مقدمة

ليس من شأن هذه الدراسة أن تؤرخ لأبي الحسن الأخفش الأوسط ، سعيد بن مسعدة (المتوفى ٢١١ أو ٢١٤ ه‍) ، ولا أن تبحث في طبيعة علاقته بسيبويه ، أتلمذة هي أم زمالة ، ولا في شأن علاقته بالكوفيين ، وهل أثرّ فيهم ومهّد لهم السبيل إلى التوسع في السماع والقياس (١) ، أم تأثّر بهم وتلمذ لهم (٢) ، أم أن التأثّر والتأثير هما نتيجة تلاقح فكري بين آرائه وآرائهم كانت حصيلته اتفاقا في مسائل كثيرة من مسائل العربية (٣). كما ليس من شأنها التأريخ لنشأة المدرسة الكوفية وأشهر أقطابها ، فكل هذه الأمور وغيرها في متناول الدارسين ، تحفل بها كتب التراجم ،

__________________

(١) شوقي ضيف ، المدارس النحوية ، ص ٩٦.

(٢) الشيخ محمد الطنطاوي ، نشأة النحو ، ص ٨٩.

(٣) عبد الأمير محمد أمين الورد ، منهج الأخفش الأوسط في الدراسة النحوية ، ص ٣٩٧ / ٣٩٨.


والأبحاث الدائرة حول منهجية الأخفش وآرائه النحوية ، ومنهجية الكوفيين ومذاهبهم في النحو.

لذلك ترانا قصرناها على إبراز أهمّ الآراء التي شاءها الأخفش والكوفيون معالم جديدة على طريق النحو ، وبيان مدى جدّتها ، ومبلغ فاعليتها ـ إيجابا أو سلبا ـ في تطوير الدرس النحوي ، مذكرين بأن هدفنا الأخير كان ، وسيبقى ، تسهيل النحو على طلابه ، انطلاقا من مبدأ نخل التراث والإبقاء على ما فيه من زبدة تكون نواة طيبة لنحو عربي جديد.

المؤلف


الباب الأول

الأخفش الأوسط



تمهيد

لا بدّ ، قبل الخوض في آراء الأخفش النحوية الجديدة ، من المبادرة إلى القول إنه لم يكن بدعا من أقطاب مدرسته البصرية. فقد اقتفى خطاهم في الأخذ بالمبادىء الثلاثة التي قامت عليها مدرستهم : السماع ، والتعليل ، والقياس. لكن ما يبدو جديدا هو أنه لم يأخذ نفسه بالصرامة التي أخذوا بها أنفسهم في المبدأين الأول والثالث ، فجاز لديه الشاهد الواحد أو النادر ، وقبل أحيانا بما لم يكن مؤسسو المدرسة يقبلون به لأنه «شاذ» أو «لغة رديئة» ، أو «قال به بعض العرب» ممن لا تتوافر فيهم شروط «الفصاحة». فقد نقل عن أقوام أجمع أسلافه على عدم جواز النقل عنهم ، كاستشهاده مثلا على عمل «لعلّ» الجر ببيت لكعب بن سهم الغنوي :

فقلت أدع أخرى وارفع الصوت جهرة

لعلّ «أبي» المغوار منك قريب

وهذا الشاعر من بني عقيل بن كعب من سكان البحرين


الذين لا يؤخذ عنهم لمخالطتهم الهنود والفرس.

وجازت عنده كذلك بعض القراءات التي كان أسلافه يصنفونها فئة قائمة بنفسها ، ويعتبرونها «سنّة» ، فلا يتعرضون لها بتخطئة أو بتصويب ، وإن كانوا لا يقبلون القياس عليها واتخاذها منطلقا إلى تأصيل قاعدة كلية. والأمثلة على جواز القراءات عند الأخفش والقياس عليها كثيرة نجتزىء لها بهذين المثلين :

* أجاز وقوع ضمير الشأن بين الحال وصاحبها ، قياسا على قراءة من قرأ : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود / ٧٨] ، بنصب (أطهر).

* أجاز أن ينوب عن الفاعل غير المفعول به رغم وجوده ، قياسا على قراءة أبي جعفر بن القعقاع : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية / ١٤] ، بإنابة الجار والمجرور (بما) عن الفاعل ، مع بقاء المفعول به (قوما) منصوبا.

ولم يكن الأخفش الأوسط كذلك بدعا من سابقيه في


عدم الاحتراز من الخلط بين مستويات الأداء اللغوي ، وما يؤدي إليه هذا الخلط من نتائج مغلوطة على مستوى اللغة الفصحى (١). فقد قال بأن من العرب من يجعل ضمير المخاطبين (كم) إذا كان قبله ياء ساكنة ـ مثل (عليكم) ـ أو حرف مكسور ـ مثل (بكم) ـ بمنزلة ضمير الغائبين (هم) ، فيقولون «عليكم» ، كما يقولون «عليهم» ، و «بكم» ، كما يقولون «بهم» (٢).

وقال أيضا بحذف نون التنوين لكثرة الاستعمال ، كما في قولهم «سلام عليكم» ، (٣) ، وبحذف الألف المبدلة من التنوين في آخر الاسم المنصوب ، كقولهم «رأيت فرخ» ـ بدلا من «رأيت فرخا» ـ وعزا إلى هذا قول الأعشى :

إلى المرء قيس أطيل السّرى

وآخذ من كلّ حيّ عصم

__________________

(١) راجع الفصل المتعلق بالخلط بين مستويات الأداء اللغوي من كتابنا «المنطلقات التأسيسية والفنية إلى النحو العربي».

(٢) منهج الأخفش الأوسط ، ص ١٩٨.

(٣) نفسه ، ص ٢٦٤. نميل إلى الاعتقاد بأن المحذوف هو «ال» التعريف ، أو أن همزة «ال» تحولت من همزة قطع إلى همزة وصل ثم خففت السين المشددة.

من «سلام» لتعذر النطق بساكن في بدء الكلام ، فصارت «سلام عليكم».


لأن الشاعر أراد «عصما» (١).

وإن المرء ليستغرب مثل هذا التخليط. فمما لا شك فيه أن حذف التنوين والألف المبدلة منه عند الوقف ـ كما في «رأيت فرخ» التي أصلها «رأيت فرخا» ثم «رأيت فرخا» عند الوقف ـ في الاسم المنصوب ، لا يمكن أن يتم على مستوى الفصحى في اختيار الكلام ـ كما يقولون ـ أي في النثر ، ولكنه جائز في الشعر عند تقييد القافية ، لأن عملية التقييد هذه ـ أي تسكين حرف الروي ـ تمنع ظهور حركات الإعراب ، رفعا كانت أو نصبا أو جرا ، وهو أمر معروف ومصطلح عليه منذ أقدم الأزمنة.

ولم يكن الأخفش بدعا من أقطاب مدرسته حيال فكرة «العامل». فعلى الرغم من محاولته دراسة الجملة العربية على ضوء الاستعمال أحيانا ، ومحاولته اتباع المنهج الوصفي بعيدا عن التعقيد والمبالغة في بيان العلل ، كما في قوله مثلا بأن المبتدأ إذا كان موصولا صلته فعل ـ كقولك «الذي يفعل هذا فله مكافأة» ـ وردت «الفاء» في خبره لأنه بمنزلة

__________________

(١) منهج الأخفش الأوسط ، ص ٢٦٧.


«من» ، و «من» يكون جوابها بالفاء في المجازاة (١) ؛ وكما في قوله في النصب بعد «فاء السببية» بأنه «الذي يسميه النحويون جواب الفاء ، وهو ما كان جوابا للأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والنفي والجحود» (٢) ، وأن نصب «يشفعوا» مثلا في قوله (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف / ٥٣] تمّ بعد «الفاء» لأنه جواب استفهام ؛ وكما في قوله أن جواب الأمر مجزوم مثل جواب ما بعد حروف المجازاة كأنه «تفسير» ، وأن جزم «أوف» في قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة / ٤٠] جاء وكأنه قال «إن تفعلوا أوف بعهدكم» (٣) ؛ نقول : إنه على الرغم من محاولته دراسة الجملة العربية ، تبعا للمنهج الوصفي أحيانا ، لا تلبث أن تغلب عليه النزعة المنطقية القائمة على فكرة «العامل» بشكليه اللفظي والمعنوي ، فنراه يذهب إلى التأويل والتعليل وتقدير العوامل إن لم تكن ظاهرة.

وإليك بعض الأمثلة على ذلك :

__________________

(١) مخطوطة معاني القرآن ، ٣٧ / أ، بـ ـ ٧٩ / بـ ـ ١٢٤ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢٢٢.

(٢) نفسه ، ٢٨ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الاوسط» ، ص ٢٢٣.

(٣) نفسه ، ٣٤ / بـ ، نقلا عن «منهج الأخفش الاوسط» ، ص ٢٢٢.


* لا بدّ في الجمل الدعائية المبدوءة باسم منصوب : «تعسا له» ، «بعدا له» ، «ويل زيد» ، «حمدا لله» ، الخ ... من تقدير فعل يكون انتصاب الاسم به.

* لا يجوز أن تتقدم الحال على المبتدأ الذي خبره جملة فعلية عاملة في الحال ، فلا يقال «راكبا زيد جاء» ، لبعد الحال عن العامل فيه ، ولكن يجوز أن تتقدم على عاملها إذا التصقت به ، فيقال عندئذ «راكبا جاء زيد» (١).

* الظرف عند الأخفش قوي قوة الفعل ويعمل عمله في أنه يرفع الظاهر بعده فاعلا له ، فـ «زيد» في قولنا «عندك زيد» فاعل للظرف «عند» (٢).

* «غول» في قوله (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات / ٤٧] ، مرفوع على الابتداء ، ولم تعمل فيه (لا) ، لأنها لا تقوى

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ٢٤٢.

(٢) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٤٤. إعراب القرآن ، ١ / ٢٠٣ ـ ٢ / ٥٢١ ـ ٥٣١ ـ ٥٣٥.


على العمل فيه بعد أن فصل بينها وبينه بـ (فيها) (١).

* إذا حذف العامل وسقطت الحاجة إليه في المعنى ، زال عمله ، كما في قوله (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) [الصافات / ٧ ـ ٨] ، فالمعرب بالخيار في أن يجعل جملة «لا يسّمّعون» ابتدائية ، أو أن يقدّرها بـ «وأن لا يسّمّعوا» ، فلما حذفت (أن) ارتفع الفعل ، كما في قولك «أتيتك تحسن إليّ» ، و «مره يعطيني» ، فإن شئت قدّرت «فأنت تحسن إليّ» ، و «فهو يعطيني» ، وإن شئت قدّرت «أن تحسن إليّ» ، و «أن تعطيني» ، فلما طرحت (أن) ارتفع الفعل (٢).

وبناء على ما تقدم ، يمكن أن نخلص الى القول إن

__________________

(١) مخطوطة معاني القرآن ، ١٢ / أ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢١٣.

(٢) نفسه ، نقلا عن «منهج الأخفش الأوسط» ، ص ٢٥٥.


الأخفش كان في إطار منهجه العام «نحويا تقليديا». لكن هذا لا يمنع أنه خرج على بعض قواعد مدرسته البصرية ، وحاول الإتيان بجديد سوف نسعى الى بيانه ومناقشته في قابل البحث.


الفصل الأول

اجتهادات عقّدت النحو

لعله لم يكن في وسع الأخفش الأوسط ـ وقد رست قواعد المدرسة البصرية الكلية أو شبه الكلية ، بدليل وجود كتاب سيبويه ـ أن يتصدّى لاستبدال الأصول النحوية بأصول أخرى ، فما كان منه ـ والحالة هذه ـ إلّا أن عمد إلى التفريع على تلك الأصول باجتهادات أرادها دعائم لمباشرة عملية ترميم وإصلاح في بناء النحو البصري ، فما زادت على أن كانت في معظمها مداميك إضافية أثقلت البناء ، وفتحت الأبواب على مصاريعها لكل راغب في عرض مهارته المنطقية ، وعارضته الجدالية.

وها نحن أولاء نسوق طائفة من الاجتهادات الأخفشية ، مبينين كيف مالت بالدرس النحوي إلى التعقيد :


أولا ـ في بعض الصيغ الخاصة :

* ذهب الأخفش إلى أن (ما) التعجبية في «ما أحسن زيدا» اسم موصول صلته (أحسن) وخبره محذوف تقديره (شيء عظيم) ، أو نحو ذلك. كما ذهب في رأي آخر إلى أنها نكرة موصوفة ، والجملة بعدها في موضع رفع نعتا لها ، والخبر محذوف (١).

فيكون التقدير في الرأي الأول : «الذي أحسن زيدا ـ أي جعله حسنا ـ شيء عظيم» ، وفي الرأي الثاني : «أمر محسن زيدا شيء عظيم».

وكان سيبويه يرى أن (ما) نكرة تامّة بمعنى (شيء) موضعها الرفع على الابتداء ، والجملة بعدها ـ من فعل التعجب وفاعله المقدّر ـ خبرها ، والتقدير في ذلك : «شيء أحسن زيدا» ، أي جعله (حسنا).

وإذا كنا نجهل السبب الذي حمل سيبويه على القول بأن (ما) نكرة تامّة ـ وهي في اعتقادنا لا تختلف عن أية نكرة أخرى غير مفيدة ـ فإننا

__________________

(١) مغني اللبيب ، ١ / ٢٩٧.


نميل إلى الاعتقاد بأن رفض الأخفش الذهاب إلى أنها كذلك ، ولجوءه إلى القول بموصوليتها تارة ، وبكونها نكرة موصوفة طورا ، يظلان أقرب إلى «المنطق» الذي طبع الدرس النحوي فارضا عدم جواز الابتداء بنكرة ما لم تفد. فإذا كانت (ما) اسما موصولا فهي معرفة يجوز الابتداء بها ، ولا شيء يمنع من اعتبارها كذلك ما دام مبدأ الإسناد سليما ، حين يقال بأن ما بعدها ـ وهو جملة «أحسن» ـ صلتها ، وأن خبرها مقدّر. وإذا كانت نكرة موصوفة ـ والمنطق هنا سليم أيضا ، إذ جعلت جملة «أحسن» نعتا لـ (ما) ـ فهي معرفة أيضا ، وهي مبتدأ خبره مقدّر. ولعل ما يشفع له في ذلك أنه «رأى أن (ما) التامة غير ثابتة أو غير فاشية ، وحذف الخبر فاش ، فترجح عنده الحمل عليه» (١).

وأما أن تدرس هذه الصيغة التعجبية دراسة مستقلة ، بعيدا عن المنطق الرياضي ، فأمر لم يخطر

__________________

(١) مغني اللبيب ، ٢ / ٦٠٢.


على ما يبدو للأخفش ، كما لم يخطر لأسلافه من قبله.

* رأى سيبويه أن (لات) بمعنى (ليس) ، وأن اسمها وخبرها من اسماء الزمان ، مع شيوع حذف الاسم معها. (١)

أما الأخفش فله في (لات) رأيان :

الأول ـ أنها تعمل عمل (إنّ) ، وأن (حين) في قوله (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص / ٣] ، هو اسمها ، أما خبرها فمقدّر بـ (لهم) ، أي «لا حين مناص لهم» ، أو «لا حين مناص حينهم» (٢)

الثاني ـ أنها حرف غير عامل. فإذا وليها مرفوع كان مبتدأ محذوف الخبر ، أي «لا حين مناص كائن لهم» (٣) ، وإذا وليها منصوب فبتقدير فعل ، والتقدير عنده في الآية «لا أرى حين مناص» (٤). وقد قاده هذا الرأي الأخير إلى

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١٢٦.

(٢) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ١١٢.

(٣) مغني اللبيب ، ١ / ٢٥٤.

(٤) نفسه ، وهمع الهوامع ، ١ / ١٢٦.


اعتبار (لا) ـ وهي كما رأينا بمعنى «لات» ـ في قول جرير :

فلا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدّا إذا ازدحم الجدود

غير عاملة وأن (حسبا) منصوب بفعل قدّره بـ (فلا ذكرت حسبا).

وسواء كان ما ذهب إليه سيبويه جيدا أو لم يكن ، فإن الاكتفاء بوجه واحد في «لات» يظل أيسر من القول فيها بوجهين لم يخلص أي منهما من ضرورة «التقدير» لجزء محذوف من العبارة.

* كان سيبويه يرى أن (أنّ) واسمها وخبرها في مثل قولنا «علمت أنّ زيدا قائم» سدّت مسدّ مفعولي فعل القلب (علم). وذهب الأخفش إلى أن (أنّ) ومعموليها سدّت مسدّ المفعول الأول وحده ، وأما المفعول الثاني فمقدّر. وعلى هذا يكون تأويل الجملة حسب رأي الأخفش : «علمت قيام زيد حاصلا» (١).

__________________

(١) أنظر في هذا «إملاء ما منّ به الرحمن» ، ج ١ ، ص ٩٢.


وواضح من رأي الأخفش أنه لم يستطع الخروج من دائرة «التقدير» لارتباطه سلفا بضرورة اعتبار الاسمين التاليين لفعل القلب «مفعولين» ، وطرد القاعدة في كل عبارة مصدرة بأحد أفعال القلوب ، على أساس أن الاسمين الواقعين بعده أصلهما «مبتدأ وخبر» ، حتى وإن كان في هذه الرؤية إسقام للمعنى. فما لا شك فيه أن القول بمبتدأ وخبر في كلمتي «الثلج» و «البلّور» قبل دخول «ظننت» ، في عبارة مثل «ظننت الثلج بلّورا» ، قول فاسد ، إذ لا يعقل أن يفيدا معنى من غير فعل القلب ، رغم توفّر «الإسناد» فيهما من الناحية الشكلية.

وإننا لنميل إلى أن «نافعا» في مثل «وجدت العلم نافعا» أقرب إلى (الحال) منه إلى (المفعول) ، على الرغم من كون «العلم نافع» مبتدأ وخبرا قبل دخول فعل القلب.

ثمّ إن المعرب لا يفتئت على حرمة اللغة إذا هو اقتصر في إعرابه «ظننت أن زيدا قائم» على مفعول واحد لـ «ظننت» ، فقال بأن جملة «أن زيدا قائم» المؤولّة بالمصدر «قيام» مفعول به للفعل «ظن» ،


لأن هذا هو في الواقع ما قصد إليه المتكلم ، كما فيما لو سئل : «أظننت أن زيدا قائم» ، فقال : «ظننت ذلك» ، وجاء بـ «ذلك» مفعولا به لـ «ظننت» ، وأفاد معنى تاما ، دون حاجة إلى مفعول به ثان يقدّره ضمن المفعول الأول ـ كما في رأي سيبويه. والجمهور ـ أو يقدّره بـ «حاصل» ، أو «واقع» ، أو نحو ذلك ، كما في رأي الأخفش.

* المعروف أن «أيّ» في أسلوب النداء : «يا أيها الناس» هي المنادى ، وأن «الهاء» للتنبيه ، والاسم بعدها وصف لها (١). وقد ذهب الأخفش إلى أن «أيّ» اسم موصول ، والاسم المحلّى بالألف واللام ـ «الناس» ـ خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هم» ، لأن تقدير الكلام في نظره : «يا من هم الناس» (٢). وقد وجب حذف المبتدأ للتخفيف نظرا لأننا زدنا على حرف النداء «يا» كلمتين : «أيّ» و «هاء التنبيه».

__________________

(١) سواء اعتبر الاسم بعدها «نعتا» في حال كونه مشتقا ، أو «بدلا» في حال كونه جامدا ، فإنه معتبر في الاصطلاح النحوي «وصفا» ، لأن هذا اللفظ يطلق عليهما كليهما.

(٢) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٢١.


وعلى الرغم من تحفظاتنا على أسلوب النداء وضرورة إعادة النظر فيه (١) ، وإيماننا بأن المنادى في مثل «يا أيها الناس» هو كلمة «الناس» بالذات ، وبأن طبيعة اللغة شاءت بلوغه عن طريق «أيّها» (٢) ، إذ لا يعرف أنه ولي حرف النداء في الاستعمال منادى معرّف بالألف واللام من غير أن يؤتى بها ، إلّا في قولهم «يا الله» ، بوصل الهمزة وقطعها (٣) ، فأنه لا يمكننا موافقة الأخفش على موصولية «أيّ» لسببين :

الأول ـ أن الاسم الموصول مبهم بطبيعته ، لأنه لا يخصّ مسمى دون آخر. وأنت حين قلت «يا أيها الناس» توجّهت إلى جماعة بعينهم ـ في حال مخاطبتهم المباشرة ، كما في الاحتفالات والمواقف

__________________

(١) راجع في ذلك الفصل المتعلق بدراسة الجملة من كتابنا «المنطلقات التأسيسية والفنية إلى النحو العربي».

(٢) ليس من داع في رأينا لاعتبار «الهاء» للتنبيه ، لأن حرف النداء نفسه يتضمنه ، ولأنه لا يمكن أن يكون نداء بلا تنبيه.

(٣) جاء في هذا أنه جاز نداء هذا الاسم وفيه الالف واللام لأنهما لزمتاه ، إذ كانتا عوضا من همزة «إله» في الأصل ، فلما جاز ان تقول «يا إله» ، جاز ان تقول «يا الله». ابن الخشاب ، المرتجل ، ص ١٩٥.


الخطابية ـ أو قصدت جنسهم ـ في حال مخاطبتهم غير المباشرة ، كما في المواعظ والإرشاد ـ فلا يعقل إذن أن تتوسل لمخاطبة من «تقصدهم» اسما مجمعا على أنه «مبهم».

الثاني ـ أن الاسم الموصول لا يكمل معناه بغير «صلة» ، وليس في قولك «الناس» ما يصل «أيّ» إلّا إذا قدّرت مبتدأ محذوفا : «هم» ، كما فعل الأخفش. (كان الأولى به تقدير «أنتم» على الأقل ، ما دام الأسلوب أسلوب نداء ، أي مخاطبة) وأنت بتقديرك هذا المبتدأ تكون إما قد قررت بأن من عنيتهم بقولك ، هم وحدهم الجديرون بأن يسموا «ناسا» ـ وليس ذلك هو المراد من قولك «يا أيها الناس» ـ وإما قد جعلت من تخاطبهم بمثابة «النكرة المقصودة بالنداء» ـ كما في قولك «يا غافلا تنبّه» ـ وهذا يتناقض بالطبع مع «توجهك» إلى أناس بعينهم ، أو إلى جميع الناس ، كما هو الأمر في الآيات القرآنية المتضمنة مثل هذه الصيغة.

بقي أن نقول إن الذي حمل الأخفش على


اعتبار «أيّ» الندائية موصولة ، وتقدير مبتدأ محذوف في جملة الصلة ، هو قياسه إياها على «أيّ» في مثل «اكرم أيهم أفضل» التي اعتبرها معاصره سيبويه مبنية على الضم لأنه حذف من صلتها المبتدأ المقدّر بـ «هو» (التقدير : «اكرم أيهم هو أفضل» (١)). فما دامت «أي» في هذه الصيغة الأخيرة اسما موصولا حذف المبتدأ من صلته وبني على الضم ، وما دامت «أيّ» في صيغة النداء قد بنيت على الضم ، فلتكن إذن «اسما موصولا حذف المبتدأ من صلته». ولا يخفى على أريب ما في هذا القياس المنطقي من تعسف قائم على تشبيه وحدة كلامية (أيّ الموصولة) بوحدة كلامية أخرى (أيّ الندائية) لمجرّد تعادلهما في خصيصتين : البناء اللفظي ، والبناء على الضم.

* يرى الأخفش جواز حذف جواب الشرط أو تقديره ، ويضرب على ذلك مثلا : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً

__________________

(١) المرتجل ، ص ٣٠٨


أَوْ رُكْباناً) [البقرة / ٢٣٨ ـ ٢٣٩]. ففي رأيه أن هناك جواب شرط محذوفا هو «صلّوا» ، وأن تأويل الآية : فإن خفتم فصلوا رجالا أو ركبانا. ومثال ذلك أيضا : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) [البقرة / ٢٨٢] وتقديره : «فإن لم يكونا رجلين فليكن من الشهداء رجل وامرأتان».

ويرى كذلك أنه قد يأتي في الكلام ما يدل على جواب الشرط في المعنى دون اللفظ كما في قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [البقرة / ١٠٣]. فالجزء الثاني من العبارة : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لا يصلح أن يكون جوابا للشرط ، لكنه يتضمّن معنى الجواب ، والتقدير «لأثيبوا». وعلى غراره جاء قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران / ١٥٧]. ففي قوله «لمغفرة» جواب للشرط متضمّن ، وهو على التقدير : «يغفر لكم ويرحمكم».

وقد يستغنى بجواب شرط واحد لشرطين اثنين ، كما في قوله : (مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً


فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل / ١٠٦]. ففي زعمه أن (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) جواب لـ (من شرح بالكفر صدرا) وأنه سدّ مسدّ الجواب لـ (من كفر بالله). ومثاله أيضا : ( ... إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ ...) [البقرة / ١٨٠]. فهو يرى أن (الوصية للوالدين) هي جواب لـ (إن ترك) على تقدير «الفاء» ، أيّ (فالوصية للوالدين) ، وقد سدّ هذا الجواب مسدّ جواب الشرط الأول (إذا حضر).

ونميل إلى الاعتقاد بأن ما حمل الأخفش على مثل هذه التقديرات كان انطلاقه من القاعدة الكلّية التي فرضتها مدرسته للجملة الشرطية ، وهي تقول بأن هذه الجملة مؤلفة من «أداة شرط+ فعل شرط+ جواب شرط» (غني عن البيان ما يستتبع القاعدة من تفريعات ، كوقوع فعلي الشرط والجواب مضارعين أو ماضيين ، أو مضارعا وماضيا ، أو ماضيا ومضارعا ، ووقوع الجواب جملة مربوطة بالفاء ، وغير ذلك) ، بعيدا عن استقراء هذا النوع من الجملة ـ ومن بينها النماذج القرآنية الواردة أعلاه ـ في الاستعمال


اللغوي. فلقد كان الأولى بالنحاة أن يدرسوا الجملة الشرطية كما شاءتها اللغة العربية ، لا كما شاءوها هم. لقد فرضوا أنه إذا لم يقع جواب الشرط «فعلا» ، فلا بد أن يكون «جملة». وهكذا لم تكن الحال «رجالا» (وهي هنا بمعنى راجلين) ـ والأخرى «ركبانا» (وهي هنا بمعنى راكبين) ـ لتصلح جوابا للشرط في رأيهم ، على الرغم من تضمنها معنى الفعل وهو القيام للصلاة في حال الترجّل ـ أو في حال الركوب ـ فارهقوا طالب النحو وممارس الإعراب بتقدير «فعل» يكون الجواب ، مع أن الكلام واضح تام ومنسجم مع روح العربية في الميل إلى الإيجاز. ولا نظن أنه تجديف على اللغة وافتئات على قدسيتها أن يقال إن الحال «رجالا» هي جواب الشرط (فَإِنْ خِفْتُمْ) في الآية ٢٣٩ من البقرة.

أما بالنسبة إلى الآية ٢٨٢ من البقرة فلسنا ندري لم لا يكون التقدير «فإن لم يكونا رجلين فالمطلوب رجل وامرأتان» ـ أو ما شاكله ـ وعليه يكون المحذوف هو المبتدأ ويكون (رجل) خبره ، وتكون الجملة الاسمية قد حلّت محلّ جواب الشرط. فلماذا


الإصرار على تقدير فعل (فليكن)؟ ثم ألا يكفي أن يقررّ الطالب أن جزء العبارة الأخير (فرجل ...) المرتبط بالفاء هو جواب الشرط؟ أم أن في هذا القول خرقا لمنطق النحاة المقدّس؟

وأما بالنسبة إلى الآية ١٠٣ من البقرة فلسنا ندري سببا لعدم صلاح الجملة الاسمية (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لأن تكون جوابا للشرط إلا فرض النحاة أن يكون الجواب «فعلا» أو جملة مرتبطة بالفاء ، على الرغم من صراحة الاستعمال. ومن هنا كان طلب الأخفش من المعرب أن يقدّر فعلا متضمّنا في الجملة الاسمية ، هو (الأثيبوا). ولا عبرة في اعتراض معترض بأن (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) لا تشكّل جملة.

فهي ـ مهما قيل ـ جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ (وقد أفادت النكرة «مثوبة» لوصفها بـ (مِنْ عِنْدِ اللهِ)) ، وخبر (هو (خَيْرٌ)) ، ارتبطت بـ «اللام» جوابا لأداة الشرط «لو».

وقل الشيء نفسه عن الآية ١٥٧ من آل عمران.

فجملة (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ خَيْرٌ) هي جواب الشرط. ولا عبرة بالاعتراض على عدم ارتباطها بالفاء ، لأنه


ثقل ـ في رأينا ـ دخول الفاء على لام التوكيد في «لمغفرة» التي استجابت لأختها في «لئن» ووازتها لغرض إبلاغي ، فكان في ذلك غناء عن الفاء. ثم إن حذف الفاء قد صح في الاستعمال ، وأقرّه الأخفش نفسه في النص القرآني : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) ـ كما رأينا أعلاه ـ وورد في الشعر في قول حسان بن ثابت :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

فقد جاء جواب الشرط «الله يشكرها» خلوا من فاء الربط.

وأما بالنسبة إلى الآية ١٨٠ من البقرة ففي رأينا أن الجملة المصدرة بـ «إذا» أو بـ «إن» تحتاج إلى جواب إذا جاءت في صدر الكلام كقولنا «إذا أردت الخير فاعمل له» أو «إن أردت الخير فعليك أن تسعى إليه» أو ما شابه ذلك. أما إذا اعترضت الجملة المصدرة بـ «إذا» في أثناء الكلام ، فإنها لا تعود جملة شرطية وتخلص «إذا» فيها للظرفية ـ بمعنى


«حين» ـ ولا تكون محتاجة إلى جواب. كذلك تسقط الحاجة إلى الجواب في الجملة المصدرة بـ «إن» إذا وقعت في أثناء الكلام ، كما في قولنا «عليك إذا أردت الخير أن تعمل له» أو «عليك إن أردت الخير أن تسعى إليه». وقل الشيء نفسه فيهما إذا وقعتا في آخر الكلام ، كما في قولنا «عليك أن تعمل للخير إذا أردته» أو «عليك أن تسعى إلى الخير إن أردته».

وإننا لنميل إلى موافقة النحاة الذين رأوا في «الوصية» نائب فاعل لـ «كتب» الواقع في أول الآية ، مع الذهاب إلى أن (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ *) قد تحوّلت عن الصيغة الشرطية إلى الصيغة الظرفية ، وأن «إن ترك خيرا» ليست بحاجة إلى جواب.

وأما فيما يتعلق بالآية ١٠٦ من النحل فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الأخفش لم يستقريء كلامها كما يجب أن يستقرأ. ففي رأينا أن (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ...) واقعة جوابا لـ (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) وحدها ، وأن (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ) الواقعة في صدر الآية ، بيان لـ «الكاذبين» في نهاية الآية السابقة (إِنَّما يَفْتَرِي


الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أو بدل منهم (١) وعلى هذا تكون «من» في صدر الآية اسما موصولا لا اسم شرط.

ثانيا ـ في العوامل والمعمولات :

مرّ بنا أن الأخفش منع الفصل بين الحال والعامل فيها (أي الفعل) إذا تقدمت عليه ، لأن الفصل بينهما يمنع العامل من العمل ، فلا يجوز في رأيه «راكبا زيد جاء». أما قولنا «راكبا جاء زيد» ، فليس ما يمنع عمل (جاء) النصب في الحال ـ بالرغم من تقدم المعمول على العامل ـ نظرا لا لتصاقهما من ناحية ، وقياسا ـ فيما نظن ـ على جواز تقدّم المنصوب الفضلة (أي المفعول به) على العامل فيه (أي الفعل) ، على أساس أن الحال فضلة ، وأنها والمفعول به سواء. (٢)

__________________

(١) إعراب القرآن ٢ / ٥٩٠ ـ ٥٩١.

(٢) كان من جملة ما احتج به البصريون على جواز تقديم الحال على العامل فيها قياسهم بأن العامل فيها (أي الفعل) متصرّف ، وأن عمله يجب أن يكون متصرفا ، وأنه إذا كان كذلك جاز تقديم معموله عليه مثل (عمرا ضرب زيد) ، والذي يدل على جواز تقديم الحال أنها تشبه بالمفعول ، وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل ، فكذلك الحال. (الإنصاف المسألة ٣١).


وإذا نحن جارينا الأخفش والنحاة في منطق القياس ، قلنا ان لا شيء يمنع المتكلم من أن يقول «خيرا زيد فعل» كما يقول «خيرا فعل زيد». ذلك أن منطق اللغة يبيح للمتكلم على ما نظن أن يستخدم أحد أساليب ثلاثة تبعا لاهتمامه وعنايته بكل جزء من أجزاء العبارة. فهو يستخدم الأسلوب الأول :

(فعل+ فاعل+ مفعول به)

إذا أراد مجرد الإخبار.

ويستخدم الأسلوب الثاني :

(مفعول به+ فعل+ فاعل)

إذا صب اهتمامه على الحدث (أي الفعل) بعد عنصر «الخير» الذي أولاه عنايته في الدرجة الأولى.

ويستخدم الأسلوب الثالث :

(مفعول به+ فاعل+ فعل) [نؤكد أن الاسم المتقدم على الفعل يظل فاعلا له رغم اعتراض النحاة على ذلك].

إذا وجّه عنايته إلى فاعل «الخير» بعد توجيهه إلى «الخير» نفسه.

وبناء على ما تقدم يبقى «القياس» صحيحا


بالنسبة إلى «جاء زيد راكبا» لمجرد الإخبار عن الحال التي تم عليها مجيء زيد ، وإلى «راكبا جاء زيد» عند توجيه المتكلم عنايته واهتمامه إلى الحال التي تم عليها مجيء زيد ثم إلى الحدث بالذات (أي جاء) ، وإلى «راكبا زيد جاء» في حال قصده إلى إبراز عنايته بصاحب الحال (زيد) بعد صبّها على الحال نفسها في الدرجة الأولى ، لأن محدث الحدث (أو فاعل الفعل) أهمّ عنده من الحدث بالذات.

لكن مشكلتنا مع النحاة المتقدمين جميعا أنهم كانوا يرفضون أن يظل الفاعل «فاعلا» إذا هو تقدم على الفعل ـ حتى وإن كان هو الفاعل بالمعنى (١) ـ ويفرضون أن يصبح «مبتدأ». ومن هنا كان أن الذي منع الأخفش من إجازة صيغة «راكبا زيد جاء» ضرورة إعراب «زيد» مبتدأ ، والمبتدأ مرفوع بالإبتداء الذي هو «عامل معنوي» مفاده التعري عن كل لفظ ، أي عدم إمكان سبقه بأي كلام ، وأن ما قال به من عدم جواز الفصل بين

__________________

(١) راجع في هذا رأي ابن مضاء القرطبي في «كتاب الرد على النحاة» ، ص ١٠٣.


الحال والعامل فيها بفاصل لأنه يمنع العمل ، ليس إلّا من قبيل التمويه المراد به ستر التمسك بالمنطق الآخر ، عنينا رفض أن يبقى الفاعل فاعلا إذا تقدم على الفعل.

* أورد الأخفش في «لا» النافية للجنس ـ أو «لا» التبرئة كما يسميها الكوفيون ـ رأيين :

الأول مفاده أنها مشبهة بالفعل ، وأن ما بعدها منصوب تشبيها له بالمفعول به ـ مقدّما طبعا ـ وأن خبرها رفع ، تشبيها له بالفاعل ـ مؤخرا طبعا.

والثاني مفاده أنها ركّبت واسمها فصارا بمنزلة اسم واحد ، ولذلك لم ينون الاسم بعدها ، لأن كل شيئين جعلتهما اسما لم يصرفا. وهكذا فإن الفتحة في الاسم بعدها هي لجميع الاسم بني عليها وجعل غير متمكن. أما الاسم بعدها ففي موضع نصب عملت فيه ، ولم يمنع هذا التركيب لـ «لا» واسمها أن تعمل الرفع في خبرها (١).

ومع أننا كنا نتمنى لو اقتصر الأخفش على

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١٤٦ ـ اعراب القرآن ، ١ / ١٧٤.


الرأي الأول ، بالرغم مما فيه من تعنّت متمثل في تشبيه «لا» بالفعل و «منصوبها» بالمفعول ، و «مرفوعها» بالفاعل ـ إذ لا بد في منطق النحاة من أن يكون العامل الرفع والنصب «فعلا» (١) ـ نقول : مع أننا كنا نتمنى لو اقتصر الأخفش على الرأي الأول ، لا لشيء إلّا لأنه استبعد فكرة «البناء» في اسم «لا» ، فإننا لا نملك إلّا أن نستغرب الرأي الثاني الذي يجعل من «لا» واسمها «مركّبا» ، على غرار «خمسة عشر» مثلا ، ثم يظل الجزء الأول من هذا المركّب ـ وهو «لا» ـ عاملا الرفع في الخبر.

وربما تساءلنا كذلك عما إذا لم يخطر في بال الأخفش أن يقول بأن المركب من «لا» واسمها «مبتدأ» (أو في محل رفع مبتدأ ، كما هي الحال بالنسبة إلى «خمسة عشر» في قولنا «في الدار خمسة عشر شخصا») والمرفوع بعده خبر؟

ومهما يكن من أمر فإن تشبّث الأخفش بفكرة «العامل» منعه ولا شك من دراسة هذا التركيب (لا

__________________

(١) لا ننس ان عامل الرفع الآخر عامل معنوي هو الابتداء.


+ منصوب+ مرفوع) دراسة وظيفية خاصة ، وأدى به إلى نتيجتين كلتاهما خاطئة ، وإن كانت الثانية أشد عسرا من الأولى.

* كان سيبويه يرى أن «المفعول معه» في مثل «جاء البرد والطيالسة» منصوب كانتصاب المفعول به ، أي أن عامل النصب فيه هو الفعل الذي في الجملة بواسطة الواو. وذهب الأخفش إلى أن الواو هيّأت الاسم بعدها لأن ينتصب انتصاب الظرف ، لأن أصل «جاء البرد والطيالسة» هو «جاء البرد مع الطيالسة» ، فلما حذفت «مع» وكانت منتصبة على الظرف ، وأقيمت «الواو» مقامها ، انتصب ما بعد هذه «الواو» على انتصاب «مع» التي وقعت «الواو» موقعها ، إذ لا يصح انتصاب الحروف ، كما يرتفع ما بعد «إلّا» الواقعة موقع «غير» بارتفاع «غير» ، نحو قوله (لَوْ) كانت (فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء / ٢٢] ، والأصل «غير الله» (١).

والحق أنه كان ينتظر من الأخفش ـ لو لا تمسكه بفكرة «العامل» ـ أن يعمد إلى المنهج

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ٢٢٠.


الوصفي الذي حاول استخدامه مرارا ، وأن يكتفي بالقول إن الاسم ينصب بعد «الواو» التي تفيد «المصاحبة» (١) ، بدلا من اللجوء إلى تأويلات يتجلى تعقيدها فيما يلي :

١ ـ اعتباره الاسم المنصوب بعد «الواو» شبيها بالظرف. فمعلوم أن «الظرف» ، اصطلاحا ، هو «المكان» أو «الزمان» الذي يتم فيه الحدث. وغني عن البيان أن كلمة «الطيالسة» في قولهم «جاء البرد والطيالسة» ـ أو «الخشبة» في قولهم «استوى الماء والخشبة» ، أو غير ذلك من أمثلة المفعول معه ـ لا تصلح لأن تكون ظرفا لمجيء البرد. وهذا ما دعا صاحب

__________________

(١) كثيرا ما كان يكتفي بالقول مثلا ان الجزم بعد «لا الناهية» جزم لأنه نهي ، وان «هلمّ» قد تكون للواحد وللاثنين وللجمع ، من غير ان يتعرض إلى أنها «اسم فعل» حوى معنى الفعل ، الخ ... كذلك فعل حتى بالنسبة إلى «المفعول معه» حين علق على قوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة / ١٠٢] بأنه يجوز في العربية ان يكون «بآخر» كما تقول «استوى الماء والخشبة» ، أي «بالخشبة» ، و «خلطت الماء واللبن» أي «باللبن» [مخطوطة معاني القرآن ، ١٢٨ / بـ ، نقلا عن «منهج الاخفش الاوسط» ، ص ٢٢٢ / ٢٢٣]


كتاب «الإنصاف» إلى الرد على الأخفش بأن انتصاب المفعول معه انتصاب «مع» ـ الظرفية ـ ضعيف ، لأن «مع» ظرف ، والمفعول معه في «استوى الماء والخشبة» ليس بظرف ولا يجوز أن يجعل منصوبا على الظرف (١).

٢ ـ عدّه «مع» التي أفادت «الواو» معناها في مثل «استوى الماء والخشبة» ظرفا ، مع أنه لا شيء فيها يدل على الظرفية. فقد جاء في تعريف «مع» الظرفية أنها تفيد معنى من ثلاثة :

«أحدها : موضع الاجتماع ، ولهذا يخبر بها عن الذوات نحو (والله معكم)»

«والثاني : زمانه ، نحو (جئتك مع العصر)».

«والثالث : مرادفة «عند» ، كالذي حكاه سيبويه من قولهم : (ذهبت من معه)» (٢).

٣ ـ إن قوله بانتصاب الاسم الواقع بعد «الواو» انتصاب الظرف يؤدي تلقائيا إلى نيابة هذا

__________________

(١) الانصاف ، المسألة ٣٠.

(٢) مغني اللبيب ، ١ / ٣٣٣.


الاسم مناب الظرف ، الأمر الذي يفضي منطقيا إلى غياب ذلك الظرف. فكيف يغيب الظرف ثم تحلّ محله «الواو» التي هي بمعناه ، والاسم المنصوب في آن واحد؟

ولعل هذا يهون إذا علمنا أن الأخفش الذي كان يتأرجح بين التشبّث بفكرة «العامل» التي ورثها عن أساتذة مدرسته ، ومحاولة التخلص منها والأخذ بالمنهج الوصفي في تعليل الظواهر اللغوية ، وقف حائرا أمام ظاهرة «المفعول معه». فالمفروض ـ حسب نظرية «العامل» ـ أن ينتصب الاسم بالفعل ، وأن يكون ذلك الفعل «متعديا» لينصب. والفعل في الصيغة الوارد فيها المفعول معه لازم دائما. وإذا حدث أن جاء متعديا ـ كما في قولنا مثلا «عاقبت زيدا وعمرا» ـ فالواو تكون «عاطفة» كما هي في أصل الوضع ، لا بمعنى «مع». فما العمل؟

لقد رأى الأخفش معاصره ـ أو أستاذه ـ

ثالثا ـ في القياس :

وقف الأخفش من مسألة «القياس» موقفين متناقضين.


سيبويه يحتال إلى ذلك بأنه وإن كان الفعل لازما إلّا أن المفعول معه «كالمفعول به في المعنى» ، فلم يرتح إلى رأيه ، وعمد إلى حيلة أخرى وجدها تحفظ له فكرة «العامل» من جهة ، وتحفظ للغة منطقها ، من جهة أخرى : إنه ما دام لا شيء يمنع عمل الفعل النصب في الظرف ، وإن كان هذا الفعل لازما ـ (نمت ليلا ـ خرجت صباحا) الخ ... ـ فليكن معمول الفعل اللازم في «جاء البرد والطيالسة» ظرفا ، وليغب هذا الظرف (الذي حلت محله «الواو» في اللفظ فقط) ، وليحلّ محلّه الاسم المنصوب الواقع بعد «الواو» في وقوع الفعل عليه وكونه معمول الفعل. [خرّج نصب المفعول معه تخريجات عدة ذكرها صاحب الانصاف في المائدة ٣٠]

فبينما نراه أحيانا يتشدّد في ضرورة القياس على المسموع من كلام العرب ، حتى وإن لم يكن فاشيا شائعا أو مما تعتدّ به مدرسته البصرية ، نجده من ناحية أخرى يتساهل فيه إلى درجة السماح به حتى من غير سماع ، أو يمنعه حتى وإن ورد به سماع من عربي فصيح. وهو إذا كان في موقفه الأول


أقرب إلى منطق اللغة وطبيعتها ، فإنه أشد تمسكا في موقفه. الثاني بالمنطق الذي طبع الدرس النحوي منذ فجر حياته. وإذا نحن ضربنا صفحا هنا عن الشق الأول من القياس «الأخفشي» لإيماننا بأن اللغة «استعمال» ـ أي سماع ـ قبل أن تكون «منطقا» رياضيا وفلسفيا ، فإنه لا يسعنا السكوت عن الشق الثاني منه ، لما جرّه في رأينا على الدرس النحوي من تعقيدات كان في غنى عنها. وإليك بعض الأمثلة :

* أجاز الأخفش توكيد الفعل بمصدر مؤول من «أن» والفعل ، رغم عدم ورود السماع بذلك. فقد سمح للمتكلم أن يقول مثلا : «ضربت زيدا أن ضربت» ، والتقدير : «ضربت زيدا ضربا».

والحق أننا لا ندري ما الداعي إلى هذا التمحّل ـ ما دام في اللغة مصدر صريح مؤكد للفعل : «ضربا» ـ إلّا أن يكون الأخفش قد طبّق القياس العقلي الذي يعمم الجزء على الكل طردا وعكسا. فبما أنّ «أن ضربت» يسبك بـ «ضرب» ، فلا بدّ أن يفكّك «ضرب» إلى «أن ضربت». وعلى هذا الأساس نحلّ «ضربته أن ضربت» محل «ضربته


ضربا» ، وتكون جملة «أن ضربت» مفعولا مطلقا مؤكدا لفعله.

وإذا كان المنطق الرياضي يقبل مثل هذه المعادلة ، فإن منطق اللغة يأباها ولا شك ، وإلّا لكان جرى مثل «ضربته أن ضربت» في الاستعمال ولو مرة ، إذا لم نقل شاع وفشا على لسان كل عربي.

* من إجازات الأخفش تثنية التوكيدين اللفظيين «أجمع» ، و «جمعاء» ، فتقول «جاء الزيدان أجمعان» ، و «جاءت الهندان جمعاوان» ، لا لسبب على ما يبدو سوى أن هذين الاسمين واقعان على وزن (أفعل) و (فعلاء) ، وأن كل (أفعل) و (فعلاء) يثنّى.

وفي اعتقادنا أن الذي دفع الأخفش إلى ركوب هذا الشطط تركه منطق اللغة إلى منطق القياس متغاضيا عن أمور ثلاثة :

١ ـ إن واضع اللغة أعدّ لتوكيد المثنى ثلاثة الفاظ هي : (كلا) و (كلتا) و (أنفسهما) ، ولم ير ضرورة لمزيد.


٢ ـ إن لفظتي (أجمع) و (جمعاء) ، وإن كانتا مفردتين في صيغتهما ، إلّا أنهما «جمع» في معناهما ، ومن ثمّ لم يكن من الجائز توكيد الاثنين بلفظ أعدّ لثلاثة فأكثر. ولو كان قياس الأخفش صحيحا لجاز للمتكلم في المقابل أن يقول «جاء زيد أجمع» ، و «جاءت هند جمعاء» ، ما دام يستخدم لفظا مفردا تجوز تثنيته.

٣ ـ إن الاستعمال اللغوي لم يجر مثلا بتثنية لفظة (نفس) المؤكّدة ، وأنما جرى عند التوكيد بجمعها ملحقة بضمير الاثنين ، فيقال «جاء الزيدان أنفسهما» و «جاءت الهندان أنفسهما». ولو كان القياس أصحّ وأقوى من الاستعمال ، لكان واجبا أن يقال «جاء الزيدان ـ أو الهندان ـ نفساهما» ، وهذا ما لم يسمع من عربي على ما نظن.

* أباح الاستعمال اللغوي تعدية فعلين من أفعال القلوب هما (رأى) و (علم) بالهمزة ، فيقال «أريتك الأمر واضحا» ، و «أعلمتك الخبر صحيحا». وذهب الأخفش إلى جواز تعدية جميع أفعال الباب قياسا


على (رأى) و (علم) ، بالرغم من انتفاء ذلك في الاستعمال.

وقد أحسن المازني (هو أبو عثمان بكر بن محمد المتوفى عام ٢٣٦ ه‍) حين ردّ قياس الأخفش بقوله إن العرب استغنت عن «أظننت عمرا زيدا عاقلا» بـ «جعلته يظنّه عاقلا» (١) ، تمشّيا منه مع روح اللغة التي تقدّم الاستعمال على كل منطق.

* ورد دخول (ليت) على (أنّ) ومعموليها ، كما في «ليت أنك عندي» ، فذهب النحاة إلى أن الكلام المؤلف من (أنّ) ومعموليها سادّ مسدّ جزئي (ليت) ، أي اسمها وخبرها. وطرد الأخفش القياس على (ليت) في (لعلّ) و (كأنّ) و (لكنّ) ، فيقال «لعلّ أنك منطلق» ، و «كأنّ أنك منطلق» ، و «لكنّ أنك منطلق» ، من غير ما سماع ، الأمر الذي دفع الجرمي (هو ابو عمر صالح بن إسحاق البجلي المتوفى عام ٢٢٥ ه‍) إلى القول بأن «هذا رديء في القياس لأن هذه الحروف إنما تعمل في المبتدأ و (أنّ) لا يبتدأ بها» (٢).

__________________

(١) الخصائص ، ١ / ٢٧١.

(٢) همع الهوامع ، ١ / ١٣٥.


ونميل نحن إلى الظن بأنه ليس ما يدعو إلى تقدير معمولين لـ (ليت) في مثل الصيغة المذكورة أعلاه ، وإنما يكتفى بالقول أن (ليت) دخلت على جملة (أنك عندي) لإفادة معنى التمني لأمر يؤكد المتكلم رغبته في تحقيقه ، وهذا ما لا توفره له الصيغة الأخرى ، أي (ليتك عندي) ، التي تقتصر على مجرد تمني الأمر دون إشعار المخاطب بتوكيد ذلك التمني.

وإذا كانت اللغة تبيح مثل تلك الصيغة ، فلأنها تنسجم مع طبيعتها ومنطقها. وأما طرد القياس على (ليت) في (لعلّ) و (كأنّ) و (لكنّ) فيتعارض مع المنطق وتلك الطبيعة للأسباب التالية :

١ ـ تفيد (لعلّ) الترجّي كما هو معلوم. ويقع الترجّي على الأمور المشكوك في تحقّقها. فكيف يعقل والحالة هذه أن يدخلها المتكلم على أمر أكّده بـ (أنّ)؟

٢ ـ تفيد (كأنّ) التشبيه من ناحية والتوهّم من ناحية ثانية ، ولا يعقل أن يكون المتكلم واهما في أمر لجأ إلى تأكيده بنفسه. (لا ننس أن نشير إلى أن (كأن) في مثل «كأن أنك عندي» ـ إن


صحت ـ تفيد التوهم لا التشبيه).

٣ ـ المعروف أن المتكلم يستخدم (لكنّ) لإثبات معنى مخالف لمعنى أفاده كلام سابق وتوكيده ، وهو ما يسميه النحاة «الاستدراك». ولا نظن هذا المتكلم بحاجة إلى استخدام مؤكدين ـ (لكنّ) و (أنّ) ـ وهو يقرّر أمرين متناقضين. فهو لا يقول مثلا «زيد غنيّ ، لكنّ أنّ أخاه فقير» ، بل يكتفي بالقول «زيد غني ، لكن أخاه فقير». وإذا ما رغب في إبراز التناقض بين غنى زيد وفقر أخيه ، ولفت انتباه المخاطب إلى هذا التناقض ، فلن يعدم وسيلة تتيحها له اللغة بمعزل عن «القياس» النحوي ، كأن يقول مثلا : «زيد غني ، أما أخوه ففقير» ، أو : «زيد غني ، أما أخوه فإنه فقير» إذا أراد إبراز التناقض بشكل آكد وأصرخ.

* أجاز الأخفش زيادة باء الجر في الكلام الموجب كما تزاد في الكلام المنفي. ومثلما نقول «ليس فلان بأهل لهذا» ، يكون في الإمكان أن نقول «زيد بقائم» (١).

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١٢٧.


ويبدو أنه قال بهذا قياسا على ما في الآية ٢٧ من سورة يونس : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) على أساس أن المبتدأ (جزاء) خبره (مثلها) ، وأنه زيدت فيه (الباء) ، بينما ذهب جمهور النحاة إلى أن الخبر محذوف مقدّر بـ (واقع) ، وأن تأويل الآية (جزاء سيّئة واقع بمثلها) (١) ، أو (جزاء سيئة بمثلها واقع) ، على أن تكون الباء من صلة المصدر (جزاء) (٢).

وأجاز كذلك زيادتها في غير هذا الموضع :

ـ فهي تزاد عنده على خبر (أنّ) ، كما في قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الاحقاف / ٣٣] ، قياسا على زيادتها في فاعل (كفى) ، كما في (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء / ٧٩ و ١٦٦] ، وفي المفعول به ، كما في (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون / ٢٠].

ـ وتزاد في مثل : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة / ١٩٥] ، و (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٢٧.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٩.


النَّخْلَةِ) [مريم / ٢٥] ، و «ضرب (بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) [الحديد / ١٣] ، وقولهم (زوّجتك بفلانة).

ولا بد قبل مناقشة آراء الأخفش من المسارعة إلى التذكير بأن من منطلقات النحاة الفادحة الخطأ فكرة «الزيادة» في الكلام. فلقد جرّهم إليها في اعتقادنا (ميكانيكية الإعراب) المستندة أولا وأخيرا إلى فكرة «العامل». فـ (ليس) مثلا ترفع اسما وتنصب خبرا. وإذا جاء خبرها مقترنا بالباء فهو ، لا مندوحة ، مجرور لفظا ـ على أساس أن (الباء) من العوامل اللفظية التي لا بد من ظهور عملها في ما بعدها ـ منصوب محلا ـ على أساس عمل (ليس) النصب في الأحوال العادية. وإذ كان محالا في نظرهم أن يجتمع عاملان على معمول واحد ، فلا بد أن يكون أحدهما طارئا أو (زائدا). ولما كان من غير المعقول أن تكون (ليس) هي الزائدة ـ لأن الكلام لا يستقيم بدونها ـ فلتكن الباء هي الزائدة ، بغضّ النظر عما يقول به البلاغيون من زيادة المعنى لزيادة المبنى ، ومن دون إقامة وزن لإرادة المتكلم زيادة (الباء) في خبر (ليس) لغرض إبلاغي هو توكيد نفي صفة معيّنة (لا يفوتنا أن نشير إلى أن ما يعتبره النحاة خبرا لا يخرج عن كونه صفة) عن الاسم


الموصوف. فهو حين يقول : «ليس فلان بأهل لهذا» يريد قطع كل احتمال لأهلية الرجل ، وهذا ما لا توفرّه الصيغة التقريرية : «ليس فلان أهلا لهذا».

وبعد ، فإن المرء ليستغرب أن يجنح عقل كعقل الأخفش إلى التغاضي عن ذلك كله فيجيز للمتكلم صيغة لا تخدم أي غرض إبلاغي. إذ ما الذي يدفعه إلى أن يقول «زيد بقائم»؟ إذا كان إرادة التوكيد ، فقد أتاحت له اللغة أكثر من وسيلة إلى ذلك :

ـ لزيد قائم.

ـ إن زيدا قائم.

ـ إن زيدا لقائم.

ـ إنما زيد قائم. الخ ...

وأما قياسه «زيد بقائم» على «جزاء سيئة بمثلها» فبعيد كل البعد ، لأن الباء في الصيغة الأخيرة ملازمة للفعل (جزى) ، ومزيده (جازى) ، لإقامة معادلة بين الجزاء والمجزيّ عليه. فالجزاء على (السيئة) يكون بـ (السيئة) ، وعلى (الحسنة) بـ (الحسنة). وقد جاء في الآية ١٧ من سورة سبأ : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) ، فهل (الباء) فيها زائدة؟ وليس من التجديف على اللغة ، ولا على قدسية الإعراب ، اعتبار


(بمثلها) خبرا للمبتدأ ، وعدم تقدير خبر ـ مثل (واقع) أو (كائن) ـ كما ذهب إليه الجمهور. هذا إذا صح أن (جزاء سيئة بمثلها) جملة مستقلة جاءت اعتراضا ، كما يقول صاحب «إعراب القرآن» (١). ففي رأينا أن (جزاء) مبتدأ ، ولكنه مبتدأ مؤخر خبره (الذين) في أول الآية بتقدير (وللذين) التي جاءت معطوفة على (للذين) في رأس الآية السابقة ، ونصها : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ودليلنا على ذلك ما في جو الآيتين العام من مقابلة بين الإحسان والإساءة ، علما بأن تمام الآية الأخرى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ومما لا شك فيه أن المعربين وجدوا في الآية الأخيرة ما يصلح لأن يكون خبرا لمبتدأ من مثل : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أو (كأنما أغشيت) أو (أولئك أصحاب) فاعتبروا (جزاء سيئة بمثلها) معترضا بين المبتدأ وخبره ، وذهبوا إلى أن (الذين كسبوا) مبتدأ ، بينما غالى بعضهم الآخر فذهب إلى أن (جزاء سيئة بمثلها)

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٤٣.


هو خبر لذلك المبتدأ (١) ، وبقيت المشكلة قائمة على أن (جزاء) مبتدأ يجب البحث عن خبره ، وكان ذلك التشعيب بين أن يكون الخبر مقدرا بـ (واقع) ، أو (كائن) ، أو أن يكون (مثلها) مجرورا لفظا بباء زائدة كما قال الأخفش ، وكلا الأمرين مرّ ، وإن كان ما ذهب إليه هذا الأخير أشدهما مرارة ، لأنه أكثرهما تعقيدا.

وأما فيما يخص زيادة (الباء) في غير هذا الموضع فنقول :

١ ـ دخلت الباء على خبر (أنّ) في الآية ٣٣ من الاحقاف : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ ...) «لما اتصل بالنفي ، ولو لا ذلك لم يجز» (٢) ، أي أن قوله (أَوَلَمْ) ... (بِقادِرٍ) مقابل في معناه لـ «أليس الله بقادر». وعلى هذا الأساس لا تكون (الباء) مزيدة في خبر (أن) ، وإلّا لكان المتكلم بالخيار في زيادتها في كل صيغة مصدرة بهذا «الحرف المشبه بالفعل» ، كما يشتمّ من قياس الأخفش.

__________________

(١) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ١٥.

(٢) نفسه ، ص ١٢٦.


٢ ـ إن قياس الأخفش زيادة الباء في خبر (أن) على زيادتها في فاعل (كفى) : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ، ومفعول (تنبت) : «تنبت بالدهن» ، لا وجه له للأسباب التالية :

أـ إن صيغة «كفى به» يجب أن تسلك في عداد صيغ «التعجب» أو «المدح» من مثل «أكرم به» و «لله دره» وغير ذلك ، بدليل حاجتها إلى منصوب ليتم معناها ، وإلّا لكان تمّ بدونه : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [النساء / ٦ ، الأحزاب / ٣٩] ، (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء / ٥٥] ، وبدليل قولهم : (مررت برجل كفاك به) و (مررت برجلين كفاك بهما) ، و (مررت برجال كفاك بهم) (١) ، فتبقي الفعل في حال الإفراد ، كما في (أكرم به) و (أكرم بهما) ، و (أكرم بهم). وأما قول سحيم :

عميرة ودع إن تجهزّت غاديا

كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٧٠.


الذي يتخذ منه النحاة دليلا على صراحة فاعل (كفى) من غير زيادة الباء ، فليس في رأينا كذلك ، وإنما هو من قبيل حض الشاعر نفسه على الكف عن غزل النساء بسبب شيبه ، من ناحية ، ودخوله الإسلام الذي ينهى المرء عن هذا ، من ناحية أخرى. وهنا يكون المعنى أن الشاعر سمع صوت وجدانه يأمره بتوديع «عميرة» فتساءل : ولم أودّعها ، فأجابه الصوت بأنه يكفيك سببا أن يكون الشيب والإسلام قد نهياك عن غشيانها.

ب ـ إنه يجب درس الفعل (نبت) دراسة دلالية على ضوء الاستعمال ، قبل التقرير بزيادة الباء في مفعوله ، كما فعل الأخفش بالنسبة إلى «تنبت بالدهن» :

ـ يستخدم «نبت» بصيغة الفعل اللازم لتقرير ظهور النبات : (نبت القمح) ، لأن أصل معنى النبات الظهور.

ـ يستخدم بصيغة الفعل المتعدي بالهمزة (أنبت)


لتقرير إظهار النبات : (أنبتت الأرض القمح).

يستخدم لازما بصيغة المتعدي بالهمزة : «أنبت المكان» بمعنى ظهر نبتة.

وقد قرئت الآية بصيغتي الفعل ، لازما ومتعديا ، وخرّجت نحويا كما يلي :

أولا ـ بصيغة اللازم الثلاثي (نبت):

ـ تكون (الباء) حالا ، أي «تنبت مدهنة».

ـ تكون مفعولا لأجله ، أي «تنبت بسبب الدهن».

ثانيا ـ بصيغة المتعدي الرباعي (أنبت):

ـ المفعول محذوف ، تقديره : «تنبت ثمرها ـ أو جناها» والباء على هذا حال من المحذوف ، أي «وفيه الدهن».

ـ الباء زائدة فلا مفعول ، بل المفعول (الدهن).


ثالثا ـ بصيغة المتعدي بالهمزة بمعنى اللازم (أنبت) ، والوجه فيها كما في صيغة المتعدي الرباعي (١).

وإذا نحن استثنينا الصيغة الأولى ـ صيغة الفعل اللازم ـ لأن ليس فيها وجه لزيادة (الباء) ، ولأن في أول الآية ما يدل على الظهور الذي يفيده الفعل (نبت) الثلاثي ، أو (أنبت) الرباعي اللازم ، وهو قوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) ، ثم استثنينا الصيغة الأخيرة ، صيغة الرباعي اللازم ، لأن تخريج الحالية فيها ـ وهو على غرار (خرج زيد بثيابه) ـ ليس واردا في حساب الأخفش ، لم يبق أمامنا سوى التخريج الثاني من الصيغة الثانية.

بقي أنه لم يقع في حساب الأخفش أن يكون الفعل اللازم (أنبت المكان) مما يميّز بواسطة (الباء) كما في قولنا «امتلأت الخزاتة كتبا ـ أو بالكتب» ، وأنه من الممكن القول «أنبت المكان بالقمح» بدلا من أنبت المكان قمحا» باعتبار (القمح) في هذه الصيغة تمييزا لا مفعولا ، وأن تكون هذه (الباء) دالة على وفرة المحصول ، وهي لطيفة معنوية لا توفرها صيغة التمييز العادية.

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٨١.


وإننا لنميل إلى الاعتقاد بأن هذا ما قصد إليه في (تنبت بالدهن) سواء قرئت بصيغة الثلاثي اللازم أو الرباعي الذي هو في معناه ، وأن (الدهن) و (الصبغ) الذي بعده إنما استعملا مجازا للدلالة على الثمر الذي حفلت به تلك الشجرة ، ويكون تأويل الكلام (وشجرة تخرج من طور سيناء «نابتة» ـ أو «منبتة» ـ [بمعنى مثقلة] بالثمار الحافلة بالخير للآكلين) ، ويكون القول بزيادة (الباء) في المفعول به خطأ قادت إليه ميكانيكية الإعراب.

ج ـ يأتي الفعل (ألقى) متعديا بغير واسطة ، حين يراد به مجرد تقرير الرمي والطرح ، كما في «ألقيت القلم من يدي». أما إذا أراد المتكلم التعبير عن فكرة (التخلّص) من القلم ، لأنه ناءبه لكثرة ما كتب ، أو لأنه عجز عن الاهتداء إلى الفكرة ، فإنه يلجأ إلى تقوية الفعل المتعدي بمعدّ آخر (الباء) ، فيقول : «ألقيت بالقلم». كذلك فإن هذه (الباء) المضافة إلى الفعل (ألقى) قد تفيد معنى الاقتحام ، كما في قولنا «ألقيت بنفسي في خضم كذا ، أو في معمعان كذا». وهنا نشير إلى أن المراد بالآية إلقاء الناس


بأنفسهم إلى التهلكة بملء إرادتهم ، تلك الإرادة المتمثلة بقوله «بأيديكم». ولخشية الإثقال الناتج عن تكرار الباء في (أنفسكم) وفي (أيديكم) كان التجاوز عن الأولى التي يعتبر مثولها في ذهن المخاطب دون ذكرها من أعمدة الإيجاز البلاغي إلى الثانية التي شعّت ، إلى جانب إفادتها الاختيار المطلق ، ظلالا من المعاني تتضمّن الجزء المقدّر من العبارة : (بأنفسكم).

وقد لاحظ القدماء شيئا من هذا ، لكنهم ظلوا حبيسي فكرة «العامل» ، إذ قال صاحب «إعراب القرآن» في «باب ما جاء في التنزيل من الحروف الزائدة في تقدير ، وهي غير زائدة في تقدير آخر» :

«ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ،) إن شئت كانت الباء زائدة ، أي : لا تلقوا أيديكم ، وعبّر بالأيدي عن الذوات. وإن شئت كان التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، و «ألقى» فعل متعدّ ، بدليل قوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ


بِكُمْ) [النحل / ١٥]» (١).

وإذا أمعنّا النظر فيما قلناه أعلاه تبيّن أنه يستحيل أن تكون (الباء) زائدة ، وأنه لا مجال للتأويل الذي ذهب إليه الأخفش وارتضاه النحاة ، ومنهم صاحب «إعراب القرآن» ، ومفاده (لا تلقوا أيديكم) ، بمعنى (لا تلقوا أنفسكم) ، إذ لا ضرورة إبلاغية لاستعمال الجزء في موضع الكل ، ولا شيء يمنع من التصريح بدل التلميح. و (الباء) لصيقة بـ (أيديكم) ، ولا يمكن الاستغناء عنها لأنها تفيد معنى الوساطة من جهة ، أي (بوساطة أيديكم) ، أي (بملء إرادتكم) ، وتتضمن من جهة ثانية تقوية الفعل (ألقى) لإفادة معنى التخلّص.

د ـ جاء في تقدير (الباء) في «وهزي إليك بجذع النخلة» ما يلي :

١ ـ (الباء) زائدة (٢) ، أي (أميلي إليك) (٣).

__________________

(١) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٧.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٧١.

(٣) إملاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.


٢ ـ الحمل على المعنى ، والتقدير (هزي الثمرة بالجذع) ، أي (انفضي) (١)

٣ ـ التقدير (وهزي إليك رطبا جنيا كائنا بجذع النخلة) ، فالباء على هذا حال (٢).

٤ ـ التقدير (بهزّ جذع النخلة) (٣).

وفي اعتقادنا أن كل ما قيل في هذه (الباء) لا يعدو نطاق فكرة «العامل» ، وعلى الأخص ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في المفعول ، وان اصل الكلام «وهزي اليك جذع النخلة» ، اذ ما الداعي والكلام تام ناجز من دونها ، إن لم يكن غرضا إبلاغيا لا يوفره حذفها ، عنينا توكيد فكرة «التمليك» من ناحية (ليس الرطب الذي سيتساقط عليها وقت الهز فقط ملكها ومخلّصها من الجوع ، بل إن النخلة برمتها ملك لها لأنها ستكون مصدر غذائها الوحيد طوال مقامها بعيدا عن قومها) ، وفكرة «التشبّث والملاذ» من ناحية ثانية (كانت النخلة ملجأها وقت المخاض ، وستبقى كذلك مدة غيابها عن أهلها). ولا

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ٢ / ٦٢.

(٢) إعراب القرآن ، ٢ / ٦٧١.


يخفى عن بال ما في (الباء) من معنى «الإلصاق» الذي يغدو معه الفاعل والمفعول وكأنهما واحد.

ه ـ من معاني (ضرب) إذا لحقه الظرف (بين) المباعدة والتفريق. ولا يتم ذلك إلّا بوساطة شيء. وفي قوله (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ، يعني الفعل (ضرب) التفريق بين المنافقين والمؤمنين (ب) سور ، لا مجرد إقامة سور. وعلى هذا لا يمكن أن تكون (الباء) زائدة في نائب الفاعل الذي أصله مفعول ، وإنما هي أصلية لإفادتها معنى الوساطة المطلوبة في المباعدة والتفريق.

وـ إن الفعل (زوّج) من الأفعال المتعديّة بنفسها (زوّجتك فلانة) وب (الباء) : (زوجتك بفلانة) وهذه الصيغة الأخيرة لغة لأزد شنوءة على ما يبدو ، وقد جاءت بها الآية ٥٤ من سورة الدخان : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وعلى


هذا تنتفي زيادتها في قولهم (زوّجتك بفلانة) ، وينتفي أن يكون الأصل فيه (زوّجتك فلانة). ثم إن معنى «الإلصاق» الذي تفيده (الباء) ليعبّر عن أمل المزوّج في علاقة وثيقة تدوم مدى الحياة بين الزوج والزوجة ، الأمر الذي لا توفّره الصيغة الأخرى (زوّجتك فلانة) وإن كانت تؤدي المعنى المطلوب بعيدا عن كل عنصر انفعالي.


الفصل الثاني

تجديد يخدم اللغة

إذا كنا عرضنا في الفصل السابق آراء أخفشية نعتقد أنها زادت في تعقيد الدرس النحوي ، فليس معنى ذلك أن اجتهادات الرجل كانت كلها سلبية. ولا شك أنه من الإجحاف بحق هذا العالم الضخم ألا يبرز الباحث الجوانب الإيجابية المضيئة في «نحوه» ، وهي ، لعمر الحق ، غير قليلة. وفيما يلي نماذج منها :

* أوجب النحاة قبل الأخفش اقتران الفعل الماضي المثبت لكي يصلح وقوعه حالا بـ (قد) ظاهرة أو مقدّرة (١). أما هو فلم يوجب ذلك ، وقال بإعرابه

__________________

(١) من حجج البصريين في منع وقوع الفعل الماضي حالا ما لم يقترن بـ (قد) ، أن هذه تقرّب الماضي من الحال ، لأنك إذا قلت (قد قام) استطعت أن تقرن بها (الساعة) أو (الآن) ، فتقول (قد قام الساعة ـ أو الآن) ، بينما لا تستطيع ذلك إذا قلت (قام). [راجع المسألة ٣٢ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف»].


حالا من غير اقتران قياسا على قول أبي صخر الهذلي :

وإني لتعروني لذكراك هزّة

كما انتفض العصفور بلّله القطر

فـ (بلّله) حال للعصفور من الفعل (انتفض) غير المقترن بـ (قد) وكذلك قياسا على قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء / ٩٠] الذي وقع فيه الفعل (حصرت) حالا من (واو الجماعة) في (جاءوكم) ، بدليل قراءة بعضهم (حصرة صدورهم) (١).

والحق أن ما ذهب إليه الأخفش أقرب إلى روح اللغة مما نادى به النحاة بعده ، وما تأوّلوه في الآية من تمحّلات لا طائل تحتها. فقد ذهب الأنباري مثلا في تخريج الآية مذاهب مغرقة في التمحّل فقال في (حصرت) أنه :

ـ صفة لـ (قوم) المجرور في أول الآية : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ)

__________________

(١) هي قراءة حسن البصري ، ويعقوب الحضرمي (وهو من القراء العشرة) ، والمفضّل عن عاصم.


وغني عن البيان ما في هذا التخريج من تكلّف ظاهر في تجاهل جملة (بينكم وبينهم ميثاق) ـ وهي الصالحة لأن تكون صفة لـ «قوم» ـ ثم جملة (جاءوكم) التي تفيد استثناء الذين لا يرغبون في مقاتلة المؤمنين ، وهم عاجزون في الوقت نفسه عن مقاتلة قومهم ، من الأمر بالقتل الذي نصت عليه الآية السابقة : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، كما استثني الذين يصلون إلى قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق. ثم ما فيه من تبديل في المعنى ، إذ أن الذين حصرت صدورهم عن مقاتلة المؤمنين ليسوا أولئك القوم الذين بينهم وبينهم ميثاق ، وإنما هم أولئك الخائفون من الرجوع عن دين قومهم ولا يريدون قتال المؤمنين في الوقت نفسه.

ـ صفة لـ (قوم) مقدّر ، والتقدير : (أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم) ، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالا.

ولا يخفى ما في هذا التخريج من حيلة قانونية.

ـ خبر بعد خبر ، كأنه قال (أو جاءوكم) ثم أخبر قائلا


(حصرت صدورهم). والمقصود بقوله (خبر) الإخبار ، وكأنما (حصر) بدل من (جاء).

ـ محمول على الدعاء ، كأنه قال (ضيّق الله صدورهم) ، مثل (جاءني فلان وسّع الله رزقه).

وقد علّق محقق كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف» ، محمد محيي الدين عبد الحميد ، على هذا كله بقوله :

«الإنصاف الاستدلال بالكلام الوارد عن العرب ، وقد رأينا أن فصحاءهم يجيئون بالماضي حالا غير مقرون بـ (قد). فأما التقدير فلا دليل عليه.» (١)

* أجاز دخول (الواو) على خبر (ليس) و (كان المنفية) إذا كان جملة بعد (إلّا) ، تشبيها لها بالجملة الحالية ، مستندا إلى قول أحدهم :

ليس شيء إلّا (و) فيه ، إذا ما

قابلته عين البصير ، اعتبار

__________________

(١) حاشية الصفحة ٢٥٣ من كتاب «الإنصاف».


وقول الآخر :

ما كان من بشر إلّا (و) ميتته

محتومة ، لكن الآجال تختلف

وقول الآخر :

إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن

سراج لنا إلّا (و) وجهك أنور

وقد أنكر الجمهور مذهب الأخفش وقالوا بأن الخبر في البيتين الأوّلين محذوف «ضرورة» ، أو أن (الواو) زائدة. وقالوا بأن الخبر في البيت الثالث هو (لنا).

كذلك أنكروا مذهبه في جواز دخول (الواو) على أخبار (كان وأخواتها) غير منفيات ، كما في قول الشاعر :

وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا

(و) أكثر ما يعطونه النظر الشزر

وقول الآخر :

فظلّوا (و) منهم سابق دمعه له

وآخر يثني دمعة العين بالمهل


وقالوا بأن (أصبح) في البيت الأول ، و (ظل) في البيت الثاني ، فعلان تامّان ، والجملتان المصدّرتان بـ (الواو) بعدهما جملتان حاليتان (١).

وإذا كنا قد أثبتنا للأخفش هذه المسألة ضمن آرائه التجديدية ، فلإيماننا بأن رأيه فيها أقرب متناولا للمعرب من رأي غيره ، للأسباب التالية :

١ ـ إن الطالب حين يقع على كلام يتمّم ما أطلق النحاة عليه اسم (الفعل الناقص) ، كما في (وأكثر ما يعطونه النظر الشزر) بعد (أصبحوا) ، و (ومنهم سابق دمعه له) بعد (فظلوا) ، يتبادر إلى ذهنه أول ما يتبادر أن (أصبح) و (ظل) من أخوات (كان) ، وهو ما اعتاد أن يقرّره حين يصادفه مثل هذه الكلمات ، ويستبعد أن يكونا (فعلين تامّين) ،. لأن ورودهما كذلك في الكلام أندر من ورودهما (ناقصين).

٢ ـ يوفّر على الطالب عناء تقدير خبر لـ (ليس) أو (كان المنفية) ـ على الرغم من إكثار الأخفش

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ١١٦.


التقدير في عدد لا يستهان به من المسائل النحوية ـ ويجعله يستبعد فكرة (الضرورة الشعرية) التي ترى في الشعر كلاما مختلفا عن سائر الكلام ، وتكره المتكلم على إظهار الخبر في ما اصطلح على أنه (اختيار الكلام) ، وتحظّر عليه القول «ما كان من بشر إلّا وهو ميت» ، وتضطره أن يقول : «ما كان من بشر (حيّا) إلّا وهو ميت».

٣ ـ يستبعد فكرة زيادة (الواو) ـ على الرغم من ولع أبي الحسن بها ـ وإلغاء دورها المعنوي في الجملة.

ولا يعني هذا أننا نسلّم تماما بما قاله الأخفش ، وإنما أننا نجده أقرب إلى طبيعة اللغة ومنطق الأشياء من رأي غيره. ولما كان الفريقان متّفقين على جواز مجيء (الواو) في الجملة الواقعة بعد أحد الأفعال الناقصة المثبتة (كان ، أصبح ، أمسى ، أضحى ، ظل ، بات) ، أو بعد (ليس) و (كان المنفية) ، فإن رأي الأخفش في أن هذه الجملة هي الخبر ، وأنها دخلتها (الواو) لشبهها بالجملة الحالية ، يبقى أيسر من مذهب الفريق الآخر بما فيه من تعقيد.

ولعلّ خيرا من المذهبين القول بأن اللغة تبيح للمتكلم


نمطين من التعبير في الجمل المصدّرة بـ (كان) أو احدى أخواتها المبيّنة أعلاه ـ أو بـ (كان المنفية) أو (ليس) المنقوض خبرها بـ (إلّا) ـ والتي يكون خبرها جملة :

الأول ـ أن يأتي بالجملة الخبرية من غير (واو) ، فيكون الغرض منها مجرد الإخبار :

(ليس شيء إلّا فيه ...) ، (ما كان من بشر إلّا ميتته ...) ،

(فأصبحوا أكثر ما يعطونه النظر ...) ، الخ ...

الثاني ـ أن يدخل (الواو) على هذه الجملة لإبراز الخبر عن طريق إثارة انتباه المخاطب بهذه (الواو) الشبيهة بواو الحال ، كما في الأبيات الشواهد.

* كان سيبويه يمنع العطف على معمولي عاملين مطلقا ـ في المجرور وغيره ـ فلا يجوز في رأيه أن يقال مثلا : (كان آكلا طعاما زيد وتمرا عمرو) ، ولا (في الدار زيد والحجرة عمرو) ، لأنه بمنزلة تعديتين بمعدّ واحد (١).

__________________

(١) همع الهوامع ، ٢ / ١٣٩. وفي مغني اللبيب ، ٢ / ٣٩٢ أن سيبويه كان يضمر الجارّ في المثال الثاني ، أي (في الدار زيد و «في» الحجرة عمرو).


أما الأخفش فأجاز العطف على معمولي عاملين ، سواء كان أحدهما جارّا أو لم يكن ، فيقال : (كان آكلا طعامك عمرو وثمرك بكر) ، فيكون العاطف ـ وهو (الواو) ـ قد عطف (بكرا) على معمول (كان) ـ وهو (عمرو) ـ و (تمرا) على معمول (آكل) ـ وهو (طعام) ـ الأمر الذي يأباه منطق النحاة مع وجوده في الاستعمال ، كما في قول أبي دؤاد الهذلي :

أكلّ امريء تحسبين امرأ

ونار توقّد بالليل نارا

إذ جاءت (نار) الأولى معطوفة على (امريء) المجرور بالإضافة ، و (نار) الثانية معطوفة على المفعول به ـ وهو (امرؤ) الثانية ـ بوجه واضح صريح ، ومع ذلك فقد أصر النحاة على تقدير كلمة (كلّ) مضمرة بين (الواو) و (نار) الأولى ، أي (وكل نار توقد ...) (١).

وأجاز كذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين ـ بجميع الوجوه الممكنة ـ إذا كان

__________________

(١) مغني اللبيب ، ١ / ٢٩٠.


أحدهما جارا ، فيقال :

ـ (زيد في الدار والحجرة عمرو)

ـ (في الدار زيد والحجرة عمرو)

ـ (زيد في الدار وعمرو الحجرة)

ـ (في الدار زيد وعمرو الحجرة) (١)

وإذا كنا لا نوافق الأخفش على إجازة الصيغتين الأخيرتين ـ ولا سيما الثانية منهما ـ لانتفاء السماع والاستعمال ، ولانعدام «تعادل المتعاطفات» كما قال الأعلم (هو يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري المتوفى عام ٤٧٦ ه‍) ، فإنه لا يسعنا إلّا الإقرار بأن إجازته العطف على معمولي عاملين ـ في غير الموضعين المذكورين أعلاه ـ يدل على قربه من روح اللغة ، ولا سيما أنه «جاء مواضع يدل ظاهرها على خلاف قول سيبويه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ

__________________

(١) كان سيبويه يمنع ذلك كله. وقد ذهب الأعلم الشنتمري إلى إجازة العطف إن ولي المخفوض العاطف ، كما في (في الدار زيد والحجرة عمرو) ، لأنه كذا سمع ، ولأن فيه تعادل المتعاطفات ، ومنع ما عداه ، كما في (في الدار زيد وعمرو الحجرة). مغني اللبيب ، ٢ / ٤٨٦.


وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية / ٣ و ٤ و ٥] ، فآيات الأولى منصوبة إجماعا ، لأنها اسم (إنّ) ، والثانية والثالثة ـ أي في الآيتين ٤ و ٥ ـ قرأهما الأخوان بالنصب والباقون بالرفع. وقد استدل بالقراءتين في (آيات) الثالثة على المسألة. أما الرفع فعلى نيابة (الواو) مناب (الابتداء) و (في) [المقصود أن (آيات) الثانية في الآية ٤ مبتدأ مؤخّر خبره (في خلقكم) ، وقد نابت واو العطف الواقعة قبل (تصريف) في الآية ٥ مناب (عامل الابتداء) فجعلت من (آيات) الثالثة (مبتدأ) ومن (تصريف) اسما مجرورا معطوفا على (خلقكم) بتقدير (في)]. وأما النصب فعلى نيابتها مناب (إنّ) و (في) [المقصود أنه حين قرئت (آيات) الثالثة منصوبة ـ وكذلك (آيات) الثانية ـ عطفت بالواو الواقعة قبل (تصريف) على (آيات) الأولى الواقعة اسما لـ (إنّ) في


الآية ٣ ، وعطفت (تصريف) بتقدير (في) على (خلقكم)]» (١).

* من الإجازات الأخفشية إلغاء العامل. وهذا ولا شك رأي جدير بالاهتمام لما فيه من ثورة على فكرة العامل إن لم يدفع بها الأخفش إلى غايتها المفترضة ، فهو لم يتورع على كل حال من الجهر بها على صعيد من الصعد ، عنينا إجازته مثل : (ظننت زيد ذاهب) ، وهي إجازة يدعمها الاستعمال اللغوي. فقد قال الشاعر الفزاري :

__________________

(١) مغني اللبيب ، ٢ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧. وقد أورد ابن هشام في المسألة ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أن (في) مقدّرة ، فالعمل لها ، ويؤيده أن في حرف عبد الله [المقصود ابن مسعود] التصريح بـ (في). وعلى هذا فالواو نائبة مناب عامل واحد ، وهو (الابتداء) [في قراءة الرفع] ، أو (إنّ) [في قراءة النصب].

الثاني ـ أن انتصاب (آيات) هو على التوكيد لـ (آيات) الأولى ، ورفعها على تقدير مبتدأ ، أي (وهي آيات) ، فليست (في) مقدّرة.

الثالث ـ يخص قراءة النصب ، وهو أنه على إضمار (إنّ) و (في) ذكره الشاطبي وغيره ، وإضمار (إنّ) بعيد.


كذاك أدّبت حتى صار من خلقي

أني وجدت ملاك الشيمة الأدب

فأتى بعد فعل القلب (وجد) بالمبتدأ والخبر على حالهما من الرفع.

وقال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة (بانت سعاد) :

أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

فجاء بالمبتدأ (تنويل) على حاله من الرفع بعد فعل القلب (خال).

وهنا لا بدّ من التذكير بأن النحاة مجمعون على القول بأن (إنّ) واسمها وخبرها تسدّ مسدّ مفعولي فعل القلب ، كما في (ظننت أن زيدا ذاهب). وإذ كانت جملة (أنّ زيدا ذاهب) لا تعدو أن تكون «جملة اسمية» أصلها «مبتدأ وخبر» دخلت عليهما (أنّ) للتوكيد ، فلماذا لا يجوز أن تسد الجملة الاسمية التي لم تؤكد بـ (أنّ) مسدّ المفعولين؟ لا نعتقد أن هناك ما يمنع من ذلك سوى منطق النحاة الذي


فرض أن تنصب أفعال القلوب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر ، بغضّ النظر عن الاستعمال اللغوي الذي يدحض تعميم الفرضية وطرد الحكم في جميع الباب.

ولا يعني هذا أننا موافقون على ما قال به النحاة من الأساس. فمن الواجب في رأينا إعادة النظر في باب أفعال القلوب هذه وتقرير أن اللغة جعلت المتكلم فيه بالخيار بين إنماط ثلاثة :

الأول ـ (فعل القلب+ منصوب+ منصوب) ، كما في (ظننت زيدا ذاهبا).

الثاني ـ (فعل القلب+ أنّ+ منصوب+ مرفوع) ، كما في (ظننت أن زيدا ذاهب) ، ولا حاجة إلى القول بأن (أن) ومعموليها سدّت مسدّ مفعولي فعل القلب ، لأن (الظن) وقع على الجملة برمتها باعتبارها وحدة كلامية تامة.

الثالث ـ (فعل القلب+ مرفوع+ مرفوع) ، كما في (ظننت زيد ذاهب) ، وهنا أيضا يكون (الظن) واقعا على جملة (زيد ذاهب) باعتبارها وحدة كلامية تامة.


أما العلاقة اللغوية بين (الظن) وما بعده فواحدة في الأنماط الثلاثة وهي عدم التأكد من ذهاب زيد ، أو التأكد من بقائه بعد توهم ذهابه.

* أجاز الأخفش حذف (الفاء) الرابطة لجواب الشرط وفاقا لما ورد في الاستعمال من مثل : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة / ١٨٠] ، و (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام / ١٢١] ، و (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود / ٩] ، وما جاء في حديث اللقطة : (فإن جاء صاحبها وإلّا استمتع بها) ، وقول حسان بن ثابت :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

وإننا إذ نثبت هذا الرأي للأخفش في باب الآراء التجديدية فلا يعني ذلك أننا نقول بضرورة تقدير (الفاء) في النماذج التي أوردناها أو ما يشابهها ، وإكراه المعرب على القول بحذفها على (الإضمار) ، وإنما نذهب إلى أن اللغة تبيح للمتكلم في حال وقوع جواب الشرط جملة اسمية ـ مصدّرة بـ (إنّ) أو غير مصدّرة :


ـ أن يكون بالخيار في أن يقرنها أو لا يقرنها بـ (الفاء) ، فيقول :

ـ (من يفعل خيرا فالله يجزيه) ، أو (من يفعل خيرا الله يجزيه)

ـ (من يفعل خيرا فإن الله يجزيه) ، أو (من يفعل خيرا إن الله ليجزيه) وكذلك إذا وقع الجواب فعلا طلبيا ، كما في :

ـ (إن شئت النجاح فاجتهد) ، أو (إن شئت النجاح اجتهد).

ـ (إن شئت النجاح فلا تهمل) ، أو (إن شئت النجاح لا تهمل).

أما ما تمحّله النحاة في تخريج النصوص المذكورة آنفا فلا مسوّغ له ما دامت تلك النصوص صريحة واضحة. وبعد فلنستمع إلى تأويلاتهم :

قال العكبري (١) :

«وأما قوله (إن ترك خيرا) فجوابه عند الأخفش

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ، ١ / ٤٦.


(الوصية) ، وتحذف (الفاء) ، أي (فالوصية للوالدين). واحتجّ بقول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

«فالوصية على هذا مبتدأ وللوالدين خبره. وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من معنى كتب الوصية ، كما تقول (أنت ظالم إن فعلت) [المقصود أن جواب الشرط معنى الكتابة بتقدير التقديم ، أي (كتب عليكم إن ترك خيرا) بتقدير (المكتوب الوصية للوالدين إن ترك خيرا)]. ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الايصاء لا معنى الكتب ، وهذا مستقيم على قول من رفع (الوصية) بـ (كتب) [المقصود أن (الوصية) نائب عن فاعل (كتب)] ، وهو الوجه [المقصود تقدّم جواب الشرط كذلك ، والتقدير (الايصاء للوالدين إن ترك خيرا)].

وقال صاحب «إعراب القرآن» (١) :

«فقول من قال إن (الفاء) في قوله (إنكم لمشركون) مضمرة ذهاب عن الصواب ، وكذا (إنه ليئوس كفور) ،

__________________

(١) اعراب القرآن ، ٢ / ٦٦٠.


ليست (الفاء) هناك مضمرة بتة». واعتبر هاتين الآيتين من «باب ما جاء في التنزيل من حروف الشرط دخلت عليه اللام الموطّئة للقسم» (١).

ولعل ذهابه إلى ما ذهب إليه مردّه اللام الداخلة على خبر (إنّ) واعتباره إياها لام القسم لا لام التوكيد. والذي نظنه أنه لا مسوّغ لتقدير قسم في صدر الجملة الجوابية ، لأن من قرّر ذينك الحكمين (الإشراك في حال إطاعة من يأمر بأكل ما حرّم دون وجود إكراه ، واليأس والكفر في حال نزع الرحمة من الإنسان بعد إذاقته إياها) ليس بحاجة إلى القسم لتوكيدهما ، وهو القاضي بكل أمر أن يكون فيكون.

أما العكبري فقال في (إنكم لمشركون) :

«حذف الفاء من جواب الشرط وهو حسن إذا كان

__________________

(١) قد يكون إدراج الآية ٩ من سورة هود في هذا الباب مناسبا ، باعتبار دخول اللام فيها على حرف الشرط (لئن) ، وهي اللام التي يعتبرها النحاة موطّئة للقسم. أما الآية ١٢١ من الأنعام. فليس فيها شيء من هذا. ثم إن صاحب «إعراب القرآن» عاد فذكر في الجزء الثالث ، ص ٧٨٠ أن قياس أبي الحسن الأخفش هو تقدير حذف (الفاء) في (الوصية للوالدين) ، وهو قياس الفراء في (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، وأن سيبويه حمل هذه المواضع على التقديم. [المقصود أن التقدير هو (إنكم لمشركون إن اطعتموهم)] ، ولم يجز إضمار (الفاء).


الشرط بلفظ الماضي ، وهو هنا كذلك ، وهو قوله (وإن اطعتموهم).» (١)

لكنه يعود فيعتبر (إنه ليئوس) في الآية الثانية جواب قسم سدّ مع القسم مسدّ جواب الشرط (٢)

واعتبر ابن هشام حذف (الفاء) في بيت حسان ضرورة (٣) ، وأن قول بعضهم بإضمار (الفاء) في (إن ترك خيرا الوصية للوالدين) مردود ، وأن (الوصية) في الآية نائب عن فاعل (كتب) ، و (للوالدين) متعلق بها ، لا خبر ، والجواب محذوف ، أي (فليوص) (٤). وذكر أن المبرّد منع حذف (الفاء) حتى في الشعر ، وزعم أن رواية بيت حسان هي :

من يفعل الخير فالرحمن يشكره (٥).

* أجاز الأخفش اعتبار الاسم المرفوع بعد (إن) الشرطية ، كما في قوله (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

__________________

(١) إملاء ما منّ به الرحمن ، ١ / ١٥١.

(٢) نفسه ، ٢ / ١٩.

(٣) مغني اللبيب ، ١ / ٥٦.

(٤) نفسه ، ١ / ٩٨.

(٥) نفسه ، ١ / ١٦٥.


اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة / ٦] ، مبتدأ على الرغم من ذهابه إلى أن رفع (أحد) على فعل مضمر ـ وهو رأي مدرسته البصرية ـ أي (وإن استجارك أحد استجارك) أقيس الوجهين لأن حروف المجازاة لا يبتدأ بعدها ، إلا أنهم قالوا ذلك في (إن) لتمكّنها وحسنها إذا وليتها الأسماء ، وليس بعدها فعل مجزوم في اللفظ.

وقد ردّ رأي الأخفش في جواز اعتبار الاسم بعد (إن) مبتدأ بأن حرف الشرط «يقتضي الفعل ويختص به دون غيره ، ولهذا كان عاملا فيه. وإذا كان مقتضيا للفعل ولا بد له منه ، بطل تقدير الابتداء ، لأن الابتداء إنما يرتفع به الاسم في موضع لا يجب فيه تقدير الفعل ، لأن حقيقة الابتداء التعرّي من العوامل اللفظية المظهرة أو المقدّرة.» (١).

وكم كنا نتمنّى لو تمسّك الأخفش برأيه في ابتداء الاسم بعد (إن) ، بل بعد حروف المجازاة جميعها ، انسجاما مع روح الاستعمال اللغوي. فإلى جانب الآية ٦ من سورة التوبة ، هناك الآية ١٢٨ من سورة النساء : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسالة ٨٥.


بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما ... ،) والآيات ٩ من سورة المرسلات (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) ، و ١١ من سورة التكوير (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) ، والأولى من سورة الانفطار (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، والأولى من سورة الانشقاق (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، والأولى من سورة التكوير (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)

ولا دليل على اختصاص حروف المجازاة بالأفعال دون غيرها سوى افتراض النحاة الذي فرض تقدير فعل قبل الاسم الواقع بعد حرف الشرط يفسره الفعل المذكور. فقد قال عديّ بن زيد :

فمتى واغل ينبهم يحيّو

ه وتعطف عليه كأس الساقي

وقال كعب بن جعيل بن قمير :

صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميّلها تمل

وقال هشام المرّيّ :


فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا

فهذه أبيات لشعراء فصحاء جاءوا فيها بأسماء بعد حروف شرطية غير (إن) ، وأعملوها الجزم في أفعال مضارعة صريحة ، ومع ذلك يستكبر النحاة ويضعّفونها ويذهبون إلى أن ما جاء فيها لا يجوز في الكلام ، لأن تلك الحروف فرع على (إن) وعملها الجزم ظاهر في الفعل المضارع ، وذلك ضعيف في (إن) نفسها في اختيار الكلام (١).

وأما ارتفاع الاسم الواقع بعد (إذا) ، فيقوّيه قول ضيغم الأسدي :

إذا هو لم يخفني في ابن عمّي

 ـ وإن لم ألقه ـ الرجل الظلوم

وقد علّق عليه ابن جني بقوله :

«ألا ترى أن (هو) في قوله (إذا هو لم يخفني) ضمير الشأن والحديث ، وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا ، أو بفعل مضمر لا دليل عليه ، ولا

__________________

(١) راجع المسألة ٨٥ من «الإنصاف في مسائل الخلاف».


تفسير له. [المقصود أنه يتعذّر تقدير (لم يخفني) قبل (هو) ، لأنك لا تقدر أن تقول (إذا لم يخفني هو لم يخفني الرجل الظلوم) ، وإلا غدا (هو) توكيدا للفاعل المستكنّ في (يخف) ، وليس هذا هو معناه]. وما كانت هذه سبيله لم يجز إضماره.» (١).

ثم أضاف :

«وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع بعد (إذا) الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(٢).

* أجاز الأخفش (يا زيد بن عمرو) ـ برفع (ابن) ـ و (يا تميم كلّكم) ـ برفع (كلّ) ـ وأوجب رفع النعت والتوكيد في حال تبعيتهما للنكرة المقصودة في النداء. وقد اعترض جمهور النحاة على الرفع في (يا زيد بن عمرو) بأنه شاذّ ، وبأن المنادى لو كان مضافا لم يجز فيه إلّا النصب ، فلو جوّز رفع نعته مضافا لزم إعطاء المضاف تابعا مستقلا تفضيلا عليه. واعترضوا

__________________

(١) الخصائص ، ١ / ١٠٤.

(٢) نفسه ، ص ١٠٥.


على رفع (كلّ) في (يا تميم كلّكم) بأنه إذا تمّ فهو مبتدأ على القطع ، والتأويل (يا تميم كلّكم مدعوّ).

وفي اعتقادنا أن ما حمل النحاة على ذلك هو انطلاقهم من فكرة أن (المنادى) مفعول به لفعل محذوف تقديره (أنادي) ، وأن محلّه النصب ، فإذا جاء مضموما فضمته بناء لا إعراب.

أما إيجاب الرفع عند الأخفش في نعت النكرة المقصودة بالنداء وتوكيدها فناتج عن أن ضمّة المنادى ليست في نظره ضمة بناء بل ضمة إعراب ، وأن الأصل في (يا رجل) هو (يا أيها الرجل) ، وقد حذفت (أيّ) فبقي على إعرابه. وأما الجمهور فقالوا بأنه لما حذفت (أيّ) وحلّ محلّها وصار هو المنادى ، حكم له بحكمه فبني كما بنيت (١).

وإذا كنا نسجل للأخفش فضله في مراعاة الاستعمال اللغوي حين أجاز الرفع في (ابن) و (كل) ، إلى جانب النصب فيهما ، دون اللجوء إلى التأويل (كما فعل جمهور النحاة الذين قدّموا حجة بارعة في ظاهرها المنطقي ، وإن كانت في باطنها من الوهن بمكان ، إذ ما دخل (النعت) المضاف ب

__________________

(١) همع الهوامع ، ٢ / ١٤٢.


(المنادى) المضاف ، في موضع ليس فيه المنادى مضافا ، ليقال إنه لو كان المنادى مضافا لم يجز فيه إلّا النصب ، وأنه لو رفع نعته وهو مضاف لفضّل التابع ، (أي النعت) ، على المستقل ، (أي المنعوت) ، وأوّلوا رفع التوكيد بعد المنادى بأنه مبتدأ محذوف الخبر) ، نقول : إذا كنا نسجل للأخفش مثل هذا الفضل ، فإنه لا يسعنا مع ذلك إلّا أن نبدي دهشتنا لموقفه من (يا رجل) التي ذهب إلى أن أصلها (يا أيها الرجل) ـ لا ننس موافقة الجمهور له في الأساس دون التفصيل ، إذ اختلفوا معه في أن ضمّة المنادى هنا ضمة بناء لا إعراب ، لحلول (رجل) محل (أي) المبنية وبنائه كما بنيت ـ وإصراره على وجوب الرفع في نعته وتوكيده. ولذا نرى لزاما علينا أن نسجّل الملاحظات التالية :

١ ـ لا يعقل أن يكون أصل (يا رجل) (يا أيها الرجل). فلو كان هذا صحيحا لوجب أن تنقرض الصيغة الثانية من الاستعمال ، ما دام المتكلم العربي ارتضى الصيغة الأولى بدلا منها.

٢ ـ ليس في علمنا أن النكرة المقصودة بالنداء في مثل (يا رجل) تنعت أو تؤكد ، ولا أنه من الممكن القول (يا رجل كريم) أو (يا رجل


نفسك). والسبب في ذلك بسيط ، وهو أن المنادي حين توجّه إلى المنادى كان قد قصده ، ولا حاجة به إلى توكيده ، وهو من ناحية ثانية إما يجهله فلا يستطيع والحالة هذه أن ينعته ، وإما يعرفه ولا يريد تسميته باسمه لهدف انفعالي ، وقد توجّه إليه لغاية معينة من مثل (أخيرا وجدتك يا رجل) ، أو (بحثت عنك طويلا يا رجل) ، أو ... الخ ... أو لسؤاله عن أمر يدعو إلى الاستغراب ، من مثل (لماذا لم تأت أمس يا رجل؟) ، أو (هل ستظل واقفا يا رجل؟) ، أو ... الخ ... أو لأمره بأمر فيه خيره ـ أو نهيه عن إتيانه ـ من مثل (اذهب يا رجل فأنت حرّ) ، أو (دع عنك الهمّ يا رجل) ، أو (لا تغضب يا رجل) ، أو (لا تكثر من الطعام يا رجل) ، أو ... الخ ... وليس المنادي في جميع هذه الأحوال بحاجة إلى نعت المنادى أو توكيده.

٣ ـ نميل إلى الاعتقاد بأن النكرة المقصودة بالنداء بمثابة اسم العلم ، مع فارق واحد ، هو أننا نقول (يا رجل) لأننا نجهل اسم ذلك الرجل ، أو أننا لا


نريد تسميته لسبب انفعالي محض ، كالتحبب أو التعظيم أو غير ذلك.

وغني عن البيان أن اسم العلم لا ينعت إلا بنعت خاص جدا ـ هو لفظة «ابن» ـ ربما كان أقرب إلى (البدل) أو إلى (عطف البيان) منه إلى (النعت). ثم إن اسم العلم لا يؤكد إلا إذا كان دالا على جماعة كقبيلة أو عشيرة أو فخذ الخ ... ، فيستحيل أن يقال مثلا (يا زيد نفسك) أو (يا عمرو كلك) الخ ...

ولهذين السببين استبعدت اللغة توكيد النكرة المقصودة حين تكون لمفرد ، كما استبعدت توكيد العلم المفرد ، واستبعدت كذلك نعتها ـ حتى بلفظة «ابن» ـ لأنه لو قيل (يا رجل بن فلان) لغدت لفظة (رجل) علما ، وليس هذا هو المراد.

وإذا صحّ ما ذهبنا إليه ، تأكد خطل القول بأن أصل النكرة المقصودة بالنداء معرفة بعد (أيها) ، واستحال أن يكون أصل (يا رجل) هو (يا أيها الرجل) ، لأن النعت والتوكيد واردان في


الاستعمال في الصيغة الأخيرة ، إذ يقال (يا أيّها الرجل بن الرجل) ، أو (يا أيّها الرجل الأمين) ، أو (يا أيّها الرجل أنت نفسك) :

٤ ـ إن الذي دعا الاخفش إلى ايجاب الرفع في (نعت النكرة المقصودة وتوكيدها) ـ وقد بيننا أعلاه استحالة الأمرين حين تكون النكرة المقصودة لمفرد ـ نتيجة منطقية لفرضية مغلوطة مفادها أنه ما دام نعت المنادى المعرفة بعد (أيها) وتوكيده مرفوعين ، وما دامت النكرة المقصودة بالنداء أصلها «معرفة» ، فلا بدّ إذن من أن يكون نعت النكرة المقصودة وتوكيدها مرفوعين.

٥ ـ نعتقد أن دراسة توكيد العلم الدالّ على جمع كما جاءت في المثال المطروح : (يا تميم كلّكم) ، مبتسرة في الأساس ، إذ لا يعقل أن يضطر منادي (تميم) إلى توكيد أنه يناديهم جميعا ولا يستثني منهم أحدا. فقوله (يا تميم) يعني ضمنا أنه يتوجّه إلى كل «تميميّ».

ويقودنا هذا إلى القول بأنه يجب دراسة


الصيغة الندائية الواردة في المثال دراسة جديدة على ضوء احتمالاتها الدلالية كما يلي :

أـ إذا قال المتكلم مثلا : (هبّوا يا تميم كلّكم) ـ برفع (كلّ) ـ فحينئذ يكون التوكيد المعنوي عائدا إلى (واو الجماعة) في الفعل ، لا إلى المنادى (تميم).

ب ـ إذا قال : (يا تميم كلّكم مدعو ـ أو مدعوون ـ إلى النضال) ، كان رأي جمهور النحاة سليما فيما يخصّ رفع (كلّ) بالابتداء ، دون أن يكون كذلك فيما يتعلق بتقدير الخبر الذي دفعهم إليه ، ولا شك ، ابتسارهم الصيغة ودراستها في قالبها المذكور آنفا ، أي : (يا تميم كلّكم).

ج ـ إذا صحت صيغة مثل (هبّوا يا تميم كلّكم) ـ بنصب (كلّ) ، كان النصب في تقديرنا على الحالية ، أي (بكلّيتكم) ، لا على أساس أنها توكيد للمنادى الذي محلّه النصب مفعولا به لفعل النداء المحذوف أو المقدّر. ولعل الدافع لنا إلى القول : (إذا صحت) ، هو أن اللغة تستغني بـ (جميعا) الحالية عن (كل) المؤكدة ، لأنها تتضمن


مع الحالية معنى التوكيد ، ويغدو المتكلم معها في غنى عن «التوكيد المعنوي» بـ (كل).

ولا يفوتنا على كل حال أن ننوّه بفضل آخر للأخفش هو ذهابه إلى أن ضمة النكرة المقصودة بالنداء ضمة إعراب لا ضمة بناء. مع التذكير بمخالفتنا إياه الرأي في الدافع إلى اعتبارها كذلك [نشير إلى أن أصل (يا رجل) في رأيه هو (يا أيها الرجل)] ، إذ لا شيء يدعو إلى عدّ ضمة هذه النكرة المقصودة بالنداء ضمة بناء لمجرد عدم التنوين ، فبالإمكان القول إن المنادى إذا كان نكرة مقصودة رفع من غير تنوين ، وتنتهي المشكلة. وهذا ما نادى به جمهور الكوفيين في المنادى المفرد العلم (١).

* منع أكثر البصريين توكيد النكرة بإطلاق بحجة أن التوكيد «معرفة» ، ولا يجوز أن تتبع معرفة نكرة.

أما الأخفش فرأى جواز توكيدها إذا حدّدت بوقت. والحق إن رأي الأخفش جاء مطابقا لما في الاستعمال اللغوي ، بدليل قول ابن مالك بأن مذهب أبي الحسن «أولى بالصواب لصحة السماع بذلك ، ولأن فيه فائدة ، لأن من قال : (صمت شهرا) قد يريد جميع

__________________

(١) راجع المسألة ٤٥ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف».


الشهر ، وقد يريد أكثره. ففي قوله احتمال يرفعه التوكيد.» (١)

ومن الوارد في توكيد النكرة :

ـ قول السيدة عائشة : (ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صام شهرا كلّه إلا رمضان» (٢).

ـ قول عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي (٣) :

لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب

يا ليت عدّة حول كلّه رجب

 ـ قول شييم بن خويلد (٤) :

زحرت به ليلة كلّها

فجئت به مؤيدا حنفقيقا (٥)

وغير هذا كثير.

* ذهب سيبويه الى أن (كيف) ظرف ، وأن موضعها

__________________

(١ و ٢) همع الهوامع ، ٢ / ١٢٤.

(٣ و ٤) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٣.

(٥) الزحر : إخراج النفس بأنين عند عمل أو شدة. المؤيد : الناقص.

الحنفقيق : المقصّر.


نصب دائما ، باعتبار أن تقديرها في مثل (كيف زيد؟) هو (في أي حال؟) ، أو (على أي حال؟) ، وأن جوابها هو (على خير) أو نحوه.

أما الأخفش فقد ذهب إلى أنها اسم مرفوع مع المبتدأ ، كما في قولك : (كيف زيد؟) ، والتقدير (أصحيح زيد؟) ، أو نحوه ، ومنصوب مع غيره ، كما في قولك : (كيف جاء زيد؟) ، وتقديره (أراكبا جاء زيد؟) ، أو نحوه.

وقد قال ابن مالك : «لم يقل أحد أن (كيف) ظرف ، إذ ليست زمانا ولا مكانا) ، ولكنها لما كانت تفسّر بقولك (على أي حال؟) [وهو تقدير سيبويه كما رأينا] لكونها سؤالا عن الأحوال العامة ، سمّيت ظرفا ، لأنها في تأويل الجارّ والمجرور ، واسم (الظرف) يطلق عليهما مجازا.» (١).

وقال ابن هشام مؤيدا رأي الأخفش : «وهو حسن ، ويؤيده الإجماع على أنه يقال في البدل (كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟) بالرفع ، ولا يبدل المرفوع من المنصوب.» (٢).

__________________

(١ و ٢) مغني اللبيب ، ١ / ٢٠٦.


ويستفاد من كلام ابن مالك أعلاه أن قول سيبويه بظرفية (كيف) يجب ألا يؤخذ فيه بحرفية التسمية ، لأن (الظرف) يطلق مجازا على الجارّ والمجرور ، لكنه لم يتعرض لقضية (النصب) على الموضع في (كيف) التي يستفاد من نقل ابن هشام أنها (حال) دائما في رأي سيبويه ، بينما يبدو الحكم برفعها مع المبتدأ ، ونصبها مع غيره أقرب إلى طبيعة الأشياء إذا ما اضطر المشتغل بالنحو إلى «الإعراب».

* ذهب سيبويه إلى أن (الدار) في قولك (دخلت الدار) منصوب على الظرف ، تشبيها للمختصّ بغير المختصّ [المقصود بالمختص المكان الذي له اسم من جهة نفسه ، كالدار ، والمسجد ، والحانوت ، أو ما كان لفظه مختصا ببعض الأماكن دون بعض ، أو ما كان له أقطار ، أي أبعاد ، تحصره ، ونهايات تحيط به]. بينما ذهب الأخفش إلى أن (دخل) ممّا يتعدّى بنفسه ، وأن (الدار) مفعول به على الأصل ، لا على الاتساع ، وهو رأي أقرب إلى منطق اللغة من رأي سيبويه ومن رأي بعض المتأخرين عن الأخفش ، كأبي علي الفارسي القائل بأنه مما حذف منه حرف الجرّ اتساعا ـ أي أن الأصل فيه (دخلت في الدار) ـ فانتصب على


المفعول به (١).

* لا يجيز جمهور البصريين وأكثر النحاة أن ينصب اسم الفاعل المشتق من العدد (ثان ، ثالث ، رابع ... حتى عاشر) الاسم الواقع بعده ، فلا يقال مثلا (فلان ثالث ثلاثة) ، وإنما يقتصر على القول (فلان ثالث ثلاثة) ، بحجة أن اسم الفاعل هذا ليس له فعل. [الواقع أن هذه الحجة تبدو واهية ، إذ كيف يكون (ثان) و (ثالث) و (رابع) الخ ... أسماء فواعل ، ولا يكون لها أفعال اشتقّت منها؟. وقد ذهب ابن مالك إلى إمكان النصب مع (ثان) لأن له فعلا ، وأن قولك (ثنيت الرجلين) إذا كنت الثاني منهما ، ولم يسمع في البواقي (٢).]

أما الأخفش فأجاز النصب مع كل اسم فاعل مشتق من العدد ،. على أن يكون المقصود مثلا من (ثالث ثلاثة) أن (ثالثا) هذا قد تمّم الثلاثة. ويستفاد من رأي الأخفش أن جرّ الاسم بالإضافة بعد اسم الفاعل المشتق من العدد ، كما في (فلان ثالث ثلاثة) ، معناه أنه شخص من ثلاثة ، لا فرق بين

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ٢٠٠.

(٢) نفسه ، ٢ / ١٥١.


أن يكون الأول أو الثاني أو الثالث في الترتيب ، بينما يفيد نصبه ، كما في (فلان ثالث ثلاثة) ، أن مجيء شخص إلى مجلس شخصين جعل عدد الأشخاص ثلاثة.

وغني عن البيان أن وجود الصيغة الثانية إلى جانب الأولى من شأنه إثراء اللغة بلطيفة معنوية لا توفّرها الصيغة الأولى.

* منع سيبويه دخول (اللام) على الفعل الجامد الواقع في خبر (إنّ) ، فلا يقال في رأيه : (إن زيدا لنعم الرجل).

أما الأخفش فأجاز ذلك وفسّره بأن (نعم) ما دامت للإنشاء فإنها تستلزم الحضور ، ولذلك أشبهت المضارع الذي تدخله (اللام) إذا وقع في خبر (إنّ) ، وبأنها أشبهت الاسم لكونها لا تتصرف ، والاسم تدخله (اللام) حين يكون خبرا لـ (إنّ) (١).

وسواء أوافقنا على التعليل الأخفشي لتسويغ دخول (اللام) على (نعم) الواقعة في خبر (إن) أم لم نوافق ، فإن الذي لا محيد عن قوله هو أن لا شيء

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٣٩ ـ ١٤٠.


يمنع المتكلم من إدخال (لام التوكيد) على (نعم) إذا شعر بضرورة ذلك ، وما منعه إلّا من قبيل التعنّت الذي لا وجه له.

* قال البصريون أن «لأداة الشرط الصدر ، أي صدر الكلام ، فلا يسبقها معمول معمولها ، أي لا يجوز تقديم شيء من معمولات فعل الشرط ولا فعل الجواب عليها ، لأنها عندهم كأداة الاستفهام ، و (ما) النافية ، ونحوهما مما له الصدر ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وإنما تقع مستأنفة أو مبنيّة على ذي خبر أو نحوه» (١)

وقال أكثرهم بعدم جواز تقديم جواب الشرط على الأداة «لأنه ثان أبدا عن الأول متوقف عليه» (٢).

وقال الأخفش بجواز تقديم الجواب على الأداة «ماضيا كان أو مضارعا ، نحو (قمت إن قمت) ، و (أقوم إن قمت).» (٣)

ويبدو أن الذي حمل البصريين على عدم إجازة تقديم جواب الشرط «أن الشرط سبب في الجزاء (أي

__________________

(١ و ٢ و ٣) همع الهوامع ٢ / ٦١.


في الجواب) والجزاء مسببه ، ومحال أن يكون المسبب مقدّما على السبب» (١). وحين كانوا يقعون على ما يصلح في ظاهره لأن يكون جواب الشرط ، مثل (أنت ظالم إن فعلت كذا) ، ومثل قول رؤبة بن العجاج :

يا حكم الوارثّ عن عبد الملك

أوديت إن لم تحب حبو المعتنك (٢)

كانوا يتأولونه بأنه دليل على الجواب وليس بالجواب ، فأصل (أنت ظالم إن فعلت كذا) هو (إن فعلت كذا ظلمت) ـ أو (إن فعلت كذا فأنت ظالم) ـ فحذف (ظلمت) لدلالة (أنت ظالم) عليه ، وأصل (أوديت إن لم تحب) هو (إن لم تحب أوديت) وجعل (أوديت) المتقدمة دليلا على (أوديت) المتأخرة (٣).

وفي اعتقادنا أن ما ذهب إليه الأخفش أقرب إلى روح اللغة والاستعمال اللغوي. لأنه يوفّر على المعرب

__________________

(١ و ٣) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٧.

(٢) المعتنك : البعير الذي يسير بصعوبة في الرمل المتعقّد.


تقديرات لا مسوّغ لها ، ويجعل المتكلم في حلّ من قيود النحاة وأكثر حرّية في التعبير عن مراده إذا كان الموقف يقتضي تقديم جواب الشرط على الأداة.

* قال سيبويه في كتابه : «واعلم أن ناسا من العرب يغلظون فيقولون (إنك وزيد ذاهبان).» (١) ، وتابعه جمهور البصريين في منع هذه الصيغة لأنها تقضي بعطف اسم مرفوع على اسم (إنّ) قبل تمام الخبر.

أما الأخفش فقد أجازها ، سواء أكان العطف على اسم (إنّ) المضمر ، كما في المثال الذي أورده سيبويه ، أم كان على اسمها المظهر ، كما في (إن زيدا وعمرو منطلقان) ، وتابعه في ذلك الكسائي (٢) استنادا إلى قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة / ٦٩] ، وإلى قول بشر بن أبي خازم :

وإلّا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ، ما بقينا في شقاق

__________________

(١) الكتاب ، ٢ / ١٥٥.

(٢) الإنصاف في مسائل الخلاف. المسألة ٢٣.


والذي نراه أن ما تأوّله سيبويه ومن تابعه من البصريين في مثل هذين الشاهدين من تقدير «التقديم والتأخير» أو تقدير أن المرفوع «مستأنف خبره محذوف يدل عليه الخبر المذكور» هو مما يرهق طالب النحو ، وأن منع المتكلم من صيغة كالمثال الوارد عند سيبويه ـ (إنك وزيد ذاهبان) ـ بحجة أنه غلط من بعض العرب ، يحدّ من حرية هذا المتكلم في التعبير ، لأن الاستعمال اللغوي يبيحها له ، ولأن من التعسّف القول بأن العربي «يغلط» ، خاصة وأن اللغة هي المرجع الأول والأخير لكل العلوم المتعلقة بها ، لا منطق المشتغلين فيها.

ولا ريب في أن ما ذهب إليه الأخفش يتوافق مع روح اللغة التي يبدو جليا أنها تتيح المجال رحبا أمام المتكلم أن يختار في الاسم المعطوف على الاسم المنصوب بعد (إنّ) قبل تمام الخبر بين النصب والرفع حسبما يمليه عليه ذوقه وإحساسه ، لا على أساس ما اختاره له النحاة.

* زعم النحاة أن الحال لا تجيء من المضاف إليه ، وذلك بالرغم من ورودها في الاستعمال ، كما في قوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر / ٦٦] ، وقوله : (نَزَعْنا ما فِي


صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر / ٤٧] ، وقوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة / ١٣٥ ، وآل عمران / ٩٥ ، والنساء / ١٢٥ ، والأنعام / ١٦١ ، والنحل / ١٢١] ، وبالرغم من وضوح الحالية حسب ميكانيكية الإعراب في كل من «مصبحين» ـ وهي حال من «هؤلاء» المضاف إلى «دابر» ـ و «إخوانا» ـ وهي حال من «هم» المضاف إلى «صدور» ـ و «حنيفا» ـ وهي حال من «ابراهيم» المضاف إلى «ملّة».

وقال النابغة الجعدي :

كأنّ حواميه (١) مدبرا

خضبن وإن كان لم يخضب

فجاء بـ (مدبرا) حالا من (الهاء) المضاف إلى (حواميه).

وقد ذهب الأخفش إلى جواز مجيء الحال من المضاف إليه «إذا كان المضاف جزءا مما أضيف إليه أو مثل جزئه ، لأنك لو استغنيت بالمضاف إليه عن

__________________

(١) لحوامي : ميامن حافر الفرس ومياسره.


المضاف لصحّ اعتبار الاسم المنصوب حالا ، كأن تقول (ونزعنا ما فيهم إخوانا) ، و (ابراهيم حنيفا).» (١) [المقصود أنك حين قلت (فيهم) استغنيت بعد (في) بالمضاف إليه (هم) عن المضاف (صدور) ، وحين قلت (ابراهيم) استغنيت بعد (اتّبعوا) بالمضاف إليه (ابراهيم) عن المضاف (ملّة).]

وإذا كنا لا نوافق الأخفش على إباحة الحال من المضاف إليه إلّا بشرط كون المضاف جزءا مما أضيف إليه أو مثل جزئه ، ولا على تعليله لتلك الإباحة ، فإنه لا يسعنا إلّا التنويه بها ، والجزم بأنه لا عبرة بالقول ـ كما فعل أبو حيّان ـ بأن (إخوانا) منصوب على المدح ، أو أن (حنيفا) حال من (ملّة) بمعنى (دين) [المقصود أن (حنيفا) تكون في هذه الحالة حالا من المضاف ـ أي (دين) ـ لا من المضاف إليه (ابراهيم)] ، أو أنه حال من ضمير الرفع في (اتبعوا) ، بحجة أن «العامل» في الحال هو «العامل في صاحبها» ، وعامل المضاف إليه هو (اللام) ـ أي حرف الجر ـ أو (الإضافة) ـ وهو عامل معنوي كما لا يخفى على المشتغلين في النحو ـ وكلاهما لا يصلح أن يعمل في الحال (٢). فكل

__________________

(١ و ٢) همع الهوامع ١ / ٢٤٠.


هذا تعنّت لا مسوّغ له ، بل هو إغراق في التأويل يردّه واقع الأشياء وروح اللغة نفسها.

وبعد ، فهذه طائفة من آراء الأخفش يصحّ القول فيها إنها خطوات تجديدية خيّرة. وقد سقناها على سبيل المثال لا الحصر ، طمعا في الاسترشاد بها يوم ننهد للكلام على تيسير النحو على أبناء العروبة وطلاب العربية. ولا يعني هذا أننا نأخذ بها على علّاتها ، وإنما أننا نراها منطلقات صالحة إلى غرضنا الأساسي ، وأضواء كاشفة لمستقبل للنحو نرجو أن يكون أفضل من ماضيه ، على ما في هذا الماضي من جهود مبرورة لا سبيل إلى إنكارها.



الباب الثاني

الكوفيون



تمهيد

كثيرا ما يتردّد في أثناء التأريخ للنحو بأن نشأة النحو الكوفي كان مردّها خوفهم من أن «تنماع شخصيتهم في البصريين إن لم يكن لهم نحو خاص ، وبينهما ما بينهما من دواغل وإحن ، فدعاهم ذلك إلى تنظيم نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه إتجاه البصريين» (١) ، وأن البصريين لم يكونوا يعتدّون بكلام الكوفيين لأنهم كانوا ينقلون عن أعراب اختلطوا بالمتحضّرين ولان لسانهم وفسدت سلائقهم (٢) ، وأن الكسائي «كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز

__________________

(١) نشأة النحو ، ص ١٦٦.

(٢) ذكر محمد بن يزيد قال : حدثني المازني عن أبي زيد قال : قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو ويونس وعيسى بن عمر علما كثيرا صحيحا ، ثم خرج إلى بغداد فقدم أعراب الحطمة فأخذ عنهم شيئا فاسدا فخلط هذا بذاك فأفسده» (أخبار النحويين البصريين ، ص ٥٦)

وعن الرياشي أنه قال : «إنما أخذنا اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع ، وهؤلاء (يعني الكوفيين) أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب


إلّا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه ، فأفسد بذلك النحو» (١).

ثم إنه كثيرا ما يبدو الخلاف البصري الكوفي في النحو نتيجة طبيعية لاختلاف موقع البلدين ، أو نوعا من النكاية السياسية ، أو ضربا من التشفّي والانتقام ، فلا يكاد البصري يقول «أبيض» حتى يسارع الكوفي فيقول «أسود».

ونبادر إلى التأكيد بأنه لا يعنينا في هذا البحث أن نتصدّى لاتساع الكوفة في الرواية ، ولا لقياسها على الشاذ النادر إلى درجة إفساد النحو ، ولا لغير ذلك من الأحكام التي لا ضابط لها إلّا الأهواء ، كما لا يعنينا أن يقول البصري «النعت» فيقول الكوفي «الصفة» ، أو «البدل»

__________________

الكواميخ وأكلة الشواريز» (أخبار النحويين البصريين ، ص ٩٠)

وقال اليزيدي في الكسائي وأصحابه :

كنّا نقيس النحو فيما مضى

على لسان العرب الأوّل

فجاءنا قوم يقيسونه

على لغى أشياخ قطربّل

إن الكسائي وأشياعه

يرقون في النحو إلى أسفل

(أخبار النحويين البصريين ، ص ٤٤ / ٤٥)

(١) بغية الوعاة ١٢ ١٦٤.


فيكون المقابل «الترجمة» ، أو «واو المعيّة» ، فيكون المقابل «واو الصرف» ، إلى آخر ما هناك من خلاف في التسميات والمصطلحات.

ولا يهمنا كذلك ما رافق الدرس النحوي الكوفي من خلاف على فروع الأصول التي أصّلها البصريون ، والقواعد الكلية التي أرسوها ، كأن يكون الفعل المضارع منصوبا بأن مضمرة بعد «واو المعية» مثلا ، أو أن يكون منصوبا على «الخلاف» أو «الصرف» ، أو أن يكون المضارع مرفوعا لشبهه الاسم ـ كما قال سيبويه والجمهور ـ أو أن يكون مرفوعا بحروف المضارعة ـ كما زعم الكسائي ـ أو لتجرّده عن النواصب والجوازم ـ كما قال الفراء ـ أو أن يكون فعلا الشرط والجواب مجزومين بأداة الشرط ، أو أن يكون المجزوم بها فعل الشرط وحده ويكون الجواب مجزوما بالجوار ، إلى آخر ما هنالك من فروق تحفل بها كتب النحو.

والذي يهمنا قبل كل شيء هو معرفة ما إذا كان الكوفيون قد أتوا في نحوهم بجديد يمكن أن يخدم هدفنا النهائي ، أي تيسير النحو العربي على طلابه من أبناء العروبة وغيرهم. وهذا ما سنحاول تبيّنه في قابل البحث.


الفصل الأول

جديد ليس بالجديد

يبدو أن الكوفيين ، بالرغم من حرصهم على الاستقلال استقلالا ناجزا عن النحو البصري ، لم يكونوا قادرين على التخلّص من ربقته بعد أن كان قد رسخ في الأذهان وبسط سلطانه على المتأدبين ، إن لم نقل على الأدباء. لكن ذلك لم يفتّ في عضدهم ، فأقبل روّادهم على نحو البصرة يعلّون من مناهله ، ويحيطون بشوامله ، حتى أتقنوه وعرفوا أدقّ أسراره وخفاياه ، وانكبّوا من ثمّ يبحثون عن كل ثغرة يمكن أن ينفذوا منها إلى نقض أو خلاف.

ولعل اتصال على بن حمزة الكسائي ، شيخ المدرسة الكوفية ، بالأخفش الأوسط ، وروايته عنه كتاب سيبويه ، وملاحظته بأنه يكثر من الخلاف على صاحب الكتاب وعلى الخليل بن أحمد ، قد ساعدت ، كلها على تحقيق أغراض


الكوفيين في إنشاء مذهب خاصّ بهم يبدو من أطره العامّة أنه مغاير للمذهب البصري. فهل أفلحوا في ذلك حقا؟

إن نظرة متفحّصة على المذهب الكوفي تثبت أن مغايرته للمذهب البصري لم تكن في صميم الدرس النحوي.

فنحن لا نلمس عند الكوفيين ثورة حقيقية ، أو محاولة ثورة ، على كثير من الأمور الأساسية التي قام عليها علم النحو.

لقد تقبلّوا مثلا نظرية «العامل» كما نادى بها مؤسسو النحو البصري ، وحين أرادوا أن يأتوا فيها بجديد ، لم يكن جديدهم لينصب على جذور النظرية ، بل على فروعها ، كما هي الحال في قضايا عدّة نجتزيء عليها بما يلي :

* يقول البصريون في الظرف الواقع خبرا للمبتدأ ، كما في (أمامك زيد) ، أو (زيد أمامك) ، إنه منصوب بفعل مقدّر ـ (زيد استقرّ أمامك) ـ أو بالخبر المحذوف ـ (زيد مستقرّ أمامك) ـ الذي يعلّقون به هذا الظرف.

ولعله روادت الكوفيين فكرة اعتبار الظرف خبرا للمبتدأ ، لأن منطق اللغة يقضي بذلك. لكنهم لم


يتجرأوا ـ على ما نظن ـ أن يبوحوا به ، لأن المبتدأ والخبر يجب أن يكونا «مرفوعين» ، ولأنه لا بد للمنصوب من «ناصب» ، أي عامل يعمل فيه.

إن الذي عمل النصب في الظرف لا يمكن أن يكون المبتدأ نفسه ويكون الظرف في الوقت ذاته خبرا ، لأن المبتدأ والخبر عندهم «مترافعان» ، والخبر هو عين المبتدأ ، فإذا قلت (زيد أخوك) فالأخ هو زيد. فما العمل إذن؟

لقد تفتّقت قريحة الكوفيين عن عامل «معنوي» أطلقوا عليه اسم «الخلاف» وقالوا بأنه هو الذي عمل النصب في الظرف. ومفاد هذه النظرية أن «زيدا» في قولنا (زيد أمامك) ليس «الأمام» ، وأن هذا الخلاف المعنوي بين «زيد» و «أمام» هو الذي عمل النصب في هذا الأخير (١).

* مرّ بنا أن المفعول معه في مثل (جاء البرد والطيالسة) ، و (استوى الماء والخشبة) منصوب عند الأخفش انتصاب الظرف «مع» ، لأن الواو بمعناها ، بينما كان

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٢٦. همع الهوامع ١ / ٩٨.


البصريون يذهبون إلى أن ناصبه هو الفعل المذكور في العبارة قوّته الواو وعدّته ـ بعد أن كان لازما في الأصل ـ إلى الاسم المنصوب الواقع بعد تلك الواو.

وقد ذهب الكوفيون إلى أن الذي عمل النصب في الاسم الواقع بعد الواو هو «الخلاف» ، لأنه لما كان لا يحسن تكرير الفعل فيقال (استوى الماء واستوت الخشبة) ـ لأن الخشبة لم تكن معوجّة فتستوي ـ كما يحسن في (جاء زيد وعمرو) ـ المقصود أنه يمكن أن يقال (جاء زيد وجاء عمرو) ـ فقد خالف الثاني الأول في الحكم ، وانتصب على «الخلاف» انتصاب الظرف الواقع في خبر المبتدأ ، كما رأينا أعلاه (١).

* ذهب البصريون إلى أن المبتدأ مرفوع بعامل معنوي هو «الابتداء» ، والخبر مرفوع بالمبتدأ لأنه بني عليه ، فارتفع به كما ارتفع هو بالابتداء. وبدلا من أن يحاول الكوفيون التخلص من سيطرة فكرة «العامل» والقول مثلا بأن كلا من المبتدأ والخبر يأتي في اللغة مرفوعا ، ذهبوا إلى أنهما «مترافعان» ، وأن المبتدأ رفع الخبر ، والخبر رفع المبتدأ ، لأن كلا منهما

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٣٠.


طالب للآخر ومحتاج له وبه صار عمدة (١) ، ولا يمتنع أن يكون كل منهما عاملا ومعمولا. فكون اللفظ عاملا ومعمولا له نظائر في العربية ، كما في قوله (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء / ١١٠].

فقد انتصب (أيّا) بـ (تدعوا) ، وانجزم (تدعوا) بـ (أيّا) (٢). ولم يفت الكوفيين أن يردوا على البصريين رأيهم في أن رافع المبتدأ هو عامل «الابتداء» ، فقالوا إنه لا يجوز أن يعني «الابتداء» التعرّي من العوامل اللفظية ، لأن ذلك معناه «عدم العوامل» ، وعدم العوامل لا يكون عاملا (٣).

وإن دلّ هذا الكلام الأخير على شيء ، فإنما يدّل على مقدار تعلّق الكوفيين بفكرة «العامل» التي ورثوها عن البصرة فراحوا يزايدون فيها عليها.

* ذهب البصريون ـ وعلى رأسهم الخليل ـ إلى أن أداة الشرط تعمل الجزم في فعل الشرط ، وأنها وفعل

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٩٤.

(٢ و ٣) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٥.


الشرط يعملان الجزم في الجواب. وذهب الأخفش الى أن الجواب مجزوم بفعل الشرط وحده دون الأداة.

أما الكوفيون فرأوا أن الأداة تجزم فعل الشرط وحده ، بينما ينجزم الجواب بمجاورته لفعل الشرط (١).

* ويتضّح مما تقدم كيف أن الكوفيين ، بدلا من أن تراودهم فكرة دراسة الجملة العربية دراسة جديدة قائمة على العلاقات بين مختلف أجزائها (لعل في «الجوار» الذي قالوا به لتعليل جزم جواب الشرط ما يوميء إلى إمكان توفّرهم على مثل تلك الدراسة ، لو لم تكن فكرة «العامل» طاغية عليهم) ، تشبثّوا بنظرية «العامل» ، وأضافوا بضعة عوامل جديدة إلى لائحة العوامل البصرية ، كـ «الخلاف» و «الصرف» و «الجوار» وغيرها ، وناقضوا البصريين في ماهية بعض العوامل ، كما في ترافع المبتدأ والخبر.

وإليك فيما يلي هذه الأمثلة الأخرى التي إن دلت على شيء ، فإنما على مدى اضطراب الكوفيين بإزاء فكرة «العامل» ، ورضاهم بذلك الاضطراب بدلا من التفكير في الخلاص من قيود العوامل :

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ٦١ ، الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٤.


* علل سيبويه وجمهور البصريين ارتفاع الفعل المضارع بمشابهته الاسم ، أي اسم الفاعل ، لأن «ينطلق» مثلا في (زيد ينطلق) يعادل اسم الفاعل «منطلق» في (زيد منطلق). [لا يسعنا أن نمرّ بهذا التعليل دون الإشارة إلى ما فيه من مغالطة منطقية فرضتها فكرة «العامل». فالذي يمعن النظر في كلمتي «ينطلق» و «منطلق» يلاحظ حتما أن الأولى تقرّر فكرة الانطلاق مقيّدة بزمن محدد هو الحاضر ـ كما في قولنا مثلا (زيد ينطلق مسرعا) ـ أو المستقبل ـ كما في قولنا مثلا ردا على سؤال (من ينطلق؟) بـ (زيد ينطلق) ـ بينما تقرر الثانية فكرة الانطلاق متحرّرة من كل قيد زمني لتضمّنها عنصر الاستمرار في إحداث الحدث.]

وذهب الأخفش إلى أن ارتفاع المضارع نتيجة «لتعرّيه» عن العوامل اللفظية. [ما زال طلابنا حتى اليوم يقولون عند إعراب الفعل المضارع أنه مرفوع لتجرّده عن النواصب والجوازم.]

أما الكسائي الكوفي فقد ذهب إلى أن المضارع مرفوع بحروف المضارعة. وأما تلميذه الفراء فتبنّى


رأي الأخفش مستبدلا بكلمة «تجرّد» كلمة «تعرّي» ، وقال بارتفاع المضارع لتجرّده عن النواصب والجوازم. وأما ثعلب ، وهو آخر أقطاب المدرسة الكوفية ، فقد قال بأن المضارع مرفوع بـ «المضارعة».

وإذا كان المرء يدهش لرأي الكسائي حين يرى حروف المضارعة عاجزة عن عمل الرفع في المضارع ، منصوبا أو مجزوما ، على الرغم من ثبوتها فيهما ، فإنه يجد نفسه حائرا أمام كلمة «المضارعة» التي نادى بها ثعلب. فما تراها تعني بالضبط؟ أتكون عاملا معنويا آخر يضاف إلى لائحة العوامل ، أم هي لا تخرج عن كونها العامل الذي قال به سيبويه ، أي مشابهة الاسم ، نظرا لأن مدلول كلمة «المضارعة» هو المشابهة؟ (١).

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤. لا يفوتنا أن نشير إلى أن السيوطي أورد بعد أن عدّد مختلف الأقوال في رفع المضارع رأي أبي حيّان القائل بأنه «لا فائدة لهذا الخلاف ، ولا ينشأ عنه حكم تطبيقي». وهذا يعني أن الناظر في رفع المضارع لا يحتاج إلى كل التعليلات التي ذهب إليها النحاة ، وأن منطق اللغة يفرض الرفع ما لم يسبق المضارع ما يغيّر معناه التقريري في حال الإثبات. (راجع كذلك ما جاء في المسألة ٧٤ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف».)


* كان سيبويه والجمهور يرون أن الذي عمل النصب في المستثنى بعد «إلّا» هو الفعل الواقع قبله بواسطة «إلّا». فـ «زيد» في قولنا (حضر القوم إلا زيدا) منصوب بـ «حضر» عبر «إلّا».

وذهب بعض البصريين إلى أن عامل النصب هو «إلّا» نفسها ، وبعضهم الآخر إلى أنه فعل مضمر تقديره «استثني» (١).

أما شيخ المدرسة الكوفية ـ الكسائي ـ فقد قال بأن ناصب المستثنى هو «أنّ» مقدّرة بعد «إلا» محذوفة الخبر ، وأن تقدير الكلام في (حضر القوم إلا زيدا) هو (حضر القوم إلا أن زيدا لم يحضر) (٢).

وذهب تلميذه الفراء إلى أن «إلا» مركبة من «إنّ» و «لا» ، وقد حذفت النون الثانية من «إنّ» للتخفيف ، فأصبحت «إن» ، ثم ادغمت في لام «لا» ، وطرأ على العبارة شيء من التقديم والتأخير ، إذ كان

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٢٤.

(٢) يبدو أن للكسائي رأيا آخر في انتصاب المستثنى ، وهو على «المخالفة» للمستثنى منه. (همع الهوامع ١ / ٢٢٤).


أصل الكلام (حضر القوم إن زيدا لا حضر).

وغنيّ عن البيان ما في الرأيين الكوفيين من إغراق في التمحّل ، ولا سيما الرأي الأخير الذي يفيد أن المتكلم كدّ ذهنه ، كما كدّه الفراء ، في ثلاث عمليات منطقية :

الأولى ـ تخفيف «إنّ» مع الإبقاء على عملها النصب في اسمها «زيدا».

الثانية ـ تقدير خبر لـ «إن» : لا حضر.

الثالثة ـ إدخال «لا» النافية على الفعل الماضي ، على الرغم من أن اللغة تكاد لا تسمح بإدخالها عليه إلا في حالة معينة هي الدعاء ، كما في (لا سمح الله) ، أو (لا رحمه الله) أو نحوه.

* من محامد البصريين أنهم جعلوا «حتّى» الجارّة ، كما في (شرب الكأس حتى الثمالة) ، جارّة بنفسها. وبدلا من أن يوافق الكوفيون على ذلك ، ويأخذوا به لأن فيه حسنة كبرى هي البعد عن التقدير ، أبى شيخهم الكسائي إلّا أن يجعل مجرورها مجرورا بـ «إلى»


مضمرة ، بحجة أن من خصائص «حتى» أن يليها الفعل لا الاسم. وما دام قد وليها الاسم فلا بدّ أن الذي جرّه ليس هي بنفسها ، وإنما حرف جر يتضمّن المراد منها ، وهو «إلى» (١).

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكوفيين اعتبروا «حتى» الداخلة على الفعل المضارع ناصبة بنفسها لا بـ «أن» مضمرة كما يرى البصريون ، ولذا أبوا أن يعدّوها عامل جرّ حين تسبق الأسماء ، إذ كيف يمكن لعامل واحد أن يعمل عملين مختلفين؟ وهكذا نراهم يتساوون مع أخصامهم الذين نهجوا في الأمر نهجهم ، لأن أولئك الأخصام ثبت لديهم أن «حتى» تخفض الاسماء ، وان ما يعمل في الاسماء لا يعمل في الافعال (٢) ، فقالوا بنصب المضارع بعد «حتى» بـ «أن» مضمرة ، بينما ثبت لهؤلاء أنها خاصة بالأفعال فقالوا إنها تجر الاسم بـ «إلى» مضمرة.

* ذهب البصريون إلى أن عامل الرفع في الاسم الواقع بعد «لو لا» هو الابتداء ، بحجة أن الحرف ـ لا

__________________

(١) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٣.

(٢) مغني اللبيب ، ١ / ١٢٥.


مندوحة عن التذكير بأن النحاة يعتبرون «لو لا» هذه حرف امتناع لوجود ـ يعمل إذا كان مختصا [المقصود أن يدخل على الأفعال دون الأسماء أو بالعكس] ، و «لو لا» تدخل على الأسماء والأفعال ، فهي إذن غير عاملة ، ومعنى ذلك تعرّي الاسم بعدها عن العوامل اللفظية وارتفاعه بعامل «الابتداء».

وإذا ضربنا صفحا عن حجة البصريين (١) ، وجدنا الكوفيين ، وعلى رأسهم الفرّاء ، يذهبون إلى أن الاسم

__________________

(١) قد يردّ على البصريين ـ كما فعل محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشية المسألة ١٠ من «الانصاف في مسائل الخلاف». بأن «لو لا» لا تدخل الا على الاسماء ، وان ما دخل منها على الافعال كما في قول الجموح الظفري (أو راشد بن عبد ربه) :

قالت امامة لما جئت زائرها

هلّا رميت ببعض الاسهم السود

لا درّ درّك إني قد رميتهم

لو لا حددت ولا عذرى لمحدود

كان بتقدير «أن» ، أي (لو لا أن حددت) وتأويل الفعل بمصدر ، أي (لو لا حدّي) ، فتسقط حجتهم. وقد يردّ عليهم أيضا بأن هناك حروفا غير مختصة تعمل ، مثل «حتى» الناصبة والجارّة ، وحروفا مختصة لا تعمل ، مثل «ال» التعريف الخاصة بالاسماء.


بعد «لو لا» مرفوع بها ، لأنها نائبة مناب فعل محذوف تقديره «يمتنع» أو نحوه. فقولك (لو لا زيد لزرتك) معناه (لو لم يمنعني زيد لزرتك) ، حذفوا الفعل وزادوا «لا» على «لو» فصارت حرفا واحدا (١).

وواضح ما في الرأي الكوفي من عنت جرهم إليه تشبّثهم بفكرة العامل وتطلعهم في الوقت نفسه إلى الخلاف على البصريين من خلالها ، لا بمعزل عنها.

ويتمثل لنا ذاك العنت في الأمور التالية :

١ ـ إن الذي ناب مناب الفعل ليس «لو لا» بكاملها ، وإنما هو «لا» وحدها (لو+ لم يمنعني لو+ لا) ، مع أنهم ادّعوا نيابة «لو لا» كلها عن الفعل.

٢ ـ إن الفعل المقدّر فعل «خاصّ» يتضمن فكرة الامتناع ، وليس أي فعل آخر.

٣ ـ إن هذا الفعل مشروط بشرطين : أن يكون

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ١٠ ـ مغني اللبيب ١ / ٢٧٣.


مضارعا ، ثم أن يكون منفيا بـ «لم» ، وإلا بطل التقدير.

ومبدأ «القياس»؟

لا بد قبل الخوض في موقف الكوفيين منه ، من تقرير الأمور التالية :

أولا ـ يعرف «القياس» بأنه «حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه ، كرفع الفاعل ونصب المفعول في كل مكان ، وإن لم يكن كل ذلك منقولا عنهم ، وإنما لما كان غير المنقول عنهم من ذلك في معنى المنقول ، كان محمولا عليه. وكذلك كل مقيس في صناعة الإعراب» (١).

ثانيا ـ اطمأن البصريون إلى أحكامهم نتيجة حرص روّاد مدرستهم على النقل عن العرب «الفصحاء» ـ الذين ارتضوا فصاحتهم

__________________

(١) الاغراب في جدل الاعراب ، ص ٤٥ / ٤٦.


بالطبع ـ ومبالغتهم في التحري عن الشواهد السليمة وتجنّب كل ما بدا لهم مفتعلا ، فلم يكترثوا بالتالي لما جاء مخالفا لأحكامهم ووقفوا منه مواقف تتأرجح بين الرفض الكامل له ، أو اعتباره من قبيل «الضرورة الشعرية» ، أو تأويله بما يتفق وقواعدهم ، أو عدّه شاذا يحفظ ولا يقاس عليه حين لا يخضع لأية فئة من الفئات السابقة.

ومن أمثلة ذلك :

ـ قولهم بأن الوصف لا يعمل إلا معتمدا على نفي أو استفهام أو موصوف ، ولو معنى ، لفظا أو تقديرا ، نحو (أقائم أنتما؟) و (غير قائم الزيدان). وحين ورد عليهم قول الطائي :

خبير بنو لهب فلاتك ملغيا

مقالة لهبيّ إذا الطير ولّت

أوّلوه بأن الوصف «خبير» خبر مقدّم ، وأنه لم يطابق المبتدأ في الجمع لأن باب «فعيل» لا يلزم فيه المطابقة (١) ، وجعلوه على حد «ظهير» في

__________________

(١) همع الهوامع ، ١ / ٩٤.


قوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم / ٤].

ـ قولهم بعدم نيابة الظرف ، أو الجار والمجرور ، أو المصدر ، عن الفاعل مع وجود المفعول. وحين سمعوا قراءة أبي جعفر : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية / ١٤] ، ببناء الفعل للمجهول ، وقول جرير :

ولو ولدت قفيرة جرو كلب

لسبّ بذلك الجرو الكلابا

قالوا بأن نائب الفاعل في الآية هو ضمير الغفران ، وأن نصب «الكلاب» في البيت «ضرورة».

ـ لقد اوجبوا تنكير التمييز. وحين ورد عليهم قول رشيد اليشكري :

رأيتك لمّا أن عرفت وجوهنا

صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو

أوّلوا تعريف «النفس» بأنه «ضرورة».

ـ لم يجيزوا توكيد النكرة. وحين طالعهم قول عبد


الله بن مسلم الهذلي :

لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب

يا ليت عدّة حول كلّه رجب

سارعوا إلى القول بأن روايتهم البيت : «يا ليت عدّة حولي ...» ، أو نسبوا توكيد «حول» إلى «الضرورة» (١) ، مع أنه لا ضرورة هناك ، فقد كان بإمكان الشاعر أن يقول مثلا «حول كامل» ويحافظ على وزن البيت.

ثالثا ـ نتج عن «القياس» أحيانا أن بعض النحاة الأوائل خطّأوا شعراء من الذين يستشهد بهم لفصاحتهم. ومثال ذلك موقف عيسى بن عمر من النابغة في قوله :

فبتّ كأني ساورتني ضئيلة

من الرقش في أنيابها السمّ ناقع

واعتراضه بأن «القياس» يقضي بنصب «ناقع» ـ أي على الحالية ـ لأن المبتدأ

__________________

(١) راجع في توكيد النكرة «همع الهوامع» ، ٢ / ١٢٤.


والخبر ، وهما «في أنيابها السمّ» ، قد تمّا.

ولعل مما يثلج صدر الباحث أن سيبويه اعترض على موقف أستاذه عيسىّ بن عمر حين قرّر أن المتكلم بالخيار في أن يهمل الجار والمجرور الواقعين في خبر المبتدأ ، كما في بيت النابغة ، أو كما في قولك «عبد الله فيها قائم» ، أو أن يعملهما ويعتبر ما بعدهما منصوبا على الحال ، كقولك «عبد الله فيها قائما» (١).

ومثال ذلك أيضا تخطئة ذي الرمة لأنه استثنى من خبر فعل الاستمرار (ما انفك) ، لأن «دخول النفي فيها (أي في مثل «ما انفك») أجراها مجرى (كان) في كونها للإيجاب ، ومن ثمّ لم يجز (ما زال زيد ألا مقيما) ، وخطّىء ذو الرمة في قوله : حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة» (٢)

وقد ضجر الشعراء من قياس النحاة ، حتى

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٨٨.

(٢) الزمخشري ، المفصّل ، ص ٢٦٧. وتمام بيت ذي الرمة : «على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا».


قال فيهم عمّار الكلبي :

ماذا لقينا من المستعربين ومن

قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا

إن قلت قافية بكرا يكون بها

بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا

قالوا : لحنت ، وهذا ليس منتصبا

وذاك خفض ، وهذا ليس يرتفع

الخ ... (١)

رابعا ـ إن «القياس» حجب عن أعين النحاة أحيانا ما أطّرد في الاستعمال ، حتى قال ابن جني : «واعلم أن الشيء إذا اطّرد في الاستعمال وشذّ عن القياس ، فلا بدّ من اتّباع السمع الوارد فيه نفسه ، لكنّه لا يتّخذ أصلا يقاس عليه غيره» (٢).

__________________

(١) معجم الأدباء ١٢ / ١٠٣ ـ الخصائص ١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) الخصائص ١ / ٩٩.


وإن دل هذا الكلام على شيء ، فإنما على وجوب تقديم «القياس» على «السماع» ، أي «الاستعمال اللغوي» ، وهذا لعمر الحق افتئات من منطق النحاة على منطق اللغة. ويبدو أن ابن جني تنبه إلى هذا فعاد وذكر بعد قليل أنه «وإن شذّ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس ، كان استعمال ما كثر استعماله أولى ، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله» (١).

خامسا ـ أن «القياس النحوي» تأثر إلى حدّ كبير بالقياس المنطقي ، فلم يستند إلى سند موضوعي ، أو يعتمد على الملاحظة الدقيقة المستوعبة للظواهر ، و «معنى هذا أن الأصول التي يقرر النحاة في هذه المرحلة استخدامها لتقنين الظواهر أو تفسيرها ، والتي استخدموها بالفعل ، تهمل نقطة البدء الوحيدة التي تصلح للبحث اللغوي التركيبي ، وهي ملاحظة النصوص وتصنيفها لاكتشاف علاقاتها

__________________

(١) الخصائص ١ / ١٢٤.


وإدراك قوانينها ، ثم صياغتها في قواعد ملزمة» (١).

يؤيد هذا قول أبي البركات الأنباري في «لمع الأدلة» (الفصل الخاص بإثبات الحكم في محل النص : بماذا يثبت ، بالنص أم بالعلة؟) :

«إعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك ، فذهب الأكثرون إلى أنه يثبت بالعلة لا بالنص ، لأنه لو كان ثابتا بالنص لا بالعلة لأدى ذلك إلى إبطال الإلحاق وسدّ باب القياس ، لأن القياس حمل فرع على أصل بعلة جامعة ، وإذا فقدت العلة الجامعة بطل القياس ، وكان الفرع مقيسا من غير أصل ، وذلك محال. ألا ترى أنا لو قلنا إن الرفع والنصب في نحو (ضرب زيد عمرا) بالنص لا بالعلة ، لبطل الإلحاق بالفاعل والمفعول والقياس عليهما؟ وذلك لا يجوز» (٢).

وبعد ، فكيف وقف الكوفيون من «القياس»؟

__________________

(١) الدكتور علي أبو المكارم ، تقويم الفكر النحوي ، ص ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) لمع الأدلة ، ص ١٢١.


يبدو أنهم حاولوا الاعتداد بـ «السماع» ـ أو الاستعمال اللغوي ـ وهو منطلق سليم ولا ريب إلى درس الظواهر اللغوية ومحاولة ضبطها في أصول وقواعد. وحاولوا كذلك خرق الطوق الذي فرضه البصريون بقصرهم الاستشهاد على من نعتوهم بـ «الفصحاء من العرب» ، والوقوف به عند زمن لا يتعداه ـ بداية العصر العباسي الأول على الأرجح ـ ضاربين عرض الحائط بما يمكن أن يلحق باللغة من تطوّر ليس بالضرورة فسادا وتخليطا وفوضى ولحنا.

ولقد كان بالإمكان أن تكون محاولة الكوفيين خيّرة ـ إذا أدخلنا في حسباننا ما يقتضيه الدرس اللغوي من ملاحقة التطوّر التاريخي للغة ـ لو لم يبالغوا فيها على ما يظهر لنا من شبه الإجماع على اتهامهم بأنهم لو سمعوا «بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوّبوا عليه» (١) ، وأنه من «عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابا أو فصلا» (٢).

وقد يهون الأمر لو أن الكوفيين وقفوا به عند هذا

__________________

(١) الاقتراح ، ص ٨٤.

(٢) همع الهوامع ١ / ٤٥.


الحد. لكنهم ، ولا سيما شيخهم الكسائي ، لم يكتفوا بذلك ، بل انطلقوا في بعض الأحيان من «المسموع» يقيسون عليه كل الوجوه الممكنة في الاحتمال دون الاستعمال ، فوقعوا في أدهى وأمر مما وقع فيه البصريون حين فرضوا سلطان منطقهم على اللغة بدلا من الاكتفاء بتسويد المنطق اللغوي وحده. وفيما يلي بعض نماذج من أقيسة الكوفيين تلك

* اشترط البصريون لعمل «إذن» النصب في المضارع أن تكون صدر عبارة جوابية ، وحين طالعهم قول بعض الرجّاز :

لا تتركنّي فيهم شطيرا

إني إذن أهلك أو أطيرا

تأوّلوه بأن خبر «إنّ» محذوف تقديره (إني لا أقدر على ذلك) ثم استأنف الراجز الكلام فقال (إذن أهلك ...) (١).

ولقد انطلق الكسائي من هذا البيت ليلغي شرط البصريين في إعمال «إذن» ، فأجاز أعمالها بعد «إنّ» ثم ـ قياسا ـ بعد «كان» ، وأن يقال مثلا : (إني

__________________

(١) مغني اللبيب ١ / ٢٣.


إذن أزورك) ، و (كان زيد إذن يزورك) ، بنصب الفعلين بعد «إذن».

والحق أنه فات الكسائي ، كما فات البصريين من قبله ، أن يمنعوا النظر في ظاهرة نصب المضارع بعد «إذن». ولو أنهم فعلوا بعيدا عن كل منطق رياضي لوجدوا أن هذا النصب لا يكون إلا إذا وقع المضارع بعدها نتيجة لحدث سابق ، كما هي الحال في بيت الراجز الذي جعل «هلاكه» مرتبطا بـ «تركه» غريبا بين أولئك القوم إذا تمّ ، فكان أن نصب (أهلك) بعد «إذن».

فلو أن قائلا قال مثلا «درست» لكان مجيبه بالخيار في أن يقول له : (إذن تنجح) أو أن يضيف إلى عبارته شيئا من «التوكيد» فيقول : (إنك إذن تنجح). كذلك لو قيل مثلا «ليتني لم أهمل» لكان بالإمكان أن يجاب : (كنت إذن تنجح). وليس من الافتئات على حرمة الإعراب أن تعتبر الجملة من (إذن) والفعل خبرا لـ «إنّ» تارة ول «كان» تارة أخرى ، هذا إذا لم يكن بد من الإعراب ، ولا على حرمة اللغة ، أن يقال إن «إنّ» دخلت على الجملة للتوكيد ، وأن الكاف من مستلزمات الخطاب ، أو أن «كان» دخلت على الجملة لمجرد إضافة عنصر زمني يجعل من النجاح الذي


سيتم في الزمن المستقبل أمرا مضمونا سلفا في حال انتفاء الإهمال ، والتاء من مستلزمات الخطاب أيضا ، ولا يعود الطالب في حاجة إلى اعتبار «إنّ» و «كان» من النواسخ التي لا بدّ لها من «اسم و «خبر».

* استقرأ الكسائي بعض النصوص فوجد العرب يأتون بالفعل الواقع جوابا للشرط مرفوعا ، كما في قول جرير بن عبد الله البجلي :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

وقول زهير بن أبي سلمى :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

فذهب إلى أن رفع الجواب تمّ على نيّة التقديم ، لأن الأصل في جواب الشرط أن يتقدّم على الأداة وفعل الشرط ، فأصل (إن تضرب أضرب) هو (أضرب إن تضرب). وكان دليله على ذلك قول زهير بن مسعود :


فلم أرقه إن ينج منها ، وإن يمت

فضربة لا غسّ ولا بمغمّر (١)

فقد قدّم الشاعر (لم أرقه) ، وهو جواب الشرط ، على الأداة وفعل الشرط (إن ينج).

وإذا طمأن الكسائي إلى رأيه ، خلص منه إلى رأي آخر ، وهو جواز تقديم معمول جواب الشرط على الجملة الشرطية ، فيقال (زيدا إن تضرب اضرب) (٢) ، قياسا على أن الأصل فيه (اضرب زيدا ...)

وإذا نحن ضربنا صفحا عن تأويلات البصريين بأن (تصرع) في بيت البجلي واقع خبرا لـ «إنّ» أملته الضرورة الشعرية ، وأنّ (يقول) في بيت زهير مرفوع لأن فعل الشرط (أتاه) ماض ، وأنّ فعل الشرط إذا كان ماضيا جاز بقاء الجواب المضارع على حاله من الرفع ، وأن (لم أرقه) في بيت ابن مسعود دليل على جواب الشرط لا الجواب نفسه لأنه كالفعل الماضي في معناه ، إذ إن (لم أفعل) نفي لـ (فعلت) و (فعلت) تنوب مناب جواب الشرط المحذوف (أي تدل

__________________

(١) الغس : الضعيف ، المغمّر : الذي لا تجربة له.

(٢) راجع هذا وما يليه من تأويلات البصريين في المسألة ٨٧ من كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف».


عليه) ، كقول رؤبة بن العجاج :

يا حكم الوارث عن عبد الملك

أوديت إن لم تحب حبو المعتنك

نقول :

إذا نحن ضربنا صفحا عن تأويلات البصريين ، فإنه لا يسعنا القبول بتأويل الكسائي للأسباب التالية :

١ ـ إنه قدّر تقديم جواب الشرط دون أن يكون في بنية العبارة دليل عليه ، إذ هو واقع في موقعه الطبيعي ، أي بعد فعل الشرط والأداة.

٢ ـ إن تقدير تقديم جواب الشرط في مثل (زيدا إن تضرب اضرب) يستدعي رفعه ، بينما جاء في العبارة على أصله من الجزم.

٣ ـ إن تقديم الجواب واعتبار «زيد» معموله ـ أي مفعول به له ـ يقتضي تقديرا آخر هو حذف الضمير العائد إلى زيد من فعل الشرط ، لأن العبارة تكون في حال التقديم (اضرب زيدا إن تضربه) ، وحذف الضمير من (تضربه) لا مسوّغ له إلّا المطابقة المنطقية بين هذه الصيغة والصيغة


المقترحة ، أي (زيدا إن تضرب أضرب)

٤ ـ إن تقديم «المعمول» ـ أي (زيد) ـ قد يوقع المعرب في الالتباس. فما يدريه أن (زيدا) ليس معمول فعل الشرط ، وأنه حتما معمول الجواب؟ ألا يفرض منطق اللغة أن يكون الأصل في (زيدا إن تضرب أضرب) هو (إن نضرب زيدا اضربه)؟

* اشترط البصريون لعمل اسم الفاعل عمل الفعل (أي نصبه ما بعده على المفعولية) أن يكون دالا على الحال أو الاستقبال ، ومنعوا عمله إذا دل على المضي. وحين مرّ بهم قوله (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف / ١٨] تأوّلوا أن «باسط» جاء على حكاية الحال الماضية ، بدليل حكايتها بالمضارع في الفعل السابق (نقلّبهم) ، وكأنّ التقدير (وكلبهم يبسط ذراعيه).

وإذ لاحظ الكسائي عمل «باسط» النصب في ما بعده ، مع أنه بمعنى الماضي ، لأنه يحكي قصة أهل الكهف ، نادى بعمل اسم الفاعل إذا كان بمعنى


الماضي مطلقا (١). وعلى هذا الأساس غدا من الجائز القول مثلا (زيد ناصح عمرا أمس) ، الأمر الذي لا يقرّه الاستعمال اللغوي.

ونميل الى الظن بأنه فات الكسائي ـ كما فات البصريين قبله ـ ان اسم الفاعل «المنوّن» يعمل النصب دائما ، وأنه في اساسه غير محدّد بزمن لأن فيه معنى الاستمرار والاستغراق (لا يفوتنا ان نشير الى أن الفراء الكوفي قسم الافعال في العربية الى : ماض ، ومضارع ، ودائم ، وهذا الاخير يعني به اسم الفاعل) ، وان الذي يقرر «زمنيته» هو اطار العبارة التي تتضمنه ، لا هو بالذات. فـ «باسط» في الآية لا يعني «يبسط» على اساس حكاية الحال الماضية بدليل المضارع «نقلّبهم» ، كما حلا للبصريين أن يقرروا ، وانما هو يمثل حالا في زمن تمثّل الصورة في ذهن المخاطب ، اي الزمن الحاضر. وقد كان على البصريين ان يدركوا ان المضارع «تحسب» هو الذي جعل الصورة تمثل في ذهن المخاطب وكأن وقعائها تجري في الزمن الحاضر ، على الرغم من كون الخبر خاصا بزمن مضى وغير ، وان اسم الفاعل ـ وهو جزء من اجزاء الصورة ـ قد

__________________

(١) مغني اللبيب ٢ / ٦٩١. همع الهوامع ٢ / ٩٥.


اكتسب حاليته «الحاضرة» مما شعّ عليه من «تحسب» ، لا من «نقلّب».

ولعل ما ذهبنا اليه يتضح اذا استبدلنا بالمضارع اسم الفاعل في مثل (كان زيد ناصحا عمرا ، فاصبح ناصحا أخاه) ، وجعلنا العبارة (كان زيد ينصح عمرا ، فاصبح ينصح اخاه) [لا يفوتنا ان نشير هنا الى اننا نستخدم منطق النحاة نفسه في اعتبار المضارع مساويا في معناه لاسم الفاعل ، على الرغم من مناقضتنا اياهم فيه]. فاسم الفاعل «ناصح» يدل على النصح في الزمن الماضي في الجزء الاول من العبارة ، نظرا لوجود «كان» ، ويدل على النصح في الزمن الحاضر في الجزء الثاني من العبارة ، لوجود «أصبح» ، على الرغم من كون هذا الفعل الاخير في الزمن الماضي.

وقل الأمر نفسه في مثل (كان زيد قد جاء ناصحا عمرا). فليس في العبارة اي عنصر يدل على الزمن الحاضر ، ومع ذلك فقد دل «ناصح» على الحالية وعمل النصب في «عمرو» ؛ وفي مثل (خاطب زيد عمرا ناصحا إياه) التي نصب فيها اسم الفاعل ما بعده ، على الرغم من افادتها خبرا مضى ؛ الى آخر ما هنالك من امثلة لا تحصى.

ولك ان تستخدم عددا من الافعال الماضية (أصبح ـ أضحى ـ أمسى ـ ما زال ـ ما برح ـ ما فتيء ـ ما


انفك) مع اسم الفاعل «ناصح» ، فيبقى يعمل النصب في ما بعده ، ويفيد الحالية (اي الآنيّة) مضافا اليها الاستقبال ، لأن هذه الافعال تدل على الاستمرار في العمل على الرغم من صيغتها الماضوية.

اما اضافة الظرف «امس» لتحديد الحدث الذي يدل عليه اسم الفاعل في الزمن الماضي ، كأن يقال (زيد ناصح عمرا امس) ، فأمر يردّه منطق اللغة. ذلك ان في اسم الفاعل ـ كما قلنا آنفا ـ معنى الاستمرار. وحين يقول المتكلم (زيد ناصح) يبدأ هذا المعنى بالتمثّل للمخاطب. فاذا هو قال له بعد ذلك (أمس) ، اهتزّ في ذهنه مفهوم الاستمرار وغدا مشوّشا بفعل الارتداد في الزمن الى وراء ، وتكون النتيجة رفض العبارة لأنها لم تفلح في أداء مدلول واضح.

* العربية تنظر إلى العلاقة بين «المضارع» والأداة الطارئة عليه لنفيه في المستقبل على أنها علاقة تلازم عضوي وثيق ، بمعنى أنها لا تسمح بأن يفصل بينهما فاصل.

ولقد أجاز الكسائي الفصل بين المضارع والأداة في أربع صيغ :


ـ الفصل بينهما بالقسم : (لن والله أزورك).

ـ الفصل بينهما بمعمول الفعل : (لن زيدا أكرم).

ـ الفصل بينهما بـ (الظنّ) : (لن ـ أظنّ ـ أزورك).

ـ الفصل بينهما بالشرط : (لن ـ إن تزرني ـ أزورك) ، بنصب (أزور) ، وبجزمه على أنه جواب الشرط مع إلغاء عمل (لن) : (لن ـ إن تزرني أزورك).

وقد وافق الفراء أستاذه الكسائي على الصيغة الأولى وحدها (١).

وليس لنا بالطبع أن نجزم في ما إذا كان الكسائي قد استقرأ شيئا من اللغة لإجازة ما أجاز في الفصل بين المضارع وأداة النفي. لكن لنا أن نقول بأن جميع الصيغ التي أجازها تبدو متعمّلة للأسباب التالية :

أولا ـ لا تشكّل (لن) بذاتها عنصرا معنويا تاما ، وإنما تهيّيء ذهن المخاطب إلى أن حدثا ما لن يتمّ في

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ٤.


الزمن المستقبل. وطبيعي جدا أن يرفض هذا المخاطب تلقّي أي عنصر من عناصر الكلام قبل تلقّي ذلك الحدث الذي لن يتمّ. وذلك بخلاف تقبّله مثلا ما لا حصر له من عناصر الكلام قبل تلقي خبر المبتدأ ، كما في (زيد والله شاعر) ، أو (زيد الذي تعرفت إليه أمس شاعر) الخ ...

ثانيا ـ إن الفصل بين عنصرين مثلا زمين في الأصل من عناصر الجملة في بعض الصيغ ـ كما هي الحال في المبتدأ والخبر مثلا ـ بالقسم أو بـ (الظنّ) ، داخل في نطاق ما نعرفه اليوم باسم «اللغة الانفعالية» ، ويقصد من ورائه في الحالة الأولى تقوية العبارة في حال مراودة المتكلم الشك في إمكان تصديقها لدى المخاطب ، وإحساسه الشخصي ببرودها أو بقلة حرارتها إذا هو بدأها بالقسم : (والله زيد شاعر) ؛ ويقصد به في الحالة الثانية ـ حالة الظن ـ إما إشعار المخاطب بأن المتكلم ليس على يقين تامّ من الحكم الذي يصدره ، وإما إضفاء شيء من التواضع على العبارة يشعر معه


المخاطب بأن المتكلم لا يريد أن يدّعي لنفسه حكما لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه. وهو حين فصل بـ (أظنّ) بين المبتدأ وخبره : (زيد ـ أظنّ ـ شاعر) ، بدلا من تصدير العبارة بها : (أظنّ زيدا شاعرا) ، أو (أظن أن زيدا شاعر) ، فإنما فعل ليسبغ على عبارته قدرا أكبر من الإبلاغية يتمثل في عنصر المفاجأة الذي يتيحه ذلك الفصل بين العنصرين المتلازمين في الأصل.

وليس في (لن والله أكرم زيدا) ، ولا في (لن ـ أظنّ ـ أزورك) شيء مما ذكرنا أعلاه. ففي الصيغة الأولى لا يحتاج المتكلم إلى توكيد عبارته. فعنصر التوكيد متضمّن في (لن) ذاتها ، إذ هي تفيد الجزم بعدم حصول العمل. وما على المتكلم إذا ما أراد توكيد ذلك الجزم بشيء من الانفعالية إلا أن يستخدم الصيغة الطبيعية التي تسمح له اللغة بها ، ألا وهي البدء بالقسم الذي من شيمته لفت انتباه المخاطب وضمان المسحة الإبلاغية المرادة.


وأما الصيغة الثانية : (لن ـ أظنّ ـ أزورك) ففيها مغالطة معنوية ظاهرة. إذ بينما يبدأ المتكلم بتوكيد نفي الحدث المتمثل في (لن) ، نراه يتراجع عنه ويضعضعه عن طريق التشكيك المتمثل في (الظن) ، وهذا ما يأباه منطق اللغة وطبيعة الأشياء. بعكس ما هو جار في الاستعمال من إباحة البدء بالظن الذي يضعف مضمون العبارة برمتها ويجعل احتمال حدوث الحدث موازيا لاحتمال حدوثه ، كما في (أظن أني لن أزورك) ، وهو المراد من (لن ـ أظنّ ـ أزورك) بعينه.

ثالثا ـ ان تقديم «معمول» الفعل عليه غايته ابرازه وجعل المخاطب يهتم به قبل اهتمامه بالحدث نفسه. وما دام المتكلم قد بدأ بـ (لن) التي رأينا انها تهيّيء ذهن المخاطب الى أن أمرا ما لن يتمّ ، فقد بات من تحصيل الحاصل تقديم «معمول» الفعل عليه ، لأن المخاطب ليس مستعدا للاهتمام بأي عنصر من عناصر العبارة بعد أن شغله العنصر الأهم فيها.

رابعا ـ ان للجملة الشرطية هدفا ابلاغيا خاصا ، هو


تعليق حصول حدث ، أو عدم حصوله ، على حصول آخر سابق عليه قليلا أو كثيرا في الزمن.

وصيغتها الطبيعية :

ـ (إن تزرني ازرك).

ـ (ازورك إن زرتني).

ـ (إن تزرني فلن ازورك).

ـ (لن ازورك إن زرتني) ، او (لن ازورك وان زرتني) الخ ...

أما صيغة (لن ازورك إن تزرني) فليست واردة في الاستعمال لسبب بسيط وطبيعي ، هو أنه لا يمكن حصر أي من الحدثين في زمن سابق على زمن الآخر. وإذا كانت هذه الصيغة ساقطة من الاستعمال ، فكيف بشكلها المشوّه الآخر : (لن ـ ان تزرني ـ ازورك)؟

واما الغاء عمل (لن) النصب في (ازورك) ، وجزمه على جوابية الشرط ، فانه أغرب من الاول بكثير ، لأن (لن) تغدو معه نافية ، لا لحدوث الفعل كما هي طبيعتها اللغوية ، وانما للجملة الشرطية برمتها ، وهذا ما لا عهد للغة ولا لواضعها به.


* من اعجب قياسات الكسائي والفراء قياسهما بناء (كان) للمفعول (١) ، اي للمجهول. فقد جرهما الى ذلك ان (كان) هذه «فعل» ، وانها ما دامت كذلك فإنه يجب ان ينطبق عليها ما ينطبق على كل فعل. ويبدو لنا انه غاب عن بال هذين النحويين الكبيرين أنه اذا كان لهذا «الفعل» بعض خصائص الافعال الاخرى ، كالتصرّف ، والاتصال بالضمائر ، فانه ليس من المحتمّ أن يكون له جميع خصائصه ، بما في ذلك البناء للمفعول. كما فاتهما أن (كان) تباين الافعال الأخرى في أنها لا تستعمل الا لتحويل مضمون الكلام بعدها من الآنية الى الماضوية ، او من الماضي القريب الى الماضي البعيد ، وأن المتكلم ما دام يريد بها الاخبار فهو ليس بحاجة الى بنائها للمفعول الذي من شأنه غياب محدث الحدث للجهل به ، او للتستّر عليه ، او لأنه أشهر من أن يذكر.

ونميل الى الاعتقاد بأن ما جر الكسائي والفراء الى ما ذهبا اليه هو المنطق النحوي التالي :

ما دام المنصوب (اي المفعول به) يحلّ محل المرفوع (اي

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤.


الفاعل) في «الجملة الفعلية» ، وما دام المنصوب في «الجملة الاسمية» المصدرة بـ (كان) يقابل المفعول [نذكر بأن النحاة يذهبون الى ان (كان) واخواتها افعال لأنها ترفع وتنصب ، وانهم سموها ناقصة لأنها لا ترفع فاعلا بل اسما ، ولا يتم معناها الا بمنصوب هو الخبر ، كما يذهبون الى أن (إنّ) واخواتها احرف مشبهة بالافعال لأنها تعمل النصب والرفع كالافعال] ، فليكن هذا المنصوب هو الذي يحل محل المرفوع ، وليقل المتكلم في (كان زيد قائما) : (كين قائم) ، كأن هذه الصيغة يمكن ان تفيد المخاطب ان المتكلم اراد اخباره عن قيام (زيد) في زمن ماض ، وأنه لم يرد ذكر (زيد) لغرض في نفسه.

ولقد جرف هذا «القياس» قطبي المدرسة الكوفية الى أدهى من ذلك ، فكان أن طرداه في جميع الصيغ الممكنة في (كان) من مثل (كان زيد يقوم) ، و (كان زيد قام) ، فلم يريا أي بأس في بناء (كان) فيهما للمفعول ، ومن ثمّ بناء الفعلين الآخرين له ، واجازا للمتكلم ان يقول : (كين يقام) و (كين قيم) (١) ، وكأنما يمكن أن تفيد اي من هاتين الصيغتين معنى ما

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٤


ولم يكن موقف الكوفيين من الجملة العربية أفضل من موقف اسلافهم البصريين. فبدلا من ان يدرسوا الجملة التعجبية مثلا دراسة جديدة ، ويعتبروها صيغة خاصة لا تنضوي تحت اي من الجملتين «الاسمية» ، او «الفعلية» ، حصروا جهدهم ـ ما عدا الكسائي ـ في اثبات ان «أفعل» التعجّب اسم لا فعل ، كما قال البصريون ، وان اصل التعجب هو الاستفهام ، وأن العرب فتحوا آخر «أفعل» ونصبوا الاسم بعده ليميّزوا بين الاستفهام (ما أحسن السماء) ، وبين التعجب (ما أحسن السماء) (١) ، وأنه كان يجب أن يكون للتعجب حرف خاص به ، كما للاستفهام والشرط وغيرهما ، ولكن العرب لم تنطق بحرف التعجب وضمّنت «أفعل» معناه ، وبنته كما بنت اسماء الاشارة لتضمّنها معنى حرف الاشارة (٢).

وبدلا من أن يعيدوا النظر في جملة النداء ويدرسوها

__________________

(١) لا بدّ من ملاحظة ما في هذا الحكم من «طفولية». فهو يساوي بين صيغتي الاستفهام والتعجب لمجرد تساويهما في العناصر : (ما+ أفعل+ اسم) ، ثم يخالف بين حركتي (افعل) والاسم الذي بعدها للتفريق بين دلالتي الصيغتين. (راجع ما كتبناه بصدد التمييز بين اسلوبي التعجب والاستفهام حتى في اللهجات المحكية في كتابنا «تجديد النحو العربي» ص ٥٣).

(٢) انظر في هذا المسألة ١٥ من كتاب «الانصاف في مسائل الخلاف».


دراسة موضوعية جديدة ، رأيناهم يقفون من المنادى المعرف المفرد (اي اسم العلم المنادى) موقفين كلاهما يثير الدهشة. فقد ذهب جمهورهم الى انه معرب مرفوع بغير تنوين ، وهو موقف مقبول الى حد كبير لو انهم اكتفوا به ولم يعترفوا بأنه «مفعول في المعنى» وان كان «لا معرب له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض» ، ويذهبوا الى انهم ـ اي العرب ـ لم يخفضوه «لئلا يشبه المضاف» ولم ينصبوه «لئلا يشبه ما لا ينصرف» ، ورفعوه بغير تنوين «ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيح فرق». وتمسّك الفراء بأن «الاصل في النداء ان يقال (يا زيداه) كالندبة ، فيكون الاسم بين صوتين مديدين ، هما (يا) في اول الاسم ، و (الالف) في آخره. والاسم فيه ليس بفاعل ولا مفعول ولا مضاف اليه. فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الاول ، وهو (يا) في اوله ، عن الثاني ، وهو (الالف) في آخره ، فحذفوها وبنوا آخر الاسم على الضمّ تشبيها بـ (قبل) و (بعد) لأن الالف لما حذفت ، وهي مرادة معه ، والاسم كالمضاف اليها اذ كان متعلقا بها ، أشبه آخره آخر ما حذف منه المضاف اليه وهو مراد معه ، نحو (جئت من قبل ومن بعد) ، اي من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك» (١).

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٤٥.


ولا نظن هذه الاقوال الا دائرة في فلك نظرية العوامل من جهة ، ونطاق التأويل والتقدير من جهة ثانية ، وربقة التحكّم بمقدّرات اللغة على الهوى من جهة ثالثة ، وكلها لا تعود على التجديد بأي نفع.


الفصل الثاني

جديد «زاد الطين بلّة»

كان لمحاولة الكوفيين الاتيان بما يميّز نحوهم عن نحو البصرة انعكاسات سيئة احيانا على الدرس النحوي. فقد عمدوا مثلا عند بحث بعض الصيغ الى التنقيب عن كل ما هو جائز في حيّز الممكن دون حيّز الواقع والاستعمال اللغويين. وبدلا من ان يعيدوا النظر فيها لازالة ما لابسها من تعقيدات منطقية ، راحوا يوغلون في استخدام المنطق ويلبسونها حللا زادتها تعقيدا فوق تعقيد.

وفيما يلي طائفة من ابحاثهم تمثّل ما ذهبنا اليه ، نسوقها على سبيل المثال لا الحصر

* ورث الكوفيون عن نحاة البصرة ما يعرف بـ «المبتدأ المصدر الذي خبره حال سدّت مسدّه» نحو (ضربي زيدا قائما) ، هذا التركيب الذي يبدو غريبا رغم ادعاء كثرة النحاة بأنه يفيد معنى دقيقا خاصا


هو قصر المبتدأ على الحال ، وكأن الناطق به يريد أن ضربه زيدا لا يتم الا في حال كون زيد هذا واقفا ، اما في غيرها من الاحوال فلا يكون (١).

وبدلا من ان يتقبلوه على علّاته ـ ان صحّ في الاستعمال ـ اجازوا فيه شكلين آخرين هما :

ـ (أن ضربت زيدا قائما).

ـ (أن اضرب زيدا قائما) (٢).

ونعتقد أن الذي دفعهم الى ذلك انطلاقهم من أن الفعل المقترن بـ (أن) يؤوّل بالمصدر ، وأن (أن ضربت) و (أن اضرب) يساوي كل منهما (ضربي) ، فلا بأس في ان يسلكوا بالنسبة الى التركيب الوارد اعلاه ، (ضربي زيدا قائما) ، الطريق العكسية ، ويجيزوا ان يحل المركب (أن ضربت) و (ان اضرب) محل البسيط (ضربي) ما دام في معناه ، وما دام المنطق الرياضي يبيح هذا الامكان.

__________________

(١) عباس حسن ، النحو الوافي ، ج ١ ، ص ٥٢٣.

(٢) همع الهوامع ١ / ١٠٦.


ثم ان الكسائي اجاز في هذا التركيب نعت المصدر ، فيقال مثلا (ضربي زيدا الشديد قائما) (١) ، على الرغم من عدم ورود السماع به ، ومع أن المقام مقام اختصار لا مقام اطناب (٢) ، لا لشيء الا لأن زيادة النعت ممكنة في الاحتمال الرياضي والقياس النحوي.

وذهب الى أبعد من ذلك فأجاز تركيبا غريبا فيه من المعاظلة ما يأباه الذوق السليم. فأما التركيب فهو (عبد الله عهدي بزيد قديمين) ، واما تخريجه فهو ، كما عرضه السيوطي ، التالي :

ـ تقدير (العهد) لعبد الله وزيد.

ـ قدّم (عبد الله) ورفعه بما بعده.

ـ ثنّى (قديمين) لأنه لعبد الله وزيد وكانا خبرا لـ (العهد) ، كما تكون الحال خبر المصدر (٣).

* معلوم أنه يعطف بالنصب على أول مفعولي (ظنّ)

__________________

(١ و ٣) همع الهوامع ١ / ١٠٧.

(٢) اذا صح ان مثل هذه الصيغة من شأنها القصر على الضرب في حال قيام زيد ، فان الصيغة الكسائية تبطله فيصبح الضرب الشديد مقصورا على حال القيام ، اما الضرب فيظل ماثلا في كل حال.


فيقال : (اظنّ عبد الله وزيدا قائمين) ، و (أظنّ عبد الله وزيدا قاما).

وقد اجاز الكسائي ـ دون اي سند من سماع على ما يبدو ـ ان يعطف بالرفع على المفعول الاول اذا لم يظهر الاعراب ـ اي النصب ـ في المفعول الثاني ، كما هي الحال في الصيغة الثانية ، فيقال : (اظنّ عبد الله وزيد قاما) (١).

ولسنا ندري في الواقع الداعي الى مثل هذه الاجازة. فإذا كان اغناء اللغة فان هذه الصيغة الجديدة لا تفيد اية لطيفة معنوية. واذا كان التيسير على المتكلم والسماح له بالاختيار بين نمطين من انماط التعبير ، فانها توقعه ـ على العكس من ذلك ـ في حيرة وبلبلة هو في غنى عنهما ما دامت الصيغة الطبيعية ، اي العطف بالنصب على اسم منصوب ، اقرب الى المنطق والواقع اللغويين ، وأسلم في القياس بعد أن نصب «زيدا» في الصيغة الاولى ، اي «اظنّ عبد الله وزيدا قائمين» ، ولم يجز له ان يرفعه فيها.

* اجاز الكسائي والفراء وهشام (هو هشام بن معاوية

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ١٤٥.


الضرير المتوفى عام ٢٠٩ ه‍ ، أنبه تلاميذ الكسائي بعد الفراء) تقديم الجملة الحالية المصدّرة بالواو على صاحب الحال ، فيقال : (والشمس طالعة جاء زيد) (١).

ولعله ليس من سبب لهذه الاجازة سوى امكان احتمالها الرياضي. فالمفروض في تقديم الحال على صاحبها ، كما في (راكبا جاء زيد) مثلا ، ان يحدث غرضا ابلاغيا معيّنا ، هو الاهتمام بتلك الحال التي تم عليها مجيء زيد وابرازها عن طريق نقلها من مركزها الطبيعي في آخر الكلام الى المرتبة الاولى فيه. ومن طبيعة الجملة الحالية المصدّرة بـ «الواو» ان تحدث ذلك الغرض الابلاغي ، لأن «الواو» قد خرجت فيها عن معناها الاصلي في الوضع ، وهو «العطف» ، الى معنى جديد هو «الحالية». ثم ان في اللغة العربية صيغا جاهزة للتعبير عن مثل الموقف الذي اراده الكوفيون الثلاثة ، كقول القائل : (بينا ـ او بينما ـ الشمس طالعة ، جاء زيد) ، او (فيما كانت الشمس طالعة ، جاء زيد) الخ ...

واجاز الكسائي في مثل (زيد الشمس طالعة) [معلوم ان المقصود من هذه الصيغة الإعراب عن «شهرة» زيد عن طريق جعله والشمس شيئا واحدا ، بحذف

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٤٢.


اداة التشبيه ، وهو ما يعرف في البلاغة باسم التشبيه البليغ ، اي (زيد هو الشمس) او (زيد الشمس) ، ثم تقوية الابلاغ بالحال «طالعة» لاضافة معنى البروز والسطوع المفضي الى معنى ذيوع الشهرة وطيرانها] ، اجاز تقديم الحال «طالعة» على صاحبها «الشمس» (١) ، فيقال : (زيد طالعة الشمس) ، على الرغم من نبوّ الصيغة في السمع اولا ، وخروجها عن الغرض الابلاغي ثانيا للسببين التاليين :

١ ـ ان الفصل بين المشبّه والمشبّه به ، اي بين «زيد» و «الشمس» يمنع التحامهما العضوي الذي هدف المتكلم من ورائه الى التأثير على المخاطب ، ويفقد التشبيه معناه وابلاغيته.

٢ ـ ان المتكلم حين يزحزح عنصرا من عناصر الجملة عن موضعه الطبيعي ، يهدف اول ما يهدف ان يحدث في نفس المخاطب نوعا من صدمة تجعل بلوغ مراده أسرع ووقعه أشد. وهو حين قال له : (زيد الشمس طالعة) بلغ مراده عن طريق ما نعرفه اليوم باسم «الوقع الاصغر» ، وهو أن يؤتى في

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ٢٤٢.


نهاية الكلام بعنصر معنوي أقل حفولا من العنصر الذي يسبقه. فقول المتكلم : (زيد الشمس) هو الاقوى في العبارة ، نظرا لما فيه من التعميم ، بينما (طالعة) هو العنصر الاضعف ، لما فيه من التخصيص ، مع انه أضاف الى العنصر الاول من ظلال المعاني ما قوّى التعبير وشدّ من أزره.

* بعد أن عدّد السيوطي المواضع التي يمنع فيها تأخير الخبر ويجب تقديمه ، عدّد الحالات التي يجوز فيها التقديم والتأخير «سواء كان الخبر رافعا ضمير المبتدأ ، او سببه ، او ناصبا ضميره ، او مشتملا عليه أو على ضمير ما اضيف اليه ، أو المبتدأ مشتمل على ضمير ملابس الخبر» ، واورد على ذلك الامثلة التالية :

الاول نحو (قائم زيد)

الثاني نحو (قائم أبوه زيد) أو (قام ابوه زيد)

الثالث نحو (ضربته زيد)

الرابع نحو (في داره زيد)

الخامس نحو (في داره قيام زيد) و (في داره عبد زيد)

السادس نحو (زيدا ابوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب).


ثم اضاف ان الكوفيين منعوا تقديم الخبر في غير الرابع ، اي (في داره زيد) ، وغير المفرد في الاخير ، اي (زيدا ابوه ضارب) ـ ما عدا هشام بن معاية الضرير الذي قبل التركيب الاخير بصورتيه ، اي (زيدا ابوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب) ـ بحجة أن الاصل الاخبار بالمفرد ، اي بخبر كلمة لا جملة ، وأن الاخبار بالفعل خلاف الاصل ، فكأن المبتدأ بالنسبة اليه اجنبي فلا يفصل به بين الفعل ومنصوبه ، بخلاف اسم الفاعل.

وزاد ان الكسائي اجاز التقديم في الثالث ايضا ، اي (ضربته زيد) ، وأن الكوفيين انما اجازوا التقديم في الرابع ، اي (في داره زيد) ، ولم يجيزوا (قائم زيد) و (ضربته زيد) ، لأن الضمير في قولك (في داره زيد) غير معتمد عليه ، «الا ترى ان المقصود : (في الدار زيد) ، وحصل هذا الضمير بالعرض؟» ، وأن البصريين احتجوا بالسماع ، لأنه حكي : (تميمي انا) و (مشنوء من يشنؤك) (١).

ولا بدّ لنا قبل التعليق على موقف الكوفيين من جميع

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٠٣


هذه القضايا من أن نبدأ بها من البداية فنقول بأن اجازة التراكيب الواردة اعلاه لا يسوّغها سوى ميكانيكية الاعراب التي نظرت الى «زيد» في الصيغ الخمس الاولى على أنه مبتدأ ، والى ما يتقدمه من كلام على انه الخبر ، والى انه ما دام اللبس مأمونا ، وما دام ليس فيها ايّ من الشروط التي اشتراطها النحاة لوجوب تقديم المبتدأ ، فلا شيء يمنع من النطق بها قياسا على (تميمي أنا) و (مشنوء من يشنؤك).

ونميل الى الاعتقاد بأن القياس على الصيغتين الاخيرتين قياس مبتسر للاسباب التالية

١ ـ ان قياس «زيد» على «انا» والمقابلة بينهما لمجرد أن كليهما «معرفتان» ، قياس خاطيء في مثل (تميمي أنا) و (تميمي زيد). فضمير المتكلم ، على خصوصيته بالنسبة الى من يمثّل ، فيه من التعميم ما ليس في زيد ، لأن الاول قد يدلّ على كل انسان ، بينما لا يدل الثاني الا على شخص بعينه. و (تميمي) ، على الرغم من تنكيره في اللفظ ، اكثر خصوصية من (أنا) لأنه يحدد انتماء وهوية معيّنين ، بل هو اكثر شهرة من ذلك الذي يعود اليه الضمير ، على الرغم من تعريفه في


اللفظ. ولهذا يبدو لنا أن تقديم (تميمي) للعناية والابراز ، وبقصد ابلاغي صرف ، صالح في الصيغة الاولى التي يشعر معها المتكلم بذوبانه في القبيلة وبسند لهويته التي تحددها هذه القبيلة ، بينما هو غير ممكن بالنسبة الى المتكلم الذي يريد ان ينسب زيدا الى تلك القبيلة ويذيبه فيها ، الا اذا استخدم عنصرا آخر من عناصر الكلام يؤكد غرضه ، فيقول : (تميمي هو زيد).

٢ ـ لو حاولنا اعادة صيغة (مشنوء من يشنؤك) الى تركيبها الذي افترض النحاة انه الاصل ، لتعذر ان نجده بغير هذه الصيغة (من يشنؤك فهو مشنوء). وهنا تغدو (من) في المفهوم النحوي التقليدي اسما موصولا متضمنا معنى الشرط كما في مثالهم (الذي يأتيني فله درهم) او (الذي يفعل هذا فهو ظالم) ، ويكون تقديم الجزء الثاني من العبارة كتقديمه في مثل (انت ظالم إن فعلت).

٣ ـ إنّ للصيغتين المقيس عليهما اطارا نصّيا خاصا تدوران فيه ، ولا يمكن أن تؤخذا كما هما وتجعلا ميزانا او انموذجا يصلح أن يصاغ عليه


كل نص لغوي مشابه. فالاولى لا يمكن ان تكون وردت على لسان عربي لمجرد الاخبار ، والا لكان اوردها بصيغتها الطبيعية فيما لو سئل مثلا (من انت؟) او (من تكون؟) ، ولكان قال (انا تميمي) او اكتفى بـ (تميمي) وحدها. ولعله حين قالها كان في موقف مفاخرة : (تميمي أنا ، فمن تظن نفسك لتفاخرني) ، او دفاع عن شرف (تميمي انا فاسأل عن مآثرنا) الخ ... والثانية لا يمكن ان تكون وردت هكذا دون مقدّمات ، من مثل شكوى احدهم من شنآن قوم وحماسة سامعه للدفاع عنه ، او استنكاره ذلك الشنآن يصيب انسانا ارفع من أن يتجرأ على مقامه ، او غير ذلك من المواقف.

٤ ـ ان صيغة (قائم زيد) مقبولة من حيث اطارها الابلاغي شرط ان يرافقها مناخ لغوي معيّن من مثل (قائم زيد يذود عن حوضه) او (قائم زيد بما عهد اليه فلا تقلق) أو غير ذلك. اما ان نجيز هذه الصيغة مثلا جوابا لسؤال سائل : (من قائم؟) ، او لمجرد الاخبار عن قيام زيد ، فأمر ليس له ما يسوّغه.


٥ ـ ان القياس على (تميمي انا) و (مشنوء من يشنؤك) يعود الى احد المنطلقات التأسيسية الخاطئة الى تقعيد النحو ، عنينا الخلط بين مستوى اللغة المحكية واللغة الادبية النموذجية ، او اخذ المحفوظ كالامثال لقياس ما يمكن أن يشبهه في غير مقامه.

٦ ـ ان اعتبار «زيد» في (قائم ابوه زيد) و (قام أبوه زيد) مبتدأ لا يقرّه سوى منطق الإعراب وميكانيكيته. فلو نظرنا الى الجزء الاول من العبارة في كل من الصيغتين ، لوجدناه يشكل بنفسه وحدة كلامية صالحة للاخبار بنفسها ، كأن يسأل مثلا (من قائم باعباء الاسرة؟ زيد ام أبوه؟) او (من قام؟ زيد ام أبوه) فيجاب عن الاول بـ (قائم ابوه) وعن الثاني بـ (قام أبوه). ثم لكي يؤكد المجيب نسبة الأب إلى زيد ، يلجأ إلى ذكره بعد الجواب. وعلى هذا ينتفي ان يكون (زيد) مبتدأ وأن يكون ما قبله خبره لمجرد أن اصل العبارة كان (زيد قائم ـ او قام ـ ابوه). اما اذا نطق المتكلم بهما من غير أن يكون القصد


منهما الاجابة عن سؤال ، فلا بد ان يرافقهما كلام آخر ، ويصبح (زيد) حينئذ من قبيل التوكيد معترضا في الكلام ، كأن يقول مثلا (قائم ابوه ـ زيد ـ فلا تقلق ...) او (قائم ابوه ـ زيد ـ فاكرم بذاك قياما ...) ، إلى ما لا نهاية من الصيغ الممكنة.

٧ ـ ان ما قلناه اعلاه بصدد (قائم ابوه ـ او قام ابوه ـ زيد) ينطبق كذلك على (ضربته زيد) ، وعلى (في داره زيد) وليس من قبيل تقديم خبر المبتدأ عليه لمجرد أن اصل العبارة (زيد ضربته) ، او (زيد في داره)

٨ ـ ان صيغة مثل (في داره قيام زيد) ليست من قبيل تقديم الخبر على المبتدأ ، وان اصلها (قيام زيد في داره) ، وانما سئل مثلا (اين تمّ قيام زيد) فأجيب (في داره) ثم شعر المتكلم بالحاجة الى التوكيد فأضاف (قيام زيد). واما صيغة (في داره عبد زيد) فلا يسوّغها سوى القياس على (في داره قيام زيد) باعتبار ان (عبدا) ، وهو اسم ، قد حل في الاولى مكان (قيام) ، وهو اسم ايضا ، في


الثانية ، مع تجاهل ما في (في داره عبد زيد) من امكان اللبس في ارجاع الضمير في (دار) إلى (العبد) أو إلى (زيد) ، هذا اللبس الذي ترفعه الصيغة التي انطلق منها النحاة ، عنينا (عبد زيد في داره) ، باعتبار عودة الضمير إلى اقرب اسم في العبارة وهو (زيد).

٩ ـ اذا امعنّا النظر في الصيغتين الاخيرتين : (زيدا أبوه ضرب) و (زيدا ابوه ضارب) وجدنا انهما تنتميان إلى ما حدّده السيوطي بقوله : «او المبتدأ مشتمل على ضمير ملابس الخبر». وهنا يكون (ابوه) هو المبتدأ في الصيغتين ويكون الخبر في موضعه الطبيعي ، ويكون المقدّم معمول الخبر وحده وهو (زيد). وهنا لا بدّ من السؤال عما اذا كان اصل الصيغتين في عرف النحاة : (أبوه ضرب زيدا) و (ابوه ضارب زيدا) ، وعمّا اذا كان من الممكن اعتبار لفظة (اب) مبتدأ لغير أنها اضيفت إلى الضمير فأصبحت معرفة ، وعما اذا كانت العربية تسيغ ذكر الضمير قبل ذكر من يعود عليه ، ولا سيما ان الضمير الواقع مضافا إليه


في العبارة ـ حسب منطق الإعراب التقليدي ـ قد عاد إلى اسم واقع مفعولا به للفعل تارة ، ولاسم الفاعل تارة اخرى؟ الحق اننا نقف حيارى تجاه هاتين الصيغتين ، ولا نجد لهما ما يسوّغهما سوى ان تكونا من قبيل ما ذهبنا اليه اعلاه ، اي جوابا على سؤال (من ضرب زيدا؟) او (من ضارب زيدا؟) بالقول في المرتين (ابوه) واضافة ما تبقّى للتوكيد بعد شيء من التوقّف ، وهذا لا يكون في رأينا الاعلى مستوى الكلام المحكي.

والآن بعد أن فرغنا من مناقشة الصيغ المذكورة ، نعود إلى موقف الكوفيين منها فنحمد لهم أولا رفضهم أكثرها ، وان بدا لنا أنهم لم يحاولوا دراستها دراسة موضوعية وابداء الأسباب الجوهرية التي حملتهم على الرفض. ثم نأتي إلى الصيغتين المقبولتين عند جمهورهم وهما : (في داره زيد) و (زيدا أبوه ضارب) ، فنجد أن تسويغهم اياهما لم يخرج عن نطاق المنطق الرياضي البحت ، بغضّ النظر عن روح اللغة التي كان من الممكن أن يستوحوها وحدها. فقد جاء في تسويغ الصيغة الأولى أن :


«الضمير في قولك (في داره زيد) غير معتمد عليه. ألا ترى أن المقصود (في الدار زيد) ، وحصل هذا الضمير بالعرض؟».

والحق أننا لا نعرف كيف حصل هذا الضمير بالعرض ، ولا كيف جاء به المتكلم وهو يقصد (في الدار) ، ولا الداعي إلى حصوله عرضا ما دامت اللغة توفّر للمتكلم ان يقول (في الدار). لا ريب في أنها المعادلة الرياضية التي تجعل من الاسم النكرة مضافا إلى الضمير مساويا للاسم المعرّف بـ (ال) ، أي أن (دار+ ٥) ـ (الدار).

وجاء في تسويغ الصيغة الثانية أن :

«الأصل الاخبار بالمفرد ، وان الاخبار بالفعل خلاف الاصل ، فكأن المبتدأ بالنسبة إليه اجنبي فلا يفصل به بين الفعل ومنصوبه ، بخلاف اسم الفاعل).

وهنا لا بد من تسجيل الملاحظات التالية :

١ ـ إن القول بأن الأصل الاخبار بالمفرد لا يرتكز إلى أي سند علمي ، ما دام المتكلم بالخيار في ان يخبر عما ابتدأ به كلامه بما شاء من وحدات كلامية ، مدفوعا بعوامل عدة ، منها انفعاليته ، والموقف


الذي يملي عليه صيغة النص ، والشعور بضرورة الاختصار أو بضرورة الاسترسال ، وغير ذلك من العوامل. ولا نحسب هذا الحكم الذي أطلقه النحاة إلا من باب وصايتهم على اللغة وجزمهم بأن العرب إنما قالت كذا ، وانما اختارت كذا ، الخ ...

٢ إن القول باجنبية المبتدأ عن الخبر الواقع فعلا ، مصدره في اعتقادنا حكمهم بترافع كل من المبتدأ والخبر ، وعجز المبتدأ عن العمل في الخبر الفعل. ولو لم يكن هذا لوجدوا أن الخبر ملازم للمبتدأ ملازمة عضوية ، مهما كان نوع ذلك الخبر.

٣ ـ إننا لنستغرب ان يرى الكوفيون في المفرد أصلا للاخبار ولا يروا في الفعل أصلا لنصب المفعول به وفي اسم الفاعل فرعا عليه ، إلا أن يكونوا صدروا في ذلك عن تقسيم الفراء للأفعال الذي يطلق على اسم الفاعل تعريف «الفعل الدائم». لكن هذا نفسه يسقط حين نشتم من كلامهم ان لفظ «ضارب» مساو لأي خبر مفرد آخر.

٤ ـ إن قولهم بأنه لا يفصل بالمبتدأ بين الفعل ومنصوبه ، بينما يجوز الفصل به بين اسم الفاعل


ومنصوبه لا يرتكز في رأينا إلى أي سند علمي ، ولا نحسبه إلا من قبيل الأحكام المبنية على الهوى.

بقي أن نقول إننا لا نرى الدافع إلى استخدام المتكلم مثل (زيدا أبوه ضارب) ـ إذا غضضنا النظر عن إجازة هشام بن معاوية الضرير (زيدا أبوه ضرب) ـ وليس فيه أي غرض ابلاغي ، إن لم نقل إن فيه من المعاظلة ما يتنافى والذوق السليم وينبو عن السليقة اللغوية الأصيلة. كما اننا لا نرى بأن إجازة الكسائي كفيلة وحدها أن تحمل المتكلم على استخدام مثل ذلك التركيب ، حتى وإن كان في نفسه من الاجلال للنحوي الكوفي ما لا يوصف.

* المعروف أن «كلا» و «كلتا» قد وضعا في اللغة مضافين إلى معرفة دالّة على اثنين بالحقيقة والاشتراك ، كما في (كلانا نعرف الحقيقة) ، ليعبر بهما المتكلم عن توكيد ما يخبر عنه ، سواء تقدّما ـ كما هي الحال في المثالين المذكورين ـ أو تأخّرا وأضيفا إلى ضمير الاثنين ، كما في (جاء الرجلان كلاهما) ، أو (جاءت المرأتان كلتاهما).


وإذا نحن ضربنا صفحا عن إجازة الكوفيين اضافة «كلا» و «كلتا» إلى النكرة المختصة ، فيقال مثلا (كلا رجلين عندك محسنان) ـ لأن «رجلين» قد تخصصا بالوصف بالظرف «عند» ـ قياسا على ما سمع من قول العرب (كلتا جارتين عندك مقطوعة يدها) ـ أي تاركة للغزل ـ فإننا لا نملك إلا أن نعجب لاجازة ابي بكر محمد بن القاسم بن الأنباري (المتوفى عام ٣٢٨ ه‍) اضافة «كلا» و «كلتا» إلى المفرد بشرط تكريرها ، فيقال (كلاي وكلاك محسنان) (١) ، وذلك للأسباب التالية :

١ ـ ما دام في اللغة ضمير يعبّر عن المتكلمين هو «نا» ، فما حاجة المتكلم إلى سلوك الطريق الأوعر ، والقول (كلاي وكلاك محسنان) بدلا من الطريق الأيسر الأقرب إلى العفوية ، ألا وهو قوله (كلانا محسنان) أو (كلانا محسن)؟

٢ ـ إذا كان الهدف من اجازة ابن الأنباري ما أجاز تقوية التوكيد ، فلن يعدم المتكلم وسيلة إلى ذلك ، كأن يقول مثلا (كلانا ، أنا وأنت ، محسنان).

__________________

(١) مفني اللبيب ١ / ٢٠٣


٣ ـ يلجأ الانسان عند التعبير إلى أيسر الصيغ التي تواضع عليها الناطقون بلغة من اللغات ، إلا حين يتطلّع إلى الابلاغ وقوة التأثير ، كأن يقدّم أو يؤخر أو يضيف إلى العبارة شيئا من القيم الانفعالية أو غير ذلك من مقومات الابلاغية المعروفة. ولا نظن أن في (كلاي وكلاك محسنان) ما يوفّر له من الابلاغ قسطا أكبر من الذي توفّره صيغة (كلانا محسن ـ أو محسنان) المنطوية على كثير من ظلال المعاني التي منها :

ـ نفي انفراد المتكلم بالاحسان دون المخاطب.

ـ توكيد اشتراكهما في الاحسان.

ـ رفض المتكلم التفرد به دون المخاطب.

ـ تواضع المتكلم امام مديح المخاطب له عند نعته بالاحسان.

ـ انتفاء «الذاتية» من العبارة ، وهو ما لا توفّره صيغة (كلاي وكلاك) لما فيها من التمييز والفصل بين «الأنا» و «الأنت» ، الخ ...

يضاف إلى ما تقدّم آراء كوفية خاصة بالتقدير والتأويل


والخلاف في المصطلحات نجتزىء عليها بما يلي :

* ذهب الفراء إلى أن فعل الأمر لا وجود له في أصل الوضع اللغوي ، وأن أصله مضارع مجزوم بلام الأمر ، وأن العرب حذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل المضارع في مثل (لتضرب) ، فبقي منه (ضرب). وبما أن العرب لا تبدأ بساكن ، فقد أحدثوا في أوله همزة فأصبح الفعل (اضرب).

وليس ما يسند هذا الحكم سوى أن الفراء لمس أنه «إذا كان مرفوع فعل الطلب فاعلا مخاطبا استغني عن اللام بصيغة (افعل) غالبا» وان دخول اللام في فعل الفاعل المخاطب اقل من دخولها على فعل المتكلم ، كقراءة جماعة (فبذلك فلتفرحوا) [يونس / ٥٨] ، وفي الحديث (لتأخذوا مصافّكم)» (١). والحق أنه لو صح ما ذهب إليه الفراء لانقرضت صيغة (لتفعل) من اللغة ولم يبق لها أثر ولو قليل.

* ذهب ثعلب إلى ناصب المضارع بعد «الواو» و «الفاء» ليس (أن) مقدّرة كما يرى البصريون ، ولا مصطلح (الصرف) كما يرى الفراء ، وانما لأن تلك

__________________

(١) مغني اللبيب ١ / ٢٢٤.


الحروف تدل على شرط. فمعنى (هلا تزورني فأكرمك) مثلا ، هو (إن تزرني اكرمك) ، فلما نابت عن الشرط ضارعت «كي» فلزمت المستقبل ، وعملت عملها (١) ـ اي عمل «كي».

ونميل إلى الاعتقاد بأن ما دفع ثعلبا إلى هذا الحكم هو أن «الاكرام» في كل من الصيغتين (هلا تزورني فأكرمك) و (إن تزرني أكرمك) نتيجة طبيعية لـ «الزيارة» ، ولا يمكن ان يتمّ إذا لم تتمّ ، وأن الفعل (اكرم) ما دام حاصلا في المستقبل ، فلا بد أن يكون قد انتصب كما ينتصب بعد «كي» لأن هذه تخلص المضارع للمستقبل.

والحق أن كل هذه المعادلات المنطقية لم يكن لها من داع لو أن النحاة نظروا إلى الصيغ اللغوية نظرة موضوعية فقالوا بأن المضارع المقترن بالواو أو الفاء ينتصب بعد استفهام أو نفي أو طلب أو نهي أو تحضيض ، ووقفوا باطار القاعدة العام عند هذه الحدود ، ولم يتجاوزوها الى التعليل والتأويل.

* ذهب الكسائي إلى أن رافع المضارع هو حروف

__________________

(١) همع الهوامع ٢ / ١٤.


المضارعة ، فـ (أقوم) مرفوع بالهمزة ، و (تقوم) مرفوع بالتاء ، و (يقوم) مرفوع بالياء ، و (نقوم) مرفوع بالنون (١).

ولا يملك المرء إلا أن يدهش أمام هذا الرأي وهو يرى ان هذه الحروف نفسها لا تسقط في حالتي نصب المضارع وجزمه.

* أجاز الكوفيون العطف بـ (لكن) في الايجاب ، فيقال : (أتاني زيد لكن عمرو) ، على الرغم من انتفاء هذه الصيغة في الاستعمال ، لا لشيء سوى أن (لكن) و (بل) بمعنى واحد في النفي ، وهو اثبات المجيء لـ «عمرو» دون «زيد» في مثل : (ما جاءني زيد بل عمرو) أو (ما جاءني زيد لكن عمرو) ، وانه ما دام يعطف بـ (بل) في النفي والإيجاب (جاءني زيد بل عمرو) ، فلا شيء يمنع ـ في المعادلة الرياضية طبعا ـ من العطف بـ (لكن) في الإيجاب (٢).

والحق أنه لو أمعن الكوفيون النظر في هذه القضية

__________________

(١) همع الهوامع ١ / ١٦٥.

(٢) الإنصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٨.


بمعزل عن المنطق الرياضي البحت ، لوجدوا أن (بل) نفسها لا تستخدم في الإيجاب إلا على مستوى اللغة المحكية ـ أو المقام الشفوي ـ التي قد يقع معها الانسان في الخطأ ، أو ما يعرف بـ (زلة اللسان) ، فيقول (جاءني زيد) وهو يقصد (جاءني عمرو) فيضطر لإصلاح خطأه عن طريق (بل) ، وأن هذه الاداة لا يمكن أن تستخدم على مستوى اللغة النموذجية الأدبية في حال الإيجاب إلا لتسجيل مواقف من نوع واحد تتفاوت صعدا في حدّتها ، كأن يقال (جار زيد على أخيه ، بل قسى عليه قسوة لا يقسوها عدو ... بل ... بل ...) الخ ...


الفصل الثالث

جديد جديد

لا يعني ما قدّمناه في الفصلين السابقين ان الكوفيين لم يأتوا بشيء يستحق ان ينوّه به. فالحق أنهم ، على الرغم من عدم افلاتهم من ربقة المنطق الفلسفي وسلطان القياس النحوي ، بل على الرغم من خضوعهم لهما في اكثر آرائهم ، استطاعوا ان يخرجوا أحيانا بالتماعات جديرة ان يستهدى بها عند التصدّي لاعادة النظر في النحو العربي لتيسيره على طالبيه. وليست تلك الالتماعات بالقليلة. ولسوف نحاول فيما يلي عرض اكبر قدر ممكن منها.

* ذهب الكوفيون الى ان «لام كي» ـ او ما يطلق عليه ايضا «لام التعليل» ـ ناصبة للمضارع بغير تقدير «أن» ، لأنها قامت مقام «كي» فهي تشتمل على معناها ، وكما ان «كي» تنصب الفعل ، فكذلك


ما قام مقامها (١). كما ذهبوا الى ان «لام الجحود» ناصبة للمضارع بنفسها ايضا ، واجازوا تقديم معمول الفعل المنصوب بها عليها ، فيقال (ما كان زيد دارك ليدخل) قياسا على قول الشاعر :

لقد عذلتني امّ عمرو ولم اكن

مقالتها ـ ما كنت حيّا ـ لأسمعا(٢)

واذا نحن ضربنا صفحا عن اجازتهم اظهار «أن» بعد «كي» و «لام الجحود» للتوكيد ، وعن موافقتهم البصريين على عدم تقدّم معمول المضارع المنصوب بـ «أن» عليها ، بحجة ان المضارع صلة لـ (أن) المصدرية ، ومعمول الصلة لا يتقدّم على الموصول ، على الرغم من ورود ذلك في الكلام الفصيح من مثل قول العجاج :

ربّيته حتى اذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

ف (العصا) معمول (أجلد) متقدم عليه وعلى ناصبه (أن)

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٧٩.

(٢) نفسه ، المسألة ٨٢.


وقول ربيعة بن مقروم :

هلّا سألت ، وخبر قوم عندهم

وشفاء غيّك خابرا أن تسألي

ف (خابر) معمول (تسألي) المنصوب بـ (أن) متقدم عليها (١) ،

نقول : اذا نحن ضربنا صفحا عن هذين الأمرين ، وعن استشهاد الكوفيين ببيت الشاعر (لقد عذلتني امّ عمرو ...) ، المجمع على صحة روايته على الرغم من عدم نسبته ، للاستدلال على ان «لام الجحود» ناصبة بنفسها ، والا لما صحّ ان يتقدم معمول الفعل المنصوب على اللام لو كان النصب بـ (أن) مقدّرة ، لا يسعنا الا ان نسجّل للكوفيين موقفهم من نواصب المضارع عامة واستغناءهم عن تقدير (أن) فيها ـ بعيدا عن كل جدل منطقي مرافق لذلك الموقف طبعا ـ ثم موقفهم من تقدّم معمول المضارع المنصوب بلام الجحود ، هذا الموقف الذي كنا نتمنى تعميمه في غيرها استنادا الى الاستعمال اللغوي ، لأنه موافق لروح اللغة وللقصد الابلاغي الذي يقصده المتكلم من ورائه ، ثم

__________________

(١) راجع حواشي الصفحة ٥٩٤ من «الانصاف في مسائل الخلاف»


لأنه يبعد عن طالب النحو شبح التقدير والتأويل اللذين ارادهما البصريون حينما راحوا يصرون على ان «مقالتها» في بيت الشاعر «مفعول به لفعل مضارع محذوف يدل عليه الفعل المذكور ، واصل الكلام (ولم اكن اسمع مقالتها) ثم بيّن الشاعر هذا الفعل المحذوف الذي أضمره بقوله (لأسمعا).» (١)

* اجاز الكوفيون : (مررت بك وزيد) ، ولم يستوجبوا اعادة الخافض ـ اي حرف الجر ـ لعطف الاسم الظاهر على الضمير المخفوض ، استنادا الى قراءة حمزة الزيات (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء / ١] بخفض «الارحام» عطفا على «الهاء» في «به» ، والى قوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة / ٢١٧] ، على اساس عطف «المسجد» بالخفض على «الهاء» في «به» ، والى قول مسكين الدارمي (٢) :

تعلّق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف

__________________

(١) راجع حواشي الصفحة ٥٩٤ من «الانصاف في مسائل الخلاف».

(٢) هكذا نسبه الجاحظ في «الحيوان».


بعطف «الكعب» بالخفض على «الهاء» في «بينها» (١).

ومما لا ريب فيه ان من شأن هذه الاجازة ان تيسّر على المتكلم أمره ، وتجعله بالخيار بين ان يكرر حرف الجر : (سلمت عليك وعلى زيد) ، (مررت بك وبزيد) ، الخ ... أو أن يستغني عن تكريره تخفيفا اذا أمن في عبارته اللبس : (سلمت عليك وزيد) ، (مررت بك وزيد) ، الخ ...

* يرى الكوفيون جواز العطف على الضمير المرفوع المتّصل او المستتر ، كأن يقال (قمت وزيد) ، و (قام وزيد) ـ برفع «زيد» فيهما ـ دون اللجوء الى توكيد الضمير المتّصل أو المستتر بضمير منفصل كما يشترط البصريون. ومن شواهدهم على جواز ذلك قول عمر بن ابي ربيعة :

قلت إذ اقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسفن رملا

بعطف (زهر) بالرفع على الضمير المرفوع المستكنّ في (اقبلت). وقول جرير :

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٥.


ورجا الاخيطل من سفاهة رأيه

ما لم يكن ، وأب له ، لينالا

بعطف (اب) بالرفع على الضمير المرفوع المستكنّ في (يكن) (١). وهناك الى جانب هذين البيتين بيت راعي الابل النميري :

فلمّا لحقنا والجياد عشيّة

دعوا يا لكلب فاعتزينا لعامر

بعطف (الجياد) بالرفع على (نا) في (لحقنا).

وهناك ايضا ما ورد في صحيح البخاري من قول عمر : (كنت وجار لي) ، بعطف (جار) بالرفع على (التاء) في (كنت) ، وقول عليّ : (كنت وابو بكر وعمر) ، بعطف (ابو) بالرفع على (التاء) في (كنت) ، وقوله في الآية ١٤٨ من سورة الانعام (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، بعطف (آباء) بالرفع على (نا) في (اشركنا).

وقد زعم البصريون ان الكلام في الآية طال بذكر (لا) ، ولو ان ذكرها جاء بعد حرف العطف ،

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٦٦.


فساغ ترك التوكيد بالضمير المنفصل. وكلام البصريين «كلام لا يقضى العجب منه ، ان يجدوا في كلام الله تعالى ـ وهو أفصح الكلام وادقّه رعاية للصحيح البالغ الغاية ـ دليلا يشهد لخصومهم فيتمحّلون ويتعللون» (١).

والواقع أنه لو درست مثل هذه التراكيب دراسة موضوعية وظيفية ، لتبيّن ان اللغة اباحت للمتكلم ثلاثة انماط من التعبير يتضمّن كل منها لطيفة معنوية ليست في الآخرين ، وهي :

١ ـ (خرجت وزيد) ، برفع «زيد». ويفيد هذا التركيب اشتراك المتكلم ـ التاء ـ والمعطوف ـ زيد ـ في الخروج ، مع تساويهما في المبادرة اليه.

٢ ـ (خرجت وزيدا) ، بنصب «زيد» ، بعد تحويله من الفاعلية الى المفعولية (يعرب «زيد» هنا مفعولا معه كما هو معروف). ويفيد هذا التركيب

__________________

(١) من تعليق لمحمد محيي الدين عبد الحميد في حاشية الصفحة ٤٧٦ من كتاب «الانصاف في مسائل الخلاف». وانظر في هذه المسألة ايضا همع الهوامع ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩.


كالسابق اشتراك المتكلم والمعطوف في الخروج ، لكنه يختلف عنه في ان فيه ظلا معنويا يوحي باحتمال انتفاء مبادرة «زيد» الشخصية الى الخروج ، ومطاوعته المتكلم فيه بغرض مصاحبته او بقصد ارضاء رغبته.

٣ ـ (خرجت انا وزيد) ، برفع «زيد» بعد الفصل بينه وبين «تاء المتكلم» بالضمير المنفصل «انا». ويفيد هذا التركيب الى جانب ما افاده السابقان من معنى الاشتراك في الخروج ، رغبة المتكلّم في توكيد قيامه بالعمل ـ وهو المعنى الاقرب الذي يمثّله الإعراب التقليدي في (أنا) ، اذ يعرب الضمير المنفصل «توكيدا» للضمير المتصل ـ ورغبته ايضا في التعبير عن نسبة المبادرة بالخروج الى نفسه ثم موافقة «زيد» عليها ، كما انه قد يفيد خوف المتكلم من أن تبهت شخصيته المكنّى عنها بـ (التاء) امام شخصية (زيد) المعبّر عنها بالعلمية ، وهو خوف لا يطامنه الا تلك ال (أنا) التي تضاهي اسم العلم في تحديد الهويّة الشخصية.


* ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بـ (لا) ـ المقصود بها لا النافية للجنس ـ معرب منصوب بها ، نحو (لا رجل في الدار) (١). وقد وافقهم على ذلك من البصريين السيرافي (المتوفى عام ٣٦٨ ه‍) والزجّاج (المتوفى عام ٣١١ ه‍) ، فقالا بأن اسم (لا) غير العامل معرب ، وان ترك تنوينه للتخفيف (٢). واصرّ جمهور البصريين على ان اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب ، بحجة أن «أصل (لا رجل في الدار) هو (لا من رجل في الدار) ، لأنه جواب من قال : (هل من رجل في الدار؟). فلما حذفت (من) من اللفظ وركّبت اللفظة مع (لا) تضمّنت معنى الحرف فوجب ان تبنى. وانما بنيت على حركة لأنّ لها حالة تمكّن قبل البناء [المقصود ان الاسم كان قبل معربا ولذا بني على حركة لا على السكون] وبنيت على الفتح لأنه اخفّ الحركات». (٣)

واذا نحن ضربنا صفحا عن حجج البصريين لأنها من

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٥٣.

(٢) مغني اللبيب ١ / ٢٣٨

(٣) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٣٦٧.


قبيل الغيبيات ولا تستند إلى اي سند علمي ، (اذ من ادرانا ان أصل (لا رجل في الدار)) هو (لا من رجل في الدار)؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا لم تبح اللغة كلا النمطين؟ ولماذا تكون صيغة (لا رجل في الدار) جوابا لمن يسأل (هل من رجل في الدار؟). أفلا يحق للمتكلم ان يبادر بنفسه إلى الاخبار عن عدم وجود «رجل» في الدار دون ان يكون قد سئل عن ذلك؟) ، بادرنا إلى القول انه من الافضل والايسر على المعرب ـ ان لم يكن من الإعراب التقليدي بدّ ـ ان يجاهر بنصب اسم (لا) النافية للجنس كيفما وقع ، بدلا من أن يلجأ إلى التقعّر والتعقيد فيقول ببنائه على الفتح ، او على الياء (في حال التثنية او جمع المذكر السالم) ، أو على الألف (في حال كونه من الاسماء الخمسة) ، أو على الكسر بدلا من الفتح (في حال كونه جمعا مؤنثا سالما) ، وبنصبه محلا لأن (لا) تعمل النصب كما تعمله (إنّ).

ثم ان «اعراب» اسم (لا) النافية للجنس أعمّ واشمل من «بنائه» ، اذ هو معرب في نظر النحاة في الحالات التالية :

ـ اذا وليه مضاف إليه : (لا صاحب جود ممقوت).


ـ اذا كان اسم (لا) رافعا لما بعده : (لا حسنا فعله مذموم).

ـ اذا كان اسم (لا) ناصبا لما بعده : لا طالعا جبلا حاضر).

ـ اذا كان اسم (لا) شبيها بالمضاف : (لا خيرا من زيد عندنا) (١).

وهناك اكثر من دليل على «اعراب» اسم (لا) النافية للجنس اذا كان مفردا (٢)

ـ اذا وصف اسم (لا) فالمتكلّم بالخيار في ان ينصب الصفة وينوّنها على الاصل ـ وهو الوجه ـ فيقول (لا رجل ظريفا عندك) ، او لا ينوّنها فيقول : (لا رجل ظريف عندك) (٣).

ـ اذا عطف على اسم (لا) اسم دون تكرار (لا) ،

__________________

(١) مغني اللبيب ١ / ٢٣٧.

(٢) ابن الخشاب ، المرتجل ، ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٣) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع الصفة منوّنة فيقال (لا رجل ظريف عندك) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.


نصب هذا الاسم ، فتقول : (لا رجل وغلاما في الدار). (١)

ـ اذا عطف على اسم (لا) اسم مع تكرار (لا) ، كان المتكلم بالخيار في ان ينوّن المعطوف او لا ينوّنه ، فيقول : (لا رجل ولا امرأة في الدار) ، أو (لا رجل ولا امرأة في الدار) (٢).

وبعد ، أليس من التعسّف الذي لا مسوّغ له الاصرار على بناء اسم (لا) النافية للجنس واكراه المعرب على القول بأنه «مبني» في محل «نصب»؟

* اجاز الكوفيون تقديم اداة الاستثناء إلى اول الكلام ، فيقال : (إلّا طعامك ما أكل زيد) ، (٣) مستندين إلى عدّة شواهد منها قول العجاج بن رؤبة :

__________________

(١) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع المعطوف منونا ، فيقال (لا جل وغلام في الدار) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.

(٢) هذا إلى جانب اجازة النحويين رفع المعطوف منونا ، فيقال (لا رجل ولا امرأة في الدار) وهو رأي قابل للنقاش في غير هذا الموضع.

(٣) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٣٦.


وبلدة ليس بها طوريّ (١)

ولا خلا الجنّ بها إنسيّ

وقول الكميت :

فما لي إلّا آل احمد شيعة

وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب (٢)

وقول كعب بن مالك :

الناس ألب علينا فليس لنا

إلّا السيوف واطراف القنا وزر

وهناك إلى جانب شواهد الكوفيين هذه شواهد اخرى مثل قول حسان بن ثابت :

لأنّهم يرجون منه شفاعة

اذا لم يكن إلّا النبيّون (٣) شافع

وقول الاعشى :

__________________

(١) المقصود بـ «ليس بها طوري» انه ليس بها أحد.

(٢) مشعب الحق : طريقه.

(٣) ضبطت «النبيين» بالنصب في ديوان حسان (طبعة صادر ١٩٦١ م) ، لان العرب حين تقدم المستثنى على المستثنى منه تنصبه. واذا ـ ـ


خلا الله لا أرجو سواك وإنما

أعدّ عيالي شعبة من عيالكا

والحقّ أن لهذه الاجازة النابعة من صميم الاستعمال اللغوي قيمتها الابلاغية إلى جانب النمط الآخر الذي وافق عليه البصريون ، عنينا تقديم المستثنى منه في الكلام المنفيّ ، كما في (ما جاءني إلا زيدا احد) ، مع السماح ـ على مضض ـ برفع (زيد) على البدلية ، اذ هم يذهبون إلى أن رفعه جائز عند بعض العرب ، و «إن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب» (١). فلا ريب ان في تقديم اداة الاستثناء والمستثنى منه على المستثنى من المفاجأة للمخاطب ، ولفت انتباهه ، وشدّه إلى العبارة ، الشيء الكثير. وما منعه من قبل البصريين ، على الرغم من تعدّد الشواهد على صحته في الاستعمال ، إلا تزمّت فرضه مبدأ «العامل» الذي لا يجيز ـ منطقيا ـ تقديم المعمول (لا ننس ان المستثنى مفعول للفعل المذكور في الجملة) على العامل الذي نصبه ، اي الفعل.

__________________

صحت رواية الرفع في «النبيين» ، كان ذلك على الاتباع ، اي على البدلية من المستثنى منه ، اي «شافع» ، مع تقديم البدل على المبدل منه ، وهو ما لا يجيزه الكوفيون.

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ١ / ٢٧٧


* اجاز بعض الكوفيين تقديم التمييز على الفعل اذا كان متصرّفا ، فيقال : (عرقا تصبّب زيد) و (شحما تفقّأ الكبش) ، بدليل قول الشاعر : (١)

أتهجر سلمى بالعراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب (٢)

والبصريون ـ ما خلا المازني (المتوفى عام ٢٤٨ ه‍ ـ) والمبرد (المتوفى عام ٢٨٥ ه‍) ـ يمنعون ذلك بحجة ان التمييز في مثل هذه الصيغ فاعل بالمعنى (اي ان الاصل في «تصبّب زيد

__________________

(١) نسب إلى المخبّل السعدي ، ربيع بن ربيعة بن مالك ، كما نسب إلى اعشى همدان ، عبد الرحمن بن عبد الله. اما ابن سيده فقد نسبه في كتابه «المخصص» إلى قيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى.

(٢) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ١٢٠. ويروي البصريون هذا البيت :

«وما كان نفسي بالفراق تطيب».

وهناك إلى جانب البيت المذكور ، بيت ربيعة بن مقروم الضبّي :

رددت بمثل السيد نهد مقلّص

كميش اذا عطفاه ماء تحلّبا

بتقديم التمييز (ماء) على الفعل (نحلبا). وانظر في هذا امالي ابن الشجري ، ج ١ ، ص ٣٣ وما بعدها.


عرقا» هو «تصبّب عرق زيد») ولا يجوز تقدّم الفاعل على فعله.

وفي اعتقادنا ان لا شيء يمنع تقديم التمييز في مثل الصيغة التي اجازها الكوفيون اذا احسّ المتكلم رغبة في ابرازه لقصد ابلاغي ، ولا سيما أن في الاستعمال اللغوي ما يؤيده ويدعمه.

* لعلّ من أعجب ما ذهب إليه البصريون اهمالهم إعراب ما سمّوه «ضمير الفصل» في مثل (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) [الانفال / ٣٢] ، و (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة / ١١٧] ، و (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران / ١٨٠] ، و (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف / ٣٩] ، مع حرصهم على ملاحقة «الإعراب» في ادق اجزاء الجملة ، ولجوئهم إلى التقدير والتأويل حين يستعصي عليهم ، وعلى الرغم من اعترافهم بأن «ضمير الفصل» هذا «يفيد ضربا من التوكيد». (١)

__________________

(١) المفصّل ، ص ١٣٣. واننا لنستغرب لماذا لا يعربون هذا الضمير توكيدا ، فيكون في مثل «زيد هو الظريف» توكيدا لـ «زيد» ، وفي مثل ـ


وقد ذهب الكوفيون الى ان هذا الضمير «عماد» ، اي أنه ركن اساسي من اركان الجملة. ولا يعني هذا بالطبع انهم ينكرون قراءة الآيات المتضمّنة «ضمير الفصل» كما هو المشهور في قراءتنا اليوم. لكنهم ، باستنادهم الى السماع عن كثير من العرب ممن يجعلون هذا الضمير مبتدأ ، وما بعده مبنيا عليه ، كأن يقول العجّاج بن رؤبة (اظن زيدا هو خير منك) ، وكأن تقرأ الآية ٧٦ من سورة الزخرف «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون» ، والآية ٣٩ من سورة الكهف (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ ...)(١) ، ازالوا عن المتكلم القسر البصري المتمثل في ضرورة نصب ما بعد ضمير الفصل في الجمل الاسمية الداخل عليها «كان» وما يعمل عملها من النواسخ ، وجعلوه بالخيار في ان ينصب او يرفع حسبما يمليه مزاجه. ومن هنا كان لنا قول ابي نواس :

وداوني بالتي كانت هي الداء.

* فيما ذهب البصريون الى أن الاسم الواقع بين اداة

__________________

(كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) توكيدا للتاء في «كنت» ، وهلم جرا.

(١) المفصل ، ص ١٣٣.


الشرط وفعله في مثل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) [النساء / ١٢٨] ، و (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة / ٦] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق / ١] مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور (اي أنّ «امرأة» فاعل لـ «خافت» محذوف ، والتقدير «وإن خافت امرأة خافت») ، قال الكوفيون بأن مثل هذا الاسم مرفوع بما عاد اليه من غير تقدير فعل ، لان المكنّي المرفوع في الفعل ، (اي الضمير المستتر الذي يذهب النحاة الى اعرابه فاعلا للفعل) هو الاسم الاول (١) ، (اي ان الضمير «هي» المقدّر فاعلا لـ «خافت» هو نفسه «امرأة») ، الأمر الذي حدا بابن هشام الى القول : «واجاز الكوفيون ان يكون فاعلا للفعل المذكور على التقديم والتأخير» (٢) ، وحمل ابن مضاء القرطبي على القول في مثل (زيد قام) انه ليس من داع يدعو الى تقدير ضمير في (قام) إلا قول النحويين : الفاعل لا يتقدم ، ولا بد للفعل من فاعل ؛ وأنه إذا قيل (زيد قام) ودلّ لفظ (قام) على الفاعل

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، المسألة ٨٥.

(٢) مغني اللبيب ٢ / ٥٨١.


دلالة قصد فلا يحتاج الى أن يضمر شيء ، لأنه زيادة لا فائدة فيها (١).

ولقد اثبت السيوطي للكوفيين إجازة تقديم الفاعل على الفعل حين قال : «وجوّز الكوفية تقديمه ، نحو (زيد قام) ، مستدلّين بنحو قوله (ما للجمال مشيها وئيدا؟) ، اي (وئيد مشيها)» (٢).

وكم كنا نودّ لو أن الكوفيين كسروا طوق «العوامل والمعمولات» فأعادوا النظر في دراسة الجملة وجاهروا صراحة بان مثل (زيد قام) داخل في باب الجملة الفعلية. فالحق انه ليس في ما وصل الينا من كتب اللغة ما يجزم بذلك ، وانما هي اشارات عابرة الى تجويزهم تقديم الفاعل على الفعل ، كما يستدل من قول السيوطي اعلاه.

كما كنا نودّ لو انهم كانوا اكثر جرأة فلم يحصروا

__________________

(١) كتاب الرد على النحاة ، ص ١٠٣.

(٢) همع الهوامع ١ / ١٥٩. وقد نسب ابن هشام البيت الى الزبّاء ، وتمامه : اجندلا يحملن ام جديدا. وشاهد الكوفيين فيه ان «مشيها» وهو فاعل للصفة المشبهة «وئيد» قد قدّم عليها. اما البصريون فذهبوا الى ان «مشيها» مبتدأ حذف خبره وبقي معمول الخبر ، اي «مشيها يكون وئيدا» او ما شاكله.


جواز تقدّم الفاعل على الفعل في الجملة الشرطية المصدّرة بـ «إن» وحدها لأنها «الاصل في باب الجزاء دون غيرها من الاسماء والظروف التي يجازى بها» (١) ، على ان يكون فعل الشرط ماضيا ، كما في (ان زيد اتاني آته).

فلقد ورد في الاستعمال ما يخالف هذا كله. قال عديّ بن زيد :

فمتى واغل ينبهم يحيّو

ه وتعطف عليه كأس الساقي (٢)

وقال كعب بن جعيل بن قمير بن عجرة احد بني تغلب (٣) :

صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميّلها تمل (٤)

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٦١٦.

(٢) الواغل : الداخل. ينوبهم : يطرقهم ، يدخل عليهم.

(٣) شاعر اسلامي كان في عهد معاوية بن ابي سفيان.

(٤) الصعدة : القناة. الحائر : القرارة من الارض يستقر فيها السيل فيتحيّر ماؤه ، اي يستدير ولا يجري قدما. وهذا البيت وسابقه من شواهد سيبويه ، (الكتاب ، ج ٣ ، ص ١١٣).


مع العلم ان لا عبرة بقول من قال : «فهو ضعيف في الكلام ، لأنّه قدّر الفعل بعد «متى» و «أينما» و «من» ، وهي فرع على «إن» ، ولأنه فعل مضارع يظهر فيه عمل حرف الجزم ، وذلك ضعيف في «إن» في الكلام ، فانما يجوز في الشعر ، واذا كان ذلك ضعيفا في «إن» وهي الاصل ، ففيما هو فرع عليه أولى ، ولو كان فعلا ماضيا لكان في هذه المواضع اسهل» (١) ، إلا اذا كان «الشعر» ليس «كلاما» ، وهذا لعمر الحق منتهى العنت.

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف ، ص ٦١٩.


خاتمة

وبعد ، فلقد ضرب الأخفش الأوسط والكوفيون بسهم في محاولة لمسايرة روح اللغة واستقرائها استقراء وصفيا بما ملكت ايديهم من مقاييس العصر. وقد كان من الممكن أن تأتي محاولتهم تلك أجدى على العربية مما أتت ، لو أنهم نفضوا عنهم إلى غير رجعة نير المنطق ، وكسروا إلى الأبد طوق الاقيسة العقلية.

فلئن كانت اقيسة البصريين النظرية البحت قد الجأتهم في كثير من الأحيان إلى التأويل والتقدير بشكل صارخ ، وحملتهم على رفض كثير من الشواهد العربية الصحيحة ، فإن الأخفش والكوفيين لم يستطيعوا ـ على ما في مذهبهم من محاولة للبعد عن التكلف ـ أن يتخلصوا نهائيا من التأويل والتقدير ، بل لربما وقعوا فيهما أحيانا بشرّ مما وقع فيه البصريون. كما أن تسامحهم في كثير من الشواهد


التي ربما سيقت إليهم من بقايا لهجة قديمة ، أو من مستوى غير مستوى اللغة النموذجية ، وتجويزهم في الظاهرة اللغوية الواحدة اكثر من وجه أحيانا ، من شأنهما الايقاع في الاضطراب والفوضى والانحراف عن الهدف المنشود في رسم ضوابط اللغة.

واننا لنذكّر بأنه لا يهمنا في كثير أو قليل أن يبهر صنيع البصريين بعض المشتغلين بأمور العربية ، لأنه «ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحّت الشواذ عن قواعدها ، لم تحذفها ولم تسقطها ، بل أثبتتها ، أو على الأقل اثبتت جمهورها ، نافذة في كثير منها إلى تأويلها ، حتى تنحّي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللا يشوبها ، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين ، إذ قد يظنون الشاذ صحيحا مستقيما ، فينطقون به ويتركون المطّرد في لغة العرب الفصيحة وتصاريف عباراتهم وألفاظهم» (١) ، وان ينظر إلى صنيع الكوفيين على أنه «يعرّض الالسنة للبلبلة ، لما يعترضها من تلك القواعد التي قد تخنق القواعد

__________________

(١) المدارس النحوية ، ص ١٦٢.


العامة. وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه ، بل على كثيرها الأكثر ، والقاعدة التي لم يرد فيها الا شاهد واحد ، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد في الألسنة» (١) ، ولا يهمنا أن يطعن بعضهم على البصريين تشددهم في النقل والقياس ، وأن يحمد للكوفيين أنهم كانوا أدق من البصريين في فقه طبيعة العربية.

نقول إنه لا يهمنا كل ذلك ، لأن الهدف من دراستنا إنما كان ولا يزال البحث عن أفضل الطرق لتيسير النحو على طلابه من أبناء العروبة وغيرهم. ولقد كان في موقف الأخفش والكوفيين شيء من تطلع إلى التجديد ارادوا التعبير عنه بمقاييس عصرهم فحالفهم الصواب في أمور ، وجانبهم في أخرى. ولعل من الممكن اتخاذ بعض ما التمع في ثنايا بحثهم نقاط انطلاق تساعد على تحقيق هدفنا الأخير ، وهو بالضبط ما حاولنا الكشف عنه في أثناء هذا الكتاب ، بعيدا عن أية غاية أخرى.

__________________

(١) المدارس النحوية ، ص ١٦٢.


ثبت المصادر والمراجع

١ ـ ابن الخشاب / المرتجل / تحقيق علي حيدر / دمشق ١٩٧٢

٢ ـ ابن جني / الخصائص / دار الهدى ـ / لبنان (طبعة ثانية)

٣ ـ ابن الشبحري / الامالي / دار المعرفة / ـ بيروت

٤ ـ ابن مضاء القرطبي / كتاب الرد على النحاة / تحقيق الدكتور شوقي ضيف / القاهرة ١٩٤٧

٥ ـ ابن هشام الانصاري / مغني اللبيب / تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد / دار الكتاب العربي

٦ ـ ابو البركات الانباري / الانصاف في مسائل الخلاف / تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد / القاهرة ١٩٦١

٧ ـ ابو البركات الانباري / الاغراب في جدل الأعراب / تحقيق سعيد الافغاني / بيروت ١٩٧١

٨ ـ ابو البركات الانباري / لمع الادلة / تحقيق سعيد الافغاني / بيروت ١٩٧١

٩ ـ حسان بن ثابت / الديوان / دار صادر / بيروت ١٩٦١

١٠ ـ الزجّاج / إعراب القرآن / تحقيق ابراهيم الابياري / القاهرة ١٩٦٣

١١ ـ الزمخشري / المفصّل / دار الجيل / بيروت (طبعة ثانية)

١٢ ـ سيبويه / الكتاب / تحقيق عبد السّلام هارون / القاهرة ١٩٦٦

١٣ ـ السيرافي / أخبار النحويين البصريين / كرنكو المطبعة الكاثوليكية / بيروت ١٩٣٦


١٤ ـ السيوطي / همع الهوامع / دار المعرفة / بيروت

١٥ ـ السيوطي / بغية الوعاة / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم / القاهرة ١٩٦٤

١٦ ـ السيوطي / الاقتراح / طبعة حيدر آباد

١٧ ـ الدكتور شوقي ضيف / المدارس النحوية / دار المعارف بمصر / ١٩٦٨

١٨ ـ عبد الامير الورد / منهج الاخفش الاوسط في الدراسة النحوية / بيروت وبغداد / ١٩٧٥

١٩ ـ الدكتور عفيف دمشقية / المنطلقات التأسيسية والفنية الى النحو العربي / معهد الانماء العربي / بيروت ١٩٧٨

٢٠ ـ الدكتور عفيف دمشقية / تجديد النحو العربي / معهد الانماء العربي / بيروت ١٩٧٦

٢١ ـ العكبري / املاء ما منّ به الرحمن المطبعة الميمنية / بمصر ١٣٠٦ ه

٢٢ ـ الدكتور علي ابو المكارم / تقويم الفكر النحوي / دار الثقافة / بيروت ١٩٧٥

٢٣ ـ الشيخ محمد الطنطاوي / نشأة النحو / مطبعة السعادة / بمصر ١٩٦٩

٢٤ ـ ياقوت / معجم الادباء / عيسى البابي الحلبي بمصر


فهرس

مقدمة....................................................................... ٥

الباب الأول ـ الأخفش الأوسط

تمهيد........................................................................ ٩

الفصل الأول : اجتهادات عقّدت النحو........................................ ١٧

أولا ـ في بعض الصيغ الخاصة.................................................. ١٨

ثانيا ـ في العوامل والمعمولات................................................... ٣٣

ثالثا ـ في القياس.............................................................. ٤٢

الفصل الثاني : تجديد يخدم اللغة............................................... ٦٤

الباب الثاني : الكوفيون

تمهيد..................................................................... ١٠٩

الفصل الأول : جديد ليس بالجديد........................................... ١١٢

الفصل الثاني : جديد «زاد الطين بلّة»........................................ ١٥٣

الفصل الثالث : جديد جديد................................................ ١٧٧

خاتمة..................................................................... ١٩٨

ثبت المصادر والمراجع....................................................... ٢٠١

خطى متعثرة على طريق تجديد النحو العربى

المؤلف:
الصفحات: 203