في الزكاة باب ٥٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٧ ، والديات باب ١١ ، والنسائي في القسامة باب ١٠ ، ١٣ ، وابن ماجة في الديات باب ٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ١١٩ ، ١٢٢ ، ٢ / ١٨٠ ، ١٩٢ ، ٢١١ ، ٢١٥.


تختلف بها الجهة في التصرّف : كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين ؛ لأن كلمة التوحيد جامعة لهم.

وكالرواية للمزادة مع كونها للبعير الحامل لها ؛ لحمله إياها ، وكالحفض في البعير ، مع كونه لمتاع البيت ؛ لحمله إياه ، وكالسماء في الغيث ، كقوله : أصابتنا السماء ؛ لكونه من جهة المظلّة ، وكالإكاف في قول الشاعر :

يأكلن كلّ ليلة إكافا (١)

أي : علفا بثمن الإكاف.

وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة غير ما ذكرنا :

منها : تسمية الشيء باسم جزئه ، كالعين في الرّبيئة ؛ لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة ، إذا ما عداها لا يغني شيئا مع فقدها ، فصارت كأنها الشخص كلّه.

وعليه قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) [المزمّل : الآية ٢] أي : صلّ ، ونحوه : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) [التّوبة : الآية ١٠٨] ، أي : لا تصلّ ، وقول النبي عليه السّلام : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (٢) أي : من صلّى.

ومنها : عكس ذلك نحو : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : الآية ١٩] أي : أناملهم ، وعليه قولهم : قطعت السارق ، وإنما قطعت يده.

ومنها : تسمية المسبب باسم السبب ، كقولهم : رعينا الغيث ، أي : النبات الذي سببه الغيث.

وعليه قوله عز وجل : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : الآية ١٩٤] سمّي جزاء الاعتداء اعتداء لأنه مسبّب عن الاعتداء.

وقوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمّد : الآية ٣١] تجوّز بالبلاء عن العرفان ؛ لأنه مسبب عنه ، كأنه قيل : ونعرف أخباركم.

وعليه قول عمرو بن كلثوم :

__________________

(١) قبله :

إنّ لنا أحمرة عجافا

والرجز بلا نسبة في لسان العرب (أكف) ، وتاج العروس (أكف).

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٥ ، ٢٧ ، والصوم باب ٦ ، وليلة القدر باب ١ ، ومسلم في المسافرين حديث ١٧٣ ـ ١٧٦ ، وأبو داود في رمضان باب ١ ، والترمذي في الصوم باب ١.


ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١)

الجهل الأول حقيقة ، والثاني مجاز عبّر به عن مكافأة الجهل.

وكذا قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشّورى : الآية ٤٠] تجوّز بلفظ السيئة عن الاقتصاص ؛ لأنه مسبّب عنها.

قيل : وإن عبّر عما ساء ـ أي أحزن ـ لم يكن مجازا لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية.

وكذا قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : الآية ٥٤] تجوّز بلفظ المكر عن عقوبته ؛ لأنه سببها.

قيل : ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة ؛ لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقّق من الله تعالى ، باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمه.

ومنها : تسمية السبب باسم المسبّب ، كقولهم : أمطرت السماء نباتا وعليه قولهم : «كما تدين تدان» أي كما تفعل تجازى.

وكذا لفظ الأسنمة في قوله يصف غيثا :

أقبل في المسنّنّ من ربابه

أسنمة الآبال في سحابه (٢)

وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : الآية ٦] بإنزال الماء على وجه ؛ لأنها لا تعيش إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء ، وقد أنزل الماء ، فكأنه أنزلها ، ويؤيّده ما ورد : أن كل ما في الأرض من السماء ، ينزله الله تعالى إلى الصخرة ، ثم يقسمه ، قيل : وهذا معنى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزّمر : الآية ٢١].

وقيل : معناه : وقضى لكم لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء ؛ حيث كتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل : خلقها في الجنة ، ثم أنزلها.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٧٨ ، ولسان العرب (رشد) ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٧ ، ٣٢٧ ، ٢٢ / ١٤٧ ، والبصائر ، والذخائر ٢ / ٨٢٩ ، وبهجة المجالس ٢ / ٦٢١ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤١٤ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣٧ ، وشرح ديوان امرىء القيس ص ٣٢٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢٠ ، وشرح القصائد السبع ص ٤٢٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٦٦ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٧٨ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٢ ، وعيون الأخبار ٢ / ٢١١ ، وبلا نسبة في لسان العرب (خدع) ، والمخصص ٣ / ٨١ ، وأساس البلاغة (جهل).

(٢) الرجز ، وهو في الكامل للمبرد ٢ / ٦٨.


وكذا قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) [غافر : الآية ١٣] أي : مطرا هو سبب الرزق.

وقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النّساء : الآية ١٠].

وقولهم : فلان أكل الدّم ، أي : الدّيّة التي هي مسبّبة عن الدم ، قال : [حماسة أبي تمام]

أكلت دما إن لم أرعك بضرّة

بعيدة مهوى القرط ، طيّبة النّشر (١)

وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النّحل : الآية ٩٨] أي : أردت القراءة بقرينة الفاء مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة.

وقوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) [هود : الآية ٤٥] أي : أراد ؛ بقرينة فقال : (رَبِ) [البقرة : الآية ١٢٦].

وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : الآية ٤] أي : أردنا إهلاكها ؛ بقرينة (فَجاءَها بَأْسُنا).

وكذا قوله تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : الآية ٦] بقرينة (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : الآية ٦] وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك ؛ إذ لا يقع الإنكار في (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : الآية ٦] في المحزّ إلا بتقدير : «ونحن على أن نهلكهم».

ومنها : تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، كقوله عز وجل : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النّساء : الآية ٢] أي : الذين كانوا يتامى ، إذ لا يتم بعد البلوغ.

وقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) [طه : الآية ٧٤] سمّاه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام.

ومنها : تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، كقوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : الآية ٣٦].

ومنها : تسمية الحالّ باسم محلّه ، كقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١٧) [العلق : الآية ١٧] أي : أهل ناديه.

ومنها : عكس ذلك ، نحو : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) [آل عمران : الآية ١٠٧] أي في الجنة.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأعرابي في الحماسة ٢ / ٣٨.


ومنها : تسمية الشيء باسم آلته ، كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : الآية ٤] أي بلغة قومه.

وقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) [الشّعراء : الآية ٨٤] أي ذكرا جميلا وثناء حسنا.

وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع تعلّق سوى التشبيه.

قال صاحب المفتاح : وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه ؛ يحتمل عندي أن يكون المراد بـ «منعك» في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : الآية ١٢] «دعاك» و «لا» غير صلة قرينة المجاز ، وكذا : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : الآيتان ٩٢ ، ٩٣].

قال الراغب (١) رحمه الله : قال بعض المفسرين : إن معنى «ما منعك» ما حماك ، وجعلك في منعة منّي في ترك السجود؟ أي : في معاقبة تركه.

وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال : لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [ص : الآية ٧٦] فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه ، وإنما هو جواب من قيل له : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)

ويمكن أن يقال في جواب ذلك : إن إبليس لما كان ألزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه ؛ إذ لم يكن من كالىء يحرسه ويحميه ؛ عدل عمّا كان جوابا كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة ؛ انتهى كلامه. وقسم الشيخ صاحب المفتاح المجاز المرسل إلى خال عن الفائدة ، ومفيد.

وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له ، كالمرسن في قول العجّاج :

وفاحما ومرسنا مسرّجا (٢)

__________________

(١) الراغب الأصبهاني : هو الحسين بن محمد بن مفضل الإمام أبو القاسم المعروف بالراغب الأصبهاني نزيل بغداد. توفي سنة ٥٠٠ ه‍ ، له من الكتب : أخلاق الراغب ، أفانين البلاغة ، تحقيق البيان في تأويل القرآن ، تفسير القرآن ، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ، درة التأويل في متشابه التنزيل ، الذريعة إلى مكارم الشريعة ، رسالة في فوائد القرآن ، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ، المعاني الأكبر ، مفردات ألفاظ القرآن. (كشف الظنون ٥ / ٣١١).

(٢) قبله :

وجبهة وحاجبا مزجّجا

والرجز للعجاج في ديوانه ٢ / ٣٤ ، ولسان العرب (سرج) ، (رسن) ، وتاج العروس (سرج) ، (رسن) ، وجمهرة اللغة ص ٤٥٨ ، ٧٢٢ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٣٨ ، وأساس البلاغة (رسن) ، ـ ـ


فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه لمرسون مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا ، وكالمشفر في نحو قولنا : «فلان غليظ المشافر» إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشّفة لا غير.

وقال : سمّي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو «ليث ، وأسد» ، و «حبس ، ومنع» عند المصير إلى المراد منه.

وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر.

والشيخ عبد القاهر رحمه الله جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد ، مع كونه موضوعا لذلك

الشيء بقيد آخر ، من غير قصد التشبيه ، ومثّله ببعض ما مثّله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه ، مصرّحا بأن الشّفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان ، فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة ، كقولهم في مواضع الذّم : «غليظ المشفر» فإنه بمنزلة أن يقال : كأن شفته في الغلظ مشفر البعير ، وعليه قول الفرزدق :

فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّا غليظ المشافر (١)

أي : ولكنّك زنجيّ كأنه جمل لا يهتدي لشرفي. وكذا قول الحطيئة يخاطب الزّبرقان :

قروا جارك العيمان لمّا جفوته

وقلّص عن برد الشراب مشافره (٢)

فإنه وإن عنى نفسه بالجار ، جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال ؛ ليزيد في التهكّم بالزّبرقان ، ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضّيف وإسلامه للضّرّ والبؤس.

__________________

وكتاب العين ٦ / ٥٣ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٠ / ٥٨٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٥٦ ، والمخصص ١ / ٩٢ ، ٢ / ١٥٥.

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٤٨١ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٤٤ ، والدرر ٢ / ١٧٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠١ ، وشرح المفصل ٨ / ٨١ ، ٨٢ ، والكتاب ٢ / ١٣٦ ، ولسان العرب (شفر) ، والمحتسب ٢ / ١٨٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٢ ، والجني الداني ص ٥٩٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٠ ، والدرر ٣ / ١٦٠ ، ورصف المباني ص ٢٧٩ ، ٢٨٩ ، ومجالس ثعلب ١ / ١٢٧ ، ومغني اللبيب ص ٢٩١ ، والمنصف ٣ / ١٢٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٦ ، ٢٢٣.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٢٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وبلا نسبة في المخصص ٤ / ١٣٦ ، ١٢ / ١٨١.


وكذا قول الآخر : [الأخطل]

سأمنعها ، أو سوف أجعل أمرها

إلى ملك أظلافه لم تشقّق (١)

الاستعارة

الضرب الثاني من المجاز : الاستعارة ، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له.

وقد تقيّد بالتحقيقية ، لتحقق معناها حسّا أو عقلا ، أي : التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينصّ عليه ويسار إليه إشارة حسّيّة أو عقلية ، فيقال : إن اللفظ نقل من مسمّاه الأصلي ، فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه. أما الحسيّ فكقولك : «رأيت أسدا» وأنت تريد رجلا شجاعا ، وعليه قول زهير :

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف (٢)

أي : لدى رجل شجاع ، ومن لطيف هذا الضرب : ما يقع التشبيه فيه في الحركات ، كقول أبي دلامة يصف بغلته : [زند بن الجوان]

أرى الشّهباء تعجن إذ غدونا

برجليها ، وتخبز باليدين (٣)

شبّه حركة رجليها ـ حيث لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهوتا ذاهبتين نحو يديها ـ بحركة يدي العاجن ؛ فإنهما لا تثبتان في موضع ، بل تزلّان إلى قدّام ؛ لرخاوة العجين ، وشبّه حركة يديها بحركة يدي الخابز ؛ فإنه يثني يده نحو بطنه ، ويحدث فيها ضربا من التقويس ، كما تجد في يد الدّابّة إذا اضطربت في سيرها ، ولم تقو على ضبط يديها ، وأن ترمي بها إلى قدّام ، وأن تشدّ اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه ، فلا تزول عنه ولا تنثني.

وأما العقلي فكقولك : «أبديت نورا» وأنت تريد «حجّة» فإن الحجة مما يدرك بالعقل من غير وساطة حسّ ؛ إذ المفهوم من الألفاظ هو الذي ينوّر القلب ويكشف عن الحق ، لا الألفاظ أنفسها.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعقفان بن قيس بن عاصم في لسان العرب (ظلف) ، وسمط اللآلي ص ٧٤٦ ، وتاج العروس (ظلف) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وأمالي القالي ٢ / ١٢٠.

(٢) عجز البيت :

له لبد أظفاره لم تقلّم

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٤ ، ولسان العرب (قذف) ، (مكن) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٤ ، وتاج العروس (قذف).

(٣) البيت لأبي دلامة (زند بن الجون) في الأغاني ٩ / ١١٥.


وعليه قوله عز وجل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) [الفاتحة : الآية ٦] ، أي الدين الحقّ.

وأما قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النّحل : الآية ١١٢] فعلى ظاهر قول الشيخ جار الله العلّامة استعارة عقليّة ، لأنه قال : شبّه باللّباس ـ لاشتماله على اللابس ـ ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وعلى ظاهر قول الشيخ صاحب المفتاح حسّيّة ، لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبسه الإنسان عند جوعه وخوفه ، من امتقاع اللون ، ورثاثة الهيئة.

فالاستعارة : ما تضمّن تشبيه معناه بما وضع له.

والمراد بمعناه : ما عني به ، أي : ما استعمل فيه ؛ فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له ، وإن تضمّن التشبيه به ، نحو : زيد أسد ، ورأيته أسدا ، ونحو : رأيت به أسدا ؛ لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه.

على أن المراد بقولنا : «ما تضمن» مجاز تضمن ؛ بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها ، والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له.

وهاهنا شيء لا بد من التنبيه عليه ، وهو أنه إذا أجري في الكلام لفظ دلّت القرينة على تشبيه شيء بمعناه ، فيكون ذلك على وجهين :

أحدهما : أن لا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا كقولك : «رنت لنا ظبية» وأنت تريد «امرأة» و «لقيت أسدا» وأنت تريد «رجلا شجاعا» ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه ، وأن الاسم فيه استعارة.

والثاني : أن يكون المشبه مذكورا أو مقدّرا ، فاسم المشبه به إن كان خبرا أو في حكم الخبر ـ كخبر «كان» و «إنّ» والمفعول الثاني لباب «علمت» والحال ـ فالأصح أنه يسمّى تشبيها ، وأن الاسم فيه لا يسمّى استعارة ؛ لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع ؛ فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه ، أو نفيه عنه ؛ فإذا قلت : زيد أسد» فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد ، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له ؛ فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه فيكون خليقا بأن يسمّى تشبيها ؛ إذ كان إنما جاء ليفيده بخلاف الحالة الأولى ، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء ، كما إذا قلت : جاءني أسد ، ورأيت أسدا ، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد ، والرؤية واقعة منك عليه ، لا لإثبات معنى الأسد لشيء ؛ فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه ، وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير ، لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النفار.


ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير ، وهو أنه إذا لم يكن المشبّه مذكورا ، جاز أن يتوهّم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له ، فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمّل ، بخلاف الحالة الثانية ؛ فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدّرا.

ومن الناس من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة ؛ لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه.

وهذا الخلاف لفظيّ راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح ، وما اخترناه هو الأقرب ؛ لما أوضحنا من المناسبة ، وهو اختيار المحقّقين كالقاضي أبي الحسن الجرجاني ، والشيخ عبد القاهر ، والشيخ جار الله العلّامة ، والشيخ صاحب المفتاح ، رحمهم الله.

غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه : فإن أبيت إلا أن تطلق اسم الاستعارة على هذا القسم ؛ فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة ، كقولك زيد الأسد ، وهو شمس النهار ، فإنه يحسن أن يقال زيد كالأسد ، وخلته شمس النهار.

وإن حسن دخول بعضها دون بعض ؛ هان الخطب في إطلاقه وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة ، كقولك : زيد أسد ، فإنه لا يحسن أن يقال زيد كأسد ، ويحسن أن يقال : كأن زيدا أسد ، ووجدته أسدا.

وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام ، وكان إطلاقه أقرب ؛ لغموض تقديره أداة التشبيه فيه ، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به ، كقولك : فلان بدر يسكن الأرض ، وهو شمس لا تغيب ، وكقوله : [البحتري]

شمس تألّق والفراق غروبها

عنّا ، وبدر والصّدود كسوفه (١)

فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها ، إلا بتغيير صورته ، كقولك : هو كالبدر ، إلا أنه يسكن الأرض ، وكالشمس إلا أنه لا يغيب ؛ وكالشمس المتألّقة ، إلا أن الفراق غروبها ، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه.

وقد يكون في هذه الصفات والصّلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه ؛ فيقرب إطلاقه أكثر ، وذلك مثل قول أبي الطيّب :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٤٢٣ ، وأسرار البلاغة ص ٣٧٣.


أسد ، دم الأسد الهزبر خضابه

موت ، فريص الموت منه يرعد (١)

فإنه لا سبيل إلى أن يقال : المعنى : هو كالأسد ، وكالموت ؛ لما في ذلك في التناقض ؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله ، وجعل دم الهزبر ـ الذي هو أقوى الجنس ـ خضاب يده ، دليل أنه فوقه ، وكذلك لا يصح أن يشبّه بالموت المعروف ، ثم يجعل الموت يخاف منه ، وكذا قول البحتري :

وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا

وموضع رحلي منه أسود مظلم (٢)

إن رجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى هو كالبدر ، لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه ؛ فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر ؛ فهو مبنيّ على تخييل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة ؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ، ولكن لإثبات تلك الصفة ؛ فهو كقولك : زيد رجل كيت كيت ، لم تقصد إثبات كونه رجلا لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت ، فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه ، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه ، فالكلام فيه مبنيّ على أنّ كون الممدوح بدرا أمر قد استقرّ وثبت ، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة.

وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه ، يمتنع دخول «كأن» ونحوه : «تحسب» لاقتضائهما أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة ، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول مشكوك فيه ، كقولنا : كأن زيدا منطلق ، أو خلاف الظاهر ، كقولنا : كأن زيدا أسد ، والنكرة فيما نحن فيه غير ثابتة ؛ فدخول «كأنّ» و «تحسب» عليها كالقياس على المجهول.

وأيضا هذا النحو ـ إذا فليت عن سرّه ـ وجدت محصوله أنك تدّعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور ، إلا أنه اختصّ بصفة عجيبة لم يتوهّم جوازها على الجنس ؛ فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى.

وإن لم يكن اسم المشبه به خيرا للمشبه ، ولا في حكم الخبر ، كقولهم : رأيت بفلان أسدا ، ولقيني منه أسد ، سمّي تجريدا ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولم يسمّ استعارة ؛ لأنه إنما يتصوّر الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٩٨ ، وأسرار البلاغة ص ٣٧٥.


على ما يدّعي أنه مستعار له ؛ إما باستعماله فيه ، أو بإثبات معناه له ، والاسم في مثل هذا غير جار على المشبه بوجه.

ولأنه يجيء على هذه الطريقة ما لا يتصور فيه التشبيه فيظنّ أنه استعارة كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصّلت : الآية ٢٨] إذ ليس المعنى على تشبيه جهنّم بدار الخلد ؛ إذ هي نفسها دار الخلد ، وكقول الشاعر : [أعشى قيس]

يا خير من يركب المطيّ ، ولا

يشرب كأسا بكفّ من بخلا (١)

فإنه لا يتصوّر فيه التشبيه ، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل.

ولا يسمّى تشبيها أيضا ، لأن اسم المشبه به لم يجتلب فيه لإثبات التشبيه ، كما سبق ، وعدّه الشيخ صاحب المفتاح تشبيها ، والخلاف أيضا لفظيّ.

والدليل على أن الاستعارة مجازّ لغويّ ؛ كونها موضوعة للمشبه به ، لا للمشبه ولا لأمر أعم منهما ، كالأسد ، فإنه موضوع للسبع المخصوص ، لا للرجل الشجاع ، ولا للشجاع مطلقا ؛ لأنه لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله في الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه ، وأيضا لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس.

وقيل : الاستعارة مجاز عقلي ، بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبه به ؛ لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الاعلام المنقولة كـ «يزيد» و «يشكر» استعارة.

ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة ؛ لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن عناه.

ولما صح أن يقال لمن قال : «رأيت أسدا» يعني زيدا : أنه جعله أسدا ، كما لا يقال لمن سمّى ولده أسدا : إنه جعله أسدا ؛ لأن «جعل» إذا تعدى إلى مفعولين ؛ كان بمعنى «صيّر» فأفاد إثبات صفة للشيء فلا تقول «جعلته أميرا» إلا على معنى أنك أثبتّ له صفة الإمارة.

وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزّخرف : الآية ١٩] ، المعنى أنهم أثبتوا صفة الأنوثة ، واعتقدوا وجودها فيهم ، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ١٠٢ ، ٦٦٤ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٠٥.


للملائكة إطلاق اسم الإناث عليهم ، لا أنهم أطلقوه من غير اعتقاد ثبوت معناه لهم ؛ بدليل قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزّخرف : الآية ١٩]؟.

وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى كان الاسم مستعملا فيما وضع له ؛ ولهذا صح التّعجّب في قول ابن العميد (١) : [محمد بن الحسين]

قامت تظلّلني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي (٢)

قامت تظلّلني ، ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس

والنّهي عنه في قول الآخر : [ابن طباطبا ، محمد بن أحمد]

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر (٣)

وقوله : [أبو مطاع ، ناصر الدولة الحمداني]

ترى الثياب من الكتّان يلمحها

نور من البدر أحيانا فيبليها (٤)

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر في كل وقت طالع فيها؟!

والجواب عنه أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به ؛ لا يخرج اللفظ عن كونه مستعملا في غير ما وضع له.

وأما التعجّب والنهي فيما ذكر فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه قضاء لحق المبالغة.

فإن قيل : إصرار المتكلم على ادّعاء الأسديّة للرجل ينافي نصبه قرينة من أن يراد به السبع المخصوص.

قلنا : لا منافاة.

ووجه التوفيق ما ذكره السكاكي ، وهو أن تبنى دعوى الأسدية للرجل على ادّعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل : متعارف ، وهو الذي له غاية الجراءة ،

__________________

(١) ابن العميد : هو محمد بن أبي عبد الله الحسين بن محمد أبو الفضل الكاتب البغدادي المعروف بابن العميد ، كان وزير ركن الدولة بن بويه ، توفي سنة ٣٥٩ ، صنف ديوان رسائله ، كتاب المذهب في البلاغات. (كشف الظنون ٦ / ٤٦).

(٢) البيتان من الكامل ، وهما في يتيمة الدهر للثعالبي ٣ / ١٦٠ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٥.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لابن طباطبا (أبي الحسن محمد بن أحمد المتوفى سنة ٣٢٢ ه‍) في أسرار البلاغة ص ٣٤٨ ، وديوان المعاني ١ / ٣٤٥.

(٤) البيتان من البسيط ، وهما لأبي المطاع ناصر الدولة الحمداني في أسرار البلاغة ص ٣٤٩ ، ويتيمة الدهر ١ / ٧٤.


ونهاية قوة البطش ، ومع الصورة المخصوصة ، وغير متعارف ، وهو الذي له تلك الجراءة ، وتلك القوة ، لا مع تلك الصورة ، بل مع صورة أخرى ، على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء في عدّ نفسه وجماعته من جنس الجنّ ، وعدّ جماله من جنس الطير ، حين قال :

نحن قوم من الجنّ في زيّ ناس

فوق طير ، لها شخوص الجمال (١)

مستشهدا لدعواه هاتيك بالمخيّلات العرفية.

وأن تخصص القرينة بنفيها المتعارف الذي سبق إلى الفهم ؛ ليتعين الآخر.

ومن البناء على هذا التنويع قوله : [عمرو بن معديكرب]

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

وقولهم «عتابك السيف» وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) [الشّعراء : الآيتان ٨٨ ، ٨٩].

ومنه قوله : [عامر بن الحارث]

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير ، وإلّا العيس (٣)

وإذ قد عرفت معنى الاستعارة ، وأنها مجاز لغوي ؛ فاعلم أن الاستعارة تفارق الكذب من وجهين :

بناء الدعوى فيها على التأويل ، ونصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها ؛ فإن الكاذب يتبرّأ من التأويل ، ولا ينصب دليلا على خلاف زعمه.

وأنها لا تدخل في الأعلام ، لما سبق من أنها تعتمد إدخال المشبه في جنس المشبه به ، والعلميّة تنافي الجنسيّة ، وأيضا لأن العلم لا يدل إلا على تعيّن شيء من غير

__________________

(١) البيت من الخفيف ، ورواية صدر البيت في ديوان المتنبي ١ / ١٦٦ :

نحن ركب ملجن في زي ناس

(٢) صدر البيت :

وخيل قد دلفت لها بخيل

والبيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، والكتاب ٣ / ٥٠ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٠ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، والخصائص ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والمقتضب ٢ / ٢٠.

(٣) الرجز لجران العود في ديوانه ص ٩٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ، والدرر ٣ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٥٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٠٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٢٧١.


إشعار بأنه إنسان أو فرس أو غيرهما ؛ فلا اشتراك بين معناه وغيره ، إلا في مجرد التعيّن ، ونحوه من العوارض العامة التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة ، اللهم إلا إذا تضمّن نوع وصفية لسبب خارج ، كتضمّن اسم حاتم الجواد ، ومادر البخيل ، وما جرى مجراهما.

وقرينة الاستعارة إما معنى واحد ، كقولك : رأيت أسدا يرمي ، أو أكثر ، كقول بعض العرب :

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ في أيماننا نيرانا (١)

أي : سيوفا تلمع كأنها شعل نيران ، كما قال الآخر : [البحتري]

ناهضتهم والبارقات كأنها

شعل على أيديهم تتلهّب (٢)

فقوله : «تعافوا» باعتبار كل واحد من تعلّقه بالعدل ، وتعلّقه بالإيمان ؛ قرينة لذلك ؛ لدلالته على أن جوابه : أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف.

أو معان مربوط بعضها ببعض ، كما في قول البحتري :

وصاعقة من نصله تنكفي بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب (٣)

عنى بـ «خمس سحائب» أنامل الممدوح ؛ فذكر أن هناك صاعقة ؛ ثم قال : «من نصله» فبين أنها من نصل سيفه ، ثم قال : «على أرؤس الأقران» ثم قال : «خمس» فذكر عدد أصابع اليد ؛ فبان من مجموع ذلك غرضه.

ثم الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين ، وباعتبار الجامع ، وباعتبار الثلاثة وباعتبار اللفظ ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله.

أما باعتبار الطرفين فهي قسمان ؛ لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن ، أو ممتنع ، ولتسمّ الأولى وفاقيّة ، والثانية عناديّة.

أما الوفاقية فكقوله تعالى : (فَأَحْيَيْناهُ) في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] فإن المراد بـ «أحييناه» هديناه. أي : أو من كان ضالّا فهديناه؟ والهداية والحياة لا شك في جواز اجتماعهما في شيء.

وأما العنادية فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عيف) ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٨٧.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للبحتري في دلائل الإعجاز ص ٢٣٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ١٧٩ ، والطراز ١ / ٢٣١.


موجودة لخلوّها مما هو ثمرتها والمقصود منها ، وإذا ما خلت منه لم تستحق الشرف ، كاستعارة اسم المعدوم للموجود ، إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله ؛ فيكون مشاركا للمعدوم في ذلك ، أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه ، فيكون مشاركا للموجود في ذلك ، أو اسم الميت للحي الجاهل ، لأنه عدم فائدة الحياة والمقصود بها ، أعني العلم ؛ فيكون مشاركا للميت في ذلك ، ولذلك جعل النوم موتا ؛ لأن النائم لا يشعر بما بحضرته ، كما لا يشعر الميت ، أو الحي العاجز لأن العجز كالجهل يحط من قدر الحي.

ثم الضدان إن كان قابلين للشدة والضعف ، كان استعارة اسم الأشد للأضعف أولى ؛ فكل من كان أقل علما وأضعف قوة كان أولى بأن يستعار له اسم الميت ، ولما كان الإدراك أقدم من العقل في كونه خاصة للحيوان كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوة.

وكذا في جانب الأشد ، فكل من كان أكثر علما كان أولى بأن يقال له : «إنه حي» وكذا من كان أشرف علما ، وعليه قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] فإن العلم بوحدانية الله تعالى وما أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم أشرف العلوم.

ومنها : ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه بتنزيل التضاد أو التناقض منزلة التناسب ، بوساطة تهكم أو تمليح على ما سبق في التشبيه ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١] ويخصّ هذا النوع باسم التهكمية أو التمليحية.

وأما باعتبار الجامع فهي قسمان :

أحدهما : ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين ، كاستعارة الطيران للعدو ، كما في قول امرأة من بني الحارث ترثي قتيلا :

لو يشأ طار به ذو ميعة

لاحق الآطال نهد ذو خصل (١)

وكما جاء في الخبر : «كلما سمع هيعة طار إليها» فإن الطيران والعدو يشتركان في أمر داخل في مفهومهما ، وهو قطع المسافة بسرعة ، ولكن الطيران أسرع من العدو.

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو لعلقمة الفحل في ديوانه ص ١٣٤ ، ولامرأة من بني الحارث في الحماسة البصرية ١ / ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٩٨ ، والدرر ٥ / ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٠٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٤ ، ولعلقمة أو لامرأة من بني الحارث في المقاصد النحوية ٢ / ٥٣٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٤ ، وتذكرة النحاة ص ٣٩ ، والجنى الداني ص ٢٨٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٧١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٤.


ونحوهما قول بعض العرب : [مضرس بن ربعي]

فطرت بمنصلي في يعملات

دوامي الأيد يخبطن السّريحا (١)

يقول : إنه قام بسيفه مسرعا إلى نوق فعقرهن ودميت أيديهن فخبطن السّيور المشدودة على أرجلهن.

وكاستعارة الفيض لانبساط الفجر في قوله : [البحتري]

كالفجر فاض على نجوم الغيهب (٢)

فإن الفيض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص ، وذلك أن يفارق مكانه دفعة ؛ فينبسط انبساط شبيه بذلك.

وكاستعارة التقطيع لتفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض في قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) [الأعراف : الآية ١٦٨] فإن القطع موضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام التي بعضها ملتصق ببعض ؛ فالجامع بينهما إزالة الاجتماع التي هي داخلة في مفهومهما ، وهي في القطع أشدّ.

وكاستعارة الخياطة لسرد الدّرع في قول القطامي :

لم تلق قوما هم شرّ لإخوتهم

منّا عشيّة يجري بالدم الوادي (٣)

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد

فإن الخياطة تضم خرق القميص ، والسّرد يضم حلق الدّرع ؛ فالجامع بينهما الضم الذي هو داخل في مفهومهما ، وهو في الأول أشد.

وكاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لمضرس بن ربعي في شرح أبيات سيبويه ١ / ٦٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٨١ ، ولسان العرب (ثمن) ، (يدي) ، وله أو ليزيد بن الطثرية في شرح شواهد المغني ص ٥٩٨ ، ولسان العرب (جزز) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٩١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٦٠ ، والإنصاف ٢ / ٥٤٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٢ ، والخصائص ٢ / ٢٦٩ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥١٩ ، ٧٧٢ ، والكتاب ١ / ٢٧ ، ٤ / ١٩٠ ، ولسان العرب (خبط) ، ومغني اللبيب ١ / ٢٢٥ ، والمنصف ٢ / ٧٣.

(٢) صدر البيت :

يتراكمون على الأسنة في الوغى

والبيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٨٢.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما للقطامي في ديوانه ص ٨١ ، والمطول شرح تلخيص المفتاح ص ٦٠٠ ، والأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٢٨٣.


نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدّراهم (١)

لأن النثر أن تجمع أشياء في كف أو وعاء ، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ونظام ، وقد استعاره لما يتضمن التفرّق على الوجه المخصوص ، وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة من غير ترتيب ونظام ، ونسبه إلى الممدوح لأنه سببه.

والثاني : ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين ، كقولك : «رأيت شمسا» وتريد إنسانا يتهلّل وجهه ، فالجامع بينهما التلألؤ ، وهو غير داخل في مفهومهما.

وتنقسم باعتبار الجامع أيضا إلى عاميّة وخاصيّة.

فالعامية المبتذلة لظهور الجامع فيها ، كقولك : «رأيت أسدا ، ووردت بحرا».

والخاصية الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة ، كما سيأتي في الاستعارات الواردة في التنزيل ، كقول طفيل الغنوي :

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل (٢)

وموضع اللطف والغرابة منه أنه استعار الافتيات لإذهاب الرّحل شحم السّنام ، مع أن الشحم مما يقتات.

وقول ابن المعتز :

حتى إذا ما عرف الصيد الضّار

وأذن الصبح لنا في الإبصار (٣)

ولما كان تعذّر الإبصار منعا من الليل ، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا منه.

وقول الآخر : [سوار بن المضرب]

بعرض تنوفة للريح فيه

نسيم لا يروع التّرب وان (٤)

وقوله : [ابن المعتز]

يناجيني الإخلاف من تحت مطله

فتختصم الآمال واليأس في صدري (٥)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص ١٠٨ ، ولسان العرب (قوت) ، وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة ٩ / ٢٥٤ ، وتاج العروس (قوت).

(٣) البيت من البسيط ، وهو في دلائل الإعجاز ص ٦١.

(٤) البيت من الوافر ، وهو لجحدر اليماني في لسان العرب (وني) ، وتاج العروس (وني).

(٥) البيت في دلائل الإعجاز ص ٦١.


ثم الغرابة قد تكون في الشبه نفسه ، كما في تشبيه هيئة العنان ـ في موقعه من قربوس السرج ـ بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدّب : [يزيد بن سلمة]

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزائر (١)

وقد تحصل بتصرّف في العامية ، كما في قول الآخر :

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (٢)

أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة ، وكانت سرعة في لين وسلاسة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.

ومثلها في الحسن وعلوّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز :

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير (٣)

أراد أنه مطاع في الحي ، وأنهم يسرعون إلى نصرته ، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه ، وكثروا عليه ، وازدحموا حواليه ، حتى تجدهم كالسيول ، تجيء من هاهنا ، وتنصب من هذا المسيل وذاك ، حتى يغصّ بها الوادي ويطفح منها.

وهذا شبه معروف ظاهر ، ولكن حسن التصرف فيه أفاد اللطف والغرابة وذلك أن أسند الفعل إلى الأباطح والشعاب ، دون المطيّ أو أعناقها ، والأنصار أو وجوههم ؛ حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل ، والشعاب من الرجال ، على ما تقدم في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤].

وفي كل واحد منهما شيء غير الذي في الآخر يؤكد أمر الدقة والغرابة :

أما الذي في الأول فهو أنه أدخل الأعناق في السّير ؛ فإن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها على ما مر.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٥٩ ، ٧٨.

(٢) صدر البيت :

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

والبيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ملحق ديوانه ص ٥٢٥ ، وزهر الآداب ص ٣٤٩ ، وليزيد بن الطثرية في ديوانه ص ٦٤ ، والشعر والشعراء ص ٨ ، وبلا نسبة في لسان العرب (طرف) ، وأساس البلاغة (سيل) ، وتاج العروس (طرف) ، ومعجم البلدان (منى).

(٣) البيت من الكامل ، وهو لابن المعتز في الإشارات والتشبيهات ص ١٩٦ ، وبلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٥٩ ، ٧٨.


وأما الذي في الثاني فهو أنه قال : «عليه» فعدّى الفعل إلى ضمير الممدوح بـ «على» فأكد مقصوده من كونه مطاعا في الحيّ.

وكما في قوله :

فرعاء ، إن نهضت لحاجتها

عجل القضيب وأبطأ الدّعص (١)

إذ وصف القضيب بالعجلة ، والدّعص بالبطء.

وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل ، كقول امرىء القيس :

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا ، وناء بكلكل (٢)

أراد وصف الليل بالطول ؛ فاستعار له صلبا يتمطى به إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطّيه شيء ، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا ، ثم أراد أن يصفه بالثّقل على قلب ساهره ، والضغط لمكابده ؛ فاستعار له كلكلا ينوء به ، أي : يثقل به. وقال الشيخ عبد القاهر : لما جعل لليل صلبا تمطّى به ثنّى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصّلب ، وثلّث فجعل له كلكلا قد ناء به ؛ فاستوفى له جملة أركان الشخص ، وراعى ما يراه الناظر من سواه إذا نظر قدّامه ، وإذا نظر خلفه ، وإذا رفع البصر ومدّه في عرض الجوّ.

وأما باعتبار الثلاثة ـ أعني الطرفين ، والجامع ـ فستة أقسام : استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسّيّ ، أو بوجه عقلي ، أو بما بعضه حسّيّ وبعضه عقلي ، وباستعارة معقول لمعقول ، واستعارة محسوس لمعقول ، واستعارة معقول لمحسوس ، كل ذلك بوجه عقلي ، لما مر.

أما استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي فكقوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [طه : الآية ٨٨] فإن المستعار منه ولد البقرة ، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حليّ القبط التي سبكتها نار السامري عند إلقائه فيها التربة التي أخذها من موطىء حيزوم فرس جبرائيل عليه السّلام ، والجامع لهما الشكل ، والجميع حسّي.

وكقوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : الآية ٩٩] فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المخصوص ، والمستعار له حركة الإنس والجن ، أو يأجوج

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في المثل السائر ص ١٣٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ١٨ ، ولسان العرب (كلل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٢٧.


ومأجوج ، وهما حسّيان ، والجامع لهما ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب.

وأما قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : الآية ٤] فليس مما نحن فيه وإن عدّ منه لأن فيه تشبيهين : تشبيه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وتشبيه انتشاره في الشعر باشتعالها في سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه ، والأول استعارة بالكناية ، والجامع في الثاني عقلي ، وكلامنا في غيرهما.

وأما استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي فكقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : الآية ٣٧] فإن المستعار فيه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها ، والمستعار له إزالة الضوء عن مكان الليل وملقى ظله ، وهما حسيان ، والجامع لهما ما يعقل من ترتّب أمر على آخر.

وقيل : المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل ، وليس بسديد ؛ لأنه لو كان ذلك لقال : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : الآية ٢٠١] ونحوه ، ولم يقل : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس : الآية ٣٧] أي : داخلون في الظلام.

قيل : ومنه قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : الآية ٤١] فإن المستعار منه المرأة ، والمستعار له الريح ، والجامع المنبع من ظهور النتيجة والأثر ؛ فالطرفان حسيان ، والجامع عقلي.

وفيه نظر لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ، وكذلك جعلت صفة للريح لا اسما.

والحق إن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل ، والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر ، والجامع لهما ما ذكر.

وأما استعارة محسوس لمحسوس بما بعضه حسي وبعضه عقلي فكقولك : «رأيت شمسا» وأنت تريد إنسانا شبيها بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن ، وأهمل السكاكي هذا القسم.

وأما استعارة معقول لمعقول فكقوله تعالى : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : الآية ٥٢] فإن المستعار منه الرقاد ، والمستعار له الموت ، والجامع لهما عدم ظهور الأفعال ، والجميع عقلي.

وأما استعارة محسوس لمعقول فكقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : الآية ٩٤] فإن المستعار منه صدع الزجاجة ـ وهو كسرها ـ وهو حسي ، والمستعار له تبليغ الرسالة ، والجامع لهما التأثير ، وهما عقليان كأنه قيل : أبن الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة.


وكقوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : الآية ٦١] جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم ؛ فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه ، أو ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ؛ فالمستعار منه إما ضرب القبة على الشخص ، وإما ضرب الطين على الحائط ، وكلاهما حسي ، والمستعار له حالهم مع الذلة ، والجامع الإحاطة أو اللزوم وهما عقليان.

وأما استعارة معقول لمحسوس ، فكقوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) [الحاقّة : الآية ١١] فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي ، والمستعار منه التكبّر ، والجامع الاستعلاء المفرط ، وهما عقليان. وأما باعتبار اللفظ فقسمان :

لأنه إن كان اسم جنس فأصليّة ، كأسد ، وقتل.

وإلا فتبعيّة ، كالأفعال والصفات المشتقة منها ، والحروف ، لأن الاستعارة تعتمد التشبيه ، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا ، وإنما يصلح للموصوفية الحقائق ، كما في قولك : جسم أبيض ، وبياض صاف دون معاني الأفعال ، والصفات المشتقة منها ، والحروف.

فإن قلت : فقد قيل في نحو «شجاع باسل وجواد فيّاض وعالم نحرير» إنّ «باسلا» وصف لـ «شجاع» و «فياضا» وصف لـ «جواد» و «نحريرا» وصف لـ «عالم».

قلت : ذلك متأوّل بأن الثواني لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول.

فالتشبيه في الأفعال والصفات المشتقة منها لمعاني مصادرها ، وفي الحروف لمتعلقات معانيها ، كالمجرور في قولنا : زيد في نعمة ورفاهية فيقدر التشبيه في قولنا : «نطقت الحال بكذا» والحال ناطقة بكذا للدلالة بمعنى النطق.

وعليه في التهكمية قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١] بدل : «فأنذرهم» ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : الآية ٨٧] بدل : «السفيه الغوي».

وفي لام التعليل كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : الآية ٨] للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط ، بالعلة الغائيّة للالتقاط.

ومما يتصل بهذا أن «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، ثم استعمل في مناداة القريب ؛ لتشبيهه بالبعيد ، باعتبار أمر راجع إليه ، أو إلى المنادى.

أما الأول فكقولك لمن سها وغفل وإن قرب : يا فلان.


وأما الثاني فكقول السائل في جؤارة : «يا ربّ يا الله» وهو أقرب إليه من حبل الوريد ؛ فإنه استقصاره منه لنفسه ، واستبعاد لها من مظانّ الزّلفى وما يقرّبه إلى رضوان الله تعالى ، ومنازل المقربين ، هضما لنفسه ، وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله تعالى ، مع فرط التهالك على استجابة دعوته ، والإذن لندائه وابتهاله.

واعلم أن مدار قرينة التبعية في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها إلى الفاعل ، كما مر في قولك : «نطقت الحال» أو إلى المفعول ، كقول ابن المعتز :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا (١)

وقول كعب بن زهير :

صبحنا الخزرجيّة مرهفات

أباد ذوي أرومتها ذووها (٢)

والفرق بينهما أن الثاني مفعول ثان ، دون الأول.

ونظير الثاني قوله :

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليه كلّ زرّاد (٣)

أو إلى المفعولين الأول والثاني ، كقول الحريري : [أبو محمد ، القاسم بن علي]

وأقري المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشّموسا (٤)

أو إلى المجرور ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : الآية ٢١].

قال السكاكي : أو إلى الجميع ، كقول الآخر :

تقري الرياح رياض الحزن مزهرة

إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا (٥)

وفيه نظر. وأما باعتبار الخارج فثلاثة أقسام :

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو في ديوان ابن المعتز ١ / ٤٦٨ ، والمصباح ص ١٣٥ ، والمطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ١٠٤ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٣٤٤ ، وشرح المفصل ١ / ٥٣ ، ٣ / ٣٦ ، ٣٨ ، ولسان العرب (ذو) ، وبلا نسبة في الدرر ٥ / ٢٨ ، والمقرب ١ / ٢١١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٠.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للقطامي في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٤) البيت للحريري (أبي محمد القاسم بن علي المتوفى سنة ٥١٦ ه‍) صاحب المقامات في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠.

(٥) البيت بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٦٠٠ ، والمصباح ص ١٣٦.


أحدها : المطلقة ، وهي التي لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام ، والمراد المعنوية لا النعت.

وثانيها : المجردة ، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له ، كقول كثيّر :

غمر الرّداء ، إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (١)

فإنه استعار الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي وصف المعروف لا الرداء ؛ فنظر إلى المستعار له.

وعليه قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النّحل : الآية ١١٢] حيث قال : «أذاقها» ولم يقل : «كساها» فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس ، كأنه قال : «فأصابها الله بلباس الجوع والخوف».

قال الزمخشري : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة ، لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ؛ فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب ، شبّه ما يدرك من أثر الضر والأكم بما يدرك من طعم المر والبشع.

فإن قيل : الترشيح أبلغ من التجريد ، فهلا قيل : فكساها الله لباس الجوع والخوف ؛ قلنا : لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس ؛ فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة ، بخلاف الكسوة.

فإن قيل : لم لم يقل : فأذاقها الله طعم الجوع والخوف؟ قلنا : لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوّت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عمّ أثرهما جميع البدن عموم الملابس.

وثالثها : المرشحة ، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار منه ، كقوله :

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر (٢)

لي الشّطر الذي ملكت يميني

ودونك ؛ فاعتجر منه بشطر

إنه استعار الرداء للسيف لنحو ما سبق ، ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء ؛ فنظر إلى المستعار منه.

وعليه قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : الآية ١٦] فإنه استعار الاشتراء للاختيار ، وقفّاه بالربح والتجارة اللذين هما من متعلقات الاشتراء ؛ فنظر إلى المستعار منه.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان كثير عزة ص ٢٨٨.

(٢) البيتان من الوافر ، والبيت الأول بلا نسبة في لسان العرب (ردى).


وقد يجتمع التجريد والترشيح كما في قول زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

والترشيح : أبلغ من التجريد ؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة ، ولهذا كان مبناه على تناسي التشبيه حتى إنه يوضع الكلام في علوّ المنزلة وضعه في علوّ المكان ، كما قال أبو تمام :

ويصعد حتى يظنّ الجهول

بأن له حاجة في السماء (٢)

فلو لا أن قصده أن يتناسى التشبيه ، ويصمم على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية ؛ لما كان لهذا الكلام وجه.

وكما قال ابن الرومي :

يا آل نوبخت لا عدمتكم

ولا تبدّلت بعدكم بدلا (٣)

إن صحّ علم النجوم ؛ كان لكم

حقا إذا ما سواكم انتحلا

كم عالم فيكم وليس بأن

قاسى ولكن بأن رقى فعلا!

أعلاكم في السماء مجدكم

فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر بالسؤال عن ال

أمر إلى أن بلغتم زحلا

وكما قال بشار :

أتتني الشمس زائرة

ولم تك تبرح الفلكا (٤)

وكما قال أبو الطيّب :

كبّرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق (٥)

وكما قال : [أبو الطيب المتنبي]

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٤ ، ولسان العرب (قذف) ، (مكن) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٤ ، وتاج العروس (قذف).

(٢) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان أبي تمام ٤ / ٣٤ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٤.

(٣) الأبيات من المنسرح ، وهي في أسرار البلاغة ص ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، وأنوار الربيع ص ٧٧.

(٤) البيت من مجزوء الوافر ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ١٧١ ، وأسرار البلاغة ص ٣٥٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٧٢.

(٦) البيت لم أجده في ديوان المتنبي (طبعة دار الكتب العلمية).


ومن هذا الفن ما سبق من التعجب والنهي عنه ، غير أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهي عنه ؛ فإن مذهب التعجب إثبات وصف ممتنع ثبوته للمستعار منه ، ومذهب النهي عنه إثبات خاصة من خواصّ المستعار منه.

وإذا جاز البناء على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه ، كما في قول العباس بن الأحنف :

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا (١)

فلن تستطيع إليها الصّعود

ولن تستطيع إليك النزولا

وقول سعيد بن حميد :

قلت : زوري ؛ فأرسلت :

أنا آتيك سحره (٢)

قلت : فالليل كان أخ

فى وأدنى مسرّه

فأجابت بحجّة

زادت القلب حسره

أنا شمس ، وإنما

تطلع الشمس بكره

فلأن يجوز مع جحده في الاستعارة أولى.

ومن هذا الباب قول الفرزدق :

أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي

متى تخلف الجوزاء والدّلو يمطر (٣)

أجار بنات الوائدين ، ومن يجر

على الموت ، فاعلم أنه غير مخفر

ادّعى لأبيه اسم الغيث ، ادّعاء من سلّم له ذلك ، ومن لا يخطر بباله أنه متناول له من طريق التشبيه.

وكذلك قول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين :

يتعاوران من الغبار ملاءة

بيضاء محكمة هما نسجاها (٤)

تطوى إذا وردا مكانا محزنا

وإذا السنابك أسهلت نشراها

__________________

(١) البيتان من المتقارب ، وهما في ديوان العباس بن الأحنف ص ٢٢١ ، وأسرار البلاغة ص ٣٤٩ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٢) الأبيات من مجزوء الخفيف ، وهي في أسرار البلاغة ص ٣٥٨ ، ومفتاح العلوم ص ١٦٤ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٠٣.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان الفرزدق ص ٤٨٢.

(٤) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان عدي بن الرقاع ص ٥٠ ، وأساس البلاغة (جسأ) ، والطرائف الأدبية ص ٩٦.


المجاز المركب

وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، أي : تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى ، ثم تدخل المشبّهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه ؛ فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه.

كما كتب به الوليد بن يزيد ـ لما بويع ـ إلى مروان بن محمد ، وقد بلغه أنه متوقّف في البيعة له : «أما بعد ، فإني أراك تقدّم رجلا ، وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاعتمد على أيّهما شئت ، والسّلام».

شبّه صورة تردّده في المبايعة بصورة تردّد من قام ليذهب في أمر ، فتارة يريد الذهاب فيقدّم رجلا ، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى.

وكما يقال لمن يعمل في غير معمل : «أراك تنفخ في غير فحم ، وتخطّ على الماء» ، والمعنى : أنك في فعلك كمن يفعل ذلك ، وكما يقال لمن يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى ما كان يمتنع منه : «ما زال يفتل منه في الذّروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد» والمعنى أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال من يجيء إلى البعير الصعب ، فيحكه ، ويفتل الشّعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس ، وهذا في المعنى نظير قولهم : «فلان يقرّد فلانا» أي : يتلطف به ، فعل من ينزع القراد من البعير ؛ ليلتذّ بذلك ، فيسكن ، ويثبت في مكانه ، حتى يتمكن من أخذه.

وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : الآية ١] فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له ؛ صار النهي عن التقدم متعلّقا باليدين ميلا للنهي عن ترك الاتّباع.

وكذلك قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : الآية ٦٧] إذ المعنى ـ والله أعلم ـ أن مثل الأرض في تصرفها تحت أمر الله تعالى وقدرته مثل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منّا ، والجامع يده عليه. وكذا قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧) [الزّمر : الآية ٦٧] أي : يخلق فيها صفة الطّيّ حتى ترى كالكتاب المطويّ بيمين الواحد منا ، وخصّ اليمين ليكون أعلى وأفخم للمثل ؛ لأنها أشرف اليدين وأقواهما ، والتي لا غناء للأخرى دونها ، فلا يهش إنسان لشيء إلا بدأ بيمينه فهيّأها لنيله ، ومتى قصد جعل الشيء في جهة العناية جعل في اليد اليمنى ، ومتى قصد خلاف ذلك جعل في اليسرى ، كما قال ابن ميّادة :


ألم تك في يمنى يديك جعلتني؟

فلا تجعلنّي بعدها في شمالكا (١)

أي : كنت مكرما عندك ؛ فلا تجعلني مهانا ، وكنت في المكان الشريف منك ، فلا تحطّني في المنزل الوضيع.

وكذا إذا قلت للمخلوق : «والأمر بيدك» أردت المثل ، أي : الأمر كالشيء يحصل في يدك ؛ فلا يمتنع عليك.

وكذا قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : الآية ١٥٤] قال الزمخشري : كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ، ويقول له : «قل لقومك كذا ، وألق الألواح ، وجرّ برأس أخيل إليك» فترك النطق بذلك ، وقطع الإغراء ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم ، وذوق صحيح إلا لذلك ، ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرّة : «ولما سكن عن موسى الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزّة وطرفا من تلك الروعة.

وأما قولهم : «اعتصمت بحبله» فقال الزمخشري أيضا يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ، ووثوقه بحمايته ، باستمساك المتدلي من مكان مرتفع ، بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، وأن يكون الحبل استعارة لعهده ، والاعتصام لوثوقه بالعهد أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه.

وكذلك قول الشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٢)

الشبه فيه مأخوذ من مجموع التلقّي واليمين ، على حد قولهم : تلقّيته بكلتا اليدين ؛ ولهذا لا تصلح حيث يقصد التجوز فيها وحدها ، فلا يقال : «هو عظيم اليمين» بمعنى «عظيم القدرة» ولا «عرفت يمينك على هذا» بمعنى «عرفت قدرتك عليه».

ومثله قول الآخر : [الأعور الشني]

هوّن عليكم ؛ فإن الأمور

بكفّ الإله مقاديرها (٣)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٣٤٦.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للشماخ في ديوانه ص ٣٣٦ ، ولسان العرب (عرب) ، (يمن) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٢١ ، ١٥ / ٥٢٣ ، وجمهرة اللغة ص ٣١٩ ، ٩٩٤ ، وتاج العروس (عرب) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٥٨.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو للأعور الشني في الدرر ٤ / ١٣٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢٧ ، ٢ / ٨٧٤ ، والكتاب ١ / ٦٤ ، ولبشر بن أبي خازم في العقد الفريد ٣ / ٢٠٧ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب ٢ / ـ ـ


وكذا ما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «إن أحدكم إذا تصدق بالتمر من الطيّب ـ ولا يقبل الله إلا الطّيب ـ جعل الله ذلك في كفه ، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه ، حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد» (١) والمعنى فيهما على انتزاع الشبه من المجموع.

وكل هذا يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة ، وقد يسمى التمثيل مطلقا ، ومتى فشا استعماله كذلك سمّي مثلا ؛ ولذلك لا تغيّر الأمثال.

ومما يبنى على التمثيل نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : الآية ٣٧] معناه : لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، واع لما يجب وعيه ، ولكن عدل عن هذه العبارة ونحوها إلى ما عليه التلاوة بقصد البناء على التمثيل ؛ ليفيد ضربا من التخييل ؛ وذلك إنه لما كان الإنسان حين لا ينتفع بقلبه ؛ فلا ينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، ولا يفهم ، ولا يعي ، جعل كأنه قد عدم القلب جملة ، كما جعل من لا ينتفع بسمعه وبصره ، فلا يفكر فيما يؤديان إليه بمنزلة العادم لهما ، ولزم على هذا أن لا يقال : «فلان له قلب» إلا إذا كان ينتفع بقلبه ، فينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ويعي ما يجب وعيه ، فكان في قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : الآية ٣٧] تخييل أن من لم ينتفع بقلبه كالعادم للقلب جملة ، بخلاف نحو قولنا : لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه ، واع لما يجب وعيه.

وفي نظم الآية فائدة أخرى شريفة ، وهي تقليل اللفظ مع تكثير المعنى.

ونقل الشيخ عبد القاهر عن بعض المفسرين أنه قال : المراد بالقلب العقل ، ثم شدّد عليه النكير في هذا التفسير ، وقال : وإن كان المرجع فيما ذكرناه عند التحصيل إلى ما ذكره ، ولكن ذهب عليه أن الكلام مبنيّ على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه ـ فلا ينظر ، ولا يعي ـ بمنزلة من عدم قلبه جملة ، كما تقول في قول الرجل إذا قال : «قد غاب عني قلبي» أو «ليس يحضرني قلبي» إنه يريد أن يخيّل إلى السامع أنه غاب عنه قلبه بجملته ، دون أن يريد الإخبار أن عقله لم يكن هناك ، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك ، وكذا إذا قال : «لم أكن ها هنا» يريد غفلته عن الشيء ؛ فهو يضع كلامه على التخييل.

__________________

٦٧٩ ، والجنى الداني ص ٤٧١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٤٨ ، ومغني اللبيب ١ / ١٤٦ ، والمقتضب ٤ / ١٩٦ ، ٢٠٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٩.

(١) الحديث أخرجه البخاري في الزكاة باب ٨ ، والتوحيد باب ٢٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ٦٣ ، ٦٤ ، والترمذي في الزكاة باب ٢٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٤٨ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٨ ، والدارمي في الزكاة باب ٣٤ ، ومالك في الصدقة حديث ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣١ ، ٣٨٢ ، ٤١٨ ، ٤١٩ ، ٤٣١ ، ٤٧١ ، ٥٣٨ ، ٥٤١ ، ٦ / ٢٥١.


هذا معنى كلام الشيخ ، وهو حق ، لأن المراد بالآية الحثّ على النظر ، والتقريع على تركه ، فإن أراد هذا المفسّر بتفسيره أن المعنى لمن كان له عقل مطلقا فهو ظاهر الفساد ، وإن أراد أن المعنى لمن كان له عقل ينتفع به ويعمله فيما خلق له من النظر فتفسير القلب بالعقل ، ثم تقييد العقل بما قيّده ، عري عن الفائدة ؛ لصحة وصف القلب بذلك ، بدليل قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : الآية ١٧٩].

واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة ، استعير لفظة «المثل» للحال ، أو الصفة ، أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة.

وهو في القرآن كثير ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] أي : حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا ، وكقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النّحل : الآية ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ، وقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : الآية ٢٩] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه ، وكقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمّد : الآية ١٥] أي : فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ، ثم أخذ في بيان عجائبها ، إلى غير ذلك.

فصل

في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييليّة

قد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ، ويدل عليه بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسّا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر ؛ فيسمى التشبيه استعارة بالكناية ، أو مكنيّا عنها ، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية ، والعلم في ذلك قول لبيد : [بن ربيعة]

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (١)

فإنه جعل للشّمال يدا ، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه ، كإجراء الأسد على الرجل الشجاع ، والصراط على ملّة الإسلام فيما سبق ، ولكن لما شبّه الشمال ـ لتصريفها القرّة على حكم طبيعتها في التصريف ـ بالإنسان المصرّف لما زمامه بيده ، أثبت لها يدا على سبيل التخييل ؛ مبالغة في تشبيهها به ، وحكم الزمام ـ في استعارته للقرّة ـ حكم اليد في استعارتها للشّمال ، فجعل للقرّة زماما ؛ ليكون أتمّ في

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان لبيد ص ٣١٥ ، وأساس البلاغة (بدي) ، ورواية صدر البيت في الديوان :

وغداة ريح قد وزعت ومرّة


إثباتها مشرّفة ، كما جعل للشّمال يدا ، ليكون أبلغ في تصييرها متصرّفة ، فوفّى المبالغة حقّها من الطرفين ؛ فالضمير في «أصبحت» و «زمامها» للقرّة ، وهو قول الزمخشري. والشيخ عبد القاهر جعله للغداة ، والأول أظهر.

واعلم أن الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه ، منه ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه ، كما في قول أبي ذؤيب الهذلي : [خويلد بن خالد]

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع (١)

فإنه شبه المنية بالسبع ، في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ، ولا رقّة لمرحوم ، ولا بقيا على ذي فضيلة ؛ فأثبت للمنية الأظفار التي لا يكمل ذلك في السبع بدونها ؛ تحقيقا للمبالغة في التشبيه.

ومنه ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به ، كما في قول الآخر :

ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا

فلسان حالي بالشّكاية أنطق (٢)

فإنه شبه الحال الدالة على المقصود بالإنسان متكلّم في الدلالة ؛ فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان.

وأما قول زهير :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله (٣)

فيحتمل أن يكون استعارة تخييلية ، وأن يكون استعارة تحقيقية.

أما التخييل فأن يكون أراد أن يبيّن أنه ترك ما كان يرتكبه أوان المحبة من الجهل والغيّ وأعرض عن معاودته ، فتعطّلت آلاته كأيّ أمر وطّنت النفس على تركه ، فإنه تهمل آلاته فتتعطّل ؛ فشبه الصبا بجهة من جهات المسير ـ كالحج والتجارة ـ قضي منها الوطر ، فأهملت آلاتها ، فتعطلت ؛ فأثبت له الأفراس والرواحل ؛ فالصبا على هذا من الصّبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة لا بمعنى الفتاء.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٨ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٨٠ ، وسمط اللآلي ص ٨٨٨ ، وأمالي القالي ٢ / ٢٥٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٨٤ ، وللهذلي في لسان العرب (تمم) ، وبلا نسبة في تاج العروس (نشب) ، (تمم) ، والعقد الفريد ٥ / ٢٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمحمد بن عبد الله العتبي أو لأبي النضر بن عبد الجبار في يتيمة الدهر للثعالبي ٤ / ٤٠٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٢٤ ، ولسان العرب (أجل) ، (رحل) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٣ / ٢٦٨ ، وتاج العروس (صحا).


وأما التحقيق فأن يكون أراد دواعي النفوس ، وشهواتها ، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذّات ، أو الأسباب التي قلما تتآخذ في اتّباع الغيّ إلا أوان الصّبا.

فصل

في آراء للسكاكي في الحقيقة والمجاز

اعلم أن كلام السكاكي في هذا الباب ـ أعني باب الحقيقة والمجاز ـ والفصل الذي يليه ؛ مخالف لمواضع مما ذكرنا ؛ فلا بد من التعرض لها ، ولبيان ما فيها.

منها : أنه عرف الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع ، وقال : إنما ذكرت هذا القيد ـ يعني قوله من غير تأويل في الوضع ـ ليحترز به عن الاستعارة ، ففي الاستعارة تعدّ الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ولا نسمّيها حقيقة ، بل نسميها مجازا لغويا ؛ لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل كما مر.

ثم عرّف المجاز اللغويّ بالكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها ، مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع ، وقال : قولي «بالتحقيق» احتراز أن لا تخرج الاستعارة ، التي هي من باب المجاز ، نظرا إلى دعوى استعمالها فيما هي موضوعة له على ما مر.

وقوله : «استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها» بمنزلة قولنا في تعريف المجاز «في اصطلاح به التخاطب» على ما مر ؛ وقوله : «مع قرينة إلخ» احتراز عن الكناية كما تقدم.

وفيهما نظر لأن لفظ الوضع وما يشتق منه إذا أطلق لا يفهم منه الوضع بتأويل ، وإنما يفهم منه الوضع بالتحقيق ؛ لما سبق من تفسير الوضع ، فلا حاجة إلى تقييد الوضع في تعريف الحقيقة بعدم التأويل وفي تعريف المجاز بالتحقيق ، اللهمّ إلا أن يراد زيادة البيان ، لا تتميم الحد.

ثم تقييد الوضع باصطلاح التخاطب ونحوه ، إذا كان لا بد منه في تعريف المجاز ، ليدخل فيه نحو لفظ «الصلاة» ـ إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا ـ فلا بد منه في تعريف الحقيقة أيضا ، ليخرج نحو هذا اللفظ منه كما سبق ، وقد أهمله في تعريفها.

لا يقال : قوله في تعريفها «من غير تأويل في الوضع» أغنى عن هذا القيد ، فإن


استعمال اللفظ فيما وضع له في غير اصطلاح التخاطب إنما يكون بتأويل في وضعه ؛ لأن التأويل في الوضع يكون في الاستعارة على أحد القولين ، دون سائر أقسام المجاز ، ولذلك قال : وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة.

ثم تعريفه للمجاز يدخل فيه الغلط كما تقدم.

ومنها : أنه قسم المجاز إلى الاستعارة وغيرها ، وعرف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به ، وقسم الاستعارة إلى المصرّح بها ، والمكنيّ عنها ، وعنى بالمصرّح بها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به ؛ وجعلها ثلاثة أضرب : تحقيقية ، وتخييلية ، ومحتملة للتحقيق والتخييل ، وفسر التحقيقية بما بمر ، وعد التمثيل على سبيل الاستعارة منها.

وفيه نظر ؛ لأن التمثيل على سبيل الاستعارة لا يكون إلا مركبا كما سبق ، فكيف يكون قسما من المجاز المفرد؟! ولو لم يقيد الاستعارة بالإفراد. وعرفها بالمجاز الذي أريد به ما شبّه بمعناه الأصلي مبالغة في التشبيه ؛ دخل كل من التحقيقية والتمثيل في تعريف الاستعارة.

ومنها : أنه فسر التخييلية بما استعمل في صورة وهمية محضة قدّرت مشابهة لصورة محققة هي معناه ، كلفظ الأظفار في قول الهذلي ؛ فإنه لما شبه المنية بالسبع في الاغتيال على ما تقدم أخذ الوهم في تصويرها بصورته ، واختراع مثل ما يلائم صورته ، ويتم به شكله لها ، من الهيئات والجوارح ، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به ، فاخترع للمنية صورة مشابهة لصورة الأظفار المحققة ، فأطلق عليها اسمها.

وفيه نظر ؛ لأن تفسير التخييلية بما ذكره بعيد ؛ لما فيه من التعسّف ، وأيضا فظاهر تفسير غيره لها ـ بقولهم : جعل الشيء للشيء كجعل لبيد للشّمال يدا ـ يخالفه ، لاقتضاء تفسيره أن يجعل للشمال صورة متوهّمة مثل صورة اليد ، لا أن يجعل لها يدا ، فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة ، وعلى تفسير غيره حقيقة ، والاستعارة إثباتها للشّمال كما قلنا في المجاز العقلي الذي فيه المسند حقيقة لغوية.

وأيضا فيلزمه أن يقول بمثل ذلك ـ أعني بإثبات صورة متوهمة ـ في ترشيح الاستعارة ؛ لأن كل واحد من التخييلية والترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه ، غير أن التعبير عن المشبه في التخييلية بلفظه الموضوع له ، وفي الترشيح بغير لفظه ، وهذا لا يفيد فرقا ، والقول بهذا يقتضي أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية ، وليس كذلك.


وأيضا فتفسيره للتخييلية أعمّ من أن تكون تابعة للاستعارة بالكناية ـ كما في بيت الهذلي ـ أي غير تابعة بأن يتخيل ابتداء صورة وهميّة مشابهة لصورة محققة ؛ فيستعار لها اسم الصورة المحققة ، والثانية بعيدة جدا ، ويدل على إرادته دخول الثانية في تفسير التخييلية أنه قال : حسنها بحسب حسن المكنيّ عنها متى كانت تابعة لها ، كما في قولك : فلان بين أنياب المنية ومخالبها ، وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها ؛ ولذلك استهجنت في قول الطائيّ : [أبو تمام]

لا تسقني ماء الملام ، فإنني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي (١)

فإن قيل : لم لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكنّي عنها التابعة لغير المكنى عنها؟

قلنا : غير المكني عنها هي المصرّح بها ؛ فتكون التابعة لها ترشيح الاستعارة ، وهو من أحسن وجوه البلاغة ، فكيف يصح استهجانه؟

وأما قول أبي تمام فليس له فيه دليل ؛ لجواز أن يكون أبو تمام شبّه الملام بظرف الشراب ؛ لاشتماله على ما يكرهه الملوم ، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب ؛ لبشاعته أو مرارته ؛ فتكون التخييلية في قوله تابعة للمكنى عنها ، أو بالماء نفسه ؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام ، كما أن الماء يسكن غليل الأورام ؛ فيكون تشبيها على حدّ «لجين الماء» فيما مر ، لا استعارة ، والاستهجان على الوجهين لأنه كان ينبغي له أن يشبّهه بظرف شراب مكروه ، أو بشراب مكروه ، ولهذا لم يستهجن نحو قولهم : «أغلظت لفلان القول» و «جرّعته منه كأسا مرّة» أو «سقيته أمرّ من العلقم».

ومنها : أنه عنى بالاستعارة المكنى عنها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه ، على أن المراد بالمنية ـ في قول الهذلي ـ السبع بادّعاء السبعيّة لها ، وإنكار أن تكون شيئا غير السبع بقرينة إضافة الأظفار إليها.

وفيه نظر ؛ للقطع بأن المراد بالمنية في البيت هو الموت لا الحيوان المفترس ، فهو مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق ، وكذا كل ما هو نحوه ، ولا شيء من الاستعارات مستعملا كذلك.

وأما ما ذكره في تفسير قوله : من أنا ندّعي هاهنا أن اسم المنيّة اسم للسبع مرادف للفظ السبع بارتكاب تأويل ـ وهو : أن تدخل المنيّة في جنس السبع للمبالغة في التشبيه ـ ثم نذهب على سبيل التخييل إلى أن الواضع كيف يصح منه أن يضع اسمين لحقيقة

__________________

(١) البيت لأبي تمام في ديوانه ص ١٤ ، والمصباح ص ١٤٢ ، ومفتاح العلوم ص ٤٩٨ ، ونهاية الإيجاز ص ٢٥٤.


واحدة ولا يكونان مترادفين؟! فيتهيأ لنا بهذا الطريق دعوى السبعية للمنية مع التصريح بلفظ المنية ؛ فلا يفيده ، لأن ذلك لا يقتضي كون اسم المنية غير مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق من غير تأويل ؛ فيدخل في تعريفه للحقيقة ، ويخرج من تعريفه للمجاز ، وكأنه لما رأى علماء البيان يطلقون لفظ الاستعارة على نحو ما نحن فيه وعلى أحد نوعي المجاز اللغوي ـ الذي هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي ـ ويقولون : الاستعارة تنافي ذكر طرفي التشبيه ؛ ظن أن مرادهم بلفظ الاستعارة عند الاستعارة عند الإطلاق ، وفي قولهم : «استعارة بالكناية» ؛ معنى واحد ؛ فبنى على ذلك ما تقدم.

ومنها : أنه قال في آخر فصل الاستعارة التبعية : هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في مبدأ الفصل ، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية ، بأن قلبوا ، فجعلوا في قولهم «نطقت الحال بكذا» الحال ـ التي ذكرها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح ـ استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام ، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة ، كما تراهم في قوله : [أبو ذؤيب ، خويلد بن خالد]

وإذا المنية أنشبت أظفارها (١)

يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع ، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة ، وهكذا لو جعلوا البخل استعارة بالكناية عن حيّ أبطلت حياته بسيف أو غير سيف فالتحق بالعدم ، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة الاستعارة ، ولو جعلوا أيضا اللهّذميّات استعارة بالكناية عن المطعومات اللطيفة الشهيّة على سبيل التهكم ، وجعلوا نسبة لفظ القرى إليها قرينة الاستعارة لكان أقرب إلى الضبط.

هذا لفظه ، وفيه نظر ؛ لأن التبعية التي جعلها قرينة لقرينتها التي جعلها استعارة بالكناية كـ «نطقت» في قولنا : «نطقت الحال بكذا» لا يجوز أن يقدرها حقيقة حينئذ ؛ لأنه لو قدرها حقيقة لم تكن استعارة تخييلية ؛ لأن الاستعارة التخييلية عنده مجاز كما مر ،

__________________

(١) عجز البيت :

ألفيت كلّ منيّة لا تنفع

والبيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٨ ، وتهذيب اللغة ١١ / ٣٨٠ ، ١٤ / ٢٦٠ ، وسمط اللآلي ص ٨٨٨ ، وأمالي القالي ٢ / ٢٥٥ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٨٤ ، وللهذلي في لسان العرب (تمم) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نشب) ، وتاج العروس (نشب) ، (تمم) ، والعقد الفريد ٥ / ٢٤.


ولو لم تكن تخييلية لم تكن الاستعارة بالكناية مستلزمة للتخييلية ، واللازم باطل باتفاق ؛ فيتعين أن يقدرها مجازا ، وإذا قدرها مجازا لزمه أن يقدرها من قبيل الاستعارة ؛ لكون العلاقة بين المعنيين هي المشابهة ؛ فلا يكون ما ذهب إليه مغنيا عن قسمة الاستعارة إلى أصلية وتبعية ، ولكن يستفاد مما ذكر رد التركيب في التبعية إلى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها ، وتصير التبعية حقيقة واستعارة تخييلية ؛ لما سبق أن التخييلية على ما فسرناها حقيقة لا مجاز.

فصل

شروط حسن الاستعارة

وإذ قد عرفت معنى الاستعارة التحقيقية ، والاستعارة التخييلية ، والاستعارة بالكناية ، والتمثيل على سبيل الاستعارة ، فاعلم أن لحسنها شروطا إن لم تصادفها عريت عن الحسن ، وربما تكتسب قبحا.

وهي في كل من التحقيقية والتمثيل رعاية ما سبق ذكره من جهات حسن التشبيه ، وأن لا يشمّ من جهة اللفظ رائحته ، ولذلك يوصى فيه أن يكون الشبه بين طرفيها جليّا بنفسه أو عرف أو غيره ، وإلا صار تعمية وإلغازا ، لا استعارة وتمثيلا ، كما إذا قيل : «رأيت أسدا» وأريد إنسان أبخر ، وكما إذا قيل : «رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة» وأريد الناس ، أو قيل : «رأيت عودا مستقيما أوان الغرس» وأريد إنسان مؤدّب في صباه ، وبهذا ظهر أنهما لا يجيئان في كل ما يجيء فيه التشبيه.

ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين ـ بحيث صار الفرع كأنه الأصل ـ لم يحسن التشبيه ، وتعيّنت الاستعارة ، وذلك كالنور إذا شبّه العلم به والظلمة إذا شبّهت الشبهة بها ؛ فإنه لذلك يقول الرجل إذا فهم المسألة : «حصل في قلبي نور» ولا يقول : «كأن نورا حصل في قلبي» ويقول لمن أوقعه في شبهة : «أوقعتني في ظلمة» ولا يقول : «كأنك أوقعتني في ظلمة».

وكذا المكنيّ عنها ، حسنها برعاية جهات حسن التشبيه.

وأما التخييلية فحسنها بحسب حسن المكني عنها ؛ لما بينا أنها لا تكون إلا تابعة لها.


فصل

المجاز بالحذف والزيادة

واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كما مضى ؛ توصف به أيضا لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ ، أو زيادة لفظ.

أما الحذف فكقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : الآية ٨٢] أي : أهل القرية ، فإعراب القرية في الأصل هو الجرّ فحذف المضاف ، وأعطي المضاف إليه إعرابه ، ونحوه قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : الآية ٢٢] أي : أمر ربك. وكذا قولهم : بنو فلان يطؤهم الطريق ، أي أهل الطريق.

وأما الزيادة فكقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : الآية ١١] على القول بزيادة الكاف ، أي : ليس مثله شيء ، فإعراب «مثله» في الأصل هو النصب ، فزيدت الكاف ، فصار جرّا.

فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغيير الإعراب ـ كما في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : الآية ١٩] إذ أصله : أو كمثل ذوي صيّب ، فحذف «ذوي» لدلالة (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) عليه ، وحذف «مثل» لما دل عليه عطفه على قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] إذ لا يخفى أن التشبيه ليس بين صفة المنافقين العجيبة الشأن وذوات ذوي صيب ، وكقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : الآية ١٥٩] ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : الآية ٢٩] ـ فلا توصف الكلمة بالمجاز.

وقد بالغ الشيخ عبد القاهر في النكير على من أطلق القول بوصف الكلمة بالمجاز للحذف ، أو الزيادة.

القول في الكناية

الكناية : لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذ ، كقولك : «فلان طويل النّجاد» أي : طويل القامة ، و «فلانة نؤوم الضحى» أي : مرفّهة مخدومة ، غير محتاجة إلى السعي بنفسها في إصلاح المهمات ؛ وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش ، وكفاية أسبابه ، وتحصيل ما يحتاج إليه في تهيئة المتناولات ، وتدبير إصلاحها ؛ فلا تنام فيه من نسائهم إلا من تكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك ، ولا يمتنع أن يراد مع ذلك طول النّجاد ، والنوم في الضحى ، من غير تأول.


فالفرق بينها وبين المجاز من هذا الوجه ، أي من جهة إرادة المعنى مع إرادة لازمه ، فإن المجاز ينافي ذلك ، فلا يصح في نحو قولك : «في الحمام أسد» أن تريد معنى الأسد من غير تأوّل ؛ لأن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة كما عرفت ، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء.

وفرق السكاكي وغيره بينهما بوجه آخر أيضا ، وهو أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم ، ومبني المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم.

وفيه نظر ؛ لأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع أن ينتقل منه إلى الملزوم ؛ فيكون الانتقال حينئذ من الملزوم إلى اللازم.

ولو قيل : اللزوم من الطرفين من خواصّ الكناية دون المجاز ، أو شرط لها دونه ، اندفع هذا الاعتراض ، لكن اتجه منع الاختصاص والاشتراط.

ثم الكناية ثلاثة أقسام ؛ لأن المطلوب بها إما غير صفة ولا نسبة ، أو صفة ، أو نسبة.

والمراد الصفة المعنوية ، كالجود ، والكرم ، والشجاعة ، وأمثالها ، لا النعت.

الأولى : المطلوب بها غير صفة ولا نسبة ، فمنها ما هو معنى واحد كقولنا :

«المضياف» كناية عن زيد ، ومنه قوله كناية عن القلب : [عمرو بن معديكرب]

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان (١)

ونحوه قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله الذئب :

فأتبعتها أخرى ، فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرّعب والحقد (٢)

فقوله : «بحيث يكون اللب ، والرعب ، والحقد» ثلاث كنايات لا كناية واحدة ، لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود.

ومنها ما هو مجموع معان ، كقولنا كناية عن الإنسان : «حيّ مستوي القامة عريض الأظفار».

وشرط كل واحدة منهما أن تكون مختصة بالمكنى عنه لا تتعداه ؛ ليحصل الانتقال منها إليه.

وجعل السكاكي الأولى قريبة ، والثانية بعيدة ، وفيه نظر.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان عمرو بن معديكرب ص ١٦٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ٧٤٤.


الثانية : المطلوب بها صفة ، وهي ضربان : قريبة ، وبعيدة.

القريبة : ما ينتقل منها إلى المطلوب بها ، لا بواسطة.

وهي إما واضحة كقولهم كناية عن طويل القامة : «طويل نجاده ، وطويل النجاد» والفرق بينهما أن الأول كناية ساذجة ، والثاني كناية مشتملة على تصريح ما ؛ لتضمن الصفة فيه ضمير الموصوف ، بخلاف الأول.

ومنها قول الحماسي :

أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها

مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا (١)

وإما خفيّة كقولهم كناية عن الأبله : «عريض القفا» فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرط ـ فيما يقال ـ دليل الغباوة ، ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد :

أنا الرجل الضّرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحيّة المتوقّد (٢)

والبعيدة : ما ينتقل منها إلى المطلوب بها بواسطة كقولهم كناية عن الأبله : «عريض الوسادة» فإنه ينتقل من عرض الوسادة إلى عرض القفا ، ومنه إلى المقصود.

وقد جعله السكاكي من القريبة على أنه كناية عن عرض القفا ، وفيه نظر.

وكقولهم : «كثير الرماد» كناية عن المضياف ، فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ، ومنها إلى كثرة الطبائخ ، ومنها إلى كثرة الأكلة ، ومنها إلى كثرة الضيفان ، ومنها إلى المقصود.

وكقوله : [ابن هرمة]

وما يك فيّ من عيب فإنّي

جبان الكلب مهزول الفصيل (٣)

فإنه ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد لأن يعسّ دونها ، مع كون الهرير في وجه من لا يعرفه طبيعيا له ، إلى استمرار تأديبه ؛ لأن الأمور الطبيعية لا تتغير بموجب لا يقوى ، ومن ذلك إلى استمرار موجب نباحه وهو

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص ٤٩٢ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٤٢٣ ، والطراز ١ / ٤٢٤ ، وديوان الحماسة لأبي تمام ص ٣٣٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٧ ، والدرر ١ / ٢٨١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٥٨ ، ولسان العرب (ضرب) ، (جعد) ، (خشش) ، (أصل) ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٨٦.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لابن هرمة في حماسة البحتري ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٧ ، ومفتاح العلوم ص ١٩١ ، والإيضاح ص ٣١ ، والطراز ١ / ٤٢٢ ، وليس في ديوانه.


اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه ، ومن ذلك إلى كونه مقصد أدان وأقاص ، ومن ذلك إلى أنه مشهور بحسن قرى الأضياف. وكذلك ينتقل من هزال الفصيل إلى فقد الأم ، ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها ، لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات ، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ ، ومنها إلى أنه مضياف.

ومن هذا النوع قول نصيب :

لعبد العزيز على قومه

وغيرهم منن ظاهره (١)

فبابك أسهل أبوابهم

ودارك مأهولة عامره

وكلبك آنس بالزائرين

من الأمّ بالابنة الزائره

فإنه ينتقل من وصف كلبه بما ذكر إلى أن الزائرين معارف عنده ، ومن ذلك إلى اتصال مشاهدته إياهم ليلا ونهارا ، ومنه إلى لزوم سدّته ، ومنه إلى تسنّي مباغيهم لديه من غير انقطاع ، ومنه إلى وفور إحسانه إلى الخاصّ والعامّ ، وهو المقصود.

ونظيره مع زيادة لطف ، قول الآخر : [ابن هرمة]

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا

يكلّمه من حبّه وهو أعجم (٢)

ومنه قوله : [ابن هرمة]

لا أمتع العوذ بالفصال ، ولا

أبتاع إلا قريبة الأجل (٣)

فإنه ينتقل من عدم إمتاعها إلى أنه لا يبقي لها فصالها ، لتأنس بها ويحصل لها الفرج الطبيعي بالنظر إليها ، ومن ذلك إلى نحرها ، أو لا يبقي العوذ إبقاء على فصالها ، وكذا قرب الأجل ينتقل منه إلى نحرها ، ومن نحرها إلى أنه مضياف.

ومن لطيف هذا القسم قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : الآية ١٤٩] أي : ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل ؛ لأن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمّا ؛ فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها.

وكذا قول أبي الطيب كناية عن الكذب :

تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّؤ

ق إليها ، والشّوق حيث النّحول (٤)

__________________

(١) الأبيات من المتقارب ، وهي في دلائل الإعجاز ص ٢٣٨ ، ومفتاح العلوم ص ١٩١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لابن هرمة في ديوانه ص ١٩٨ ، والبيان والتبيين ٣ / ٢٠٥ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩ ، والطراز ١ / ٤٢٣ ، وبلا نسبة في الحيوان ١ / ٣٧٧ ، وديوان الحماسة ١ / ٢٦٠.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لابن هرمة في ديوانه ص ١٨٥.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٨٨.


وكذا قوله :

إلى كم تردّ الرّسل عما أتوا له

كأنهم فيما وهبت ملام؟! (١)

فإن أوله كناية عن الشجاعة ، وآخره كناية عن السماحة.

وكذا قول أبي تمام :

فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا

عدوّك ؛ فاعلم أنني غير حامد (٢)

يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده ، أي : إن لم أكن أجيد القول في مدحك ، حتى يدعو حسنه عدوّك إلى أن يحفظه ويلهج به صاغرا ؛ فلا تعدّني حامدا لك بما أقول فيك ، ووصفه بالصّغار ؛ لأن من يحفظ مديح عدوّه وينشده فقد أذلّ نفسه ، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه.

وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم :

ضعيف العصا ، بادي العروق ترى له

عليها ـ إذا ما أجدب الناس ـ إصبعا (٣)

وقول الآخر :

صلب العصا ، بالضرب قد دمّاها (٤)

أي : جعلها كالدّم في الحسن.

والغرض من قول الأول «ضعيف العصا» وقول الثاني : «صلب العصا» وهما وإن كانا في الظاهر متضادين فإنهما كنايتان عن شيء واحد ، وهو حسن الرّعية ، والعمل بما يصلحها ، ويحسن أثره عليها.

فأراد الأول أنه رفيق مشفق عليها ، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة ، فهو يتخيّر ما لان من العصا.

وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها ، عارف بسياستها في الرّعي ، يزجرها عن المراعي التي لا تحمد ، ويتوخّى بها ما تسمن عليه ، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرّد والتبدّد ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في زهر الآداب ٣ / ٢٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٦٢ ، ولسان العرب (صلب) ، (صبع) ، (عصا) ، وكتاب العين ١ / ٣١٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٣١ ، وديوان الأدب ١ / ٢٧٤ ، والمخصص ٧ / ٨٢ ، وأساس البلاغة (عصي).

(٤) عجز البيت :

تودّ أن الله قد أفناها

والبيت من الكامل ، وهو لأبي العلاء بن سليمان في لسان العرب (فنى).


وأنها ـ لما عرفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته ـ تنساق في الجهة التي يريدها ، وقوله : «بالضرب قد دمّاها» تورية حسنة ، ويؤكد أمرها قوله : «صلب العصا».

الثالثة : المطلوب بها نسبة ، كقول زياد الأعجم :

إن السّماحة والمروءة ، والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج (١)

فإنه حين أراد أن لا يصرح بإثبات هذه الصفات لابن الحشرج جمعها في قبّة ؛ تنبيها بذلك على أن محلّها ذو قبّة ، وجعلها مضروبة عليه ؛ لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين ؛ فأفاد إثبات الصفات المذكورة له بطريق الكناية.

ونظيره قولهم : «المجد بين ثوبيه ، والكرم بين برديه».

قال السكاكي : وقد يظنّ هذا من قسم «زيد طويل نجاده» وليس بذاك ؛ فـ «طويل نجاده» ـ بإسناد الطويل إلى النجاد ـ تصريح بإثبات الطول للنجاد ، وطول النجاد كما تعرف قائم مقام طول القامة ، فإذا صرح من بعد بإثبات النجاد لزيد بالإضافة ؛ كان ذلك تصريحا بإثبات الطول لزيد ، فتأمل. وقول الآخر :

والمجد يدعو أن يدوم لجيده

عقد مساعي ابن العميد نظامه (٢)

فإنه شبّه المجد بإنسان بديع الجمال ، في ميل النفوس إليه ، وأثبت له جيدا على سبيل الاستعارة التخييلية ، ثم أثبت لجيده عقدا ، ترشيحا للاستعارة ، ثم خصّ مساعي ابن العميد بأنها نظامه ، فنبه بذلك على اعتنائه خاصة بتزيينه ، وبذلك على محبته وحده له ، وبها على اختصاصه به ، ونبّه بدعاء المجد أن يدوم لجيده ذلك العقد على طلبه دوام بقاء ابن العميد ، وبذلك على اختصاصه به. وكقول أبي نواس :

فما جازه جود ، ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير (٣)

فإنه كنى عن جميع الجود بأن نكّره ، ونفى أن يجوز ممدوحه ويحل دونه فيكون متوزعا ، يقوم منه شيء بهذا وشيء بهذا ، وعن إثباته له بتخصيصه بجهته بعد تعريفه باللام التي تفيد العموم ، ونظيره قولهم : «مجلس فلان مظنّة الجود والكرم» هذا قول السكاكي.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في الأغاني ١٠ / ١٤٨ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٣٠ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٧ ، ومفتاح العلوم ص ١٩٢ ، والإيضاح ص ٣٢٤ ، والطراز ١ / ٤٢٢.

(٢) الرجز في مفتاح العلوم ص ١٧٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩ ، والطراز ١ / ٤٢٣.


وقيل : كنى بالشطر الأول عن اتّصافه بالجود ، وبالثاني عن لزوم الجود له.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : أن يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به ، وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير ، وذكرهما على الترتيب المذكور لأن الأولى بواسطة بخلاف الثانية.

وكقولهم : «مثلك لا يبخل» قال الزمخشري : نفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك ؛ فسلكوا به طريق الكناية ؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه ، وعمن هو على أخصّ أوصافه ؛ فقد نفوه عنه.

ونظيره قولك للعربي : «العرب لا تخفر الذّمم» فإنه أبلغ من قولك : «أنت لا تخفر».

ومنه قولهم : «أيفعت لداته ، وبلغت أترابه» يريدون إيفاعه وبلوغه.

وعليه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : الآية ١١] على أحد الوجهين وهو أن لا تجعل الكاف زائدة.

قيل : وهذا غاية لنفي التشبيه ؛ إذ لو كان له مثل لكان لمثله شيء (يماثله) وهو ذاته تعالى ، فلما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) [الشّورى : الآية ١١] دل على أنه ليس له مثل.

وأورد أنه يلزم منه نفيه تعالى ؛ لأنه مثل مثله ، ورد بمنع أنه تعالى مثل مثله ، لأن صدق ذلك موقوف على ثبوت مثله ، تعالى عن ذلك!.

وكقول الشّنفرى الأزديّ في وصف امرأة بالعفة :

يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها

إذا ما بيوت بالملامة حلّت (١)

فإنه نبّه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه ، وبه على براءتها منها ، وقال : «يبيت» دون «يظلّ» لمزيد اختصاص الليل بالفواحش.

هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر والسكاكي ، وفي الأغاني الكبير ، «يحلّ بمنجاة».

وقد يظنّ أن هنا قسما رابعا ، وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معا ، كما يقال : «يكثر الرماد في ساحة عمرو» في الكناية عن أن عمرا مضياف ، وليس بذاك ؛ إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة ، بل هو كنايتان : إحداهما عن المضيافية ، والثانية عن إثباتها لعمرو.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للشنفرى في المفضليات ص ١٠٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩.


وقد ظهر بهذا أن طرف النسبة المثبتة بطريق الكناية يجوز أن يكون مكنيّا عنه أيضا كما في هذا المثال ، ونحوه بيت الشنفرى المتقدم ؛ فإن حلول البيت بمنجاة من اللوم كناية عن نسبة العفّة إلى صاحبه ؛ والمنجاة من اللوم كناية عن العفة.

واعلم أن الموصوف في القسم الثاني والثالث قد يكون مذكورا كما مر ، وقد يكون غير مذكور ، كما تقول في عرض من يؤذي المسلمين : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (١) أي : ليس المؤذي مسلما.

وعليه قوله تعالى في عرض المنافقين : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : الآية ٢](الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : الآية ٣] إذا فسّر الغيب بالغيبة ، أي : يؤمنون مع الغيبة عن حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أصحابه رضي الله عنهم ، أي هدى للمؤمنين عن إخلاص لا للمؤمنين عن نفاق.

وقال السكاكي : الكناية تتفاوت إلى تعريض ، وتلويح ، ورمز ، وإيماء ، وإشارة.

فإن كانت عرضية فالمناسب أن تسمّى تعريضا.

وإلّا ؛ فإن كان بينهما وبين المكني عنه مسافة متباعدة لكثرة الوسائط ـ كما في كثير الرماد وأشباهه ـ فالمناسب أن تسمّى تلويحا ؛ لأن التلويح هو أن تشير إلى غيرك عن بعد.

وإلّا ؛ فإن كان فيها نوع خفاء ؛ فالمناسب أن تسمى رمزا ، لأن الرمز هو أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية ، قال :

رمزت إليّ مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها (٢)

وإلا ؛ فالمناسب أن تسمّى إيماء وإشارة ، كقول أبي تمام يصف إبلا :

أبين ، فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد (٣)

فإنه في إفادة أن أبا سعيد كريم غير خاف ، وكقول البحتري :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٥ ، والرقاق باب ٢٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٤ ، ٦٥ ، وأبو داود في الجهاد باب ٢ ، والترمذي في القيامة باب ٥٢ ، والإيمان باب ١٢ ، والنسائي في الإيمان باب ٨ ، ٩ ، ١١ ، والدارمي في الرقاق باب ٤ ، ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ١٦٣ ، ١٨٧ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٥ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، ٢١٢ ، ٢١٥ ، ٢٢٤ ، ٣٧٩.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في مفتاح العلوم ص ١٧٤.

(٣) البيت من الوافر ، وهو في ديوان أبي تمام ص ٨٢ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٤١ ، والطراز ٢ / ٤٢٤.


أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ، ثمّ لم يتحوّل (١)

فإنه في إفادة أن آل طلحة أماجد ظاهر ، وكقول الآخر :

إذا الله لم يسق إلّا الكرام

فسقّى وجوه بني حنبل (٢)

وسقى ديارهم باكرا

من الغيث في الزمن الممحل

وكقول الآخر :

متى تخلو تميم من كريم

ومسلمة بن عمرو من تميم (٣)؟

ثم قال :

والتعريض كما يكون كناية قد يكون مجازا ، كقولك : «آذيتني فستعرف» وأنت لا تريد المخاطب ، بل تريد إنسانا معه ، وإن أردتهما جميعا كان كناية.

تنبيه : أطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة.

وأن الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه.

وأن التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيل الاستعارة.

وأن الكناية أبلغ من الإفصاح بالذكر.

قال الشيخ عبد القاهر : ليس ذلك لأن الواحد من هذه الأمور يفيد زيادة في المعنى نفسه لا يفيدها خلافه ، بل لأنه يفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يفيده خلافه ؛ فليست فضيلة قولنا : «رأيت أسدا» على قولنا : «رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة» أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني ، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني ، وليست فضيلة قولنا : «كثير الرماد» على قولنا : «كثير القرى» أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني ؛ بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني.

والسبب في ذلك أن الانتقال في الجميع من الملزوم إلى اللازم ؛ فيكون إثبات

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٧٤٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٢٤٠ ، والطراز ١ / ٤٢٤.

(٢) البيتان من المتقارب ، والبيت الأول لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت ، أو لعروة بن جلهمة المازني في لسان العرب (ربب) ، وتاج العروس (ربب) ، ولزهير السكب التميمي المازني في الأغاني ٢٢ / ٢٧٠.

(٣) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٢٤١ ، والطراز ٢ / ٤٢٤.


المعنى به كدعوى الشيء ببيّنة ، ولا شك أن دعوى الشيء ببينة أبلغ في إثباته دعواه بلا بينة.

ولقائل أن يقول : قد تقدم أن الاستعارة أصلها التشبيه ، وأن الأصل في وجه الشبه أن يكون في المشبه به أتمّ منه في المشبه وأظهر ؛ فقولنا : «رأيت أسدا» يفيد للمرئيّ شجاعة أتمّ مما يفيدها قولنا : «رأيت رجلا كالأسد» ؛ لأن الأول يفيد شجاعة الأسد ، والثاني شجاعة دون شجاعة الأسد.

ويمكن أن يجاب بحمل كلام الشيخ على أن السبب في كل صورة ليس هو ذلك ، لا أن ذلك ليس بسبب في شيء من الصور أصلا.

هذا آخر الكلام في الفن الثاني


تقسيم السكاكي للبلاغة

وذكر السكاكي بعد الفراغ منه تفسير البلاغة بما نقلناه عنه في صدر الكتاب ثم قسّم الفصاحة إلى معنوية ولفظية.

وفسّر المعنوية بخلوص المعنى عن التعقيد ، وعنى بالتعقيد اللفظي على ما سبق تفسيره.

وفسّر اللفظية بأن تكون الكلمة عربية أصيلة.

وقال : وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، واستعمالهم لها أكثر ، لا مما أحدثه المولّدون ، ولا مما أخطأت فيه العامة ، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة ، وأن تكون سليمة عن التنافر ؛ فجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة ، وحصر مرجع البلاغة في الفنّين ، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشيء منهما.

ثم قال : وإذا وقفت على البلاغة والفصاحة المعنوية واللفظية ، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحة ما عسى يسترها عنك ، وذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤) [هود : الآية ٤٤] وزاد عليه نكتا لا بأس بها ، فرأيت أو أورد ما ذكره جاريا على اصطلاحه في معنى البلاغة والفصاحة.

قال :

أما النظر فيها من جهة علم البيان ، فهو أنه تعالى لما أراد أن يبيّن معنى : أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتدّ ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن يغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن يقضى أمر نوح ـ وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه ـ فقضي ، وأن نسوّي السفينة على الجوديّ فاستوت ، وأبقينا الظّلمة غرقى ، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتّى منه ـ لكمال هيبته ـ العصيان


وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوين المقصود ؛ تصويرا لاقتداره تعالى ، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته ، كأنها عقلا مميزون ، قد عرفوه حق معرفته ، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره ، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده.

ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام ؛ فقال تعالى : (قِيلَ) [البقرة : الآية ١١] على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل ، وجعل قرينة المجاز خطاب الجماد ، وهو : «يا أرض» و «يا سماء»

ثم قال : «يا أرض» و «يا سماء» مخاطبا لهما ، على سبيل الاستعارة ، للشبه المذكور.

ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم ، بجامع الذهاب إلى مقرّ خفي.

واستتبع ذلك تشبيه الماء بالغذاء على طريق الاستعارة بالكناية ؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزرع والأشجار ، وجعل قرينة الاستعارة لفظ «ابلعي» لكونه موضوعا للاستعمال في الغذاء دون الماء.

ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره.

ثم قال : «ماءك» بإضافة الماء إلى الأرض ، على سبيل المجاز ؛ تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واستعار لحبس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل ؛ للشبه بينهما في عدم ما كان ، وخاطب في الأمرين ترشيحا للاستعارة.

ثم قال : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : الآية ٤٤] فلم يصرّح بالغائض ، والقاضي ، والمسول ، والقائل ، كما لم يصرح بقائل «يا أرض» و «يا سماء» سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتّى إلا من ذي قدرة لا تكتنه ، قهّار لا يغالب ؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون الفاعل لشيء من ذلك غيره.

ثم ختم الكلام بالتعريض لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم ختم إظهار لمكان السّخط ، ولجهة استحقاقهم إياه.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها ، وجهة كل تقديم وتأخير بين جملها ، فلذلك أنه اختير «يا» دون سائر أخواتها لكونها أكثر استعمالا ، ولدلالتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة ، ويؤذن بالتهاون به.


ولم يقل : «يا أرض» بالكسر تجنّبا لإضافة التشريف ؛ تأكيدا للتهاون.

ولم يقل : «يا أيتها الأرض» للاختصار ، مع الاحتراز عما في «أيّتها» من تكلّف التنبيه غير المناسب للمقام ، لكون المخاطب غير صالح للتنبيه على الحقيقة.

واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخفّ وأدور.

واختير لفظ السماء لمثل ذلك مع قصد المطابقة.

واختير «ابلعي» على «ابتلعي» لكونه أخصر ، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين «اقلعي» أوفر.

وقيل : «ماءك» بالإفراد دون الجمع لدلالة الجمع على الاستكثار الذي يأباه مقام إظهار الكبرياء ، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء.

ولم يحذف مفعول «ابلعي» لئلا يفهم ما ليس بمراد ، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وغيرها ؛ نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.

ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام على «أقلعي» فلم يقل : «أقلعي عن إرسال الماء» احترازا عن الحشو المستغنى عنه من حيث الظاهر ، وهو الوجه في أنه لم يقل : يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ، ويا سماء اقلعي فأقلعت.

واختير «غيض الماء» على «غيّض» ؛ لكونه أخصر وأخفّ ، وأوفق لقيل.

وقيل : «الماء» دون أن يقال : «ماء طوفان السماء» وكذا «الأمر» دون أن يقال : «أمر نوح» للاختصار.

ولم يقل : «سوّيت على الجوديّ» بمعنى أقرّت على نحو «قيل» و «غيض» و «قضي» في البناء للمفعول ؛ اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله : «وهي تجري بهم» مع قصد الاختصار.

ثم قيل : «بعدا للقوم» دون أن يقال : «ليبعد القوم» طلبا للتوكيد مع الاختصار ، وهو نزول «بعدا» منزلة «ليبعدوا بعدا» مع إفادة أخرى ، وهي استعمال اللام مع «بعدا» الدالّ على معنى أن البعد حقّ لهم.

ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل.

هذا من حيث النظر إلى الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل ، فذلك أنه قدم النداء على الأمر ؛ فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي) ، و (يا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : «ابلعي يا أرض ، واقلعي يا سماء»


جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ؛ ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى ؛ قصدا بذلك لمعنى الترشيح.

ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء ؛ لابتداء الطّوفان منها ، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل.

ثم أتبعهما قوله : (وَغِيضَ الْماءُ) لاتصاله بقصة الماء.

ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة ، وهو قوله : وقضي الأمر» أي : أنجز الوعد من إهلاك الكفرة ، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة ، ثم أتبعه حديث السفينة ، ثم ختمت القصة بما ختمت.

هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوي ؛ فهي ـ كما ترى ـ نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية ؛ فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة ، جارية على قوانين اللغة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة ، عذبة على العذبات ، سلسة على الأسلات ، كل منها كالماء في السلاسة ، وكالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرّقّة ، والله أعلم.


القسم الثالث

علم البديع

وهو : علم يعرف به وجوه تحسين الكلام ، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة.

وهذه الوجوه ضربان : ضرب يرجع إلى المعنى ، وضرب يرجع إلى اللفظ.

أما المعنوي فمنه المطابقة ، وتسمى الطّباق ، والتضادّ أيضا ، وهي : الجمع بين المتضادين ، أي معنيين متقابلين في الجملة.

ويكون ذلك إما بلفظين من نوع واحد :

اسمين ، كقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف : الآية ١٨].

أو فعلين ، كقوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : الآية ٢٦].

وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصار : «إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلّون عند الطمع» (١) ، وقول أبي صخر الهذلي :

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر (٢)

وقول بشار :

إذا أيقظتك حروب العدى

فنبّه لها عمرا ثمّ نم (٣)

__________________

(١) ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٣ / ١٩٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي صخر الهذلي في الأغاني ٢٣ / ٢٨١ ، والدرر ٥ / ١١٨ ، وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٩٥٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٦٩ ، والشعر والشعراء ٢ / ٥٦٧ ، ولسان العرب (رمت) ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٧٠ ، وجواهر الأدب ص ٣٣٦ ، ورصف المباني ص ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٣٠ ، وشرح المفصل ٨ / ١١٤ ، ومغني اللبيب ١ / ٥٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٠.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٢١٧ (طبعة دار الثقافة).


أو حرفين ، كقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : الآية ٢٨٦] ، وقول الشاعر : [قيس بن الملوّح]

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه ، لا عليّ ، ولا ليا (١)

وإما بلفظين من نوعين كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : الآية ١٢٢] أي : ضالّا فهديناه ، وقول طفيل : [بن عوف الغنوي]

بساهم الوجه ، لم تقطع أباجله

يصان ، وهو ليوم الرّوع مبذول (٢)

ومن لطيف الطّباق قول ابن رشيق :

وقد أطفؤوا شمس النهار ، وأوقدوا

نجوم العوالي في سماء عجاج (٣)

وكذا قول القاضي الأرجاني :

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه مفتاح الغنى (٤)

وكذا قول الفرزدق :

لعن الإله بني كليب ، إنهم

لا يغدرون ، ولا يفون لجار (٥)

يستيقظون إلى نهيق حمارهم

وتنام أعينهم عن الأوتار (٦)

وفي البيت الأول تكميل حسن ، إذ لو اقتصر على قوله : «لا يغدرون» لاحتمل الكلام ضربا من المدح ؛ إذ تجنّب الغدر قد يكون عن عفّة ، فقال : «ولا يفون» ليفيد أنه للعجز ، كما أن ترك الوفاء للّؤم.

وحصل مع ذلك إيغال حسن ؛ لأنه لو اقتصر على قوله : «لا يغدرون ولا يفون» تمّ المعنى الذي قصده ، ولكنه لما احتاج إلى القافية أفاد بها معنى زائدا ؛ حيث قال : «لجار» لأن ترك الوفاء للجار أشدّ قبحا من ترك الوفاء لغيره.

__________________

(١) روي البيت بلفظ :

فليتكم لم تعرفوني وليتكم

تخليت عنكم لا عليّ ولا ليا

والبيت من الطويل ، وهو بهذا اللفظ للمجنون في ديوانه ص ٢٩٧.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص ٥٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لابن رشيق القيرواني في تحرير التحبير ص ١١٢ ، ونهاية الأرب ٧ / ١٠٠ ، والطراز ٢ / ٣٧٢.

(٤) البيت من الكامل ، ولم أجده.

(٥) البيتان من الكامل ، وهما في ديوان الفرزدق ١ / ٣٦٠ ، وكتاب الصناعتين ص ٣١٣.

(٦) الأوتار : مفردها : وتر ، وهو الثأر.


والطباق قد يكون ظاهرا كما ذكرنا ، وقد يكون خفيّا نوع خفاء كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : الآية ٢٥] طابق بين (أُغْرِقُوا) و (فَأُدْخِلُوا ناراً ،) وقول أبي تمّام :

مها الوحش إلّا أن هاتا أو انس

قنا الخطّ ، إلا أن تلك ذوابل (١)

طابق بين «هاتين» و «تلك». والطباق ينقسم إلى طباق الإيجاب ، كما تقدم.

وإلى طباق السّلب ، وهو : الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفيّ ، أو أمر ونهي ، كقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الرّوم : الآيتان ٦ ، ٧] ، وقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : الآية ٤٤] ، وقول الشاعر :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول (٢)

وقول البحتري :

يقيّض لي من حيث لا أعلم النّوى

ويسري إليّ الشّوق من حيث أعلم (٣)

وقول أبي الطيّب :

ولقد عرفت ، وما عرفت حقيقة

ولقد جهلت ، وما جهلت خمولا (٤)

وقول الآخر :

خلقوا وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم حلقوا ، وما خلقوا (٥)

رزقوا وما رزقوا سماح يد

فكأنهم رزقوا ، وما رزقوا

قيل : ومنه قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التّحريم : الآية ٦] أي : لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل. وفيه نظر ؛ لأن العصيان يضادّ فعل المأمور به ، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضادّا. ومن الطّباق قول أبي تمّام :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ١١٦ ، والتبيان ص ١٧١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للسموأل بن عادياء في ديوانه ص ٩١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ١١١ ، والوساطة ص ٤٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٣.

(٥) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.


تردّى ثياب الموت حمرا ، فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر (١)

وقول ابن حيّوس : [محمد بن سلطان]

طالما قلت للمسائل عنكم

واعتمادي هداية الضّلال (٢)

إن ترد علم حالهم عن يقين

فالقهم يوم نائل أو نزال

تلق بيض الوجوه ، سود مثار النّ

قع ، خضر الأكناف ، حمر النّصال

وقول الحريري : «فمذ ازورّ المحبوب الأصفر ، واغبرّ العيش الأخضر ، واسودّ يومي الأبيض ، وابيضّ فودي الأسود ، حتى رثى لي العدوّ الأزرق ، فيا حبّذا الموت الأحمر».

ومن الناس من سمى نحو ما ذكرناه تدبيجا ، وفسره بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوان بقصد الكناية أو التورية.

أما تدبيج الكناية فكبيت أبي تمام ، وبيتي ابن حيّوس.

وأما تدبيج التورية ، فكلفظ الأصفر في قول الحريري.

ويلحق بالطباق شيئان : أحدهما : نحو قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : الآية ٢٩] فإن الرحمة مسبّبة عن اللين الذي هو ضد الشدة ، وعليه قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : الآية ٧٣] فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون ، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لأن الحركة ضربان : حركة لمصلحة ، وحركة لمفسدة ، والمراد الأولى لا الثانية.

ومن فاسد هذا الضرب قول أبي الطيّب :

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محبّ أو إساءة مجرم (٣)

فإن ضد المحب هو المبغض ، والمجرم قد لا يكون مبغضا ، وله وجه بعيد.

والثاني : ما يسمى إيهام التضادّ كقول دعبل : [بن علي الخزاعي]

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه ؛ فبكى (٤)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ١٨٧.

(٢) الأبيات من الخفيف ، والبيتان الثاني والثالث لابن حيوس في الإشارات والتنبيهات ص ٢٣٧.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٤.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لدعبل الخزاعي في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٩٨.


وقول أبي تمّام :

ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا

إلّا بحيث ترى المنايا سودا (١)

وقوله أيضا في الشيب :

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع (٢)

وقوله :

وتنظّري خبب الركاب ينصّها

محيي القريض إلى مميت المال (٣)

ودخل في المطابقة ما يخص المقابلة ، وهو : أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب ، والمراد بالتوافق خلاف التقابل.

وقد تتركب المقابلة من طباق وملحق به.

مثال مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التّوبة : الآية ٨٢] ، وقول النبي عليه السّلام : «إن الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه ، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» (٤) ، وقول الذبياني : [البيت للنابغة الجعدي]

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا (٥)

وقول الآخر :

فوا عجبا!! كيف اتفقنا؟! فناصح

وفيّ ، ومطويّ على الغلّ غادر (٦)

فإنّ الغلّ ضدّ النّصح ، والغدر ضد الوفاء.

ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة قول أبي دلامة : [زند بن الجوف]

ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل!! (٧)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في المثل السائر ص ٢٧٧.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في مفتاح العلوم ص ١٧٩ ، ودلائل الإعجاز ص ٧٤.

(٤) أخرجه مسلم في البر حديث ٧٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٢٥.

(٥) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٥١ ، وللنابغة الجعدي في كتاب الصناعتين ص ٣٣٨.

(٦) البيت لم أجده.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في تحرير التحبير ص ١٨١.


وقول أبي الطيّب :

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر (١)

ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) [الليل : الآيات ٥ ـ ١٠]. فإن المراد بـ «استغنى» أنه زهد فيما عند الله ، كأنه مستغن عنه ؛ فلم يتّق ، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة ؛ فلم يتّق.

قيل : وفي قول أبي الطيّب :

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي (٢)

مقابلة خمسة بخمسة ، على أن المقابلة الخامسة بين «لي» و «بي».

وفيه نظر ؛ لأن اللام والباء فيهما صلتا الفعلين ؛ فهما من تمامهما.

وقد رجّح بيت أبي الطيّب على بيت أبي دلامة بكثرة المقابلة ، مع سهولة النظم ، وبأن قافية هذا ممكنة وقافية ذاك مستدعاة ، فإن ما ذكره غير مختص بالرجال.

وبيت أبي دلامة على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة ، فإن ضدّ الليل المحض هو النهار لا الصبح.

ومن لطيف المقابلة ما حكي عن محمد بن عمران التيمي إذ قال له المنصور : «بلغني أنك بخيل» فقال : «يا أمير المؤمنين ما أجمد في حقّ ولا أذوب في باطل».

وقال السكاكي : المقابلة : أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضدّيهما ، ثم إذا شرطت هنا شرطا هناك ضدّه ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) [الليل : الآية ٥] الآيتين ، لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق ، جعل ضده وهو التعشير مشتركا بين أضداد تلك ، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.

ومنه مراعاة النظير وتسمّى التناسب والائتلاف والتوفيق أيضا ، وهي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد ، وكقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) [الرّحمن : الآية ٥] وقول بعضهم للمهلّبي (٣) الوزير : «أنت أيها الوزير إسماعيليّ الوعد ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو ليس في ديوان المتنبي ، وهو لعبد الله بن طاهر في الأغاني ٦ / ٤٣.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢١٠.

(٣) الوزير المهلبي : هو الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله المهلبي ، أبو محمد الوزير لمعز الدولة بن بويه الديلمي ، ولد بالبصرة سنة ٢٩١ ه‍ ، وتوفي في طريق واسط ، وحمل ودفن ببغداد سنة ٣٥٢ ه‍ ، صنف : ديوان الرسائل ، ديوان شعره ، كتاب في أصول النحو ، كتاب اللغة في مخارج الحروف. (كشف الظنون ٥ / ٢٧٠).


شعيبيّ التوفيق ، يوسفيّ العفو ، محمّديّ الخلق». وقول أسيد بن عنقاء الفزاريّ :

كأن الثّريا علّقت في جبينه

وفي خدّه الشّعرى ، وفي وجهه البدر (١)

وقول الآخر في فرس : [ابن خفاجة ، إبراهيم بن أبي الفتح]

من جلّنار ناضر خدّه

وأذنه من ورق الآس (٢)

وقول البحتري في صفة الإبل الأنضاء :

كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم

مبريّة بل الأوتار (٣)

وقول ابن رشيق :

أصحّ وأقوى ما سمعناه في النّدى

من الخبر المأثور منذ قديم (٤)

أحاديث ترويها السّيول عن الحيا

عن البحر ، عن كفّ الأمير تميم

فإنه ناسب فيه بين الصحة ، والقوة ، والسماع ، والخبر المأثور ، والأحاديث ، والرواية ، ثم بين السيل ، والحيا ، والبحر ، وكفّ تميم ، مع ما في البيت الثاني من حصة الترتيب في العنعنة ؛ إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر ، كما يقع في سند الأحاديث ؛ فإن السيول أصلها المطر ، والمطر أصله البحر على ما يقال ؛ ولهذا جعل كفّ الممدوح أصلا للبحر مبالغة.

ومن مراعاة النظير ما يسمّيه بعضهم تشابه الأطراف وهو : أن يتمم الكلام بما يناسب أوّله في المعنى ، كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : الآية ١٠٣] فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا ؛ فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به ، وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦٤) [الحجّ : الآية ٦٤] قال : (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لينبّه على أن ماله ليس لحاجة ، بل هي غنيّ عنه ، جواد ، فإذا جاد به حمده المنعم عليه.

ومن خفي هذا الضرب قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأسيد بن عنقاء الفزاري في لسان العرب (سوم) ، وتاج العروس (سوم) ، والحماسة البصرية ١ / ١٥٦ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٦ / ١٦٨.

(٢) البيت من السريع ، وهو لابن خفاجة الأندلسي في ديوانه ص ٤٩.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ٩٨٧.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في نهاية الأرب ٧ / ١٥٨ ، والطراز ٣ / ١٤٦.


الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨) [المائدة : الآية ١١٨] ، فإن قوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) [المائدة : الآية ١١٨] يوهم أن الفاصلة (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس : الآية ١٠٧].

ولكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب أن تكون ما عليه التلاوة ، لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يردّ عليه حكمه ، فهو العزيز ؛ لأن العزيز في صفات الله هو الغالب من قولهم : عزّه يعزّه عزّا ، إذا غلبه ، ومنه المثل : «من عزّ برّ» أي : من غلب سلب ، ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا لأن الحكيم من يضع الشيء في محلّه ، والله تعالى كذلك ، إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله ؛ فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة ، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن ، أي : وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك ، والحكمة فيما فعلته.

ومما يلحق بالتناسب نحو قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦) [الرّحمن : الآيتان ٥ ، ٦] ويسمّى إيهام التناسب.

وأما ما يسميه بعض الناس التفويف ، وهو : أن يؤتى في الكلام بمعان متلائمة في جمل مستوية المقادير أو متقاربتها ، كقول من يصف سحابا :

تسربل وشيا من خروز تطرّزت

مطارفها طرلا من البرق كالتّبر (١)

فوشي بلا رقم ، ونقش بلا يد

ودمع بلا عين ، وضحك بلا ثغر

وكقول عنترة :

إن يلحقوا أكرر ، وإن يستلحقوا

أشدد ، وإن نزلوا بضنك أنزل (٢)

وكقول ابن زيدون : [أحمد بن عبد الله]

ته أحتمل ، واحتكم أصبر ، وعزّ أهن

ودلّ أخضع ، وقل أسمع ، ومر أطع (٣)

كقول ديك الجنّ : [عبد السّلام بن رغبان]

أحل ، وامرر ، وضرّ ، وانفع ، ولن ، واخش

ن ، ورش ، وابر ، وانتدب للمعالي (٤)

فبعضه من مراعاة النظير ، وبعضه من المطابقة.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤١.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان عنترة ص ٥٧.

(٣) البيت من البسيط ، وهو في ديوان ابن زيدون ص ٢٧٩.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لديك الجن الحمصي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٢.


ومنه الإرصاد ، ويسمى ، التّسهيم أيضا ، وهو : أن يجعل قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز إذا عرف الرّويّ ، كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت : الآية ٤٠] ، وقوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩) [يونس : الآية ١٩].

وقول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ، ومن يعش

ثمانين حولا ـ لا أبا لك ـ يسأم (١)

وقول الآخر : [عمرو بن معد يكرب]

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (٢)

وقول البحتري :

أبكيكما دمعا ، ولو أنّي على

قدر الجوى أبكي بكيتكما دما (٣)

وقوله :

أحلّت دمي من غير جرم ، وحرّمت

بلا سبب يوم اللّقاء كلامي (٤)

فليس الذي حلّلته بمحلّل

وليس الذي حرّمته بحرام

ومنه المشاكلة ، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا.

أما الأول فكقوله : [أحمد بن محمد الأنطاكي]

قالوا : اقترح شيئا نجد له طبخه

قلت : اطبخوا لي جبّة وقميصا (٥)

كأنه قال : خيطوا لي ، وعليه قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : الآية ١١٦] ، وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشّورى : الآية ٤٠].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، وكتاب العين ٥ / ٣٧٢ ، وأساس البلاغة (كلف) ، وتاج العروس (حمل).

(٢) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٤٥ ، وتاج العروس (زمع) ، (طوع) ، (ودع) ، والأصمعيات ص ١٧٥.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٩٥٨.

(٤) البيتان في ديوان البحتري ٣ / ١٩٩٦ ، ١٩٩٧ ، والتبيان ص ١٨٣ ، والطراز ٢ / ٣٢٧ ، ونهاية الأرب ٧ / ١٤٣ ، والمصباح ص ١٩٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لأبي الرقعمق (أحمد بن محمد الأنطاكي) في بغية الإيضاح للخطيب القزويني ٤ / ٢٢.


ومنه قول أبي تمام :

من مبلغ أفناء يعرب كلّها

أنّي بنيت الجار قبل المنزل (١)؟

وشهد رجل عند شريح ، فقال : إنك لسبط الشهادة ، فقال الرجل : إنها لم تجعّد عنّي ، فالذي سوّغ بناء الحار ، وتجعيد الشهادة ؛ وهو مراعاة المشاكلة ولو لا بناء الدار لم يصحّ بناء الجار ، ولو لا سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها ، ومنه قول بعض العراقيين في قاض شهد عنده برؤية هلال الفطر ، فلم يقبل شهادته : [الصاحب بن عباد]

أترى القاضي أعمى

أم تراه يتعامى؟! (٢)

سرق العيد كأن

العيد أموال اليتامى

وأما الثاني فكقوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : الآية ١٣٨] وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : الآية ٨] والمعنى : تطهير الله ؛ لأن الإيمان يطهّر النفوس ، والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ؛ فأمر المسلمون أن يقولوا لهم : (قُولُوا : آمَنَّا بِاللهِ) وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا ، أو يقول المسلمون : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم ، وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة ، وإن لم يكن قد تقدم لفظ الصبغ ؛ لأن قرينة الحال ـ التي هي سبب النزول ، من غمس النصارى أولادهم في الماء الأصفر ـ دلّت على ذلك ، كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلا يصطنع الكرام.

ومنه الاستطراد ، وهو : الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني ، كقول الحماسي : [السموأل]

وإنا لقوم ما نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول (٣)

وقول الآخر : [زياد الأعجم]

إذا ما اتّقى الله الفتى ، وأطاعه

فليس به بأس وإن كان من جرم (٤)

وعليه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٤٩.

(٢) البيتان من مجزوء الرمل ، وهما للصاحب بن عباد في ديوانه ص ٢٨٦ ، ويتيمة الدهر للثعالبي ٣ / ٢٤٥.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للسموأل بن عادياء في ديوانه ص ٩١.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لزياد الأعجم في كتاب الصناعتين ص ٣٩٩.


خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) [الأعراف : الآية ٢٦].

قال الزمخشري : هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر السّوآت وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنّة فيما خلق الله من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعارا بأن التستّر باب عظيم من أبواب التّقوى.

هذا أصله ، وقد يكون الثاني هو المقصود ؛ فيذكر الأول قبله ، ليتوصل إليه ، كقول أبي إسحاق الصابي :

إن كنت خنتك في المودّة ساعة

فذممت سيف الدولة المحمودا (١)

وزعمت أن له شريكا في العلى

وجحدته في فضله التّوحيد

قسما لو أني حالف بغموسها

لغريم دين ، ما أراد مزيدا

ولا بأس أن يسمى هذا إيهام الاستطراد.

ومنه المزاوجة ، وهي : أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء ، كقول البحتري :

إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى

أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر (٢)

وقوله أيضا :

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها

تذكّرت القربى ففاضت دموعها (٣)

ومنه العكس والتبديل ، وهو : أن يقدّم في الكلام جزء ثم يؤخّر ، ويقع على وجوه :

منها : أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه ، كقول بعضهم : «عادات السادات ، سادات العادات».

ومنها : أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين ، كقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) [الرّوم : الآية ١٩] وكقوله ، الحماسيّ : [عبد الله بن الزبير]

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا (٤)

__________________

(١) الأبيات من الكامل ، وهي لأبي إسحاق الصابي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ٨٤٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ١٢٩٩.

(٤) البيت من الوافر ، وهو لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص ١٤٤ ، وتخليص الشواهد ص ٤٤٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٩٤١ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤١٧ ، ولأيمن بن خريم في ديوانه ص ١٢٦ ، ولفضالة بن شريك في عيون الأخبار ٣ / ٧٦ ، ومعجم الشعراء ص ٣٠٩ ، وللكميت بن معروف في ديوانه ص ١٩١ ، وذيل الأمالي ص ١١٥ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ١٥٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٢١٧ ، ولسان العرب (سمد).


ومنها : أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين ، كقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : الآية ١٨٧] ، وقوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : الآية ١٠] ، وقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : الآية ٥٢] ، وقول الحسن البصري : إن من خوّفك حتى تلقى الأمن ؛ خير ممّن أمّنك حتى تلقى الخوف ، وقول أبي الطيب :

فلا مجد في الدّنيا لمن قلّ ماله

ولا مال في الدّنيا لمن قلّ مجده (١)

وقول الآخر : [عتاب بن ورقاء]

إن الليالي للأنام مناهل

تطوى وتنشر دونها الأعمار (٢)

فقصارهنّ مع الهموم طويلة

وطوالهنّ مع السّرور قصار

ومنه الرجوع ، وهو : العود على الكلام السابق بالنقض لنكتة ، كقول زهير :

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى ، وغيّرها الأرواح والدّيم (٣)

قيل : لما وقف على الديار تسلّطت عليه كآبة أذهلته ، فأخبر بما لم يتحقق فقال : لم يعفها القدم ، ثم ثاب إليه عقله ؛ فتدارك كلامه ؛ فقال : بلى وغيّرها الأرواح والدّيم ، وعلى هذا بيت الحماسة : [يزيد بن الطثرية]

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك؟! وكلّا ليس منك قليل (٤)

ونحوه :

فأفّ لهذا الدّهر ، لا بل لأهله (٥)

ومنه التّورية ، وتسمى الإيهام أيضا ، وهي : أن يطلق لفظ له معنيان : قريب ، وبعيد ، ويراد به البعيد منهما.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢١٦.

(٢) البيتان من الكامل ، وهما بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٦.

(٣) البيت من البسيط ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ١٤٥ ، ولسان العرب (وا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٢ ، وتاج العروس (وا).

(٤) البيت من الطويل ، وهو ليزيد بن الطثرية في ديوانه ص ٩٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٤١ ، ولأعرابي من بني عقيل في الأغاني ٥ / ٣١٨ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٤٠٢.

(٥) الشعر بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٣٩٥.


وهي ضربان : مجردة ، ومرشّحة.

أما المجردة فهي : التي لا تجامع شيئا مما يلائم المورّى به ، أعني المعنى القريب ، كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) [طه : الآية ٥].

وأما المرشّحة فهي : التي قرن بها ما يلائم المورّى به ، أما قبلها ، كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧) [الذّاريات : الآية ٤٧] قيل : ومنه قول الحماسي : [يحيى بن منصور الحنفي]

فلمّا نأت عنّا العشيرة كلّها

أنخنا ؛ فحالفنا السّيوف على الدّهر (١)

فما أسلمتنا عند يوم كريهة

ولا نحن أغضينا الجفون على وتر

فإن الإغضاء مما يلائم جفن العين لا جفن السيف ، وإن كان المراد به إغماد السيوف ؛ لأن السيف إذا أغمد انطبق الجفن عليه ، وإذا جرّد انفتح ؛ للخلاء الذي بين الدّفّتين.

وإما بعدها ، كلفظ «الغزالة» في قول القاضي الإمام أبي الفضل عياض في صيفية باردة :

كأن «كانون» أهدى من ملابسه

لشهر «تموز» أنواعا من الحلل (٢)

أو الغزالة من طول المدى خرفت

فما تفرّق بين الجدي والحمل

واعلم أن التوهم ضربان :

ضرب يستحكم حتى يصير اعتقادا كما في قوله :

حملناهم طرّا على الدّهم بعد ما

خلعنا عليهم بالطعان ملابسا (٣)

وضرب لا يبلغ ذلك المبلغ ، ولكنه شيء يجري في الخاطر وأنت تعرف حاله ، كما في قول ابن الربيع :

لولا التّطيّر بالخلاف ، وأنّهم

قالوا : مريض لا يعود مريضا (٤)

لقضيت نحبي في فنائك خدمة

لأكون مندوبا قضى مفروضا

ولا بدّ من اعتبار هذا الأصل في كل شيء بني على التوهم ؛ فاعلم. وقال

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان الحماسة ١ / ٣٢٦.

(٢) البيتان من البسيط ، وهما للإمام أبي الفضل عياض البستي في تحرير التحبير ص ٢٧٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٧.

(٤) البيتان من الكامل ، وهما لابن الربيع في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٧.


السكاكي : أكثر متشابهات القرآن من التورية.

ومنه الاستخدام ، وهو : أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ، ثم بضميره معناه الآخر ، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ، وبالآخر الآخر. فالأول كقوله : [معاوية بن مالك]

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه ، وإن كانوا غضابا (١)

أراد بالسماء الغيث ، وبضميرها النّبت.

والثاني كقول البحتري :

فسقى الغضا والسّاكنيه ، وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب (٢)

أراد بضمير الغضا في قوله «والساكنيه» المكان ، وفي قوله «شبّوه» الشجر.

ومنه اللّفّ والنّشر ، وهو : ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ، ثقة بأن السامع يردّه إليه.

فالأول ضربان :

لأن النشر إما على ترتيب اللّفّ ، كقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : الآية ٧٣] ، وقول ابن حيّوس :

فعل المدام ، ولونها ، ومذاقها

في مقلتيه ، ووجنتيه ، وريقه (٣)

قول ابن الرومي :

آراؤكم ، ووجوهكم ، وسيوفكم

في الحادثات إذا دجون نجوم (٤)

فيها معالم للهدى ، ومصابح

تجلو الدّجى ، والأخريات رجوم

وإما على غير ترتيبه ، كقول ابن حيّوس :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لمعوّد الحكماء (معاوية بن مالك) في لسان العرب (سما) ، وللفرزدق في تاج العروس (سما) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٢٩٨ ، والمخصص ٧ / ١٩٥ ، ١٦ / ٣٠ ، وديوان الأدب ٤ / ٤٧.

(٢) يروى عجز البيت :

شبّوه بين جوانحي وضلوعي

والبيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (غفر).

(٣) البيت من الكامل ، وهو لابن حيوس في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥١.

(٤) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.


كيف أسلو ، وأنت حقف ، وغصن

وغزال : لحظا ، وقدّا ، وردفا (١)

وقال الفرزدق :

لقد خنت قوما لو لجأت إليهم

طريد دم ، أو حاملا ثقل مغرم (٢)

لألفيت فيهم معطيا ، أو مطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم

والثاني : كقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : الآية ١١١] فإن الضمير في «قالوا» لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والمعنى : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ؛ فلفّ بين القولين ، ثقة بأن السامع يردّ إلى كل فريق قوله ، وأمنا من الإلباس ، لما علم من التعادي بين الفريقين ، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه.

ومنه الجمع ، وهو : أن يجمع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد ، كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : الآية ٤٦] وقول الشاعر : [أبو العتاهية]

إنّ الشّباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده (٣)

ومنه قول محمد بن وهيب :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضّحى ، وأبو إسحق ، والقمر (٤)

ومنه التفريق ، وهو : إيقاع تباين بين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره ، كقوله : [رشيد الدين الوطواط]

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء (٥)

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو للعسكري في كتاب الصناعتين ص ٣٤٦ ، ولابن حيوس في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥١.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان الفرزدق ٢ / ٢٠٢.

(٣) الرجز لأبي العتاهية في ديوانه ص ٤٩٣.

(٤) تقدم البيت مع تخريجه.

(٥) البيتان من الخفيف وهما لرشيد الدين الوطواط في حدائق السحر ص ١٧٨ ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٨.


ونحوه قوله : [رشيد الدين الوطواط]

من قاس جدواك بالغمام فما

أنصف في الحكم بين شكلين (١)

أنت إذا جدت ضاحك أبدا

وهو إذا جاد دامع العين

ومنه التقسيم ، وهو : ذكر متعدد ، ثم إضافة ما لكلّ إليه على التعيين ، كقول أبي تمام :

فما هو إلا الوحي ، أو حدّ مرهف

تميل ظباه أخدعي كل مائل (٢)

فهذا دواء الداء من كل عالم

وهذا دواء الداء من كل جاهل

وقول الآخر :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلّان : عير الحيّ ، والوتد (٣)

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ ، فلا يرثي له أحد

وقال السكاكي : هو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر. ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك ، كقوله :

أديبان في بلخ لا يأكلان

إذا صحبا المرء غير الكبد (٤)

فهذا طويل كظل القناة

وهذا قصير كظل الوتد

وهذا يقتضي أن يكون التقسيم أعمّ من اللف والنشر.

ومنه : الجمع مع التفريق ، وهو : أن يدخل شيئان في معنى واحد ويفرّق بين جهتي الإدخال ، كقوله : [رشيد الدين الوطواط]

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرّها (٥)

__________________

(١) البيتان من المنسرح ، وهما للوأواء الدمشقي (محمد بن أحمد) في ديوانه ص ٢٢٢ ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٤٩.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي تمام ٣ / ٨٦.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما للمتلمس في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٠٣.

(٤) البيتان من الوافر ، وهما في مفتاح العلوم ص ١٨٠.

(٥) البيت من المتقارب ، وهو لرشيد الدين الوطواط في حدائق السحر ص ١٧٩ ، وأنوار الربيع ٥ / ١٧١ ، ومعاهد التنصيص ٣ / ٤.


شبّه وجه الحبيب وقلب نفسه بالنار ، وفرق بين وجهي المشابهة.

ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : الآية ١٢].

ومنه : الجمع مع التقسيم ، وهو : جمع متعدّد تحت حكم ثم تقسيمه ، أو تقسيمه ثم جمعه ؛ فالأول كقول أبي الطيّب :

حتّى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الرّوم ، والصّلبان ، والبيع (١)

للسّبي ما نكحوا ، والقتل ما ولدوا

والنّهب ما جمعوا ، والنّار ما زرعوا

جمع في البيت الأول شقاء الروم بالممدوح على سبيل الإجمال حيث قال : «تشقى به الروم» ثم قسم قي الثاني وفصّل.

والثاني : كقول حسان : [بن ثابت]

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا (٢)

سجيّة تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شرّها البدع

قسّم في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضرّ الأعداء ونفع الأولياء ، ثم جمعها في البيت الثاني حيث قال : «سجية تلك».

ومن لطيف هذا الضرب قول الآخر : [إبراهيم بن العباس الصولي]

لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم

ظننت ما أنا فيه دائما أبدا (٣)

لكن رأيت الليالي غير تاركة

ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا

فقد سكنت إلى أنّي وأنكم

سنستجدّ خلاف الحالتين غدا

فقوله : «خلاف الحالتين» جمع لما قسّم لطيف ، وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه من قوله :

فقد سكنت إلى أني وأنكم

__________________

(١) البيتان من البسيط ، والبيت الأول في ديوان المتنبي ٢ / ٦٣ ، والبيت الثاني ليس في الديوان (طبعة دار الكتب العلمية).

(٢) البيتان من البسيط ، وهما في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٣٨ ، ودلائل الإعجاز ص ٧٤.

(٣) الأبيات من البسيط ، وهي بلا نسبة في دلائل الإعجاز ص ٧٥.


ومنه الجمع مع التفريق والتقسيم ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨) [هود : الآيات ١٠٥ ـ ١٠٨].

أما الجمع ففي قوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن قوله : (نَفْسٌ) متعدّد معنى ؛ لأن النكرة في سياق النفي تعمّ ، وأما التفريق ففي قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : الآية ١٠٥] ، وأما التقسيم ففي قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) [هود : الآية ١٠٦] إلى آخر الآية الثانية.

وقول ابن شرف القيرواني : [محمد بن سعيد]

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فنّ ، وهذا له فنّ (١)

فللخامل العليا ، وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى ، وللخائف الأمن

وقد يطلق التقسيم على أمرين :

أحدهما : أن يذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل حال ما يليق بها ، كقول أبي الطيب :

سأطلب حقّي بالقنا ومشايخ

كأنّهم من طول ما التثموا مرد (٢)

ثقال إذا لاقوا ، خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدّوا ، قليل إذا عدّوا

وقوله أيضا :

بدت قمرا ، ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ، ورنت غزالا (٣)

ونحوه قول الآخر :

سفرن بدورا ، وانتقبن أهلّة

ومسن غصونا ، والتفتن جآذرا (٤)

والثاني : استيفاء أقسام الشيء بالذكر ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : الآية ٣٢].

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ٢٤٢.

(٣) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٨٤.

(٤) البيت من الطويل ، وهو للزاهي في يتيمة الدهر ١ / ١٩٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٨٩.


وقوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الشّورى : الآيتان ٤٩ ، ٥٠].

ومنه ما حكي عن أعرابي وقف على حلقة الحسن ، فقال : «رحم الله من تصدّق من فضل ، أو آسى من كفاف ، أو آثر من قوت» ، فقال الحسن : ما ترك لأحد عذرا.

ومثاله عن الشعر قول زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم (١)

وقول طريح : [بن إسماعيل الثقفي]

إن يعلموا الخير يخفوه ، وإن علموا

شرّا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا (٢)

وقول أبي تمام في الأفشين لما أحرق :

صلّى لها حيّا ، وكان وقودها

ميتا ، ويدخلها مع الفجّار (٣)

وقول نصيب :

فقال فريق القوم «لا» وفريقهم

«نعم» وفريق «لأيمن الله ما ندري» (٤)

فإنه ليس في أقسام الإجابة غير ما ذكر.

وقول الآخر : [عمر بن أبي ربيعة]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، ولسان العرب (عمى) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٢٤٥ ، ورواية صدر البيت في الديوان :

وأعلم علم ما في اليوم والأمس قبله

(٢) البيت من البسيط ، وهو في الكامل للمبرد ٢ / ١٨.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في الكتاب لسيبويه ٢ / ١٤٧ ، ٢٧٣ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٣٢.

(٤) يروى البيت بلفظ :

فقال فريق القوم لمّا نشدتهم

نعم وفريق ليمن الله ما ندري

والبيت من الطويل ، وهو لنصيب في ديوانه ص ٩٤ ، والأزهية ص ٢١ ، وتخليص الشواهد ص ٢١٩ ، والدرر ٤ / ٢١٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٨٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٩٩ ، والكتاب ٣ / ٥٠٣ ، ٤ / ١٤٨ ، ولسان العرب (يمن) ، ومغني اللبيب ١ / ١٠١ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٤٠٧ ، ورصف المباني ص ٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٠٦ ، ١١٥ ، ٣٨٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٩٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٥ ، ٩ / ٩٢ ، والكتاب ٣ / ٥٠٣ ، ٤ / ١٤٨ ، واللمع في العربية ص ٢٦٠ ، ٣١٣ ، والمقتضب ١ / ٢٢٨ ، ٢ / ٩٠ ، ٣٣٠ ، والممتع في التصريف ١ / ٣٥١ ، والمنصف ١ / ٥٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٠.


فهبها كشيء لم يكن ، أو كنازح

به الدار ، أو من غيّبته المقابر (١)

ومنه التجريد ، وهو : أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة ، مبالغة في كمالها فيه.

وهو أقسام :

منها : نحو قولهم : «لي من فلان صديق حميم» ، أي : بلغ من الصداقة مبلغا صح معه أن يستخلص منه صديق آخر.

ومنها : نحو قولهم : «لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر».

ومنها : نحو قول الشاعر :

وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحّل (٢)

أي : تعدو بي ؛ ومعي من نفسي ـ لكمال استعدادها للحرب ـ مستلئم ، أي : لا بخس لأمة.

ومنها : نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصّلت : الآية ٢٨] ؛ فإن جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ هي دار الخلد ، لكن انتزع منها مثلها ، وجعل معدّا فيها للكفار ؛ تهويلا لأمرها.

ومنها : نحو قول الحماسي : [قتادة بن سلم الحنفي]

فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم (٣)

وعليه قراءة من قرأ : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) [الرّحمن : الآية ٣٧] بالرفع ، بمعنى : فحصلت سماء وردة.

وقيل : تقدير الأول : أو يموت مني كريم ، والثاني : فكانت منه وردة كالدهان ، وفيه نظر.

ومنها : نحو قوله : [أعشى قيس]

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ٢٩١ ، ومفتاح العلوم ص ١٥١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٤٩٩ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٨٩ ، ولسان العرب (دجل) ، وبلا نسبة في المقاصد النحوية ٤ / ١٩٥ ، ويروى «المدجّل» بدل «المرحّل».

(٣) البيت من الكامل ، وهو لقتادة بن مسلم الحنفي في ديوان الحماسة ص ٧٧٠ ، ونهاية الأرب ٧ / ١٥٦.


يا خير من يركب المطيّ ، ولا

يشرب كأسا بكفّ من بخلا (١)

ونحوه قول الآخر : [أرطأة بن سهية]

إن تلقني لا ترى غيري بناظرة

تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد (٢)

ومنها : مخاطبة الإنسان نفسه ، كقول الأعشى : [أعشى قيس]

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟! (٣)

وقول أبي الطيب :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال (٤)

ومنه : المبالغة المقبولة.

والمبالغة : أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة أو الضعف حدّا مستحيلا أو مستبعدا ؛ لئلا يظنّ أنه غير متناه في الشدة أو الضعف.

وتنحسر في التبليغ ، والإغراق ، والغلوّ ؛ لأن المدعي للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه ، أو لا. الثاني الغلوّ ، والأول إما أن يكون ممكنا في العادة أيضا ، أو لا : الأول التبليغ ، والثاني الإغراق.

أما التبليغ فكقول امرىء القيس :

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل (٥)

وصف هذا الفرس بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيّين في مضمار واحد ولم يعرق ، وذلك غير ممتنع عقلا ولا عادة ، ومثله قول أبي الطيب :

وأصرع أيّ الوحش قفيته به

وأنزل عنه مثله حين أركب (٦)

وأما الإغراق كقول الآخر : [عمرو بن الأيهم التغلبي]

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ١٠٢.

(٢) البيت من البسيط ، ولم أجده.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (جهنم) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٢٦ ، وتاج العروس (ودع).

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٥٠.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٢٢ ، ولسان العرب (غسل) ، (عدا) ، وتاج العروس (غسل) ، (عدا).

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٣٠.


ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا (١)

فإنه ادعى أن جاره لا يميل عنه إلى جهة إلا وهو يتبعه الكرامة ، وهذا ممتنع عادة ، وإن كان غير ممتنع عقلا.

وهما مقبولان.

٣ ـ وأما الغلو ، فكقول أبي نواس :

وأخفت أهل الشّرك ، حتى إنه

لتخافك النّطف التي لم تخلق (٢)

والمقبول منه أصناف :

أحدها : ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة ، نحو لفظة : يكاد ، في قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [النّور : الآية ٣٥].

في قول الشاعر يصف فرسا : [ابن حمديس الصقلي]

ويكاد يخرج سرعة عن ظله

لو كان يرغب في فراق رفيق (٣)

والثاني : ما تضمن نوعا حسنا من التخييل ، كقول أبي الطيب :

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (٤)

وقد جمع القاضي الأرجانيّ بينهما في قوله يصف الليل بالطول :

يخيّل لي أن سمّر الشّهب في الدّجى

وشدّت بأهدابي إليهنّ أجفاني (٥)

والثالث : ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة ، كقول الآخر :

أسكر بالأمس إن عزمت

على الشّرب غدا ، إنّ ذا من العجب (٦)

ومنه : المذهب الكلامي ، وهو : أن يورد المتكلم حجّة لما يدّعيه على طريق أهل الكلام ، كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : الآية ٢٢].

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأعشى بني تغلب (عمير بن الأهتم) في ديوان الحماسة لأبي تمام شرح البرقوقي ص ١٣٨٥ ، ونقد الشعر ص ٨٤.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ٢٥٨.

(٣) البيت من الكامل ، والبيت بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥٤.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٧.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان القاضي الأرجاني ٣ / ١٤١٧.

(٦) البيت من المنسرح ، وهو لأبي نواس في نفحات الأزهار ص ٢٠٧ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥٤.


وقوله عز وجل : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : الآية ٢٧] أي : والإعادة أهون عليه من البدء ، والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء ؛ فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء ، وهو المطلوب.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : الآية ٧٦] أي : القمر آفل ، وربي ليس بآفل ، فالقمر ليس بربي.

وقوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة : الآية ١٨] أي : أنتم تعذّبون ، والبنون لا يعذّبون ، فلستم ببنين له.

ومنه قول النابغة يعتذر إلى النّعمان :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مطلب (١)

لئن كنت بلّغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب

ولكنّني كنت امرأ لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك ، وإخوان ، إذا ما مدحتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب

كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم

فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا

يقول : أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك ، وأنا أحسن إليّ قوم فمدحتهم ، فكما أنّ مدح أولئك لا يعدّ ذنبا ، فكذلك مدحي لمن أحسن إليّ لا يعدّ ذنبا.

ومنه : حسن التعليل ، وهو : أن يدّعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف غير حقيقي.

وهو أربعة أقسام ؛ لأن الوصف إما ثابت قصد بيان علته ، أو غير ثابت أريد إثباته ، والأول إما أن لا يظهر له في العادة علة ، أو يظهر له علة غير المذكورة ، والثاني إما ممكن ، أو غير ممكن.

أما الأول فكقول أبي الطيب :

لم يحك نائلك السحاب ، وإنّما

حمّت به فصبيبها الرّحضاء (٢)

فإن نزول المطر لا يظهر له في العادة علة ، وكقول أبي تمام :

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، وهي في ديوان النابغة الذبياني ص ٧٢.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٧٣.


لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسّيل حرب للمكان العالي (١)

علّل عدم إصابة الغنى بالقياس على عدم إصابة السيل المكان العالي كالطّود العظيم ، من جهة أن الكريم ـ لاتّصافه بعلو القدر ـ كالمكان العالي ، والغنى لحاجة الخلق إليه كالسيل.

ومن لطيف هذا الضرب قول أبي هلال العسكري :

زعم البنفسج أنه كعذاره

حسنا ، فسلّوا من قفاه لسانه (٢)

وقول ابن نباتة في صفة فرس :

وأدهم يستمدّ الليل منه

وتطلع بين عينيه الثّريّا (٣)

سرى خلف الصباح يطير مشيا

ويطوي خلفه الأفلاك طيّا

فلما خاف وشك الفوت منه

تشبّت بالقوائم والمحيّا

وأما الثاني فكقول أبي الطيب :

ما به قتل أعاديه ، ولكن

يتّقي إخلاف ما ترجو الذّئاب (٤)

فإن قتل الملوك أعداءهم في العادة لإرادة هلاكهم ، وأن يدفعوا مضارّهم عن أنفسهم ؛ حتى يصفو لهم ملكهم من منازعتهم ، لا لما ادّعاه من أن طبيعة الكرم قد غلبت عليه ، ومحبته أن يصدّق رجاء الراجين بعثته على قتل أعدائه ؛ لما علم أنه كلما غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق من قتلاهم.

وهذا مبالغة في وصفه بالجود ، ويتضمن المبالغة في وصفه بالشجاعة على وجه تخييليّ ، أي تناهى في الشجاعة حتى ظهر ذلك للحيوانات العجم ، فإذا غدا للحرب رجت الذئاب أن تنال من لحوم أعدائه.

وفيه نوع آخر من المدح ، وهو أنه ليس ممن يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق. وكقول أبي طالب المأمونيّ في بعض الوزراء ببخارى : [عبد السّلام بن الحسين]

مغرم بالثناء ، صبّ بكسب

المجد ، يهتزّ للسماح ارتياحا (٥)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٧٧.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المعاني ٢ / ٢٤.

(٣) الأبيات من الوافر ، وهي في أسرار البلاغة ص ١٩٢ ، ٢٤٩.

(٤) البيت من الرمل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٨٨.

(٥) البيتان من الخفيف ، وهما في أسرار البلاغة ص ٣٣٨.


لا يذوق الإغفاء إلّا رجاء

أن يرى طيف مستميح رواحا

وكأن تقييده بالرّواح ليشير إلى أن العفاة إنما يحضرون له في صدر النهار على عادة الملوك ، فإذا كان الرواح قلّوا ، فهو يشتاق إليهم ، فينام ليأنس برؤية طيفهم ، وأصله من نحو قول الآخر : [قيس بن الملوح]

وإني لأستغفي ، وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا (١)

وهذا غير بعيد أن يكون أيضا من هذا الضرب ، إلا أنه لا يبلغ في الغرابة والبعد عن العادة ذلك المبلغ ؛ فإنه قد يتصوّر أن يريد المغرم المتيّم إذا بعد عهده بحبيبه أن يراه في المنام ؛ فيريد النوم لذلك خاصة.

ومن لطيف هذا الضرب قول ابن المعتز :

قالوا : اشتكت عينه ، فقلت لهم :

من كثرة القتل نالها الوصب (٢)

حمرتها من دماء من قتلت

والدم في النّصل شاهد عجب

وقول الآخر : [عبد الله بن المعتز]

أتتني تؤنّبني بالبكا

فأهلا بها وبتأنيبها (٣)

تقول ـ وفي قولها حشمة ـ

أتبكي بعين تراني بها؟!

فقلت : إذا استحسنت غيركم

أمرت الدموع بتأديبها

وذلك أن العادة في دمع العين أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب ، أو اعتراض الرقيب ، ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب ، لا ما جعله من التأديب على الإساءة باستحسان غير الحبيب.

وأما الثالث فكقول مسلم بن الوليد :

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجّى حذارك إنساني من الغرق (٤)

فإن استحسان إساءة الواشي ممكن ، لكن لما خالف الناس فيه عقبه بذكر سببه ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المجنون ص ٢١٠ (طبعة دار الكتاب العربي).

(٢) البيتان من المنسرح ، وهما لابن المعتز في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥٩.

(٣) الأبيات من المتقارب ، وهي بلا نسبة في أسرار البلاغة ص ٣٤٢.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ذيل ديوان مسلم بن الوليد ص ٣٢٨ ، والشعر والشعراء ٢ / ٨١٥ ، وطبقات الشعراء ص ١١١.


وهو أن حذاره من الواشي منعه من البكاء ، فسلم إنسان عينه من الغرق في الدموع وما حصّل ذلك فهو حسن.

وأما الرابع : فكمعنى بيت فارسي ترجمته :

لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق (١)

فإن نيّة الجوزاء خدمته ممتنعة.

ومما يلحق بالتعليل ـ وليس به ؛ لبناء الأمر فيه على الشك ـ نحو قول أبي تمام :

ربى شفعت ريح الصّبا لرياضها

إلى المزن حتى جادها وهو هامع (٢)

كأن السحاب الغرّ غيّبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع

وقول أبي الطيب :

رحل العزاء برحلتي ، فكأنني

أتبعته الأنفاس للتشييع (٣)

علّة تصعيد الأنفاس في العادة هي التحسّر والتأسّف ، لا ما جوّز أن يكون إيّاه ، والمعنى : رحل عني العزاء بارتحالي عنك ، أي : معه ، أو بسببه ؛ فكأنه لما كان الصدر محلّ الصبر ، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضا صار العزاء وتنفس الصّعداء كأنهما نزيلان ، فلما رحل ذلك كان حقا على هذا أن يشيّعه ؛ قضاء لحقّ الصّحبة.

ومنه : التفريع ، وهو أن يثبت لمتعلق أمر حكم بعد إثباته لمتعلّق له آخر ، كقول الكميت : [بن زيد]

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب (٤)

فرّع من وصفهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلب.

ومنه : تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو ضربان :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥٧.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي تمام ٢ / ١٨٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٨٣.

(٤) البيت من البسيط ، وهو للكميت بن زيد في الدرر ١ / ٢٥٢ ، ومعاهد التنصيص ٣ / ٨٨ ولم أقع عليه في ديوانه ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ٨١.


أفضلهما أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها ، كقول النابغة الذبياني

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (١)

أي إن كان فلول السيف من قراع الكتائب من قبيل العيب ، فأثبت شيئا من العيب ، على تقدير أن فلول السيف منه ، وذلك محال ؛ فهو في المعنى تعليق بالمحال ؛ كقولهم : «حتى يبيضّ القار».

فالتأكيد فيه من وجهين :

أحدهما : أنه كدعوى الشيء ببيّنة.

والثاني : أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا ، فإذا نطق المتكلم بإلا أو نحوها توهّم السامع قبل أن ينطق بما بعدها أنّ ما يأتي بعدها مخرج مما قبلها ، فيكون شيء من صفة الذم ثابتا ، وهو ذمّ ، فإذا أتت بعدها صفة مدح تأكد المدح ، لكونه مدحا على مدح وإن كان فيه نوع من الخلابة.

والثاني : أن يثبت لشيء صفة مدح ، ويعقب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له ، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «أنا أفصح العرب ، بيد أنّي من قريش» (٢).

وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا ، لكنه باق على حاله لم يقدر متصلا ، فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ، ولهذا قلنا : الأول أفضل. ومنه قول النابغة الجعدي :

فتى كملت أخلاقه ، غير أنه

جواد ؛ فما يبقي من المال باقيا (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص ٤٤ ، والأزهية ص ١٨٠ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢٧ ، والدرر ٣ / ١٧٣ ، وشرح شواهد المغني ص ٣٤٩ ، والكتاب ٢ / ٣٢٦ ، ومعاهد التنصيص ٣ / ١٠٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٢ ، وبلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص ٢٦٧ ، ولسان العرب (قرع) ، (فلل) ، ومغني اللبيب ص ١١٤.

(٢) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٢ ، ٢ / ٨٥٠ ، والقاضي عياض في الشفاء ١ / ١٧٨ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٢ / ٣٦٤ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١١٧.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الجعدي ص ١٧٣ ، والأزهية ص ١٨١ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٦٨ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٣٤ ، والدرر ٣ / ١٨٢ ، وديوان المعاني ١ / ٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٦٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٠٦٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦١٤ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٩٩ ، والكتاب ٢ / ٣٢٧ ، ولسان العرب (وحح).


وأما قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) [الواقعة : الآيتان ٢٥ ، ٢٦] فيحتمل الوجهين.

وأما قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : الآية ٦٢] فيحتملها ، ويحتمل وجها ثالثا ، وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا ، لأن معنى السّلام هو الدعاء بالسلامة ، وأهل الجنة عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام ، لو لا ما فيه من فائدة الإكرام.

ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم ضرب ثالث ، وهو : أن يأتي الاستثناء فيه مفرّغا ، كقوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) [الأعراف : الآية ١٢٦] أي وما تعيب منا إلا أصل المناقب والمفاخر كلها ، وهو الإيمان بآيات الله.

ونحوه قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) [المائدة : الآية ٥٩] فإن الاستفهام فيه للإنكار.

واعلم أن الاستدراك في هذا الباب يجري مجرى الاستثناء ، كما في قول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني

هو البدر ، إلا أنه البحر زاخر

سوى أنه الضّرغام ، لكنّه الوبل (١)

ومنه تأكيد الذم بما يشبه المدح ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيها ، وكقولك : فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من يحسن إليه.

وثانيهما : أن يثبت للشيء صفة ذم ، ويعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له ، كقولك : فلان فاسق إلا أنه جاهل.

وتحقيق القول فيهما على قياس ما تقدم.

ومنه الاستتباع ، وهو : المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر ، كقول أبي الطيب :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لبديع الزمان الهمذاني في نهاية الإيجاز ص ٢٩٣.


نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنّئت الدنيا بأنك خالد (١)

فإنه مدحه ببلوغه النهاية في الشجاعة إذ كثر قتلاه ، بحيث لو ورث أعمارهم لخلد في الدنيا ، على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها ؛ حيث جعل الدنيا مهنّأة بخلوده.

قال علي بن عيسى الربعيّ : وفيه وجهان آخران من المدح ، أحدهما أنه نهب الأعمار دون الأموال ، والثاني أنه لم يكن ظالما في قتل أحد من مقتوليه ؛ لأنه لم يقصد بذلك إلا صلاح الدنيا وأهلها فهم مسرورون ببقائه.

ومنه الإدماج ، وهو أن يضمّن كلام سيق لمعنى معنى آخر ، فهو أعمّ من الاستتباع ، ومثاله قول أبي الطيب :

أقلب فيه أجفاني ، كأني

أعدّ بها على الدهر الذّنوبا (٢)

فإنه ضمّن وصف الليل بالطول الشّكاية من الدهر.

وقول ابن المعتز في الخيريّ :

قد نفض العاشقون ما صنع

الهجر بألوانهم على ورقه (٣)

فإن الغرض وصف الخيري بالصفرة ، فأدمج الغزل في الوصف.

وفيه وجه آخر من الحسن ، وهو إيهام الجمع بين متنافيين ، أعني الإيجاز والإطناب ، أما الإيجاز فمن جهة الإدماج ، وأما الإطناب فلأن أصل المعنى أنه ؛ فاللفظ زائد عليه لفائدة.

ومنه قول ابن نباتة :

ولا بدّ لي من جهلة في وصاله

فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده؟! (٤)

فإنه ضمّن الغزل الفخر بكونه حليما ، المكنى عنه بالاستفهام عن وجود خل صالح لأن يودعه حلمه ، وضمّن الفخر بذلك ـ بإخراج الاستفهام مخرج الإنكار ـ شكوى الزمان لتغيّر الإخوان ، حتى لم يبق فيهم من يصلح لهذا الشأن ، ونبه بذلك على أنه لم

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٧٢.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٣٩.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لابن المعتز في الإشارات والتنبيهات ص ٢٥٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ابن نباتة (عبد العزيز بن عمر) ١ / ٣٣٨.


يعزم على مفارقة حلمه جملة أبدا ، ولكن إذا كان مريدا لوصل هذا المحبوب المستلزم للجهل المنافي للحلم ؛ عزم على أنه إن وجد من يصلح لأن يودعه حلمه أودعه إيّاه ، فإن الودائع تستعاد. قيل : ومنه قول الآخر يهنىء بعض الوزراء لما استوزر : [عبيد الله بن عبد الله]

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا

وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم (١)

فقلت له : نعماك فيهم أتمّها

ودع أمرنا ؛ إن المهمّ المقدّم

فإنه أدمج شكوى الزمان وما هو عليه من اختلال الأحوال في التهنئة.

وفيه نظر ؛ لأن شكوى الزمان مصرّح بها في صدره ، فكيف تكون مدمجة؟! ولو عكس فجعل التهنئة مدمجة في الشكوى أصاب.

ومنه التوجيه ، وهو : إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين ، كقول من قال لأعور يسمّى عمرا : [بشار بن برد]

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء (٢)

وعليه قوله تعالى : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) [النساء : الآية ٤٦]. قال الزمخشري : «غير مسمع» حال من المخاطب ، أي اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين.

يحتمل الذم ، أي : اسمع منا مدعوّا عليك بـ «لا سمعت» لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع. فكان أصمّ غير مسمع ، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم : «لا سمعت» دعوة مستجابة.

أو اسمع غير مجاب ما تدعو إليه ، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئا.

أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك عنه ناب.

ويجوز على هذا أن يكون «غير مسمع» مفعول «اسمع» أي : اسمع كلاما غير مسمع إياك ؛ لأن أذنك لا تعيه نبوّا عنه.

ويحتمل المدح ، أي : اسمع غير مسمع مكروها من قولك : «أسمع فلان فلانا» إذا سبّه.

__________________

(١) البيتان لعبد الله بن طاهر في العمدة ١ / ٤١ ، والطراز ٣ / ١٥٧ ، ١٥٨ ، وعقود الجمان ٢ / ١٢٨.

(٢) البيت من مجزوء الرمل ، وهو لبشار بن برد في ديوانه ص ١٢.


وكذلك قوله : «راعنا» يحتمل «راعنا نكلّمك» أي : ارقبنا وانتظرنا ويحتمل شبه كلمة عبرانيّة ، أو سريانية كانوا يتسابّون بها ، وهي «راعينا» فكانوا سخرية بالدين وهزءا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلمونه بكلام محتمل ، ينوون به الشتيمة والإهانة ، ويظهرون به التوقير والاحترام.

ثم قال : فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا؟) ، قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به.

قال السكاكي : ومنه متشابهات القرآن باعتبار.

ومنه الهزل الذي يراد به الجد ؛ فترجمته تغني عن تفسيره ، ومثاله قول الشاعر : [أبو نواس]

إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا

فقل : عدّ عن ذا ، كيف أكلك للضّب (١)

ومنه قول امرىء القيس :

وقد علمت سلمى وإن كان بعلها

بأن الفتى يهذي وليس بفعّال (٢)

ومنه تجاهل العارف ، وهو ـ كما سمّاه السكاكي ـ سوق المعلوم مساق غيره لنكتة ، كالتوبيخ في قول الخارجية : [ليلى بنت طريف]

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف (٣)

والمبالغة في المدح في قول البحتري :

ألمع برق سرى ، أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضّاحي (٤)

أو في الذم كقول زهير :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي نواس في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٥٩.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لليلى بنت طريف في الأغاني ١٢ / ٨٥ ، والحماسة الشجرية ١ / ٣٢٨ ، والدرر ٢ / ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ص ١٤٨ ، ولليلى أو لمحمد بن بجرة في سمط اللآلي ص ٩١٣ ، وللخارجية في الأشباه والنظائر ٥ / ٣١٠.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٤٤٢.


وما أدري ـ وسوف إخال أدري ـ

أقوم آل حصن أم نساء (١)

والتّدلّه في الحب في قول الحسين بن عبد الله :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا :

ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر (٢)

وقول ذي الرمة :

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم؟ (٣)

والتحقير في قوله تعالى في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الكفار : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : الآية ٧] كأن لم يكونوا يعرفون عنه إلا أنه رجل ما.

والتعريض في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : الآية ٢٤].

وفي مجيء هذا اللفظ على الإبهام فائدة أخرى ، وهي أنه يبعث المشركين على الفكر في حال أنفسهم وحال النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، وإذا فكروا فيما هم عليه من إغارات بعضهم على بعض ، وسبي ذراريهم ، واستباحة أموالهم ، وقطع الأرحام ، وإتيان الفروج الحرام ، وقتل النفوس التي حرّم الله قتلها ، وشرب الخمر التي تذهب العقول ، وتحسّن ارتكاب الفواحش ، وفكروا فيما النبيّ عليه السّلام والمؤمنون عليه من صلة الأرحام ، واجتناب الآثام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإطعام المساكين ، وبرّ الوالدين ، والمواظبة على عبادة الله تعالى ؛ علموا أن النبي عليه السّلام والمسلمين على هدى ، وأنهم على الضلالة ، فبعثهم ذلك على الإسلام ، وهذه فائدة عظيمة.

ومنه القول بالموجب ، وهو ضربان :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٧٣ ، والاشتقاق ص ٤٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٨ ، والدرر ٢ / ٢٦١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٠٩ ، وشرح شواهد المغني ص ١٣٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٨٩ ، ومغني اللبيب ص ٤١.

(٢) البيت من البسيط ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١١٢ (طبعة دار الكتاب العربي).

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٧٦٧ ، وأدب الكاتب ص ٢٢٤ ، والأزهية ص ٣٦ ، والأغاني ١٧ / ٣٠٩ ، والخصائص ٢ / ٤٥٨ ، والدرر ٣ / ١٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٣٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٤ ، والكتاب ٣ / ٥٥١ ، ولسان العرب (جلل) (أ) ، (يا) ، واللمع ص ١٩٣ ، ومعجم ما استعجم ص ٣٨٨ ، والمقتضب ١ / ١٦٣.


أحدهما : أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم ، فثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء ، من غير تعرّض لثبوت ذلك الحكم له أو في انتفائه عنه ، كقوله تعالى : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : الآية ٨] فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم ، وبالأذل عن فريق المؤمنين ، وأثبتوا للأعز الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، من غير تعريض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم.

والثاني : حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه ، كقوله : [ابن حجاج ، الحسن بن أحمد]

قلت : ثقّلت إذ أتيت مرارا

قال : ثقّلت كاهلي بالأيادي (١)

قلت : طولت ، قال : لا ، بل تطوّلت ،

وأبرمت ، قال : حبل ودادي

والاستشهاد بقوله «ثقّلت» و «أبرمت» دون قوله «طوّلت».

ومنه قول القاضي الأرّجاني :

غالطتني إذ كست جسمي الضّنا

كسوة عرّت من اللحم العظاما (٢)

ثم قالت : أنت عندي في الهوى

مثل عيني ، صدقت ، لكن سقاما

وكذا قول ابن دويدة المغربي من أبيات يخاطب بها رجلا أودع بعض القضاة مالا فادّعى القاضي ضيعته

إن قال : قد ضاعت ؛ فيصدق ؛ إنها

ضاعت ، ولكن منك يعني لو تعي (٣)

أو قال : قد وقعت ، فيصدق ؛ إنها

وقعت ، ولكن منه أحسن موقع

وقريب من هذا قول الآخر : [علي بن فضالة القيرواني]

وإخوان حسبتهم دروعا

فكانوها ، ولكن للأعادي (٤)

__________________

(١) البيتان من الخفيف وهما للحسن بن أحمد المعروف بابن حجاج الشاعر الهازل في نهاية الأرب ٧ / ١٧١ ، ولمحمد بن إبراهيم الأسدي في يتيمة الدهر ٣ / ١٨٠.

(٢) البيتان من الرمل ، وهما في نهاية الأرب ٧ / ١٧١.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦١.

(٤) الأبيات من الكامل ، وهي منسوبة لأكثر من شاعر فقد نسبت لابن الرومي ، وأبي العلاء ، ولعلي بن فضالة القيرواني. انظر معاهد التنصيص ٣ / ١٨٥.


وخلتهم سهاما صائبات

فكانوها ، ولكن في فؤادي

وقالوا : قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ، ولكن من ودادي

والمراد البيتان الأولان ، ولك أن تجعل نحوهما ضربا ثالثا.

ومنه الاطّراد ، وهو : أن يأتي بأسماء الممدوح أو غيره وآبائه ، على ترتيب الولادة ، من غير تكلّف في السبك ، حتى تكون الأسماء في تحدّرها كالماء الجاري في اطّراده وسهولة انسجامه.

كقول الشاعر : [ربيعة بن سعد]

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب (١)

وقول دريد بن الصمة :

قتلنا بعبد الله خير لداته

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب (٢)

وفيه تعرض للمقتول به ، ولشرف المقتول ، قيل : لما سمعه عبد الملك بن مروان قال : لو لا القافية لبلغ به آدم.

ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» (٣).

وأما اللفظي فمنه : الجناس بين اللفظين. وهو : تشابههما في اللفظ.

والتامّ منه : أن يتفقا في أنواع الحروف ، وأعدادها ، وهيئاتها ، وترتيبها.

فإن كانا من نوع واحد ـ كاسمين ـ سمّي مماثلا ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ

__________________

(١) يروى صدر البيت :

إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم

والبيت من الكامل ، وهو لربيعة الأسدي في لسان العرب (يمن) ، وتاج العروس (ذأب) ، وللعباس بن مرداس في ديوانه ص ٣٦ ، والدرة الفاخرة ١ / ٣٢٥ ، والمستقصى ١ / ٢٥٩ ، ومجمع الأمثال ٢ / ٦٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لخفاف بن ندبة في ديوانه ص ١٣٠ ، ولدريد بن الصمة في ديوانه ص ٣٦.

(٣) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ١٩ ، والمناقب باب ١٣ ، وتفسير سورة ١٢ ، باب ١ ، والترمذي في تفسير سورة ١٢ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٦ ، ٣٣٢ ، ٤١٦.


يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الرّوم : الآية ٥٥] ، وقول الشاعر : [عيسى بن خالد المخزومي]

حدق الآجال آجال

والهوى للمرء قتّال (١)

الأول جمع إجل بالكسر ، هو القطيع من بقر الوحش ، والثاني جمع أجل والمراد به منتهى الأعمار ، وقول أبي تمام :

إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدّعوا

صدور العوالي في صدور الكتائب (٢)

وإن كانا من نوعين ـ كاسم وفعل ـ سمّي مستوفى ، كقول أبي تمام أيضا :

ما مات من كرم الزمان فإنه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله (٣)

ونحوه قول الآخر : [محمد بن عبد الله الأسدي]

وسمّيته يحيى ليحيا ، فلم يكن

إلى ردّ أمر الله فيه سبيل (٤)

والتام أيضا إن كان أحد لفظيه مركّبا سمي جناس التركيب.

ثم إن كان المركب منهما مركبا من كلمة وبعض كلمة سمي مرفوّا ، كقول الحريري (٥) :

ولا تله عن تذكار ذنبك ، وابكه

بدمع يحاكي الوبل حال مصابه (٦)

ومثّل لعينيك الحمام ووقعه

وروعة ملقاه ومطعم صابه

وإلا ، فإن اتفقا في الخط سمي متشابها ، كقول أبي الفتح البستي :

__________________

(١) البيت من مجزوء الرمل ، وهو بلا نسبة في التبيان في علم البيان ص ١٦٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ١ / ٢٠٧ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٣٤ ، والطراز ٢ / ٣٥٨.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٣٤٧ ، وأسرار البلاغة ص ٢٣.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لمحمد بن عبد الله بن كناسة الأسدي في رثاء ابنه يحيى ، انظر البديع لابن المعتز ص ٢٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٢٨.

(٥) الحريري : هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان ، جمال الدين أبو محمد الحريري البصري الحرامي ، ولد سنة ٤٤٦ ه‍ ، وتوفي سنة ٥١٦ ه‍ ، من تصانيفه : توشيح البيان ، درة الغواص في أوهام الخواص ، ديوان الرسائل ، شرح الملحة ، المقامات الحريرية ، ملحة الأعراب وسخنة الآداب ، منظومة في النحو. (كشف الظنون ٥ / ٨٢٧ ـ ٨٢٨).

(٦) البيتان من الطويل ، وهما للحريري في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٣.


إذا ملك لم يكن ذا هبه

فدعه ، فدولته ذاهبه (١)

وإن اختلفا سمي مفروقا ، كقول أبي الفتح أيضا :

كلكم قد أخذ الجا

م ، ولا جام لنا (٢)

ما الذي ضرّ مدير

الجام لو جاملنا

وقول الآخر : [أبو عمر بن علي المطوعي]

لا تعرضنّ على الرّواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل في تهذيبها (٣)

فمتى عرضت الشّعر غير مهذّب

عدّوه منك وساوسا تهذي بها

ووجه حسن هذا القسم ـ أعني التامّ ـ حسن الإفادة ، مع أن الصورة صورة الإعادة. وإن اختلفا في هيئات الحروف فقط ؛ سمي محرّفا.

ثم الاختلاف قد يكون في الحركة فقط. كالبرد والبرد في قولهم : «جبّة البرد» وعليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) [الصّافات : الآيتان ٧٢ ، ٧٣].

قال السكاكي : وكقولك : «الجهول إما مفرط أو مفرّط» والمشدّد في هذا الباب يقوم مقام المخفّف نظرا إلى الصورة ، فاعلم.

وقد يكون في الحركة والسكون ، كقولهم : «البدعة شرك الشّرك» ، وقول أبي العلاء :

والحسن يظهر في بيتين رونقه

بيت من الشّعر ، أو بيت من الشّعر (٤)

وإن اختلفا في أعداد الحروف فقط ، سمي ناقصا ، ويكون ذلك على وجهين :

أحدهما : أن يختلفا بزيادة حرف واحد في الأول كقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠) [القيامة : الآيتان ٢٩ ، ٣٠].

أو في الوسط ، كقولهم : «جدّي جهدي».

أو في الآخر ، كقول أبي تمام :

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو في ديوان البستي ص ٢٢٨ ، ويتيمة الدهر ٤ / ٢٠٢ ، والطراز ٢ / ٣٦٠ ، ٣٦١ ، والإكسير في علم التفسير ص ٣٢٤.

(٢) البيتان من الرمل ، وهما في معاهد التنصيص ٣ / ٢٢١ ، والإكسير في علم التفسير ص ٣٢٤.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٤.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في سقط الزند ص ٥٧.


يمدّون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب (١)

وقول البحتري :

لئن صدفت عنّا فربّت أنفس

صواد إلى تلك الوجوه الصّوادف (٢)

ومنه ما كتب به بعض ملوك المغرب إلى صاحب له يدعوه إلى مجلس أنس له :

أيها الصاحب الذي فارقت عيني

ونفسي منه السّنا والسّناء (٣)

نحن في المجلس الذي يهب الرا

حة والمسمع الغنى والغناء

نتعاطى التي تنسّي من الل

ذة والرّقة والهوى والهواء

فأته تلف راحة ومحيّا

قد أعدّا لك الحيا والحياء

وربما سمي هذا القسم ـ أعني الثالث ـ مطرّفا.

ووجه حسنه أنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة ـ كالميم من عواصم ـ أنها هي التي مضت ، وإنما أتي بها للتأكيد ، حتى إذا تمكن آخرها في نفسك ، ووعاه سمعك ؛ انصرف عنك ذلك التوهم ؛ وفي هذا حصول الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها.

والوجه الثاني : أن يختلفا بزيادة أكثر من حرف واحد كقول الخنساء :

إن البكاء هو الشّفا

ء من الجوى بين الجوانح (٤)

وربما سمّي هذا الضرب مذيّلا.

وإن اختلفا في أنواع الحروف اشترط أن لا يقع الاختلاف بأكثر من حرف.

ثم الحرفان المختلفان إن كانا متقاربين سمّي الجناس مضارعا.

ويكونان إما في الأول ، كقول الحريري : «بيني وبين كنّي ليل دامس وطريق طامس».

وإما في الوسط ، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : الآية ٢٦]. وقول بعضهم : «البرايا أهداف البلايا».

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ١ / ٢٠٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٣٤ ، وأسرار البلاغة ص ٢٣ ، والطراز ٢ / ٣٦٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٣٩١.

(٣) الأبيات لم أجدها في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٤) البيت من مجزوء الكامل ، وهو للخنساء (تماضر بنت عمرو) في معاهد التنصيص ٣ / ٢٣٠ ، وليس في ديوانها.


وإما في الآخر ، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» (١)

وإن كانا غير متقاربين سمي لاحقا.

ويكونان أيضا إما في الأول ، كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) [الهمزة : الآية ١] وقول بعضهم : «ربّ وضيّ غير رضيّ» ، وقول الحريري : «لا أعطي زمامي لمن يخفر ذمامي».

وإما في الوسط ، كقوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٧٥) [غافر : الآية ٧٥] ، وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨) [العاديات : الآيتان ٧ ، ٨].

وإما في الآخر كقوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ) [النّساء : الآية ٨٣].

وقول البحتري :

هل لما فات من تلاق تلاف

أم لشاك من الصبّابة شافي (٢)

وإن اختلفا في ترتيب الحروف سمي جناس القلب ، وهو ضربان :

١ ـ قلب الكل : كقولهم : «حسامه فتح لأوليائه ، حتف لأعدائه».

٢ ـ وقلب البعض ، كما جاء في الخبر : «اللهمّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا» (٣) ، وقول بعضهم : «رحم الله امرأ أمسك ما بين فكّيه ، وأطلق ما بين كفّيه». وعليه قول أبي الطيب :

ممنّعة منعّمة رداح

يكلّف لفظها الطير الوقوعا (٤)

وإذا وقع أحد المتجانسين جناس القلب في أول البيت ، والآخر في آخره ؛ سمي مقلوبا مجنّحا.

وإذا ولي أحد المتجانسين الآخر سمي مزدوجا ، ومكرّرا ، ومردّدا ، كقوله تعالى : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل : الآية ٢٢] ، وما جاء في الخبر : «المؤمنون هينون

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤٣ ، ٤٤ ، والخمس باب ٨ ، والمناقب باب ٢٨ ، ومسلم في الزكاة حديث ٦ ، والإمارة حديث ٩٧ ، ٩٨.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان البحتري ٣ / ١٣٨٥ ، والطراز ٢ / ٣٦٧.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠١ ، وابن ماجه في الدعاء باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥ ، ٣ / ٣.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٣٣.


لينون» (١) ، وقولهم : «من طلب وجدّ وجد» ، وقولهم : «من قرع بابا ولجّ ولج» ، وقولهم : «النبيذ بغير النغم غمّ وبغير الدسم سم» ، وقوله : [أبو تمام]

يمدّون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب (٢)

واعلم أنه يلحق بالجناس شيئان :

أحدهما : أن يجمع اللفظين الاشتقاق كقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الرّوم : الآية ٤٣] ، وقوله تعالى : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة : الآية ٨٩] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» (٣) ، وقول الشافعي رضي الله عنه وقد سئل عن النبيذ : «أجمع أهل الحرمين على تحريمه» ، وقول أبي تمام :

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد (٤)

وقول البحتري :

يعشى عن المجد الغبيّ ولن ترى

في سودد أربا لغير أريب (٥)

وقول محمد بن وهيب :

قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا

فمالك موتور ، وسيفك واتر (٦)

والثاني : أن يجمعهما المشابهة ، وهي ما يشبه الاشتقاق وليس به ، كقوله تعالى : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التّوبة : الآية ٣٨] ، وقوله تعالى : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (١٦٨) [الشّعراء : الآية ١٦٨] ، وقوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرّحمن : الآية ٥٤].

__________________

(١) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٥٠٨٦ ، والبغوي في شرح السنة ١٣ / ٨٦ ، وابن المبارك في الزهد ١٣٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦٩٣ ، والألباني في السلسلة الصحيحة ٩٣٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٢٠٤.

(٢) تقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٦ ، ٥٧ ، والدارمي في السير باب ٧٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٢ ، ١٠٦ ، ١٣٦.

(٤) صدر البيت :

وأنجدتم من بعد إتهام داركم

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ١١٠.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٢٤٧.

(٦) البيت من الطويل ، وهو لمحمد بن وهيب في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٨.


وقول البحتري :

وإذا ما رياح جودك هبّت

صار قول العذول فيها هباء (١)

ومنه : ردّ العجز على الصدر ، وهو في النثر : أن يجعل أحد اللفظين المكررين ، أو المتجانسين ، أو الملحقين بهما ، في أول الفقرة ، والآخر في آخرهما ، كقوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب : الآية ٣٧]. وقولهم : «الحيلة ترك الحيلة» ، وكقولهم : سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل ، وكقوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : الآية ١٠] ، وكقوله تعالى : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشّعراء : الآية ١٦٨].

وفي الشعر : أن يكون أحدهما في آخر البيت ، والآخر في صدر المصراع الأول ، أو حشوه ، أو آخره ، أو صدر الثاني.

فالأول : كقوله :

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي النّدى بسريع (٢)

ونحوه قول الآخر :

سكران : سكر هوى ، وسكر مدامة

أنّى يفيق فتى به سكران؟؟! (٣)

والثاني : كقول الحماسي : [الصمة بن عبد الله]

تمتّع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار (٤)

ونحوه قول أبي تمام :

ولم يحفظ مضاع المجد شيء

من الأشياء كالمال المضاع (٥)

والثالث : كقوله أيضا :

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما (٦)

__________________

(١) البيت من الكامل ، ولم أجده في ديوان البحتري.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للأقيشر الأسدي في تحرير التحبير ١ / ١١٦ ، والدر النفيس.

(٣) البيت من الكامل ، وهو للخليع الدمشقي في يتيمة الدهر ١ / ٢٨٧.

(٤) البيت من الوافر ، وهو للصمة بن عبد الله القشيري في لسان العرب (عرر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٦٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ٣٧٨ ، وتاج العروس (عرر).

(٥) البيت من الوافر ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٢٦٧.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٣٣٦.


والرابع : كقول الحماسي : [ذو الرمة ، غيلان بن عقبة]

وإن لم يكن إلا معرّج ساعة

قليلا ، فإني نافع لي قليلها (١)

والخامس : كقول القاضي الأرجاني :

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكم دعاني (٢)

وقول الآخر :

سل سبيلا فيها إلى راحة النفس

براح كأنها سلسبيل (٣)

وقول الآخر :

ذوائب سود كالعناقيد أرسلت

فمن أجلها منها النفوس ذوائب (٤)

والسادس : كقول الآخر : [عبد الملك بن محمد الثعالبي]

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل (٥)

والسابع : كقول الحريري :

فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنّات المثاني (٦)

والثامن : كقول القاضي الأرجاني :

أمّلتهم ثمّ تأمّلتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح (٧)

والتاسع : كقول البحتري :

ضرائب أبدعتها في السماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا (٨)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة (غيلان بن عقبة) في ديوانه ص ٩٠٦.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١١٦.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٩.

(٤) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لأبي منصور الثعالبي في معاهد التنصيص ٣ / ٢٢٩ ، وبلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٦٩.

(٦) البيت من الوافر ، وهو في مقامات الحريري ص ٥٢١ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٦٩.

(٧) البيت من السريع ، وهو في ديوان القاضي الأرجاني ١ / ٢٩٦ ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٧٠.

(٨) البيت من المتقارب ، وهو بهذا اللفظ ليس في ديوان البحتري ، وفي ديوان البحتري ١ / ١٥١ ، بيت قريب منه ، وهو :

بلونا ضرائب من قد نرى

فما إن رأينا لفتح ضريبا


والعاشر : كقول امرىء القيس :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان (١)

وقول أبي العلاء المعري :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر (٢)

والحادي عشر : كقول الآخر : [عبد الله بن محمد بن عيينة]

فدع الوعيد ؛ فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذّباب يضير؟! (٣)

والثاني عشر : كقول أبي تمام :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر (٤)

ومنه السجع ، وهو : تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد ، وهذا معنى قول السكاكي : «الإسجاع في النثر كالقوافي في الشعر».

وهو ثلاثة أضرب : إن اختلفا في الوزن فهو السجع المطرّف ، كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) [نوح : الآيتان ١٣ ، ١٤].

وإلا فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ ، أو أكثر ما فيها ، مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتّقفية ، فهو الترصيع ، كقول الحريري : «فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه» ، وكقول أبي الفضل الهمذاني : «إن بعد الكدر صفوا ، وبعد المطر صحوا» ، وقول أبي الفتح البستي : «ليكن إقدامك توكّلا ، وإحجامك تأمّلا».

وإلا ؛ فهو السجع المتوازي ، كقوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (١٤) [الغاشية : الآيتان ١٣ ، ١٤] ، وفي دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم : «اللهم إني أدرأ بك في نحورهم ، وأعوذ بك في شرورهم» (٥).

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٩٠ ، وجمهرة اللغة ص ٥٩٦ ، وأساس البلاغة (خزن) ، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة ٢ / ١٧٨.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في سر الفصاحة ص ٢٦٧ ، والمصباح ص ١١٤.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لعبد الله بن محمد بن عيينة المهلبي في معاهد التنصيص ٣ / ٢٢٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٤ / ٨٣.

(٥) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.


وشرط حسن السجع اختلاف قرينتيه في المعنى كما مر ، لا كقول ابن عباد في مهزومين : «طاروا واقين بظهورهم صدورهم ، وبأصلابهم نحورهم» ، قيل : وأحسن السجع ما تساوت قرائنه ، كقوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) [الواقعة : الآيات ٢٨ ـ ٣٠] ، ثم ما طالت قرينته الثانية ، كقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) [النّجم : الآيتان ١ ، ٢] أو الثالثة ، كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٣١) [الحاقّة : الآيتان ٣٠ ، ٣١] ، وقول أبي الفضل الميكالي : «وله الأمر المطاع والشّرف اليفاع ، والعرض المصون ، والمال المضاع».

وقد اجتمعا في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) [العصر : الآيات ١ ـ ٣].

ولا يحسن أن تولى قرينة قرينة أقصر منها كثيرا ؛ لأن السجع إذا استوفى أمده من الأولى لطولها ، ثم جاءت الثانية أقصر منها كثيرا ، يكون كالشيء المبتور ويبقى السامع كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها. والذوق يشهد بذلك ، ويقضي بصحته.

ثم السجع ، إما قصير ، كقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) [المرسلات : الآيتان ١ ، ٢].

أو طويل ، كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤) [الأنفال : الآيتان ٤٣ ، ٤٤].

أو متوسط ، كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) [القمر : الآيتان ١ ، ٢].

ومن لطيف السجع قول البديع الهمذاني (١) من كتاب له إلى ابن فريقون : «كتابي والبحر وإن لم أره ؛ فقد سمعت خبره ، والليث وإن لم ألقه ؛ تصورت خلقه ، والملك العادل وإن لم أكن لقيته ، قد لقيني صيته ، ومن رأى من السيف أثره ، فقد رأى أكثره».

واعلم أن فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز ، موقوفا عليها ؛ لأن الغرض أن يزاوج بينها ، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف ، ألا ترى أنك لو

__________________

(١) هو بديع الزمان الهمذاني ، أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد ، أبو الفضل الحافظ ، سكن خراسان ومات بهراة سنة ٣٩٨ ه‍ ، من تصانيفه : رسائل ، مشهورة ، المقامات. (كشف الظنون ٥ / ٦٩).


وصلت قولهم : «ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت» لم يكن بدّ من إجراء كل من الفاصلتين على ما يقتضيه حكم الإعراب ، فيفوت الغرض من السجع؟ وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها للازدواج في قولهم : «إني لآتيه بالغدايا والعشايا» أي : بالغدوات ؛ فما ظنّك بهم في ذلك؟

وقيل : إنه لا يقال : في القرآن أسجاع ، وإنما يقال : فواصل.

وقيل : السجع غير مختص بالنثر ، ومثاله من الشعر قول أبي تمام :

تجلّى به رشدي ، وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي ، وأورى به زندي (١)

وكذا قول الخنساء :

حامي الحقيقة ، محمود الخليقة

مهديّ الطريقة ، نفّاع ، وضرّار (٢)

وكذا قول الآخر :

ومكارم أوليتها متبرّعا

وجرائم ألغيتها متورّعا (٣)

وهو ظاهر التكلف ، وهذا القائل لا يشترط التقفية في العروض والضرب ، كقوله : [ناصر بن عبد السيد المطرزي]

وزند ندى فواضله وريّ

وزند ربى فضائله نضير (٤)

ومن السجع على هذا القول ما يسمى التشطير ، وهو أن يجعل كل من شطري البيت سجعة مخالفة لأختها ، كقول أبي تمام :

تدبير معتصم بالله ، منتقم

لله ، مرتغب في الله ، مرتقب (٥)

ومنه ما يسمى التصريع ، وهو جعل العروض مقفّاة تقفية الضرب ، كقول أبي فراس : [الحمداني]

بأطراف المثقّفة العوالي

تفرّدنا بأوساط المعالي (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٦٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان الخنساء ص ٧٠.

(٣) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٣.

(٤) البيت من الوافر ، وهو لأبي الفتح المطرزي (ناصر بن عبد السيد) في وفيات الأعيان ٥ / ٢٧ ، ونهاية الأرب ٧ / ١٠٥.

(٥) البيت من البسيط ، وهو في ديوان أبي تمام ١ / ٥٨.

(٦) البيت من الوافر ، وهو في شرح ديوان أبي فراس الحمداني ص ١٣٤.


وهو مما استحسن ، حتى إن أكثر الشعر صرّع البيت الأول منه ولذلك متى خالفت العروض الضرب في الوزن جاز أن تجعل موازنة له إذا كان البيت مصرّعا ، كقول امرىء القيس :

ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

وهل ينعمن من كان في العصر الخالي (١)؟

أتى بعروض الطويل : «مفاعيلن» وذلك لا يصح إذا لم يكن البيت مصرّعا ، ولهذا خطّىء أبو الطيب في قوله :

تفكّره علم ومنطقه حكم

وباطنه دين ، وظاهره ظرف (٢)

ومنه الموازنة ، وهي : أن تكون الفاصلتان متساويتين في الوزن دون التقفية ، كقوله تعالى : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦) [الغاشية : الآيتان ١٥ ، ١٦].

فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثر ما فيها مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن خصّ باسم المماثلة ، كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١٨) [الصّافات : الآية ١١٨] ، وقول أبي تمام :

مها الوحش ، إلّا أنّ هاتا أوانس

قنا الخطّ ، إلّا أن تلك ذوابل (٣)

وقول البحتري :

فأحجم لمّا لم يجد فيك مطعما

وأقدم لمّا لم يجد عنك مهربا (٤)

ومنه القلب ، كقولك : أرض خضراء ، وقول عماد الدين الكاتب للقاضي الفاضل : «سر فلا كبا بك الفرس» وجواب القاضي : «دام علا العماد» ، وقول القاضي الأرجاني :

مودّته تدوم لكل هول

وهل كلّ مودته تدوم؟ (٥)

وفي التنزيل : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) [الأنبياء : الآية ٣٣] ، وفيه : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) [المدثّر : الآية ٣].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٢٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٠ ، والكتاب ٤ / ٣٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٥١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ١١٦.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٢٠٠.

(٥) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١١٩.


ومنه التشريع ، وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى على الوقوف على كل واحدة منهما ، كقول الحريري :

يا خاطب الدنيا الدّنيّة ، إنها

شرك الرّدى ، وقرارة الأكدار (١)

الأبيات ...

ومنه لزوم ما لا يلزم ، وهو أن يجيء قبل حرف الرّويّ وما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في مذهب السجع ، كقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢) [الأعراف : الآيتان ٢٠١ ، ٢٠٢] ، وقوله [تعالى] : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) [الضّحى : الآيتان ٩ ، ١٠].

وقول الشاعر :

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت (٢)

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النّعل زلّت

رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت

وقول الآخر : [أبو العلاء المعري]

يقولون : في البستان للعين لذّة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن (٣)

إذا شئت أن تلقى المحاسن كلّها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن

وقد يكون ذلك في غير الفاصلتين أيضا ، كقول الحريري :

«وما اشتار العسل ، من اختار الكسل».

وأصل الحسن في جميع ذلك ـ أعني القسم اللفظي ـ كما قال الشيخ عبد القاهر ؛ هو أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني ؛ فإن المعاني إذا أرسلت على سجيّتها ، وتركت وما

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في مقامات الحريري ص ١٩٢ ، والمصباح ص ١٧٦.

(٢) الأبيات من الطويل ، والبيت الأول لعبد الله بن الزبير في ملحق ديوانه ص ١٤٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٦٥ ، ولأبي الأسود الدؤلي أو لمحمد بن سعيد أو لعبد الله بن الزبير في سمط اللآلي ص ١٦٦ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٤٧٤.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة في نهاية الأرب ٧ / ١١٣.


تريد ؛ طلبت لأنفسها الألفاظ ، ولم تكتس إلا ما يليق بها ، فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبو الطيب

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها ؛ فالحسن عنك مغيّب (١)

وقد يقع في كلام بعض المتأخرين ما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع على أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ، ويقول ليبين ، ويخيّل إليه أنه إذا جمع عدّة من أقسام البديع في بيت ؛ فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء.

هذا ما تيسر ـ بإذن الله تعالى ـ جمعه وتحريره من أصول الفن الثالث ، وبقيت أشياء يذكرها فيه بعض المصنفين.

١ ـ منها ما يتعين إهماله لأحد سببين :

لعدم دخوله فن البلاغة ، نحو ما يرجع في التحسين إلى الخط دون اللفظ مع أنه لا يخلو من التكلف ، ككون الكلمتين مماثلتين في الخط ، وكون الحروف منقوطة ، ونحو ما لا أثر له في التحسين ، كما يسمى الترديد.

أو لعدم جدواه ، نحو ما يوجد في كتب بعض المتأخرين مما هو داخل فيما ذكرناه ، كما سماه الإيضاح ؛ فإنه في الحقيقة راجع إلى الإطناب ، أو خلط فيه. كما سمّاه حسن البيان.

٢ ـ ومنها ما لا بأس بذكره ؛ لاشتماله على فائدة ، وهو شيئان :

أحدهما : القول في السرقات الشعرية ، وما يتصل بها.

والثاني : القول في الابتداء ، والتخلّص ، والانتهاء.

فعقدنا فيهما فصلين ختمنا بهما الكتاب.

الفصل الأول

القول في السرقات الشعرية وما يتصل بها

اعلم أن اتفاق القائلين إن كان في الغرض على العموم ـ كالوصف بالشجاعة ، والسخاء ، والبلادة ، والذكاء ـ فلا يعدّ سرقة ، ولا استعانة ، ولا نحوهما ؛ فإن هذه أمور

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٣٠.


متقررة في النفوس ، متصورة للعقول ، يشترك فيها الفصيح والأعجم ، والشاعر والمفحم.

وإن كان في وجه الدلالة على الغرض ـ وينقسم إلى أقسام كثيرة منها : التشبيه بما توجد الصفة فيه على الوجه البليغ كما سبق ، ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة ؛ لاختصاصها بمن له الصفة ، كوصف الرجل حال الحرب بالابتسام ، وسكون الجوارح ، وقلّة الفكر ، كقوله : [محرز بن المكعبر الضبي]

كأنّ دنانيرا على قسماتهم

وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء (١)

وكذا وصف الجواد بالتهلّل عند ورود العفاة ، والارتياح لرؤيتهم ، ووصف البخيل بالعبوس ، وقلّة البشر ، مع سعة ذات اليد ، ومساعدة الدهر.

فإن كان مما يشترك الناس في معرفته لاستقراره في العقول والعادات ، كتشبيه الفتاة الحسنة بالشمس والبدر ، والجواد بالغيث والبحر ، والبليد البطيء بالحجر والحمار ، والشجاع الماضي بالسيف والنار ؛ فالاتفاق فيه كالاتفاق في عموم الغرض.

وإن كان مما لا ينال إلا بفكر ، ولا يصل إليه كلّ أحد ، فهذا الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسبق ، وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاصيل وأنّ أحدهما فيه أفضل من الآخر ، وأن الثاني زاد على الأول أو نقص عنه.

وهو ضربان :

أحدهما : ما كان في أصله خاصّيّا غريبا.

والثاني : ما كان في أصله عاميّا مبتذلا ، لكن تصرّف فيه بما أخرجه من كونه ظاهرا ساذجا إلى خلاف ذلك ؛ وقد سبق ذكر أمثلتهما في التشبيه والاستعارة.

إذا عرفت هذا فنقول :

الأخذ والسرقة نوعان : ظاهر ، وغير ظاهر.

أما الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كله إما مع اللفظ كله أو بعضه ، وإما وحده.

فإن كان المأخوذ كله من غير تغيير لنظمه فهو مذموم مردود ؛ لأنه سرقة محضة ، ويسمى نسخا وانتحالا ، كما حكي أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمحرز بن مكعبر الضبي في لسان العرب (قسم) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٤٥٧ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ٤ / ١٦ ، والكامل ١ / ١٠٨ ، ١١٠ ، وتاج العروس (قسم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٨٦ ، وكتاب العين ٥ / ٨٧ ، وجمهرة اللغة ص ٨٥٢ ، وديوان الأدب ١ / ٢٥٢ ، وتهذيب اللغة ٨ / ٤٢٢ ، وأساس البلاغة (دنر) ، (قسم) ، والاشتقاق ١ / ٦٢ ، ٣٩٠.


إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل (١)

ويركب حدّ السيف من أن تضيمه

إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل

فقال له معاوية : لقد شعرت بعدي يا أبا بكر ، ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني ، فأنشد كلمته التي أولها :

لعمرك ما أدري ، وإني لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (٢)

حتى أتى عليها ، وفيها أنشده عبد الله ، فأقبل معاوية على عبد الله ، وقال له : ألم تخبرني أنهما لك؟ فقال : المعنى لي ، واللفظ له ، وبعد فهو أخي من الرضاعة ، وأنا أحق بشعره.

وقد روي لأوس ولزهير في قصيدتهما هذا البيت :

إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا

أصبت حليما ، أو أصابك جاهل (٣)

وقد روي للأبيرد اليربوعي :

فتى يشتري حسن الثّناء بماله

إذا السّنة الشّهباء أعوزها القطر (٤)

ولأبي نواس :

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور (٥)

وقد روي لبعض المتقدمين يمدح معبدا :

أجاد طويس والسّريجيّ بعده

وما قصبات السّبق إلّا لمعبد (٦)

ولأبي تمام :

محاسن أصناف المغنّين جمّة

وما قصبات السّبق إلا لمعبد (٧)

وحكى صاحب الأغاني في أصوات معبد :

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمعن بن أوس في ديوانه ص ٣٩ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٤٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٥١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٢٦ ، ولسان العرب (كبر) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٠٠ ، والمخصص ١٥ / ١٦١.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٩.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦.

(٦) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٧٩.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٢٩.


لهفي على فتية ذلّ الزمان لهم

فما يصيبهم إلّا بما شاؤوا (١)

وفي شعر أبي نواس :

دارت على فتية ذلّ الزمان لهم

فما يصيبهم إلا بما شاؤوا! (٢)

وفي هذا المعنى ما كان التغيير فيه بإبدال كلمة أو أكثر بما يرادفها ، كقول امرىء القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل (٣)

وقول طرفة :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجلّد (٤)

وكقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعلم (٥)

وقول الفرزدق :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعرف (٦)

وكقول حاتم :

ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها (٧)

وقول الأعور :

ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها (٨)

وإن كان مع تغيير لنظمه ، أو كان المأخوذ بعض اللفظ سمّي إغارة ومسخا.

١ ـ فإن كان الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة ـ كحسن السّبك ، أو الاختصار ، أو الإيضاح ، أو زيادة معنى ـ فهو ممدوح مقبول ، كقول بشّار :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٠.

(٢) البيت من البسيط ، وهو في ديوان أبي نواس ص ٨١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٩ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٦٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٢.

(٥) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الفرزدق ٢ / ٣٢.

(٧) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (خيم) ، وتاج العروس (خيم).

(٨) البيت من الطويل ، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.


من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج (١)

وقول سلم الخاسر :

من راقب الناس مات غمّا

وفاز باللذّة الجسور (٢)

فبيت سلم أجود سبكا ، وأخصر. وكقول الآخر :

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا (٣)

وقول ابن نباتة بعده :

خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب (٤)

فبيت ابن نباتة أبلغ ؛ لاختصاصه بزيادة معنى ، وهو الإشارة إلى انهزامهم ، ومن الناس من جعلهما متساويين.

وإن كان الثاني دون الأول في البلاغة فهو مذموم مردود ، كقول أبي تمام :

هيهات ؛ لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل (٥)

وقول أبي الطيب :

أعدى الزّمان سخاؤه ، فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا (٦)

فإن مصراع أبي تمام أحسن سبكا من مصراع أبي الطيب ، أراد أن يقول : «ولقد كان الزمان به بخيلا» فعدل عن الماضي إلى المضارع ؛ للوزن.

فإن قلت : المعنى «إن الزمان لا يسمح بهلاكه».

قلت : السخاء بالشيء هو بذله للغير ، فإذا كان الزمان قد سخا به ، فقد بذله ، فلم يبق في تصريفه حتى يسمح بهلاكه أو يبخل به.

وإن كان مثله فالخطب فيه أهون ، وصاحب الثاني أبعد من المذمة ، والفضل لصاحب الأول ، كقول بشار :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٦٠.

(٢) البيت من مخلع البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي إسحاق إبراهيم الغزي في ريحانة الألبا ص ١٣٣.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨١.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٤٦.

(٦) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٠.


يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا (١)

وقول ابن الشّحنة الموصليّ :

وإنّي امرؤ أحببتكم لمكارم

سمعت بها ، والأذن كالعين تعشق (٢)

وكذا قول القاضي الأرّجانيّ :

لم يبكني إلّا حديث فراقكم

لمّا أسرّ به إليّ مودّعي (٣)

هو ذلك الدّرّ الذي أودعتم

في مسمعي ، ألقيته من مدمعي

وقول جار الله : [الزمخشري]

وقائلة : ما هذه الدّررّ التي

تساقطها عيناك سمطين سمطين (٤)

فقلت : هي الدّرّ الذي قد حشا به

أبو مضر أذني تساقط من عيني

وكقول أبي تمام :

لو حار مرتاد المنيّة ؛ لم يجد

إلا الفراق على النّفوس دليلا (٥)

وقول أبي الطيب :

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا (٦)

واعلم أن من هذا الضرب ما هو قبيح جدا ، وهو ما يدل على السرقة باتفاق الوزن والقافية أيضا ، كقول أبي تمام :

مقيم الظّنّ عندك والأماني

وإن قلقت ركابي في البلاد (٧)

ولا سافرت في الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتي وزادي

وقول أبي الطيب :

وإنّي عنك بعد غد لغاد

وقلبي عن فنائك غير غاد (٨)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان بشار بن برد ص ٢٢٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٣) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٢.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي تمام ٣ / ٢٤٨.

(٦) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٥٩.

(٧) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان أبي تمام ١ / ٣٧٤.

(٨) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ١٣٣.


محبك حيثما اتّجهت ركابي

وضيفك حيث كنت من البلاد

وإن كان المأخوذ المعنى وحده سمّي إلماما وسلخا ، وهو ثلاثة أقسام كذلك : أولها : كقول البحتري :

تصدّ حياء أن تراك بأوجه

أتى الذّنب عاصيها ، فليم مطيعها (١)

وقول أبي الطيب :

وجرم جرّه سفهاء قوم

وحلّ بغير جارمه العذاب (٢)

فإن بيت أبي الطيب أحسن سبكا ، وكأنه اقتبسه من قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : الآية ١٥٥].

وكقول الآخر :

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر (٣)

وقول أبي تمام بعده :

يصدّ عن الدنيا إذا عنّ سودد

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد (٤)

فبيت أبي تمام أخصر وأبلغ ؛ لأن قوله : «ولو برزت في زي عذراء ناهد» زيادة حسنة.

وكقول أبي تمام :

هو الصّنع ؛ إن يجعل فخير ، وإن يرث

فللرّيث في بعض المواضع أنفع (٥)

وقول أبي الطيب :

ومن الخير بطء سيبك عنّي

أسرع السحب في المسير الجهام (٦)

فبيت أبي الطيب أبلغ ؛ لاشتماله على زيادة بيان.

وثانيها : كقول بعض الأعراب :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان البحتري ٢ / ١٣٠١.

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٣٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي سعيد المخزومي في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ٧٢ ، ولأبي علي الحسن في شرح عقود الجمان ١ / ٢١٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ١ / ٣١٧.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٣.

(٦) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢١٠.


وريحها أطيب من طيبها

والطّيب فيه المسك والعنبر (١)

وقول بشار :

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل (٢)

وقول أشجع :

وعلى عدوّك يا بن عمّ محمّد

رصدان : ضوء الصبح ، والإظلام (٣)

فإذا تنبّه ، رعته ، وإذا هدا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

وقول أبي الطيب :

يرى في النوم رمحك في كلاه

ويخشى أن يراه في السّهاد (٤)

فقصّر بذكر السّهاد ؛ لأنه أراد اليقظة ، ليطابق بها النوم ، فأخطأ ؛ إذ ليس كل يقظة سهادا ، وإنما السهاد امتناع الكرى في الليل. وأما المستيقظ بالنهار فلا يسمّى ساهدا.

وكقول البحتري :

وإذا تألّق في النّديّ كلامه ال

مصقول خلت لسانه من عضبه (٥)

وقول أبي الطيب :

كأن ألسنهم في النّطق قد جعلت

على رماحهم في الطّعن خرصانا (٦)

فإن أبا الطيب فاته ما أفاده من البحتري بلفظي «تألّق» و «المصقول» من الاستعارة التخييلية.

وكقول الخنساء :

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلّا وما فيك أفضل (٧)

وقول أشجع : [السلمي]

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٣٥٠.

(٢) البيت من الرمل ، وهو في ديوان بشار ص ١٩٢ (طبعة دار الثقافة).

(٣) البيتان من السريع ، وهما في البيان والتبيين ٢ / ١٨٣.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٣٢.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٣.

(٦) البيت من البسيط ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٢٨.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الخنساء ص ١٠٧ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٠٨.


وما ترك المدّاح فيك مقالة

ولا قال إلّا دون ما فيك قائل (١)

فإن بيت الخنساء أحسن من بيت أشجع ؛ ولما في مصراعه الثاني من التعقيد ؛ إذ تقديره : ولا قال قائل إلا دون ما فيك.

وثالثها : كقول الأعرابي :

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا (٢)

وقول أشجع : [السلمي]

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكنّ معروفه أوسع (٣)

وكذا قول بكر بن النطّاح :

كأنك عند الكرّ في حومة الوغى

تفرّ من الصّفّ الذي من ورائكا (٤)

وقول أبي الطيب :

فكأنه والطّعن من قدّامه

متخوّف من خلفه أن يطعنا (٥)

وكذا قول الآخر يذكر ابنا له مات : [محمد بن عبد الله الضبي]

والصبر يحمد في الموطن كلّها

إلّا عليك ؛ فإنه مذموم (٦)

وقول أبي تمام بعده :

وقد كان يدعى لابس الصّبر حازم

فأصبح يدعى حازما حين يجزع (٧)

وأما غير الظاهر فمنه : أن يتشابه معنى الأول ومعنى الثاني ، كقول الطّرماح بن حكيم الطائي :

لقد زادني حبّا لنفسي أنّني

بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل (٨)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (سوم) ، والإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٩٥.

(٦) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٧) البيت من الطويل ، وهو في ديوان أبي تمام ٢ / ٢٧٨.

(٨) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٤.


وقول أبي الطيب :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأنّي كامل (١)

فإنّ ذمّ الناقص أبا الطيب كبغض من هو غير طائل الطرماح ، شهادة ذمّ الناقص أبا الطيب كزيادة حبّ الطرماح لنفسه.

وكذا قول أبي العلاء المعري في مرثية :

وما كلفة البدر المنير قديمة

ولكنّها في وجهه أثر اللّطم (٢)

وقول القيسراني : [أبو عبد الله محمد بن نصر]

وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا

ألست ترى في وجهه أثر التّرب؟ (٣)

وأوضح من ذلك قول جرير :

فلا يمنعك من أرب لحاهم

سواء ذو العمامة والخمار (٤)

وقول أبي الطيب :

ومن في كفّه منهم قناة

كمن في كفّه منهم خضاب (٥)

ولا يغرك من البيتين المتشابهين أن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاء أو افتخارا أو غير ذلك ، فإن الشاعر الحاذق إذا عمد إلى المعنى المختلس لينظمه تحيّل في إخفائه ، فغيّر لفظه ، وعدل به عن نوعه ووزنه وقافيته.

ومنه النقل ، وهو : أن ينقل معنى الأول إلى غير محله ، كقول البحتري :

سلبوا ؛ وأشرقت الدّماء عليهم

محمرّة ، فكأنهم لم يسلبوا (٦)

نقله أبو الطيب إلى السيف ، فقال :

يبس النّجيع عليه وهو مجرّد

عن غمده ، فكأنّما هو مغمد (٧)

ومنه أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأول ، كقول جرير :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٢٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في سقط الزند ص ٢٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٥.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في ديوان جرير ص ٢٣٧.

(٥) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٣٧.

(٦) البيت من الكامل ، وهو في ديوان البحتري ١ / ٧٦.

(٧) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٩٣.


إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلّهم غضابا (١)

وقول أبي نواس :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٢)

ومنه القلب ، وهو : أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول سمّي بذلك لقلب المعنى إلى نقيضه ، كقول أبي الشّيص : [محمد بن رزين الخزاعي]

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك ، فليلمني اللّوّم (٣)

وقول أبي الطيب :

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة؟

إنّ الملامة فيه من أعدائه (٤)

وكذا قول أبي الطيب أيضا :

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال (٥)

فإنه ناقض به قول أبي تمام :

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السّماع (٦)

وقد تبعه البحتري فقال :

نشوان يطرب للسؤال كأنما

غنّاه مالك طيّىء أو معبد (٧)

ومنه أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه زيادة تحسّنه ، كقول الأفوه الأوديّ :

وترى الطّير على آثارنا

رأي عين أن ستمار (٨)

وقول أبي تمام :

وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدّماء نواهل (٩)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان جرير ص ٧٨ ، وكتاب الصناعتين ص ٢١٦.

(٢) البيت من السريع ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٤٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٢١٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٦.

(٤) البيت من الكامل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٠٣.

(٥) البيت من الخفيف وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٦٧.

(٦) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (نغم).

(٧) البيت من البسيط ، وهو في زهر الآداب ٤ / ١٣٢ ، ١٣٤ ، ١٣٦.

(٨) البيت من الرمل ، وهو في ديوان الأفوه الأودي ص ١٣٠ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٢٥.

(٩) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي تمام ٣ / ٨٢.


أقامت مع الرّايات حتى كأنها

من الجيش ، إلا أنها لم تقاتل

فإن الأفوه أفاد بقوله : «رأي عين» قربها ؛ لأنها إذا بعدت تخيّلت ولم تر ، وإنما يكون قربها توقعا للفريسة ، وهذا يؤكد المعنى المقصود ، ثم قال «ثقة أن ستمار» فجعلها واثقة بالميرة.

وأما أبو تمام فلم يلم بشيء من ذلك ، لكن زاد على الأفوه بقوله : «إلّا أنها لم تقاتل» ثم بقوله : «في الدماء نواهل» ثم بإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش ، وبذلك يتم حسن قوله : «إلا أنها لم تقاتل» وهذه الزيادات حسّنت قوله ، وإن كان قد ترك بعض ما أتى به الأفوه.

وهذه الأنواع ونحوها أكثرها مقبولة.

ومنها ما أخرجه حسن التصرّف من قبيل الأخذ والاتباع إلى حيّز الاختراع والابتداع ، وكلما كان أشد خفاء كان أقرب إلى القبول.

هذا كله إذا علم أن الثاني أخذ من الأول! وهذا لا يعلم إلا بأن يعلم أنه كان يحفظ قول الأول حين نظم قوله ، أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذه منه ؛ لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخواطر ، أي مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الأخذ والسرقة ، كما يحكى عن ابن ميادة أنه أنشد لنفسه : [الرماح بن أبرد]

مفيد ، ومتلاف ، إذا ما أتيته

تهلّل ، واهتزّ اهتزاز المهنّد (١)

فقيل له : أين يذهب بك؟! هذا للحطيئة؟ فقال : الآن علمت أني شاعر ؛ إذ وافقته على قوله ولم أسمعه.

ولهذا لا ينبغي لأحد بتّ الحكم على شاعر بالسرقة ما لم يعلم الحال ؛ وإلا فالذي ينبغي أن يقال : «قال فلان كذا ، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا» فيغتنم به فضيلة الصدق ، ويسلم من دعوى العلم بالغيب ونسبة النقص إلى الغير.

وما يتصل بهذا الفن القول في الاقتباس ، والتضمين ، والعقد ، والحلّ ، والتلميح.

أما الاقتباس فهو : أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث ، لا على أنه منه ، كقول الحريري : «فلم يكن (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ،) حتى أنشد فأغرب» (٢).

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٠.

(٢) انظر الآية ٧٧ من سورة النحل.


وقوله : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) وأميز صحيح القول من عليله» (١).

وقول ابن نباتة الخطيب : «فيا أيها الغفلة المطرقون ، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢).

وقوله أيضا من خطبة أخرى ذكر فيها القيامة : «هنالك يرفع الحجاب ، ويوضع الكتاب ، ويجمع من وجب له الثواب ، وحقّ عليه العقاب ، فيضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» (٣).

وقول القاضي الفاضل وقد ذكر الإفرنج : «وغضبوا زادهم الله غضبا وأوقدوا نارا للحرب جعلهم الله لها حطبا» (٤).

وكقول الحماسيّ : [الأحوص بن محمد الأنصاري]

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحبّ : ميعاد السّلوّ المقابر (٥)

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)(٦)

وقول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني :

لآل فريغون في المكرمات

يد أوّلا ، واعتذار أخيرا (٧)

إذا ما حللت بمغناهم

رأيت نعيما وملكا كبيرا (٨)

وقول الأبيوردي : [أبو مظفر محمد بن أحمد]

وقصائد مثل الرياض أضعتها

في باخل ضاعت به الأحساب (٩)

فإذا تناشدها الرّواة ، وأبصروا

الممدوح قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) (١٠)

__________________

(١) انظر الآية ٤٥ من سورة يوسف.

(٢) انظر الآية ٢٣ من سورة الذاريات.

(٣) انظر الآية ١٣ من سورة الحديد.

(٤) انظر الآية ٦٤ من سورة المائدة.

(٥) البيتان من الطويل ، وهما للأحوص بن محمد الأنصاري في ديوانه ص ١١٨ ، والبيت الثاني في لسان العرب (ضمر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٥ ، وتاج العروس (ضمر) ، والشعر والشعراء ص ٥٢٥ ، والأغاني ٤ / ٢٤٤ ، وبلا نسبة في أمالي القالي ٢ / ١٦٤.

(٦) انظر الآية ٨ من سورة الطارق.

(٧) البيتان من المتقارب ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(٨) انظر الآية ٢٠ من سورة الإنسان.

(٩) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(١٠) انظر الآيتين ٢٣ ـ ٢٤ من سورة غافر.


وقول الآخر :

لا تعاشر معشرا ضلّوا الهدى

فسواء أقبلوا أو أدبروا (١)

بدت البغضاء من أفواههم

والذي يخفون منها أكبر (٢)

وقوله :

خلّة الغانيات خلّة سوء

فاتّقوا الله يا أولي الألباب (٣)

وإذا ما سئلتموهن شيئا

(فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)(٤)

وقول الآخر : [أبو القاسم بن الحسن]

إن كنت أزمعت على هجرنا

من غير ما جرم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (٥)

وإن تبدّلت بنا غيرنا

«ف (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (٦)

وكقول الحريري : «وكتمان الفقر زهادة ، وانتظار الفرج بالصّبر عبادة» ، فإن قوله : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» (٧) لفظ الحديث.

وقوله : «قلنا : شاهت الوجوه ، وقبح اللّكع ومن يرجوه» فإن قوله : «شاهت الوجوه» لفظ الحديث ؛ فإنه روي : لما اشتدّت الحرب يوم حنين أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كفّا من الحصباء ، فرمى بها في وجوه المشركين ، وقال : «شاهت الوجوه» (٨) أي : قبحت.

واللّكع قيل : هو اللئيم ، وقال أبو عبيد : هو العبد.

وكقول ابن عبّاد :

قال لي : إن رقيبي سيّىء الخلق ؛ فداره

قلت : دعني ؛ وجهك الجنّة حفّت بالمكاره (٩)

__________________

(١) الرجز ولم أجده.

(٢) انظر الآية ١١٨ من سورة آل عمران.

(٣) البيتان من الخفيف ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٧.

(٤) انظر الآية ١٠٠ من سورة المائدة ، والآية ٥٣ من سورة الأحزاب.

(٥) البيتان لم أجدهما.

(٦) انظر الآية ١٨ من سورة يوسف ، والآية ١٧٣ من سورة آل عمران.

(٧) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٦٥٠٧ ، ٦٥٠٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٦ ، ٢٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٩.

(٨) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٨١ ، والدارمي في السير باب ١٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٨ ، ٣٦٨ ، ٥ / ٢٨٦ ، ٣١٠.

(٩) البيت من مجزوء الرمل ، ولم أجده.


اقتبس من لفظ الحديث : «حفّت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النار بالشّهوات» (١).

والاقتباس منه ما لا ينقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصليّ إلى معنى آخر ، كما تقدم ، ومنه ما هو بخلاف ذلك ، كقول ابن الرومي :

لئن أخطأت في مدحي

ك ما أخطأت في منعي (٢)

لقد أنزلت حاجاتي

(بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٣)

ولا بأس بتغيير يسير لأجل الوزن أو غيره ، كقول بعض المغاربة عند وفاة بعض أصحابه : [البيت لأبي تمام]

قد كان ما خفت أن يكونا

إنا إلى الله راجعونا (٤)(٥)

وقول عمر الخيّام :

سبقت العالمين إلى المعالي

بصائب فكرة وعلوّ همّه (٦)

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال للضّلالة مدلهمّه

يريد الجاهلون ليطفئوه

ويأبى الله إلا أن يتمه (٧)

وكقول القاضي منصور الهروي الأزدي :

فلو كانت الأخلاق تحوى وراثة

ولو كانت الآراء لا تتشعّب (٨)

لأصبح كلّ النّاس قد ضمّهم هوى

كما أن كلّ الناس قد ضمّهم أب

ولكنها الأقدار ، كلّ ميسّر

لما هو مخلوق له ومقرّب

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١ ، وأبو داود في السنة باب ٢٢ ، والترمذي في الجنة باب ٢١ ، والنسائي في الأيمان باب ٣ ، والدارمي في الرقاق باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٠ ، ٣٣٣ ، ٣٥٤ ، ٣٨٠ ، ٣ / ١٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٨٤.

(٢) البيتان من مجزوء الوافر ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٣) انظر الآية ٣٧ من سورة إبراهيم.

(٤) البيت من مخلع البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٥) انظر الآية ١٥٦ من سورة البقرة.

(٦) الأبيات من الوافر ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.

(٧) انظر الآية ٣٢ من سورة التوبة.

(٨) الأبيات من الطويل ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٨.


اقتبس من لفظ الحديث «اعملوا ، كلّ ميسّر لما خلق له» (١).

وأما التضمين فهو : أن يضمّن الشعر شيئا من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء ، كقول بعض المتأخرين ، قيل : هو ابن التّلميذ الطبيب النصراني : [هبة الله بن صاعد]

كانت بلهنية الشّبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل (٢)

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحلّ ؛ فبات دون المنزل

البيت الثاني لمسلم بن الوليد الأنصاري (٣). وقول عبد القاهر بن طاهر التميمي :

إذا ضاق صدري وخفت العدى

تمثّلت بيتا بحالي يليق (٤)

«فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق»

وقول ابن العميد :

وصاحب كنت مغبوطا بصحبته

دهرا ، فغادرني فردا بلا سكن (٥)

هبت له ريح إقبال ، فطار بها

نحو السرور ، وألجاني إلى الحزن

كأنه كان مطويّا على إحن

ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني

«إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن»

البيت لأبي تمام (٦).

وكقول الحريري :

على أني سأنشد عند بيعي :

«أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا» (٧)

المصراع الأخير ، قيل : «هو للعرجيّ ، وقيل : لأميّة بن أبي الصّلت ، وتمام البيت :

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٢ ، باب ٣ ، ٤ ، ٥ ، والأدب باب ١٢٠ ، والقدر باب ٥٤ ، ومسلم في القدر حديث ٦ ، ٧ ، ٨.

(٢) البيتان من الكامل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٨٩.

(٣) البيت في ديوان مسلم بن الوليد ص ٣٣٨.

(٤) البيتان في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٥١٢.

(٥) الأبيات من البسيط ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٤٣١.

(٦) البيت لم أجده في ديوان أبي تمام شرح التبريزي.

(٧) البيت من الوافر ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.


«ليوم كريهة وسداد ثغر» (١)

ولا حاجة إلى تقديره ؛ لتمام المعنى بدونه.

ومثله قول الآخر :

قد قلت لما اطّلعت وجناته

حول الشّقيق الغضّ روضة آس (٢)

أعذاره السّاري العجول ترفّقا

ما في وقوفك ساعة من باس

المصراع الأخير لأبي تمام. وكقول الآخر :

كنّا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منّا في قذى وأذى (٣)

والآن أقبلت الدّنيا عليك بما

تهوى ، فلا تنسني ، إنّ الكرام إذا

أشار إلى بيت أبي تمام ، ولا بدّ من تقدير الباقي منه ؛ لأن المعنى لا يتم بدونه.

وقد علم بهذا أن تضمين ما دون البيت ضربان.

وأحسن وجوه التضمين : أن يزيد المضمّن في الفرع عليه في الأصل بنكتة ، كالتورية والتشبيه في قول صاحب التحبير (٤) :

إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكّرت ما بين العذيب وبارق (٥)

ويذكرني من قدّها ومدامعي

مجرّ عوالينا ومجرى الوابق

المصراعان الأخيران لأبي الطيب (٦).

__________________

(١) البيت للعرجي في ديوانه ص ٣٤ ، ولسان العرب (سدد) ، (ضيع) ، وتاج العروس (سدد) ، (ضيع) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢ / ٢٧٧ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٦٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٦٠ ، وديوان الأدب ٣ / ٩٠.

(٢) البيتان لأبي العباس محمد بن إبراهيم في المطوّل شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٧٢٦.

(٣) البيتان بلا نسبة في المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ص ٧٢٧.

(٤) صاحب التحبير : هو ابن أبي الإصبع المصري ، عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد القيرواني ثم المصري ، أبو محمد الشاعر المعروف بابن أبي الإصبع ، توفي سنة ٦٥٤ ه‍ ، له من المصنفات : بدائع القرآن ، تحرير التحبير في علم البديع ، خواطر السوانح في أسرار الفواتح ، وغير ذلك. (كشف الظنون ٥ / ٥٨٥).

(٥) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.

(٦) يشير إلى قول المتنبي :

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجرّ عوالينا ومجرى السوابق

والبيت في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٦.


ولا يضر التغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام ، كقول بعض المتأخرين في يهودي به داء الثعلب :

أقول لمعشر غلطوا وغصّوا

عن الشّيخ الرّشيد وأنكروه (١)

هو ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى يضع العمامة تعرفوه

البيت لسحيم بن وثيل ، وأصله :

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني (٢)

وربما سمّي تضمين البيت فما زاد استعانة ، وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعا وتارة رفوا.

وأما العقد فهو : أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس :

١ ـ أما عقد القرآن فكقول الشاعر : [الحسين بن حسن الدمشقي]

أنلني بالذي استقرضت خطّا

وأشهد معشرا قد شاهدوه (٣)

فإن الله خلّاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمّى فاكتبوه (٤)

٢ ـ وأما عقد الحديث فكما روي للشافعي رضي الله عنه :

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهنّ خير البريّه (٥)

اتق المشبهات ، وازهد ، ودع ما

ليس يعنيك ، واعملنّ بنيّه

عقد قوله عليه السّلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات» (٦) ، وقوله عليه السّلام : «ازهد في الدنيا يحبّك الله» وقوله عليه السّلام : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وقوله عليه السّلام : «إنما الأعمال بالنيات».

وأما عقد غيرهما فكقول أبي العتاهية :

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٠.

(٢) تقدم البيت مع تخريجه.

(٣) الأبيات من الوافر ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٤) انظر الآية ٢٨٢ من سورة البقرة.

(٥) البيتان للشافعي في عقود الجمان ٢ / ١٩١.

(٦) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩ ، والبيوع باب ٢ ، ومسلم في المساقاة حديث ١٠٧ ، ١٠٨.


ما بال من أوله نطفة

وجيفة آخره يفخر؟ (١)

عقد قول علي رضي الله عنه : «وما لابن آدم والفخر ، وإنما أوله نطفة ، وآخره جيفة».

وقوله أيضا :

كفى حزنا بدفنك ، ثم إني

نفضت تراب قبرك عن يديّا (٢)

وكانت في حياتك لي عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

قيل : عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر لما مات : «كان الملك أمس أنطق منه اليوم ، وهو اليوم أوعظ منه أمس» وقيل : هو قول الموبذ لما مات قباذ الملك.

وقوله الآخر :

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

فاربع ؛ فخير فعال المرء أعدله (٣)

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

عقد قول ابن عباس رضي الله عنهما : «لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي».

وقول الآخر :

البس جديدك إني لابس خلقي

ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا (٤)

عقد المثل : «لا جديد لمن لا خلق له» قالته عائشة رضي الله عنها وقد وهبت مالا كثيرا ، ثم أمرت بثوب لها أن يرقع ، يضرب في الحثّ على استصلاح المال.

وأما الحل فهو : أن ينثر نظم.

وشرط كونه مقبولا شيئان :

أحدهما : أن يكون سبكه مختارا ، لا يتقاصر عن سبك أصله.

والثاني : أن يكون حسن الموقع ، مستقرّا في محلّه ، غير قلق ، وذلك كقول بعض المغاربة : «فإنه لما قبحت فعلاته ، وحنظلت نخلاته ؛ لم يزل سوء الظنّ يقتاده ، ويصدّق توهّمه الذي يعتاده» حلّ قول أبي الطيب :

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٢) البيتان من الطويل ، ولم أجدهما.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.

(٤) البيت من البسيط ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩١.


إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم (١)

وكقول صاحب «الوشي المرقوم ، في حلّ المنظوم» (٢) يصف قلم كاتب : «فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدّول ، وغنيت به عن الخيل والخول ، وقالت : أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام لا على الأسل» حلّ قول أبي الطيب أيضا :

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل (٣)

وكقول بعض كتاب العصر في وصف السيف : «أورثه عشق الرّقاب نحولا ؛ فبكى والدّمع مطر تزيد به الخدود محولا» حلّ قول أبي الطيب أيضا :

في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا (٤)

وأما التلميح فهو : أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره.

فالأول : كقول ابن المعتز :

أترى الجيرة الذين تداعوا

عند سير الحبيب وقت الزّوال (٥)

علموا أنني مقيم وقلبي

راحل فيهم أمام الجمال

مثل صاع العزيز في أرحل القو

م ولا يعلمون ما في الرّحال

وقول أبي تمام :

لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع (٦)

فردّت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع

نضا ضوؤها صبغ الدّجنّة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزّع

فو الله ما أدري : أأحلام نائم

ألمّت بنا ، أم كان في الرّكب يوشع

أشار إلى قصة يوشع بن نون ، فتى موسى عليهما السّلام ، واستيقافه الشمس فإنه

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٢.

(٢) صاحب «الوشي المرقوم في حل المنظوم» : هو ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري ، المتوفى سنة ٦٣٧ ه‍. (كشف الظنون ٢ / ٢٠١٢).

(٣) البيت بتمامه :

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل

والطعن عند محبيهن كالقبل

وهو من البسيط ، انظر ديوان المتنبي ٢ / ٢٢.

(٤) البيت من الوافر ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٨٩.(٥) الأبيات من الخفيف ، وهي في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٢.

(٦) الأبيات لأبي تمام ، في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ٢ / ٥٢٠.


روي أنه قاتل الجبّارين يوم الجمعة ، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ، ويدخل السبت ؛ فلا يحلّ له قتالهم ؛ فدعا الله ، فردّ له الشمس حتى فرغ من قتالهم.

والثاني : كقول الحريري : «وإني والله لطالما تلقّيت الشّتاء بكافاته وأعددت له الأهب قبل موافاته» أشار إلى قول ابن سكّرة : [محمد بن عبد الله الهاشمي]

جاء الشتاء وعندي من حوائجه

سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا (١)

كنّ ، وكيس ، وكانون ، وكأس طلا

بعد الكباب ، وكسّ ناعم ، وكسا

وقوله أيضا : «بتّ بليلة نابغيّة» أومأ به إلى قول النابغة :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع (٢)

وقول غيره :

لعمرو مع الرّمضاء والنار تلتظي

أرقّ وأحفى منك في ساعة الكرب (٣)

أشار إلى البيت المشهور :

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنار (٤)

ومن التلميح ضرب يشبه اللّغز ، كما روي أن تميميا قال لشريك النميري : «ما في الجوارح أحبّ من البازي» فقال : «إذا كان يصيد القطا». أشار التميميّ إلى قول جرير :

أنا البازي المطلّ على نمير

أتيح من السماء لها انصبابا (٥)

وأشار شريك إلى قول الطرماح :

تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا

ولو سلكت طرق المكارم ضلّت (٦)

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٣.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي تمام في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٨.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لابن دريد في تاج العروس (دعص) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (دعص) ، وجمهرة اللغة ص ٦٥٣.

(٥) البيت من الوافر ، وهو في ديوان جرير ص ٧٢.

(٦) البيت من الطويل ، وهو في ديوان الطرماح بن حكيم ص ٣٦.


الفصل الثاني

ينبغي للمتكلم أن يتأنّق في ثلاثة مواضع من كلامه ، حتى تكون أعذب لفظا ، وأحسن سبكا ، وأصحّ معنى.

الأول : الابتداء ، لأنه أوّل ما يقرع السمع ، فإن كان كما ذكرنا أقبل السامع على الكلام ، فوعى جميعه ؛ وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه وإن كان في غاية الحسن.

فمن الابتداءات المختارة قول امرىء القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (١)

وقول النابغة :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (٢)

وقول أبي الطيب :

أتظنّني من زلّة أتعتّب؟!

قلبي أرقّ عليك ممّا تحسب (٣)

وقوله :

أرقك ، أم ماء الغمامة ، أم خمر؟

بفيّ برود ، وهو في كبدي جمر (٤)

وقوله :

فراق ، ومن فارقت غير مذمّم

وأمّ ، ومن يمّت خير ميمّم (٥)

وقوله :

أتراها لكثرة العشّاق

تحسب الدّمع خلقة في المآقي؟ (٦)

وقول الآخر :

__________________

(١) عجز البيت :

بسقط اللّوى بين الدخول فحومل

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص ٤٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢٩.

(٤) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٠٧.

(٥) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ٢٢١.

(٦) البيت من الخفيف ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ٢٧٦.


زمّوا الجمال ؛ فقل للعاذل الجاني :

لا عاصم اليوم من مدرار أجفاني (١)

وينبغي أن يجتنب في المديح ما يتطيّر به ؛ فإنه قد يتفاءل به الممدوح أو بعض الحاضرين ، كما روي أن ذا الرّمّة أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته البائيّة :

ما بال عينك منها الماء ينسكب؟! (٢)

فقال هشام : بل عينك.

ويقال : إن ابن مقاتل الضرير أنشد الداعي العلويّ قصيدته التي أولها :

موعد أحبابك بالفرقة غد (٣)

فقال له الداعي : (بل) موعد أحبابك ، ولك المثل السّوء.

وروي أيضا أنه دخل عليه في يوم مهرجان وأنشد :

لا تقل : بشرى ، ولكن بشريان

غرّة الدّاعي ، ويوم المهرجان (٤)

فتطيّر به وقال : أعمى يبتدىء بهذا يوم المهرجان؟! وقيل : بطحه وضربه خمسين عصا ، وقال : إصلاح أدبه أبلغ في ثوابه.

وقيل : لما بنى المعتصم بالله قصره بالميدان ، وجلس فيه ؛ أنشده إسحاق الموصلي :

يا دار غيّرك البلى ، ومحاك

يا ليت شعري ما الّذي أبلاك (٥)؟

فتطيّر المعتصم بهذا الابتداء ، وأمر بهدم القصر.

ومن أراد ذكر الدّيار والأطلال في مديح فليقل مثل قول القطامي :

إنا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل (٦)

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) عجز البيت :

كأنه من كلى مفريّة سرب

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٩ ، ولسان العرب (سرب) ، (غرف) ، (عجل) ، وجمهرة اللغة ص ٣٠٩ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٥٥ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٩٤٢ ، والمخصص ٧ / ١٢٨.

(٣) الرجز بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٣.

(٤) البيت من الرمل ، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٢٩٣.

(٥) البيت من الكامل ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٤٣٢.

(٦) عجز البيت :

وإن بليت وإن طالت بك الطّيل ـ


أو مثل قول أشجع السلمي :

قصر عليه تحيّة وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام (١)

وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود ، ويسمى براعة الاستهلال ، كقول أبي تمام يهنّىء المعتصم بالله بفتح عموريّة ، وكان أهل التنجيم زعموا أنها لا تفتح في ذلك الوقت :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب (٢)

بيض الصّفائح ، لا سود الصّحائف ، في

متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب

وقول أبي محمد الخازن يهنّىء ابن عبّاد بمولود لبنته :

بشرى ؛ فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا (٣)

وقول الآخر :

أبشر ؛ فقد جاء ما تريد

أباد أعداءك المبيد (٤)

وكقول أبي الفرج الساويّ يرثي بعض الملوك من آل بويه ـ أظنّه فخر الدولة :

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي (٥)

وكذا قول أبي الطيب يرثي أمّ سيف الدولة :

نعدّ المشرفيّة للعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال (٦)

ونرتبط السوابق مقربات

وما ينجين من خبب اللّيالي

الثاني : التخلص ، ونعني به الانتقال مما شبب الكلام به من تشبيب أو غيره إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما ؛ لأن السامع يكون مترقّبا للانتقال من التشبيب المقصود! كيف يكون؟ فإذا كان حسنا متلائم الطرفين حرّك من نشاط السامع ، وأعان على إصغائه إلى ما بعده ، وإن كان بخلاف ذلك كان الأمر بالعكس. فمن التخلّصات المختارة قول أبي تمام :

__________________

ـ والبيت من البسيط ، وهو في ديوان القطامي ص ٢٣ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٨ ، وديوان الأدب ٣ / ٤٣٨.

(١) البيت من الكامل ، وهو في كتاب الصناعتين ص ٤٣٣.

(٢) البيتان من البسيط ، وهما في ديوان أبي تمام ١ / ٤٠.

(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٩.

(٤) البيت من السريع. ولم أجده.

(٥) البيت من الوافر ، وهو للساوي في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٢٩.

(٦) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان المتنبي ٢ / ١٢.


بقول في قومس قومي ، وقد أخذت

منّا السّرى وخطا المهريّة القود (١) :

أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا؟

فقلت : كلّا ، ولكن مطلع الجود

وقول مسلم بن الوليد :

أجدّك ما تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك ينشر (٢)؟

سهرت بها حتى تجلّت بغرّة

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر

وقول أبي الطيب يمدح المغيث العجليّ :

مرّت بنا بين تربيها ، فقلت لها :

من أين جانس هذا الشّادن العربا (٣)؟!

فاستضحكت ، ثم قالت : كالمغيث يرى

ليث الشّرى ، وهو من عجل إذا انتسبا

وقوله أيضا :

خليليّ ، ما لي؟! لا أرى غير شاعر

فكم منهم الدّعوى ومنّي القصائد (٤)؟

فلا تعجبا ؛ إن السيوف كثيرة

ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد

وقد ينتقل من الفن الذي شبّب الكلام به إلى ما لا يلائمه ، ويسمّى ذلك الاقتضاب ، وهو مذهب العرب الأول ، ومن يليهم من المخضرمين ، كقول أبي تمام :

لو أرى الله أن في الشّيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا (٥)

كلّ يوم تبدي صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد غريبا

ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلّص ، كقول القائل بعد حمد الله : «أما بعد» قيل : وهو فصل الخطاب.

وكقوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (٥٥) [ص : الآية ٥٥] أي : الأمر هذا ، أو هذا كما ذكر.

وقوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٩) [ص : الآية ٤٩].

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما في ديوان أبي تمام ٢ / ١٣٢.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان مسلم بن الوليد ص ٣١٦ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٩٩ ، وزهر الآداب ٣ / ١٦ ، ومعاهد التنصيص ص ٦٢٨.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ١٤١ ، ١٤٢.

(٤) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان المتنبي ٢ / ٧٠.

(٥) البيتان من الخفيف ، وهما في ديوان أبي تمام ١ / ١٢٠.


ونحوه قول الكاتب : هذا باب ، هذا فصل.

الثالث : الانتهاء ، لأنه آخر ما يعيه السمع ، ويرتسم في النفس ، فإن كان مختارا كما وصفنا جبر ما عساه وقع فيما قبله من التقصير ، وإن كان غير مختار كان بخلاف ذلك ، وربما أنسى محاسن ما قبله.

فمن الانتهاءات المرضية قول أبي نواس :

فبقيت للعلم الذي تهدي له

وتقاعست عن يومك الأيام (١)

وقوله :

وإني جدير ـ إذ بلغتك ـ بالمنى

وأنت بما أمّلت منك جدير (٢)

فإن تولني منك الجميل فأهله

وإلّا فإني عاذر وشكور

وقول أبي تمام في خاتمة قصيدة فتح عمّوريّة :

إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة ، أو ذمام غير مقتضب (٣)

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النّسب

أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه ، وجلّت أوجه العرب

وأحسن الانتهاءات ما آذن بانتهاء الكلام ، كقول الآخر :

بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله

وهذا دعاء للبريّة شامل (٤)

وقوله :

فلا حطّت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا (٥)

وجميع فواتح السّور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البلاغة وأكملها ، يظهر ذلك بالتأمّل فيها ، مع التدبّر لما تقدّم من الأصول.

تمّ الكتاب بحمد الله

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦ ، ولفظ البيت في الديوان :

فسلمت للأمر الذي ترجى له

وتقاعست عن يومك الأيام

(٢) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان أبي نواس ص ١٨٦.

(٣) الأبيات من البسيط ، وهي في ديوان أبي تمام ١ / ٤٢.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لأبي العلاء المعري في الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم ١ / ١٣٠ ، ٢ / ٥٣٠.

(٥) البيت من الوافر ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٤٣.


الفهارس العامة

١ ـ فهرس الآيات القرآنية

٢ ـ فهرس الأشعار

٣ ـ فهرس أنصاف وأجزاء الأبيات

٤ ـ فهرس المحتويات



فهرس الآيات القرآنية

رقم الآية

الآية

الصفحة

١ ـ سورة الفاتحة

٢

 (الحمد لله)

٦٩

 (ربّ العالمين)

 ٦٩

٣

(الرّحمن الرّحيم)

 ٦٩

٥

(ملك يوم الدّين)

٦٩

٤ ، ٥

(ملك يوم الدّين (٤) إيّاك نعبد)

 ٦٨

٦

(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)

 ٩٤

٦ ، ٧

(اهدنا الصّرط المستقيم (٦) صرط الّذين أنعمت عليهم)

 ٥٤

(اهدنا الصّرط المستقيم)

 ٢١٣

٢ ـ سورة البقرة

١ ، ٢

 (الم (١) ذلك الكتب لا ريب فيه هدى لّلمتّقين) (٢)

 ١٢١

(ذلك الكتب لا ريب فيه هدى لّلمتّقين)

 ١٢١

 (ذلك الكتب)

 ١٢٢

 (لا ريب فيه)

 ٣١ ، ٨٨

 (هدى لّلمتّقين)

٨٥ ، ١٢١ ، ١٤٤ ، ٢٤٨


رقم الآية

الآية

الصفحة

٣

(الّذين يؤمنون بالغيب)

 ٢٤٨

٤

(وبالأخرة هم يوقنون)

 ٩٥

٥

(أولئك على هدى مّن رّبّهم وأولئك هم المفلحون)

 ٤٦

٦

(إنّ الّذين كفروا سوآء عليهمءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

 ١٢٢ ، ١٢٨

٧

(وعلى أبصرهم غشوة)

 ٤٩

٨

(ءامنّا بالله)

 ٢٦٤

(ءامنّا بالله وباليوم الأخر)

 ٨٧

(وما هم بمؤمنين)

 ٨٧

١١

(وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون (١١) ألا إنّهم هم المفسدون) (١٢)

(قيل)

 ٢٥٢

(إنّما نحن مصلحون)

 ١٠٤

١٢

(ألا إنّهم هم المفسدون)

 ١٠٤ ، ١١٩ ، ١٢٤

١٣

(وإذا قيل لهمءامنوا كمآءامن النّاس قالوا أنؤمن كمآءامن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لّا يعلمون)

 ١١٩

(ألا إنّهم هم السّفهاء)

 ١٢٤

١٤

(وإذا لقوا الّذينءامنوا قالواءامنّا وإذا خلوا إلى شيطينهم قالوا إنّا معكم)

 ٨٧

(إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون)

 ١٢١

(إنّا معكم)

 ١١٩ ، ١٢١

(إنّما نحن مستهزءون)

 ٨٤ ، ١٢١

(وإذا خلوا إلى شيطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون)

 ١١٩ ـ ١٢٠

(وإذا خلوا إلى شيطينهم)

 ١٢٠

١٥

(الله يستهزئ بهم)

 ٨٤ ، ١١٩ ، ١٢٤


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٦

(أولئك الّذين اشتروا الضّللة بالهدى فما ربحت تّجرتهم)

 ٢٢٨

(فما ربحت تّجرتهم)

 ٣٨

١٧

(مثلهم كمثل الّذى استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمت لّا يبصرون)

 ١٩١

(مثلهم كمثل الّذى استوقد نارا)

 ١٩٥ ، ٢٠١ ، ٢٣٤

(كمثل الّذى استوقد نارا)

 ٢٤١

١٨

(صمّ بكم عمى فهم لا يرجعون)

 ١٦٤

(صمّ بكم عمى)

 ٤٠

١٩

(أو كصيّب مّن السّماء)

 ٢٤١

٢١

(يأيّها النّاس اعبدوا ربّكم الّذى خلقكم والّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون)

 ٨١

(يأيّها النّاس)

 ١٢٧

٢٢

(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)

 ٩٢ ، ١٣٥

٢٣

(وإن كنتم فى ريب مّمّا نزّلنا على عبدنا)

 ٨١

(فأتوا بسورة مّن مّثله)

 ١١٦

٢٤

(فاتّقوا)

 ١٢٧

٢٥

(وبشّر الّذينءامنوا)

 ١٢٧

٢٦

(ما ذا أراد الله بهذا مثلا)

 ٤٥

٢٨

(كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا فأحيكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون)

 ١١٦

٣٤

(فسجدوا إلّا إبليس)

 ٨١

٣٦

(ولكم فى الأرض مستقرّ ومتع إلى حين)

 ٨٨

٤٤

(أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتب)

 ١١٦

٤٩

(مّنءال فرعون)

 ٩٦


رقم الآية

الآية

الصفحة

٥٤

(فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لّكم عند بارئكم فتاب عليكم)

 ١٤٩

٥٧

(وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا)

 ١٢٧

٥٩

(فبدّل الّذين ظلموا قولا غير الّذى قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا)

 ٦٧

٦٠

(فقلنا اضرب بّعصاك الحجر فانفجرت)

 ١٤٩

٧٣

(فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى)

 ١٤٩

٧٩

(فويل لّهم مّمّا كتبت أيديهم وويل لّهم مّمّا يكسبون)

 ٨٤

٨٣

(وبالولدين إحسانا)

 ١٢٧

(لا تعبدون)

 ١٢٧

٩٦

(ولتجدنّهم أحرص النّاس على حيوة)

 ٥٠

٩٨

(من كان عدوّا لّلّه وملئكته ورسله وجبريل وميكل)

 ١٥٣

١٠٢

(ولقد علموا لمن اشترئه ما له فى الأخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)

 ٢٧

١٣٣

(ما تعبدون من بعدى)

 ١١٠

١٣٦

(قولوا)

 ١٢٧

١٣٨

(صبغة الله)

 ٢٦٤

١٤٣

(لّتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا)

 ٩٥

١٤٥

(ولئن اتّبعت أهواءهم مّن بعد ما جاءك من العلم إنّك إذا لّمن الظّلمين)

 ٨٣

١٧٢

(إن كنتم إيّاه تعبدون)

 ٩٥

١٧٣

(إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم)

 ١٠١

١٧٧

(وءاتى المال على حبّه)

 ١٥٨

١٧٩

(ولكم فى القصاص حيوة)

 ٥١ ، ٨٢ ، ١٤٣


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٧٩

(لعلّكم تتّقون)

 ٨١

١٨٧

(ولا تبشروهنّ وأنتم عكفون فى)

 ١٣٥

(هنّ لباس لّكم وأنتم لباس لّهنّ)

 ١٨٦ ، ٢٦٦

١٨٩

(يسئلونك عن الأهلّة قل هى موقيت للنّاس والحجّ)

 ٧١

١٩٤

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)

 ٢٠٧

١٩٦

(تلك عشرة كاملة)

 ١٦١

٢٠٩

(فإن زللتم مّن بعد ما جاءتكم البيّنت)

 ٨٣

٢١٠

(هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله فى ظلل مّن الغمام)

 ١٥٠

٢١١

(سل بنى إسرءيل كمءاتينهم مّنءاية بيّنة)

 ١١١

٢١٤

(حتّى يقول الرّسول والّذينءامنوا معه متى نصر الله)

 ١١٢

٢١٥

(يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم مّن خير فللولدين والأقربين واليتمى والمسكين وابن السّبيل)

 ٧١

٢٢٢

(فأتوهنّ من حيث أمركم الله إنّ الله يحبّ التّوّبين ويحبّ المتطهّرين)

 ١٦٠

(فأتوهنّ من حيث أمركم الله)

 ١٦٠

٢٢٣

(وبشّر المؤمنين)

 ١٢٧

(فأتوا حرثكم أنّى شئتم)

 ١١٢

٢٣٨

(حفظوا على الصّلوات والصّلوة الوسطى)

 ١٥٣

٢٤٥

(والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون)

 ١١٩

٢٧٥

(إنّما البيع مثل الرّبوا)

 ١٨٤

٢٨٦

(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)

 ٢٥٦

٣ ـ سورة آل عمران

٢١

(فبشّرهم بعذاب أليم)

 ٢٢٠ ، ٢٢٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

٢٣

(الّذين أوتوا نصيبا مّن الكتب)

 ١٦٠

٢٦

(تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشآء)

 ٢٥٥

٣٦

(وليس الذّكر كالأنثى)

 ٤٧

(قالت ربّ إنّى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذّكر كالأنثى وإنّى سمّيتها مريم)

 ١٦٠

(والله أعلم بما وضعت وليس الذّكر كالأنثى)

 ١٦٠

٣٧

(أنّى لك هذا)

 ١١٢

٤٠

(أنّى يكون لى غلم وقد بلغنى الكبر)

 ١٣٣

٤٧

(بشر)

 ١٢٧

٥٤

(ومكروا ومكر الله)

 ٢٠٨

٥٩

(إنّ مثل عيسى عند الله كمثلءادم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)

 ٨٥

٦٢

(وما من إله إلّا الله)

 ١٠٣

٧٥

(ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)

 ٥٧

٩٢

(لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)

 ١٥٨

١٠٤

(ولتكن مّنكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)

 ١٥٣

١٠٧

(وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم ففى رحمة الله)

 ٢٠٩

١١١

(وإن يقتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون)

 ٨٣

١١٨

(إن كنتم تعقلون)

 ١١٠

١٤٤

(وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل)

 ١٠٣

١٥٨

(لإلى الله تحشرون)

 ٩٥

١٥٩

(فبما رحمة مّن الله لنت لهم)

 ٢٤١


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٥٩

(فإذا عزمت فتوكّل على الله)

 ٦٧

١٦٧

(لو نعلم قتالا لّاتّبعنكم)

 ١٥١

١٧٤

(فانقلبوا بنعمة مّن الله وفضل لّم يمسسهم سوء)

 ١٣٤

٤ ـ سورة النساء

٢

(وءاتوا اليتمى أموالهم)

 ٢٠٩

١٠

(إنّما يأكلون فى بطونهم نارا)

 ٢٠٩

١١

(ولأبويه لكلّ واحد مّنهما السّدس)

 ٤٢

٢٣

(حرّمت عليكم أمّهتكم)

 ١٥٠

٤٤ ـ ٤٦

(ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبا مّن الكتب يشترون الضّللة ويريدون أن تضلّوا السّبيل (٤٤) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليّا وكفى بالله نصيرا (٤٥) مّن الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مّواضعه)

 ١٦٠

٥٤

(والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليّا وكفى بالله نصيرا)

 ١٦٠

٥٩

(تؤمنون)

 ١٢٧

٦٤

(ولو أنّهم إذ ظّلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرّسول)

 ٧٠

٦٥

(لا يؤمنون)

 ١٢٢

٧٩

(وأرسلنك للنّاس رسولا)

 ٩٥

٨٠

(مّن يطع الرّسول فقد أطاع الله)

 ٦١

٨٣

(وإذا جاءهم أمر مّن الأمن)

 ٢٩٢

٩٠

(أو جاءوكم حصرت صدورهم)

 ١٣٣

١٦٠

(حرّمنا عليهم طيّبت أحلّت لهم)

 ١٤٥

١٧١

(ولا تقولوا ثلثة)

 ٧٦

(إنّما الله إله وحد)

 ٧٦


رقم الآية

الآية

الصفحة

٥ ـ سورة المائدة

٣

(حرّمت عليكم الميتة)

 ١٤٥

(حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير)

 ١٥٠

٨

(اعدلوا هو أقرب للتّقوى)

 ١٥ ، ٤٢

١٦

(ويخرجهم مّن الظّلمت إلى النّور)

 ١٦٩

١٨

(قل فلم يعذّبكم بذنوبكم)

 ٢٧٧

٣٧

(يريدون أن يخرجوا من النّار وما هم بخرجين منها)

 ٨٧

٤٤

(فلا تخشوا النّاس واخشون)

 ٢٥٧

٥٤

(فسوف يأتى الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكفرين)

 ١٥٧

٥٩

(يأهل الكتب هل تنقمون منّا إلّا أنءامنّا بالله وما أنزل)

 ٢٨٢

٦١

(وإذا جاءوكم قالواءامنّا وقد دّخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به)

 ٥٧

٧٣

(لّقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلثة)

 ٧٦

٨٤

(وما لنا لا نؤمن بالله)

 ١٣٢

١١٦

(تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك)

 ٢٦٣

(ءأنت قلت للنّاس اتّخذونى وأمّى إلهين من دون الله)

 ١٠٥

١١٧

(ما قلت لهم إلّا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربّى وربّكم)

 ١٠٥

١١٨

(إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)

 ٢٦٢

(وإن تغفر لهم)

 ٢٦٢

٦ ـ سورة الأنعام

٢٦

(وهم ينهون عنه وينئون عنه)

 ٢٩١

٢٧

(ولو ترى إذ وقفوا على النّار)

 ١٤٧

٣٠

(ولو ترى إذ وقفوا على ربّهم)

 ١٤٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

٣٦

(إنّما يستجيب الّذين يسمعون)

 ١٠٢

٣٨

(وما من دابّة فى الأرض ولا طئر يطير بجناحيه)

 ٥٢

٣٩

(من يشإ الله يضلله)

 ٩٠

٤٠

(أغير الله تدعون)

 ١١٣

٥٢

(ما عليك من حسابهم مّن شىء وما من حسابك عليهم مّن شىء)

 ٢٦٦

٦٨

(وإذا رأيت الّذين يخوضون فىءايتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا فى حديث غيره)

 ١٤٣

٧٣

(كن فيكون)

 ٨٥

٧٦

(فلمّا أفل قال لا أحبّ الأفلين)

 ٢٧٧

٨٩

(أولئك الّذينءاتينهم الكتب والحكم والنّبوّة)

 ٤٧

٩٣

(ومن أظلم ممّن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلىّ ولم يوح إليه شىء)

 ١٣٣

١٠٠

(وجعلوا لله شركاء)

 ٩٧

(وجعلوا لله شركاء الجنّ)

 ٧٧

١٠٣

(لّا تدركه الأبصر وهو يدرك الأبصر وهو اللّطيف الخبير)

 ٢٦١

١١٠

(ونذرهم فى طغينهم يعمهون)

 ١٣١

١٢٢

(أو من كان ميتا فأحيينه)

 ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، ٢٥٦

١٣٨

(وأنعم حرّمت ظهورها)

 ١٤٥

١٤٣

(قلءآلذّكرين حرّم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين)

 ١١٤

١٤٩

(فلو شاء لهدئكم أجمعين)

 ٩٠

١٥١

(ولا تقتلوا أولادكم مّن إملاق نّحن نرزقكم وإيّاهم)

 ٩٦

٧ ـ سورة الأعراف

٤

(وكم مّن قرية أهلكنها)

 ٢٠٩


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤

(وكم مّن قرية أهلكنها فجآءها بأسنا)

 ٧٣

١٢

(ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك)

 ٢١٠

٢٦

(يبنىءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يورى سوءتكم وريشا ولباس التّقوى ذلك خير ذلك منءايت الله لعلّهم يذّكّرون)

 ٢٦٥

٢٧

(ينزع عنهما لباسهما)

 ٣٧

٣١

(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)

 ١٢٧

٤٨

(ونادى أصحب الأعراف)

 ٧١

٥٠

(ونادى أصحب النّار)

 ٧١

٥٣

(فهل لّنا من شفعاء فيشفعوا لنا)

 ١٠٨

٨٨

(لنخرجنّك يشعيب والّذينءامنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ فى ملّتنا)

 ٨١

٨٩

(إن عدنا فى ملّتكم)

 ٨١

١٢٦

(وما تنقم منّا إلّا أنءامنّا بايت ربّنا لمّا جاءتنا)

 ٢٨٢

١٣١

(فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يطّيّروا بموسى ومن مّعه)

 ٨٠

١٤٣

(أرنى أنظر إليك)

 ٩٢

١٤٩

(ولمّا سقط فى أيديهم)

 ٢٤٤

١٥٤

(ولمّا سكت عن مّوسى الغضب)

 ٢٣٢

١٥٥

(أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا)

 ٣٠٧

١٦٦

(كونوا قردة خسئين)

 ١١٧

١٦٨

(وقطّعنهم فى الأرض أمما)

 ٢٢١

١٧١

(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلّة)

 ١٨١

١٧٩

(لهم قلوب لّا يفقهون بها)

 ٢٣٤

١٩٣

(سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون)

 ٨٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٩٦

 (إنّ ولىّ الله الّذى نزّل الكتب وهو يتولّى الصّلحين)

 ٥٨

١٩٩

(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين)

 ١٤٤

(وأمر بالعرف)

 ١٤٥

(وأعرض عن الجهلين)

 ١٤٥

٢٠١ ، ٢٠٢

(فإذا هم مّبصرون (٢٠١) وإخوانهم يمدّونهم فى الغىّ ثمّ لا يقصرون) (٢٠٢)

٣٠٠

٢٠١ (فإذا هم مّبصرون)

 ٢٢٥

٨ ـ سورة الأنفال

٢

(وإذا تليت عليهمءايته زادتهم إيمانا)

 ٣٦

٨

(ليحقّ الحقّ ويبطل البطل)

 ١٤٩

١٧

(وما رميت إذ رميت)

 ٢٧

٣٨

(وإن يعودوا فقد مضت سنّت الأوّلين)

 ١٥٠

٤٣ ، ٤٤

(إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أرئكهم كثيرا لّفشلتم ولتنزعتم فى الأمر ولكنّ الله سلّم إنّه عليم بذات الصّدور (٤٣) وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ويقلّلكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) (٤٤)

٢٩٧

٥٥

(إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الّذين كفروا فهم لا يؤمنون)

 ٥٩

٩ ـ سورة التّوبة

١٢

(وإن نّكثوا أيمنهم مّن بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمن لهم لعلّهم ينتهون)

 ٢٧

٥٣

(أنفقوا طوعا أو كرها لّن يتقبّل منكم)

 ١١٧

٦٢

(والله ورسوله أحقّ أن يرضوه)

 ٧٤


رقم الآية

الآية

الصفحة

٧٢

(وعد الله المؤمنين والمؤمنت جنّت تجرى من تحتها الأنهر خلدين فيها ومسكن طيّبة فى جنّت عدن ورضوان مّن الله)

 ٥٠

٨٢

(فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)

 ٢٥٩

١٠١

(ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)

 ٥٧

١٠٨

(لا تقم فيه أبدا)

 ٢٠٧

١٠ ـ سورة يونس

١٨

(أتنبّئون الله بما لا يعلم)

 ١٤٤

٢٤

(إنّما مثل الحيوة الدّنيا كمآء أنزلنه من السّماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل النّاس والأنعم حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قدرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلنها حصيدا كأن لّم تغن بالأمس)

 ١٩٤

٢٥

(والله يدعوا إلى دار السّلم)

 ٩٢

٥٩

(ءآلله أذن لكم)

 ١١٤

٨٠

(ألقوا ما أنتم مّلقون)

 ١١٧

٨٣

(مّن فرعون)

 ١١٥

٨٩

(فاستقيما ولا تتّبعانّ)

 ١٣٢

٩٩

(أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين)

 ١١٣

١٠٧

(الغفور الرّحيم)

 ٢٦٢

١١ ـ سورة هود

١٤

(فهل أنتم مّسلمون)

 ١١٢

٤٤

(وقيل يأرض ابلعى مآءك ويسماء أقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودىّ وقيل بعدا لّلقوم الظّلمين)

 ٢٥١


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤٥

(ونادى نوح رّبّه)

 ٢٠٩

٥٧

(فإن تولّوا فقد أبلغتكم مّا أرسلت به إليكم)

 ١٥٠

٦٩

(قالوا سلما قال سلم)

 ٨٧ ، ١٢٥

٨٧

(إنّك لأنت الحليم الرّشيد)

 ٢٢٦

(أصلوتك تأمرك أن نّترك ما يعبدءاباؤنا أو أن نّفعل فى أمولنا ما نشائوا)

 ١١٥

٩١

(ولو لا رهطك لرجمنك)

 ٦١

(وما أنت علينا بعزيز)

 ٦١

٩٢

(أرهطى أعزّ عليكم مّن الله)

 ٦١

١٠٣

(ذلك يوم مّجموع لّه النّاس وذلك يوم مّشهود)

 ٧١

١٠٥

(فمنهم شقىّ وسعيد)

 ٢٧٢

١٠٦ ـ ١٠٨

(يوم يأت لا تكلّم نفس إلّا بإذنه فمنهم شقىّ وسعيد (١٠٥) فأمّا الّذين شقوا ففى النّار لهم فيها زفير وشهيق (١٠٦) خلدين فيها ما دامت السّموت والأرض إلّا ما شآء ربّك إنّ ربّك فعّال لّما يريد (١٠٧) وأمّا الّذين سعدوا ففى الجنّة خلدين فيها ما دامت السّموت والأرض إلّا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ) (١٠٨)

٢٧٢

١٢ ـ سورة يوسف

١٨

(بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل)

 ٧٦

٢٣

(ورودته الّتى هو فى بيتها عن نّفسه)

 ٤٣

٣٠

(قد شغفها حبّا)

 ١٥١

(ترود فتها عن نّفسه)

 ١٥١

٣١

(ما هذا بشرا إن هذا إلّا ملك كريم)

 ١٢٣

٣٢

(فذلكنّ الّذى لمتنّنى فيه)

 ٤٦ ، ١٥١

٣٦

(إنّى أرئنى أعصر خمرا)

 ٢٠٩


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤٥ ، ٤٦

 (أنا أنبّئكم بتأويله فأرسلون (٤٥) يوسف)

 ١٤٩

٥٣

(وما أبرّئ نفسى إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء)

 ٢٩ ، ١٢٥

٨٢

(وسئل القرية)

 ١٤٥ ، ٢٤١

١٣ ـ سورة الرّعد

٩

(علم الغيب والشّهدة)

 ٤٨

١٩

(إنّما يتذكّر أولوا الألبب)

 ١٠٤

٣١

(ولو أنّ قرءانا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى)

 ١٤٦

١٤ ـ سورة إبراهيم

٤

(وما أرسلنا من رّسول إلّا بلسان قومه)

 ٢١٠

١٠

(إن أنتم إلّا بشر مّثلنا)

 ١٠٣

١١

(إن نّحن إلّا بشر مّثلكم ولكنّ الله يمنّ على من يشاء من عباده)

 ١٠٣

٢٨

(ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمت الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار)

 ٣٧

١٥ ـ سورة الحجر

٢

(رّبما يودّ الّذين كفروا)

 ٨٤

٤

(وما أهلكنا من قرية إلّا ولها كتاب مّعلوم)

 ١٣٨

(ولها كتاب مّعلوم)

 ١٣٨

٣٠

(فسجد الملئكة كلّهم أجمعون)

 ٥٣

٥٧

(فما خطبكم)

 ١١٠

٦٦

(وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مّصبحين)

 ١٥٢


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٦ ـ سورة النّحل

١٧

(أفمن يخلق كمن لّا يخلق)

 ١٨٤

٢٠

(والّذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون)

 ٥٧

٥٠

(يخافون ربّهم)

 ١٤٦

٥١

(لا تتّخذوا إلهين اثنين إنّما هو إله وحد)

 ٥٢

٥٧

(ويجعلون لله البنت)

 ١٥٨

(ولهم مّا يشتهون)

 ١٥٨

٦٠

(ولله المثل الأعلى)

 ٢٣٤

٩٨

(فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشّيطن الرّجيم)

 ٥٢

(فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله)

 ٢٠٩

١١٠

(ثمّ إنّ ربّك للّذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثمّ جهدوا وصبروا إنّ ربّك من بعدها لغفور رّحيم)

 ١٥٣

١١٢

(فأذقها الله لباس الجوع والخوف)

 ٢١٣ ، ٢٢٨

١١٩

(ثمّ إنّ ربّك للّذين عملوا السّوء بجهلة ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إنّ ربّك من بعدها لغفور رّحيم)

 ١٥٣

١٧ ـ سورة الإسراء

١٢

(وجعلنا الّيل والنّهارءايتين فمحوناءاية الّيل وجعلناءاية النّهار مبصرة لّتبتغوا فضلا مّن رّبّكم ولتعلموا عدد السّنين والحساب وكلّ شىء فصّلنه تفصيلا)

 ٥٣

(وجعلنا الّيل والنّهارءايتين فمحوناءاية الّيل وجعلناءاية النّهار مبصرة)

 ٢٧١

٣١

(ولا تقتلوا أولدكم خشية إملق نّحن نرزقهم وإيّاكم)

 ٩٦

٤٠

(أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتّخذ من الملئكة إنثا)

 ١١٣

٥٠

(قل كونوا حجارة أو حديدا)

 ١١٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

٨١

(وقل جاء الحقّ وزهق البطل إنّ البطل كان زهوقا)

 ١٥٥

(وقل جاء الحقّ)

 ١٥٦

١٠٠

(قل لّو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّى)

 ٧٥

١٠٥

(وبالحقّ أنزلنه وبالحقّ نزل)

 ٦٧

١١٠

(قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن أيّا مّا تدعوا فله الأسماء الحسنى)

 ٩٣

١٨ ـ سورة الكهف

١٨

(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود)

 ٢٥٥

١٩

(قال قائل مّنهم كم لبثتم)

 ١١١

٤٧

(ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة وحشرنهم فلم نغادر منهم أحدا)

 ٧١

٩٩

(وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض)

 ٢٢٤

١٩ ـ سورة مريم

٤

(قال ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرّأس شيبا)

 ١٤٧

(واشتعل الرّأس شيبا)

 ٢٢٣ ، ٢٢٥

٥

(فهب لى من لّدنك وليّا)

 ١١٨

٨

(أنّى يكون لى غلم وكانت امرأتى عاقرا)

 ١٣٣

٢٠

(أنّى يكون لى غلم ولم يمسسنى بشر)

 ١٣٣

٤٥

(يأبت إنّى أخاف أن يمسّك عذاب مّن الرّحمن)

 ٥١

(إنّى أخاف أن يمسّك عذاب مّن الرّحمن)

 ٥١

٤٦

(لأرجمنّك)

 ١٢٨

(واهجرنى مليّا)

 ١٢٨

٦٢

(لّا يسمعون فيها لغوا إلّا سلما)

 ٢٨٢

٧٣

(أىّ الفريقين خير مّقاما وأحسن نديّا)

 ١١١


رقم الآية

الآية

الصفحة

٢٠ ـ سورة طه

٥

(الرّحمن على العرش استوى)

 ٢٦٧

١٨

(هى عصاى أتوكّؤا عليها وأهشّ بها على غنمى ولى فيها مئارب أخرى)

 ١٦٢

(هى عصاى)

 ٤١

٢٥ ، ٢٦

(قال ربّ اشرح لى صدرى (٢٥) ويسّر لى أمرى) (٢٦)

١٥٢

(ويسّر لى أمرى)

 ١٥٢

٤٩

(قال فمن رّبّكما يموسى)

 ١١١

٥٠

(ربّنا الّذى أعطى كلّ شىء خلقه ثمّ هدى)

 ١١١

٦٧

(فأوجس فى نفسه خيفة مّوسى)

 ٩٦

٧٤

(إنّه من يأت ربّه مجرما)

 ٢٠٩

٧٨

(فغشيهم مّن اليمّ ما غشيهم)

 ٤٣

٨٨

(فأخرج لهم عجلا جسدا لّه خوار)

 ٢٢٤

٩٣

(ألّا تتّبعن)

 ٢١٠

١١٧

(فلا يخرجنّكما من الجنّة فتشقى)

 ٣٧

١٢٠

(فوسوس إليه الشّيطن قال يادم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لّا يبلى)

 ١٢٣

٢١ ـ سورة الأنبياء

٣

(وأسرّوا النّجوى الّذين ظلموا)

 ٥٩

٦

(ماءامنت قبلهم مّن قرية أهلكنها)

 ٢٠٩

(أفهم يؤمنون)

 ٢٠٩

٢٢

(لو كان فيهماءالهة إلّا الله لفسدتا)

 ٢٧٦

٢٣

(لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون)

 ١٦٢


رقم الآية

الآية

الصفحة

٣٠

(وجعلنا من الماء كلّ شىء حىّ)

 ٤٧

٣٣

(كلّ فى فلك)

 ٢٩٩

٣٤ ، ٣٥

(وما جعلنا لبشر مّن قبلك الخلد أفإين مّتّ فهم الخلدون (٣٤) كلّ نفس ذائقة الموت)

 ١٥٦

٣٦

(وإذا رءاك الّذين كفروا إن يتّخذونك إلّا هزوا أهذا الّذى يذكرءالهتكم)

 ٤٥

٤٦

(ولئن مّسّتهم نفحة مّن عذاب ربّك)

 ٥٠

٥٥

(قالوا أجئتنا بالحقّ أم أنت من اللّعبين)

 ٨٧

٦٢

(ءأنت فعلت هذا بالهتنا يإبراهيم)

 ١١٢

(ءأنت فعلت)

 ١١٣

(ءأنت فعلت هذا)

 ١١٢

٦٣

(بل فعله كبيرهم هذا)

 ١١٣

٧٧

(ونصرنه من القوم الّذين كذّبوا)

 ١٦٠

٨٠

(فهل أنتم شكرون)

 ١٠٩

٩٦

(وهم مّن كلّ حدب ينسلون)

 ٥٣

٢٢ ـ سورة الحجّ

(إن كنتم فى ريب مّن البعث)

 ٨١

٣١

(ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطّير أو تهوى به الرّيح فى مكان سحيق)

 ٨٥

٤٦

(فإنّها لا تعمى الأبصر)

 ٦٦

٦٤

(لّه ما فى السّموت وما فى الأرض وإنّ الله لهو الغنىّ الحميد)

 ٢٦١


رقم الآية

الآية

الصفحة

٢٣ ـ سورة المؤمنون

١٥ ، ١٦

(ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون (١٥) ثمّ إنّكم يوم القيمة تبعثون) (١٦)

٣١

٢٤

(فقال الملؤا الّذين كفروا من قومه)

 ٩٨

٣٣

(وأترفنهم فى الحيوة الدّنيا)

 ٩٨

٥٣

(كلّ حزب بما لديهم فرحون)

 ٥٣

٥٩

(والّذين هم بربّهم لا يشركون)

 ٥٩

٨٢

(أءذا متنا وكنّا ترابا وعظما أءنّا لمبعوثون)

 ٩٨

٨٣

(لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا)

 ٩٧

٩١

(ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لّذهب)

 ١١٨

١١٢

(كم لبثتم فى الأرض عدد سنين)

 ١١١

١١٧

(إنّه لا يفلح الكفرون)

 ٦٦

٢٤ ـ سورة النّور

(سورة أنزلنها)

 ٧٦

١٥

(إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم مّا ليس لكم به علم)

 ١٦١

٣٥

(يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار)

 ٢٧٦

٣٦

(يسبّح له فيها بالغدوّ والأصال)

 ٧٧ ، ١٢٦

٤٥

(والله خلق كلّ دابّة مّن مّاء)

 ٥٠

٢٥ ـ سورة الفرقان

٥

(وقالوا أسطير الأوّلين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا)

 ٥٨

٣٦

(فقلنا اذهبا إلى القوم الّذين كذّبوا بايتنا فدمّرنهم تدميرا)

 ١٤٩

٤١

(وإذا رأوك إن يتّخذونك إلّا هزوا أهذا الّذى بعث الله رسولا)

 ٤٥


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤١

(أهذا الّذى بعث الله رسولا)

 ٩٢

٤٣

(أرءيت من اتّخذ إلهه هوئه)

 ١٨٤

٢٦ ـ سورة الشّعراء

١٦ ـ ١٨

(فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العلمين (١٦) أن أرسل معنا بنى إسرءيل (١٧) قال ألم نربّك)

 ١٤٩

١٨

(قال ألم نربّك)

 ١٥٠

٢٣

(وما ربّ العلمين)

 ١١٠

٢٥

(ألا تستمعون)

 ١١٠

٢٦

(قال ربّكم وربّءابائكم الأوّلين)

 ١١٠

٢٧

(قال إنّ رسولكم الّذى أرسل إليكم لمجنون)

 ١١٠

٢٩

(لئن اتّخذت إلها غيرى لأجعلنّك من المسجونين)

 ١١٠

٣٠

(أولو جئتك بشىء مّبين)

 ١١٠

٣١

(قال فأت به إن كنت من الصّدقين)

 ١١٠

٤١

(قالوا لفرعون أئنّ لنا لأجرا)

 ٥٠

٤٧

(ءامنّا بربّ العلمين)

 ١١٠

٤٨

(ربّ موسى وهرون)

 ٩٨ ، ١١٠

٧١

(نعبد أصناما فنظلّ لها عكفين)

 ١٦٢

٨٤

(واجعل لّى لسان صدق فى الأخرين)

 ٢١٠

٨٨ ، ٨٩

(يوم لا ينفع مال ولا بنون (٨٨) إلّا من أتى الله بقلب سليم) (٨٩)

 ٢١٨

١٣٢ ـ ١٣٤

(أمدّكم بما تعلمون (١٣٢) أمدّكم بأنعم وبنين (١٣٣) وجنّت وعيون) (١٣٤)

١٢٢

١٦٨

(قال إنّى لعملكم مّن القالين)

 ٢٩٣

(إنّى لعملكم مّن القالين)

 ٢٩٤


رقم الآية

الآية

الصفحة

٢٠٨

(وما أهلكنا من قرية إلّا لها منذرون)

 ١٣٨

٢٧ ـ سورة النّمل

١٥

(ولقدءاتينا داود وسليمن علما وقالا الحمد لله)

 ١٥٠

١٧

(وحشر لسليمن جنوده من الجنّ والإنس والطّير فهم يوزعون)

 ٥٨

٢٠

(ما لى لا أرى الهدهد)

 ١١٢

٢٨

(اذهب بّكتبى هذا فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ما ذا يرجعون)

 ٧٣

٣٨

(أيّكم يأتينى بعرشها)

 ١١١

٥٥

(بل أنتم قوم تجهلون)

 ٨١

٥٨

(وأمطرنا عليهم مّطرا)

 ٥١

(فساء مطر المنذرين)

 ٥١

٦٧

(أءذا كنّا تربا وءاباؤنا أئنّا لمخرجون)

 ٩٧

٦٨

(لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا)

 ٩٧

٨٨

(وهى تمرّ مرّ السّحاب)

 ٢٠٠

٩٣

(وما ربّك بغفل عمّا تعملون)

 ٨١

٢٨ ـ سورة القصص

(يذبّح أبناءهم)

 ٣٦

٨

(فالتقطهءال فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا)

 ٢٢٦

٢٠

(وجاء رجل مّن أقصا المدينة يسعى)

 ٤٩

٢٣

(لا نسقى حتّى يصدر الرّعآء)

 ٩٣

٣٨

(فأوقد لى يهمن على الطّين فاجعل لّى صرحا)

 ٣٧

٤٦

(وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا ولكن رّحمة مّن ربّك)

 ١٤٩


رقم الآية

الآية

الصفحة

٦٦

(فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون)

 ٥٩

٧٣

(ومن رّحمته جعل لكم الّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله)

 ٢٥٨ ، ٢٦٨

٢٩ ـ سورة العنكبوت

٤٠

(وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)

 ٢٦٣

٤١

(مثل الّذين اتّخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتا)

 ١٩٥

٦٤

(وما هذه الحيوة الدّنيا إلّا لهو ولعب)

 ٤٥

٣٠ ـ سورة الرّوم

٧

(يعلمون ظهرا مّن الحيوة الدّنيا)

 ٢٥٧

١٩

(يخرج الحىّ من الميّت ويخرج الميّت من الحىّ)

 ١٢٧ ، ٢٦٥

٢٧

(وهو الّذى يبدؤا الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه)

 ٢٧٧

٣٣

(وإذا مسّ النّاس ضرّ)

 ٨٠

٣٦

(وإذا أذقنا النّاس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيّئة بما قدّمت أيديهم إذا هم يقنطون)

 ٨٠

٤٠

(من شركائكم مّن يفعل من ذلكم مّن شىء)

 ٩٢

٤٣

(فأقم وجهك للدّين القيّم)

 ٢٩٣

٤٨

(الله الّذى يرسل الرّيح فتثير سحابا فيبسطه)

 ٦٨

٥٥

(ويوم تقوم السّاعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)

 ٢٨٩

٣١ ـ سورة لقمان

٧

(كأن لّم يسمعها كأنّ فى أذنيه وقرا)

 ١٢١

١٤

(ووصّينا الإنسن بولديه حملته أمّه وهنا على وهن وفصله فى عامين أن اشكر لى ولولديك)

 ١٥٩


رقم الآية

الآية

الصفحة

٢٥

(ولئن سألتهم مّن خلق السّموت والأرض ليقولنّ الله)

 ٧٧

٣٢ ـ سورة السّجدة

١٢

(ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربّهم)

 ٤٢ ، ٨٤ ، ١٤٧

٣٣ ـ سورة الأحزاب

٢١

(لّمن كان يرجوا الله)

 ١٤٦

٢٥

(وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا)

 ١٣٤

٤٥ ـ ٤٦

(يأيّها النّبىّ إنّا أرسلنك شهدا ومبشّرا ونذيرا (٤٥) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا مّنيرا) (٤٦)

٢٠٠

٣٤ ـ سورة سبأ

٢

(يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السّماء وما يعرج فيها)

 ١١٩

٧

(هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفى خلق جديد)

 ٢٨٦

٨

(أفترى على الله كذبا أم به جنّة)

 ٢٦

(أم به جنّة)

 ٢٦

١٧

(ذلك جزينهم بما كفروا وهل نجزى إلّا الكفور)

 ١٥٥

(جزينهم بما كفروا)

 ١٥٥

(وهل نجزى إلّا الكفور)

 ١٥٥

٢٤

(وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو فى ضلل مّبين)

 ٥٤ ، ٢٨٦

٢٥

(قل لّا تسئلون عمّا أجرمنا ولا نسئل عمّا تعملون)

 ٨٣

٣١

(ولو ترى إذ الظّلمون موقوفون عند ربّهم)

 ٨٤


رقم الآية

الآية

الصفحة

٣٥ ـ سورة فاطر

٤

(وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسل مّن قبلك)

 ٥٠ ، ١٥٠

٨

(أفمن زيّن له سوء عمله فرءاه حسنا)

 ٧٥

٩

(فتثير سحابا)

 ٨٤

٢٢ ـ ٢٣

(وما أنت بمسمع مّن فى القبور (٢٢) إن أنت إلّا نذير) (٢٣)

١٠٣

٢٨

(إنّما يخشى الله من عباده العلمؤا)

 ١٠٧

٣٢

(ثمّ أورثنا الكتب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لّنفسه ومنهم مّقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)

 ٢٧٢

٤٣

(ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله)

 ١٤٣

٣٦ ـ سورة يس

١٣ ـ ١٦

(واضرب لهم مّثلا أصحب القرية إذ جاءها المرسلون (١٣) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنّا إليكم مّرسلون (١٤) قالوا ما أنتم إلّا بشر مّثلنا وما أنزل الرّحمن من شىء إن أنتم إلّا تكذبون (١٥) قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون) (١٦)

 ٢٨

١٤

(إنّا إليكم مّرسلون)

 ٢٨

١٥

(وما أنزل الرّحمن من شىء إن أنتم إلّا تكذبون)

 ١٢٨

١٦

(إنّا إليكم لمرسلون)

 ٢٨

٢١

(اتّبعوا من لّا يسئلكم أجرا وهم مّهتدون)

 ١٥٤

٢٢

(وما لى لا أعبد الّذى فطرنى وإليه ترجعون)

 ٦٨ ، ٨٣

٢٣ ـ ٢٤

(ءأتّخذ من دونهءالهة إن يردن الرّحمن بضرّ لّا تغن عنّى شفعتهم شيئا ولا ينقذون (٢٣) إنّى إذا لّفى ضلل مّبين) (٢٤)

٨٣

٢٥

(ءامنت بربّكم)

 ٨٣

٣٧

(فإذا هم مّظلمون)

 ٢٢٥

٤٠

(ولا الّيل سابق النّهار)

 ٩٤


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤٥

(وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلّكم ترحمون)

 ١٤٦

٤٦

(إلّا كانوا عنها معرضين)

 ١٤٦

٣٧ ـ سورة الصّافات

٤٧

(لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون)

 ٨٨

٦٥

(طلعها كأنّه رءوس الشّيطين)

 ١٦٩

٧٢ ـ ٧٣

(ولقد أرسلنا فيهم مّنذرين (٧٢) فانظر كيف كان عقبة المنذرين) (٧٣)

 ٢٩٠

١١٨

(وهدينهما الصّراط المستقيم)

 ٢٩٩

١٥٣

(أصطفى البنات على البنين)

 ١١٣

١٥٥

(أفلا تذكّرون)

 ١٨٤

٣٨ ـ سورة ص

٣٠

(نعم العبد)

 ١٢٦

٤٩

(هذا ذكر وإنّ للمتّقين لحسن مئاب)

 ٣٢٥

٥٥

(هذا وإنّ للطّغين لشرّ مئاب)

 ٣٢٥

٣٩ ـ سورة الزّمر

٦

(وأنزل لكم مّن الأنعم ثمنية أزوج)

 ٢٠٨

٩

(قل هل يستوى الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون)

 ٨٩

٢١

(ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسلكه ينبيع فى الأرض)

 ٢٠٨

٢٩

(ضرب الله مثلا رّجلا فيه شركاء متشكسون ورجلا سلما لّرجل)

 ٤٩

٣٦

(أليس الله بكاف عبده)

 ١١٤

٦٥

(لئن أشركت ليحبطنّ عملك)

 ٨٢


رقم الآية

الآية

الصفحة

٦٧

(وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسّموت مطويّات بيمينه سبحنه وتعلى عمّا يشركون)

 ٢٣١

٧٣

(وسيق الّذين اتّقوا ربّهم إلى الجنّة زمرا حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوبها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم فادخلوها خلدين)

 ١٤٧

٤٠ ـ سورة غافر

٧

(الّذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للّذينءامنوا)

 ١٦١

١٣

(وينزّل لكم مّن السّماء رزقا)

 ٢٠٩

١٨

(ما للظّلمين من حميم ولا شفيع يطاع)

 ١٤٤

٢٨

(وقال رجل مّؤمن مّنءال فرعون يكتم إيمنه)

 ٩٦

(يكتم إيمنه)

 ٩٦

٣٦

(وقال فرعون يهمن ابن لى صرحا)

 ٣٧

٣٧

(أسبب السّموت فاطّلع إلى إله موسى)

 ١٠٨

٣٨ ، ٣٩

(وقال الّذىءامن يقوم اتّبعون أهدكم سبيل الرّشاد (٣٨) يقوم إنّما هذه الحيوة الدّنيا متع)

 ١٥٣

٧٥

(ذلكم بما كنتم تفرحون فى الأرض بغير الحقّ وبما كنتم تمرحون)

 ٢٩٢

٤١ ـ سورة فصّلت

١٧

(وأمّا ثمود فهدينهم)

 ٩٤

٢٣

(وذلكم ظنّكم الّذى ظننتم بربّكم أردئكم)

 ٣٦

٢٨

(لهم فيها دار الخلد)

 ٢١٦ ، ٢٧٤

٤٠

(اعملوا ما شئتم)

 ١١٦

٥١

(وإذا أنعمنا على الإنسن أعرض ونئا بجانبه)

 ٨٠

(وإذا مسّه الشّرّ فذو دعاء عريض)

 ٨٠


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤٢ ـ سورة الشّورى

٣

(كذلك يوحى إليك وإلى الّذين من قبلك الله العزيز الحكيم)

 ٧٧

٩

(فالله هو الولىّ)

 ١١٨

١١

(أزوجا يذرؤكم)

 ٨٢

(ليس كمثله)

 ٢٤٧

(ليس كمثله شىء)

 ٢٤١ ، ٢٤٧

(لكم مّن أنفسكم أزوجا ومن الأنعم أزوجا يذرؤكم فيه ليس)

 ٨٢

٢٤

(فإن يشإ الله يختم على قلبك)

 ٩٠

٤٠

(وجزؤا سيّئة سيّئة مّثلها)

 ٢٠٨ ، ٢٦٣

٥٠

(أو يزوّجهم ذكرانا وإنثا ويجعل من يشاء عقيما)

 ٢٧٣

٤٣ ـ سورة الزّخرف

١٩

(وجعلوا الملئكة الّذين هم عبد الرّحمن إنثا)

 ٢١٦

(أشهدوا خلقهم)

 ٢١٧

٣١ ، ٣٢

(وقالوا لو لا نزّل هذا القرءان على رجل مّن القريتين عظيم (٣١) أهم يقسمون رحمت ربّك)

 ١١٣

٤٠

(أفأنت تسمع الصّمّ أو تهدى العمى)

 ١١٣

٧٢

(وتلك الجنّة الّتى أورثتموها)

 ٤٦

٤٤ ـ سورة الدّخان

١٣ ، ١٤

(أنّى لهم الذّكرى وقد جاءهم رسول مّبين (١٣) ثمّ تولّوا عنه وقالوا معلّم مّجنون) (١٤)

 ١١٥

٣٠ ، ٣١

(ولقد نجّينا بنى إسراءيل من العذاب المهين (٣٠) من فرعون)

 ١١٥

٤٩

(ذق إنّك أنت العزيز الكريم)

 ١١٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

٤٥ ـ سورة الجاثية

٢٤

(وما لهم بذلك من علم إن هم إلّا يظنّون)

 ٣٢

(وما يهلكنا إلّا الدّهر)

 ٣٢

٣٢

(إن نّظنّ إلّا ظنّا)

 ٥١

٤٦ ـ سورة الأحقاف

١٠

(قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد مّن بنى إسرءيل على مثله فامن واستكبرتم)

 ١٤٦

(إنّ الله لا يهدى القوم الظّلمين)

 ١٤٦

٢٥

(فأصبحوا لا يرى إلّا مسكنهم)

 ١٠٦

٤٧ ـ سورة محمّد

١٥

(مّثل الجنّة الّتى وعد المتّقون)

 ٢٣٤

٣١

(ونبلوا أخباركم)

 ٢٠٧

٤٨ ـ سورة الفتح

٢٥

(لّيدخل الله فى رحمته من يشاء)

 ١٤٩

٢٩

(مثلهم فى التّورئة)

 ٢٣٤

(أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم)

 ٢٥٨

٤٩ ـ سورة الحجرات

٧

(لو يطيعكم فى كثير مّن الأمر لعنتّم)

 ٨٤

٥٠ ـ سورة ق

٣٧

(لمن كان له قلب)

 ٢٣٣


رقم الآية

الآية

الصفحة

٥١ ـ سورة الذّاريات

١٢

(يسئلون أيّان يوم الدّين)

 ١١٢

٤٧

(والسّماء بنينها بأييد وإنّا لموسعون)

 ٢٦٧

٤٨

(فنعم المهدون)

 ١٢٦ ، ١٤٩

٥٢ ـ سورة الطّور

١٦

(فاصبروا أو لا تصبروا)

 ١١٧

٥٣ ـ سورة النّجم

١ ، ٢

(والنّجم إذا هوى (١) ما ضلّ صاحبكم وما غوى) (٢)

٢٩٧

٨

(ثمّ دنا فتدلّى)

 ٧٣

٥٤

(فغشّها ما غشّى)

 ٤٣

٥٤ ـ سورة القمر

١ ، ٢

(اقتربت السّاعة وانشقّ القمر (١) وإن يرواءاية يعرضوا ويقولوا سحر مّستمرّ) (٢)

٢٩٧

٢٤

(أبشرا مّنّا وحدا نّتّبعه)

 ١١٣

٥٥ ـ سورة الرّحمن

٥

(الشّمس والقمر بحسبان)

 ٢٦٠

٦

(والنّجم والشّجر يسجدان)

 ٢٦٢

١٣

(فبأىّءالاء ربّكما تكذّبان)

 ١٥٣

٣٥

(يرسل عليكما شواظ مّن نّار ونحاس فلا تنتصران)

 ١٥٣

٣٧

(فإذا انشقّت السّماء فكانت وردة كالدّهان)

 ٢٧٤

٤٣ ، ٤٤

(هذه جهنّم الّتى يكذّب بها المجرمون (٤٣) يطوفون بينها وبين حميمءان) (٤٤)

 ١٥٣


رقم الآية

الآية

الصفحة

٥٤

(وجنى الجنّتين دان)

 ٢٩٣

٥٦ ـ سورة الواقعة

٢٥ ، ٢٦

(لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (٢٥) إلّا قيلا سلما سلما) (٢٦)

٢٨٢

٧٤

(باسم ربّك)

 ٩٥

٧٥ ، ٧٦

(فلا أقسم بموقع النّجوم (٧٥) وإنّه لقسم لّو تعلمون عظيم (٧٦) إنّه لقرءان كريم) (٧٧)

 ١٥٩

٧٦

(وإنّه لقسم لّو تعلمون عظيم)

 ١٥٩

(لّو تعلمون)

 ١٥٩

٥٧ ـ سورة الحديد

١٠

(لا يستوى منكم مّن أنفق من قبل الفتح وقتل)

 ١٤٧

٢١

(عرضها كعرض السّماء والأرض)

 ٢٠١

٢٩

(لّئلّا يعلم أهل الكتب)

 ٢٤١

٥٩ ـ سورة الحشر

٢٤

(هو الله الخلق البارئ المصوّر)

 ٥٢

٦٠ ـ سورة الممتحنة

٢

(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسّوء وودّوا لو تكفرون)

 ٨٣

(وودّوا لو تكفرون)

 ٨٣

١٠

(لا هنّ حلّ لّهم ولا هم يحلّون لهنّ)

 ٢٦٦

٦١ ـ سورة الصّف

١٠

(يأيّها الّذينءامنوا)

 ١٢٧


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٤

 (يأيّها الّذينءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريّن من أنصارى إلى الله)

 ١٨٠

٦٢ ـ سورة الجمعة

٥

(مثل الّذين حمّلوا التّورئة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)

 ١٧٨

٦٣ ـ سورة المنافقون

١

(إذا جاءك المنفقون قالوا نشهد إنّك لرسول الله والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنفقين لكذبون)

 ٢٥ ، ١٦١

(والله يشهد إنّ المنفقين لكذبون)

 ٢٥

(إنّك لرسول الله)

 ٢٥

(والله يعلم إنّك لرسوله)

 ١٦١

٨

(يقولون لئن رّجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين)

 ٢٨٧

٦٥ ـ سورة الطّلاق

٤ (والّئى يئسن من المحيض من نّسائكم إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلثة أشهر والّئى لم يحضن)

 ٧٥

٦٦ ـ سورة التّحريم

٦

(لّا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)

 ٢٥٧

١٢

(وكانت من القانتين)

 ٨١

٦٩ ـ سورة الحاقّة

١١

(إنّا لمّا طغا المآء)

 ٢٢٦

٢١

(فهو فى عيشة رّاضية)

 ٣٨

٣٠ ، ٣١

(خذوه فغلّوه (٣٠) ثمّ الجحيم صلّوه) (٣١)

 


رقم الآية

الآية

الصفحة

٧٠ ـ سورة المعارج

١٩ ـ ٢١

(إنّ الإنسن خلق هلوعا (١٩) إذا مسّه الشّرّ جزوعا (٢٠) وإذا مسّه الخير منوعا) (٢١)

 ٥١

٧١ ـ سورة نوح

١٠

(استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا)

 ٢٩٤

١٣ ، ١٤

(مّا لكم لا ترجون لله وقارا (١٣) وقد خلقكم أطوارا) (١٤)

٢٩٦

٢٥

(مّمّا خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا)

 ٢٥٧

(أغرقوا)

 ٢٥٧

(فأدخلوا نارا)

 ٢٥٧

٢٨

(رّبّ اغفر لى ولولدىّ)

 ١١٧

٧٣ ـ سورة المزمّل

٢

(قم الّيل إلّا قليلا)

 ٢٠٧

١٧

(يوما يجعل الولدان شيبا)

 ٣٧

٧٤ ـ سورة المدّثّر

٣

(وربّك فكبّر)

 ٢٩٩

٦

(ولا تمنن تستكثر)

 ١٣١

٧٥ ـ سورة القيامة

٤

(بلى قدرين على أن نّسوّى بنانه)

 ٢٠٦

٦

(يسئل أيّان يوم القيمة)

 ١١٢

٢٩ ، ٣٠

(والتفّت السّاق بالسّاق (٢٩) إلى ربّك يومئذ المساق) (٣٠)

 ٢٩٠


رقم الآية

الآية

الصفحة

٧٦ ـ سورة الإنسان

٨

(ويطعمون الطّعام على حبّه)

 ١٥٨

٧٧ ـ سورة المرسلات

١ ، ٢

(والمرسلات عرفا (١) فالعصفت عصفا) (٢)

٢٩٧

١٥

(ويل يومئذ لّلمكذّبين)

 ١٥٣

١٦

(ألم نهلك الأوّلين)

 ١١٢

٧٩ ـ سورة النّازعات

٤٥

(إنّما أنت منذر من يخشها)

 ١٠٤

٨١ ـ سورة التّكوير

٢٦

(فأين تذهبون)

 ١١٢

٨٢ ـ سورة الانفطار

١٣ ، ١٤

(إنّ الأبرار لفى نعيم (١٣) وإنّ الفجّار لفى جحيم) (١٤)

 ١٢٧

٨٦ ـ سورة الطّارق

٦

(خلق من مّاء دافق)

 ٣٨

٨٨ ـ سورة الغاشية

٢١ ـ ٢٢

(فذكّر إنّما أنت مذكّر (٢١) لّست عليهم بمصيطر) (٢٢)

١٠٢

٨٩ ـ سورة الفجر

٢٢

(وجاء ربّك)

 ١٥٠ ، ٢٤١


رقم الآية

الآية

الصفحة

٩٢ ـ سورة الليل

٥

(فأمّا من أعطى)

 ٢٦٠

٥ ـ ١٠

(فأمّا من أعطى واتّقى (٥) وصدّق بالحسنى (٦) فسنيسّره لليسرى (٧) وأمّا من بخل واستغنى (٨) وكذّب بالحسنى (٩) فسنيسّره للعسرى) (١٠)

٢٦٠

١٧ ، ١٨

(وسيجنّبها الأتقى (١٧) الّذى يؤتى ماله يتزكّى) (١٨)

١٣١

٩٣ ـ سورة الضّحى

١ ـ ٣

(والضّحى (١) والّيل إذا سجى (٢) ما ودّعك ربّك وما قلى) (٣)

 ٩٢

١٠

(وأمّا السّائل فلا تنهر)

 ٣٠٠

٩٦ ـ سورة العلق

١

(اقرأ باسم ربّك)

 ٩٥

١٧

(فليدع ناديه)

 ٢٠٩

٩٩ ـ سورة الزّلزلة

٢

(وأخرجت الأرض أثقالها)

 ٣٧

١٠٠ ـ سورة العاديات

٧ ، ٨

(وإنّه على ذلك لشهيد (٧) وإنّه لحبّ الخير لشديد) (٨)

 ٢٩٢

١٠١ ـ سورة القارعة

٧

(عيشة)

 ٣٢

١٠ ، ١١

(وما أدرئك ما هيه (١٠) نار حامية) (١١)

 ٤٠

١٠٢ ـ سورة التّكاثر

٣ ، ٤

(كلّا سوف تعلمون (٣) ثمّ كلّا سوف تعلمون) (٤)

 ١٥٣


رقم الآية

الآية

الصفحة

١٠٣ ـ سورة العصر

١ ـ ٣

(والعصر (١) إنّ الإنسن لفى خسر (٢) إلّا الّذينءامنوا وعملوا الصّلحت وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر) (٣)

 ٢٩٧

٢ ، ٣

(إنّ الإنسن لفى خسر (٢) إلّا الّذينءامنوا)

 ٤٧ ، ٢٩٧

١٠٤ ـ سورة الهمزة

١

(ويل لّكلّ همزة لّمزة)

 ٢٩٢

١٠٨ ـ سورة الكوثر

١ ، ٢

(إنّا أعطينك الكوثر (١) فصلّ لربّك وانحر) (٢)

 ٦٨

١٠٩ ـ سورة الكافرون

٦

(لكم دينكم ولى دين)

 ٨٧

١١١ ـ سورة المسد

١

(تبّت يدا أبى لهب وتبّ)

 ٤٣

١١٢ ـ سورة الإخلاص

١

(قل هو الله أحد (١) الله الصّمد) (٢)

٦٧، ٩٤

١

(قل هو الله أحد)

 ٤٢ ، ٦٦


فهرس القوافي

قافية الألف المقصورة

الصفحة

كنّا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منّا في قذى وأذى ٣١٧

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه ؛ فبكى ٢٥٨

سرق العيد كأن

العيد أموال اليتامى ٢٦٤

أترى القاضي أعمى

أم تراه يتعامى؟! ٢٦٤

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه مفتاح الغنى ٢٥٦

قافية الهمزة

الهمزة الساكنة

خاط لي عمرو قباء

ليت عينيه سواء ٢٨٤

الهمزة المفتوحة

وإذا ما رياح جودك هبّت

صار قول العذول فيها هباء ٢٩٤

نحن في المجلس الذي يهب الرا

حة والمسمع الغنى والغناء ٢٩١

فأته تلف راحة ومحيّا

قد أعدّا لك الحياة والحياء ٢٩١

الهمزة المضمومة

فغنّها ، وهي لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء ٢٩

وما أدري ـ وسوف إخال أدري ـ

أقوم آل حصن أم نساء ٢٨٦

دارت على فتية ذلّ الزمان لهم

فما يصيبهم إلا بما شاؤوا!! ٣٠٤


هم حلّوا من الشّرف المعلّى

ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا ٤٢

من البيض الوجوه بني سنان

لو أنّك تستضيء بهم أضاؤوا ٤٢

لم يحك نائلك السحاب ، وإنّما

حمّت به فصبيبها الرّحضاء ٢٧٧

كأنّ دنانيرا على قسماتهم

وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء ٣٠٢

ومهمة مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه ٧١

إنما مصعب شهاب من الله

تجلت عن وجهه الظّلماء ١٠٤

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا

إلّا بوجه ليس فيه حياء ١٩٩

الهمزة المكسورة

فغدا كالخلاف يورق للع

ين ، ويأبى الإثمار كلّ الإباء ١٦٥

أأحبّه وأحبّ فيه ملامة؟

إنّ الملامة فيه من أعدائه ٣١١

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء ٢٦٩

بذل الوعد للأخلّاء سمحا

وأبى بعد ذاك بذل العطاء ١٦٥

لا تسقني ماء الملام ، فإنني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي ٢٣٨

فنوال الأمير بدرة عين

ونوال الغمام قطرة ماء ٢٦٩

وإذا الأسنّة خالطتها ؛ خلتها

فيها خيال كواكب في الماء ٢٠١

ويصعد حتى يظنّ الجهول

بأن له حاجة في السماء ٢٢٩

والريح تعبث بالغصون ، وقد جرى

ذهب الأصيل على لجين الماء ٢٠٠

أيها الصاحب الذي فارقت عيني

ونفسي منه السّنا والسّناء ٢٩١

تتعاطى التي تنسّي من الل

ذة والرّقّة والهوى والهواء ٢٩١

قافية الباء

الباء الساكنة

أكسبته الورق البيض أبا

ولقد كان ولا يدعى لأب ١٣٢


يتابع لا يبتغي غيره

بأبيض كالقبس الملتهب ١٩٦

الباء المفتوحة

أنا البازي المطلّ على نمير

أتيح من السماء لها انصبابا ٣٢١

ومثّل لعينيك الحمام ووقعه

وروعة ملقاه ومطعم صابه ٢٨٩

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه ، وإن كانوا غضابا ٢٦٨

إذا غضبت عليك بنو تميم

وجدت الناس كلّهم غضابا ٣١١

خلقنا لهم في كل عين وحاجب

بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا ٣٠٥

والبدر لو لم يغب ، والشمس لو نطقت

والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا ١٩٩

مرّت بنا بين تربيها ، فقلت لها :

من أين جانس هذا الشّاذن العربا؟! ٣٢٥

فأحجم لمّا لم يجد فيك مطعما

وأقدم لما لم يجد عنك مهربا ٢٩٩

فاستضحكت ، ثم قالت : كالمغيث يرى

ليث الشّرى،وهو من عجل إذا انتسبا ٣٢٥

تذكّرت والذكرى تهيجك زينبا

وأصبح باقي وصلها قد تقضّبا ٦٧

كالبدر من حيث التفتّ وجدته

يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا ١٦٨

وحلّ بفلج بالأباتر أهلنا

وشطّت فحلّت غمرة فمثقّبا ٦٧

إذا ملك لم يكن ذاهبه

فدعه ، فدولته ذاهبه ٢٩٠

يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا ١٩٩

أشدّ من الرّياح الهوج بطشا

وأسرع في النّدى منها هبوبا ١٥٨

أقلب فيه أجفاني ، كأني

أعدّ بها على الدهر الذّنوبا ٢٨٣

ضرائب أبدعتها في السماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا ٢٩٥

كلّ يوم تبدي صروف الليالي

خلقا من أبي سعيد غريبا ٣٢٥

لو أرى الله أن في الشّيب خيرا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا ٣٢٥


الباء المضمومة

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب ١٧٥

ما به قتل أعاديه ، ولكن

يتّقي إخلاف ما ترجو الذّئاب ٢٧٨

ذوائب سود كالعناقيد أرسلت

فمن أجلها منها النفوس ذوائب ٢٩٥

وجرم جرّه سفهاء قوم

وحلّ بغير جارمه العذاب ٣٠٧

فإذا تناشدها الرّواة ، وأبصروا

الممدوح قالوا : «ساحر كذّاب» ٣١٣

وقصائد مثل الرياض أضعتها

في باخل ضاعت به الأحساب ٣١٣

ومن في كفّه منهم قناة

كمن في كفّه منهم خضاب ٣١٠

لأصبح كلّ النّاس قد ضمّهم هوى

كما أن كلّ الناس قد ضمّهم أب ٣١٥

يقول إذا تداينتم بدين

إلى أجل مسمّى فاكتبوه ٣١٨

والشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة ليس لها حاجب ١٧٥

له حاجب عن كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب ٥٠

خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب ٣٠٥

لو أنّ قوما لارتفاع قبيلة

دخلوا السماء ، دخلتها ، لا أحجب ١٣٢

حمرتها من دماء من قتلت

والدم في النّصل شاهد عجب ٢٧٩

إن يعلموا الخير يخفوه ، وإن علموا

شرّا أذاعوا ، وإن لم يعلموا كذبوا ٢٧٣

لئن كنت بلّغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب ٢٧٧

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعث ، أيّ الرجال المهذّب؟ ١٥٦

وما مثله في الناس إلّا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه ١٧

فو الله ما أدري : أبالخمر أسبلت

جفوني ، أم من غبرتي كنت أشرب؟ ١٨٥

ملوك ، وإخوان ، إذا ما مدحتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب ٢٧٧

ولكنها الأقدار ، كلّ ميسّر

لما هو مخلوق له ومقرّب ٣١٥

أتظنّني من زلّة أتعتّب؟!

قلبي أرقّ عليك ممّا تحسب ٣٢٢

قالوا : اشتكت عينه ، فقلت لهم :

من كثرة القتل نالها الوصب ٢٧٩


ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب ١٤١

فلو كانت الأخلاق تحوى وراثة

ولو كانت الآراء لا تتشعّب ٣١٥

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه ٤٠

يزور الأعادي في سماء عجاجة

أسنّته في جانبيها الكواكب ١٩٧

نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه ٤٠

كأنّ مثار النّقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ١٧٤

وأصرع أيّ الوحش قفيته به

وأنزل عنه مثله حين أركب ٢٧٥

تشابه دمعي ـ إذ جرى ـ ومدامتي

فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب ١٨٥

فإنك شمس ، والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ١٩٢

سلبوا ؛ وأشرقت الدّماء عليهم

محمرّة ، فكأنهم لم يسلبوا ٣١٠

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مطلب ٢٧٧

كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم

فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا ٢٧٧

ولكنّني كنت امرأ لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب ٢٧٧

ناهضتهم والبارقات كأنها

شعل على أيديهم تتلهّب ٢١٩

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله

والدّرع محقبة ، والسّيف مقروب ٦٨

يكلّفني ليلي وقد شطّ وليها

وعادت عواد بيننا وخطوب٦٨

ما إن ترى السّيد زيدا في نفوسهم

كما يراه بنو كوز ومرهوب ٦٨

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشّباب عصر حان مشيب ٦٨

لقد صبرت للذّلّ أعواد منبر

تقوم عليها في يديك قضيب ١٣٧

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها ؛ فالحسن عنك مغيّب ٣٠١

حليم إذا ما الحلم زيّن أهله

مع الحلم في عين العدوّ مهيب ١٥٧


الباء المكسورة

الصفحة

وصاعقة من نصله تنكفي بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب ٢١٩

إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدّعوا

صدور العوالي في صدور الكتائب ٢٨٩

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب ٢٨١

ظللنا عند باب أبي نعيم

بيوم مثل سالفة الذّباب ١٦٦

خلّة الغانيات خلّة سوء

فاتّقوا الله يا أولي الألباب ٣١٤

ما أنت بالسّبب الضعيف ، وإنما

نجح الأمور بقوّة الأسباب ١٠٥

وإذا ما سألتموهنّ شيئا

فاسألوهنّ من وراء حجاب ٣١٤

أقبل في المسنّنّ من ربابه

أسنمة الآبال في سحابه ٢٠٨

وكأنّ الشمس المنيرة دينا

ر جلته حدائد الضّرّاب ١٨٥

ولا تله عن تذكار ذنبك ، وابكه

بدمع يحاكي الوبل حال مصابه ٢٨٩

فاليوم حاجتنا إليك ، وإنما

يدعى الطبيب لساعة الأوصاب ١٠٥

نحن الرؤوس ، وما الرؤوس إذا سمت

في المجد للأقوام كالأذناب ١٤١

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب ٢٨٨

أسكر بالأمس إن عزمت

على الشّرب غدا ، إنّ ذا من العجب ٢٧٦

صدفت عنه ، ولم تصدف مواهبه

عنّي ، وعاوده ظنّي ، فلم يخب ١٩٢

وقال : إنّي في الهوى كاذب

انتقم الله من الكاذب ١٢١

ملّكته حبلي ، ولكنّه

ألقاه من زهد على غاربي ١٢١

قتلنا بعبد الله خير لداته

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ٢٨٨

وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا

ألست ترى في وجهه أثر التّرب؟ ٣١٠

أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه ، وجلّت أوجه العرب ٣٢٦

ثلك يثني المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه ٦٢

لعمرو مع الرّمضاء والنار تلتظي

أرقّ وأحفى منك في ساعة الكرب ٣٢١

فبين أيامك اللاتي نصرت بها

وبين أيام بدر أقرب النّسب ٣٢٦


إن كان بين صروف الدهر من رحم

موصولة ، أو ذمام غير مقتضب ٣٢٦

وإذا تألّق في النّديّ كلامه ال

مصقول خلت لسانه من عضبه ٣٠٨

إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا

فقل:عدّ عن ذا ، كيف أكلك للضّب ٢٨٥

يمدّون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب ٢٩١

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب ٣٢٤

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا : الجزع الذي لم يثقّب

تدبير معتصم بالله ، منتقم

لله ، مرتغب في الله ، مرتقب

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب ٣٢٢

كالغيث إن جئته وافاك ريقه

وإن ترحّلت عنه لجّ في الطلب ١٩٢

أحلامكم لسقام الجهل شافية

كما دماؤكم تشفي من الكلب ٢٨٠

حسن دراريّ الكواكب أن ترى

طوالع في داج من الليل غيهب ١٧٠

ولا فضل فيها للشجاعة والنّدى

وصبر الفتى ، لولا لقاء شعوب ١٤٠

فسقى الغضا والسّاكنيه ، وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب ٢٦٨

فما زلت في ليلين : شعر وظلمة

وشمسين : من خمر ، ووجه حبيب ١٥٢

وقد زادها إفراط حسن : جوارها

خلائق أصفار من المجد خيّب ١٧٠

فقلت : إذا استحسنت غيركم

أمرت الدموع بتأديبها ٢٧٩

فمتى عرضت الشّعر غير مهذّب

عدّوه منك وساوسا تهذي بها ٢٩٠

يعشى عن المجد الغبيّ ولن ترى

في سودد أربا لغير أريب ٢٩٣

بيض الصّفائح ، لا سود الصّحائف ، في

متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب ٣٢٤

دان على أيدي العفاة وشاسع

عن كل ندّ في النّدى ، وضريب ١٦٤

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي ٢٦٠

كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤه

للعصبة السّارين جدّ قريب ١٦٥

سقتني في ليل شبيه بشرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب ١٥٢


أتتني تؤنّبني بالبكا

فأهلا بها وبتأنيبها ٢٧٩

تقول ـ وفي قولها حشمة ـ

أتبكي بعين تراني بها؟! ٢٧٩

قافية التاء

التاء المكسورة

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ، ولكن الرماح أجرّت ٩٠

رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلّت ٣٠٠

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت ١٧٩

سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت ٤٠ ، ٣٠٠

يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها

إذا ما بيوت بالملامة حلّت ٢٤٧

كذب العواذل ، لو رأين مناخنا

بالقادسيّة ؛ قلن : لجّ وذلت ١٢٥

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشّكوى إذا النعل زلّت ٤٠ ، ٣٠٠

جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت

بنا نعلنا في الواطئين ، فزلّت ٩٠

تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا

ولو سلكت طرق المكارم ضلّت ٣٢١

هم خلطونا بالنفوس ، وألجأوا

إلى حجرات أدفأت وأظلّت ٩٠

أسيئي بنا أو أحسني ، لا ملومة

لدينا ، ولا مقليّة إن تقلّت ١١٦

أبوا أن يملّونا ، ولو أن أمنا

تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت ٩٠

زعم العواذل أن ناقة جندب

بجنوب خبت عرّيت وأجمّت ١٢٥

كأنها فوق قامات ضعفن بها

أوائل النار في أطراف كبريت ١٨٢

ولا زورديّة تزهو بزرقتها

بين الرّياض على خمر اليواقيت ١٨٢

قافية الجيم

الجيم المضمومة

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج ٣٠٥


الجيم المكسورة

وقد أطفؤوا شمس النهار ، وأوقدوا

نجوم العوالي في سماء عجاج ٢٥٦

إن السّماحة والمروءة ، والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج ٢٤٦

قافية الحاء

الحاء الساكنة

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمّك فيهم رماح ٣١

كأنما يبسم عن لؤلؤ

منضّد ، أو برد ، أو أقاح ١٩٠ ، ٢٠٠

الحاء المفتوحة

وكأن البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة وانفتاحا ١٧٦

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا ٢٢٧

لا يذوق الإغفاء إلّا رجاء

أن يرى طيف مستميح رواحا ٢٧٩

مغرم بالثناء ، صبّ بكسب

المجد ، يهتزّ للسماح ارتياحا ٢٧٨

فطرت بمنصلي في يعملات

دوامي الأيد يخبطن السّريحا ٢٢١

الحاء المضمومة

وشدّت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح ١٤٢

أمّلتهم ثمّ تأمّلتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح ٢٩٥

وظلّت تدير الرّاح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجوه ملاح ١٩

وبدا الصّباح كأنّ غرّته

وجه الخليفة حين يمتدح ١٨٣

وما الدهر إلا تارتان ؛ فمنهما

أموت ، وأخرى أبتغي العيش أكدح ١٦٠

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح ١٤٢

خذنا بأطراف الأحاديث بينا

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح ١٤٢


الحاء المكسورة

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح ١١٤

ألمع برق سرى ، أم ضوء مصباح

أم ابتسامتها بالمنظر الضّاحي ٢٨٥

إن البكاء هو الشّفا

ء من الجوى بين الجوانح ٢٩١

قافية الدال

الدال الساكنة

أديبان في بلخ لا يأكلان

إذا صحبا المرء غير الكبد ٢٧٠

فهذا طويل كظل القناة

وهذا قصير كظل الوتد ٢٧٠

أعلام ياقوت تشر

ن على رماح من زبرجد ١٦٨

وكأن محمرّ الشقيق

إذا تصوّب أو تصعّد ١٦٨

الدال المفتوحة

لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم

ظننت ما أنا فيه دائما أبدا ٢٧١

وتحيي له المال الصّوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسّم والجدا ٣٦

لكن رأيت الليالي غير تاركة

ما سرّ من حادث أو ساء مطّردا ٢٧١

إنّ الشّباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده ٢٦٩

بشرى ؛ فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا ٣٢٤

فقد سكنت إلى أنّي وأنكم

سنستجدّ خلاف الحالتين غدا ٢٧١

والعيش خير في ظلا

ل النّوك ممّن عاش كدّا ١٣٩

سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا ١٧

ولا بدّ لي من جهلة في وصاله

فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده؟! ٢٨٣

ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا

إلّا بحيث ترى المنايا سودا ٢٥٩

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا ٢٦٥

إن كنت خنتك في المودّة ساعة

فذممت سيف الدولة المحمودا ٢٦٥


قسما لو أني حالف بغموسها

لغريم دين ، ما أراد مزيدا ٢٦٥

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا

وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا ٦٧

الدال المضمومة

خليليّ ، ما لي؟! لا أرى غير شاعر

فكم منهم الدّعوى ومنّي القصائد؟ ٣٢٥

إذا أنكرتني بلدة ، أو نكرتها

خرجت مع البازي عليّ سواد ١٣٧

نشوان يطرب للسؤال كأنما

غنّاه مالك طيّىء أو معبد ٣١١

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلّان غير الحيّ والوتد٤٥ ، ٢٧٠

فلا تعجبا ؛ إن السيوف كثيرة

ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد ٣٢٥

فلا مجد في الدّنيا لمن قلّ ماله

ولا مال في الدّنيا لمن قلّ مجده ٢٦٦

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد٤٥، ٢٧٠

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا ٤٥

فقلت عسى أن تبصريني كأنّما

بنيّ حواليّ الأسود الحوارد ١٣٧

سأطلب حقّي بالقنا ومشايخ

كأنّهم من طول ما التثموا مرد ٢٧٢

ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه

ولا رجلا قامت تعانقه الأسد ٢٢٩

ثقال إذا لاقوا ، خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدّوا ، قليل إذا عدّوا ٢٧٢

أسد ، دم الأسد الهزبر خضابه

موت ، فريص الموت منه يرعد ٢١٥

وتعذلني أفناء سعد عليهم

وما قلت إلّا بالتي علمت سعد ١٠٤

وصيرفيّ القريض وزّان دينار

المعاني الدّقاق ، منتقد ١٩

فأتبعتها أخرى ، فأضللت نصلها

بحيث يكون اللب والرّعب والحقد ٢٤٢

نهبت من الأعمار ما لو حويته

لهنّئت الدنيا بأنك خالد ٢٨٣

يبس النّجيع عليه وهو مجرّد

عن غمده ، فكأنّما هو مغمد ٣١٠

أنلني بالذي استقرضت خطّا

وأشهد معشرا قد شاهدوه ٣١٨


ويعرف الشّعر مثل معرفتي

وهو على أن يزيد مجتهد ١٩

قالت وقد رأت اصفراري : من به؟

وتنهّدت ، فأجبتها : المتنهّد ٧٤

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود ١٨

أبشر ؛ فقد جاء ما تريد

أباد أعداءك المبيد ٣٢٤

بغاني مصعب وبنو أبيه

فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد ١٣٢

رهنت يدي بالعجز عن شكر برّه

وما فوق شكري للشّكور مزيد ١٥٧

أقادوا من دمي ، وتوعّدوني

وكنت وما ينهنهني الوعيد ١٣٢

الدال المكسورة

وخلتهم سهاما صائبات

فكانوها ، ولكن في فؤادي ٢٨٨

على باب قنّسرين واللّيل لاطخ

جوانبه من ظلمة بمداد ١٨١

قلت : طولت ، قال : لا ، بل تطوّلت ،

وأبرمت ، قال : حبل ودادي ٢٨٧

قالوا : قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ، ولكن من ودادي ٢٨٨

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد ٢٢١، ٢٢٧

ولا سافرت في الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتي وزادي ٣٠٦

هنّ ينبذن من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي ١٩٨

وإخوان حسبتهم دروعا

فكانوها ، ولكن للأعادي ٢٨٧

بانت قطام ، ولمّا يحظ ذو مقّة

منها بوصل ولا إنجاز ميعاد ١٣٣

وإنّي عنك بعد غد لغاد

وقلبي عن فنائك غير غاد ٣٠٦

محبك حيثما اتّجهت ركابي

وضيفك حيث كنت من البلاد ٣٠٧

مقيم الظّنّ عندك والأماني

وإن قلقت ركابي في البلاد ٣٠٦

إنما أنت والد ، والأب القا

طع أحنى من واصل الأولاد ١٠٣

والذي حارت البريّة فيه

حيوان مستحدث من جماد ٥٥


يرى في النوم رمحك في كلاه

ويخشى أن يراه في السّهاد ٣٠٨

لم تلق قوما هم شرّ لإخوتهم

منّا عشيّة يجري بالدم الوادي ٢٢١

وغيري يأكل المعروف سحتا

ويشحب عنده بيض الأيادي ٦٢

قلت : ثقّلت إذ أتيت مرارا

قال : ثقّلت كاهلي بالأيادي ٢٨٧

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتّى علوا فرسي بأشقر مزبد ٤٣

محاسن أصناف المغنّين جمّة

وما قصبات السّبق إلا لمعبد ٣٠٣

أجاد طويس والسّريجيّ بعده

وما قصبات السّبق إلّا لمعبد ٣٠٣

كدبابيس عسجد

قضبها من زبرجد ١٦٨

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد ٣١١

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي ، وإذا ما لمته لمته وحدي ١٦

وطول مقام المرء في الحيّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد ١٦٥

إن تلقني لا ترى غيري بناظرة

تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد ٢٧٥

فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت

مخافة ملويّ من القدّ محصد ٩١

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه

فلما علاه قال للباطل : ابعد ٤٣

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخليّ ولم ترقد ٦٨

أنا الرجل الضّرب الذي تعرفونه

خشاش كرأس الحيّة المتوقّد ٢٤٣

لو شئت لم تفسد سماحة حاتم

كرما ، ولم تهدم مآثر خالد ٩١

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجلّد ٣٠٤

فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا

عدوّك ؛ فاعلم أنني غير حامد ٢٤٥

تزور فتى يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المكارم يحمد ١٥٦

وبات ، وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد ٦٨

فإني رأيت الشمس زيدت محبّة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد ١٦٥

كلّنا باسط اليد

نحو نيلوفر ندي ١٦٨


وكنت فتى من جند إبليس فارتمى

بي الحال حتى صار إبليس من جندي ٥٤

تجلّى به رشدي ، وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي ، وأورى به زندي ٢٩٨

مفيد ، ومتلاف ، إذا ما أتيته

تهلّل ، واهتزّ اهتزاز المهنّد ٣١٢

يصدّ عن الدّنيا إذا عنّ سودد

ولو برزت في زيّ عذراء ناهد ١٦٢، ٣٠٧

يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود ١٤١

أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا؟

فقلت : كلا ، ولكن مطلع الجود ٣٢٥

لما مشين بذي الأراك تشابهت

أعطاف قضبان به ، وقدود ١٥٢

وسفرن ، فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى ، وورد خدود ١٥٣

في حلّتي حبر وروض ، فالتقى

وشيان : وشي ربى ، ووشي برود ١٥٣

لو شئت عدت بلاد نجد عودة

فحللت بين عقيقه وزروده ٩١

وذلك من نبإ جاءني

وخبّرته عن أبي الأسود ٦٩

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت ؛ أتاح لها لسان حسود ١٦٥

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود ١٦٥

بقول في قومس قومي ، وقد أخذت

منّا السّرى وخطا المهريّة القود : ٣٢٥

وزعمت أن له شريكا في العلى

وجحدته في فضله التّوحيد ٢٦٥

فإن كنت لا تسطيع دفع منيّتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي ١٤٠

أبين ، فما يزرن سوى كريم

وحسبك أن يزرن أبا سعيد ٢٤٨

قافية الذال

الذال المفتوحة

والآن أقبلت الدّنيا عليك بما

تهوى ، فلا تنسني ، إنّ الكرام إذا ٣١٧

كنا معا أمس في بؤس نكابده

والعين والقلب منّا في قذى وأذى ٣١٧


قافية الراء

الراء الساكنة

وترى الطّير على آثارنا

رأي عين أن ستمار ٣١١

يعلّ به برد أنيابها

إذا طرّب الطائر المستحر ١٩٠

مضوا لا يريدون الرّواح وغالهم

من الدهر أسباب جرين على قدر ١٣٢

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر ١٩٠

الراء المفتوحة

وكلبك آنس بالزائرين

من الأمّ بالابنة الزائره ٢٤٤

هو الواهب المائة المصطفا

ة : إمّا مخاضا ، وإما عشارا ٨٦

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا ٥٥

يا عليّ بن حمزة بن عماره

أنت ـ والله ـ ثلجة في خياره ١٩

قلت : زوري ؛ فأرسلت :

أنا آتيك سحره ٢٣٠

واعلم ـ فعلم المرء ينفعه ـ

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا ١٥٩

سفرن بدورا ، وانتقبن أهلّة

ومسن غصونا ، والتفتن جآذرا ٢٧٢

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا ١٣٩

فأجابت بحجّة

زادت القلب حسره ٢٣٠

قلت : فالليل كان أخ

فى وأدنى مسرّه ٢٣٠

وأرض كأخلاق الكرام قطعتها

وقد كحل الليل السّماك فأبصرا ١٧٠

أتيناكم قد عمّكم حذر العدا

فنلتم بنا أمنا ، ولم تعدموا نصرا ١٣٤

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا ٣٨

قروا جارك العيمان لمّا جفوته

وقلّص عن برد الشراب مشافره ٢١١

أنا شمس ، وإنما

تطلع الشمس بكره ٢٣٠

فلم يبق منّي الشوق غير تفكّري

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا ٩١


وسقط كعين الدّيك عاورت صاحبي

أتاها ، وهيّأنا لموقعها وكرا ١٧٤

فبابك أسهل أبوابهم

ودارك مأهولة عامره ٢٤٤

عبد العزيز على قومه

وغيرهم منن ظاهره ٢٤٤

يقول من فيها بعقل فكّرا

لو زادها عينا إلى فاء ورا ١٩٦

وقد لاح في الصبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا ١٧٤، ١٩٤

أبت الرّوادف والثّديّ لقمصها

مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا ٢٤٣

إذا ما حللت بمغناهم

رأيت نعيما وملكا كبيرا ٣١٣

لآل فريغون في المكرمات

يد أوّلا ، واعتذار أخيرا ٣١٣

الراء المضمومة

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر ٣١٣

حامي الحقيقة ، محمود الخليقة

مهديّ الطريقة ، نفّاع ، وضرّار ٢٩٨

فقصارهنّ مع الهموم طويلة

وطوالهنّ مع السّرور قصار ٢٦٦

إن الليالي للأنام مناهل

تطوى وتنشر دونها الأعمار ٢٦٦

فهبها كشيء لم يكن ، أو كنازح

به الدار ، أو من غيّبته المقابر ٢٧٤

إذا رمت عنها سلوة قال شافع

من الحبّ : ميعاد السّلوّ المقابر ٣١٣

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار ١٥٤

لا تعاشر معشرا ضلّوا الهدى

فسواء أقبلوا أو أدبروا ٣١٤

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر ١٦

بدت البغضاء من أفواههم

والذي يخفون منها أكبر ٣١٤

وريحها أطيب من طيبها

والطّيب فيه المسك والعنبر ٣٠٨

قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا

فمالك موتور ، وسيفك واتر ٢٩٣

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر ٢٩٦


أجدّك ما تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك ينشر؟ ٣٢٥

إذا ما نهى النّاهي فلجّ بي الهوى

أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجر ٢٦٥

ما بال من أوله نطفة

وجيفة آخره يفخر؟ ٣١٩

فوا عجبا!! كيف اتفقنا؟! فناصح

وفيّ ، ومطويّ على الغلّ غادر ٢٥٩

كأن الثّريّا علّقت في جبينه

وفي خدّه الشّعرى ، وفي وجهه البدر ٢٦١

فتى يشتري حسن الثّناء بماله

إذا السّنة الشّهباء أعوزها القطر ٣٠٣

وإنّي لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلّله القطر ١٣٤

تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر ٣٧

سهرت بها حتى تجلّت بغرّة

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر ٣٢٥

أقول لمعشر غلطوا وغصّوا

عن الشّيخ الرّشيد وأنكروه ٣١٨

رقّ الزّجاج ، وراقت الخمر

وتشابها ، فتشاكل الأمر ١٨٥

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر ٢٥٥

في شجر السّرو منهم مثل

له رواء ، وما له ثمر ١٦٦

أرقك ، أم ماء الغمامة ، أم خمر؟

بفيّ برود ، وهو في كبدي جمر ٣٢٢

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنّما قدح ولا خمر ١٨٥

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر ٨٨، ١٢٩ ، ٢٦٩

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبى ، فكأنما هو مقمر ١٨٩

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور ٣٠٣

من راقب الناس مات غمّا

وفاز باللذّة الجسور ٣٠٥

يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر ١٨٩

فإن تولني منك الجميل فأهله

وإلّا فإني عاذر وشكور ٣٢٦

تبني سنابكها من فوق أرؤسهم

سقفا كواكبه البيض المباتير ١٩٧


هوّن عليكم ؛ فإن الأمور

بكفّ الإله مقاديرها ٢٣٢

وإني جدير ـ إذ بلغتك ـ بالمنى

وأنت بما أمّلت منك جدير ٣٢٦

فما جازه جود ، ولا حلّ دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير ٢٤٦

وزند ندى فواضله وريّ

وزند ربى فضائله نضير ٢٩٨

فدع الوعيد ؛ فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذّباب يضير؟! ٢٩٦

الراء المكسورة

فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل

ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر ٢٦٠

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزائر ٢٢٣

كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم

مبريّة بل الأوتار ٢٦١

يستيقظون إلى نهيق حمارهم

وتنام أعينهم عن الأوتار ٢٥٦

صلّى لها حيّا ، وكان وقودها

ميتا ، ويدخلها مع الفجّار ٢٧٣

لعن الإله بني كليب ، إنهم

لا يغدرون ، ولا يفون لجار ٢٥٦

وقال رائدهم : أرسوا نزاولها

فكلّ حتف امرىء يجري بمقدار ١٢٠

يا خاطب الدنيا الدّنيّة ، إنها

شرك الرّدى ، وقرارة الأكدار ٣٠٠

تمتّع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار ٢٩٤

كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري ١١١

حتى إذا ما عرف الصيد الضّار

وأذن الصبح لنا في الإبصار ٢٢٢

قال لي : إن رقيبي سيّىء الخلق ؛ فداره

قلت:دعني؛ وجهك الجنّة حفّت بالمكاره ٣١٤

فلا يمنعك من أرب لحاهم

سواء ذو العمامة والخمار ٣١٠

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنار ٣٢١

تسربل وشيا من خروز تطرّزت

مطارفها طرلا من البرق كالتّبر ٢٦٢

وإذا تأمّل شخص ضيف مقبل

متسربل سربال ليل أغبر ٤٥


فما أسلمتنا عند يوم كريهة

ولا نحن أغضينا الجفون على وتر ٢٦٧

ما سرت إلّا وطيف منك يصحبني

سرى أمامي ، وتأويبا على أثري ٨٢

أوما إلى الكوماء : هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري ٤٥

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفاء ويخفيها مع الكدر ٤٧

فقال فريق القوم «لا» وفريقهم

«نعم» وفريق «لأيمن الله ما ندري» ٢٧٣

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرّها ٢٧٠

يناجيني الإخلاف من تحت مطله

فتختصم الآمال واليأس في صدري ٢٢٢

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا :

ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر ٢٨٦

أكلت دما إن لم أرعك بضرّة

بعيدة مهوى القرط ، طيّبة النّشر ٢٠٩

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر ٢٩٦

تردّى ثياب الموت حمرا ، فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر ٢٥٨

لي الشّطر الذي ملكت يميني

ودونك ؛ فاعتجر منه بشطر ٢٢٨

أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي

متى تخلف الجوزاء والدّلو يمطر ٢٣٠

والحسن يظهر في بيتين رونقه

بيت من الشّعر ، أو بيت من الشّعر ٢٩٠

فوشي بلا رقم ، ونقش بلا يد

ودمع بلا عين ، وضحك بلا ثغر ٢٦٢

كأنما أدهم الإظلام حين نجا

من أشهب الصّبح ألقى نعل حافره ٢٠٠

فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّا غليظ المشافر ٢١١

أسد عليّ ، وفي الحروب نعامة

فتخاء تنفر من صفير الصّافر ١٦٤

أجار بنات الوائدين ، ومن يجر

على الموت ، فاعلم أنه غير مخفر ٢٣٠

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر ١٦٢ ، ٣٠٧

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر ٢٢٨

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر ٢١٧

فلمّا نأت عنّا العشيرة كلّها

أنخنا ؛ فحالفنا السّيوف على الدّهر ٢٦٧


له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر ٨٨

إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا

رأيت صورته من أقبح الصّور ١٦٥

تقول : هذا مجاج النّحل ؛ تمدحه

وإن تعب قلت : ذا قيء الزّنابير ١٨٢

إني وتزييني بمدحي معشرا

كمعلّق درّا على خنزير ١٨٦

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير ٣٠

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير ٢٢٣

قافية السين

السين المفتوحة

إذا ما الضّجيع ثنى عطفها

تثنّت ، فكانت عليه لباسا ١٨٦

حملناهم طرّا على الدّهم بعد ما

خلعنا عليهم بالطعان ملابسا ٢٦٧

جاء الشتاء وعندي من حوائجه

سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا ٣٢١

لو خيّر المنبر فرسانه

ما اختار إلّا منكم فارسا ١٠٦

كنّ ، وكيس ، وكانون ، وكأس طلا

بعد الكباب ، وكسّ ناعم ، وكسا ٣٢١

وأقري المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشّموسا ٢٢٧

السين المضمومة

تقول ودقّت نحرها بيمينها

أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس ٤٦

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس ٢١٨

السين المكسورة

قد قلت لما اطّلعت وجناته

حول الشّقيق الغضّ روضة آس ٣١٧

من جلّنار ناضر خدّه

وأذنه من ورق الآس ٢٦١

أعذاره السّاري العجول ترفّقا

ما في وقوفك ساعة من باس ٣١٧


حتى تراه مونقا ناضرا

بعد الذي أبصرت من يبسه ١٩٠

وإنّ من أدّبته في الصّبا

كالعود يسقى الماء في غرسه ١٩٠

قامت تظلّلني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي ٢١٧

قامت تظلّلني ، ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس ٢١٧

قافية الشين

الشين المكسورة

أشاب الصغير وأفنى الكبي

ر كرّ الغداة ؛ ومرّ العشي ٣٣

قافية الصاد

الصاد المفتوحة

قالوا : اقترح شيئا نجد له طبخه

قلت : اطبخوا لي جبّة وقميصا ٢٦٣

الصاد المضمومة

فرعاء ، إن نهضت لحاجتها

عجل القضيب وأبطأ الدّعص ٢٢٤

قافية الضاد

الضاد المفتوحة

جرّبت دهري وأهليه ، فما تركت

لي التجارب في ودّ امرىء غرضا ١٢٥

وقد غرضت من الدنيا ، فهل زمني

معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا؟ ١٢٥

لقضيت نحبي في فنائك خدمة

لأكون مندوبا قضى مفروضا ٢٦٧

لو لا التّطيّر بالخلاف ، وأنّهم

قالوا : مريض لا يعود مريضا ٢٦٧

الضاد المكسورة

أبكاني الدّهر ويا ربّما

أضحكني الدّهر بما يرضي ١٧


قافية الطاء

الطاء المضمومة

كأن في غدرانها

حواجبا ظلّت تمطّ ١٧٥

الطاء المكسورة

من كل عال جذعه بالشّط

كأنه في جذعه المشتطّ ١٧٧

لم أر صفّا مثل صفّ الزّطّ

تسعين منهم صلبوا في خطّ ١٧٧

أخو نعاس جدّ في التّمطّي

قد خامر النوم ولم يغطّ ١٧٨

قافية الظاء

الظاء المفتوحة

تقري الرياح رياض الحزن مزهرة

إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا ٢٢٧

قافية العين

العين المفتوحة

أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر

ونفس أضاق الله بالخير باعها ٨١

ولم يك أكثر الفتيان مالا

ولكن كان أرحبهم ذراعا ٣٠٩

إذا هي حثّته على الخير مرّة

عصاها ، وإن همّت بشرّ أطاعها ٨١

ذممت ولم تحمد ، وأدركت حاجتي

تولّى سواكم أجرها واصطناعها ٨٠

ضعيف العصا ، بادي العروق ترى له

عليها ـ إذا ما أجدب الناس ـ إصبعا ٢٤٥

ومكارم أوليتها متبرّعا

وجرائم ألغيتها متورّعا ٢٩٨

كأنما المرّيخ والمشتري

قدّامه في شامخ الرّفعه ١٨٨

الألمعيّ الذي يظنّ بك الظنّ

كأن قد رأى وقد سمعا ٥١

منصرف بالليل عن دعوة

قد أسرجت قدّامه شمعه ١٨٨

ممنّعة منعّمة رداح

يكلّف لفظها الطير الوقوعا ٢٩٢


العين المضمومة

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو إمّة وهو طائع ١٧١

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهن ابتداع ١٦٩

على أني سأنشد عند بيعي :

«أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا» ٣١٦

لكلّفتني ذنب امرىء وتركته

كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع ١٧٢

سجيّة تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ـ فاعلم ـ شرّها البدع ٢٧١

للسّبي ما نكحوا ، والقتل ما ولدوا

والنّهب ما جمعوا ، والنّار ما زرعوا ٢٧١

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا ٤٤

تقصّ السفين بجانبيه كما

ينزو الرّباح خلاله كرع ١٧٦

نضا ضوؤها صبغ الدّجنّة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزّع ٣٢٠

وقد كان يدعى لابس الصّبر حازم

فأصبح يدعى حازما حين يجزع ٣٠٩

فإنك كاللّيل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ١٤٣

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ، ولكن ساحة الصبر أوسع ٩١

وليس بأوسعهم في الغنى

ولكنّ معروفه أوسع ٣٠٩

فو الله ما أدري؟ أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع؟١٩٩، ٣٢٠

أرسى النّسيم بواديكم ولا برحت

حوامل المزن في أجداثكم تضع ٢٠١

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع ٢٥٩

هو الصّنع ؛ إن يجعل فخير ، وإن يرث

فللرّيث في بعض المواضع أنفع ٣٠٧

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع ٢٣٥

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا ٢٧١

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع ٣٢١

لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى

قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع ٣٢٠

فردّت علينا الشمس والليل راغم

بشمس لهم من جانب الخدر تطلع١٩٩، ٣٢٠

أولئك آبائي ، فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع ٤٥


كأن السحاب الغرّ غيّبن تحتها

حبيبا فما ترقا لهنّ مدامع ٢٨٠

ربى شفعت ريح الصّبا لرياضها

إلى المزن حتى جادها وهو هامع٢٨٠

ولا يزال جنين النّبت ترضعه

على قبوركم العرّاضة الهمع ٢٠١

النفس راغبة إذا رغّبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع ٤١

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها

تذكّرت القربى ففاضت دموعها ٢٦٥

حتّى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الرّوم ، والصّلبان ، والبيع ٢٧١

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع ٢٦٣

تصدّ حياء أن تراك بأوجه

أتى الذّنب عاصيها ، فليم مطيعها ٣٠٧

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع ١٦٥

العين المكسورة

ولم يحفظ مضاع المجد شيء

من الأشياء كالمال المضاع ٢٩٤

ونغمة معتف جدواه أحلى

على أذنيه من نغم السّماع ٣١١

شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ، ويسمع واعي ٨٩

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض

على الماء خانته فروج الأصابع ١٨١

إن قال : قد ضاعت ؛ فيصدق ؛ إنها

ضاعت ، ولكن منك يعني لو تعي ٢٨٧

أفناه قيل الله للشمس : اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي ٣٣

لم يبكني إلّا حديث فراقكم

لمّا أسرّ به إليّ مودّعي ٣٠٦

لقد أنزلت حاجاتي

بواد غير ذي زرع ٣١٥

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميّز عنه قنزعا عن قنزع ٣٣

ته أحتمل ، واحتكم أصبر ، وعزّ أهن

وذلّ أخضع ، وقل أسمع ، ومر أطع ٢٦٢

أو قال : قد وقعت ، فيصدق ؛ إنها

وقعت ، ولكن منه أحسن موقع ٢٨٧

هو ذلك الدّرّ الذي أودعتم

في مسمعي ، ألقيته من مدمعي ٣٠٦


قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع٣٣، ٦٤

لئن أخطأت في مدحي

ك ما أخطأت في منعي ٣١٥

كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمة

نجاء من البأساء بعد وقوع ١٧١

سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندا بسريع ٤٠، ٢٩٤

حريص على الدنيا ، مضيع لدينه

ولي سلما في بيته بمضيع ٤٠

رحل العزاء برحلتي ، فكأنني

أتبعته الأنفاس للتشييع ٢٨٠

قافية الفاء

الفاء المفتوحة

كيف أسلو ، وأنت حقف ، وغصن

وغزال : لحظا ، وقدّا ، وردفا ٢٦٩

الفاء المضمومة

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف ، وليس لكم إلاف ١٢٦

إنّي على ما ترين من كبري

أعرف من أين تؤكل الكتف ١٥٨

تفكّره علم ومنطقه حكم

وباطنه دين ، وظاهره ظرف ٢٩٩

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعرف ٣٠٤

هو ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى يضع العمامة تعرفوه ٣١٨

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف ٧٤

شمس تألّق والفراق غروبها

عنّا ، وبدر والصّدود كسوفه ٢١٤

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيف ألمّ فهم خفوف ٥٥

متى تهزز بني قطن تجدهم

سيوفا في عواتقهم سيوف ٥٥

الفاء المكسورة

هل لما فات من تلاق تلاف

أم لشاك من الصبّابة شافي ٢٩٢

لئن صدفت عنّا فربّت أنفس

صواد إلى تلك الوجوه الصّوادف ٢٩١


أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف ٢٨٥

قافية القاف

القاف المفتوحة

يا أيها القاضي الذي نفسي له

مع قرب عهد لقائه مشتاقه ١٧١

فلا حطّت لك الهيجاء سرجا

ولا ذاقت لك الدنيا فراقا ٣٢٦

وما عفت الرّياح له محلّا

عفاه من حدا بهم وساقا١٢٦

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدي له أخلاقه ١٧١

أنا لم أرزق محبّتها

إنّما للعبد ما رزقا ١٠٤

فانهض بنار إلى فحم كأنهما

في العين ظلم ، وإنصاف قد اتّفقا ١٧٠

من يلق يوما ـ على علّاته ـ هرما

يلق السماحة منه والنّدى خلقا ١٥٨

البس جديدك إني لابس خلقي

ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا ٣١٩

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا ٦٦

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا ٦٦

القاف المضمومة

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب ، وجثماني بمكّة موثق ٤٩

كبّرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق ٢٢٩

رزقوا وما رزقوا سماح يد

فكأنهم رزقوا ، وما رزقوا٢٥٧

وإنّي امرؤ أحببتكم لمكارم

سمعت بها ، والأذن كالعين تعشق ٣٠٦

ولئن نطقت بشكر برّك مفصحا

فلسان حالي بالشّكاية أنطق ٢٣٥

مالوا إلى شعب الرّحال وأسندوا

أيدي الطّعان إلى قلوب تخفق ١٤٥

خلقوا وما خلقوا لمكرمة

فكأنهم خلقوا ، وما خلقوا ٢٥٧

لا يأنف الدّرهم المضروب صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطلق ٧٩


« فبالله أبلغ ما أرتجي

وبالله أدفع ما لا أطيق » ٣١٦

إذا ضاق صدري وخفت العدى

تمثّلت بيتا بحالي يليق ٣١٦

القاف المكسورة

أتراها لكثرة العشّاق

تحسب الدّمع خلقة في المآقي؟ ٣٢٢

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي ٤٣

ويذكرني من قدّها ومدامعي

مجرّ عوالينا ومجرى الوابق ٣١٧

إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها

تذكّرت ما بين العذيب وبارق ٣١٧

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على بساط أزرق ١٧٤،١٨٨،١٩٦

يا واشيا حسنت فينا إساءته

نجّى حذارك إنساني من الغرق ٢٧٩

وإنّا وما نلقي لنا إن هجوتنا

لكالبحر ، مهما تلق في البحر يغرق ١٩١

قد نفض العاشقون ما صنع

الهجر بألوانهم على ورقه ٢٨٣

ولو لا جنان الليل ما آب عامر

إلى جعفر ، سرباله لم يمزّق ١٣٦

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النّوى وفؤاد من لم يعشق ١٧٠

لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق ٢٨٠

سأمنعها ، أو سوف أجعل أمرها

إلى ملك أظلافه لم تشقّق ٢١٢

وأخفت أهل الشّرك ، حتى إنه

لتخافك النّطف التي لم تخلق ٢٧٦

فعل المدام ، ولونها ، ومذاقها

في مقلتيه ، ووجنتيه ، وريقه ٢٦٨

ويكاد يخرج سرعة عن ظله

لو كان يرغب في فراق رفيق ٢٧٦

قافية الكاف

الكاف المفتوحة

كأنك عند الكرّ في حومة الوغى

تفرّ من الصّفّ الذي من ورائكا ٣٠٩


لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى ٢٥٨

فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت ، وأرهنهم مالكا ١٣١

ألم تك في يمنى يديك جعلتني؟

فلا تجعلنّي بعدها في شمالكا ٢٣٢

أتتني الشمس زائرة

ولم تك تبرح الفلكا ٢٢٩

الكاف المكسورة

يا دار غيّرك البلى ، ومحاك

يا ليت شعري ما الّذي أبلاك؟ ٣٢٣

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي ٣٢٤

تعاللت كي أشجى ، وما بك علّة

تريدين قتلي ، قد ظفرت بذلك ٦٧

قافية اللام

اللام الساكنة

فكأنها والريح جاء يميلها

تبغي التعانق ، ثم يمنعها الخجل ١٧٦

حفّت بسرو كالقيان ، ولحّفت

خضر الحرير على قوام معتدل ١٧٦

وإذا أدنيت منها بصلا

غلب المسك على ريح البصل ٣٠٨

لو يشأ طار به ذو ميعة

لاحق الآطال نهد ذو خصل ٢٢٠

جزى ربّه عنّي عديّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات ، وقد فعل ١٥

حكيت أبا سعد ؛ فنشرك نشره

ولكن له صدق الهوى ولك الملل ٢٠٠

وإن تبدّلت بنا غيرنا

«فحسبنا الله ونعم الوكيل» ٣١٤

إن كنت أزمعت على هجرنا

من غير ما جرم «فصبر جميل» ٣١٤

اللام المفتوحة

لهفي على تلك الشواهد فيهما

لو أمهلت حتى تصير شمائلا ١٦٧

لغدا سكوتهما حجى ، وصباهما

حلما ، وتلك الأريحيّة نائلا ١٦٧

وشبيه الغصن لينا

وقواما واعتدالا ١٩٢


زارنا حتى إذا ما

سرّنا بالقرب زالا ١٩٢

بدت قمرا ، ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ، ورنت غزالا ١٨٩ ، ٢٧٢

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا

في رأس غمدان دارا منك محلالا ١٣٧

أنت مثل الورد لونا

ونسيما وملالا ١٩٢

ولم أمدح لأرضيه بشعري

لئيما أن يكون أصاب مالا ٩٢

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا ٢٧٦

يا شبيه البدر حسنا

وضياء ومنالا ١٩٢

ولأعقب النّجم المردّ بديمة

ولعاد ذاك الطّلّ جودا وابلا ١٦٧

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا ٣٠٦

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا ٩٢

إن صحّ علم النجوم ؛ كان لكم

حقا إذا ما سواكم انتحلا ٢٢٩

شافهتم البدر بالسؤال عن ال

حقا إذا ما سواكم انتحلا ٢٢٩

يا خير من يركب المطيّ ، ولا

أمر إلى أن بلغتم زحلا ٢٢٩

يا آل نوبخت لا عدمتكم

يشرب كأسا بكفّ من بخلا ٢١٦ ، ٢٧٥

يا آل نوبخت لا عدمتكم

ولا تبدّلت بعدكم بدلا ٢٢٩

كم عالم فيكم وليس بأن

قاسى ولكن بأن رقى فعلا! ٢٢٩

إن الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا ١٦٧

أعلاكم في السماء مجدكم

فلستم تجهلون ما جهلا ٢٢٩

ي الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر تزيد به الخدود محولا ٣٢٠

فلن تستطيع إليها الصّعود

ولن تستطيع إليك النزولا ٢٣٠

ولقد عرفت ، وما عرفت حقيقة

ولقد جهلت ، وما جهلت خمولا ٢٥٧

أعدى الزّمان سخاؤه ، فسخا به

ولقد يكون به الزمان بخيلا ٣٠٥

لو حار مرتاد المنيّة ؛ لم يجد

إلا الفراق على النّفوس دليلا ٣٠٦

هي الشمس مسكنها في السماء

فعزّ الفؤاد عزاء جميلا ٢٣٠


إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا ٨٦

اللام المضمومة

وما تراك المدّاح فيك مقالة

ولا قال إلّا دون ما فيك قائل ٣٠٩

حدق الآجال آجال

والهوى للمرء قتّال ٢٨٩

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال ٢٧٥

مها الوحش ، إلّا أنّ هاتا أوانس

قنا الخطّ ، إلّا أنّ تلك ذوابل١٩٩،٢٥٧،٢٩٩

كأن له في الجوّ حبلا يبوعه

إذا ما انقضى حبل أبيح حبل ١٧٨

بنو مطر يوم اللّقاء كأنهم

أسود لها في غيل خفّان أشبل ٤٩

هو البدر ، إلا أنه البحر زاخر

سوى أنه الضّرغام ، لكنّه الوبل ٢٨٢

اصبر على مضض الحسو

ل فإنّ صبرك قاتله ١٩٠

وصيّرني هواك ، وبي

لحيني يضرب المثل ٣٨

صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل ١٥٧

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟! ٢٧٥

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّي أفراس الصّبا ورواحله ٢٣٥

ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى

نسيمك مسروق ووصفك منتحل ٢٠٠

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل ٢٢٢

ويركب حدّ السيف من أن تضيمه

إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل ٣٠٣

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

فاربع ؛ فخير فعال المرء أعدله ٣١٩

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل ٧٢

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلّا وما فيك أفضل ٣٠٨

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله ٣١٩


إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته

على طرف الهجران إن كان يعقل ٣٠٣

فكل إن أكلت ، وأطعم أخاك

فلا الزّاد يبقى ولا الآكل١٤٠

فالنار تأكل نفسها

إن لم تجد ما تأكله ١٩٠

بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله

وهذا دعاء للبريّة شامل ٣٢٦

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأنّي كامل ٣١٠

توقّى البدور النقص وهي أهلّة

ويدركها النقصان وهي كوامل ١٦٧

وأعرت شطر الملك شطر كماله

والبدر في شطر المسافة يكمل ١٦٧

إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا

أصبت حليما ، أو أصابك جاهل ٣٠٣

لعمرك ما أدري ، وإني لأوجل

على أيّنا تغدو المنيّة أوّل ٣٠٣

إن كنت تبغي العيش فابغ توسّطا

فعند التّناهي يقصر المتطاول ١٦٧

تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّؤ

ق إليها ، والشّوق حيث النّحول ٢٤٤

بساهم الوجه ، لم تقطع أباجله

يصان ، وهو ليوم الرّوع مبذول ٢٥٦

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول ٤٤

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول ٤٤

عزماته مثل النّجوم ثواقبا

لو لم يكن للثّاقبات أفول ١٩٩

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول ١٦٢، ٢٥٧

وإنا لقوم ما نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول ٢٦٤

متى أرى الصّبح قد لاحت مخايله

والليل قد مزّقّت عنه السّرابيل ١٣٤

وسمّيته يحيى ليحيا ، فلم يكن

إلى ردّ أمر الله فيه سبيل ٢٨٩

سل سبيلا فيها إلى راحة النفس

براح كأنها سلسبيل ٢٩٥

وما مات منّا سيّد في فراشه

ولا طلّ منّا حيث كان قتيل ١٥٧

هيهات ؛ لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل ٣٠٥

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك؟! وكلّا ليس منك قليل ٢٦٦


وإن لم يكن إلا معرّج ساعة

قليلا ، فإني نافع لي قليلها ٢٩٥

لا تأخذني بأقوال الوشاة ، ولم

أذنب ، وإن كثرت فيّ الأقاويل ١٣٣

قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم ، وحزن طويل ٣٩، ١٢٤

اللام المكسورة

لقد زادني حبّا لنفسي أنّني

بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل ٣٠٩

وثغره في صفاء

وأدمعي كاللآلي ١٨٩

فما هو إلا الوحي ، أو حدّ مرهف

تميل ظباه أخدعي كل مائل ٢٧٠

والجراحات عنده نغمات

سبقت قبل سيبه بسؤال ٣١١

كأن قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي١٨٧،١٨٩

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني ، والمرء ليس بقتّال ١١٥

نعدّ المشرفيّة للعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال ٣٢٤

مثل صاع العزيز في أرحل القو

م ولا يعلمون ما في الرّحال ٣٢٠

ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟ ٢٩٩

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال ١٨٠

إن ترد علم حالهم عن يقين

فالقهم يوم نائل أو نزال ٢٥٨

تلق بيض الوجوه ، سود مثار النّ

قع ، خضر الأكناف ، حمر النّصال ٢٥٨

أيقتلني وقد شغفت فؤادها

كما شغف المهنوءة الرجل الطّالي؟! ١٣٣

عفاه كلّ حنّان

عسوف الوبل هطّال ١٢٥

وقد علمت سلمى وإن كان بعلها

بأن الفتى يهدي وليس بفعّال ٢٨٥

بأطراف المثقّفة العوالي

تفرّدنا بأوساط المعالي ٢٩٨

أحل ، وامرر ، وضرّ ، وانفع ، ولن ، واخش

ن ، ورش ، وابر ، وانتدب للمعالي ٢٦٢

لا تنكري عطل الكريم من الغنى

فالسّيل حرب للمكان العالي ٢٧٨


غدا والصبح تحت الليل باد

كطرف أشهب ملقى الجلال ١٨٨

طالما قلت للمسائل عنكم

واعتمادي هداية الضّلال ٢٥٨

غمر الرّداء ، إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال ٢٢٨

وتنظّري خبب الركاب ينصّها

محيي القريض إلى مميت المال ٢٥٩

نحن قوم من الجنّ في زيّ ناس

فوق طير ، لها شخوص الجمال ٢١٨

علموا أنني مقيم وقلبي

راحل فيهم أمام الجمال ٣٢٠

عرفت المنزل الخالي

عفا من بعد أحوال ١٢٥

أترى الجيرة الذين تداعوا

عند سير الحبيب وقت الزّوال ٣٢٠

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟! ١١٣، ١٣٥

ونرتبط السوابق مقربات

وما ينجين من خبب اللّيالي ٣٢٤

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كالليالي ١٨٩

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل ٢٩٥

إذا الله لم يسق إلّا الكرام

فسقّى وجوه بني حنبل ٢٤٩

أقامت مع الرايات حتى كأنّها

من الجيش ، إلا أنها لم تقاتل ٣١٢

أنا الذّائد الحامي الذّمار ، وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ١٠١

لا أمتع العود بانفصال ، ولا

أبتاع إلا قريبة الأجل ٢٤٤

ما أحسن الدّين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل!! ٢٥٩

فقلت كأنّي ما سمعت كلامها :

هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي ٧١

زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي ١٢٥

كأنه عاشق قد مدّ صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل ١٧٧

الله أنجح ما طلبت به

والبرّ خير حقيبة الرّحل ٤١

وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحّل ٢٧٤

وتعطو برخص غير شثن كأنّه

أساريع ظبي أو مساويك إسحل ٢٠١


وسقى ديارهم باكرا

من الغيث في الزمن الممحل ٢٤٩

إن يلحقوا أكرر ، وإن يستلحقوا

أشدد ، وإن نزلوا بضنك أنزل ٢٦٢

فدعوا نزال ، فكنت أوّل نازل

وعلام أكربه إذا لم أنزل؟ ١٥٥

أنت تشتكي عندي مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي ٧١

من مبلغ أفناء يعرب كلّها

أنّي بنيت الجار قبل المنزل؟ ٢٦٤

وقعدت أنتظر الفناء كراكب

عرف المحلّ ؛ فبات دون المنزل ٣١٦

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل ٢٧٥

أو قائم من نعاس فيه لوثته

مواصل لتمطّيه من الكسل ١٧٧

قف العيس في أطلال ميّة ، واسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل ١٥٤

فجئت ، وقد نضّت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل ١٣٣

أظن الذي يجدي عليك سؤالها

دموعا كتبذير الجمان المفصّل ١٥٤

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل ١٧٧

له أيطلا ظبي ، وساقا نعامة

وإرخاء سرحان ، وتقريب تتفل ٢٠٠

تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه

فما يقول لشيء : ليت ذلك لي ١٥٥

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا ، وناء بكلكل ٢٢٤

كأن «كانون» أهدى من ملابسه

لشهر «تمّوز» أنواعا من الحلل ٢٦٧

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ١٥٥

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل ٣٠٤

كانت بلهنية الشّبيبة سكرة

فصحوت واستبدلت سيرة مجمل ٣١٦

أو الغزالة من طول المدى خرفت

فما تفرّق بين الجدي والحمل ٢٦٧

فهذا دواء الداء من كل عالم

وهذا دواء الداء من كل جاهل ٢٧٠

وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحى

بعقبان طير في الدّماء نواهل ٣١١

أو ما رأيت المجد ألقى رحله

في آل طلحة ، ثمّ لم يتحوّل ٢٤٩


حبر أبي حفص لعاب الليل

يسيل للإخوان أيّ سيّل ١٨١

وما يك فيّ من عيب فإنّي

جبان الكلب مهزول الفصيل ٢٤٣

قافية الميم

الميم الساكنة

النّشر مسك ، والوجوه دنا

نير وأطراف الأكفّ عنم ١٨٩

إذا أيقظتك حروب العدى

فنبّه لها عمرا ثمّ نم ٢٥٥

الميم المفتوحة

سرق العيد كأن

العيد أموال اليتامى ٢٦٤

غالطتني إذ كست جسمي الضّنا

كسوة عرّت من اللحم العظاما ٢٨٧

أترى القاضي أعمى

أم تراه يتعامى؟ ٢٦٤

فما أنت إلا البدر ، إن قلّ ضوؤه

أغبّ ، وإن زاد الضياء أقاما ١٦٧

ثم قالت : أنت عندي في الهوى

مثل عيني ، صدقت ، لكن سقاما ٢٨٧

رمزت إليّ مخافة من بعلها

من غير أن تبدي هناك كلامها ٢٤٨

أراك إذا أيسرت خيمت عندنا

مقيما ، وإن أعسرت زرت لماما ١٦٧

يريد الجاهلون ليطفئوه

ويأبى الله إلا أن يتمّه ٣١٥

أبكيكما دمعا ، ولو أنّي على

قدر الجوى أبكي بكيتكما دما ٢٦٣

ولله صعلوك يساور همّه

ويمضي على الأحداث والدّهر مقدما ٤٦

ترى رمحه ، ونبله ، ومجنّه

وذا شطب غضب الضّريبة مخذما ٤٦

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواضب مغرما ٢٩٤

أقول له : ارحل ، لا تقيمنّ عندنا

وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما ١٢٢

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما ٤٦

إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمم كبراهنّ ، ثمت صمما ٤٦


فتى طلبات ، لا يرى الخمص ترحة

ولا شبعة ، إن نالها عدّ مغنما ٤٦

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

ـ يا جنّتي ـ لرأيت فيه جهنّما ١٥٩

سبقت العالمين إلى المعالي

بصائب فكرة وعلوّ همّه ٣١٥

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال للضّلالة مدلهمّه ٣١٥

وأحناء سرج قاتر ، ولجامه

عتاد أخي هيجا ، وطرفا مسوّما ٤٦

الميم المضمومة

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فإذا عصارة كلّ ذاك أثام ٤٣

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم

وأسمت سرح اللّحظ حيث أساموا ٤٣

والمجد يدعو أن يدوم لجيده

عقد مساعي ابن العميد نظامه ٢٤٦

فإذا تنبّه ، رعته ، وإذا هدا

سلّت عليه سيوفك الأحلام ٣٠٨

وعلى عدوّك يا بن عمّ محمّد

رصدان : ضوء الصبح ، والإظلام ٣٠٨

إلى كم تردّ الرّسل عما أتوا له

كأنهم فيما وهبت ملام؟! ٢٤٥

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها ٢٣٤

ومن الخير بطء سيبك عنّي

أسرع السحب في المسير الجهام ٣٠٧

فبقيت للعلم الذي تهدي له

وتقاعست عن يومك الأيام ٣٢٦

قصر عليه تحيّة وسلام

خلعت عليه جمالها الأيام ٣٢٤

هم البحور عطاء حين تسألهم

وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم ٢٠٠

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا

يكلّمه من حبّه وهو أعجم ٢٤٤

وما حاجة الأظعان حولك في الدّجى

إلى قمر؟ ما واجد لك عادمه ١٥٥

فقلت له : نعماك فيهم أتمّها

ودع أمرنا ؛ إن المهمّ المقدّم ٢٨٤

فلا هجره يبدو ـ وفي اليأس راحة ـ

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه ١٥٩

أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا

وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم ٢٨٤


أو كلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم؟!٧٩

وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا

وموضع رحلي منه أسود مظلم٢١٥

يقيّض لي من حيث لا أعلم النّوى

ويسري إليّ الشّوق من حيث أعلم ٢٥٧

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعلم ٣٠٤

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدّراهم ٢٢٢

فيها معالم للهدى ، ومصابح

تجلو الدّجى ، والأخريات رجوم ٢٦٨

آراؤكم ، ووجوهكم ، وسيوفكم

في الحادثات إذا دجون نجوم ٢٦٨

مودّته تدوم لكل هول

وهل كلّ مودته تدوم؟ ٢٩٩

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك ، فليلمني اللّوّم ٣١١

والصبر يحمد في الموطن كلّها

إلّا عليك ؛ فإنه مذموم ٣٠٩

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمتّ بي من كان فيك يلوم ٤٢

أأترك إن قلّت دراهم خالد

زيارته؟! إنّي إذا للئيم ١١٣

ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها ٣٠٤

ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه

يدعه ، ويغلبه على النفس خيمها ٣٠٤

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى ، وغيّرها الأرواح والدّيم ٢٦٦

فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم ٢٧٤

لا والذي هو عالم أنّ النّوى

صبر ، وأنّ أبا الحسين كريم ١١٩

والله يبقيك لنا سالما

برداك تبجيل وتعظيم ١٣٨

وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها

بدلا ، أراها في الضّلال تهيم ١٢٤

الميم المكسورة

حتى خضبت بما تحدّر من دمي

أكناف سرجي أو عنان لجامي ٧٤

ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب

جذع البصيرة قارح الإقدام ٧٣


فليس الذي حلّلته بمحلّل

وليس الذي حرّمته بحرام ٢٦٣

سئمت تكاليف الحياة ، ومن يعش

ثمانين حولا ـ لا أبا لك – يسأم ٢٦٣

أحلّت دمي من غير جرم ، وحرّمت

بلا سبب يوم اللّقاء كلامي ٢٦٣

فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي ٧٣

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام ٧٣

ترى أحجاله يصعدن فيه

صعود البرق في الغيم الجهام ١٨٧

غيري جنى ، وأنا المعاتب فيكم

فكأنني سبّابة المتندّم ١٧١

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محبّ أو إساءة مجرم ٢٥٨

إذا ما اتّقى الله الفتى ، وأطاعه

فليس به بأس وإن كان من جرم ٢٦٤

لقد خنت قوما لو لجأت إليهم

طريد دم ، أو حاملا ثقل مغرم ٢٦٩

أتى الزّمان بنوه في شبيبته

فسرّهم ، وأتيناه على الهرم ١٤٩

كأنّ فتات العهن في كل منهل

نزلن به حبّ القنا لم يحطّم ١٣٤ ، ١٥٤

وما كلفة البدر المنير قديمة

ولكنّها في وجهه أثر اللّطم ٣١٠

وكم ذدت عني من تحامل حادث

وسورة أيّام حززن إلى العظم ٩١

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم ١٤١، ٢٧٣

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم؟ ٢٨٦

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم ٢٢٩

فراق ، ومن فارقت غير مذمّم

وأمّ ، ومن يمّت خير ميمّم ٣٢٢

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الرّبيع ، وديمة تهمي ١٥٦

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي ٤٩

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهّم ٣٢٠

والليل كالحلّة السّوداء ، لاح به

من الصباح طراز غير مرقوم ١٨٥

ألفيت فيهم معطيا ، أو مطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم ٢٦٩


أحاديث ترويها السّيول عن الحسيا

عن البحر ، عن كفّ الأمير تميم ٢٦١

أصحّ وأقوى ما سمعناه في النّدى

من الخبر المأثور منذ قديم ٢٦١

أتينا أصبهان ، فهزّلتنا

وكنّا قبل ذلك في نعيم ١٣٣

متى تخلو تميم من كريم

ومسلمة بن عمرو من تميم؟ ٢٤٩

وكان سفاهة منّي وجهلا

مسيري ، لا أسير إلى حميم ١٣٣

قافية النون

النون الساكنة

لا تقل : بشرى ، ولكن بشريان

غرّة الدّاعي ، ويوم المهرجان ٣٢٣

إن الثمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ١٥٩

النون المفتوحة

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنا ١٠١

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ في أيماننا نيرانا ٢١٩

زعم البنفسج أنه كعذاره

حسنا ، فسلّوا من قفاه لسانه ٢٧٨

كأن ألسنهم في النّطق قد جعلت

على رماحهم في الطّعن خرصانا ٣٠٨

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا ٣٠٦

فكأنه والطّعن من قدّامه

متخوّف من خلفه أن يطعنا ٣٠٩

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه مفتاح الغنى ٢٥٦

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا ٢٥٦

كلكم قد أخذ الجا

م ، ولا جام لنا ٢٩٠

ما الذي ضرّ مدير

الجام لو جاملنا ٢٩٠

قد كان ما خفت أن يكونا

إنّا إلى الله راجعونا ٣١٥

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا ٢٠٨


النون المضمومة

وكالنّار الحياة ؛ فمن رماد

أواخرها ، وأوّلها دخان ٨٨

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فنّ ، وهذا له فنّ ٢٧٢

فللخامل العليا ، وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى ، وللخائف الأمن ٢٧٢

النون المكسورة

فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنّات المثاني ٢٩٥

بأنّي قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان ٨٤

حملت ردينيّا كأن سنانه

سنا لهب لم يتّصل بدخان ١٥٤، ١٩٤

أنا المرعّث ، لا أخفى على أحد

ذرّت بي الشمس للقاصي وللدّاني ٤١

فأضربها بلا دهش ، فخرّت

صريعا لليدين وللجران ٨٤

سكران : سكر هوى ، وسكر مدامة

أنّى يفيق فتى به سكران؟؟! ٢٩٤

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان ٢٩٦

ألا من مبلغ فتيان فهم

بما لاقيت عند رحا بطان ٨٤

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكم دعاني ٢٩٥

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان ٢٤٢

زمّوا الجمال ؛ فقل للعاذل الجاني :

لا عاصم اليوم من مدرار أجفاني ٢٣٢

خيّل لي أن سمّر الشّهب في الدّجى

وشدّت بأهدابي إليهنّ أجفاني ٢٧٦

فقلت لها : كلانا نضو أرض

أخو سفر ، فخلّي لي مكاني ٨٤

فشدّت شدّة نحوي ، فأهوت

لها كفّي بمصقول يماني ٨٤

بعرض تنوفة للريح فيه

نسيم لا يروع التّرب وان ٢٢٢

ليالي يدعوني الهوى وأجيبه

وأعين من أهوى إليّ رواني ١٣٥

كأنه كان مطويّا على إحن

ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني ٣١٦

هبت له ريح إقبال ، فطار بها

نحو السرور ، وألجاني إلى الحزن ٣١٦


يقولون : في البستان للعين لذّة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن ٣٠٠

إذا شئت أن تلقى المحاسن كلّها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن ٣٠٠

« إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن » ٣١٦

وصاحب كنت مغبوطا بصحبته

دهرا ، فغادرني فردا بلا سكن ٣١٦

كأنّا وضوء الصبح يستعجل الدّجى

نطير غرابا ذا قوادم جون ١٩٥

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني ٣١٨

إرى الشّهباء تعجن إذ غدونا

برجليها ، وتخبز باليدين ٢١٢

وقائلة : ما هذه الدّررّ التي

تساقطها عيناك سمطين سمطين ٣٠٦

أنت إذا جدت ضاحك أبدا

وهو إذا جاد دامع العين ٢٧٠

فقلت : هي الدّرّ الذي قد حشا به

أبو مضر أذني تساقط من عيني ٣٠٦

من قاس جدواك بالغمام فما

أنصف في الحكم بين شكلين ٢٧٠

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين ١٦٢، ٢٣٢

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ، ثمّت قلت : لا يعنيني ١٣٢

قافية الهاء

الهاء الساكنة

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ، ومشيع غناه ٤٢

الهاء المفتوحة

يتعاوران من الغبار ملاءة

بيضاء محكمة هما نسجاها ٢٣٠

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها ١٦٢

تطوى إذا وردا مكانا محزنا

وإذا السنابك أسهلت نشراها ٢٣٠

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس إليها ، فاحتواها ١٦٢

لو أن عزّة خاصمت شمس الضّحى

في الحسن عند موفّق ، لقضى لها ١٥٦


لا تعرضنّ على الرّواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل في تهذيبها ٢٩٠

صبحنا الخزرجيّة مرهفات

أباد ذوي أرومتها ذووها ٢٢٧

إن السحاب لتستحيي إذا نظرت

إلى نداك فقاسته بما فيها ١٩٩

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر في كل وقت طالع فيها؟! ٢١٧

ترى الثياب من الكتّان يلمحها

نور من البدر أحيانا فيبليها ٢١٧

في طلعة البدر شيء من محاسنها

وللقضيب نصيب من تثنّيها ٢٠٠

الهاء المضمومة

لا أدّعي لأبي العلاء فضيلة

حتّى يسلّمها إليه عداه ١٠٤

فإن الله خلّاق البرايا

عنت لجلال هيبته الوجوه ٣١٨

الهاء المكسورة

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه ٦٢

ما مات من كرم الزمان فإنه

يحيا لذي يحيى بن عبد الله ٢٨٩

قافية الياء

الياء المفتوحة

وكانت في حياتك لي عظات

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا ٣١٩

فلما خاف وشك الفوت منه

تشبّث بالقوائم والمحيّا ٢٧٨

فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا ٢٥٩

كفى حزنا بدفنك ، ثم إني

نفضت تراب قبرك عن يديّا ٣١٩

عمدة الخير عندنا كلمات

أربع قالهنّ خير البريّه ٣١٨

وأدهم يستمدّ الليل منه

وتطلع بين عينيه الثّريّا ٢٧٨

سرى خلف الصباح يطير مشيا

ويطوي خلفه الأفلاك طيّا ٢٧٨

فتى كملت أخلاقه ، غير أنه

جواد ؛ فما يبقي من المال باقيا ٢٨١


مداهن من ذهب

فيها بقايا غاليه ١٩٧

على أنني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه ، لا عليّ ، ولا ليا ٢٥٦

وإني لأستغفي ، وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا ٢٧٩

وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب

يرى كلّ ما فيها ـ وحاشاك – فانيا ١٥٨

اتق المشبهات ، وازهد ، ودع ما

ليس يعنيك ، واعملنّ بنيّه ٣١٨


فهرس أنصاف وأجزاء الأبيات

الصحفه

باب الألف

إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها

٣٢

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

١٦٦

أشهى إلى النّفس من الخبز

١٨٤

أعلى الممالك ما يبنى على الأسل

٣٢٠

أقسم بالله أبو حفص عمر

١٢٣

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

١١٧

إلهي عبدك العاصي أتاكا

٦٧

إن تسألوا الحقّ نعط الحقّ سائله

٦٧

إنّ محلّا ، وإنّ مرتحلا

٧٥

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا

١٤٦

إنا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

٣٢٣

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي؟!

١١٥

باب التاء

تحيّة بينهم ضرب وجيع

٢١٨

تزجي اعن كان ابرة روقه

١٨٣


الصفحه

باب الثاء

ثمّ راحوا ، عبق المسك بهم

١٣٦

باب الجيم

جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ

٥٣

جد ؛ فقد تنفجر الصّخرة بالماء الزّلال

١٩٢

جذب الليالي : أبطئي ، أو أسرعي

٣٣

باب الحاء

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي

١٨

الحمد لله العليّ الأجلل

١٤

باب الخاء

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

١٤٥

باب السين

سبوح لها منها عليها شواهد

١٨

باب الصاد

صلب العصا ، بالضرب قد دمّاها

٢٤٥

باب العين

عرف الدّيار توهّما فاعتادها

١٨٢

على لاحب لا يهتدى بمناره

١٤٤


الصحفه

باب الغين

غدائره مستشزرات إلى العلا

١٤

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع

٦٢

باب الفاء

فأدرك لم يجهد ولم يئن شأوه

١٣٤

فأفّ لهذا الدّهر ، لا بل لأهله

٢٦٦

فإن المسك بعض دم الغزال

١٨١

فإني وقيّار بها لغريب

٧٤

فديت بنفسه نفسي ومالي

٧٢

فقد سكنت إلى أني وأنكم

٢٧١

فما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع

١٠٦

فنام ليلي وتجلّى همّي

٣٦

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

٢٩٣

باب القاف

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

٣٢٢

قلم أصاب من الدّواة مدادها

١٨٣

باب الكاف

كأنها فضّة قد مسّها ذهب

١٩٦

كالفجر فاض على نجوم الغيهب

٢٢١

كريم الجرشّى شريف النّسب

١٥

كعطفة الجيم بكفّ أعسرا

١٩٥


الصحفه

ككأس عقيق في قرارتها مسك

١٩٧

كما طيّنت بالفدن السّياعا

٧٢

باب اللام

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف

٢١٢

لو ذات سوار لطمتني

٧٥

لو زادها عينا إلى فاء ورا

١٩٦

ليوم كريهة وسداد ثغر

٣١٧

ليبك يزيد ضارع لخصومة

٧٧

باب الميم

ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل

١٦٦

ما بال عينك دمعها لا يرقأ؟!

١٣٦

ما بال عينك منها الماء ينسكب؟!

٣٢٣

ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد

٦٤

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه

٦٤

مداد مثل خافية الغراب

١٨١

موعد أحبابك بالفرقة غد

٣٢٣

باب النون

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

٥٨

باب الهاء

هذا أبو الصّقر فردا في محاسنه

٤٤

هم يضربون الكبش يبرق بيضه

٥٨


الصحفه

هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة

٥٨

هما يلبسان المجد أحسن لبسة

٥٨

باب الواو

وإذا المنية أنشبت أظفارها

٢٣٩

وألفى قولها كذبا ومينا

١٤٠

وإنما يعذر العشاق من عشقا

١٠٥

والشمس كالمرآة في كفّ الأشل

١٧٥ ، ١٨٧

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر

٧٣

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

٢٢٣

وشيّب أيام الفراق مفارقي

٣٦

وعالم يعرف بالسّجري

١٨٤

وفاحما ومرسنا مسرّجا

١٤ ، ٢١٠

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر

١٤٤

ولا يك موقف منك الوداعا

٧٢

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

٤٧

ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي

٧٥

وما اشتار العسل ، من اختار الكسل

٣٠٠

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

١٦٩

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

٣٦

باب الياء

يأكلن كلّ ليلة إكافا

٢٠٧

يا شبيه البدر في الحسن وفي بعد المنال

١٩٢


الصحفه

يا ليت أيام الصّبا رواجعا

١٠٨

يقعي جلوس البدويّ المصطلي

١٧٧

يقول من فيها بعقل فكّرا

١٩٦

يكون مزاجها عسل وماء

٧٢


فهرس المحتويات

تقديم........................................................................... ٣

١ ـ علم المعاني................................................................ ٤

٢ ـ علم البيان................................................................ ٥

٣ ـ علم البديع................................................................ ٥

ترجمة المؤلف..................................................................... ٨

صفته........................................................................ ٨

طلبه للعلم ومشايخه............................................................ ٨

مصنفاته...................................................................... ٩

وفاته......................................................................... ٩

تصدير........................................................................ ١١

في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة في المعاني والبيان....... ١٣

علم المعاني..................................................................... ٢٣

تنبيه اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب......................... ٢٥

القول في أحوال الإسناد الخبري................................................ ٢٧

فصل الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.............................................. ٣١

القول في أحوال المسند إليه.................................................... ٣٩

القول في أحوال المسند........................................................ ٧٤


القول في أحوال متعلّقات الفعل................................................ ٨٨

القول في القصر............................................................. ٩٨

القول في الإنشاء........................................................... ١٠٨

القول في الوصل والفصل.................................................... ١١٨

القول في الإيجاز والإطناب والمساواة........................................... ١٣٩

القسم الأول المساواة........................................................ ١٤٣

القسم الثاني الإيجاز........................................................ ١٤٣

القسم الثالث الإطناب..................................................... ١٥١

الفن الثاني في علم البيان....................................................... ١٦٣

القول في التشبيه........................................................... ١٦٤

تقسيم آخر باعتبار آخر.................................................... ١٧٢

خاتمة..................................................................... ٢٠٢

القول في الحقيقة والمجاز...................................................... ٢٠٢

المجاز المرسل............................................................... ٢٠٥

الاستعارة.................................................................. ٢١٢

المجاز المركب............................................................... ٢٣١

فصل في بيان الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييليّة............................ ٢٣٤

فصل في آراء للسكاكي في الحقيقة والمجاز...................................... ٢٣٦

فصل شروط حسن الاستعارة................................................ ٢٤٠

فصل المجاز بالحذف والزيادة................................................. ٢٤١

القول في الكناية........................................................... ٢٤١

تقسيم السكاكي للبلاغة...................................................... ٢٥١

القسم الثالث علم البديع................................................... ٢٥٥

الفصل الأول القول في السرقات الشعرية وما يتصل بها.......................... ٣٠١

الفصل الثاني.............................................................. ٣٢٢


الفهارس العامة............................................................... ٣٢٧

فهرس الآيات القرآنية....................................................... ٣٢٩

فهرس الأشعار............................................................. ٣٦٤

فهرس أنصاف وأجزاء الأبيات............................................... ٤٠٧

فهرس المحتويات............................................................ ٤١٣

الايضاح في علوم البلاغة

المؤلف:
الصفحات: 415