01


03


02



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد : فهذا كتاب وجيز في أصول الفقه يستعرض أهمّ المسائل الأصوليّة الّتي تعدّ أسسا لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعيّنة.

وقد وضعته للمبتدئين في هذا الفن ، والغرض من وراء ذلك ، إيقافهم على أمّهات المسائل من دون إيجاز مخلّ ، ولا إطناب مملّ.

لقد كان كتاب المعالم الذي ألّفه الشيخ حسن بن زين الدين العاملي ـ قدّس الله سرّهما ـ هو الدراج في الحوزات العلمية لهذا الغرض ، وقد أدّى ـ بحق ـ رسالته في العصور السالفة.

غير أنّه لمّا طرحت بعد تأليفه ، أبحاث أصولية جديدة لم يتعرض لها هذا الكتاب، اقتضت الحاجة إلى تأليف كتاب آخر يضمّ في طيّاته الأبحاث الأصولية الجديدة بعبارات واضحة ، ومتلائمة مع اللغة العلمية الدارجة في الحوزة مع تطبيقات تساعده بشكل أفضل على فهم المسائل الأصولية في مختلف الأبواب والإشارة إلى مواضعها في الكتب الفقهية.


ولقد استعرضت فيه ما هو المشهور لدى المتأخرين من أصحابنا الأصوليين إلاّ شيئا نادرا ، وربما كان المختار عندي غيره ، لكن لم أشر إليه لتوخّي الإيجاز ، وصيانة الذهن عن التشويش.

كما تركت الخوض في البحوث المطروحة في الدراسات العليا ، وربما أشرت إلى بعض عناوينها في الهامش ، وأسميته ب «الموجز في أصول الفقه» إيعازا إلى أنّ الكتاب صورة موجزة للمسائل الأصولية المطروحة.

والنهج السائد في الكتب الدراسية هو الاقتصار على أقلّ العبارات بتعابير وافية بالمراد وخالية عن التعقيد وإيكال التفصيل والشرح إلى الأستاذ وإلاّ يخرج عن كونه متنا دراسيا. ورائدنا في تنظيم المقاصد والمباحث هو الكتب المتداولة في الأصول ، نظير الفرائد والكفاية وتقريرات الأعاظم ـ قدّس الله أسرارهم ـ.

والأمل أن يكون الكتاب وافيا بالغاية المنشودة ، واقعا مورد الرضا ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما فيه الخير والرشاد.

المؤلّف


الفهرس العام لهذا الكتاب

١. المقدمة تتضمّن اثني عشر أمرا.

٢. المقصد الأوّل في الأوامر وفيه تسعة فصول.

٣. المقصد الثاني في النواهي وفيه ستة فصول.

٤. المقصد الثالث في المفاهيم وفيه خمسة أمور وستة فصول.

٥. المقصد الرابع في العموم والخصوص وفيه ثمانية فصول.

٦. المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين وفيه ستة فصول.

٧. المقصد السادس في الحجج والأمارات وفيه مقامان.

٨. المقصد السابع في الأصول العملية وفيه فصول أربعة.

٩. المقصد الثامن في تعارض الأدلّة وفيه أمور أربعة وفصلان.

وقبل الخوض في المباحث الأصوليّة نذكر أمورا كمقدّمة للكتاب :


المقدّمة :

وفيها أمور :

الأمر الأوّل : تعريف علم الأصول وموضوعه وغايته.

الأمر الثاني : تقسيم المباحث الأصولية إلى لفظية وعقلية.

الأمر الثالث : الوضع وأقسامه الأربعة وتقسيمه أيضا إلى شخصي ونوعي.

الأمر الرابع : تقسيم الدلالة إلى تصورية وتصديقية.

الأمر الخامس : الحقيقة والمجاز.

الأمر السادس : علامات الحقيقة والمجاز.

الأمر السابع : الأصول اللفظية.

الأمر الثامن : الاشتراك والترادف وإمكانهما ووقوعهما.

الأمر التاسع : استعمال المشترك في أكثر من معنى.

الأمر العاشر : الحقيقة الشرعية والمتشرعية.

الأمر الحادي عشر : أنّ أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم.

الأمر الثاني عشر : المشتق وأنّه موضوع للمتلبس بالمبدإ أو للأعم.


الأمر الأوّل : تعريف علم الأصول

وموضوعه وغايته

إنّ لفظة أصول الفقه تشتمل على كلمتين تدلاّن على أنّ هنا أصولا وقواعد يتّكل الفقه عليها ، فلا بدّ من تعريف الفقه أوّلا ، ثمّ تعريف أصوله ثانيا.

الفقه ـ على ما هو المعروف في تعريفه ـ : هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية.

فخرج بقيد «الشرعية» العقلية ، وب «الفرعية» الاعتقادية والمسائل الأصولية وب «التفصيلية» علم المقلّد بالأحكام ، فإنّه وإن كان عالما بالأحكام ، لكنّه لا عن دليل تفصيلي ، بل بتبع دليل إجمالي وهو حجّية رأي المجتهد في حقّه في عامة الأحكام ، وأمّا المجتهد فهو عالم بكلّ حكم عن دليله الخاص.

الأصول وإليك بيان أمور ثلاثة فيه :

١. تعريفه : هو علم يبحث فيه عن القواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية عن الأدلّة.

وعلى ذلك فعلم أصول الفقه من مبادئ الفقه ، ويتكفّل بيان كيفيّة إقامة الدليل على الحكم الشرعي.

٢. موضوعه : كلّ شيء يصلح لأن يكون حجّة في الفقه ومن شأنه أن يقع في طريق الاستنباط.

فإنّه ليس كلّ قاعدة علمية تصلح لأن تكون حجّة في الفقه ، فليس لمسائل العلوم الطبيعية ولا الرياضية ، هذه الصلاحية ، وإنّما هي لعديد من المسائل ،


كظواهر الكتاب وخبر الواحد ، والشهرة الفتوائية ، إلى غير ذلك.

٣. غايته : القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن أدلّتها والعثور على أمور يحتج بها في الفقه على الأحكام الشرعية.

ومما ذكرنا يعلم وجه الحاجة إلى أصول الفقه ، فإنّ الحاجة إليه كالحاجة إلى علم المنطق ، فكما أنّ المنطق يرسم النهج الصحيح في كيفية إقامة البرهان ، فهكذا الحال في علم الأصول ؛ فإنّه يبيّن كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : تقسيم مباحثه

تنقسم المباحث الأصولية إلى أربعة أنواع :

الأوّل : المباحث اللفظية ويقع البحث فيها عن مداليل الألفاظ وظواهرها التي تقع في طريق الاستنباط نظير ظهور صيغة الأمر في الوجوب.

الثاني : المباحث العقلية ويقع البحث فيها عن الأحكام العقلية الكلية التي تقع في طريق الاستنباط نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

الثالث : مباحث الحجج والأمارات كالبحث عن حجّية خبر الواحد.

الرابع : مباحث الأصول العملية ، وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقد الدليل على الحكم الشرعي.

ويمكن تقسيمها بملاك آخر وهو تقسيمها إلى مباحث لفظيّة ، وعقليّة وهذا هو الرائج بين المتأخّرين ورتّبنا كتابنا على ترتيب مباحث الكفاية.

الأمر الثالث : الوضع

إنّ دلالة الألفاظ على معانيها دلالة لفظية وضعية والوضع قد عرّف بوجوه


أوضحها :

جعل اللفظ في مقابل المعنى وتعيينه للدلالة عليه.

وربما يعرّف : انّه نحو اختصاص للّفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة ، ويسمّى بالوضع التعييني ، وكثرة استعماله فيه أخرى ويسمّى بالوضع التعيّني.

والفرق بين التعريفين واضح ، فإنّ الأوّل لا يشمل إلاّ التعييني بخلاف الثاني فانّه أعمّ منه ومن التعيّني.

أقسام الوضع

ثمّ إنّ للوضع ـ في مقام التصوّر ـ أقساما أربعة :

١. الوضع الخاص والموضوع له الخاص.

٢. الوضع العام والموضوع له العام.

٣. الوضع العام والموضوع له الخاص.

٤. الوضع الخاص والموضوع له العام.

ثمّ إنّ الميزان في كون الوضع خاصّا أو عامّا هو كون المعنى الملحوظ حين الوضع جزئيا أو كلّيا.

فإن كان الملحوظ خاصّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الأوّل ، كوضع الأعلام الشخصية.

وإن كان الملحوظ عامّا ووضع اللفظ بازائه ، فهو من القسم الثاني ، كأسماء الأجناس.

وإن كان الملحوظ عامّا ولم يوضع اللفظ بازائه بل وضع لمصاديق ذلك


العام ، فهو من القسم الثالث ، كالأدوات والحروف على ما هو المشهور ، فالواضع على هذا القول تصوّر مفهومي الابتداء والانتهاء الكليّين ثمّ وضع لفظة «من» و «إلى» لمصاديقهما الجزئية التي يعبّر عنها بالمعاني الحرفية.

وإن كان الملحوظ خاصّا ، ووضع اللفظ للجامع بين هذا الخاص والفرد الآخر ، فهو من القسم الرابع.

المعروف إمكان الأوّلين ووقوعهما في عالم الوضع ، وإمكان الثالث ، وإنّما البحث في وقوعه. وقد عرفت أنّ الوضع في الحروف من هذا القبيل.

إنّما الكلام في إمكان الرابع فضلا عن وقوعه ، فالمشهور استحالة الرابع فيقع الكلام فيما هو الفرق بين الثالث حيث قيل بإمكانه ، والرابع حيث قيل بامتناعه.

وجهه : انّ الملحوظ العام في القسم الثالث له قابلية الحكاية عن مصاديقه وجزئياته، فللواضع أن يتصوّر مفهوم الابتداء والانتهاء ويضع اللّفظ لمصاديقهما التي تحكي عنها مفاهيمهما.

وهذا بخلاف الرابع فإنّ الملحوظ لأجل تشخّصه بخصوصيات يكون خاصّا ، ليست له قابلية الحكاية عن الجامع بين الأفراد ، حتى يوضع اللّفظ بازائه.

وبالجملة العام يصلح لأن يكون مرآة لمصاديقه الواقعة تحته ، ولكن الخاص لأجل تضيّقه وتقيّده لا يصلح أن يكون مرآة للجامع بينه وبين فرد آخر.

تقسيم الوضع بحسب اللفظ الموضوع

ثمّ إنّ ما مرّ كان تقسيما للوضع حسب المعنى ، وثمة تقسيم آخر له حسب اللفظ الموضوع إلى شخصي ونوعي.

فإذا كان اللفظ الموضوع متصوّرا بشخصه ، فيكون الوضع شخصيّا كتصوّر


لفظ زيد بشخصه ؛ وأمّا إذا كان متصوّرا بوجهه وعنوانه ، فيكون الوضع نوعيّا ، كهيئة الفعل الماضي التي هي موضوعة لانتساب الفعل إلى الفاعل في الزمان الماضي ، ولكن الموضوع ليس الهيئة الشخصية في ضرب أو نصر مثلا ، بل مطلق هيئة «فعل» ، في أيّ مادة من المواد تحقّقت ، وبذلك يعلم أنّ وضع الهيئة في الفاعل والمفعول والمفعال هو نوعي لا شخصي.

الأمر الرابع : تقسيم الدلالة إلى تصوّرية وتصديقيّة

تنقسم دلالة اللّفظ إلى تصوّرية وتصديقيّة.

فالدلالة التصوّرية : هي عبارة عن انتقال الذهن إلى معنى اللّفظ بمجرّد سماعه وإن لم يقصده اللاّفظ ، كما إذا سمعه من الساهي أو النائم.

وأمّا الدلالة التصديقيّة : فهي دلالة اللّفظ على أنّ المعنى مراد للمتكلّم ومقصود له.

فالدلالة الأولى تحصل بالعلم باللغة ، وأمّا الثانية فتتوقف على أمور :

أ. أن يكون المتكلم عالما باللغة.

ب. أن يكون في مقام البيان والإفادة.

ج. أن يكون جادّا لا هازلا.

د. أن لا ينصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي.


الأمر الخامس : الحقيقة والمجاز

الاستعمال الحقيقي : هو إطلاق اللّفظ وإرادة ما وضع له ، كإطلاق الأسد وإرادة الحيوان المفترس.

وأمّا المجاز : فهو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ، مع وجود علقة بين الموضوع له والمستعمل فيه بأحد العلائق المسوّغة ، كإطلاق الأسد وإرادة الرجل الشجاع.

ثمّ إذا كانت العلقة هي المشابهة بين المعنيين فيطلق عليه الاستعارة ، وإلاّ فيطلق عليه المجاز المرسل كإطلاق الجزء وإرادة الكلّ كإطلاق العين والرقبة وإرادة الإنسان.

هذا هو التعريف المشهور للمجاز ، وهناك نظر آخر موافق للتحقيق ، وحاصله : إنّ اللّفظ ـ سواء كان استعماله حقيقيّا أو مجازيّا ـ يستعمل فيما وضع له ، غير أنّ اللّفظ في الأوّل مستعمل في الموضوع له من دون أي ادّعاء ومناسبة ، وفي الثاني مستعمل في الموضوع له لغاية ادّعاء انّ المورد من مصاديق الموضوع له ، كما في قول الشاعر :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

فاستعمل لفظ الأسد ـ حسب الوجدان ـ في نفس المعنى الحقيقي لكن بادّعاء انّ الموردـ ـ أي الرجل الشجاع ـ من مصاديقه وأفراده حتّى أثبت له آثار الأسد من اللبد والأظفار، وهذا هو خيرة أستاذنا السيد الإمام الخميني قدس‌سره. (٢)

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ، وهو في ديوانه ص ٢٤ ؛ ولسان العرب ج ٩ ، ص ٢٧٧ ، قذف.

(٢) تهذيب الأصول : ١ / ٤٤.


والحاصل : أنّه لو كان تفهيم المعنى الموضوع له هو الغاية من وراء الكلام ، فالاستعمال حقيقي ، وإن كان مقدّمة ومرآة لتفهيم فرد ادّعائي ولو بالقرينة فالاستعمال مجازي.

الأمر السادس : علامات الحقيقة والمجاز

إذا استعمل المتكلم لفظا في معنى معيّن ، فلو علم أنّه موضوع له ، سمّي هذا الاستعمال حقيقيّا ، وأمّا إذا شكّ في المستعمل فيه وأنّه هل هو الموضوع له أو لا؟ فهناك علامات تميّز بها الحقيقة عن المجاز.

١. التبادر :

هو انسباق المعنى إلى الفهم من نفس اللّفظ مجرّدا عن كلّ قرينة ، وهذا يدلّ على أنّ المستعمل فيه معنى حقيقيّ ، إذا ليس لحضور المعنى في الذهن سبب سوى أحد أمرين ، إمّا القرينة ، أو الوضع ، والأوّل منتف قطعا كما هو المفروض ، فيثبت الثاني.

٢. صحّة الحمل والسلب :

إنّ صحّة الحمل دليل على أنّ الموضوع الوارد في الكلام قد وضع للمحمول كما أنّ صحّة السلب دليل على عدم وضعه له.

توضيحه : أنّ الحمل على قسمين :

الأوّل : الحمل الأوّلي الذاتي ، وهو ما إذا كان المحمول نفس الموضوع مفهوما بأن يكون ما يفهم من أحدهما نفس ما يفهم من الآخر ، مع اختلاف بينهما


في الإجمال والتفصيل كما إذا قلنا : الأسد حيوان مفترس ، والإنسان حيوان ناطق.

الثاني : الحمل الشائع الصناعي ، وهو ما إذا كان الموضوع مغايرا للمحمول في المفهوم ، ومتحدا معه في الخارج ، كما إذا قلنا : زيد إنسان ، فما يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر غير أنّهما متحقّقان بوجود واحد في الخارج.

إذا اتّضح ما تلوناه عليك ، فاعلم أنّ المقصود من أنّ صحّة الحمل أو صحّة السلب علامة للحقيقة والمجاز هو القسم الأوّل ، فصحّة الحمل والهوهوية تكشف عن وحدة المفهوم والمعنى وهو عبارة أخرى عن وضع أحدهما للآخر ، كما أنّ صحّة السلب تكشف عن خلاف ذلك ، مثلا إذا صحّ حمل الحيوان المفترس على الأسد بالحمل الأوّلي يكشف عن أنّ المحمول نفس الموضوع مفهوما ، وهو عبارة أخرى عن وضع أحدهما للآخر ، كما أنّه إذا صحّ سلب الحيوان الناطق عن الأسد بالحمل الأوّلي كما إذا قيل : الأسد ليس حيوانا ناطقا يكشف عن التغاير المفهومي بينهما ، وهو يلازم عدم وضع أحدهما للآخر.

٣. الاطّراد :

هي العلامة الثالثة لتمييز الحقيقة عن المجاز وتوضيح ذلك : إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد كليّ بحيثية خاصّة ، كاستعمال «رجل» باعتبار الرجولية ، في زيد وعمرو وبكر ، مع القطع بعدم كونه موضوعا لكلّ واحد على حدة ، يستكشف منه وجود جامع بين الأفراد قد وضع اللّفظ بازائه.

فالجاهل باللغة إذا أراد الوقوف على معاني اللغات الأجنبية من أهل اللغة ، فليس له سبيل إلاّ الاستماع إلى محاوراتهم ، فإذا رأى أنّ لفظا خاصّا يستعمل مع محمولات عديدة في معنى معيّن ، كما إذا قال الفقيه : الماء طاهر ومطهّر ، وقال الكيميائي : الماء رطب سيال ، وقال الفيزيائي : الماء لا لون له ، يقف على أنّ اللّفظ


موضوع لما استعمل فيه ، لأنّ المصحّح له إمّا الوضع أو العلاقة ، والثاني لا اطّراد فيه ، فيتعيّن الأوّل.

ولنذكر مثالا آخر: إنّ آية الخمس ، أعني قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(الأنفال/٤١) توجب إخراج الخمس عن الغنيمة.

فهل الكلمة (الغنيمة) موضوعة للغنائم المأخوذة في الحرب ، أو تعمّ كلّ فائدة يحوزها الإنسان من طرق شتى؟

يستكشف الثاني عن طريق الاطّراد في الاستعمال ، فإذا تتبعنا الكتاب والسنّة نجد اطّراد استعمالها في كلّ ما يحوزه الإنسان من أيّ طريق كان.

قال سبحانه : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (النساء / ٩٤)، والمراد مطلق النّعم والرزق.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد الزكاة : «اللهمّ اجعلها مغنما» (١) ، وفي مسند أحمد : «غنيمة مجالس الذكر الجنة» ، وفي وصف شهر رمضان : غنم المؤمن.

فهذه الاستعمالات الكثيرة المطّردة ، تكشف عن وضعها للمعنى الأعم.

وهذا هو الطريق المألوف في اقتناص مفاهيم اللغات ومعانيها وفي تفسير لغات القرآن، ومشكلات السنّة ، وعليه قاطبة المحقّقين ، ويطلق على هذا النوع من تفسير القرآن ، التفسير البياني.

__________________

(١) للوقوف على مصادر الروايات عليك بمراجعة الاعتصام بالكتاب والسنّة ، ص ٩٢.


٤. تنصيص أهل اللغة

المراد من تنصيص أهل اللغة هو تنصيص مدوّني معاجم اللغة العربية ، فإنّ مدوّني اللغة الأوائل كالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠ ه‍) مؤلّف كتاب «العين»، والجوهري (ت ٣٩٨ ه‍) مؤلّف الصحاح قد دوّنوا كثيرا من معاني الألفاظ من ألسن القبائل العربية وسكّان البادية ، فتنصيص مثل هؤلاء يكون مفيدا للاطمئنان بالموضوع له.

هذا وسيأتي (١) تفصيل الكلام في حجّية قول اللغوي فانتظر.

الأمر السابع : الأصول اللفظية

إنّ الشكّ في الكلام يتصوّر على نحوين :

أ. الشكّ في المعنى الموضوع له ، كالشكّ في أنّ الصعيد هل وضع للتراب أو لمطلق وجه الأرض؟

ب. الشكّ في مراد المتكلّم بعد العلم بالمعنى الموضوع له.

أمّا النحو الأوّل من الشكّ فقد مرّ الكلام فيه في الأمر السادس ، وعلمت أنّ هناك علامات يميز بها المعنى الحقيقي عن المجازي.

وأمّا النحو الثاني من الشكّ فقد عقد له هذا الأمر ، فنقول : إنّ الشكّ في المراد على أقسام ، وفي كلّ قسم أصل يجب على الفقيه تطبيق العمل عليه ، وإليك الإشارة إلى أقسام الشكّ والأصول التي يعمل بها :

__________________

(١) لاحظ صفحة ١٧٥ من هذا الكتاب.


١. أصالة الحقيقة

إذا شكّ في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي من اللفظ ، بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المعنى المجازيّ مع احتمال وجودها ، كما إذا شك في أنّ المتكلم هل أراد من الأسد في قوله : رأيت أسدا ، الحيوان المفترس أو الجندي الشجاع؟ فعندئذ يعالج الشكّ عند العقلاء بضابطة خاصة ، وهي الأخذ بالمعنى الحقيقي ما لم يدلّ دليل على المعنى المجازي ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الحقيقة.

٢. أصالة العموم

إذا ورد عام في الكلام كما إذا قال المولى : أكرم العلماء وشكّ في ورود التخصيص عليه وإخراج بعض أفراده كالفاسق ، فالأصل هو الأخذ بالعموم وترك احتمال التخصيص ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة العموم.

٣. أصالة الإطلاق

إذا ورد مطلق وشك في كونه تمام الموضوع أو بعضه ، كما قال سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (البقرة / ٢٧٥) واحتمل انّ المراد هو البيع بالصيغة دون مطلقه ، فالمرجع عندئذ هو الأخذ بالإطلاق وإلغاء احتمال التقييد ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الإطلاق.

٤. أصالة عدم التقدير

إذا ورد كلام واحتمل فيه تقدير لفظ خاصّ ، فالمرجع عند العقلاء هو عدم التقدير إلاّ أن تدلّ عليه قرينة ، كما في قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (يوسف/٨٢) والتقدير أهل القرية ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة عدم التقدير.


٥. أصالة الظهور

إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاص دون أن يكون نصّا فيه بحيث لا يحتمل معه الخلاف ، فالأصل الثابت عند العقلاء هو الأخذ بظهور الكلام وإلغاء احتمال الخلاف،وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الظهور.

ثمّ إنّ الأصول السابقة مصاديق لأصالة الظهور.

وهذه الأصول ممّا يعتمد عليها العقلاء في محاوراتهم ولم يردع عنها الشارع فهي حجّة.

الأمر الثامن : الاشتراك والترادف

الاشتراك عبارة عن كون اللفظ الواحد موضوعا لمعنيين أو أكثر بالوضع التعييني أو التعيّني.

ويقابله الترادف ، وهو وضع اللفظين أو الأكثر لمعنى واحد كذلك.

واختلفوا في إمكان الاشتراك أوّلا ووقوعه بعد تسليم إمكانه ثانيا فذهب الأكثر إلى الإمكان ، لأنّ أدلّ دليل عليه هو وقوعه ، فلفظة العين تستعمل في الباكية والجارية ، وفي الذهب والفضة.

ومردّ الاشتراك إلى اختلاف القبائل العربية القاطنة في أطراف الجزيرة في التعبير عن معنى الألفاظ ، فقد كانت تلزم الحاجة طائفة إلى التعبير عن معنى بلفظ ، وتلزم أخرى التعبير بذلك اللّفظ عن معنى آخر ، ولمّا قام علماء اللغة بجمع لغات العرب ظهر الاشتراك اللفظي.

وربّما يكون مردّه إلى استعمال اللّفظ في معناه المجازي بكثرة إلى أن يصبح الثاني معنى حقيقيا ، كلفظ الغائط ، فهو موضوع للمكان الذي يضع فيه الإنسان ،


ثمّ كنّي به عن فضلة الإنسان ، إلى أن صار حقيقة فيها مع عدم هجر المعنى الأوّل.

نعم ربّما يذكر أهل اللغة للفظ واحد معاني عديدة ، ولكنّها ربما تكون من قبيل المصاديق المختلفة لمعنى واحد ، وهذا كثير الوقوع في المعاجم. (١)

وقد اشتمل القرآن على اللّفظ المشترك ، كالنجم المشترك بين الكوكب والنبات الذي لا ساق له ، قال سبحانه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (النجم / ١).

وقال سبحانه : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (الرحمن / ٦).

هذا كلّه في المشترك اللفظي.

وأمّا المشترك المعنوي ، فهو عبارة عن وضع اللّفظ لمعنى جامع يكون له مصاديق مختلفة ، كالشجر الذي له أنواع كثيرة.

تنبيه

إنّ فهم المعنى المجازيّ بحاجة إلى قرينة ، كقولك «يرمي» أو «في الحمام» في «رأيت أسدا يرمي أو في الحمّام» كما أنّ تعيين المعنى المراد من بين المعاني المتعددة للّفظ المشترك يحتاج إلى قرينة كقولنا : «باكية» أو «جارية» في عين باكية ، أو عين جارية، لكن قرينة المجاز قرينة صارفة ومعيّنة ، وقرينة اللفظ المشترك قرينة معيّنة فقط ، والأولى آية المجازية دون الثانية.

__________________

(١) ذكر الفيروزآبادي في كتاب «القاموس المحيط» للقضاء معاني متعددة كالحكم ، الصنع ، الحتم ، البيان ، الموت ، الإتمام وبلوغ النهاية ، العهد ، الإيصاء ، الأداء مع أنّ الجميع مصاديق مختلفة لمعنى فارد ، ولذلك أرجعها صاحب المقاييس إلى أصل واحد ، فلاحظ.


الأمر التاسع : استعمال المشترك في أكثر من معنى

إذا ثبت وجود اللّفظ المشترك ، يقع الكلام حينئذ في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد في استعمال واحد ، بمعنى أن يكون كل من المعنيين مرادا باستقلاله ، كما إذا قال : اشتريت العين ، واستعمل العين في الذهب والفضة.

فخرج ما إذا استعمله في معنى جامع صادق على كلا المعنيين ، كما إذا استعمل العين في «المسمّى بالعين» فإنّ الذهب والفضة داخلان تحت هذا العنوان ، فهذا النوع من الاستعمال ليس من قبيل استعمال المشترك في أكثر من معنى.

إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّه اختلف في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد على أقوال أربعة :

أ. الجواز مطلقا.

ب. المنع مطلقا.

ج. التفصيل بين المفرد وغيره والتجويز في الثاني.

د. التفصيل بين الإثبات والنفي والتجويز في الثاني.

والحق جوازه مطلقا ، وأدلّ دليل على إمكانه وقوعه ، ويجد المتتبع في كلمات الأدباء نماذج من هذا النوع في الاستعمال : يقول الشاعر في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

المرتمي في الدجى ، والمبتلى بعمى

والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

يأتون سدّته من كلّ ناحية

ويستفيدون من نعمائه عينا

فاستخدم الشاعر لفظ «العين» في الشمس ، والبصر ، والماء الجاري والذهب ؛ حيث إنّ المرتمي في الدجى ، يطلب الضياء ؛ والمبتلى بالعمى ، يطلب العين الباصرة ؛ والإنسان الظمآن يريد الماء ؛ والمستدين يطلب الذهب.


الأمر العاشر : الحقيقة الشرعية

ذهب أكثر الأصوليين إلى أنّ ألفاظ العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج كانت عند العرب قبل الإسلام مستعملة في معانيها اللغوية على وجه الحقيقة ، أعني : الدعاء ، والإمساك ، والنمو ، والقصد ، وهذا ما يعبّر عنه بالحقيقة اللغوية.

وإلى أنّ تلك الألفاظ في عصر الصادقين عليهما‌السلام وقبلهما بقليل ، كانت ظاهرة في المعاني الشرعية الخاصة بحيث كلّما أطلقت الصلاة والصوم والزكاة تتبادر منها معانيها الشرعية.

إنّما الاختلاف في أنّه كيف صارت هذه الألفاظ حقيقة في المعاني الشرعية في عصر الصادقين عليهما‌السلام وقبلهما بقليل؟ فهنا قولان :

أ. ثبوت الحقيقة الشرعية في عصر النبوّة.

ب. ثبوت الحقيقة المتشرّعية بعد عصر النبوة.

أمّا الأوّل : فحاصله : أنّ تلك الألفاظ نقلت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني حتى صارت حقائق شرعية في تلك المعاني في عصره ، لأنّ تلك الألفاظ كانت كثيرة التداول بين المسلمين لا سيّما الصلاة التي يؤدّونها كلّ يوم خمس مرّات ويسمعونها كرارا من فوق المآذن.

ومن البعيد أن لا تصبح حقائق في معانيها المستحدثة في وقت ليس بقليل.

وأما الثاني فحاصله : أنّ صيرورة تلك الألفاظ حقائق شرعية على لسان


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتوقف على الوضع وهو إمّا تعييني أو تعيّني ، والأوّل بعيد جدا ، وإلاّ نقل إلينا، والثاني يتوقف على كثرة الاستعمال التي هي بحاجة إلى وقت طويل ، وأين هذا من قصر مدّة عصر النبوّة؟!

يلاحظ عليه : أنّ عصر النبوّة استغرق ٢٣ عاما ، وهي فترة ليست قصيرة لحصول الوضع التعيّني على لسانه ، وإنكاره مكابرة.

ثمرة البحث

وأمّا ثمرة البحث بين القولين ، فتظهر في الألفاظ الواردة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا قرينة ، فتحمل على الحقيقة الشرعية بناء على ثبوتها وعلى الحقيقة اللغوية بناء على إنكارها.

والظاهر انتفاء الثمرة مطلقا ، لعدم الشكّ في معاني الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة لكي يتوقف فهم معانيها على ثبوت الحقيقة الشرعية أو نفيها إلاّ نادرا.

الأمر الحادي عشر : الصحيح والأعم

هل أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحيح منهما ، أو لأعمّ منه؟

تطلق الصحّة في اللغة تارة على ما يقابل المرض ، فيقال : صحيح وسقيم.

وأخرى على ما يقابل العيب ، فيقال : صحيح ومعيب.

وأمّا الصحة اصطلاحا في العبادات فقد عرّفت تارة بمطابقة المأتي به للمأمور به ، وأخرى بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء ، ويقابلها الفساد. وأمّا في المعاملات فقد عرّفت بما يترتّب عليه الأثر المطلوب منها ، كالملكية في البيع ، والزوجية في النكاح وهكذا.


والمراد من وضع العبادات للصحيح هو أنّ ألفاظ العبادات وضعت لما تمّت أجزاؤها وكملت شروطها ، أو لأعمّ منه ومن الناقص.

المعروف هو القول الأوّل ، واستدلّ له بوجوه (١) مسطورة في الكتب الأصولية أوضحها : إنّ الصلاة ماهية اعتبارية جعلها الشارع لآثار خاصّة وردت في الكتاب والسنّة ، منها : كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، أو معراج المؤمن ، وغيرهما ، وهذه الآثار إنّما تترتب على الصحيح لا على الأعمّ منه ، وهذا (أي ترتّب الأثر على الصحيح) ممّا يبعث الواضع إلى أن يضع الألفاظ لما يحصّل أغراضه ويؤمّن أهدافه ، وليس هو إلاّ الصحيح. لأنّ الوضع للأعمّ الذي لا يترتّب عليه الأثر ، أمر لغو.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه أوضحها صحّة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة.

وأجيب عنه بأنّ غاية ما يفيده هذا التقسيم هو استعمال الصلاة في كلّ من الصحيح والفاسد ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وأمّا المعاملات فهنا تصويران :

الأوّل : أنّ ألفاظ العقود ، كالبيع والنكاح ؛ والإيقاعات ، كالطلاق والعتق، موضوعة للأسباب التي تسبّب الملكية والزوجية والفراق والحرية ، ونعني بالسبب إنشاء العقد والإيقاع، كالإيجاب والقبول في العقود ، والإيجاب فقط كما في الإيقاع.

وعليه يأتي النزاع في أنّ ألفاظها هل هي موضوعة للصحيحة التامّة الأجزاء

__________________

(١) التبادر وصحّة الحمل وصحّة السلب عن الأعمّ وغيرها.


والشرائط المؤثرة في المسبب ، أو لأعمّ من التام والناقص غير المؤثر في المسبب؟

الثاني : أن تكون الألفاظ موضوعة للمسببات ، أي ما يحصل بالأسباب كالملكية والزوجية والفراق والحرية ، وبما أنّ المسببات من الأمور البسيطة ، التي يدور أمرها بين الوجود والعدم ، فلا يأتى على هذا الفرض ، النزاع السابق لأنّ الملكية إمّا موجودة وإمّا معدومة كما أنّ الزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة ، ولا تتصوّر فيهما ملكية أو زوجة فاسدة.

الأمر الثاني عشر : هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل أو أعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ

إنّه اتّفقت كلمتهم على أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدإ بالفعل ومجاز فيما يتلبّس به في المستقبل ، واختلفوا فيما انقضى عنه التلبّس ، مثلا إذا ورد النهي عن التوضّؤ بالماء المسخّن بالشمس ، فتارة يكون الماء موصوفا بالمبدإ بالفعل ، وأخرى يكون موصوفا به في المستقبل ، وثالثة كان موصوفا به لكنّه زال وبرد الماء ، فإطلاق المشتق على الأوّل حقيقة، ودليل الكراهة شامل له ، كما أنّ إطلاقه على الثاني مجاز لا يشمله دليلها ، وأمّا الثالث فكونه حقيقة أو مجازا وبالتالي شمول دليلها له وعدمه مبنيّ على تحديد مفهوم المشتق ، فلو قلنا بأنّه موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل يكون الإطلاق مجازيا والدليل غير شامل له ، ولو قلنا بأنّه موضوع لما تلبّس به ولو آناً ما فيكون الإطلاق حقيقيّا والدليل شاملا له.

والمشهور انّه موضوع للمتلبس بالفعل.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا :


١. الفرق بين المشتق النحويّ والأصولي

المشتق عند النحاة يقابل الجامد ، فيشمل الماضي والمضارع والأمر والنهي واسم الفاعل ومصادر أبواب المزيد.

وأمّا المشتق عند الأصوليّين ، فهو عبارة عمّا يحمل على الذات باعتبار اتصافها بالمبدإ واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، ولا تزول الذات بزواله فخرجت الأفعال قاطبة والمصادر لعدم صحّة حملهما على الذوات على نحو الهوهوية ، والأوصاف التي تزول الذات بزوالها كالناطق فلم يندرج فيه إلاّ اسم الفاعل والمفعول وأسماء الزمان والمكان والآلات والصفات المشبهة وصيغ المبالغة وأفعل التفضيل ويشمل حتى الزوجة والرق والحر لوجود الملاك المذكور في جميعها ، فإذن النسبة بين المشتق النحوي والمشتق الأصولي عموم وخصوص من وجه. (١)

٢. اختلاف أنحاء التلبّسات حسب اختلاف المبادئ

ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم انّ بعضها حقيقة في المتلبس وبعضها في الأعمّ ، نظير الكاتب والمجتهد والمثمر ، فما يكون المبدأ فيه حرفة أو ملكة أو قوّة تصدق فيه هذه الثلاثة وإن زال التلبّس ، فهي موضوعة للأعم بشهادة صدقها مع عدم تلبّسها بالكتابة والاجتهاد والإثمار بخلاف غيرها ممّا كان المبدأ فيه أمرا فعليا ، كالأبيض والأسود.

__________________

(١) فيجتمعان في أسماء الفاعلين والمفعولين وأمثالهما ، ويفترقان في الفعل الماضي والمضارع ، فيطلق عليهما المشتق النحوي دون الأصولي ؛ وفي الجوامد كالزوج والرق ، فيطلق عليهما المشتق الأصولي دون النحوي.


يلاحظ عليه : أنّ المبدأ يؤخذ تارة على نحو الفعلية كقائم ، وأخرى على نحو الحرفة كتاجر ، وثالثة على نحو الصناعة كنجّار ، ورابعة على نحو القوّة كقولنا : شجرة مثمرة ، وخامسة على نحو الملكة كمجتهد.

فإذا اختلفت المبادئ جوهرا ومفهوما لاختلفت أنحاء التلبّسات بتبعها أيضا ، وعندئذ يختلف بقاء المبدأ حسب اختلاف المبادئ ، ففي القسم الأوّل يشترط في صدق التلبّس تلبّس الذات بالمبدإ فعلا ، وفي القسم الثاني والثالث يكفي عدم إعراضه عن حرفته وصناعته وإن لم يكن ممارسا بالفعل ، وفي الرابع يكفي كونه متلبّسا بقوة الإثمار وإن لم يثمر فعلا، وفي الخامس يكفي حصول الملكة وإن لم يمارس فعلا ، فالكلّ داخل تحت المتلبّس بالمبدإ بالفعل، وبذلك علم أنّ اختلاف المبادئ يوجب اختلاف طول زمان التلبّس وقصره ولا يوجب تفصيلا في المسألة.

فما تخيّله القائل مصداقا لما انقضى عنه المبدأ ، فإنّما هو من مصاديق المتلبّس ومنشأ التخيّل هو أخذ المبدأ في الجميع على نسق واحد ، وقد عرفت أنّ المبادئ على أنحاء.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم وضيقها وأنّ الموضوع له هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدإ أو أعمّ من تلك الذات المنقضي عنها المبدأ فعلى القول بالأخصّ ، يكون مصداقه منحصرا في الذات المتلبّسة ، وعلى القول بالأعمّ يكون مصداقه أعمّ من هذه وممّا انقضى عنها المبدأ.

* * *

استدلّ المشهور على أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدإ بالفعل بأمرين :

١. التبادر ، إنّ المتبادر من المشتق هو المتلبس بالمبدإ بالفعل ، فلو قيل :


صلّ خلف العادل ، أو أدّب الفاسق ، أو قيل : لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون ، أو لا يؤم الأعرابي المهاجرين ؛ لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدإ في حال الاقتداء.

٢. صحّة السلب عمّن انقضى عنه المبدأ ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل انّه قائم إذا زال عنه القيام ، ولا لمن هو جاهل بالفعل ، انّه عالم إذا نسي علمه. وأمّا القائلون بالأعم فاستدلّوا بوجهين :

الأوّل : صدق أسماء الحرف كالنجار على من انقضى عنه المبدأ ، مثل أسماء الملكات كالمجتهد.

وقد عرفت الجواب عنه وأنّ الجميع من قبيل المتلبّس بالمبدإ لا الزائل عنه المبدأ.

الثاني : لو تلبس بالمبدإ في الزمان الماضي يصح أن يقال انّه ضارب باعتبار تلبّسه به في ذلك الزمان.

يلاحظ عليه : أنّ اجراء المشتق على الموضوع في المثال المذكور يتصوّر على وجهين :

أ. أن يكون زمان التلبّس بالمبدإ في الخارج متحدا مع زمان النسبة الكلامية ، كأن يقول زيد ضارب أمس ، حاكيا عن تلبّسه بالمبدإ في ذلك الزمان ، فهو حقيقة ومعدود من قبيل المتلبّس لأنّ المراد كونه ضاربا في ذلك الظرف.

ب. أن يكون زمان التلبّس بالمبدإ في الخارج مختلفا مع زمان النسبة الكلامية ، كأن يقول : زيد ـ باعتبار تلبّسه بالمبدإ أمس ـ ضارب الآن ، فالجري مجاز ومن قبيل ما انقضى عنه المبدأ.


تطبيق

١. قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أين يتوضأ الغرباء؟ قال : «تتّقي شطوط الأنهار ، والطرق النافذة ، وتحت الأشجار المثمرة». (١)

فعلى القول بالوضع للمتلبس بالمبدإ يختص الحكم بما إذا كانت مثمرة فعلا ، بخلاف القول بأعم من المتلبس وغيره فيشمل الشجرة المثمرة ولو بالقوة كما إذا فقدت قوّة الإثمار لأجل طول عمرها.

٢. عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المرأة ماتت وليس معها امرأة تغسلها ، قال : «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق». (٢)

فلو قلنا بأنّ المشتق حقيقة في المنقضي أيضا ، فيجوز للزوج المطلّق تغسيلها عند فقد المماثل وإلاّ فلا.

إذا وقفت على تلك الأمور ، فاعلم أنّ كتابنا هذا مرتّب على مقاصد ، وكلّ مقصد يتضمن فصولا :

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ١٥ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ٢ ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميت ، الحديث ٨.


المقصد الأوّل

في الأوامر وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة الأمر.

الفصل الثاني : في هيئة الأمر.

الفصل الثالث : في إجزاء امتثال الأمر الواقعي والظاهري.

الفصل الرابع : مقدمة الواجب وتقسيماتها.

الفصل الخامس : في تقسيمات الواجب.

الفصل السادس : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

الفصل السابع : إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز.

الفصل الثامن : الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلك الفعل.

الفصل التاسع : الأمر بالشيء بعد الأمر به تأكيد أو تأسيس.


الفصل الأوّل

في مادّة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : لفظ الأمر مشترك لفظي

إنّ لفظ الأمر مشترك لفظي بين معنيين هما :

الطلب والفعل ، وإليهما يرجع سائر المعاني التي ذكرها أهل اللغة.

لا خلاف بين الجميع في صحّة استعماله في الطلب كقوله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور / ٦٣).

وإنّما الخلاف في المعنى الثاني ، والظاهر صحّة استعماله في الفعل لوروده في القرآن. كقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ)(آل عمران / ١٥٤) ، : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (البقرة / ٢١٠) و (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران / ١٥٩).

ثمّ الأمر إن كان بمعنى الطلب ـ أي طلب الفعل من الغير ـ فيجمع على أوامر ، كما أنّه إذا كان بمعنى الفعل فيجمع على أمور والاختلاف في صيغة الجمع دليل على أنّه موضوع لمعنيين مختلفين.


المبحث الثاني : اعتبار العلوّ والاستعلاء في صدق مادّة الأمر بمعنى الطلب

اختلف الأصوليون في اعتبار العلو والاستعلاء في صدق الأمر بمعنى الطلب على أقوال:

١. يعتبر في صدق مادة الأمر وجود العلوّ في الآمر دون الاستعلاء ، لكفاية صدور الطلب من العالي وإن كان مستخفضا لجناحه عند العقلاء ، وهوخيرة المحقّق الخراساني قدس‌سره

٢. يعتبر في صدق مادة الأمر كلا الأمرين ، فلا يعدّ كلام المولى مع عبده أمرا إذا كان على طريق الاستدعاء ، وهو خيرة السيد الإمام الخميني قدس‌سره.

٣. يعتبر في صدق مادة الأمر أحد الأمرين : العلو أو الاستعلاء ، أمّا كفاية العلو فلما تقدّم في دليل القول الأوّل ، وأمّا كفاية الاستعلاء ، فلأنّه يصحّ تقبيح الطالب السافل المستعلي ، ممّن هو أعلى منه وتوبيخه بمثل «إنّك لم تأمرني؟».

٤. لا يعتبر في صدق مادة الأمر واحد منهما ، وهو خيرة المحقّق البروجردي قدس‌سره.

الظاهر هو القول الثاني ، فإنّ لفظ الأمر في اللغة العربية معادل للفظ «فرمان» في اللغة الفارسية ، وهو يتضمن علوّ صاحبه ، ولذلك يذم إذا أمر ولم يكن عاليا.

وأمّا اعتبار الاستعلاء فلعدم صدقه إذا كان بصورة الاستدعاء ، ويشهد له قول بريرة(١) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تأمرني يا رسول الله؟ قال : إنّما أنا شافع» فلو كان

__________________

(١) روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس : لما خيّرت بريرة (بعد ما أعتقت وخيّرت بين البقاء مع زوجها أو الانفصال عنه) رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته ، فكلّم العباس ليكلّم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة انّه زوجك ، فقالت : تأمرني يا رسول الله؟ قال : «إنّما أنا شافع» ، قال : فخيّرها فاختارت نفسها. (مسند أحمد : ١ / ٢١٥).


مجرد العلو كافيا لما انفك طلبه من كونه أمرا.

المبحث الثالث : في دلالة مادة الأمر على الوجوب

إذا طلب المولى من عبده شيئا بلفظ الأمر كأن يقول : آمرك بكذا ، فهل يدل كلامه على الوجوب أو لا؟

الظاهر هو الأوّل ، لأنّ السامع ينتقل من سماع لفظ الأمر إلى لزوم الامتثال الذي يعبّر عنه بالوجوب ، ويؤيّد هذا الانسباق والتبادر بالآيات التالية :

١. قوله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور / ٦٣) حيث هدّد سبحانه على مخالفة الأمر ، والتهديد دليل الوجوب.

٢. قوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (الأعراف / ١٢) حيث ذمّ سبحانه إبليس لمخالفة الأمر ، والذم آية الوجوب.

٣. قوله تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)(التحريم/٦) حيث سمّى سبحانه مخالفة الأمر عصيانا ، والوصف بالعصيان دليل الوجوب.

مضافا إلى ما ورد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك».(١)ولزوم المشقّة آية كونه مفيدا للوجوب إذ لا مشقّة في الاستحباب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الطهارة ، أبواب السواك ، الباب ٣ ، الحديث ٤.


الفصل الثاني

في هيئة الأمر

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في بيان مفاد الهيئة

اختلفت كلمة الأصوليين في معنى هيئة افعل على أقوال منها :

١. انّها موضوعة للوجوب.

٢. انّها موضوعة للندب.

٣. انّها موضوعة للجامع بين الوجوب والندب ، أي الطلب إلى غير ذلك.

والحقّ انّها موضوعة لإنشاء البعث إلى إيجاد متعلّقه ويدلّ عليه التبادر والانسباق ، فقول المولى لعبده : اذهب إلى السوق واشتر اللحم عبارة أخرى عن بعثه إلى الذهاب وشراء اللحم.

ثمّ إنّ بعث العبد إلى الفعل قد يكون بالإشارة باليد ، كما إذا أشار المولى بيده إلى خروج العبد وتركه المجلس ، وأخرى بلفظ الأمر كقوله : اخرج ، فهيئة افعل في الصورة الثانية قائمة مقام الإشارة باليد ، فكما أنّ الإشارة باليد تفيد البعث إلى المطلوب ، فهكذا القائم مقامها من صيغة افعل ، وإنّما الاختلاف في كيفية الدلالة ،


فدلالة الهيئة على إنشاء البعث لفظية بخلاف دلالة الأولى.

سؤال : انّ هيئة افعل وإن كانت تستعمل في البعث كقوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة / ٤٣) أو قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة /١) ولكن ربما تستعمل في غير البعث أيضا :كالتعجيز مثل قوله سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة / ٢٣).

والتمنّي كقول الشاعر :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

إلى غير ذلك من المعاني المختلفة المغايرة للبعث. فيلزم أن تكون الهيئة مشتركة بين المعاني المختلفة من البعث والتعجيز والتمنّي.

الجواب : انّ هيئة افعل قد استعملت في جميع الموارد في البعث إلى المتعلّق والاختلاف إنّما هو في الدواعي ، فتارة يكون الداعي من وراء البعث هو إيجاد المتعلّق في الخارج ، وأخرى يكون الداعي هو التعجيز ، وثالثة التمني ، ورابعة هو الإنذار كقوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة / ١٠٥) إلى غير ذلك من الدواعي ، ففي جميع الموارد يكون المستعمل فيه واحدا وإنّما الاختلاف في الدواعي من وراء إنشائه.

ونظير ذلك ، الاستفهام فقد يكون الداعي هو طلب الفهم ، وأخرى أخذ الإقرار مثل قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / ٩).

والمستعمل فيه في الجميع واحد وهو إنشاء طلب الفهم.


المبحث الثاني : دلالة هيئة الأمر على الوجوب

قد عرفت أنّ هيئة افعل موضوعة لإنشاء البعث وأنّها ليست موضوعة للوجوب ولا للندب ، وإنّهما خارجان عن مدلول الهيئة ـ ومع ذلك ـ هناك بحث آخر ، وهو أنّه لا إشكال في لزوم امتثال أمر المولى إذا علم أنّه يطلب على وجه اللزوم إنّما الكلام فيما إذا لم يعلم فهل يجب امتثاله أو لا؟ الحقّ هو الأوّل.

لأنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل المؤمّن في دائرة المولوية والعبودية ولا يصحّ ترك المأمور به بمجرّد احتمال أن يكون الطلب طلبا ندبيا وهذا ما يعبّر عنه في سيرة العقلاء بأنّ ترك المأمور به لا بدّ أن يستند إلى عذر قاطع ، فخرجنا بالنتيجة التالية :

١. انّ المدلول المطابقي لهيئة افعل هو إنشاء البعث.

٢. الوجوب ولزوم الامتثال مدلول التزامي لها بحكم العقل.

المبحث الثالث : استفادة الوجوب من أساليب أخرى

إنّ للقرآن والسنّة أساليب أخرى في بيان الوجوب والإلزام غير صيغة الأمر ، فتارة يعبّر عنه بلفظ الفرض والكتابة مثل قوله سبحانه : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ)(التحريم / ٢) ، وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (البقرة / ١٨٢) ، وقال : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء / ١٠٣).

وأخرى يجعل الفعل في عهدة المكلّف قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران / ٩٧).

وثالثة يخبر عن وجود شيء في المستقبل مشعرا بالبعث الناشئ عن إرادة


أكيدة ، قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة / ٢٣٣).

وأمّا السنّة فقد تظافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت في أبواب الطهارة والصلاة وغيرهما كقولهم : «يغتسل» ، «يعيد الصلاة» أو «يستقبل القبلة» فالجمل الخبرية في هذه الموارد وإن استعملت في معناها الحقيقي ، أعني : الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل ، لكن بداعي الطلب والبعث. وقد عرفت أنّ بعث المولى لا يترك بلا دليل.

المبحث الرابع : الأمر عقيب الحظر

إذا ورد الأمر عقيب الحظر فهل يحمل الأمر على الوجوب أو لا؟

فمثلا قال سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

ثمّ قال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...) (المائدة / ١ و ٢).

فقد اختلف الأصوليون في مدلول هيئة الأمر عقيب الحظر على أقوال :

أ. ظاهرة في الوجوب.

ب. ظاهرة في الإباحة.

ج. فاقدة للظهور.

والثالث هو الأقوى ، لأنّ تقدّم الحظر يصلح لأن يكون قرينة على أنّ الأمر الوارد بعده لرفع الحظر لا للإيجاب ، فتكون النتيجة هي الإباحة ، كما يحتمل أنّ المتكلم لم يعتمد على تلك القرينة وأطلق الأمر لغاية الإيجاب ، فتكون النتيجة هي الوجوب ، ولأجل الاحتمالين يكون الكلام مجملا.


نعم إذا قامت القرينة على أنّ المراد هو رفع الحظر فهو أمر آخر خارج عن البحث.

المبحث الخامس : المرّة والتكرار

إذا دلّ الدليل على أنّ المولى يطلب الفعل مرّة واحدة كقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران / ٩٧) ، أو دلّ الدليل على لزوم التكرار كقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة / ١٨٥) فيتبع مدلوله.

وأمّا إذا لم يتبيّن واحد من الأمرين ، فهل تدلّ على المرّة أو على التكرار أو لا تدلّ على واحد منهما؟

الحقّ هو الثالث ، لأنّ الدليل إمّا هو هيئة الأمر أو مادته ، فالهيئة وضعت لنفس البعث ، والمادّة وضعت لصرف الطبيعة ، فليس هناك ما يدلّ على المرّة والتكرار واستفادتهما من اللفظ بحاجة إلى دليل.

المبحث السادس : الفور والتراخي

اختلف الأصوليون في دلالة هيئة الأمر على الفور أو التراخي على أقوال :

١. انّها تدلّ على الفور.

٢. انّها تدلّ على التراخي.

٣. انّها لا تدلّ على واحد منهما.

والحقّ هو القول الثالث لما تقدّم في المرّة والتكرار من أنّ الهيئة وضعت للبعث ، والمادة وضعت لصرف الطبيعة ، فليس هناك ما يدلّ على واحد منهما.


استدل القائل بالفور بآيتين :

١. قوله سبحانه : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران / ١٣٣).

وجه الاستدلال : ان المغفرة فعل لله تعالى ، فلا معنى لمسارعة العبد إليها ، فيكون المراد هو المسارعة إلى أسباب المغفرة ومنها فعل المأمور به.

يلاحظ عليه : بأنّ أسباب المغفرة لا تنحصر بالواجبات إذ المستحبات أيضا من أسبابها ، وعندئذ لا يمكن أن تكون المسارعة واجبة مع كون أصل العمل مستحبا.

٢. قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (المائدة / ٤٨).

فظاهر الآية وجوب الاستباق نحو الخير والإتيان بالفرائض ـ الذي هو من أوضح مصاديقه ـ فورا.

يلاحظ عليه : أنّ مفاد الآية بعث العباد نحو العمل بالخير بأن يتسابق كلّ على الآخر مثل قوله سبحانه : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) (يوسف / ٢٥) ولا صلة للآية بوجوب مبادرة كلّ مكلّف إلى ما وجب عليه وإن لم يكن في مظنة السبق.


الفصل الثالث

الإجزاء

تصدير

لا نزاع في أنّ المكلّف إذا امتثل ما أمر به مولاه على الوجه المطلوب ـ أي جامعا لما هو معتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط ـ يعدّ ممتثلا لذلك الأمر ومسقطا له من دون حاجة إلى امتثال ثان.

دليل ذلك : انّ الهيئة تدلّ على البعث أو الطلب ، والمادة تدلّ على الطبيعة وهي توجد بوجود فرد واحد ، فإذا امتثل المكلّف ما أمر به بإيجاد مصداق واحد منه فقد امتثل ما أمر به ولا يبقى لبقاء الأمر بعد الامتثال وجه.

وإنّما النزاع في إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياري وإجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وهاهنا مبحثان :

المبحث الأوّل : إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياريّ

الصلوات اليومية واجبة بالطهارة المائية قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...) (المائدة / ٦).

وربما يكون المكلّف غير واجد للماء فجعلت الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية لأجل الاضطرار ، قال سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ


مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة / ٦).

فالصلاة بالطهارة المائية فرد اختياري والأمر به أمر واقعي أوّلي ، كما أنّ الصلاة بالطهارة الترابية فرد اضطراريّ والأمر به أمر واقعي ثانوي ، فيقع الكلام في أنّ المكلّف إذا امتثل المأمور به في حال الاضطرار على الوجه المطلوب ، فهل يسقط الأمر الواقعي الأوّلي بمعنى أنّه لو تمكّن من الماء بعد إقامة الصلاة بالتيمم ، لا تجب عليه الإعادة ولا القضاء ، أو لا يسقط؟ أمّا سقوط أمر نفسه فقد علمت أنّ امتثال أمر كلّ شيء مسقط له.

ثمّ إنّ للمسألة صورتين :

تارة يكون العذر غير مستوعب ، كما إذا كان المكلّف فاقدا للماء في بعض أجزاء الوقت وقلنا بجواز البدار فصلّى متيمّما ثمّ صار واجدا له.

وأخرى يكون العذر مستوعبا ، كما إذا كان فاقدا للماء في جميع الوقت فصلّى متيمّما ، ثمّ ارتفع العذر بعد خروج الوقت.

فالكلام في القسم الأوّل في وجوب الإعادة في الوقت ، والقضاء خارجه ، كما أنّ الكلام في الثاني في وجوب القضاء.

والدليل على الإجزاء أنّه إذا كان المتكلم في مقام البيان لما يجب على المكلّف عند الاضطرار ، ولم يذكر إلاّ الإتيان بالفرد الاضطراري من دون إشارة إلى إعادته أو قضائه بعد رفع العذر ، فظاهر ذلك هو الإجزاء فمثلا : انّ ظاهر قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة / ٦) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر


يكفيك الصعيد عشر سنين». (١) وقول الصادق عليه‌السلام في رواية أخرى : «إنّ ربّ الماء ربّ الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». (٢) هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ، وإلاّ لوجب عليه البيان فلا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.

ولو افترضنا عدم كون المتكلّم في مقام البيان في دليل البدل وكونه ساكتا عن الإعادة والقضاء ، فمقتضى الأصل أيضا هو البراءة وسيأتي تفصيله.

المبحث الثاني : في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي

الكلام في إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن امتثال الأمر الواقعي يتوقف على توضيح الأمر الظاهري أوّلا ، ثمّ البحث عن الإجزاء ثانيا.

ينقسم الحكم عند الأصوليين إلى واقعي وظاهري.

أمّا الحكم الواقعي : فهو الحكم الثابت للشيء بما هو هو أي من غير لحاظ كون المكلّف جاهلا بالواقع أو شاكّا فيه ، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الأحكام القطعية.

وأمّا الحكم الظاهري ، فهو الحكم الثابت للشيء عند عدم العلم بالحكم الواقعي ، وهذا كالأحكام الثابتة بالأمارات والأصول. (٣)

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في أنّ العمل بالأمارة أو الأصول هل يقتضي الإجزاء عن امتثال الأمر الواقعي أو لا؟

فمثلا إذا دلّ خبر الواحد على كفاية التسبيحة الواحدة في الركعتين

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ج ٢ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ١٢ و ١٥.

(٣) ما ذكر في المتن أحد الاصطلاحين في الحكم الظاهري ، وربما يخصّ الظاهري بالحكم الثابت بالأصول العملية، ويعطف الحكم الثابت بالأمارات ، إلى الحكم الواقعي.


الأخيرتين ، أو دلّ على عدم وجوب السورة الكاملة ، أو عدم وجوب الجلوس بعد السجدة الثانية ، فطبّق العمل على وفق الأمارة ثمّ تبيّن خطؤها ، فهل يجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء خارجه أو لا؟

أو إذا صلّى في ثوب مستصحب الطهارة ثمّ تبيّن أنّه نجس ، فهل يجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء بعده أو لا؟

فيه أقوال ثالثها الإجزاء مطلقا من غير فرق بين كون الامتثال بالأمارة أو الأصل.


الفصل الرابع

مقدّمة الواجب

تعريف المقدّمة

«ما يتوصل بها إلى شيء آخر على وجه لولاها لما أمكن تحصيله» من غير فرق بين كون المقدّمة منحصرة ، أو غير منحصرة ، غاية الأمر أنّها لو كانت منحصرة لانحصر رفع الاستحالة بها ، وإن كانت غير منحصرة لانحصر رفع الاستحالة في الإتيان بها أو بغيرها ، وقد وقع الخلاف في وجوب مقدمة الواجب شرعا بعد اتفاق العقلاء على وجوبها عقلا ، وقبل الدخول في صلب الموضوع نذكر أقسام المقدّمة :

فنقول : إنّ للمقدّمة تقسيمات مختلفة :

الأوّل : تقسيمها إلى داخلية وخارجية

المقدّمة الداخلية : وهي جزء المركب ، أو كلّ ما يتوقف عليه المركّب وليس له وجود مستقل خارج عن وجود المركّب كالصلاة فانّ كلّ جزء منها مقدّمة داخليّة باعتبار أنّ المركّب متوقّف في وجوده على أجزائه ، فكلّ جزء في نفسه مقدّمة لوجود المركّب ، وإنّما سمّيت داخلية لأنّ الجزء داخل في قوام المركّب ، فالحمد أو الركوع بالنسبة إلى الصلاة مقدّمة داخلية.


المقدّمة الخارجية : وهي كلّ ما يتوقف عليه الشيء وله وجود مستقل خارج عن وجود الشيء ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

الثاني : تقسيمها إلى عقلية وشرعية وعادية

المقدّمة العقلية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه عقلا ، كتوقف الحج على قطع المسافة.

المقدّمة الشرعية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه شرعا ، كتوقّف الصلاة على الطهارة.

المقدّمة العادية : ما يكون توقّف ذي المقدّمة عليه عادة ، كتوقّف الصعود إلى السطح على نصب السلّم.

الثالث : تقسيمها إلى مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم

الملاك في هذا التقسيم غير الملاك في التقسيمين الماضيين ، فانّ الملاك في التقسيم الأوّل هو تقسيم المقدّمة بلحاظ نفسها وفي الثاني تقسيمها بلحاظ حاكمها وهو إمّا العقل أو الشرع أو العادة وفي التقسيم الثالث تقسيمها باعتبار ذيها وإليك البيان.

مقدّمة الوجود : هي ما يتوقف وجود ذي المقدمة عليها كتوقف المسبب على سببه.

مقدّمة الصحّة : هي ما تتوقف صحّة ذي المقدّمة عليها كتوقف صحّة العقد الفضولي على إجازة المالك.

مقدّمة الوجوب : هي ما يتوقف وجوب ذي المقدمة عليها كتوقف وجوب الحجّ على الاستطاعة.


مقدّمة العلم : هي ما يتوقّف العلم بتحقّق ذي المقدمة عليها ، كتوقّف العلم بالصلاة إلى القبلة ، على الصلاة إلى الجهات الأربع.

والنزاع في وجوب المقدّمة وعدمه إنّما هو في القسمين الأوّلين أي مقدّمة الوجود والصحّة ، وأمّا مقدّمة الوجوب فهي خارجة عن محطّ النزاع ، لأنّها لو لا المقدّمة لما وصف الواجب بالوجوب ، فكيف تجب المقدّمة بالوجوب الناشئ من قبل الواجب ، المشروط وجوبه بها؟

وأمّا المقدّمة العلمية فلا شكّ في خروجها عن محطّ النزاع ، فإنّها واجبة عقلا لا غير، ولو ورد في الشرع الأمر بالصلاة إلى الجهات الأربع ، فهو إرشاد إلى حكم العقل.

الرابع : تقسيمها إلى السبب والشرط والمعدّ والمانع

ملاك هذا التقسيم هو اختلاف كيفية تأثير كلّ في ذيها ، غير أنّ تأثير كلّ يغاير نحو تأثير الآخر ، وإليك تعاريفها.

السبب : ما يكون منه وجود المسبب وهذا ما يطلق عليه المقتضي ، كالدلوك فانّه سبب لوجوب الصلاة ، وشغل ذمة المكلّف بها لقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (الإسراء / ٧٨).

الشرط : ما يكون مصححا إمّا لفاعلية الفاعل ، أو لقابلية القابل ، وهذا كمجاورة النار للقطن ، أو كجفاف الحطب شرط احتراقه بالنار. ومثاله الشرعي كون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة ، والاستطاعة المالية شرطا لوجوب الحج.

المعدّ : ما يقرّب العلّة إلى المعلول كارتقاء السلّم ، فإنّ الصعود إلى كلّ درجة ، معدّ للصعود إلى الدرجة الأخرى.


المانع : ما يكون وجوده مانعا عن تأثير المقتضي ، كالقتل حيث جعله الشارع مانعا من الميراث ، والحدث مانعا من صحّة الصلاة.

الخامس : تقسيمها إلى مفوّتة وغير مفوّتة

المقدّمة المفوّتة : عبارة عن المقدّمة التي يحكم العقل بوجوب الإتيان بها قبل وجوب ذيها على وجه لو لم يأت بها قبله لما تمكّن من الإتيان بالواجب في وقته ، كقطع المسافة للحجّ قبل حلول أيّامه بناء على تأخر وجوب الحجّ إلى أن يحين وقته ، فبما أنّ ترك قطع المسافة في وقته يوجب فوت الواجب ، يعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة.

ومثله الاغتسال عن الجنابة للصوم قبل الفجر ، فإنّ الصوم يجب بطلوع الفجر، ولكن يلزم الإتيان بالغسل قبله وإلاّ لفسد الصوم ، ويكون تركه مفوّتا للواجب.

السادس : تقسيمها إلى مقدّمة عبادية وغيرها

إنّ الغالب على المقدّمة هي كونها أمرا غير عبادي ، كتطهير الثوب للصلاة ، وقطع المسافة إلى الحجّ ، وربما تكون عبادة ، ومقدّمة لعبادة أخرى بحيث لا تقع مقدّمة إلاّ إذا وقعت على وجه عبادي ، ومثالها منحصر في الطهارات الثلاث (الوضوء والغسل والتيمم).

الأقوال في المسألة

اختلفت كلمة الأصوليين في حكم المقدمة على أقوال :

١. وجوبها مطلقا وهو المشهور.


٢. عدم وجوبها كذلك.

٣. القول بالتفصيل. (١)

والمختار عندنا : عدم وجوب المقدّمة أساسا ، فيصحّ القول بالتفصيل كالسالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّها على فرض وجوبها ، وإليك بيان المختار.

وجوب المقدّمة بين اللغوية وعدم الحاجة

إنّ الغرض من الإيجاب هو جعل الداعي في ضمير المكلّف للانبعاث نحو الفعل ، والأمر المقدّمي فاقد لتلك الغاية ، فهو إمّا غير باعث ، أو غير محتاج إليه.

أمّا الأوّل ، فهو فيما إذا لم يكن الأمر بذي المقدّمة باعثا نحو المطلوب النفسي ، فعند ذلك يكون الأمر بالمقدّمة أمرا لغوا لعدم الفائدة في الإتيان بها.

وأمّا الثاني ، فهو فيما إذا كان الأمر بذيها باعثا للمكلّف نحو المطلوب ، فيكفي ذلك في بعث المكلّف نحو المقدّمة أيضا ، ويكون الأمر بالمقدّمة أمرا غير محتاج إليه.

والحاصل : أنّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين عدم الباعثية إذا لم يكن المكلّف بصدد الإتيان بذيها ، وعدم الحاجة إليه إذا كان بصدد الإتيان بذيها ، وإذا كان الحال كذلك فتشريع مثله قبيح لا يصدر عن الحكيم.

__________________

(١) ١. التفصيل بين المقتضى (السبب) والشرط فيجب الأوّل دون الثاني.

٢. التفصيل بين الشرط الشرعي كالطهارة للصلاة فيجب والشرط العقلي كالاستطاعة لوجوب الحجّ فلا يجب.

٣. التفصيل بين المقدمة الموصلة فتجب وغير الموصلة فلا تجب إلى غير ذلك من التفاصيل.


الفصل الخامس

في تقسيمات الواجب

للواجب تقسيمات مختلفة نشير إليها إجمالا ، ثمّ نأخذ بالبحث عنها تفصيلا :

١. تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط.

٢. تقسيم الواجب إلى المؤقّت وغير المؤقّت.

٣. تقسيم الواجب إلى نفسيّ وغيريّ.

٤. تقسيم الواجب إلى أصلي وتبعي.

٥. تقسيم الواجب إلى عينيّ وكفائيّ.

٦. تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري.

٧. تقسيم الواجب إلى التعبديّ والتوصّلي.

* * *

١. تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط

إذا قيس وجوب الواجب إلى شيء آخر خارج عنه ، فهو لا يخرج عن أحد نحوين :


إمّا أن يكون وجوب الواجب غير متوقّف على تحقّق ذلك الشيء ، كوجوب الحجّ بالنسبة إلى قطع المسافة ، فالحجّ واجب سواء قطع المسافة أم لا.

وإمّا أن يكون وجوبه متوقّفا على تحقّق ذلك الشيء ، بمعنى انّه لو لا حصوله لما تعلّق الوجوب بالواجب ، كالاستطاعة الشرعيّة (١) بالنسبة إلى الحجّ ، فلولاها لما تعلّق الوجوب بالحجّ.

ومن هنا يعلم أنّه يمكن أن يكون وجوب الواجب بالنسبة إلى شيء مطلقا ، وبالنسبة إلى شيء آخر مشروطا كوجوب الصلاة ، بل عامة التكاليف بالنسبة إلى البلوغ والقدرة والعقل ، فإنّ الصبي والعاجز والمجنون غير مكلّفين بشيء وقد رفع عنهم القلم ، فوجوب الصلاة مشروط بالنسبة إلى هذه الأمور الثلاثة ، ولكنّه في الوقت نفسه غير مشروط بالنسبة إلى الطهارة الحدثية والخبثية ، فالصلاة واجبة سواء كان المكلّف متطهرا أم لا.

وبذلك يظهر أنّ الإطلاق والاشتراط من الأمور النسبية ، فقد يكون الوجوب بالنسبة إلى شيء مطلقا وإلى شيء آخر مشروطا.

٢. تقسيم الواجب إلى المؤقّت وغير المؤقّت

والمؤقّت إلى الموسّع والمضيّق.

الواجب غير المؤقت : ما لا يكون للزمان فيه مدخلية وإن كان الفعل لا يخلو عن زمان (٢) ، كإكرام العالم وإطعام الفقير.

__________________

(١) خرجت الاستطاعة العقلية كالحجّ متسكّعا فلا يجب معها الحجّ.

(٢) وكم فرق بين عدم انفكاك الفعل عن الزمان ، ومدخليته في الموضوع كسائر الأجزاء ، وغير المؤقت من قبيل القسم الأوّل دون الثاني.


ثمّ إنّ غير المؤقت ينقسم إلى فوري : وهو ما لا يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، وردّ السّلام ، والأمر بالمعروف.

وغير فوري : وهو ما يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمكانه ، كقضاء الصلاة الفائتة ، وأداء الزكاة ، والخمس.

الواجب المؤقّت : ما يكون للزمان فيه مدخلية ، وله أقسام ثلاثة :

أ. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب مساويا لزمان الواجب ، كالصوم ، وهو المسمّى بالمضيّق.

ب. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أوسع من زمان الواجب ، كالصلوات اليومية ، ويعبّر عنه بالموسّع.

ج. أن يكون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أضيق من زمان الواجب ، وهو مجرّد تصور، ولكنّه محال لاستلزامه التكليف بما لا يطاق.

تتمة

هل القضاء تابع للأداء؟

إذا فات الواجب المؤقّت في ظرفه من دون فرق بين كونه مضيّقا أو موسّعا ، فقيل يدلّ نفس الدليل الأوّل على وجوب الإتيان خارج الوقت فيجب القضاء ويعبّر عنه بأنّ القضاء تابع للأداء ، وقيل بعدم الدلالة فلا يجب القضاء إلاّ بأمر جديد. ويختص محلّ النزاع فيما إذا لم يكن هناك دليل يدلّ على أحد الطرفين فمقتضى القاعدة سقوط الأمر المؤقّت بانقضاء وقته وعدم وجوب الإتيان به خارج الوقت لأنّه من قبيل الشكّ في التكليف الزائد وسيأتي أنّ الأصل عند الشك في التكليف البراءة.


٣. تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري

الواجب النفسي : هو ما وجب لنفسه كالصلاة.

والواجب الغيري : ما وجب لغيره كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

٤. تقسيم الواجب إلى أصلي وتبعي

إذا كان الوجوب مفاد خطاب مستقل ومدلولا بالدلالة المطابقية ، فالواجب أصلي سواء كان نفسيا كما في قوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (النور / ٥٦)،أم غيريا كما في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦).

وأمّا إذا كان بيان وجوب الشيء من توابع ما قصدت إفادته ، كما إذا قال :اشتر اللحم ، الدال ضمنا على وجوب المشي إلى السوق ، فالواجب تبعي لم يسق الكلام إلى بيانه إلاّ تبعا.

٥. تقسيم الواجب إلى العيني والكفائي

الواجب العيني : هو ما تعلّق فيه الأمر بكلّ مكلّف ولا يسقط عنه بفعل الغير ، كالفرائض اليومية.

الواجب الكفائي : هو ما تعلّق فيه الأمر بعامّة المكلّفين لكن على نحو لو قام به بعضهم سقط عن الآخرين كتجهيز الميت والصلاة عليه.

٦. تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري

الواجب التعييني : هو ما لا يكون له عدل ، كالفرائض اليومية.

الواجب التخييري : هو ما يكون له عدل ، كخصال كفّارة الإفطار العمدي


في صوم شهر رمضان ، حيث إنّ المكلّف مخير بين أمور ثلاثة : صوم شهرين متتابعين ، إطعام ستين مسكينا ، وعتق رقبة.

٧. تقسيم الواجب إلى التوصّلي والتعبّدي

الواجب التوصّلي : هو ما يتحقّق امتثاله بمجرّد الإتيان بالمأمور به بأي نحو اتفق من دون حاجة إلى قصد القربة ، كدفن الميت وتطهير المسجد ، وأداء الدين ، وردّ السلام.

الواجب التعبّدي : هو ما لا يتحقق امتثاله بمجرّد الإتيان بالمأمور به بل لا بدّ من الإتيان به متقربا إلى الله سبحانه ، كالصلاة والصوم والحجّ.

ثمّ إنّ قصد القربة يحصل بأحد أمور ثلاثة :

أ : الإتيان بقصد امتثال أمره سبحانه.

ب : الإتيان لله تبارك وتعالى مع صرف النظر عن الآخر.

ج : الإتيان بداعي محبوبية الفعل له تعالى دون سائر الدواعي النفسانية.

ثمّ إنّه إذا شكّ في كون واجب توصّليا أم تعبّديا ، نفسيا أم غيريا ، عينيا أم كفائيا،تعيينيا أم تخييريا ، فمقتضى القاعدة كونه توصليا لا تعبّديا ، نفسيا لا غيريا ، عينيا لا كفائيا ، تعيينيا لا تخييريا ، والتفصيل موكول إلى الدراسات العليا.


الفصل السادس

اقتضاء الأمر بالشيء ، النهي عن ضدّه

اختلف الأصوليون في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ على أقوال ، وقبل الورود في الموضوع نقول : الضدّ هو مطلق المعاند والمنافي ، وقسّم الأصوليون الضدّ إلى ضدّ عام وضدّ خاص.

والضدّ العام : هو ترك المأمور به.

والضدّ الخاص : هو مطلق المعاند الوجودي.

وعلى هذا تنحلّ المسألة في عنوان البحث إلى مسألتين موضوع إحداهما الضدّ العام ، وموضوع الأخرى الضدّ الخاص.

فيقال في تحديد المسألة الأولى : هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام أو لا؟ مثلا إذا قال المولى : صلّ صلاة الظهر ، فهل هو نهي عن تركها؟ كأن يقول : «لا تترك الصلاة» فترك الصلاة ضدّ عام للصلاة بمعنى انّه نقيض لها والأمر بها نهي عن تركها.(١)

كما يقال في تحديد المسألة الثانية : إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن

__________________

(١) كما أنّ ترك الصلاة ضدّ عام لها ، كذلك الصلاة أيضا ضد عام لتركها ؛ وعلى هذا فالضد العام هو النقيض ، ونقيض كلّ شيء إمّا رفعه أو مرفوعه ، فترك الصلاة رفع والصلاة مرفوع وكلّ ، نقيض للآخر وضدّ عام له.


ضدّه الخاص أو لا؟ فإذا قال المولى : أزل النجاسة عن المسجد ، فهل الأمر بالإزالة لأجل كونها واجبا فوريّا بمنزلة النهي عن كلّ فعل وجودي يعاندها ، كالصلاة في المسجد؟ فكأنّه قال : أزل النجاسة ولا تصلّ في المسجد عند الابتلاء بالإزالة.

المسألة الأولى : الضدّ العام

إنّ للقائلين باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ العام أقوالا :

الأوّل : الاقتضاء على نحو العينية وانّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام ، فيدلّ الأمر عليه حينئذ بالدلالة المطابقية ، فسواء قلت : صلّ أو قلت : لا تترك الصلاة ، فهما بمعنى واحد.

الثاني : الاقتضاء على نحو الجزئية وانّ النهي عن الترك جزء لمدلول الأمر بالشيء ، لأنّ الوجوب الذي هو مدلول مطابقي للأمر ينحلّ إلى طلب الشيء والمنع من الترك ، فيكون المنع من الترك الذي هو نفس النهي عن الضدّ العام ، جزءا تحليليا للوجوب.

الثالث : الاقتضاء على نحو الدلالة الالتزامية ، فالأمر بالشيء يلازم النهي عن الضدّ عقلا.

ومختار المحقّقين عدم الدلالة مطلقا.

المسألة الثانية : الضد الخاص

استدلّ القائلون بالاقتضاء بالدليل التالي وهو مركّب من أمور ثلاثة :

أ. انّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن ضده العام وهو ترك الإزالة على القول به في البحث السابق.


ب. انّ الاشتغال بكل فعل وجودي (الضد الخاص) كالصلاة والأكل ملازم للضد العام ، كترك الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.

ج. المتلازمان متساويان في الحكم ، فإذا كان ترك الإزالة منهيا عنه ـ حسب المقدّمة الأولى ـ فالضد الملازم له كالصلاة يكون مثله في الحكم أي منهيّا عنه.

فينتج أنّ الأمر بالشيء كالإزالة مستلزم للنهي عن الضد الخاص.

يلاحظ عليه : أوّلا : بمنع المقدّمة الأولى لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام ، وأنّ مثل هذا النهي المولوي أمر لغو لا يحتاج إليه.

ثانيا : بمنع المقدّمة الثالثة أي لا يجب أن يكون أحد المتلازمين محكوما بحكم المتلازم الآخر فلو كان ترك الإزالة حراما لا يجب أن يكون ملازمه ، أعني : الصلاة حراما ، بل يمكن أن لا يكون محكوما بحكم أبدا في هذا الظرف ، وهذا كاستقبال الكعبة الملازم لاستدبار الجدي ، فوجوب الاستقبال لا يلازم وجوب استدبار الجدي. نعم يجب أن لا يكون الملازم محكوما بحكم يضادّ حكم الملازم ، كأن يكون الاستقبال واجبا واستدبار الجدي حراما ، وفي المقام أن يكون ترك الإزالة محرما والصلاة واجبة.

الثمرة الفقهية للمسألة :

تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء ، فإذا كان الضد عبادة كالصلاة ، وقلنا بتعلّق النهي بها تقع فاسدة ، لأنّ النهي يقتضي الفساد ، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة أو اشتغل بها ، حين طلب الدائن دينه.


الفصل السابع

نسخ الوجوب (١)

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟ ولنقدم مثالا من الكتاب العزيز.

فرض الله سبحانه على المؤمنين ـ إذا أرادوا النجوى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمـ تقديم صدقة،قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة / ١٢).

فلمّا نزلت الآية كفّ كثير من الناس عن النجوى ، بل كفّوا عن المسألة ، فلم يناجه أحد إلاّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢) ، ثم نسخت الآية بما بعدها ، وقال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / ١٣).

فوقع الكلام في بقاء جواز تقديم الصدقة إذا ناجى أحد مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهناك قولان :

__________________

(١) سيوافيك تفسير النسخ في المقصد الرابع وإجماله رفع الحكم الثابت بدليل شرعي.

(٢) الطبرسي : مجمع البيان : ٥ / ٢٤٥ في تفسير سورة المجادلة.


الأوّل : ما اختاره العلاّمة في «التهذيب» من الدلالة على بقاء الجواز.

الثاني : عدم الدلالة على الجواز ، بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر. وهو خيرة صاحب المعالم.

استدل للقول الأوّل بأنّ المنسوخ لما دلّ على الوجوب ، أعني قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فقد دلّ على أمور ثلاثة :

١. كون تقديم الصدقة جائزا.

٢. كونه أمرا راجحا.

٣. كونه أمرا لازما.

والقدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام ، وأمّا ما عداه كالجواز وكالرجحان فيؤخذ من دليل المنسوخ ، نظيره ما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه ، كما إذا ورد أكرم زيدا وورد أيضا لا بأس بترك إكرامه فيحكم بأظهرية الدليل الثاني على الأوّل على بقاء الجواز والرجحان.

يلاحظ عليه : أنّه ليس للأمر إلاّ ظهور واحد وهو البعث نحو المأمور به ، وأمّا الوجوب فإنّما يستفاد من أمر آخر ، وهو كون البعث تمام الموضوع لوجوب الطاعة والالتزام بالعمل عند العقلاء ، فإذا دلّ الناسخ على أنّ المولى رفع اليد عن بعثه ، فقد دلّ على رفع اليد عن مدلول المنسوخ فلا معنى للالتزام ببقاء الجواز أو الرجحان إذ ليس له إلاّ ظهور واحد ، وهو البعث نحو المطلوب لا ظهورات متعدّدة حتى يترك المنسوخ (اللزوم) ويؤخذ بالباقي (الجواز والرجحان).

وبعبارة أخرى : الجواز والرجحان من لوازم البعث إلى الفعل ، فإذا نسخ الملزوم فلا وجه لبقاء اللازم.


الفصل الثامن

الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلك الفعل

إذا أمر المولى فردا ليأمر فردا آخر بفعل ، فهل الأمر الصادر من المولى أمر بذلك الفعل أيضا أو لا؟ ولإيضاح الحال نذكر مثالا : إنّ الشارع أمر الأولياء ليأمروا صبيانهم بالصلاة ، روي بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع» (١) ففي هذا الحديث أمر الإمام الأولياء بأمر صبيانهم بالصلاة.

فعندئذ يقع الكلام في أنّ أمر الإمام يتحدّد بالأمر بالأولياء ، أو يتجاوز عنه إلى الأمر بالصلاة أيضا.

فمحصّل الكلام : أنّه لا شك أنّ الصبيان مأمورون بإقامة الصلاة إنّما الكلام في أنّهم مأمورون من جانب الأولياء فقط ، أو هم مأمورون من جانب الشارع أيضا.

وتظهر الثمرة في مجالين :

الأوّل : شرعية عبادات الصبيان ، فلو كان الأمر بالأمر ، أمرا بذلك الفعل تكون عبادات الصبيان شرعية وإلاّ تكون تمرينيّة.

__________________

(١) الوسائل : ٣ / الباب ٣ ، من أعداد الفرائض ، الحديث ٥.


الثاني : صحّة البيع ولزومه فيما إذا أمر الوالد ولده الأكبر بأن يأمر ولده الأصغر ببيع متاعه ، فنسي الواسطة إبلاغ أمر الوالد واطّلع الأصغر من طريق آخر على أمر الوالد فباع المبيع.

فإن قلنا بأنّ الأمر بالأمر بفعل ، أمر بنفس ذلك الفعل يكون بيعه صحيحا ولازما ، وإن قلنا بخلافه يكون بيعه فضوليا غير لازم.

الظاهر أنّ الأمر بالأمر بالفعل أمر بذلك أيضا ، لأنّ المتبادر في هذه الموارد تعلّق غرض المولى بنفس الفعل وكان أمر المأمور الأوّل طريقا للوصول إلى نفس الفعل من دون دخالة لأمر المأمور الأوّل.

الفصل التاسع الأمر

بالشيء بعد الأمر به

هل الأمر بالشيء بعد الأمر به قبل امتثاله ظاهر في التأكيد أو التأسيس ، فمثلا إذا أمر المولى بشيء ثم أمر به قبل امتثال الأمر الأوّل فهل هو ظاهر في التأكيد ، أو ظاهر في التأسيس؟

للمسألة صور :

أ. إذا قيّد متعلّق الأمر الثاني بشيء يدلّ على التعدّد والكثرة كما إذا قال : صلّ ، ثم قال : صلّ صلاة أخرى.

ب. إذا ذكر لكل حكم سبب خاص ، كما إذا قال : إذا نمت فتوضّأ ، وإذا مسست ميّتا فتوضّأ.

ج. إذا ذكر السبب ، لواحد من الحكمين دون الآخر ، كما إذا قال : توضأ ، ثم قال : إذا بلت فتوضأ.


د. أن يكون الحكم خاليا عن ذكر السبب في كلا الأمرين.

لا إشكال في أنّ الأمر في الصورة الأولى للتأسيس لا للتأكيد لأن الأمر الثاني صريح في التعدّد.

وأمّا الصورة الثانية ، فهي كالصورة الأولى ظاهرة في تأسيس إيجاب ، وراء إيجاب آخر.

نعم يقع الكلام في إمكان التداخل بأن يمتثل كلا الوجوبين المتعدّدين بوضوء واحد وعدمه ، فهو مبني على تداخل المسببات وعدمه ، فعلى الأوّل يكفي وضوء واحد ولا يكفي على الثاني وسيأتي الكلام فيه في باب المفاهيم ، فيختص محل البحث بالصورتين الأخيرتين.

ولعل القول بالإجمال وعدم ظهور الكلام في واحد من التأكيد والتأسيس أولى ، لأنّ الهيئتين تدلاّن على تعدّد البعث وهو أعم من التأكيد والتأسيس. وما يقال من أنّ التأسيس أولى من التأكيد ، لا يثبت به الظهور العرفي.

تم الكلام في المقصد الأوّل

والحمد لله


المقصد الثاني

في النواهي

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في مادة النهي وصيغته.

الفصل الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي في عنوان واحد.

الفصل الثالث : في اقتضاء النهي للفساد.


الفصل الأوّل

في مادة النهي وصيغته

النهي هو الزجر عن الشيء ، قال سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) (العلق / ٩ ـ ١٠).

ويعتبر فيه العلو والاستعلاء. ويتبادر من مادة النهي ، الحرمة بمعنى لزوم الامتثال على وفق النهي. والدليل عليه قوله سبحانه : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء/٦١). وقوله سبحانه : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (الأعراف / ١٦٦). وقوله سبحانه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٧) وقد مرّ نظير هذه المباحث في مادة الأمر فلا نطيل.

وأمّا صيغة النهي فالمشهور بين الأصوليين أنّها كالأمر في الدلالة على الطلب غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما هو الوجود ، أعني : نفس الفعل ؛ وفي الآخر العدم ، أعني : ترك الفعل.

ولكن الحق أنّ الهيئة في الأوامر وضعت للبعث إلى الفعل ، وفي النواهي وضعت للزجر، وهما إمّا بالجوارح كالإشارة بالرأس واليد أو باللفظ والكتابة.

وعلى ضوء ذلك فالأمر والنهي متّحدان من حيث المتعلّق حيث إنّ كلاّ منهما يتعلّق بالطبيعة من حيث هي هي ، مختلفان من حيث الحقيقة والمبادئ والآثار.


أمّا الاختلاف من حيث الحقيقة ، فالأمر بعث إنشائي والنهي زجر كذلك.

وأمّا من حيث المبادئ فمبدأ الأمر هو التصديق بالمصلحة والاشتياق إليها ، ومبدأ النهي هو التصديق بالمفسدة والانزجار عنها.

وأمّا من حيث الآثار فإنّ الإتيان بمتعلّق الأمر إطاعة توجب المثوبة ، والإتيان بمتعلّق النهي معصية توجب العقوبة.

ظهور الصيغة في التحريم

قد علمت أنّ هيئة لا تفعل موضوعة للزجر ، كما أنّ هيئة افعل موضوعة للبعث،وأمّا الوجوب والحرمة فليسا من مداليل الألفاظ وإنّما ينتزعان من مبادئ الأمر والنهي فلو كان البعث ناشئا من إرادة شديدة أو كان الزجر صادرا عن كراهة كذلك ينتزع منهما الوجوب أو الحرمة وأمّا إذا كانا ناشئين من إرادة ضعيفة أو كراهة كذلك ، فينتزع منهما الندب والكراهة.

ومع انّ الوجوب والحرمة ليسا من المداليل اللفظية إلاّ انّ الأمر أو النهي إذا لم يقترنا بما يدلّ على ضعف الإرادة أو الكراهة ينتزع منهما الوجوب والحرمة بحكم العقل على أنّ بعث المولى أو زجره لا يترك بلا امتثال ، واحتمال أنّهما ناشئان من إرادة أو كراهة ضعيفة لا يعتمد عليه ما لم يدلّ عليه دليل.

وبعبارة أخرى : العقل يلزم بتحصيل المؤمّن في دائرة المولوية والعبودية ولا يتحقق إلاّ بالإتيان بالفعل في الأمر وتركه في النهي.

النهي والدلالة على المرّة والتكرار

إنّ النهي كالأمر لا يدلّ على المرة ولا التكرار ، لأنّ المادة وضعت للطبيعة الصرفة ، والهيئة وضعت للزجر ، فأين الدال على المرة والتكرار؟!


نعم لمّا كان المطلوب هو ترك الطبيعة المنهي عنها ، ولا يحصل الترك إلاّ بترك جميع أفرادها يحكم العقل بالاجتناب عن جميع محققات الطبيعة ، وهذا غير دلالة اللفظ على التكرار.

ومنه يظهر عدم دلالته على الفور والتراخي بنفس الدليل.

الفصل الثاني

اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين

اختلفت كلمات الأصوليين في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وقبل بيان أدلّة المجوّز والمانع نذكر أمورا :

الأمر الأوّل : في أنواع الاجتماع

إنّ للاجتماع أنحاء ثلاثة :

ألف : الاجتماع الآمري : فهو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهي أوّلا والمأمور والمنهيّ (المكلّف) ثانيا ، والمأمور به والمنهى عنه (المكلّف به) ثالثا مع وحدة زمان امتثال الأمر والنهي فيكون التكليف عندئذ محالا ، كما إذا قال : صل في ساعة كذا ولا تصل فيها،ويعبّر عن هذا النوع ، بالاجتماع الآمري ، لأنّ الآمر هو الذي حاول الجمع بين الأمر والنهي في شيء واحد.

ب : الاجتماع المأموري : هو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر والناهي ، والمأمور والمنهي ولكن اختلف المأمور به والمنهى عنه ، كما إذا خاطب الشارع المكلّف بقوله : صل ، ولا تغصب ، فالمأمور به غير المنهى عنه ، بل هما ماهيّتان مختلفتان


غير أنّ المكلّف بسوء اختياره جمعهما في مورد واحد على وجه يكون المورد مصداقا لعنوانين ومجمعا لهما.

ج الاجتماع الموردي : وهو عبارة عمّا إذا لم يكن الفعل مصداقا لكل من العنوانين بل يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت واحد يكون أحدهما مصداقا لعنوان الواجب وثانيهما مصداقا لعنوان الحرام ، مثل النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة ، فليس النظر مطابقا لعنوان الصلاة ولا الصلاة مطابقا لعنوان النظر إلى الأجنبية ولا ينطبقان على فعل واحد ، بل المكلّف يقوم بعملين مختلفين متقارنين في زمان واحد ، كما إذا صلّى ونظر إلى الأجنبية.

تنبيه : إذا عرفت هذا فاعلم انّ النزاع في الاجتماع المأموري لا الآمري والموردي.

الأمر الثاني : ما هو المراد من الواحد في العنوان؟

المراد من الواحد في العنوان هو الواحد وجودا بأن يتعلّق الأمر بشيء والنهي بشيء آخر ، ولكن اتحد المتعلّقان في الوجود والتحقّق ، كالصلاة المأمور بها والغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود عند إقامة الصلاة في الدار المغصوبة.

فخرج بقيد الاتحاد في الوجود أمران :

الأوّل : الاجتماع الموردي ، كما إذا صلّى مع النظر إلى الأجنبية وليس وجود الصلاة نفس النظر إلى الأجنبية ، بل لكلّ تحقّق وتشخّص ووجود خاص.

الثاني : الأمر بالسجود لله والنهي عن السجود للأوثان ، فالمتعلّقان مختلفان مفهوما ومصداقا.

الأمر الثالث : الأقوال في المسألة

إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة ، والفضل بن شاذان من


قدمائنا ، وهو الظاهر من كلام السيد المرتضى في الذريعة ، وإليه ذهب فحول المتأخّرين من أصحابنا كالمحقّق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساري وولده والفاضل المدقّق الشيرواني والسيد الفاضل صدر الدين وغيرهم ، واختاره من مشايخنا : السيد المحقّق البروجردي والسيد الإمام الخميني ـ قدّس الله أسرارهم ـ ويظهر من المحدّث الكليني رضاه بذلك حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتابه ولم يعقبه بشيء من الرد والقبول ، بل يظهر من كلام الفضل بن شاذان (ت ٢٦٠ ه‍) انّ ذلك من مسلّمات الشيعة. (١)

وأمّا القول بالامتناع ، فقد اختاره المحقّق الخراساني في الكفاية وأقام برهانه.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر دليل القولين على سبيل الاختصار وقد استدلوا على القول بالجواز بوجوه منها : أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو الدخيل في الغرض دون ما يلازمه من الخصوصيات غير الدخيلة ، ومثله النهي لا يتعلّق إلاّ بما هو المبغوض دون اللوازم والخصوصيات.

وعلى ضوء ذلك فما هو المأمور به هو الحيثية الصلاتية وإن اقترنت مع الغصب في مقام الإيجاد ، والمنهي عنه هو الحيثية الغصبية وان اقترنت مع الصلاة في الوجود والتحقّق.

وعلى هذا فالوجوب تعلّق بعنوان الصلاة ولا يسري الحكم إلى غيرها من المشخّصات الاتفاقية كالغصب ، كما أنّ الحرمة متعلّقة بنفس عنوان الغصب ولا تسري إلى مشخصاته الاتفاقية ، أعني : الصلاة ، فالحكمان ثابتان على العنوان لا يتجاوزانه وبالتالي ليس هناك اجتماع.

__________________

(١) لاحظ القوانين ، ج ١ ص ١٤٠.


والذي يؤيد جواز الاجتماع هو عدم ورود نص على عدم جواز الصلاة في المغصوب وبطلانها مع عموم الابتلاء به ، فإنّ ابتلاء الناس بالأموال المغصوبة في زمان الدولتين الأموية والعباسية لم يكن أقل من زماننا خصوصا مع القول بحرمة ما كانوا يغنمونه من الغنائم في تلك الأزمان ، حيث إنّ الجهاد الابتدائي حرام بلا إذن الإمام عليه‌السلام على القول المشهور ، فالغنائم ملك لمقام الإمامة ، ومع ذلك لم يصلنا نهي في ذلك المورد ، ولو كان لوصل ، والمنقول عن ابن شاذان هو الجواز ، وهذا يكشف عن صحة اجتماع الأمر والنهي إذا كان المتعلّقان متصادقين على عنوان واحد.

استدلّ القائل بالامتناع بوجوه أتقنها وأوجزها ما أفاده المحقّق الخراساني بترتيب مقدّمات نذكر المهم منها :

المقدّمة الأولى : انّ الأحكام الخمسة متضادة ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث في زمان ، والزجر عنه في ذلك الزمان ، فاجتماع الأمر والنهي في زمان واحد من قبيل التكليف المحال.

المقدّمة الثانية : أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه وعنوانه ، وإنّما يؤخذ العنوان في متعلّق الأحكام للإشارة إلى مصاديقها وأفرادها الحقيقية.

ثم استنتج وقال : إنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا يكون تعلّق الأمر والنهي به محالا وإن كان التعلّق به بعنوانين لما عرفت من أنّ المتعلّق الواقعي للتكليف هو فعل المكلّف بحقيقته وواقعيته لا عناوينه وأسمائه.

يلاحظ على ذلك : ـ بعد تسليم المقدّمة الأولى ـ بما قرّر في محلّه من أنّ المتعلّق للتكاليف ليس هو الهوية الخارجية ، لأنّه يستحيل أن يتعلّق البعث والزجر بها ، وذلك لأنّ التعلّق إمّا قبل تحقّقها في الخارج ، أو بعده ، فعلى الأوّل فلا موضوع


حتى يتعلّق به الأحكام بل مرجع ذلك إلى تعلّق الحكم بالعناوين ، وعلى الثاني يلزم تحصيل الحاصل وطلب الموجود.

ثمرة النزاع : انّ القائل بجواز الاجتماع يذهب إلى حصول الامتثال والعصيان بعمل واحد ، فهو يتحفّظ على كلا الحكمين بلا تقديم أحدهما على الآخر ، وأما القائل بالامتناع، فهو يقدّم من الحكمين ما هو الأهم ، فربما كان الأهم هو الوجوب فتكون حرمة الغصب إنشائية ، وربما ينعكس فيكون الترك أهم من الإتيان بالواجب.

الفصل الثالث

في اقتضاء النهي للفساد

هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الأصول التي يترتب عليها استنباط مسائل فقهية كثيرة ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في العبادات

وقبل البحث فيها نذكر أمورا :

الأوّل : المقصود من العبادة في عنوان البحث ما لا يسقط أمرها على فرض تعلّقه بها إلاّ إذا أتى بها على وجه قربى ، فخرجت التوصليات من التعريف ، لأنّها أمور يسقط أمرها ولو لم يأت بها كذلك.

الثاني : انّ المراد من الصحة في العبادات هو كون المأتي به مطابقا للمأمور به أو سقوط الإعادة والقضاء كما عرفت (١).

__________________

(١) عند البحث عن وضع أسماء العبادات للصحيح أو للأعم ، ص ٢٤.


الثالث : انّ النهي ينقسم إلى تحريمي وتنزيهي ، وإلى نفسي وغيري ، وإلى مولوي وإرشادي.

والظاهر دخول الجميع تحت عنوان البحث. (١)

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع ، فنقول : إذا تعلّق النهي بنفس العبادة،فلا شك في اقتضائه للفساد ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (٢) لأنّ الصحة عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به ، ومع تعلّق النهي بنفس العبادة لا يتعلّق بها الأمر لاستلزامه اجتماع الأمر والنهي في متعلّق واحد ، فلا يصدق كون المأتي به مطابقا للمأمور به لعدم الأمر ، وبالتالي لا يكون مسقطا للإعادة والقضاء.

وبعبارة أخرى : انّ الصحة إمّا لأجل وجود الأمر ، أو لوجود الملاك (المحبوبية) وكلا الأمرين منتفيان ، أمّا الأوّل فلامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد تحت عنوان واحد، وأمّا الثاني فلأنّ النهي يكشف عن المبغوضية فلا يكون المبغوض مقرّبا.

وهذه هي الضابطة في دلالة النهي على الفساد وعدمها ، ففي كل مورد لا يجتمع ملاك النهي (المبغوضية) مع ملاك الصحّة (الأمر والمحبوبية) يحكم عليها بالفساد. (٣)

__________________

(١) قد يكون النهي رشادا إلى قلّة الثواب كما في قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» [الوسائل : ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٧] فانّه لا يستلزم الفساد وبالتالي لا يدخل في النزاع.

(٢) المتقي الهندي : كنز العمال : ٦ / ٤٢ و ٢٦٢.

(٣) وأمّا إذا لم تكن صحة الشيء رهن الأمر أو المحبوبية بل دائرا مدار كونه جامعا للأجزاء والشرائط ـ كما في باب المعاملات ـ فلا يكشف ملاك النهي ـ أعني : المبغوضية ـ عن الفساد وبذلك (أي عدم تأثير المبغوضية) يفترق باب المعاملات عن العبادات حيث لا يحكم على المعاملات بالفساد مع تعلّق النهي النفسي بها كما سيوافيك.


المقام الثاني : في المعاملات

ولإيضاح الحال نذكر أمورا :

الأوّل : المراد من المعاملات في عنوان البحث ما لا يعتبر فيها قصد القربة ، كالعقود والإيقاعات.

الثاني : انّ المراد من الصحيح في المعاملات ما يترتب عليها الأثر المطلوب منها كالملكية في البيع والزوجية في النكاح.

الثالث : إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي أو التنزيهي بالمعاملة بما هو فعل مباشريّ ، كالعقد الصادر عن المحرم في حال الإحرام بأن يكون المبغوض صدور عقد النكاح في هذه الحالة ، من دون أن يكون نفس العمل بما هو هو مبغوضا ومزجورا عنه ، فالظاهر عدم اقتضائه الفساد ، لأنّ غاية النهي هي مبغوضية نفس العمل (العقد) في هذه الحالة وهي لا تلازم الفساد وليس العقد أمرا عباديا حتّى لا يجتمع مع النهي.

نعم إذا كان النهي إرشادا إلى فساد المعاملة كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (النساء / ٢٢) فلا كلام في الدلالة على الفساد.

تنبيه : انّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ـ أعني : مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ واضح لوجهين :

١. انّ المسألتين مختلفتان موضوعا ومحمولا فلا قدر مشترك بينهما حتى تبحث في الجهة المائزة ، لأنّ عنوان البحث في المسألة السابقة هو :

هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بشيئين مختلفين في مقام التعلّق ، ومتحدين في مقام الإيجاد أو لا؟ كما أنّ عنوان البحث في هذا المقام هو :


هل هناك ملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها أو لا؟

فالمسألتان مختلفتان موضوعا ومحمولا ، ومع هذا الاختلاف ، فالبحث عن الجهة المائزة ساقط.

٢. انّ المسألة السابقة تبتني على وجود الأمر والنهي ، ولكن هذه المسألة تبتني على وجود النهي فقط سواء أكان هناك أمر كما في باب العبادات ، أم لا كما في باب المعاملات ، فوجود الأمر في المسألة السابقة يعدّ من مقوماتها دون هذه المسألة.

تطبيقات :

لقد مضى أنّ مسألة النهي في العبادات والمعاملات من المسائل المهمة ، لذا استوجب الحال بأن نستعرض تطبيقات لهذه المسألة :

١. الصلاة في خاتم الذهب :

روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام : لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلّي فيه. (١)

قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : قد دلّت طائفة من الأخبار على اعتبار عدم كون لباس المصلّي من الذهب للرجال ، والنهي في تلك الأخبار قد تعلّق بالصلاة في الذهب ، والنهي المتعلّق بالعبادة يقتضي الفساد كما حرّر في محلّه. (٢)

٢. تفريق الزكاة بين الفقراء مع طلب الإمام :

لو طلب الإمام الزكاة ، ولكن المالك فرّقها بين الفقراء دون أن يدفعها إلى

__________________

(١) الوسائل : ج ٣ ، الباب ٣٠ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٤.

(٢) الحائري : الصلاة : ٥٧.


الإمام ، فهل يجزي مع النهي الصادر من الإمام أو لا؟ (١)

٣. لو تضرّر باستعمال الماء :

لو تضرّر باستعمال الماء في الوضوء ينتقل فرضه إلى التيمم ، فإن استعمل الماء وحاله هذا فهل يبطل الوضوء أو لا؟ (٢)

٤. التيمّم بالتراب أو الحجر المغصوبين :

إذا تيمّم بالتراب أو بالحجر المغصوبين أي الممنوع من التصرف فيه شرعا ، فهل يفسد تيمّمه أو لا؟ (٣)

٥. الاكتفاء بالأذان المنهيّ عنه :

إذا تغنّى بالأذان ، أو أذّنت المرأة متخضعة ، أو أذّن في المسجد وهو جنب ، فهل يصح الأذان منهم ويكتفي به أو لا؟ (٤)

٦. حرمة الاستمرار في الصلاة :

إذا وجب قطع الصلاة لأجل صيانة النفس والمال المحترمين من الغرق والحرق ، ومع ذلك استمرّ في الصلاة فهل تبطل صلاته أو لا؟ (٥)

٧. النهي عن التكفير في الصلاة :

قد ورد النهي عن التكفير في الصلاة ـ أي قبض اليد اليسرى باليمنى ـ كما

__________________

(١) الجواهر : ١٥ / ٤٢١.

(٢) الجواهر : ٥ / ١١١.

(٣) الجواهر : ٥ / ١٣٥.

(٤) الجواهر : ٩ / ٥٣ ـ ٥٩.

(٥) الجواهر : ١١ / ١٢٣.


ورد النهي عن إقامة النوافل جماعة في ليالي شهر رمضان (صلاة التراويح) فهل تبطل الصلاة أو لا؟

٨. صوم يوم الشك بنيّة رمضان :

إذا صام آخر يوم من شهر شعبان بنيّة رمضان ، فهل يصح صومه أو لا؟ (١)

٩. القران بين الحج والعمرة :

لو قارن بين الحج والعمرة بنية واحدة ، فهل يبطل عمله لأجل النهي عن القران كما لو نوى صلاتين بنية واحدة أو لا؟ (٢)

١٠. شرط اللزوم في المضاربة :

إذا شرط اللزوم في المضاربة ، فهل تبطل المضاربة للنهي عن شرط اللزوم المنكشف عن طريق الإجماع أو لا؟ (٣)

تمّ الكلام في المقصد الثاني

والحمد لله

__________________

(١) الجواهر : ١٢ / ٣٢٨.

(٢) الجواهر : ١٧ / ٢٠٧.

(٣) مباني العروة الوثقى ، كتاب المضاربة ، ص ١٣.



المقصد الثالث

في المفاهيم

وفيه أمور :

الأمر الأوّل : تعريف المفهوم والمنطوق.

الأمر الثاني : تقسيم المدلول المنطوقي إلى صريح وغير صريح.

الأمر الثالث : النزاع في باب المفاهيم صغروي.

الأمر الرابع : تقسيم المفهوم إلى موافق ومخالف.

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف.

الأوّل : مفهوم الشرط.

الثاني : مفهوم الوصف.

الثالث : مفهوم الغاية.

الرابع : مفهوم الحصر.

الخامس : مفهوم العدد.

السادس : مفهوم اللقب.


الأمر الأوّل : تعريف المفهوم والمنطوق :

إنّ مداليل الجمل على قسمين :

قسم يصفه العرف بأنّ المتكلّم نطق به ، وقسم يفهم من كلامه ولكن لا يوصف بأنّ المتكلّم نطق به ، ولأجل اختلاف المدلولين في الظهور والخفاء ليس للمتكلّم إنكار المدلول الأوّل بخلاف المدلول الثاني ، فإذا قال المتكلّم ، إذا جاءك زيد فأكرمه فإنّ هنا مدلولين.

أحدهما : وجوب الإكرام عند المجيء ، وهذا ممّا نطق به المتكلّم وليس له الفرار منه ، ولا إنكاره.

والآخر : عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء ، وهذا يفهم من الكلام وبإمكان المتكلّم التخلّص عنه بنحو من الأنحاء.

فالأوّل مدلول منطوقي ، والثاني مدلول مفهومي ، ولعل ما ذكرناه هو مراد الحاجبي من تعريفه للمنطوق والمفهوم بقوله : المنطوق : ما دلّ عليه اللّفظ في محل النطق.

والمفهوم : ما دلّ عليه اللّفظ في غير محل النطق. (١)

والحاصل انّ ما دل عليه اللفظ في حد ذاته على وجه يكون اللفظ حاملا لذلك المعنى وقالبا له فهو منطوق.

وما دلّ عليه اللّفظ على وجه لم يكن اللّفظ حاملا وقالبا للمعنى ولكن دلّ عليه باعتبار من الاعتبارات فهو مفهوم.

__________________

(١) الحاجبي : منتهى السؤل والأمل : ١٤٧ ، واختصره المؤلف واشتهر بالمختصر الحاجبي وشرحه العضدي ، وكلاهما مطبوعان.


الأمر الثاني : تقسيم المدلول المنطوقي إلى صريح وغير صريح :

تنقسم المداليل المنطوقية إلى قسمين : صريح وغير صريح. فالصريح ، هو المدلول المطابقي ؛ وأمّا غير الصريح ، فهو المدلول التضمني والالتزامي.

ثم إنّ الالتزامي على ثلاثة أقسام :

أ. المدلول عليه بدلالة الاقتضاء.

ب. المدلول عليه بدلالة التنبيه.

ج. المدلول عليه بدلالة الإشارة.

أمّا الأوّل فهو ما يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ والنسيان» فإنّ المراد رفع المؤاخذة عنها أو نحوها وإلاّ كان الكلام كاذبا.

وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (يوسف / ٨٢) فلو لم يقدّر الأهل لما صحّ الكلام عقلا.

وقول القائل : اعتق عبدك عنّي على ألف ، فإنّ معناه ملّكه لي على ألف ثم اعتقه ، إذ لا يصح العتق شرعا إلاّ في ملك.

وأمّا الثاني ، فهو ما لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته عقلا وشرعا ، ولكن كان مقترنا بشيء لو لم يكن ذلك الشيء علة له ، لبعد الاقتران وفقد الربط بين الجملتين فيفهم منه التعليل فالمدلول ، هو علّية ذلك الشيء ، لحكم الشارع كقوله : «بطل البيع» لمن قال له : «بعت السمك في النهر» فيعلم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.

وأمّا الثالث ، فهو لازم الكلام وإن لم يكن المتكلّم قاصدا له مثل دلالة قوله


سبحانه : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف / ١٥) إذا انضم إلى قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة / ٢٣٣) على كون أقل الحمل ستة أشهر ، فإنّ المقصود في الآية الأولى بيان ما تتحمّله الأم من آلام ومشاقّ ، وفي الثانية بيان أكثر مدة الرضاع ، غير أنّ لازم هذين المدلولين مدلول ثالث ، وهو أنّ أقل الحمل ستة أشهر.

الأمر الثالث : النزاع في باب المفاهيم صغروي :

إنّ النزاع في باب المفاهيم صغروي لا كبروي وأنّ مدار البحث هو مثلا أنّه هل للقضايا الشرطية مفهوم أو لا؟

وأمّا على فرض الدلالة والفهم العرفي فلا إشكال في حجيته.

وبعبارة أخرى : النزاع في أصل ظهور الجملة في المفهوم وعدم ظهورها ، فمعنى النزاع في مفهوم الجملة الشرطية (إذا سلّم أكرمه) هو أنّ الجملة الشرطية مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، وهل هي ظاهرة في ذلك أو لا؟

وأمّا بعد ثبوت دلالتها على المفهوم أو ظهورها فيه فلا نزاع في حجيته ، ومن خلال هذا البيان يظهر وجود التسامح في قولهم مفهوم الشرط حجة أو لا ، فإنّ ظاهره أنّ وجود المفهوم مفروغ عنه وانّما الكلام في حجيته ، مع أنّ حقيقة النزاع في وجود أصل المفهوم.

الأمر الرابع : تقسيم المفهوم إلى مخالف وموافق :

إنّ الحكم المدلول عليه عن طريق المفهوم إذا كان موافقا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق فهو مفهوم موافق ، كما في قوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)


(الإسراء / ٢٣) فحرمة التأفيف تدل بالأولوية على حرمة الشتم وربما يسمّى لحن الخطاب.

وأمّا لو كان الحكم في المفهوم مخالفا في السنخ للحكم الموجود في المنطوق فهو مفهوم مخالف.

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف

اعلم أنّ الموارد التي وقعت محل النزاع من مفهوم المخالف عبارة عما يلي :

١. مفهوم الشرط.

٢. مفهوم الوصف.

٣. مفهوم الغاية.

٤. مفهوم الحصر.

٥. مفهوم العدد.

٦. مفهوم اللقب.

وإليك التفصيل :


الأوّل : مفهوم الشرط

واعلم أنّ النزاع في وجود المفهوم في القضايا الشرطية إنّما هو فيما إذا عدّ القيد شيئا زائدا على الموضوع وتكون الجملة مشتملة على موضوع ، ومحمول ، وشرط ، فيقع النزاع حينئذ في دلالة القضية الشرطية على انتفاء المحمول عن الموضوع ، عند انتفاء الشرط وعدمها مثل قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» فهناك موضوع وهو الماء ، ومحمول وهو العاصمية (لم ينجسه) وشيء آخر باسم الشرط ، أعني : الكرية ، فعند انتفاء الشرط يبقى الموضوع (الماء) بحاله بخلاف القضايا التي يعد الشرط فيها محقّقا للموضوع من دون تفكيك بين الشرط والموضوع بل يكون ارتفاع الشرط ملازما لارتفاع الموضوع ، فهي خارجة عن محل النزاع ، كقوله : إن رزقت ولدا فاختنه ، فهذه القضايا فاقدة للمفهوم. فإنّ الرزق هنا ليس شيئا زائدا على نفس الولد.

إنّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم (أي انتفاء الجزاء لدى انتفاء الشرط) لا تتمّ إلاّ إذا ثبتت الأمور الثلاثة التالية :

١. وجود الملازمة بين الجزاء والشرط في القضية بأن لا يكون من قبيل التقارن الاتّفاقي بصورة جزئية ، كخروج زيد من المجلس مقارنا مع دخول عمرو فيه ، فإنّ التقارن من باب الاتفاق ، ولأجل ذلك يحصل الانفكاك بينهما كثيرا.

٢. أن يكون التلازم من باب الترتب أي ترتب التالي على المقدّم ، بأن يكون الشرط علة للجزاء ، فخرج ما إذا لم يكن هناك هذا النحو من الترتّب كما إذا قال : إن طال الليل قصر النهار ، أو إذا قصر النهار طال الليل ، فليس بينهما ترتب لكونهما معلولين لعلة ثالثة.

٣. أن يكون الترتب علّيا انحصاريا ، ومعنى الانحصار عدم وجود علّة


أخرى تقوم مقام الشرط.

فالقائل بالمفهوم لا محيص له إلاّ من إثبات هذه الأمور الثلاثة ، ويكفي للقائل بالعدم منع واحد منها.

ثمّ إنّ دلالة الجملة الشرطية على هذه الأمور الثلاثة بأحد الوجوه التالية :

١. الوضع : ادّعاء وضع الهيئة على ما يلازم هذه الأمور الثلاثة : الملازمة ، الترتب ، الانحصار.

٢. الانصراف (١) : ادّعاء انصراف الجملة الشرطية في ذهن المخاطب إلى هذه الأمور.

٣. الإطلاق : ادّعاء أنّ المتكلّم كان في مقام بيان العلل ولم يذكر إلاّ واحدا منها ، فيعلم انحصارها فتثبت الملازمة والترتب بوجه أولى.

أمّا إثباتها بالطريق الأوّل أي بالدلالة الوضعية ، فالحق دلالة الجملة الشرطية على الأمرين : الملازمة والترتب ، وذلك لأنّ المتبادر من هيئة الجملة الشرطية هو أنّ فرض وجود الشرط وتقدير حصوله ، يتلوه حصول الجزاء وتحقّقه وهذا مما لا يمكن إنكاره ، وهو نفس القول بالملازمة والترتب.

وأمّا إثبات الأمر الثالث ، وهو انّ العلّية بنحو الانحصار بالدلالة الوضعية ، فهو غير ثابت ، لأنّ تقسيم العلّة إلى المنحصرة وغير المنحصرة من المفاهيم الفلسفية البعيدة عن الأذهان العامة فمن البعيد ، أن ينتقل الواضع إلى التقسيم ، ثم يضع الهيئة الشرطية على قسم خاص منها وهي المنحصرة.

__________________

(١) إذا كان اللّفظ موضوعا لحقيقة ذات أنواع كالحيوان أو ذات أصناف كالماء فتبادر منه ـ عند الاستعمال ـ نوع أو صنف إلى الذهن دون الأنواع والأصناف الأخرى ، يقال : اللفظ منصرف إلى كذا ، مثلا إذا قيل : «لا تصل في ما لا يؤكل لحمه» يكون منصرفا إلى غير الإنسان.


وأمّا إثبات الانحصار بالانصراف فهو أيضا بعيد ، لأنّ الانصراف رهن أحد أمرين :

١. كثرة الاستعمال في العلة المنحصرة.

٢. كون العلة منحصرة أكمل من كونها غير منحصرة.

وكلا الأمرين منتفيان لكثرة الاستعمال في غير المنحصرة ، وكون العلّة المنحصرة ليست بأكمل في العليّة من غيرها.

وأمّا إثبات الانحصار بالإطلاق وهو كون المتكلّم في مقام البيان فهذا يتصوّر على وجهين :

تارة يكون في مقام بيان خصوصيات نفس السبب الوارد في الجملة الشرطية وما له من جزء وشرط ومانع من دون نظر إلى وجود سبب آخر ، وأخرى يكون في مقام بيان ما هو المؤثر في الجزاء ، فعلى الأوّل يكون مقتضى الإطلاق انّ ما جاء بعد حرف الشرط هو تمام الموضوع وليس له جزء أو شرط آخر ولا يتفرع عليه المفهوم ، بل أقصاه أنّ ما وقع بعد حرف الشرط تمام الموضوع للجزاء وأمّا أنّه لا يخلفه شيء آخر فلا يمكن دفعه لأنّه ليس في مقام البيان.

وعلى الثاني أي إذا كان بصدد بيان ما هو المؤثر في الجزاء على وجه الإطلاق ، فإذا ذكر سببا واحدا وسكت عن غيره ، فالسكوت يكون دالا على عدم وجود سبب آخر قائم مقامه.

والحاصل : أنّه لو أحرز كون المتكلّم في مقام تحديد الأسباب ومع ذلك اقتصر على ذكر سبب واحد يستكشف أنّه ليس للجزاء سبب إلاّ ما جاء في كلامه فيحكم على السبب بأنّه علة منحصرة ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن في مقام بيان الأسباب كلّها فإنّ مقتضى الإطلاق أنّ ما وقع تحت الشرط تمام الموضوع وليس له


جزء آخر غير مذكور ، وأمّا أنّه ليس للجزاء سبب آخر يقوم مقام السبب الأوّل فلا يدلّ عليه.

تطبيقات

إنّ للقول بدلالة الجملة الشرطية على المفهوم ثمرات فقهية لا تحصى ، وربما يستظهر من خلال الروايات أنّ القول بالدلالة كان أمرا مسلما بين الإمام والراوي ، وإليك تلك الروايات :

١. روى أبو بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرك،ويهراق منها دم كثير عبيط ، فقال : «لا تأكل ، إنّ عليا كان يقول : إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل». (١)

ترى أنّ الإمام عليه‌السلام يستدلّ على الحكم الذي أفتى به بقوله : «لا تأكل» بكلام علي عليه‌السلام ، ولا يكون دليلا عليه إلاّ إذا كان له مفهوم ، وهو إذا لم تركض الرجل ولم تطرف العين (كما هو مفروض الرواية) فلا تأكل.

٢. روى الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين يضمّن القصار والصائغ احتياطا للناس ، وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأمونا». (٢)

فالرواية على القول بالمفهوم دالة على تضمينه إذا لم يكن مأمونا. (٣)

٣. روى علي بن جعفر في كتاب مسائله وقرب الإسناد : أنّه سأل أخاه عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة ، فقال : «إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس». (٤)

__________________

(١) الوسائل : ١٦ / ٢٦٤ ، الباب ١٢ من أبواب الذبائح ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٣ / ٢٧٢ ، الباب ٢٩ من أبواب أحكام الإجارة ، الحديث ٤.

(٣) مباني العروة : كتاب المضاربة : ١٧.

(٤) الجواهر : ٢٢ / ٢٨.


دلّت الرواية على القول بالمفهوم على حرمة التجارة مع المشرك إذا حملوا سلاحا من دون فرق بين زمان الحرب والهدنة.

٤. روى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء».

دلّت الرواية لاشتمالها على المفهوم على انفعال القليل بالملاقاة ، وإلاّ كان تعليق عدم الانفعال بالكرّية أمرا لغوا. (١)

٥. روى عبد الله بن جعفر عن أبي محمد عليه‌السلام قوله : ويجوز للرجل أن يصلّي ومعه فارة مسك ، فكتب : «لا بأس به إذا كان ذكيا».

فلو قلنا بالمفهوم لدلّ على المنع عن حمل الميتة وإن كان جزءا صغيرا. (٢)

٦. روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قلت له : الأمة تغطي رأسها، فقال: «لا ، ولا على أم الولد أن تغطي رأسها إذا لم يكن لها ولد».

دلّ بمفهومه على وجوب تغطية الرأس مع الولد. (٣)

٧. روى الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الأولتين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئا».

دلّ بمفهومه على وجوب السورة بعد الحمد في غير مورد الشرط. (٤)

٨. روى ابن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا بأس أن يتكلّم إذا فرغ الإمام من الخطبة يوم الجمعة ما بينه وبين أن تقام الصلاة».

استدلّ بها صاحب الجواهر على حرمة الكلام في أثناء الخطبة. (٥)

٩. روى علي بن فضل الواسطي ، عن الرضا عليه‌السلام قال : كتبت إليه إذا انكسفت الشمس أو القمر وأنا راكب لا أقدر على النزول ، فكتب إليّ : «صل على

__________________

(١) الجواهر : ١ / ١٠٦.

(٢) الجواهر : ٦ / ١٣٢.

(٣) الجواهر : ٨ / ٢٢٢.

(٤) الجواهر : ٩ / ٣٣٤.

(٥) الجواهر : ١١ / ٢٩٤.


مركبك الذي أنت عليه». أي صلّ على مركبك إذا لم تقدر على النزول. استدلّ بها على عدم جواز إقامة صلاة الآيات على ظهر الدابة إلاّ مع الضرورة. (١)

١٠. روى معاوية بن وهب بعد أن سأله عن السرية يبعثها الإمام عليه‌السلام فيصيبون غنائم كيف تقسم؟ قال : «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليه‌السلام ، أخرج منها الخمس لله تعالى وللرسول ، وقسّم بينهم ثلاثة أخماس».

استدلّ بأنّه إذا كان هناك حرب بغير إذنه ، فلا يعدّ ما أصابوه من الغنائم بل من الأنفال. (٢)

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

إذا كان الشرط متعدّدا والجزاء واحدا كما لو قال : إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر ، فعلى القول بظهور الجملة الشرطية في المفهوم ، تقع المعارضة بين منطوق أحدهما ومفهوم الآخر ، فلو افترضنا أنّ المسافر بلغ إلى حدّ لا يسمع أذان البلد ولكن يرى جدرانه فيقصّر حسب منطوق الجملة الأولى ويتمّ حسب مفهوم الجملة الثانية ، كما أنّه إذا بلغ إلى حد يسمع الأذان ولا يرى الجدران فيتم حسب مفهوم الجملة الأولى ويقصّر حسب منطوق الجملة الثانية ، فالتعارض بين منطوق إحداهما ومفهوم الأخرى.

وبما انّك عرفت أنّ استفادة المفهوم مبني على كون الشرط علّة تامة أوّلا ، ومنحصرة ثانيا يرتفع التعارض بالتصرف في أحد ذينك الأمرين ، فتفقد الجملة الشرطية مفهومها ، وعندئذ لا يبقى للمعارضة إلاّ طرف واحد وهو منطوق الآخر ، وإليك بيان كلا التصرفين :

__________________

(١) الجواهر : ١١ / ٤٧٧.

(٢) الجواهر : ١١ / ٢٩٤.


أمّا الأوّل : أي التصرف في السببيّة التامة فبأن تكون الجملة الثانية قرينة على أنّ خفاء الأذان ليست سببا تاما للقصر ، وانّما السبب التام هو خفاء كلا الأمرين من الأذان والجدران ، فتكون النتيجة بعد التصرف هو إذا خفي الجدران والأذان معا فقصر.

وأمّا الثاني : وهو التصرّف في انحصارية الشرط فبأن يكون كل منهما سببا مستقلا لا سببا منحصرا ، فتكون النتيجة هي استقلال كل واحد في إيجاب القصر ، فكأنّه قال : إذا خفي الأذان أو الجدران فقصّر.

والفرق بين التصرفين واضح ، فإنّ مرجع التصرف في الأوّل إلى نفي السببية المستقلّة عن كل منهما وجعلهما سببا واحدا ، كما أنّ مرجعه في الثاني إلى سلب الانحصار بعد تسليم سببيّة كل منهما مستقلا.

فعلى الأوّل لا يقصر إلاّ إذا خفي كلاهما وعلى الثاني يقصر مع خفاء كل منهما.

وعلى كلا التقديرين يرتفع التعارض لزوال المفهوم بكل من التصرفين ، لأنّ المفهوم فرع كون الشرط سببا تاما ومنحصرا ، والمفروض أنّه إمّا غير تام ، أو غير منحصر.

إلاّ أنّه وقع الكلام في تقديم أحد التصرفين على الآخر ، والظاهر هو التصرف في ظهور كلّ من الشرطين في الانحصار فيكون كل منهما مستقلا في التأثير ، فإذا انفرد أحدهما كان له التأثير في ثبوت الحكم ، وإذا حصلا معا فإن كان حصولهما بالتعاقب كان التأثير للسابق وإن تقارنا كان الأثر لهما معا ويكونان كالسبب الواحد.

وانّما قلنا برجحان التصرف في الانحصار على التصرف في السببية التامة ، لأجل أنّ التصرف في الانحصار مما لا بدّ منه سواء تعلّق التصرف برفع الانحصار


أو تعلّق التصرف برفع السببية التامة ، فالانحصار قطعيّ الزوال ومتيقن الارتفاع ، وأمّا السببية التامة فمشكوك الارتفاع فلا ترفع اليد عنه إلاّ بدليل.

الثاني : في تداخل الأسباب والمسببات وعدمه (١)

إذا تعدّد السبب واتحد الجزاء كما إذا قال : إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ ، فيقع الكلام في تداخل الأسباب أوّلا ، وتداخل المسببات ثانيا.

والمراد من تداخل الأسباب وعدمه هو أنّ السببين هل يقتضيان وجوبا واحدا فيتداخلان في التأثير ، أو يقتضيان وجوبين فلا يتداخلان.

والمراد من تداخل المسبّبات وعدمه هو أنّ الإتيان بالطبيعة مرّة هل يكفي في امتثال كلا الوجوبين أو لا بدّ من الإتيان بها مرّتين.

ولا يخفى انّ البحث في خصوص تداخل المسببات وعدمه مبني على ثبوت عدم التداخل في الأسباب كما أنّ البحث في التداخل مطلقا يجري إذا أمكن تكرار الجزاء كالوضوء وإلاّ فيسقط البحث كقتل زيد لكونه محاربا ومرتدا فطريا فإنّ القتل غير قابل للتكرار ، فلا معنى للبحث عن التداخل سببا أو مسببا.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في موضعين :

الأوّل : حكم الأسباب من حيث التداخل وعدمه ، والمتبادر عرفا من القضيتين : إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ هو عدم التداخل بمعنى انّ كلّ شرط علّة لحدوث الجزاء ، أعني : الوجوب مطلقا ، سواء وجد الآخر معه أم قبله أم بعده أم لم يوجد ، وليس لعدم تداخل الأسباب معنى إلاّ تعدد الوجوب.

الثاني : حكم المسببات من حيث التداخل وعدمه أي كفاية وضوء واحد

__________________

(١) يكفي في عقد هذا البحث القول بكون كل شرط سببا تاما ، لا سببا منحصرا ، فليس البحث مبنيا على اشتمال القضية الشرطية على المفهوم ، فلاحظ.


وعدمه فالظاهر عدم ظهور القضية في أحد الطرفين ، فتصل النوبة إلى الأصل العمليّ وهو الأصل عدم سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد ولو كان ذلك بقصد امتثال الجميع في غير ما دلّ الدليل على سقوطها به ، وبعبارة أخرى :الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية وهي رهن تعدّد الامتثال.

نعم دلّ الدليل على سقوط أغسال متعددة بغسل الجنابة أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع.

فخرجنا بهذه النتيجة : انّ مقتضى الأصل العملي هو عدم سقوط الواجبات المتعدّدة ما لم يدلّ دليل بالخصوص على سقوطها.

تطبيقات

١. إذا وجبت عليه الزكاة ، فهل يجوز دفعها إلى واجب النفقة إذا كان فقيرا من جهة الإنفاق؟ قال في الجواهر : لا يجوز ، لكونه ليس إيتاء للزكاة لأصالة عدم تداخل الأسباب.

٢. إذا اجتمع للمستحق سببان يستحق بهما الزكاة ، كالفقر والجهاد في سبيل الله جاز أن يعطى لكل سبب نصيبا ، لاندراجه حينئذ في الصنفين مثلا ، فيستحق بكل منهما.

٣. إذا وقعت نجاسات مختلفة في البئر لكل نصيب خاص من النزح ، فهل يجب نزح كل ما قدّر أو لا؟

٤. إذا تغيّرت أوصاف ماء البئر ، ومع ذلك وقعت فيه نجاسات لها نصيب من النزح ، فهل يكفي نزح الجميع أو يجب معه نزح ما هو المقدّر؟


الثاني : مفهوم الوصف

ولإيضاح الحال نذكر أمورا :

الأوّل : المراد من الوصف في عنوان المسألة ليس خصوص الوصف النحوي بل الأصولي ، فيعم الحال والتمييز ممّا يصلح أن يقع قيدا لمتعلق التكليف أو لنفسه.

الثاني : يشترط في الوصف أن يكون أخصّ من الموصوف مطلقا حتى يصح فرض بقاء الموضوع مع انتفاء الوصف كالإنسان العادل ، فخرج منه ما إذا كانا متساويين ، كالإنسان المتعجب وما إذا كان أعم منه مطلقا ، كالإنسان الماشي.

وأمّا إذا كان أعم منه من وجه كما في الغنم السائمة زكاة فانّ بين الغنم والسائمة عموم وخصوص من وجه ، فيفترق الوصف عن الموضوع في الغنم المعلوفة ، والموضوع عن الوصف في الإبل السائمة ويجتمعان في الغنم السائمة ، فهل هو داخل في النزاع أو لا؟

الظاهر دخوله في النزاع إذا كان الافتراق من جانب الوصف بأن يكون الموضوع باقيا والوصف غير باق كالغنم المعلوفة ، وأمّا إذا ارتفع الموضوع ، سواء كان الوصف باقيا، كالإبل السائمة ، أو كان هو أيضا مرتفعا كالإبل المعلوفة فلا يدلّ على شيء في حقهما.

الثالث : انّ النزاع في ثبوت مفهوم الوصف وعدمه لا ينافي اتفاقهم على أنّ الأصل في القيود (١) أن تكون احترازية وذلك :

__________________

(١) أقول : إنّ القيود الواردة في الكلام على أقسام خمسة :

١. القيد الزائد كقولك : الإنسان الضاحك ناطق.


لأنّ معنى كون القيد احترازيا ليس إلاّ ثبوت الحكم في مورد القيد ، فإذا قال : أكرم الرجال طوال القامة ، معناه ثبوت الحكم مع وجود الأمرين : الرجال والطوال.

وأمّا نفي الحكم عن الرجال القصار فلا يدل عليه كون القيد احترازيا ، بل يتوقف في الحكم بالثبوت أو العدم ، بخلاف القول بالمفهوم ، فإنّ لازمه نفي الحكم في غير مورد الوصف والفرق بين الأمرين واضح ، فكون القيد احترازيا يلازم السكوت في غير مورد الوصف ، والقول بالمفهوم يلازم نقض السكوت والحكم بعدم الحكم في غير مورد الوصف.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحقّ عدم دلالة الوصف على المفهوم ، لأنّ أقصى ما يدلّ عليه القيد هو كونه قيدا احترازيا بالمعنى الذي مرّ عليك ، وأمّا الزائد عليه أي الانتفاء لدى الانتفاء فلا دليل عليه.

__________________

٢. القيد التوضيحي : وهو القيد الذي يدلّ عليه الكلام وإن لم يذكر كقوله سبحانه : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (النور / ٣٣).

٣. القيد الغالبي : وهو القيد الوارد مورد الغالب ، ومع ذلك لا مدخلية له في الحكم ، كقوله سبحانه : وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ (النساء / ٢٢) فكونهن في حجور الأزواج قيد غالبي.

٤. القيد الاحترازي : وهو القيد الذي له مدخلية في الحكم ولا يحكم على الموضوع بحكم إلاّ معه كالدخول في الآية المتقدّمة فانّ الدخول بالأم شرط لحرمة الربيبة ، فلو لم يدخل بها وطلّقها يتوقّف في الحكم.

٥. القيد المفهومي : أو القيد ذات المفهوم ، وهو ما يدلّ على ثبوت الحكم عند وجوده وعدمه عند انتفائه ، وهذا النوع من القيد يثبت أكثر ممّا يثبته القيد الاحترازي ، فإنّ الثاني يثبت الحكم في مورد القيد ويسكت عن وجوده وعدمه في غير مورده ، ولكن القيد المفهومي يثبت الحكم في مورده وينفيه عن غيره.


نعم ربما تدلّ القرائن على ثبوت المفهوم للقضية الوصفية ـ وراء كونه احترازيا ـ مثل ما حكي أنّ أبا عبيدة قد فهم من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»: أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ. (١)

نعم خرجت عن تلك الضابطة العقود والإيقاعات المتداولة بين الناس حتى الأقارير والوصايا ، فإنّها لو اشتملت على قيد ووصف لأفاد المفهوم ، فمثلا لو قال : «داري هذه وقف للسادة الفقراء» فمعناه خروج السادة الأغنياء عن الخطاب.

الثالث : مفهوم الغاية

إذا ورد التقييد بالغاية مثل قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦) فقد اختلف الأصوليّون فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في دخول الغاية «المرفق» في المنطوق أي في حكم المغيّى (وجوب الغسل) وعدمه.

الجهة الثانية : في مفهوم الغاية ، وهو موضوع البحث في المقام فقد اختلفوا في أنّ التقييد بالغاية هل يدلّ على انتفاء سنخ الحكم عمّا وراء الغاية (العضد) ومن الغاية نفسها (المرفق) إذا قلنا في النزاع الأوّل بعدم دخولها في المغيّى أو لا؟

أمّا الجهة الأولى ففيها أقوال :

أ. خروجها مطلقا ، وهو خيرة المحقّق الخراساني والسيد الإمام الخميني قدّس الله سرّهما.

__________________

(١) والليّ : «المطل» والواجد : الغني ، وإحلال عرضه : عقوبته وحبسه.


ب. دخولها مطلقا.

ج. التفصيل بين ما إذا كان ما قبل الغاية وما بعدها متحدين في الجنس ، فتدخل كما في قوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦) فيجب غسل المرفق ، وبين ما لم يكن كذلك فلا يدخل كما في قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة / ١٨٧) فإنّ الليل (الغاية) يغاير المغيّى. فانّ جنس النهار عرفا هو النور، وجنس الآخر هو الظلمة فهما مختلفان جنسا ، واشتراكهما في الزمان صحيح لكنّه أمر عقليّ.

د. عدم الدلالة على شيء وإنّما يتبع في الحكم ، القرائن الدالّة على واحد منهما.

وقبل بيان المختار نشير إلى أمرين :

الأوّل : انّ البحث في دخول الغاية في حكم المغيّى إنّما يتصوّر فيما إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره تارة داخلا في حكمه وأخرى داخلا في حكم ما بعد الغاية ، كالمرفق فانّه يصلح أن يكون محكوما بحكم المغيّى (الأيدي) ومحكوما بحكم ما بعد الغاية (العضد) وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا ، كما إذا قال : اضربه إلى خمس ضربات ، فالضربة السادسة هي بعد الغاية وليس هنا حدّ مشترك صالح لأن يكون محكوما بحكم المغيّى أو محكوما بحكم ما بعد الغاية ، وبذلك يظهر أنّه لو كانت الغاية ، غاية للحكم لا يتصوّر فيه ذلك النزاع ، كما إذا قال : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» فانّه لا يمكن أن يكون العلم بالحرام داخلا في حكم المغيّى ، إذ ليس بعد العلم بالحظر رخصة.

الثاني : إذا كانت أداة الغاية هي لفظ «حتى» فالنزاع في دخول الغاية في حكم المغيّى وعدمه إنّما يتصوّر إذا كانت خافضة كما في قوله : «أكلت السمكة


حتى رأسها ، ومثل قوله سبحانه : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / ١٨٧).

وأمّا العاطفة فهي خارجة عن البحث ، لأنّ الغاية فيها داخلة تحت حكم المغيّى قطعا، كما إذا قال : مات الناس حتى الأنبياء ، فإنّ معناه أنّ الأنبياء ماتوا أيضا ، والغرض من ذكر الغاية هو بيان أنّه إذا كان الفرد الفائق على سائر أفراد المغيّى ، محكوما بالموت فكيف حال الآخرين ، ونظيره القول المعروف : مات كلّ أب حتى آدم.

إذا عرفت ذلك فالحقّ هو القول الأوّل ، أي عدم دخول الغاية في حكم المغيّى أخذا بالتبادر في مثل المقام ، قال سبحانه : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر / ٤ و ٥) فإنّ المتبادر منه أنّ النزول أو السلام إلى مطلع الفجر لا فيه نفسه ولا بعده ، وكقول القائل : قرأت القرآن إلى سورة الإسراء ، فإنّ المتبادر خروج الإسراء عن إخباره بالقراءة ، فإن تمّ ما ذكرنا من التبادر فهو ، وإلاّ فالقول الرابع هو الأقوى من أنّه لا ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيّى ولا في عدمه.

الجهة الثانية : في مفهوم الغاية والظاهر دلالة الجملة على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية وحتى عن الغاية أيضا إذا قلنا بعدم دخولها في حكم المغيّى ، لأنّ المتفاهم العرفي في أمثال المقام هو تحديد الواجب وتبيين ما هو الوظيفة في مقام التوضّؤ ، ويؤيد ما ذكرنا تبادر المفهوم في أكثر الآيات الواردة فيها حتى الخافضة كقوله سبحانه : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / ١٨٧) وقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (البقرة / ١٩٣) فانّ المتبادر منها هو حصر الحكم إلى حدّ الغاية وسريان خلافه إلى ما بعدها.


الرابع : مفهوم الحصر

المشهور أنّ للحصر أدوات منها :

١. إلاّ الاستثنائية.

٢. إنّما.

٣. بل الإضرابية.

٤. توسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر.

٥. تعريف المسند إليه باللاّم.

٦. تقديم ما حقّه التأخير.

وإليك الكلام في كلّ واحد منها :

١. إلاّ الاستثنائية

هل الاستثناء مطلقا أو بعد النفي يدلّ على الحصر أي حصر الخروج في المستثنى وعدم خروج فرد آخر عن المستثنى منه؟ فيه خلاف. الظاهر هو الدلالة عليه ، ويكفي في ذلك التبادر القطعي بحيث لو دلّ دليل آخر على خروج فرد غيره لعدّ مخالفا لظاهر الدليل، فلو قال : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس : الطهور والقبلة والوقت والركوع والسجود» (١) ثمّ قال في دليل آخر بوجوب الإعادة في غير هذه الخمسة لعدّ مخالفا للمفهوم المستفاد من القضية الأولى ولا بدّ من علاج التعارض بوجه.

٢. كلمة «إنّما»

استدلّ على إفادتها للحصر بوجهين :

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.


أ. التبادر من موارد استعمالها.

ب. تصريح اللغويين كالأزهري وغيره على أنّها تفيد الحصر. (١)

والتتبع في الآيات الكريمة يرشدنا إلى كونها مفيدة للحصر ، أي حصر الحكم في الموضوع ، وأحيانا حصر الموضوع في الحكم أمّا الأوّل فكقوله سبحانه :

١. (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة / ٥٥).

٢. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) (البقرة / ١٧٣).

٣. (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) (...إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ) (الممتحنة / ٨ ـ ٩).

أمّا الثاني فكقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) (الرعد / ٧) فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى قومه منذر ، وليس عليهم بمصيطر.

إلى غير ذلك من الآيات المسوقة بالحصر.

٣. «بل الإضرابية»

إنّ الإضراب على وجوه :

أ. ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أوتي به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه كما إذا قال : جاءني زيد بل عمرو ، إذا التفت إلى أنّ ما أتى به أوّلا صدر عنه غفلة فلا تدلّ على الحصر.

ب. ما كان لأجل التأكيد فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٢٢.


المضرب إليه فلا تدلّ على الحصر ، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداء كقوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (الأعلى / ١٤ ـ ١٦).

ج. ما كان في مقام الردع وإبطال ما جاء أوّلا ، فتدلّ على الحصر ، قال سبحانه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (الأنبياء / ٢٦) والمعنى بل هم عباد فقط.

ونحوه قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (المؤمنون / ٧٠).

والآية تدلّ على حصر ما جاء به في الحقّ.

٤. توسيط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر

مثل قولك : «زيد هو القائم» ، وقول الصادق عليه‌السلام «الكافور هو الحنوط».

٥. تعريف المسند إليه باللاّم

إذا دخلت اللام على المسند إليه وكانت لام الجنس أو لام الاستغراق دون العهد،فهو يفيد الحصر ، كقوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وكقولك : الكاتب زيد ، ومثله الفتى عليّ.

٦. تقديم ما حقّه التأخير

هناك هيئات غير الأدوات تدلّ على الحصر ، مثل تقديم المفعول على الفعل ، نحو قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الحمد / ٥).


تطبيقات

١. لو حصل التغيّر بملاقاة النجاسة لماء الكر أو الجاري في غير صفاته الثلاث :اللون والطعم والرائحة ، كالحرارة والرقة والخفة ، فهل ينجس الماء أو لا؟

الظاهر هو الثاني ، للحصر المستفاد من الاستثناء بعد النفي ، أعني قوله : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه». (١)

٢. لو ضمّ إلى نية التقرّب في الوضوء رياء.

قال المرتضى بالصحّة مع عدم الثواب ، والمشهور هو البطلان لقوله سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البيّنة / ٤) والمراد من الدين هو الطاعة ،والحصر قاض بأنّ العمل الفاقد للإخلاص لم يتعلّق به أمر فكيف يكون صحيحا؟ (٢)

٣. يجب أن يحنّط مساجد الميت السبعة بالحنوط ، وهو الطيب المانع عن فساد البدن ، وظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالكافور ، لقول الصادق عليه‌السلام : «إنّما الحنوط بالكافور» ، وقوله : «الكافور هو الحنوط». (٣)

__________________

(١) الجواهر : ١ / ٨٣.

(٢) الجواهر : ٢ / ٩٦ ـ ٩٧.

(٣) الجواهر : ٤ / ١٧٦.


الخامس : مفهوم العدد

إنّ العدد المأخوذ قيدا للموضوع يتصوّر ثبوتا على أقسام أربعة :

١. يؤخذ على نحو لا بشرط في جانبي الزيادة والنقيصة ، كقوله سبحانه : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة / ٨٠) فالاستغفار لهم ما دام كونهم منافقين لا يفيد قلّ أو كثر.

٢. يؤخذ بشرط لا في كلا الجانبين ، كأعداد الفرائض.

٣. يؤخذ بشرط لا في جانب النقيصة دون الزيادة ، كما هو الحال في مسألة الكرّ حيث يجب أن يكون ثلاثة أشبار ونصف طولا ، وعرضا وعمقا ولا يكفي الناقص كما لا يضرّ الزائد.

٤. عكس الصورة الثالثة بأن يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة دون النقيصة ، كالفصل بين المصلّين في الجماعة ، فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.

هذا التقسيم راجع إلى مقام الثبوت ، وأمّا مقام الإثبات فالظاهر أو المنصرف إليه أنّه بصدد التحديد قلّة وكثرة فيدلّ على المفهوم في جانب التحديد إلاّ إذا دلّ الدليل على خلافه ، مثل قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور / ٢) وظاهر الآية التحديد في كلا الجانبين.

وربما تشهد القرينة على أنّه بصدد التحديد في جانب النقيصة دون الزيادة ، كقوله سبحانه : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (البقرة / ٢٨٢). ومثله ما ورد في عدد الغسلات من إصابة البول وملاقاة الخنزير.

وربما ينعكس فيؤخذ التحديد في جانب الزيادة ، ككون ما تراه المرأة من


الدم حيضا في عشرة أيّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.

كلّ ذلك يعلم بالقرينة وإلاّ فيحمل على التحديد في كلا الجانبين : الزيادة والنقيصة.

تطبيقات

١. هل تكره قراءة أزيد من سبع آيات على الجنب؟ قيل : نعم ، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال : «ما بينه وبين سبع آيات». (١)

٢. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة ، وهي ثلاثة أيّام. (٢)

٣. يستحبّ إرغام الأنف في حال السجود ولا يجب لمفهوم ما دلّ على أنّ السجود على سبعة أعظم أو أعضاء. (٣)

٤. لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة ، لقوله عليه‌السلام : «لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة» فيكون مفهومه ـ لو قلنا بأنّ للعدد مفهوما ـ انعقادها بالخمسة. (٤)

__________________

(١) الجواهر : ٣ / ٦٩ ـ ٧١.

(٢) الجواهر : ٢٣ / ٢٣.

(٣) الجواهر : ١٠ / ١٧٤.

(٤) الجواهر : ١١ / ١٩٩.


السادس : مفهوم اللقب

المقصود باللقب كلّ اسم ـ سواء كان مشتقا أو جامدا ـ وقع موضوعا للحكم كالفقير في قولهم : أطعم الفقير ، وكالسارق والسارقة في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) ومعنى مفهوم اللقب نفي الحكم عمّا لا يتناوله عموم الاسم، وبما أنّك عرفت عدم دلالة الوصف على المفهوم ، فعدم دلالة اللقب عليه أولى ، بل غاية ما يفهم من اللقب عدم دلالة الكلام على ثبوته في غير ما يشمله عموم الاسم وأمّا دلالته على العدم فلا ، فمثلا إذا قلنا إنّ محمّدا رسول الله ، فمفاده ثبوت الرسالة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يدلّ على رسالة غيره نفيا وإثباتا

تطبيق

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يكفّن الرجال في ثياب الحرير ، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ على جواز تكفين المرأة به وإلاّ فلا. (١)

تمّ الكلام في المقصد الثالث

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) الجواهر : ٤ / ١٧٠.


المقصد الرابع

العموم والخصوص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في ألفاظ العموم.

الفصل الثاني : هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟

الفصل الثالث : حجّية العام المخصص في الباقي.

الفصل الرابع : التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص.

الفصل الخامس : في تخصيص العام بالمفهوم.

الفصل السادس : في تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

الفصل السابع : تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة.

الفصل الثامن : في النسخ والتخصيص.


تمهيد

تعريف العام : العام من المفاهيم الواضحة الغنية عن التعريف ، ولكن عرّفه الأصوليّون بتعاريف عديدة وناقشوا فيها بعدم الانعكاس تارة وعدم الاطراد أخرى ، ولنقتصر على تعريف واحد وهو : شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله ، ويقابله الخاص.

تقسيم العام : ينقسم العام إلى أقسام ثلاثة :

أ. العام الاستغراقي : وهو لحاظ كلّ فرد فرد من أفراد العام بحياله واستقلاله ، واللّفظ الموضوع له هو لفظ «كل».

ب. العام المجموعي : وهو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة ، واللّفظ الدالّ عليه هو لفظ «المجموع» كقولك : أكرم مجموع العلماء.

ج. العام البدلي : وهو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعينه ، واللّفظ الدالّ عليه لفظ «أيّ» كقولك : أطعم أيّ فقير شئت.

وعلى ذلك فالعام مع قطع النظر عن الحكم يلاحظ على أقسام ثلاثة ولكلّ لفظ خاص يعرب عنه.

ولكن الأوفق بالنسبة إلى تعريف العام المذكور هو ما ربما يقال (١) انّ التقسيم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحكم ، فمثلا : العام الاستغراقي هو أن يكون الحكم شاملا لكلّ فرد فرد ، فيكون كلّ فرد وحده موضوعا للحكم.

والعام المجموعي هو أن يكون الحكم ثابتا للمجموع بما هو مجموع ، فيكون المجموع موضوعا واحدا.

والعام البدلي هو أن يكون الحكم لواحد من الأفراد على البدل ، فيكون فرد واحد على البدل موضوعا للحكم.

إذا عرفت ذلك ، فيقع الكلام في فصول :

__________________

(١) القائل هو المحقّق الخراساني.


الفصل الأوّل

ألفاظ العموم

لا شكّ انّ للعموم ألفاظا دالّة عليه إمّا بالدلالة اللفظية الوضعية ، أو بالإطلاق وبمقتضى مقدّمات الحكمة. (١)

أمّا الدالّ بالوضع عليه فألفاظ مفردة مثل : كلّ ، جميع ، تمام ، أيّ ، دائما.

والألفاظ الأربعة الأول تفيد العموم في الأفراد ، واللفظ الأخير يفيد العموم في الأزمان، فقولك : أكرم زيدا في يوم الجمعة دائما ، يفيد شمول الحكم لكلّ جمعة. ونظير «دائما» لفظة «أبدا» قال سبحانه : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (الأحزاب / ٥٤).

إنّما الكلام في الألفاظ الّتي يستفاد منها العموم بمقتضى الإطلاق ، ومقدّمات الحكمة وهي ثلاثة :

١. النكرة الواقعة في سياق النفي

المعروف انّ «لا» النافية الداخلة على النكرة نحو : «لا رجل في الدار» تفيد العموم ، لأنّها لنفي الجنس وهو لا ينعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد ، أو بعبارة أخرى

__________________

(١) سيأتي تفسيرها مفصلا في مبحث المطلق والمقيد وإجماله أن يكون المتكلّم في مقام البيان ، ولم يأت في كلامه بقرينة دالّة على الخصوص ، فيحكم عليه بالعموم.


تدلّ على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلا (١) ، لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها.

٢. الجمع المحلّى باللاّم

من أدوات العموم الجمع المحلّى باللاّم كقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة / ١) وقول القائل : جمع الأمير الصاغة.

٣. المفرد المحلّى باللام

قد عدّ من ألفاظ العموم ، المفرد المحلّى باللاّم ، كقوله سبحانه : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (العصر / ١ ـ ٣). وذلك بدليل ورود الاستثناء عليه.

__________________

(١) المراد من العقل هو العقل العرفي ، لا العقل الفلسفي وإلاّ فحسب التحليل الفلسفي أنّ للطبيعة وجودات حسب تعدّد أفرادها ، وأعداما حسب انعدام أفرادها.


الفصل الثاني

هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟

إذا خصّ العام وأريد به الباقي فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال :

أ. انّه مجاز مطلقا ، وهو خيرة الشيخ الطوسي والمحقّق والعلاّمة الحلّي في أحد قوليه.

ب. انّه حقيقة مطلقا ، وهو خيرة المحقّق الخراساني ومن تبعه.

ج. التفصيل بين التخصيص بمخصص متصل (والمراد منه ما إذا كان المخصص متصلا بالكلام وجزءا منه) كالشرط والصفة والاستثناء والغاية فحقيقة ، وبين التخصيص بمخصص منفصل (والمراد ما إذا كان منفصلا ولا يعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز،وهو القول الثاني للعلاّمة اختاره في التهذيب. والحقّ انّه حقيقة سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

أمّا الأوّل : أي إذا كان المخصص متصلا بالعام ، ففي مثل قولك : «أكرم كلّ عالم عادل» الوصف مخصص متصل للعام ، وهو «كلّ عالم» غير أنّ كلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة في معناها ، فلفظة «كل» استعملت في استغراق المدخول سواء كان المدخول مطلقا كالعالم ، أم مقيدا كالعالم العادل ، كما أنّ لفظة «عالم» مستعملة في معناها سواء كان عادلا أم غير عادل ، ومثله اللّفظ الثالث ، أعني :


عادل ، فالجميع مستعمل في معناه اللغوي من باب تعدّد الدال والمدلول.

فدلالة الجملة المذكورة على إكرام خصوص العالم العادل ، ليس من باب استعمال «العالم» في العالم العادل ، لما قلنا من انّ كلّ لفظ استعمل في معناه بل هي من باب تعدد الدال والمدلول ، ونتيجة دلالة كلّ لفظ على معناه.

نعم لا ينعقد الظهور لكلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتكلّم عن كلّ قيد يتصل به ، ولذلك لا ينعقد للكلام المذكور ظهور إلاّ في الخصوص.

وأمّا الثاني : أي المخصص المنفصل كما إذا قال المتكلّم : «أكرم العلماء» ثمّ قال في كلام مستقل : «لا تكرم العالم الفاسق» ، فالتحقيق أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في العام.

ووجهه : أنّ للمتكلّم إرادتين :

الأولى : الإرادة الاستعمالية وهي إطلاق اللّفظ وإرادة معناه ، ويشترك فيها كلّ من يتكلم عن شعور وإرادة من غير فرق بين الهازل والممتحن وذي الجدّ.

ثمّ إنّ له وراء تلك الإرادة إرادة أخرى ، وهي ما يعبّر عنها بالإرادة الجدية ، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ، كما في الأوامر الامتحانية والصادرة عن هزل.

وأخرى تتعلّق الأولى بنفس ما تعلّقت به الثانية بلا استثناء وتخصيص ، كما في العام غير المخصص.

وثالثة تتعلق الإرادة الجدية ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية ، كما في العام المخصص ، وعند ذاك يشير إلى ذلك البعض بدليل مستقل. ويكشف المخصص عن تضيق الإرادة الجدية من رأس دون الإرادة الاستعمالية.

وعلى ضوء ذلك يكفي للمقنّن أن يلقي كلامه بصورة عامة ، ويقول : أكرم


كلّ عالم ، ويستعمل الجملة في معناها الحقيقي (من دون أن يستعملها في معنى مضيق) ثم يشير بدليل مستقل إلى ما لم تتعلّق به إرادته الجدية كالفاسق مثلا.

وأكثر المخصصات الواردة في الشرع من هذا القبيل حيث نجد أنّه سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة / ٢٧٨). ثمّ يرخّص في السنّة الشريفة ويخصّص حرمة الربا بغير الوالد والولد ، والزوج والزوجة.


الفصل الثالث

حجّية العام المخصّص في الباقي

إذا ورد عام وتبعه التخصيص ثمّ شككنا في ورود تخصيص آخر عليه غير ما علم،فهل يكون العام حجّة فيما شك خروجه عنه أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه في الكتب الأصولية ب «هل العام المخصص حجّة في الباقي أو لا؟» : مثلا إذا ورد النص بحرمة الربا ، ثمّ علمنا بخروج الربا بين الوالد والولد عن تحت العموم وشككنا في خروج سائر الأقربين كالأخ والأخت ، فهل العام (حرمة الربا) حجّة في المشكوك أو لا؟

والمختار حجّيته في المشكوك لأنّ العام المخصّص مستعمل في معناه الحقيقي بالإرادة الاستعمالية ، وإن ورد عليه التخصيص فإنّما يخصص الإرادة الجدية ، وإلاّ فالإرادة الاستعمالية باقية على حالها لا تمس كرامتها.

والأصل العقلائي هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما علم فيه عدم التطابق.

وهذه (أي حجّية العام المخصص في الباقي) هي الثمرة للفصل السابق في كون العام المخصص حقيقة في الباقي وليس مجازا.


الفصل الرابع

التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصص

إنّ ديدن العقلاء في المحاورات العرفية هو الإتيان بكلّ ما له دخل في كلامهم ومقاصدهم من دون فرق بين القضايا الجزئية أو الكلية ، ولذا يتمسّك بظواهر كلامهم من دون أيّ تربص.

وأمّا الخطابات القانونية التي ترجع إلى جعل القوانين وسنّ السّنن سواء كانت دولية أو إقليمية ، فقد جرت سيرة العقلاء على خلاف ذلك ، فتراهم يذكرون العام والمطلق في باب ، والمخصص والمقيد في باب آخر ، كما أنّهم يذكرون العموم والمطلق في زمان ، وبعد فترة يذكرون المخصّص والمقيّد في زمان آخر.

وقد سلك التشريع الإسلامي هذا النحو فتجد ورود العموم في القرآن أو كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموالمخصص والمقيد في كلام الأوصياء مثلا وما هذا شأنه لا يصحّ فيه عند العقلاء التمسك بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقيداته.


الفصل الخامس

تخصيص العام بالمفهوم

إذا كان هناك دليل عام ودليل آخر له مفهوم ، فهل يقدّم المفهوم على العام أو لا؟

وإنّما عقدوا هذا البحث ـ مع اتّفاقهم على تقديم المخصص على العام ـ لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومية (وإن كانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقية (العموم) ، ولأجل ذلك بحثوا في انّ المفهوم هل يقدم مع ضعفه على العام أو لا؟ ويقع الكلام في مبحثين :

الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق.

الثاني : تخصيص العام بالمفهوم المخالف.

المبحث الأوّل : تخصيص العام بالمفهوم الموافق

قد نقل الاتفاق على جواز التخصيص بالمفهوم الموافق فمثلا إذا قال : اضرب من في الدار ، ثمّ قال : ولا تقل للوالدين أف. فالدليل الثاني يدلّ على حرمة ضرب الوالدين أيضا إذا كانا في الدار فيخصص العام بهذا المفهوم.


المبحث الثاني : هل يخصص العام بالمفهوم المخالف؟

إذا ورد عام كقوله : «الماء كلّه طاهر» فهل يخصص هذا العام بمفهوم المخالف في قوله : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء» ، أم لا؟

فيه أقوال والتفصيل يطلب من الدراسات العليا والظاهر أنّه إذا لم تكن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف على الآخر يعود الكلام مجملا ، وأمّا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر.

الفصل السادس

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

اتّفق الأصوليّون على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وتخصيصه بالخبر المتواتر.

واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد على أقوال ثلاثة :

القول الأوّل : عدم الجواز مطلقا. وهو خيرة السيد المرتضى في «الذريعة» ، والشيخ الطوسي في «العدّة» ، والمحقّق في «المعارج».

القول الثاني : الجواز مطلقا ، وهو خيرة المتأخّرين.

القول الثالث : التفصيل بين تخصيص الكتاب بمخصص قطعي قبل خبر الواحد فيجوز به أيضا ، وعدمه فلا يجوز به.

استدلّ المتأخّرون على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بوجهين :


الوجه الأوّل : جريان سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرائن المفيدة للعلم بعيد جدّا ، فمثلا خصصت آية الميراث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء / ١١) بالسنّة كقوله : لا ميراث للقاتل. (١)

وخصصت آية حلية النساء ، أعني قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(النساء /٢٤) بما ورد في السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج على عمّتها وخالتها. (٢)

وخصصت آية حرمة الربا بما دلّ على الجواز بين الولد والوالد ، والزوج والزوجة.

الوجه الثاني : إذا لم نقل بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرّة إذ ما من حكم مروي بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الكتاب ولو بمثل عمومات الحلّ ، ولا يخلو الوجه الثاني عن إغراق ، لأنّ كثيرا من الآيات الواردة حول الصلاة والزكاة والصوم وغيرها واردة في مقام أصل التشريع ، ولأجل ذلك تحتاج إلى البيان ، وخبر الواحد بعد ثبوت حجيته يكون مبيّنا لمجملاته وموضحا لمبهماته ولا يعدّ مثل ذلك مخالفا للقرآن ومعارضا له،بل يكون في خدمة القرآن والغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلك.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به ، لأنّ الكتاب قطعي الثبوت وخبر الواحد ظنّي الصدور ، فكيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصا إذا كان النسخ كليا لا جزئيا ، أي رافعا للحكم من رأسه.

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ، الباب ٧ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٤ ، الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.


الفصل السابع

تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة

إذا تعقّب الاستثناء جملا متعدّدة ، كقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور / ٤ ـ ٥) ففي رجوع الاستثناء إلى الجميع أو إلى الجملة الأخيرة أقوال :

أ. ظهور الكلام في رجوعه إلى جميع الجمل ، لأنّ تخصيصه بالأخيرة فقط بحاجة إلى دليل.

ب. ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة لكونها أقرب.

ج. عدم ظهور الكلام في واحد منهما وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال ، لكن الرجوع إليها شيء وظهوره فيها شيء آخر.

لا شكّ في إمكان رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة أو الجميع ، وإنّما الكلام في انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء ، فالاستثناء كما يحتمل رجوعه إلى الأخيرة كذلك يحتمل رجوعه إلى الجميع ، والتعيين بحاجة إلى دليل قاطع ، وما ذكر من الدلائل للقولين لا يخرج عن كونها قرائن ظنية ، غير مثبتة للظهور.


الفصل الثامن

النسخ والتخصيص

النسخ في اللغة : هو الإزالة. وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكان ثابتا.

وبذلك علم أنّ النسخ تخصيص في الأزمان ، أي مانع عن استمرار الحكم ، لا عن أصل ثبوته ولنذكر مثالا : قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المجادلة/١٢) فرض الله سبحانه على المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول أن يقدّموا قبله صدقة.

ثمّ لمّا نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا ، ضنّ كثير منهم من التصدق حتى كفّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد ما تصدّق.

ثمّ نسخت الآية بما بعدها ، قال سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة / ١٣).

إنّ النسخ في القرآن الكريم نادر جدّا ، ولم نعثر على النسخ في الكتاب


إلاّ في آيتين إحداهما ما عرفت والثانية قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) (البقرة / ٢٤٠).

واللاّم في الحول إشارة إلى الحول المعهود بين العرب قبل الإسلام حيث كانت النساء يعتددن إلى حول ، وقد أمضاه القرآن كبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فيه لمصلحة هو أعلم بها.

ثمّ نسخت بقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة / ٢٣٤).

وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة ، ثمّ ورود الناسخ بعده وإلى هذا يشير كلام الأصوليين حيث يقولون يشترط في النسخ حضور العمل.

إنّ النسخ في القوانين العرفية (١) يلازم البداء (٢) ، أي ظهور ما خفي لهم من المصالح والمفاسد ، وهذا بخلاف النسخ في الأحكام الشرعية ، فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فالله سبحانه يعلم مبدأ الحكم وغايته غير أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحكم بلا غاية لكنّه في الواقع مغيّا.

فقد خرجنا بهذه النتيجة أنّ النسخ في الأحكام العرفية رفع للحكم واقعا ، ولكنه في الأحكام الإلهية دفع لها وبيان للأمد الذي كانت مغيّا به منذ تشريعها ولا مانع من إظهار الحكم غير مغيّا ، وهو في الواقع محدّد لمصلحة في نفس

__________________

(١) المراد ما تقابل الأحكام الإلهية. فالقوانين المجعولة بيد الإنسان تسمّى في اصطلاح الحقوقيين قوانين وضعية.

(٢) البداء بهذا المعنى محال على الله دون الإنسان.


الإظهار.

هذا هو النسخ ، وأمّا حدّ التخصيص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن كونه محكوما بحكم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدية ، وإن شمله حسب الإرادة الاستعماليّة ، فهو تخصيص في الأفراد لا في الأزمان مقابل النسخ الذي عرفت أنّه هو تخصيص فيها ، ولأجل ذلك يشترط في التخصيص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ، وإلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصيص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح على الحكيم ، فلا محيص من وروده قبل العمل بالعام لو كان مخصّصا ، نعم لو كان ناسخا لحكم العام في مورده يجب تأخيره عن وقت حضور العمل بالعام.

تمّ الكلام في المقصد الرابع

والحمد لله


المقصد الخامس

في المطلق والمقيد والمجمل والمبين

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في تعريف المطلق والمقيّد.

الفصل الثاني : في ألفاظ المطلق.

الفصل الثالث : في أنّ المطلق بعد التقييد ليس مجازا.

الفصل الرابع : في مقدمات الحكمة.

الفصل الخامس : في المطلق والمقيّد المتنافيين.

الفصل السادس : في المجمل والمبين والمحكم والمتشابه.


الفصل الأوّل

تعريف المطلق

عرّف المطلق : بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه ، والمقيّد على خلافه.

والمراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ ، والمراد من الشائع هو المتوفّر وجوده من ذلك الجنس.

ثمّ إنّ ظاهر التعريف أنّ الإطلاق والتقييد عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحكم أو لا ، فهنا لفظ مطلق ، ولفظ مقيّد.

ولكن هذا النوع من البحث يناسب البحوث الأدبية ، والذي يهمّ الأصولي الذي هو بصدد تأسيس قواعد تكون مقدّمة للاستنباط هو تعريف المطلق والمقيد بلحاظ تعلّق الحكم بالموضوع ، فنقول : المطلق : عبارة عن كون اللفظ بما له من المعنى ، تمام الموضوع للحكم ، بلا لحاظ حيثية أخرى ، فبما أنّه مرسل عن القيد في مقام الموضوعية للحكم فهو مطلق.

وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق والتقييد وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحكم به ، فلو كان اللفظ في مقام الموضوعية مرسلا عن القيد والحيثية الزائدة كان مطلقا وإلاّ كان مقيّدا.

فالرقبة في «أعتق رقبة» مطلق لكونها تمام الموضوع للحكم ومرسلة عن


القيد في موضوعيّتها ، وتخالفه رقبة في قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهي مقيّدة بالإيمان لعدم كونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القيد.

وبذلك يظهر أنّه لا يشترط في المطلق أن يكون مفهوما كليّا ، بل يمكن أن يكون جزئيا حقيقيا ومرسلا عن التقيد بحالة خاصة ، فإذا قال : أكرم زيدا فزيد مطلق ، لأنّه تمام الموضوع للوجوب ومرسل عن القيد ، بخلاف ما إذا قال : أكرم زيدا إذا سلّم ، فهو مقيد بحالة خاصة ، أعني : «إذا سلّم» ، فإطلاق الكلي ـ في مقام الموضوعية للحكم ـ باعتبار الأفراد ، وإطلاق الجزئي في ذلك المقام بالنسبة إلى الحالات.

ويترتب على ما ذكرنا أمور :

الأوّل : لا يشترط في المطلق أن يكون أمرا شائعا في جنسه بل يجوز أن يكون جزئيا ذا أحوال ، فلو كان موضوعا للحكم بلا قيد فهو مطلق وإلاّ فهو مقيّد فمثلا إذا شكّ في جواز الطواف بالبيت مع خلو البيت عن الستر ، فيصح له التمسّك بقوله سبحانه : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج / ٢٩) إذ لو كان الستر شرطا للصحّة كان عليه البيان إذا كانت الآية في ذلك المقام.

الثاني : إنّ الإطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فيمكن أن يكون الموضوع مطلقا من جهة ومقيدا من جهة أخرى ، كما إذا قال : أطعم إنسانا جالسا في المسجد ، فهو مطلق من جهة كون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم ، ومقيّد من جهة تقييد مكانه بالمسجد.

الثالث : يظهر من التعريف المشهور أنّ الإطلاق من المداليل اللفظية كالعموم ، والحقّ أنّ الإطلاق من المداليل العقلية ، فإذا كان المتكلّم حكيما غير ناقض لغرضه وجعل الشيء بلا قيد موضوعا للحكم كشف ذلك انّه تمام


الموضوع وإلاّ لكان ناقضا لغرضه وهو ينافي كونه حكيما.

الرابع : إذا كانت حقيقة الإطلاق دائرة مدار كون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن يكون الموضوع اسم الجنس أو النكرة أو معرفا باللام ، فنحن في غنى عن إفاضة القول في حقائق تلك الأسماء.

نعم من فسّر الإطلاق بالشيوع أو نظيره فلا محيص له عن التكلّم في حقائق تلك الأسماء ، وحيث إنّها ذكرت في الكتب الأصولية نشير إليها على سبيل الإجمال.

الفصل الثاني

ألفاظ المطلق

١. اسم الجنس

كان الرأي السائد بين الأصوليّين قبل سلطان العلماء انّ المطلق كاسم الجنس موضوع للماهية بقيد الإطلاق والسريان والشيوع على نحو كان الشيوع بين الأفراد والحالات من مداليل اللّفظ ، فالرقبة في (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيدا ، نظير المفعول المطلق.

ولكن صار الرأي السائد بعد تحقيق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهية المعرّاة عن كلّ قيد حتى الإطلاق نظير مطلق المفعول.

وعلى ذلك فأسماء الأجناس كأسد وإنسان وبقر كلّها موضوعة للماهية المعرّاة عن كلّ قيد.


٢. علم الجنس

إنّ في لغة العرب أسماء ترادف أسماء الأجناس ، لكن تعامل معها معاملة المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فيعامل معها معاملة النكرة ، فهناك فرق بين ثعلب وثعالة ، وأسد وأسامة ، حيث يقع الثاني منهما مبتدأ وذا حال بخلاف الأوّلين ، وهذا ما دعاهم إلى تسمية ذلك بعلم الجنس.

٣. المعرّف بالألف واللام

اللام تنقسم إلى : لام الجنس ولام الاستغراق ، ولام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلى : استغراق الأفراد ، واستغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلى : ذهني ، وذكريّ ، وحضوري.

فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلى بلام الجنس مثل قولهم : التمرة خير من جرادة.

٤. النكرة

اختلفت كلمة الأصوليّين في أنّ النكرة هل وضعت للفرد المردّد بين الأفراد ، أو موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة؟

والتحقيق هو الثاني ، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين ، فاسم الجنس يدلّ على الطبيعة والتنوين يدلّ على الوحدة.

وأمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بين الأفراد ، فغير تام ، إذ لازم ذلك أن لا يصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقا للحكم ، لأنّ الفرد الممتثل به ، فرد متعيّن مع أنّ المأمور به هو الفرد المردّد ، فإذا قال : جئني بإنسان ، فأيّ إنسان أتيت به فهو هو وليس مردّدا بينه وبين غيره.


الفصل الثالث

في أنّ تقييد المطلق لا يوجب المجازية

اختلفت كلمة الأصوليّين في أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية أو لا على أقوال ، نذكر منها قولين :

الأوّل : انّه يستلزم المجازية مطلقا سواء كان القيد متصلا أم منفصلا ، وهو المشهور قبل سلطان العلماء.

الثاني : إنّه لا يستلزم المجازية مطلقا ، وهو خيرة سلطان العلماء.

حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشيوع والسريان ، وقد قيل في تعريفه ما دلّ على شائع في جنسه وبالتقييد يزول الشمول والسريان فينتج المجازية.

وحجّة القول الثاني : انّ المطلق موضوع للحقيقة المعرّاة من كلّ قيد حتى الشيوع والسريان ، فالتقييد لا يحدث أيّ تصرف في المطلق.

والحقّ انّ التقييد لا يوجب مجازية المطلق ، سواء كان المطلق موضوعا للشائع ، أو لنفس الماهية المعراة عن كلّ قيد كما مرّ من أنّ تخصيص العام بالتخصيص المتصل والمنفصل، لا يستلزم مجازيته.

لأنّ كل لفظ مستعمل في معناه ، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع في جنسه ، فهو مستعمل في معناه ، وتقييده بقيد لا يوجب استعماله في غير ما وضع له ، لما عرفت من تعدّد الدالّ والمدلول ، فلاحظ.


الفصل الرابع

مقدّمات الحكمة

الاحتجاج بالإطلاق لا يتم إلاّ بعد تمامية مقدّمات الحكمة الحاكمة على أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم ، وهذا هو السرّ لحاجة المطلق إلى تلك المقدّمات.

فنقول : إنّ مقدّمات الحكمة عبارة عن :

١. كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الإهمال ولا الإجمال.

٢. انتفاء ما يوجب التقييد. وإن شئت قلت : عدم نصب القرينة على القيد.

٣. انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

أمّا المقدّمة الأولى : فالمتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل الحكم من دون نظر إلى الخصوصيات والشرائط ، مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (المائدة / ٥) وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (المائدة / ٩٦) وقول الفقيه : الغنم حلال ، فالجميع في مقام بيان أصل الحكم لا في مقام بيان خصوصياته ، فلا يصحّ التمسك بأمثال هذه الإطلاقات عند الشكّ في الجزئية والشرطية.

وقد يكون في مقام بيان كلّ ما له دخل في الموضوع من الأجزاء والشرائط ، فإذا سكت عن بيان جزئية شيء أو شرطيته نستكشف انّه غير دخيل في الموضوع.


وعلى ذلك إنّما يصحّ التمسّك في نفي الجزئية والشرطية بالإطلاقات الواردة لبيان الموضوع بأجزائه وشرائطه دون ما كان في مقام الإجمال والإهمال ، فإن ترك بيان ما هو الدخيل في الغرض قبيح في الأوّل دون الثاني.

مثل قوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (المائدة / ٤).

فالآية بصدد بيان أنّ ما أمسكه الكلب بحكم المذكّى إذا ذكر اسم الله عليه وليس بميتة ، فهي في مقام بيان حليّة ما يصيده الكلب وإن مات الصيد قبل أن يصل إليه الصائد.

وهل يصحّ التمسّك بإطلاق قوله : (فَكُلُوا) على طهارة موضع عضّه وجواز أكله بدون غسله وتطهيره ، أو لا؟

الظاهر ، لا لأنّ الآية بصدد بيان حلّيته وحرمته لا طهارته ونجاسته ، فقوله تعالى : (فَكُلُوا) لرفع شبهة حرمة الأكل ، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة ، لا بصدد بيان طهارته من أجل عضّه.

وأمّا المقدّمة الثانية أي انتفاء ما يوجب التقييد ، والمراد منه عدم وجود قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة ، لأنّه مع القرينة المتصلة لا ينعقد للكلام ظهور إلاّ في المقيد ومع المنفصلة وإن كان ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق ولكن يسقط عن الحجّية بالقرينة المنفصلة.

وأمّا المقدّمة الثالثة ، أي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب والمحاورة ، فمرجعه إلى أنّ وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة بمنزلة القرينة الحالية المتصلة ، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

تتميم : الأصل في كلّ متكلّم أن يكون في مقام البيان ، فلو شكّ أنّ المتكلّم


في مقام بيان تمام مراده ، فالأصل كونه كذلك إلاّ أن يدلّ دليل على خلافه كما أنّه يمكن أن يكون للكلام جهات مختلفة ، كأن يكون واردا في مقام البيان من جهة وفي مقام الإهمال من جهة أخرى ، كما في الآية السابقة ، فقد كان في مقام البيان من جهة الحلية لا في مقام بيان طهارة موضع العض.

الفصل الخامس

المطلق والمقيد المتنافيان

إذا ورد مطلق كقول الطبيب : إذا استيقظت من النوم اشرب لبنا ، وورد مقيّد مناف له كقوله في كلام آخر : إذا استيقظت من النوم اشرب لبنا حلوا. فهذان الحكمان متنافيان،لأنّ الأوّل يدلّ على كفاية شرب مطلق اللبن بخلاف الثاني فإنّه يخصه بالحلو منه.

فعلاج هذا التنافي يحصل بأحد أمرين :

أ. التصرف في المطلق بحمله على المقيد فيصير اللازم هو شرب اللبن الحلو.

ب. التصرف في المقيد مثل حمله على الاستحباب.

والرائج في الخطابات الشرعية هو حمل المطلق على المقيد لا حمل المقيد على الاستحباب ، وقد عرفت وجهه من أنّ التشريع تمّ تدريجا ومثله يقتضي جعل الثاني متمما للأوّل.

ثمّ إنّ إحراز التنافي فرع إحراز وحدة الحكم ، وإلاّ فلا يحصل التنافي كما إذا اختلف سبب الحكمين مثلا إذا قال : إذا استيقظت من النوم فاشرب لبنا حلوا ، وإذا أكلت فاشرب لبنا ، فالحكمان غير متنافيين لاختلافهما في السبب.


فعلى الفقيه في مقام التقييد إحراز وحدة الحكم عن طريق إحراز وحدة السبب وغيرها، وإلاّ فلا داعي لحمل المطلق على المقيد لتعدّد الحكمين.

الفصل السادس

المجمل والمبين

عرّف المجمل بأنّه ما لم تتضح دلالته ، ويقابله المبين.

والمقصود من المجمل ما جهل فيه مراد المتكلّم إذا كان لفظا ، أو جهل فيه مراد الفاعل إذا كان فعلا. وعليه قال المحقّقون : إنّ فعل المعصوم كما لو صلى مع جلسة الاستراحة يدلّ على أصل الجواز ولا يدلّ على الوجوب أو الاستحباب بخصوصهما.

ثمّ إنّ لإجمال الكلام أسبابا كثيرة منها :

١. إجمال مفرداته كاليد الواردة في آية السرقة ، قال سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة / ٣٨) فانّ اليد تطلق على الكف إلى أصول الأصابع ، وعلى الكف إلى الزند ، وعليه إلى المرفق ، وعليه إلى المنكب ، فالآية مجملة ، فتعيين واحد من تلك المصاديق بحاجة إلى دليل.

٢. الإجمال في متعلّق الحكم المحذوف كما في كلّ مورد تعلّق الحكم بالأعيان كقوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة / ٣). فهل المحرم أكلها ، أو بيعها ، أو الانتفاع منها بكل طريق؟


٣. تردّد الكلام بين الادّعاء والحقيقة كما في قوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» وقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» فهل المراد نفي الصلاة بتاتا ، أو نفي صحّتها ، أو كمالها تنزيلا للموجود بمنزلة المعدوم؟

ويمكن أن يكون بعض ما ذكرنا مجملا عند فقيه ومبيّنا عند فقيه آخر ، وبذلك يظهر أنّ المجمل والمبين من الأوصاف الإضافية.

تمّ الكلام في المقصد الخامس

والحمد لله ربّ العالمين



المقصد السادس

في الحجج والأمارات وفيه مقامان :

المقام الأوّل : القطع وأحكامه وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في حجّية القطع.

الفصل الثاني : في التجرّي وأحكامه.

الفصل الثالث : تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي.

الفصل الرابع : في قطع القطّاع.

الفصل الخامس : في أنّ المعلوم إجمالا كالمعلوم تفصيلا.

الفصل السادس : في حجّية العقل.

الفصل السابع : في حجّية العرف والسيرة.

المقام الثاني : الظنون المعتبرة وإمكان التعبد بها وفيه فصول :

الفصل الأوّل : حجّية ظواهر الكتاب.

الفصل الثاني : حجّية الشهرة الفتوائية.

الفصل الثالث : حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد.

الفصل الرابع : حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد.

الفصل الخامس : حجّية قول اللغوي.



المقصد السادس

الحجج والأمارات

وهذا المقصد من أهم المقاصد في علم الأصول ، فإنّ المستنبط يبذل الجهد للعثور على ما هو حجّة بينه وبين ربّه ، فيثاب إن أصاب الواقع ، ويعذّر إن أخطأه.

وقد يعبّر عن هذا البحث بمصادر الفقه وأدلّته ، وهي عندنا منحصرة في أربعة:الكتاب ، السنّة ، الإجماع ، والعقل. وهي معتبرة عند كلا الفريقين مع اختلاف بينهم في سعة حجيّة العقل. غير انّ أهل السنّة يفترقون عن الشيعة في القول بحجية أمور أخرى مذكورة في كتبهم.

وقبل الخوض في المقصود نذكر تقسيم المكلّف حسب الحالات ، فنقول :

تقسيم المكلّف باعتبار الحالات

إنّ المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي له حالات ثلاث :

الأولى : القطع بالحكم الشرعي الواقعي.

الثانية : الظن به.

الثالثة : الشكّ فيه.

فإن حصل له القطع ، فيلزمه العمل به لاستقلال العقل بذلك ، فيثاب عند


الموافقة ، ويعذّر عند المخالفة شأن كلّ حجّة.

وإن حصل له الظن بالحكم الواقعي ، فإن قام الدليل القطعي على حجّية ذلك الظن كخبر الواحد يجب العمل به ، فإنّ الطريق إلى الحكم الشرعي وإن كان ظنيا كما هو المفروض ، لكن إذا قام الدليل القطعي من جانب الشارع على حجّية ذلك الطريق ، يكون هذا الطريق علميّا وحجّة شرعية.

وإن لم يقم ، فهو بحكم الشاك ، ووظيفته العمل بالأصول العملية التي هي حجّة عند عدم الدليل.

فيقع الكلام في مقامات ثلاثة :

الأوّل : في القطع وأحكامه.

الثاني : في الظنون المعتبرة.

الثالث : في الأصول العملية.

غير انّ البحث عن الأصول العملية يأتي في المقصد السابع ، فينحصر الكلام في المقصد السادس بالقطع والظن.


المقام الأوّل

القطع وأحكامه

وفيه فصول

الفصل الأوّل :

حجّية القطع

لا شكّ في وجوب متابعة القطع والعمل على وفقه ما دام موجودا ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وهو حجّة عقلية ، وهي عبارة عمّا يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبعبارة أخرى ما يكون قاطعا للعذر إذا أصاب ومعذّرا إذا أخطأ ، والقطع بهذا المعنى حجّة ، حيث يستقل به العقل ويبعث القاطع إلى العمل وفقه ويحذّره عن المخالفة ، وما هذا شأنه ، فهو حجّة بالذات ، غنيّ عن جعل الحجّية له ، لأنّ جعل الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي أو بدليل ظني ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى ذلك الدليل القطعي ، ويقال : ما هو الدليل على حجّيته ، وهكذا فيتسلسل ، وعلى الثاني يلزم أن يكون القطع أسوأ حالا من الظن ، ولذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلى ما هو حجّة بالذات ، أعني : القطع ، وقد تبيّن في محله «أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات».

فتبيّن أنّ للقطع خصائص ثلاث :

١. كاشفيته عن الواقع ولو عند القاطع.


٢. منجّزيته عند الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يثاب ولو عصى يعاقب.

٣. معذّريته عند عدم الإصابة ، فيعذّر القاطع إذا أخطأ في قطعه وبان خلافه.

ثمّ اعلم أنّ المراد بالحجّة هنا ليس الحجّة الأصولية وهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة يعتبرونه حجّة في باب الأحكام والموضوعات لمصالح ، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة كخبر الثقة ، لأنّ القطع غنيّ عن إفاضة الحجّية عليه، وذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج ومعه لا حاجة إلى جعل الحجّية له.


الفصل الثاني

التجرّي

التجرّي في اللغة إظهار الجرأة ، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقق التجرّي بالإقدام على خلاف ما دلّ الدليل على وجوبه أو حرمته ، وفي الاصطلاح هو الإقدام على خلاف ما قطع به أو قام الدليل المعتبر عليه بشرط أن يكون مخالفا للواقع ، كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فترك الأوّل وارتكب الثاني ، فبان خلافهما وانّه لم يكن واجبا أو حراما.

ويقابله الانقياد في الاصطلاح ، فهو عبارة عمّا إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فعمل بالأوّل وترك الثاني ، فبان خلافهما.

والكلام في التجرّي يقع في موضعين :

الموضع الأوّل : في حكم نفس التجرّي

وفيه أقوال :

منها : استحقاق العقاب.

ومنها : عدم استحقاق العقاب.

ومنها : استحقاق العقاب إلاّ إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة وأتى به ، فلا يبعد عدم استحقاق العقاب ، وهو خيرة صاحب الفصول.


والصواب هو القول الثاني أي عدم استحقاق العقاب.

وليعلم أنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية ، لأجل غلبة الهوى على العقل والشقاء على السعادة. وربما يرتكبه الإنسان مع استيلاء الخوف عليه. وأمّا ضمّ عناوين أخر عليه من الهتك والتمرّد ورفع علم الطغيان فجميعها أجنبية عن المقام ، فلا شكّ في استحقاق العقاب إذا عدّ عمله مصداقا للهتك ورمزا للطغيان وإظهارا للجرأة إلى غير ذلك من العناوين المقبّحة.

نعم انّ التجرّي يكشف عن ضعف الإيمان ، فيستحق اللوم والذم لا العقاب.

الموضع الثاني : في حكم الفعل المتجرّى به (١)

والكلام فيه تارة من حيث كونه قبيحا وأخرى من جهة الحرمة الشرعية.

أمّا الأوّل ، فهو منتف قطعا ، لأنّ الحسن والقبح يعرضان على الشيء بالملاك الواقعي فيه ، والمفروض أنّ الفعل المتجرّى به هو شرب الماء وهو فاقد لملاك القبح.

وأمّا الثاني ، فلا دليل على الحرمة ، لأنّ الحرام هو شرب الخمر ، والمفروض أنّه شرب الماء وليس هناك دليل يدلّ على أنّ شرب ما يقطع الشارب بكونه خمرا حرام ، وذلك لأنّ الحرمة تتعلّق بواقع الموضوعات لا الموضوع المقطوع به فبذلك ظهر عدم حرمة التجرّي ولا المتجرّى به.

غاية الأمر أنّ الفاعل يستحق الذم ، لأنّ عمله يكشف عن سوء سريرته.

__________________

(١) الفرق بين التجرّي والمتجرّى به انّ الأوّل ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية والشرعية ، بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي يتحقّق به مخالفة الحجّة.


الفصل الثالث

تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

إذا كان الحكم مترتبا على الواقع بلا مدخلية للعلم والقطع فيه ، فالقطع طريقي كحرمة الخمر والقمار ، ولا دور للقطع حينئذ سوى تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ.

وأمّا إذا أخذ القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعا للحكم ، فيعبّر عنه بالقطع الموضوعي ، كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع بحيث لولاه لما كان الخمر محكوما بالحرمة.

ثمّ إنّه ليس للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقا. وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع ، فبما أنّ لكلّ مقنن ، التصرف في موضوع حكمه بالسعة والضيق، فللشارع أيضا حقّ التصرف فيه ، فتارة تقتضي المصلحة ، اتخاذ مطلق القطع في الموضوع سواء حصل من الأسباب العادية أم من غيرها كما في المثال الثالث الآتي في التطبيقات، وأخرى تقتضي جعل قسم منه في الموضوع كالحاصل من الأسباب العادية ، وعدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها كما في المثال الثاني من التطبيقات.


تطبيقات

١. انّ قول العدلين أو الشاهد الواحد فيما يعتبر مع اليمين إنّما يكون حجّة في القضاء إذا استند إلى الحس لا إلى الحدس فلو قطعت البيّنة أو الشاهد عن غير طريق الحس فقطعهما حجّة لهما ولا يصحّ للقاضي الحكم استنادا إلى شهادتهما لأنّ المعتبر في الشهادة هو حصول القطع للبيّنة أو الشاهد من طريق الحس.

فالقطع بالنسبة إلى خصوص البيّنة أو الشاهد قطع طريقي محض لا يمكن التصرف فيه ولكن قطعهما بالنسبة إلى القاضي قطع موضوعي وقد تصرّف الشارع في الموضوع وجعل القسم الخاص موضوعا للحكم (القضاء) لا مطلق القطع وكم له من نظير.

٢. إذا حصل اليقين للمجتهد من غير الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، كالرمل والجفر فقطعه بالحكم حجّة لنفسه دون المقلد وذلك لما ذكرناه في قطع الشاهد أو البيّنة بالنسبة إلى القاضي.

٣. الحكم بوجوب التيمّم لمن أحرز كون استعمال الماء مضرا والحكم بوجوب التعجيل لمن أحرز ضيق الوقت فالقطع فيهما موضوعي ، فلو انكشف الخلاف وأنّ الماء لم يكن مضرا ولا الوقت ضيقا لما ضرّ بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.


الفصل الرابع

قطع القطّاع

يطلق القطّاع ويراد منه تارة من يحصل له القطع كثيرا من الأسباب التي لو أتيحت لغيره لحصل له أيضا ، وأخرى من يحصل له القطع كثيرا من الأسباب التي لا يحصل منها القطع لغالب الناس. وحصول القطع بالمعنى الأوّل زين وآية للذكاء ، وبالمعنى الثاني شين وآية الاختلال الفكري ، ومحل البحث هو القسم الثاني.

ثمّ إنّ الوسواسي في مورد النجاسات ، من قبيل القطّاع يحصل له القطع بها كثيرا من أسباب غير عادية كما أنّه في مورد الخروج عن عهدة التكاليف أيضا وسواسي لكن بمعنى لا يحصل له اليقين بسهولة.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه حكي عن الشيخ الأكبر (١) عدم الاعتناء بقطع القطاع ، وتحقيق كلامه يتوقف على البحث في مقامين :

الأوّل : ما إذا كان القطع طريقيا.

الثاني : ما إذا كان القطع موضوعيا.

أمّا الأوّل : فالظاهر كون قطعه حجّة عليه ولا يتصوّر نهيه عن العمل به لاستلزام النهي وجود حكمين متناقضين عنده في الشريعة ، حيث يقول : الدم نجس وفي الوقت نفسه ينهاه عن العمل بقطعه بأنّ هذا دم.

__________________

(١) الشيخ جعفر النجفي المعروف ب «كاشف الغطاء» المتوفّى (١٢٢٨ ه‍).


نعم لو أراد عدم كفايته في الحكم بصحّة العمل عند انكشاف الخلاف ، كما إذا قطع بدخول الوقت وتبيّن عدم دخوله فيحكم عليه بالبطلان فله وجه ، ولكن لا فرق عندئذ بين القطاع وغيره.

وأمّا الثاني : أي القطع الموضوعي فبما أنّ القطع جزء الموضوع ، فللمقنّن التصرف في موضوع حكمه ، فيصح له جعل مطلق القطع جزءا للموضوع ، كما يصحّ جعل القطع الخاص جزءا له ، أي ما يحصل من الأسباب العاديّة دون قطع القطّاع كالقطع الحاصل للشاهد أو القاضي أو المجتهد بالنسبة إلى الغير. فلو كان الشاهد أو القاضي أو المجتهد قطاعا فلا يعتد بقطعه ، لأنّ المأخوذ في العمل بقطع الشاهد أو القاضي أو المجتهد هو القطع الحاصل من الأسباب العادية لا من غيرها.

هذا كلّه حول القطّاع ، أمّا الظنّان فيمكن للشارع سلب الاعتبار عنه ، من غير فرق بين كونه طريقا إلى متعلّقه ، أو مأخوذا في الموضوع والفرق بينه وبين القطع واضح ، لأنّ حجّية الظن ليست ذاتية له ، وإنّما هي باعتبار الشارع وجعله إيّاه حجّة في مجال الطاعة والمعصية ، وعليه يصحّ له نهي الظنّان عن العمل بظنّه من غير فرق بين كونه طريقيا أو موضوعيا.

وأمّا الشكّاك ففي كلّ مورد لا يعتدّ بالشكّ العادي لا يعتنى بشكّ الشكّاك بطريق أولى كالشك بعد المحل ، وأمّا المورد الذي يعتنى بالشك العادي فيه ويكون موضوعا للأثر، فلا يعتنى بشك الشكّاك أيضا ، كما في عدد الركعتين الأخيرتين فلو شكّ بين الثلاث والأربع ، وكان شكّه متعارفا يجب عليه صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر وأمّا الشكّاك ، فلا يعتنى بشكّه ولا يترتب عليه الأثر بشهادة قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» فلو اعتدّ به لم يبق فرق بين الشكّاك وغيره.


الفصل الخامس

هل المعلوم إجمالا كالمعلوم تفصيلا؟

العلم ينقسم إلى : تفصيلي كالعلم بوجود النجاسة في الإناء المعيّن ، وإجمالي ، كالعلم بوجود النجاسة في أحد الإناءين لا بعينه.

فاعلم أنّهم اختلفوا في أنّ العلم الإجمالي هل هو كالعلم التفصيلي بالتكليف أو لا؟ فالبحث يقع في منجّزية العلم الإجمالي وكفاية الامتثال الإجمالي.

أمّا منجّزية العلم الإجمالي فالحقّ أنّ العلم الإجمالي بوجود التكليف الذي لا يرضى المولى بتركه منجّز للواقع ، ومعنى التنجيز هو وجوب الخروج عن عهدة التكليف عقلا ، فلو علم وجدانا بوجوب أحد الفعلين أو حرمة أحدهما ، يجب عليه الإتيان بهما في الأوّل وتركهما في الثاني ولا تكفي الموافقة الاحتمالية بفعل واحد أو ترك واحد منهما.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في لزوم الموافقة القطعية (وعدم كفاية الموافقة الاحتمالية) وحرمة المخالفة القطعية كما سيأتي في أصالة الاحتياط.

وأمّا كفاية الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فله صور :

الصورة الأولى : كفاية الامتثال الإجمالي في التوصليات ، كما إذا علم بوجوب


مواراة أحد الميّتين فيواريهما من دون استعلام حال واحد منهما ، ومثله التردّد في وقوع الإنشاء بلفظ النكاح ، أو بلفظ الزواج ، فينشئ بكلام اللفظين.

الصورة الثانية : كفاية الامتثال الإجمالي في التعبديّات فيما إذا لم يستلزم التكرار ، كما إذا تردّد الواجب بين غسل الجنابة وغسل مسّ الميت ، فيغتسل امتثالا للأمر الواقعي احتياطا مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي أو الظن التفصيلي الذي دلّ الدليل على كونه حجّة ، والحقّ جوازه فلا يجب عليه التفحّص عن الواجب وانّه هل غسل الجنابة أو مسّ الميت وإن تمكن منه ، لأنّ الصحّة في العبادات رهن إتيان الفعل لأمره سبحانه والمفروض أنّه إنّما أتى به امتثالا لأمره الواقعي.

الصورة الثالثة : كفاية الامتثال الإجمالي في التعبديات فيما إذا استلزم التكرار ، كما إذا تردّد أمر القبلة بين جهتين ، أو تردّد الواجب بين الظهر والجمعة مع إمكان التعيين بالاجتهاد أو التقليد فتركهما وامتثل الأمر الواقعي عن طريق تكرار العمل.

فالظاهر أنّ حقيقة الطاعة هو الانبعاث عن أمر المولى بحيث يكون الداعي والمحرّك هو أمره والمفروض أنّ الداعي إلى الإتيان بكلّ واحد من الطرفين هو بعث المولى المقطوع به ، ولو لا بعثه لما قام بالإتيان بواحد من الطرفين.

نعم لا يعلم تعلّق الوجوب بالواحد المعيّن ، ولكن الداعي للإتيان بكلّ واحد هو أمر المولى في البين واحتمال انطباقه على كلّ واحد ، ويكفي هذا المقدار في حصول الطاعة.

وبذلك ظهر أنّ الاحتياط في عرض الدليل التفصيلي : الاجتهاد والتقليد.

ولذلك قالوا : يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته وعادياته أن يكون


مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا. (١)

فقد خرجنا بنتيجتين :

١. العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في منجّزية التكليف ومعذّريته.

٢. كفاية الامتثال الإجمالي عن الامتثال التفصيلي مطلقا سواء تمكّن من التفصيلي أم لا.

ثمّ إنّ العلم بالتكليف قد يراد به العلم الوجداني بالتكليف الذي لا يرضى المولى بتركه أبدا ، كما إذا علم بكون أحد الشخصين محقون الدم دون الآخر ، وأخرى يراد به العلم بقيام الحجّة الشرعية على التكليف ، كما إذا قامت الأمارة على حرمة العصير العنبي إذا غلى ، وتردّد المغلي بين إناءين وشمل إطلاق الأمارة المعلوم بالإجمال.

والكلام في المقام إنّما هو في الصورة الأولى أي العلم الوجداني ، لا ما إذا قامت الحجّة على الحرمة وتردّدت بين الأمرين ، فانّ البحث عن هذا القسم موكول إلى مبحث الاحتياط من الأصول العملية.

__________________

(١) العروة الوثقى : فصل التقليد ، المسألة الأولى ، ص ٩٠.


الفصل السادس

حجّية العقل

حجّية العقل في مجالات خاصة :

إنّ العقل أحد الحجج الأربع والذي اتّفق أصحابنا إلاّ قليلا منهم على حجّيته ، ولأجل إيضاح الحال نقدّم أمورا :

الأوّل : الإدراك العقلي ينقسم إلى إدراك نظري وإدراك عملي ، فالأوّل إدراك ما ينبغي أن يعلم ، كإدراك العقل وجود الصانع وصفاته وأفعاله وغير ذلك ، والثاني إدراك ما ينبغي أن يعمل ، كإدراكه حسن العدل وقبح الظلم ووجوب ردّ الوديعة وترك الخيانة فيها.

الثاني : انّ الاستدلال لا يتم إلاّ بالاستقراء أو التمثيل أو القياس المنطقي.

والاستقراء الناقص لا يحتج به ، لأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ ولم يدلّ دليل على حجّية مثله، وأمّا الاستقراء الكامل فلا يعدّ دليلا لأنّه علوم جزئية تفصيلية تصبّ في قالب قضية كليّة عند الانتهاء من الاستقراء دون أن يكون هناك معلوم يستدل به على المجهول. وبعبارة أخرى يصل المستقرئ إلى النتيجة في ضمن الاستقراء وعند الانتهاء من دون أن يكون هنا استدلال.

وأمّا التمثيل ، فهو عبارة عن القياس الأصولي الذي لا نقول به.

فتعيّن أن تكون الحجّة هي القياس المنطقي ، وهو على أقسام ثلاثة :

أ. أن تكون الصغرى والكبرى شرعيّتين وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي.


ب. أن تكون كلتاهما عقليّتين ، كإدراك العقل حسن العدل (الصغرى) وحكمه بالملازمة بين حسنه عقلا ووجوبه شرعا (الكبرى) وهذا ما يعبّر عنه بالمستقلاّت العقلية ، أو التحسين والتقبيح العقليين. (١)

ج. أن تكون الصغرى شرعية والكبرى عقلية كما قد يقال : «الوضوء ممّا يتوقف عليه الواجب (الصلاة)» وهذه مقدّمة شرعية «وكلّ ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب عقلا» وهذه مقدمة عقلية فينتج : فالوضوء واجب عقلا.

وهذا ما يعبر عنه بغير المستقلات العقلية نعم يعلم وجوب الوضوء شرعا بالملازمة بين حكمي العقل والشرع.

الثالث : عرّف الدليل العقلي بأنّه حكم يتوصّل به إلى حكم شرعي ، مثلا إذا حكم العقل بأنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه موجب لحصول الامتثال يستدل به على أنّه في الشرع أيضا كذلك ، فيترتّب عليه براءة الذمّة عن الإعادة والقضاء ، أو إذا حكم العقل عند التزاحم بلزوم تقديم الأهم كحفظ النفس المحترمة على المهم كالتصرف في مال الغير بلا إذنه ، فيستدل به على الحكم الشرعي وهو وجوب إنقاذ الغريق ، وجواز التصرف في مال الغير ، كلّ ذلك توصل بالحكم العقلي للاهتداء إلى الحكم الشرعي.

إذا عرفت ذلك ، فيقع البحث في حجّية العقل في مقامين :

المقام الأوّل : استكشاف حكم الشرع عند استقلاله بالحكم بالنظر إلى ذات الموضوع، فنقول : إذا استقل العقل بالحكم على الموضوع عند دراسته بما هو هو من غير التفات إلى ما وراء الموضوع من المصالح والمفاسد ، فهل يكون ذلك دليلا

__________________

(١) في مقابل الأشاعرة الذين لا يعترفون بهما إلاّ عن طريق الشرع ، فالحسن عندهم ما حسّنه الشارع وهكذا القبيح.


على كون الحكم عند الشارع كذلك أيضا أو لا؟ فذهب الأصوليّون إلى وجود الملازمة بين الحكمين ، وما ذلك إلاّ لأنّ العقل يدرك حكما عاما غير مقيّد بشيء.

مثلا إذا أدرك العقل (حسن العدل) فقد أدرك انّه حسن مطلقا ، أي سواء كان الفاعل واجب الوجود أم ممكن الوجود ، وسواء كان الفعل في الدنيا أم في الآخرة ، وسواء كان مقرونا بالمصلحة أم لا ، فمثل هذا الحكم العقلي المدرك يلازم كون الحكم الشرعي أيضا كذلك وإلاّ لما كان المدرك عاما شاملا لجميع تلك الخصوصيات. وبذلك تتضح الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في المستقلاّت العقلية.

هذا كلّه في المستقلات العقلية وبه يظهر حكم غير المستقلاّت العقلية ، فمثلا إذا أدرك العقل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، يكشف ذلك انّ الحكم عند الشرع كذلك ، لأنّ الحكم المدرك بالعقل حكم عام غير مقيّد بشيء من القيود ، فكما أنّ العقل يدرك الملازمة بين الأربعة والزوجية بلا قيد فيكون حكما صادقا في جميع الأزمان والأحوال ، فكذلك يدرك الملازمة بين الوجوبين أو بين الوجوب والحرمة ، فالقول بعدم كشفه عن حكم الشارع كذلك ، ينافي إطلاق حكم العقل وعدم تقيّده بشيء.

وبذلك يتّضح أنّ ادّعاء الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يرجع إلى أنّ الحكم المدرك بالعقل حكم مطلق غير مقيد بشيء ، فيعمّ حكم الشارع أيضا.

المقام الثاني : حكم الشرع عند استقلال العقل بالحكم بالنظر إلى المصالح والمفاسد في الموضوع لا بالنظر إلى ذات الموضوع.

فنقول : إذا أدرك العقل المصلحة أو المفسدة في شيء وكان إدراكه مستندا إلى المصلحة أو المفسدة العامتين اللّتين يستوي في إدراكهما جميع العقلاء ، ففي مثله يصحّ استنباط الحكم الشرعي من الحكم العقلي كلزوم الاجتناب عن السمّ


المهلك ، وضرورة إقامة الحكومة ، وغيرهما.

نعم لو أدرك المصلحة أو المفسدة ولم يكن إدراكه إدراكا نوعيا يستوي فيه جميع العقلاء ، بل إدراكا شخصيا حصل له بالسبر والتقسيم ، فلا سبيل للعقل بأن يحكم بالملازمة فيه ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية المولوية وإن كانت لا تنفك عن المصالح أو المفاسد ، ولكن أنّى للعقل أن يدركها كما هي عليها.

وبذلك يعلم أنّه لا يمكن للفقيه أن يجعل ما أدركه شخصيّا من المصالح والمفاسد ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي ، بل يجب عليه الرجوع إلى سائر الأدلّة.

تطبيقات

يترتب ثمرات كثيرة على حجّية العقل نستعرض قسما منها :

١. وجوب المقدّمة على القول بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

٢. حرمة ضدّ الواجب على القول بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.

٣. بطلان العبادة على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي على الأمر وصحّتها في هذه الصورة على القول بتقديم الأمر وصحّتها مطلقا على القول بجواز الاجتماع.

٤. فساد العبادة إذا تعلّق النهي بها أو أجزائها أو شرائطها أو أوصافها.

٥. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال على تفصيل مرّ في محلّه.

٦. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.


الفصل السابع

في حجّية العرف والسيرة

إنّ العرف له دور في مجال الاستنباط أوّلا ، وفصل الخصومات ثانيا ، حتى قيل في حقّه ، «العادة شريعة محكمة» أو «الثابت بالعرف كالثابت بالنص» (١) ولا بدّ للفقيه من تحديد دوره وتبيين مكانته حتى يتبين مدى صدق القولين.

أقول : العرف عبارة عن كلّ ما اعتاده الناس وساروا عليه ، من فعل شاع بينهم ، أو قول تعارفوا عليه ، ولا شكّ انّ العرف هو المرجع إذا لم يكن هناك نص من الشارع (على تفصيل سيوافيك) وإلاّ فهو ساقط عن الاعتبار. وتتلخص مرجعية العرف في الأمور الأربعة التالية :

١. استكشاف الجواز تكليفا أو وضعا

يستكشف الحكم الشرعيّ من السيرة بشرطين :

الف : أن لا تصادم النص الشرعي.

ب : أن تكون متصلة بعصر المعصوم.

توضيحه : إنّ السيرة ، على قسمين :

تارة تصادم الكتاب والسنّة وتعارضهما ، كاختلاط النساء بالرجال في الأفراح والأعراس وشرب المسكرات فيها والمعاملات الربوية ، فلا شكّ انّ هذه

__________________

(١) رسائل ابن عابدين : ٢ / ١١٣ ، في رسالة نشر العرف التي فرغ منها عام ١٢٤٣ ه‍.


السيرة باطلة لا يرتضيها الإسلام ولا يحتج بها إلاّ الجاهل.

وأخرى لا تصادم الدليل الشرعي وفي الوقت نفسه لا يدعمها الدليل ، فهذا النوع من السير إن اتصلت بزمان المعصوم وكانت بمرأى ومسمع منه ومع ذلك سكت عنها تكون حجّة على الأجيال الآتية ، كالعقود المعاطاتية من البيع والإجارة وكوقف الأشجار والأبنية من دون وقف العقار.

وبذلك يعلم أنّ السير الحادثة بين المسلمين بعد رحيل المعصوم لا يصح الاحتجاج بها وإن راجت بينهم كالأمثلة التالية :

١. عقد التأمين : وهو عقد رائج بين العقلاء ، عليه يدور رحى الحياة العصرية،فموافقة العرف لها ليست دليلا على مشروعيتها ، بل يجب التماس دليل آخر عليها.

٢. عقد حقّ الامتياز : قد شاع بين الناس شراء الامتيازات كامتياز الكهرباء والهاتف والماء وغير ذلك التي تعدّ من متطلّبات الحياة العصرية ، فيدفع حصة من المال بغية شرائها وراء ما يدفع في كلّ حين عند الاستفادة والانتفاع بها ، وحيث إنّ هذه السيرة استحدثت ولم تكن من قبل ، فلا تكون دليلا على جوازها ، فلا بدّ من طلب دليل آخر.

٣. بيع السرقفلية : قد شاع بين الناس انّ المستأجر إذا استأجر مكانا ومكث فيه مدّة يثبت له حق الأولوية وربما يأخذ في مقابله شيئا باسم «السرقفلية» حين التخلية ، وترك المكان للغير.

٢. تبيين المفاهيم

ألف : إذا وقع البيع والإجارة وما شابههما موضوعا للحكم الشرعي ثمّ شكّ


في مدخلية شيء أو مانعيته في صدق الموضوع شرعا ، فالصدق العرفي دليل على أنّه هو الموضوع عند الشرع. إذ لو كان المعتبر غير البيع بمعناه العرفي لما صحّ من الشارع إهماله مع تبادر غيره وكمال اهتمامه ببيان الجزئيات من المندوبات والمكروهات إذ يكون تركه إغراء بالجهل وهو لا يجوز.

ب : لو افترضنا الإجمال في مفهوم الغبن أو العيب في المبيع فيحال في صدقهما إلى العرف.

قال المحقّق الأردبيلي : قد تقرّر في الشرع انّ ما لم يثبت له الوضع الشرعي يحال إلى العرف جريا على العادة المعهودة من رد الناس إلى عرفهم. (١)

ج : لو افترضنا الإجمال في حدّ الغناء فالمرجع هو العرف ، فكلّ ما يسمّى بالغناء عرفا فهو حرام وإن لم يشتمل على الترجيع ولا على الطرب.

يقول صاحب مفتاح الكرامة : المستفاد من قواعدهم حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على عرفهم ، فما علم حاله في عرفهم جرى الحكم بذلك عليه ، وما لم يعلم يرجع فيه إلى العرف العام كما بيّن في الأصول. (٢)

يقول الإمام الخميني رحمه‌الله : أمّا الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع والعنوان فصحيح لا محيص عنه إذا كان الموضوع مأخوذا في دليل لفظي أو معقد الإجماع. (٣)

٣. تشخيص المصاديق

قد اتّخذ الشرع مفاهيم كثيرة وجعلها موضوعا لأحكام ، ولكن ربما يعرض

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٣٠٤.

(٢) مفتاح الكرامة : ٤ / ٢٢٩.

(٣) الإمام الخميني : البيع : ١ / ٣٣١.


الإجمال على مصاديقها ويتردّد بين كون الشيء مصداقا لها أو لا.

وهذا كالوطن والصعيد والمفازة والمعدن والأرض الموات إلى غير ذلك من الموضوعات التي ربما يشك الفقيه في مصاديقها ، فيكون العرف هو المرجع في تطبيقها على موردها.

٤. حلّ الإجمالات في ظلّ الأعراف الخاصة

إنّ لكلّ قوم وبلد أعرافا خاصة بهم يتعاملون في إطارها ويتفقون على ضوئها في كافة العقود والإيقاعات ، فهذه الأعراف تشكّل قرينة حالية لحل كثير من الإجمالات المتوهمة في أقوالهم وأفعالهم ، ولنقدّم نماذج منها :

ألف : إذا باع اللحم ثمّ اختلفا في مفهومه ، فالمرجع هو المتبادر في عرف المتبايعين وهو اللحم الأحمر دون اللحم الأبيض كلحم السمك.

ب : إذا أوصى الوالد بشيء لولده ، فالمرجع في تفسير الولد وانّه هو الذكر والأنثى أو الذكر فقط هو العرف.

ج : إذا اختلفت البلدان في بيع شيء بالكيل أو الوزن أو بالعدّ ، فالمتبع هو العرف الرائج في بلد البيع.

قال المحقّق الأردبيلي : كلّما لم يثبت فيه الكيل ولا الوزن ولا عدمهما في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحكمه حكم البلدان ، فإن اتّفق البلدان فالحكم واضح ، وإن اختلفا ففي بلد الكيل أو الوزن يكون ربويا تحرم الزيادة وفي غيره لا يكون ربويا فيجوز التفاضل. (١)

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٨ ، كتاب المتاجر ، مبحث الربا ، ٤٧٧.


المقام الثاني

أحكام الظن المعتبر

ويقع البحث في موضعين :

الأوّل : إمكان التعبّد بالظن.

الثاني : وقوعه بعد ثبوت إمكانه.

الموضع الأوّل : في إمكان التعبّد بالظن

والمراد منه هو الإمكان الوقوعي : أي ما لا يترتب على وقوعه مفسدة فالبحث في أنّه هل تترتب على التعبد بالظن مفسدة أو لا؟

فالقائلون بعدم جواز العمل بالظن ذهبوا إلى الامتناع وقوعا ، كما أنّ القائلين بجواز التعبّد ذهبوا إلى إمكانه كذلك.

ثمّ إنّ القائلين بامتناع التعبد ـ منهم ابن قبة الرازي (١) ـ استدلّوا بوجوه مذكورة في المطولات. ولكن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه في الشريعة الإسلامية كما سيتضح فيما بعد.

__________________

(١) هو محمد بن عبد الرحمن بن قبّة الرازي المتكلّم الكبير المعاصر لأبي القاسم البلخي المتوفّى عام (٣١٧ ه‍) وقد توفّي ابن قبة قبله وله كتاب الانصاف في الإمامة. ترجمه النجاشي في رجاله برقم ١٠٢٤.


الموضع الثاني : في وقوع التعبد بالظن بعد ثبوت إمكانه

وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بدّ أن نبيّن ما هو الأصل في العمل بالظن حتى يكون هو المرجع عند الشكّ ، فما ثبت خروجه عن ذلك الأصل نأخذ به ، وما لم يثبت نتمسك فيه بالأصل فنقول : إنّ القاعدة الأوّلية في العمل بالظن هي الحرمة وعدم الحجّية إلاّ ما خرج بالدليل.

والدليل عليه أنّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلى الشارع في مقام العمل، ومن المعلوم أنّ إسناد المؤدّى إلى الشارع إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّه حكم الشارع وإلاّ يكون الإسناد تشريعا دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة (١) ، وليس التشريع إلاّ إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين.

قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس / ٥٩).

فالآية تدلّ على أنّ الإسناد إلى الله يجب أن يكون مقرونا بالإذن منه سبحانه وفي غير هذه الصورة يعد افتراء سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أم مقطوع العدم،والآية تعم كلا القسمين. والمفروض أنّ العامل بالظن شاكّ في إذنه سبحانه ومع ذلك ينسبه إليه.

ثمّ إنّ الأصوليين ذكروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل. منها :

١. ظواهر الكتاب.

٢. الشهرة الفتوائية.

__________________

(١) الكتاب والسنّة والإجماع والعقل كما أوضحه الشيخ الأعظم في الفرائد ، واقتصرنا في المتن على الكتاب العزيز.


٣. خبر الواحد.

٤. الإجماع المنقول بخبر الواحد.

٥. قول اللغوي.

الفصل الأوّل

حجّية ظواهر الكتاب

اتّفق العقلاء على أنّ ظاهر كلام كل متكلّم إذا كان جادّا لا هزالا ، حجّة وكاشف عن مراده ، ولأجل ذلك يؤخذ بإقراره واعترافه في المحاكم ، وينفّذ وصاياه ، ويحتج برسائله وكتاباته.

وآيات الكتاب الكريم إذا لم تكن مجملة ولا متشابهة ، لها ظواهر كسائر الظواهر، يحتج بها كما يحتج بسائر الظواهر ، قال سبحانه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر / ١٧) وفي الوقت نفسه أمر بالتدبّر ، وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد / ٢٤) كلّ هذا يعرب عن كون ظواهر الكتاب كسائر الظواهر ، حجّة ألقيت للإفادة والاستفادة والاحتجاج والاستدلال.

نعم إنّ الاحتجاج بكلام المتكلّم يتوقّف على ثبوت أمور :

الأوّل : ثبوت صدوره من المتكلّم.

الثاني : ثبوت جهة صدوره وأنّه لم يكن هازلا مثلا.

الثالث : ثبوت ظهور مفرداته وجمله.

الرابع : حجّية ظهور كلامه وكونه متبعا في كشف المراد.


والأوّل ثابت بالتواتر والثاني بالضرورة حيث إنّه سبحانه أجلّ من أن يكون هازلا. والمفروض ثبوت ظهور مفرداته ومركّباته وجمله بطريق من الطرق السابقة وهو التبادر وصحّة الحمل والسلب والإطراد. ولم يبق إلاّ الأمر الرابع وهو حجّية ظهور كلامه ، والكتاب الكريم كتاب هداية وبرنامج لسعادة الإنسان والمجتمع ، فلازم ذلك أن تكون ظواهره حجّة كسائر الظواهر ، وعلى ذلك فما ذهب إليه الأخباريون بحجيّة كلّ ظاهر إلاّ ظاهر الكتاب ممّا لا وجه له بل هو دعوى تقشعرّ منها الجلود ، وترتعد منها الفرائص ، إذ كيف توصف حجّة الله الكبرى ، والثقل الأعظم ، بعدم الحجّية مع أنّ الكتاب هو المعجزة الكبرى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفيمكن أن يكون معجزا ولا يحتج بظواهره ومفاهيمه مع أنّ الإعجاز قائم على اللفظ والمعنى معا؟!

واعلم أنّه ليس المراد من حجّية ظواهر القرآن هو استكشاف مراده سبحانه من دون مراجعة إلى ما يحكم به العقل في موردها ، أو من دون مراجعة إلى الآيات الأخرى التي تصلح لأن تكون قرينة على المراد ، أو من دون مراجعة إلى الأحاديث النبوية وروايات العترة الطاهرة في إيضاح مجملاته وتخصيص عموماته وتقييد مطلقاته.

فالاستبداد في فهم القرآن مع غض النظر عمّا ورد حوله من سائر الحجج ضلال لا شكّ فيه ، كيف؟ والله سبحانه يقول : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل / ٤٤) فجعل النبي مبيّنا للقرآن وأمر الناس بالتفكّر فيه،فللرسول سهم في إفهام القرآن كما أنّ لتفكّر الناس وإمعان النظر فيه سهما آخر،وبهذين الجناحين يحلّق الإنسان في سماء معارفه ، ويستفيد من حكمه وقوانينه.

وبذلك تقف على مفاد الأخبار المندّدة بفعل فقهاء العامة كأبي حنيفة و


قتادة ، فإنّهم كانوا يستبدون بنفس القرآن من دون الرجوع إلى حديث العترة الطاهرة في مجملاته ومبهماته وعموماته ومطلقاته. فالاستبداد بالقرآن شيء ، والاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلى الأحاديث شيء آخر ، والأوّل هو الممنوع والثاني هو الذي جرى عليه أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ.

ثمّ إنّ الأصوليين جعلوا مطلق الظواهر من الظنون وقالوا باعتبارها وخروجها عن تحت الضابطة السالفة الذكر بدليل خاص ، وهو بناء العقلاء على حجّية ظواهر كلام كلّ متكلّم، ولكن دقة النظر تقتضي أن تكون الظواهر من القطعيات بالنسبة إلى المراد الاستعمالي لا الظنيّات.

لأنّ السير في المحاورات العرفية يرشدنا إلى أنّها من الأمارات القطعية على المراد الاستعمالي بشهادة انّ المتعلّم يستدل بظاهر كلام المعلّم على مراده. وما يدور بين البائع والمشتري من المفاهيم لا توصف بالظنية ، وما يتفوّه به الطبيب يتلقّاه المريض أمرا واضحا لا سترة فيه كما أنّ ما يتلقّاه السائل من جواب المجيب يسكن إليه دون أيّ تردد.

فإذا كانت هذه حال محاوراتنا العرفية في حياتنا الدنيويّة ، فلتكن ظواهر الكتاب والسنّة كذلك فلما ذا نجعلها ظنيّة الدلالة؟!

نعم المطلوب من كونها قطعية الدلالة هو دلالتها بالقطع على المراد الاستعمالي لا المراد الجدي ، لأنّ الموضوع على عاتق الكلام هو كشفه عمّا يدل عليه اللفظ بالوضع وما يكشف عنه اللفظ الموضوع هو المراد الاستعمالي ، والمفروض أنّ الظواهر كفيلة لإثبات هذا المعنى فلا وجه لجعلها ظنيّة الدلالة. وأمّا المراد الجدّي فإنّما يعلم بالأصل العقلائي ، أعني:أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية.

والذي صار سببا لعدّ الظواهر ظنّية هو تطرّق احتمالات عديدة إلى كلام المتكلّم ، أعني :


١. احتمال كون المتكلّم هازلا ، ٢. أو كونه مورّيا في مقاله ، ٣. أو ملقيا على وجه التقية، ٤. أو كون المراد الجدّي غير المراد الاستعمالي من حيث السعة والضيق بورود التخصيص أو التقييد عليه. فلأجل وجود تلك الاحتمالات جعلوا الظواهر من الظنون.

يلاحظ عليه : بالنقض أوّلا : لأنّ أكثر هذه الأمور موجودة في النص أيضا مع أنّهم جعلوه من القطعيات ، والحلّ ثانيا بأنّ نفي هذه الاحتمالات ليس على عاتق الظواهر حتى تصير لأجل عدم التمكّن من دفعها ظنية ، بل لا صلة لها بها وإنّما الدافع لتلك الاحتمالات هو الأصول العقلائية الدالّة على أنّ الأصل في كلام المتكلّم كونه جادّا ، لا هازلا ولا مورّيا ولا ملقيا على وجه التقية ، كما أنّ الأصل هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية ، ما لم يدل دليل على خلافه كما في مورد التخصيص والتقييد.

فالوظيفة الملقاة على عهدة الظواهر هي إحضار المراد الاستعمالي في ذهن المخاطب وهي تحضره على وجه القطع والبت بلا تردد وشك. وأمّا سائر الاحتمالات فليست هي المسئولة عن نفيها حتى توصف لأجلها بالظنية على أنّ أكثر هذه الاحتمالات بل جميعها منتفية في المحاورات العرفية وإنّما هي شكوك علميّة مغفولة للعقلاء.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ دلالة القرآن والسنّة وكذا دلالة كلام كلّ متكلّم على مراده من الأمور القطعية شريطة أن تكون ظاهرة لا مجملة ، محكمة لا متشابهة. ويكون المراد من قطعيتها ، كونها قطعية الدلالة على المراد الاستعمالي.

نعم الفرق بين الظاهر والنص ، هو انّ الأوّل قابل للتأويل إذا دلّت عليه القرينة ، بخلاف النصّ فلا يقبل التأويل ويعدّ التأويل تناقضا.


الفصل الثاني

الشهرة الفتوائيّة (١)

من الظنون التي قد خرجت عن أصل حرمة العمل بالظن ، الشهرة الفتوائية بين القدماء من الفقهاء وهي :

عبارة عن اشتهار الفتوى في مسألة لم ترد فيها رواية معتبرة فمثلا إذا اتّفق القدماء من الفقهاء على حكم في مورد ، ولم نجد فيه نصا من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام يقع الكلام في حجّية تلك الشهرة الفتوائية.

والظاهر (وفاقا لبعض الأعلام) حجّية مثل هذه الشهرة ، لأنّها تكشف عن وجود نص معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا حتى دعاهم إلى الإفتاء على ضوئه ، إذ من البعيد أن يفتي أقطاب الفقه بشيء بلا مستند شرعي ودليل معتدّ به ، وقد حكى سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف أنّ في الفقه الإمامي أربعمائة مسألة تلقّاها الأصحاب قديما وحديثا بالقبول وليس لها دليل إلاّ الشهرة الفتوائية بين القدماء بحيث لو حذفنا الشهرة عن عداد الأدلّة ، لأصبحت تلك المسائل فتاوى فارغة مجرّدة عن الدليل.

__________________

(١) وهنا ـ وراء الشهرة الفتوائية ـ شهرة روائية ، وشهرة عملية أوضحنا حالهما في «الوسيط» الجزء الثاني فلاحظ.


الفصل الثالث

حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد

السنّة في مصطلح فقهاء أهل السنّة هي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعله أو تقريره، والمعصوم من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام يجري قوله وفعله وتقريره عندنا مجرى قول النبي صلى الله

عليه وآله وسلم وفعله وتقريره ، ولأجل ذلك تطلق السنّة عند الإمامية على قول المعصوم وفعله وتقريره دون أن تختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وليس أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام من قبيل الرواة وإن كانوا يروون عن جدهم عليهم‌السلام ، بل هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ الأحكام الواقعية ، فقد رزقوا من جانبه سبحانه علما لصالح الأمّة كما رزق مصاحب النبي موسى عليهما‌السلام علما كذلك من دون أن يكون نبيا ، قال سبحانه : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف / ٦٥). فعندهم علم الشريعة وإن لم يكونوا أنبياء ولا رسلا.

ثمّ إنّ الخبر الحاكي للسنّة إمّا خبر متواتر ، أو خبر واحد. ثمّ إنّ الخبر الواحد إمّا منقول بطرق متعددة من دون أن يبلغ حدّ التواتر فهو مستفيض وإلاّ فغير مستفيض.

ولا شكّ في أنّ الخبر المتواتر يفيد العلم ولا كلام في حجّيته وإنّما الكلام في حجّية الخبر الواحد أعم من المستفيض وغيره. فقد اختلفت كلمة أصحابنا في ذلك :


أ. ذهب الشيخ المفيد والسيد المرتضى والقاضي ابن البراج والطبرسي وابن إدريس إلى عدم جواز العمل بالخبر الواحد في الشريعة.

ب. وذهب الشيخ الطوسي (١) وقاطبة المتأخّرين إلى حجّيته.

والمقصود في المقام إثبات حجّيته بالخصوص وفي الجملة مقابل السلب الكلّي ، وأمّا البحث عن سعة حجّيته سنشير (٢) إليها بعد الفراغ عن الأدلّة.

وقد استدلّوا على حجّيته بالأدلّة الأربعة :

الاستدلال بالكتاب العزيز

استدلّوا على حجّية خبر الواحد بآيات :

١. آية النبأ

قال سبحانه : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (الحجرات / ٦). (٣)

وقبل تقرير الاستدلال نشرح ألفاظ الآية :

١. التبيّن يستعمل لازما ومتعديا ، فعلى الأوّل فهو بمعنى الظهور ، قال سبحانه : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة / ١٨٧).

وعلى الثاني فهو بمعنى طلب التثبت كقوله سبحانه : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) لاحظ عدة الأصول : ١ / ٣٣٨ من الطبعة الحديثة.

(٢) راجع ص ١٦٨ قوله : لكن الإمعان فيها ...

(٣) قال الطبرسي : نزلت الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحا به ـ وكانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ـ فظنّ انّهم همّوا بقتله ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم ـ وكان الأمر بخلافه ـ فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية. لاحظ مجمع البيان : ٥ / ١٣٢.


فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء / ٩٤) ومعناه في المقام تبيّنوا صدق الخبر وكذبه.

٢. قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) علّة للتثبّت ، والمقصود خشية أن تصيبوا قوما بجهالة أو لئلاّ تصيبوا قوما بجهالة.

٣. الجهالة مأخوذة من الجهل ، وهي الفعل الخارج عن إطار الحكمة والتعقّل.

وأمّا كيفية الاستدلال ، فتارة يستدل بمفهوم الشرط ، وأخرى بمفهوم الوصف. وربما يحصل الخلط بينهما ، ففي تقرير الاستدلال بمفهوم الشرط ينصبّ البحث ، على الشرط أي مجيء المخبر بالنبإ ، دون عنوان الفاسق ، بخلاف الاستدلال بمفهوم الوصف حيث ينصبّ البحث على عنوان الفاسق مقابل العادل ففي إمكان الباحث جعل لفظ آخر مكان الفاسق عند تقرير الاستدلال بمفهوم الشرط لأجل صيانة الفكر عن الخلط ، فنقول :

الأوّل : الاستدلال بمفهوم الشرط

إنّ الموضوع هو نبأ الفاسق ، والشرط هو المجيء ، والجزاء هو التبيّن والتثبّت ، فكأنّه سبحانه قال : نبأ الفاسق ـ إن جاء به ـ فتبيّنه.

ويكون مفهومه : نبأ الفاسق ـ إن لم يجئ به ـ فلا يجب التبيّن عنه.

لكنّ للشرط (عدم مجيء الفاسق) مصداقين :

أ. عدم مجيء الفاسق والعادل فيكون عدم التبيّن لأجل عدم النبأ فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

ب. مجيء العادل به فلا يتبيّن أيضا فيكون عدم التبيّن من قبيل السالبة بانتفاء المحمول. أي النبأ موجود والمنفي هو المحمول ، أعني : التثبّت.


يلاحظ على الاستدلال : أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن الموضوع الوارد في القضية ، لا سلبه عن موضوع آخر ، لم يرد فيها ، فالموضوع في المنطوق هو «نبأ الفاسق» فيجب أن يتوارد التثبّت منطوقا وعدم التثبّت مفهوما على ذلك الموضوع لا على موضوع آخر كنبإ العادل ، وعندئذ ينحصر مفهومه في المصداق الأوّل ويكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن شئت قلت : إنّ الموضوع هو نبأ الفاسق فعند وجود الشرط ، أعني : المجيء بالنبإ ، يتثبّت عنده ، وعند عدم المجيء به لا يتثبّت لعدم الموضوع ، فخبر العادل لم يكن مذكورا في المنطوق حتى يحكم عليه بشيء في المفهوم.

الثاني : الاستدلال بمفهوم الوصف

وطريقة الاستدلال به واضحة لأنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على كون المخبر فاسقا، وهو يدل على عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، مثل : «في الغنم السائمة زكاة» الدالّ على عدمها في المعلوفة.

وإذا لم يجب التثبت عند إخبار العادل ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب أو الردّ فيلزم أن يكون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، لأنّ خبر الفاسق يتبيّن عنه فيعمل به عند ظهور الصحّة ، وأمّا خبر العادل فيترك ، ولا يعمل به مطلقا.

يلاحظ عليه : بما مرّ من عدم دلالة الجملة الوصفية على المفهوم.


٢. آية النفر

قال سبحانه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢).

تشير الآية إلى السيرة المستمرة بين العقلاء من تقسيم العمل بين الأفراد ، إذ لو لا ذلك لاختلّ النظام ، ولا تشذ عن ذلك مسألة الإنذار والتعليم والتعلّم ، فلا يمكن أن ينفر المؤمنون كافة لتحصيل أحكام الشريعة ، ولكن لما ذا لا ينفر من كلّ فرقة منهم طائفة لتعلّم الشريعة حتى ينذروا قومهم عند الرجوع إليهم؟

وجه الاستدلال : انّه سبحانه أوجب الحذر على القوم عند رجوع الطائفة التي تعلّمت الشريعة والمراد من الحذر هو الحذر العملي ، أي ترتيب الأثر على قول المنذر. ثمّ إنّ إنذاره كما يتحقّق بصورة التواتر يتحقّق أيضا بصورة إنذار بعضهم البعض ، فلو كان التواتر أو حصول العلم شرطا في تحقّق الإنذار وبالتالي في وجوب الحذر لأشارت إليه الآية، وإطلاقها يقتضي حجّية قول المنذر سواء أنذر إنذارا جماعيا أو فرديا ، وسواء أفادا العلم أم لا.

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الآية بصدد بيان أنّه لا يمكن نفر القوم برمّتهم ، بل يجب نفر طائفة منهم ، وأمّا كيفية الإنذار وانّه هل يجب أن يكون جماعيا أو فرديا فليست الآية بصدد بيانها حتى يتمسّك بإطلاقها ، وقد مرّ في مبحث المطلق والمقيد انّه يشترط في صحّة التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان.

ويشهد على ذلك انّ الآية لم تذكر الشرط اللازم ، أعني : الوثاقة والعدالة ، فكيف توصف بأنّها في مقام البيان؟!


٣. آية الكتمان

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) (البقرة / ١٥٩).

وكيفية الاستدلال بها هو انّ وجوب الإظهار وتحريم الكتمان يستلزم وجوب القبول وإلاّ لغى وجوب الإظهار ، نظير قوله سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) (البقرة / ٢٢٨) فانّ حرمة كتمانهنّ لما في أرحامهن يقتضي وجوب قبول قولهن وإلاّ لغى التحريم.

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الآية في مقام إيجاب البيان على علماء أهل الكتاب لما أنزل الله سبحانه من البيّنات والهدى ، ومن المعلوم أنّ إيجاب البيان بلا قبول أصلا يستلزم كونه لغوا. أمّا إذا كان القبول مشروطا بالتعدد أو بحصول الاطمئنان أو العلم القطعي فلا تلزم اللغوية ، وليست الآية في مقام البيان من هذه الناحية كآية النفر حتى يتمسك بإطلاقها.

٤. آية السؤال

قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل / ٤٣).

وجه الاستدلال على نحو ما مضى في آية الكتمان حيث إنّ إيجاب السؤال يلازم القبول وإلاّ تلزم اللغوية.

يلاحظ عليه : أنّما تلزم اللغوية إذا لم يقبل قولهم مطلقا ، وأمّا على القول بقبول قولهم عند حصول العلم به فلا تلزم ، وليست الآية في مقام البيان من هذه الناحية حتى يتمسّك بإطلاقها ، بل الآية ناظرة إلى قاعدة عقلائية مطّردة وهي رجوع الجاهل إلى العالم.


الاستدلال بالروايات المتواترة

استدلّ القائلون بحجّية خبر الواحد بروايات ادّعى في الوسائل تواترها يستفاد منها اعتبار خبر الواحد إجمالا ، وهي على طوائف نذكر أهمّها : (١)

وهي الأخبار الإرجاعيّة إلى آحاد الرواة الثقات من أصحابهم بحيث يظهر من تلك الطائفة انّ الكبرى (العمل بقول الثقة) كانت أمرا مفروغا منه ، وكان الحوار فيها بين الإمام والراوي حول تشخيص الصغرى وانّ الراوي هل هو ثقة أو لا؟ وإليك بعض ما يدلّ على ذلك :

١. روى الصدوق عن أبان بن عثمان أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له : «إنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي روايات كثيرة ، فما رواه لك فاروه عنّي». (٢)

٢. عن أبي بصير قال : إنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له في حديث : «لو لا زرارة ونظراؤه ، لظننت انّ أحاديث أبي ستذهب». (٣)

٣. عن يونس بن عمّار انّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له في حديث : «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فلا يجوز لك أن تردّه». (٤)

__________________

(١) ذكرها الشيخ الأنصاري في فرائده ، وهي خمس طوائف نشير إليها على سبيل الإجمال :

الطائفة الأولى : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالمرجّحات كالأعدل والأصدق والمشهور ثمّ التخيير.

الطائفة الثانية : ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمّة على وجه يظهر فيه عدم الفرق في الإرجاع بين الفتوى والرواية.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على الرجوع إلى الرواة الثقات ، وهذا ما أشرنا إليه في المتن.

الطائفة : الرابعة : ما دلّ على الترغيب في الرواية والحث عليها وكتابتها وإبلاغها.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذّابين.

ولو لا أنّ خبر الواحد حجّة لما كان لهذه الأخبار موضوع.

(٢ و ٤). الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨ ، ١٦ ، ١٧.


٤. عن المفضل بن عمر ، انّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال للفيض بن المختار في حديث : «فإذا أردت حديثنا ، فعليك بهذا الجالس» وأومأ إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعين. (١)

٥. روى القاسم بن علي التوقيع الشريف الصادر عن صاحب الزمان عليه‌السلام انّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا. (٢)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي تورث اليقين بأنّ حجّية قول الثقة كان أمرا مفروغا منه بينهم ولو كان هناك كلام ، فإنّما كان في الراوي.

أنت إذا استقرأت الروايات التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي في الباب الثامن من أبواب صفات القاضي والذي بعده ، تقف على اتّفاق أصحاب الأئمّة على حجّية الخبر الواحد الذي يرويه الثقة ، وهو ملموس من خلال روايات البابين. (٣)

ثمّ إنّ ظواهر ما نقلناه من الروايات تدلّ على حجّية «قول الثقة» فلو كان المخبر ثقة ، فخبره حجّة وإلاّ فلا وإن دلّت القرائن على صدوره من المعصوم.

لكن الإمعان فيها وفي السيرة العقلائية ـ التي يأتي ذكرها ـ يعرب عن أنّ العناية بوثاقة الراوي في الموضوع لكونها طريقا إلى الاطمئنان بصدوره من المعصوم ، ولذلك لو كان الراوي ثقة ولكن دلّت القرائن المفيدة على خطئه واشتباهه ، لما اعتبره العقلاء حجّة ، وهذه تشكّل قرينة على أنّ العبرة في الواقع بالوثوق بالصدور لا على وثاقة الراوي ، والاعتماد عليها لأجل استلزامها الوثوق بالصدور غالبا.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٢) الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٣) الوسائل : ١٨ ، الباب ٨ و ٩ من أبواب صفات القاضي ، ص ٥٢ ـ ٨٩.


فتكون النتيجة حجّية الخبر الموثوق بصدوره سواء كان المخبر ثقة أو لا ، نعم الأمارة العامة على الوثوق بالصدور ، هو كون الراوي ثقة ، وبذلك تتسع دائرة الحجّية ، فلاحظ.

٣. الاستدلال بالإجماع

نقل غير واحد من علمائنا كالشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) ومن تأخّر عنه إلى يومنا هذا إجماع علماء الإمامية على حجّية خبر الواحد إذا كان ثقة مأمونا في نقله وإن لم يفد خبره العلم ، وفي مقابل ذلك حكى جماعة أخرى منهم ـ أستاذ الشيخ ـ السيد المرتضى رحمه‌الله إجماع الإمامية على عدم الحجّية.

سؤال : إذا كان العمل بخبر الواحد أمرا مجمعا عليه كما ادّعاه الشيخ فلما ذا أبدى السيد رحمه‌الله خلافه؟ وكيف يمكن الجمع بين هذين الإجماعين المنقولين؟

الجواب : انّ الشيخ التفت إلى هذا السؤال وأجاب عنه بما حاصله : انّ مورد إجماع السيد خبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه ومورد الإجماع الذي ادّعاه هو ما يكون راويه من الإمامية وطريق الخبر أصحابهم فارتفع التعارض.

٤. الاستدلال بالسيرة العقلائية

إذا تصفّحت حال العقلاء في سلوكهم ، تقف على أنّهم مطبقون على العمل بخبر الثقة في جميع الأزمان والأدوار ، ويتضح ذلك بملاحظة أمرين :

الأوّل : انّ تحصيل العلم القطعي عن طريق الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن في أكثر الموضوعات أمر صعب.

الثاني : حصول الاطمئنان بخبر الثقة عند العرف على وجه يفيد سكونا


للنفس ، خصوصا إذا كان عدلا ، ولو كانت السيرة أمرا غير مرضيّ للشارع كان عليه الردع.

ولم يكن عمل المسلمين بخبر الثقة إلاّ استلهاما من تلك السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

والحاصل : انّه لو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمرا مرفوضا ، لكان على الشارع أن ينهى عنه وينبه الغافل ويفهم الجاهل. فإذا لم يردع كشف ذلك عن رضاه بتلك السيرة وموافقته لها.

فالاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية خبر الواحد من أفضل الأدلّة التي لا سبيل للنقاش فيها ، فانّ ثبوت تلك السيرة وكشفها عن رضا الشارع ممّا لا شكّ فيه.

سؤال : ربما يقال انّ الآيات الناهية عن اتّباع الظن كافية في ردع تلك السيرة كقوله سبحانه : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (الأنعام / ١١٦) وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم / ٢٧ ـ ٢٨).

والجواب : انّ المراد من الظن في الآيات الناهية ترجيح أحد الطرفين استنادا إلى الخرص والتخمين كما قال سبحانه : (إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) ويشهد بذلك مورد الآية من تسمية الملائكة أنثى ، فكانوا يرجّحون أحد الطرفين بأمارات ظنية وتخمينات باطلة ، فلا يستندون في قضائهم لا إلى الحس ولا إلى العقل بل إلى الهوى والخيال ، وأين هذا من قول الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره الذي يرجع إلى الحس وتدور عليه رحى الحياة ويجلب الاطمئنان والثبات؟!


الفصل الرابع

الكلام في الإجماع

الإجماع في اللغة هو الاتّفاق ، قال سبحانه : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) (يوسف / ١٥). وأمّا في الاصطلاح اتفاق علماء عصر واحد على حكم شرعيّ. فإذا أحرزه المجتهد يسمّى إجماعا محصّلا وإذا أحرزه مجتهد ونقله إلى الآخرين يكون إجماعا منقولا بالنسبة إليهم فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : الإجماع المحصل عند السنّة والشيعة

اتّفق الأصوليون على حجّية الإجماع على وجه الإجمال ، ولكنّه عند أهل السنّة يعدّ من مصادر التشريع.

وأمّا الشيعة ، فتقول بانحصار الدليل في الكتاب والسنّة والعقل ، وأمّا الاتّفاق فلا يضفي عندهم على الحكم صبغة الشرعيّة ولا يؤثر في ذلك أبدا غاية الأمر انّ المستند لو كان معلوما فالإجماع مدركي وليس بكاشف لا عن قول المعصوم ولا عن دليل معتبر لم يصل إلينا، لا يزيد اتّفاقهم شيئا. وأمّا إذا كان المستند غير معلوم ، فربما يكشف إجماعهم عن قول المعصوم واتّفاقه معهم ، كما إذا اتّفق الإجماع في عصر حضور المعصوم ، وربما يكشف عن وجود دليل معتبر وصل إلى المجمعين ولم يصل إلينا ، كما إذا اتفق في الغيبة الصغرى وأوائل الكبرى إذ من البعيد أن يتّفق المجتهدون على حكم بلا مستند شرعي. وعلى كلا التقديرين


فالإجماع بما هو هو ليس بحجّة ، وإنّما هو كاشف عن الحجّة ، وسيوافيك تفصيله.

حجّية الإجماع المحصل عند الإمامية

قد عرفت أنّ الأمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم غير معصومة من الخطأ في الأحكام ، وأقصى ما يمكن أن يقال إنّ الإجماع يكشف عن قول المعصوم أو الحجّة الشرعية التي اعتمدت عليها الأمّة ، والثاني أمر معقول ومقبول في عصر الغيبة غير أنّ كشف اتّفاقهم عن الدليل يتصوّر على وجوه ذكرها الأصوليون في كتبهم. (١)

أوجهها : أنّ اتّفاق الأمّة مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل يعرب عن أنّ الاتّفاق كان مستندا إلى دليل قطعي لا عن اختراع للرأي من تلقاء أنفسهم نظير اتّفاق سائر ذوي الآراء والمذاهب.

وبعبارة أخرى : أنّ فتوى كلّ فقيه وإن كانت تفيد الظن ولو بأدنى مرتبة إلاّ أنّها تتقوّى بفتوى فقيه ثان ، فثالث إلى أن يحصل اليقين بأنّ فتوى الجميع كانت مستندة إلى الحجّة ، إذ من البعيد أن يتطرّق الخطأ إلى فتوى هؤلاء.

وبالجملة ملاحظة إطباقهم في الإفتاء على عدم العمل إلاّ بالنصوص دون المقاييس يورث القطع بوجود حجّة في البين وصلت إليهم ولم تصل إلينا. (٢)

__________________

(١) لاحظ «كشف القناع عن وجه حجّية الإجماع» للعلاّمة التستري ، فقد ذكر فيه اثني عشر طريقا إلى كشف الإجماع عن الدليل ، ونقلها المحقّق الآشتياني في تعليقته على الفرائد لاحظ ص ١٢٢ ـ ١٢٥.

(٢) وعلى ذلك يكون الإجماع المحصل من الأدلة المفيدة للقطع بوجود الحجة ، الخارج عن تحت الظنون موضوعا وتخصّصا ، وقد تناولناه بالبحث للإشارة إلى الأدلّة الأربعة ، والمناسب للبحث في المقام هو الإجماع المنقول بالخبر الواحد.


المقام الثاني : الإجماع المنقول بخبر الواحد

والمراد هو الاتّفاق الذي لم يحصّله الفقيه بنفسه وإنّما ينقله غيره من الفقهاء واختلفوا في حجّيته على أقوال :

القول الأوّل : إنّه حجّة مطلقا ، لأنّ المفروض أنّ الناقل ثقة وينقل الحجّة أي الاتّفاق الملازم لوجود دليل معتبر فتشمله أدلّة حجّية خبر الواحد.

القول الثاني : إنّه ليس بحجّة مطلقا ، وذلك لأنّ خبر الواحد حجّة فيما إذا كان المخبر به أمرا حسّيا أو كانت مقدّماته القريبة أمورا حسّية ، كالإخبار بالعدالة النفسانية إذا شاهد منه التورّع عن المحرّمات ، أو الإخبار بالشجاعة إذا شاهد قتاله مع الأبطال ، وأمّا إذا كان المخبر به أمرا حدسيا محضا لا حسّيا ولم تكن له مقدّمات قريبة من الحسّ ، فخبر الواحد ليس بحجّة.

فالناقل للإجماع ينقل أقوال العلماء وهي في أنفسها ليست حكما شرعيا ولا موضوعا ذا أثر شرعي ، وأمّا الحجّة ، أعني : رأي المعصوم ، فإنّما ينقله عن حدس لا عن حس بزعم انّ اتّفاق هؤلاء يلازم رأي المعصوم ، وخبر الواحد حجّة في مورد الحسيّات لا الحدسيات إلاّ ما خرج بالدليل كقول المقوّم في أرش المعيب

يلاحظ عليه : أنّه إذا كانت هناك ملازمة بين أقوال العلماء والحجّة الشرعية ، فلما ذا لا يكون نقل السبب الحسي دليلا على وجود المسبب وقد تقدّم انّ نقل الأمور الحدسية إذا استند الناقل في نقلها إلى أسباب حسية ، هو حجّة كما في وصف الرجل بالعدالة والشجاعة.

وأمّا عدم حجّية خبر الواحد في الأمور الحدسية ، فإنّما يراد منه الحدسيّ المحض كتنبّؤات المنجمين لا في مثل المقام الذي يرجع واقعه إلى الاستدلال بالسبب الحسّي على وجود المسبب.


القول الثالث : إنّه ليس بحجّة إلاّ إذا كان ناقل الإجماع معروفا بالتتبّع على وجه علم أنّه قد وقف على آراء العلماء المتقدّمين والمتأخّرين على نحو يكون ما استحصله من الآراء ملازما عادة للدليل المعتبر أو لقول المعصوم.

غير أنّ الذي يوهن الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهية ، وجود التساهل في نقل الإجماع ، فربما يدّعون الإجماع بعد الوقوف على آراء محدودة غير ملازمة لوجود دليل معتبر ، بل ربما يدّعون الإجماع لوجود الخبر.

نعم لو كان الناقل واسع الباع محيطا بالكتب والآراء ، باذلا جهوده في تحصيل الأقوال في المسألة وكانت نفس المسألة من المسائل المعنونة في العصور المتقدّمة ، فربما يكشف تتبعه عن وجود دليل معتبر.


الفصل الخامس

حجّية قول اللغوي

إنّ لإثبات الظهور طرقا ذكرناها في محلّها (١) بقي الكلام في حجّية قول اللغوي في إثباته وتعيين الموضوع له ، وقد استدلّ جمع من العلماء على حجّية قول اللغوي بأنّ الرجوع إلى قول اللغوي من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، ولا إشكال في حجّية قول أهل الخبرة فيما هم خبرة فيه.

أشكل عليه : بأنّ الكبرى ـ وهي حجّية قول أهل الخبرة ـ مسلّمة ، إنّما الكلام في الصغرى وهي كون اللغوي خبيرا في تعيين الموضوع له عن غيره ، وبالتالي في تعيين المعنى الحقيقي عن المجازي ، مع أنّ ديدن اللغويين في كتبهم ذكر المعاني التي شاع استعمال اللفظ فيها ، سواء كان معنى حقيقيا أم مجازيا.

ولكن يمكن أن يقال : أنّ أكثر المعاجم اللغوية وإن كانت على ما وصفت ، ولكن بعضها ألّف لغاية تمييز المعنى الأصلي عن المعنى الذي استعمل فيه بمناسبة بينه وبين المعنى الأصلي ، وهذا كالمقاييس لمحمد بن فارس بن زكريا (المتوفّى ٣٩٥ ه‍) فقد قام ببراعة خاصة بعرض أصول المعاني وتمييزها عن فروعها ومشتقاتها ، ومثله كتاب أساس البلاغة للزمخشري (المتوفّى ٥٣٨ ه‍).

ومن سبر في الأدب العربي يجد أنّ سيرة المسلمين قد انعقدت على الرجوع

__________________

(١) راجع مقدّمة الكتاب ، بحث علائم الحقيقة والمجاز.


إلى الخبرة من أهل اللغة في معاني الألفاظ الّذين يعرفون أصول المعاني عن فروعها وحقائقها عن مجازاتها. وقد كان ابن عباس مرجعا كبيرا في تفسير لغات القرآن.

على أنّ الإنسان إذا ألف بالمعاجم الموجودة ، استطاع أن يميز المعاني الأصلية عن المعاني الفرعية المشتقة منها ، ولا يتم ذلك إلاّ مع قريحة أدبية وأنس باللغة والأدب. نعم تكون الحجة عند ذلك هي قطعه ويقينه لا قول اللغويّ.

* * *

إلى هنا انتهينا من دراسة الحجج الشرعية الأربعة : ـ الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ـ وهي أدلّة اجتهادية تتكفّل لبيان الأحكام الشرعية الواقعية.


المقصد السابع

الأصول العملية

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في أصالة البراءة.

الفصل الثاني : في أصالة التخيير.

الفصل الثالث : في أصالة الاحتياط.

الفصل الرابع : في أصالة الاستصحاب.


الأصول العملية

قد عرفت أنّ المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي تحصل له إمّا القطع أو الظن أو الشكّ ، وقد فرغنا عن حكم القطع والظنّ والآن نبحث عن حكم الشكّ.

ولا يخفى أنّ المستنبط إنّما ينتهي إلى «الأصول العملية» إذا لم يكن هناك دليل قطعي ، كالخبر المتواتر ؛ أو دليل علمي ، كالظنون المعتبرة التي دلّ على حجّيتها الدليل القطعي ، وتسمّى بالأمارات والأدلّة الاجتهادية ، كما تسمّى الأصول العملية بالأدلّة الفقاهية.

وبذلك تقف على ترتيب الأدلّة في مقام الاستنباط ، فالمفيد لليقين هو الدليل المقدّم على كلّ دليل ، يعقّبه الدليل الاجتهادي ، ثمّ الأصل العملي.

إنّ الأصول العملية المعتبرة وإن كانت كثيرة ، لكن أكثرها مختص بباب دون باب ، كأصل الطهارة المختص بباب الطهارة ، أو أصل الحلّية المختص بباب الشك في خصوص الحلال والحرام ، أو أصالة الصحّة المختصة بعمل صدر عن الشخص وشكّ في صحّته وفساده ، وأمّا الأصول العملية العامة التي يتمسك بها المستنبط في جميع أبواب الفقه فهي أربعة تعرف ببيان مجاريها.

لأنّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الشكّ في أصل التكليف أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ،


فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى البراءة ، والثالث مجرى الاحتياط ، والرابع مجرى التخيير.

توضيحه

١. إذا شكّ المكلّف في حكم أو موضوع كان على يقين منه في السابق ، كما إذا كان على طهارة ثمّ شكّ في ارتفاعها ، فبما أنّ الحالة السابقة ملحوظة غير ملغاة تكون مجرى الاستصحاب على الشروط المقرّرة في محلّها.

٢. إذا لم تكن الحالة السابقة ملحوظة ، وتعلّق الشكّ بأصل التكليف كما إذا شكّ في حرمة التدخين ؛ فهي مجرى البراءة.

٣. إذا لم تكن الحالة السابقة ملحوظة ، وعلم بأصل التكليف ولكن شكّ في متعلّقه، وكان الاحتياط ممكنا ، كما إذا علم بوجوب الصلاة يوم الجمعة وتردّدت بين الظهر والجمعة، أو علم بوجود النجاسة وتردّد بين الإناءين ؛ فهي مجرى الاحتياط.

٤. إذا لم تكن الحالة السابقة ملحوظة ، وعلم بأصل التكليف ، وكان الاحتياط غير ممكن ، كما إذا علم انّ أحد الفعلين واجب والآخر محرّم (١) واشتبه أحدهما بالآخر فهو مجرى التخيير فيجب إتيان أحدهما وترك الآخر مخيّرا.

ولنقدم البحث عن البراءة أوّلا ، ثمّ التخيير ، ثمّ الاحتياط ، ثمّ الاستصحاب ، حفظا للنهج الدارج في الكتب الأصولية.

__________________

(١) حيث إنّ نوع التكليف معلوم والمتعلّق مجهول ، فخرج ما إذا كان نوع التكليف مجهولا فهو من قبيل الشكّ في التكليف ومع ذلك فهو مجرى التخيير كما إذا دار أمر فعل بين الوجوب والحرمة. لاحظ الفرائد : ٢٩٨ طبعة رحمة الله.


الفصل الأوّل

أصالة البراءة

قد تقدّم انّ مجرى أصالة البراءة هو الشكّ في أصل التكليف وهو على أقسام : لأنّ الشكّ تارة يتعلّق بالحكم ، أي يكون أصل الحكم مشكوكا ، كالشك في حكم التدخين هل هو حرام أو لا؟ ويسمى بالشّبهة الحكمية.

وأخرى يتعلّق بالموضوع بمعنى أنّ الحكم معلوم ، ولكن تعلّق الشكّ بمصاديق الموضوع، كالمائع المردّد بين كونه خمرا أو خلا. ويسمّى بالشبهة الموضوعية.

ثمّ إنّ منشأ الشك في الشبهة الحكمية إمّا فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين.

ومنشأ الشك في الشبهة الموضوعية خلط الأمور الخارجية.

والشبهة بقسميها تنقسم إلى : تحريمية ووجوبية : أمّا التحريمية ، فالمراد منها هي ما إذا احتملت حرمة الشيء مع العلم بأنّه غير واجب ، فيدور أمره بين الحرمة ، والإباحة ، أو الكراهة ، أو الاستحباب ؛ كالتدخين الدائر أمره بين الحرمة والإباحة.

وأمّا الوجوبية ، فالمراد منها هي ما إذا احتمل وجوبه مع العلم بأنّه غير


محرّم ، فيدور أمره بين الوجوب ، والاستحباب ؛ أو الإباحة ، أو الكراهة ، كالدعاء عند رؤية الهلال الدائر أمره بين الوجوب والاستحباب.

وعلى ذلك يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : الشبهة التحريمية وفيها مسائل أربع :

أ. الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص.

ب. الشبهة الحكمية التحريمية لأجل إجمال النص.

ج. الشبهة الحكمية التحريمية لأجل تعارض النصّين.

د. الشبهة الموضوعية التحريمية لأجل خلط الأمور الخارجية.

وإليك الكلام في هذه المسائل ، الواحدة تلو الأخرى.

المسألة الأولى : في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص

إذا شكّ في حرمة شيء لأجل عدم النصّ عليها في الشريعة فقد ذهب الأصوليّون إلى البراءة والأخباريون إلى الاحتياط. واستدلّ الأصوليّون بالكتاب والسنّة والعقل نذكر المهمّ منها :

١. التعذيب فرع البيان

قال سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء / ١٥).

وبعث الرسول كناية عن البيان الواصل إلى المكلّف ، لأنّه لو بعث الرسول ولم يكن هناك بيان ، أو كان هناك بيان ولم يصل إلى المكلّف ، لما صحّ التعذيب ولقبح عقابه ، فالدافع لقبح العقاب هو البيان الواصل بمعنى وجوده في مظانّه


على وجه لو تفحّص عنه المكلّف لعثر عليه.

والمفروض أنّ المجتهد تفحص في مظانّ الحكم ولم يعثر على شيء يدلّ على الحرمة ، فينطبق عليه مفاد الآية ، وهو أنّ التعذيب فرع البيان الواصل والمفروض عدم البيان فيكون التعذيب مثله.

٢. حديث الرفع

روى الصدوق بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (١)

تقرير الاستدلال يتوقف على ذكر أمرين :

الأوّل : انّ لفظة «ما» في قوله : «ما لا يعلمون» موصولة تعمّ الحكم والموضوع المجهولين ، لوضوح انّه إذا جهل المكلّف بحكم التدخين ، أو جهل بكون المائع الفلاني خلا أو خمرا صدق على كلّ منهما انّه من «ما لا يعلمون» فيكون الحديث عاما حجّة في الشبهة الحكمية والموضوعية معا.

الثاني : انّ الرفع ينقسم إلى تكويني ـ وهو واضح ـ وتشريعي ، والمراد منه نسبة الرفع إلى الشيء بالعناية والمجاز ، باعتبار رفع آثاره كقوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» ومن المعلوم أنّ المرفوع ليس هو نفس «الشك» لوجوده ، وإنّما المرفوع هو آثاره وهذا صار سببا لنسبة الرفع إلى ذاته ، ونظيره حديث الرفع ، فانّ نسبة الرفع إلى الأمور التسعة نسبة ادّعائية بشهادة وجود الخطأ والنسيان وما عطف عليه في الحديث ، بكثرة بين الأمّة ، ولكن لمّا كانت الموضوعات المذكورة

__________________

(١) الخصال ، باب التسعة ، الحديث ٩ ، ص ٤١٧.


مسلوبة الآثار صحّت نسبة الرفع إلى ذاتها باعتبار عدم آثارها.

فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحّحا لنسبة الرفع إليها ، أهو جميع الآثار كما هو الظاهر أو خصوص المؤاخذة أو الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات ، كالمضرّة في الطيرة ، والكفر في الوسوسة والمؤاخذة في أكثرها؟ وعلى جميع الوجوه والأقوال فالمؤاخذة مرتفعة وهو معنى البراءة.

نعم ، انّ مقتضى الحديث هو رفع كلّ أثر مترتب على المجهول إلاّ إذا دلّ الدليل على عدم رفعه ، كنجاسة الملاقي فيما إذا شرب المائع المشكوك فبان انّه خمر ، فلا ترتفع نجاسة كلّ ما لاقى الخمر بضرورة الفقه على عدم ارتفاع مثل هذه الآثار الوضعيّة.

اختصاص الحديث بما يكون الرفع منّة على الأمّة

إنّ حديث الرفع ، حديث منّة وامتنان كما يعرب عنه قوله : «رفع عن أمّتي» أي دون سائر الأمم ، وعلى ذلك يختص الرفع بالأثر الذي يكون في رفعه منّة على الأمّة (لا الفرد الخاص) ، فلا يعم ما لا يكون رفعه منّة لهم ، كما في الموارد التالية :

١. إذا أتلف مال الغير عن جهل ونسيان ، فهو ضامن ، لأنّ الحكم بعدم الغرامة على خلاف المنّة.

٢. إذا أكره الحاكم المحتكر في عام المجاعة على البيع ، فالبيع المكره يقع صحيحا ولا يعمّه قوله : «وما أكرهوا عليه» لأنّ شموله للمقام والحكم برفع الصحة وببطلان البيع على خلاف المنّة.

٣. إذا أكره الحاكم المديون على قضاء دينه وكان متمكّنا ، فلا يعمّه


قوله : «وما أكرهوا» لأنّ شموله على خلاف الامتنان.

٣. مرسلة الصدوق

روى الصدوق مرسلا في «الفقيه» وقال : قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي». (١)

فقد دلّ الحديث على أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق حتى يرد فيه النهي بعنوانه، كأن يقول : الخمر حرام ، أو الرشوة حرام ، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون محكوما بالإطلاق والإرسال ، وبما أنّ التدخين مثلا لم يرد فيه النهي فهو مطلق.

٤. الاستدلال بالعقل

إنّ صحّة احتجاج الآمر على المأمور من آثار التكليف الواصل ولا يصحّ الاحتجاج بالتكليف غير الواصل أبدا بل يعدّ العذاب معه ظلما وقبيحا من المولى الحكيم ، وهذا ممّا يستقل به العقل ، ويعد العقاب بلا بيان واصل أمرا قبيحا لا يصدر عن الحكيم.

وقياس الاستدلال بالشكل التالي :

العقاب على محتمل التكليف عقاب بلا بيان ـ بعد الفحص التام وعدم العثور عليه.

والعقاب بلا بيان يمتنع صدوره عن المولى الحكيم.

فينتج : العقاب على محتمل التكليف يمتنع صدوره من المولى الحكيم.

التعارض بين القاعدتين

سؤال : ثمة قاعدة عقلية أخرى هي على طرف النقيض من هذه القاعدة

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.


العقلية ، وهي :

أنّ العقل يفرّق بين الضرر الدنيوي المحتمل فلا يحكم بوجوب دفعه إلاّ إذا كان خطيرا لا يتحمّل. وأمّا الضرر الأخروي الذي هو كناية عن العقاب الأخروي فيؤكّد العقل على وجوب دفعه ويستقلّ به ، فلا يرخّص استعمال شيء فيه احتمال العقوبة الأخروية ، ولو احتمالا ضعيفا ، وعلى ذلك فيمكن للقائل بالاحتياط أن يعارض القاعدة الأولى بقاعدة أخرى ، وهي قاعدة «وجوب دفع الضرر المحتمل» بالبيان التالي :

احتمال الحرمة ـ في مورد الشبهة البدوية ـ يلازم احتمال الضرر الأخروي ، وهو بدوره واجب الدفع وإن كان احتماله ضعيفا ، وعندئذ يحكم العقل بلزوم الاحتياط بترك ارتكاب محتمل الضرر لذلك المحذور.

وإن أردت صبّه في قالب القياس المنطقي المؤلف من الصغرى والكبرى فتقول : الشبهة البدوية التحريمية فيها ضرر أخرويّ محتمل ، وكلّ ما فيه ضرر أخرويّ محتمل يلزم تركه.

فينتج : الشبهة البدوية التحريمية يلزم تركها ، فينتج لزوم الاحتياط ، وعندئذ يقع التعارض بين القاعدتين العقليتين ، فمن جانب يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فيرخّص بالارتكاب ، ومن جانب آخر يحكم بلزوم دفع الضرر الأخروي المحتمل فيمنع من الارتكاب.

الجواب

إنّ الصغرى في القاعدة الثانية غير محرزة ، إذ المراد من الصغرى هو احتمال الضرر (العقاب) في ارتكاب الشبهة البدوية ، فيجب أن يكون لاحتماله مناشئ


عقلائية ، والمفروض انتفاؤها جميعا ، لأنّ احتمال العقاب ناشئ من الأمور التالية :

١. صدور البيان عن المولى ووصوله إلى العبد.

٢. التمسك بالبراءة قبل الفحص الكافي.

٣. كون العقاب بلا بيان أمرا غير قبيح.

٤. كون المولى شخصا غير حكيم أو غير عادل.

وكلّها منتفية في المقام ، فاحتمال العقاب الذي هو الصغرى في القاعدة الثانية غير موجود ، ومع انتفائه كيف يمكن الاحتجاج بالكبرى وحدها؟ مع أنّ الاحتجاج لا يتمّ إلاّ مع إحراز الصغرى.

أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط

في الشبهة الحكمية التحريميّة

استدلّ الأخباريون بأدلة ثلاثة : الكتاب والسنّة والعقل فلندرس كلّ واحد تلو الآخر:

الف : الاستدلال بالكتاب

الآيات الآمرة بالتقوى بقدر الوسع والطاقة ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران / ١٠٢). (١)

وجه الاستدلال : أنّ اجتناب محتمل الحرمة يعدّ من التقوى ، وكلّ ما يعدّ منها فهو واجب بحكم انّ الأمر في (اتَّقُوا اللهَ) دالّ على الوجوب ، فينتج أنّ اجتناب محتمل الحرمة واجب.

__________________

(١) ولاحظ أيضا الآية السادسة عشر من سورة التغابن.


يلاحظ عليه : أنّ كليّة الكبرى ممنوعة ، أي ليس كلّ ما يعدّ من التقوى فهو واجب،وذلك لأنّ التقوى تستعمل تارة في مقابل الفجور ولا شكّ في وجوب مثلها بعامة مراتبها ، مثل قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص / ٢٨) وقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (الشمس / ٨) وقد تطلق ويراد منها ما يعم القيام بكلّ مرغوب فيه من الواجب والمستحب ، والتحرّز عن كلّ مرغوب عنه من حرام ومكروه مثل قوله سبحانه : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) (البقرة / ١٩٧) ففي مثل ذلك تكون التقوى واجبة ، لكن ببعض مراتبها لا بكلّ مراتبها ، ويحمل الأمر في (تَزَوَّدُوا) على الاستحباب كالآية التي استدلّ بها في المقام.

ب : الاستدلال بالسنّة

استدلّ الأخباريون بطوائف من الروايات :

الأولى : حرمة الإفتاء بلا علم

دلّت طائفة من الروايات على حرمة القول والإفتاء بغير علم ، أو الإفتاء بما لم يدلّ دليل على حجّيته كالقياس والاستحسان ، كصحيحة هشام بن سالم ، قال :قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : ما حقّ الله على خلقه؟ قال : «أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه». (١)

وبهذا المضمون روايات كثيرة في نفس الباب.

يلاحظ عليه : أنّ المستفاد من الروايات هو انّ الإفتاء بعدم الحرمة الواقعية

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤ ، وبهذا المضمون الحديث ١٩ و ٥٤ ومثله ما دلّ على لزوم الكف عمّا لا يعلم ، كالحديث ٤ و ٣٢.


في مورد الشبهة يعدّ قولا بلا علم ، وهذا ممّا يحترز عنه الأصوليّون.

وأمّا القول بعدم المنع ظاهرا ، حتى يعلم الواقع مستندا إلى الأدلّة الشرعيّة والعقلية ، فليس قولا بلا علم وهو نفس ما يقصده الأصولي.

الثانية : ما ورد من الأمر بالاحتياط قبل الفحص

روى عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما ، أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد» ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال : «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا».(١)

يلاحظ عليه : إنّ هذه الرواية ناظرة إلى الاحتياط قبل الفحص ، وهي خارجة عن مورد الكلام ، وإنّما الكلام فيما إذا فحص عن دليل الحرمة في مظانه ولم يعثر على شيء.

الثالثة : لزوم الوقوف عند الشبهة

هناك روايات تدلّ على لزوم الوقوف عند الشبهة ، وأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ، وإليك بعض ما يدلّ على ذلك :

١. روى داود بن فرقد ، عن أبي شيبة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». (٢)

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، وبهذا المضمون الحديث ٣ و ٢٣ و ٢٩ و ٣١ و ٤٣.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.


٢. روى مسعدة بن زياد ، عن جعفر عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». (١)

٣. روى في «الذكرى» ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». (٢)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الطائفة من الأحاديث أنّها إمّا راجعة إلى الشبهة المحصورة التي يعلم بوجود الحرمة فيها وذلك بقرينة «الهلكة» ، كما في الحديث الأوّل.

أو راجعة إلى الشبهة الموضوعيّة ، التي لم يقل أحد بالاحتياط فيها كما في الحديث الثاني ، أو محمولة على الاستحباب كما في الحديث الأخير.

الرابعة : حديث التثليث

إنّ أقوى حجّة للأخباريين هو حديث التثليث الوارد في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصي عليه‌السلام ، رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في حديث قال : «إنّما الأمور ثلاثة:أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

ثمّ قال في آخر الحديث : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٣.


الهلكات».

إنّ مورد التثليث الوارد في كلام الوصيّ هو الشبهات الحكميّة ، وحاصل التثليث أنّ ما يبتلى به المكلّف إمّا بيّن رشده فيتّبع ، وإمّا بيّن غيّه فيجتنب ، وامّا الأمر المشكل فلا يفتي بما لا يعلم حتى يرجع حكمه إلى الله.

والجواب انّ التثليث في كلام الوصيّ ينسجم مع الطائفة الأولى من حرمة الإفتاء بغيرعلم.

وأمّا التثليث في كلام الرسول ، فموردها الشبهات الموضوعيّة التي يقطع بوجود الحرام فيها ، وهي تنطبق على الشبهة المحصورة ، حيث إنّ ظاهر الحديث أنّ هناك حلالا بيّنا ، وحراما بيّنا ، وشبهات بين ذلك ، على وجه لو ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ولو أخذ بها ارتكب المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم وما هذا شأنه فهو خارج عن الشبهة البدويّة التي هي محل النزاع ، ومنطبق على الشبهة المحصورة.

وإن شئت قلت : إنّ الرواية ظاهرة فيما إذا كانت الهلكة محرزة مع قطع النظر عن حديث التثليث ، وكان اجتناب الشبهة أو اقترافها ملازما لاجتناب المحرمات واقترافها ، حتى يصحّ أن يقال : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات» وما هذا شأنه لا ينطبق إلاّ على الشبهة المحصورة لا الشبهة البدوية التي لا علم فيها أصلا بالمحرمات.

وأنت إذا استقصيت روايات الباب تقف على أنّ أكثرها لا مساس لها بمورد البراءة ، وما لها مساس محمول إمّا على الاستحباب ، أو التورّع الكثير.

ج : الاستدلال بالعقل

نعلم إجمالا ـ قبل مراجعة الأدلّة ـ بوجود محرمات كثيرة في الشريعة التي


يجب الخروج عن عهدتها بمقتضى قوله سبحانه : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ ٧).

وبعد مراجعة الأدلّة نقف على وجود محرمات في الشريعة بيّنها الكتاب والسنّة، ولكن نحتمل وجود محرمات أخرى بيّنها الشارع ولم تصل إلينا ، فمقتضى منجزيّة العلم الإجمالي ، هو الاجتناب عن كلّ ما نحتمل حرمته إذا لم يكن هناك دليل على حلّيته ، حتى نعلم بالخروج عن عهدة التكليف القطعي ، شأن كلّ شبهة محصورة.

يلاحظ عليه : أنّ العلم الإجمالي إنّما ينجّز إذا بقي على حاله ، وأمّا إذا انحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلا يكون منجزا ويكون المشكوك موردا للبراءة ، مثلا إذا علم بغصبية أحد المالين مع احتمال غصبيتهما معا ، فإذا قامت البيّنة على غصبيّة أحدهما المعيّن، انحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالحرمة وهو ما قامت البيّنة على غصبيته ، وشك بدوي وهو المال الآخر الذي يحتمل أيضا غصبيّته.

ومثله المقام إذ فيه علمان :

أحدهما : العلم الإجمالي بوجود محرمات في الشريعة والتي أشير إليها في الآية المتقدمة.

ثانيهما : العلم التفصيلي بمحرمات واردة في الطرق والأمارات والأصول المثبتة للتكليف كاستصحاب الحرمة ، على وجه لو عزلنا موارد العلم التفصيلي عن موارد العلم الإجمالي ، لما كان فيها علم بالمحرّمات بل تكون الحرمة أمرا محتملا تقع مجرى للبراءة.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، فالعلم الإجمالي بالمحرمات المتيقنة ينحلّ إلى علم تفصيلي بمحرمات ثبتت بالطرق والأمارات ، وإلى شك بدوي محتمل الحرمة ، وفي


مثل ذلك ينتفي العلم الإجمالي فلا يكون مؤثرا ، وتكون البراءة هي الحاكمة في مورد الشبهات.

المسألة الثانية : الشبهة الحكمية التحريمية لإجمال النصّ

إذا تردّد الغناء المحرّم بين كونه مطلق الترجيع أو الترجيع المطرب ، فيكون الترجيع المطرب قطعيّ الحرمة ، والترجيع بلا طرب مشكوك الحكم فيكون مجرى للبراءة.

ومثله النهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكه بين الحرمة والكراهة.

والحكم في هذه المسألة حكم ما ذكر في المسألة الأولى ، من البراءة عن الحرمة والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية في المقام إشكالا وجوابا.

المسألة الثالثة : الشبهة الحكمية التحريمية لتعارض النصّين

إذا دلّ دليل على الحرمة ودليل آخر على الإباحة ، ولم يكن لأحدهما مرجّح ، فلا يجب الاحتياط بالأخذ بجانب الحرمة لعدم الدليل عليه ، نعم ورد الاحتياط في رواية وردت في «عوالي اللآلي» نقلها عن العلاّمة ، رفعها إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام انّه قال في الخبرين المتعارضين : «فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر» (١) والرواية ضعيفة السند لا يحتج بها.

المسألة الرابعة : الشبهة الموضوعيّة التحريميّة

إذا دار الأمر بين كون شيء حراما أو مباحا لأجل الاشتباه في بعض الأمور الخارجيّة، كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع أو إباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ، فالظاهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل الإباحة ، للأخبار الكثيرة في ذلك ،

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٤ / ١٣٣ برقم ٢٢٩.


مثل قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه. (١)

ويمكن الاستدلال على البراءة بالدليل العقلي ، وهو أنّ الاحتجاج لا يتمّ بالعلم بالكبرى وحده وهو انّ الخمر حرام ما لم ينضم إليه العلم بالصغرى ، ففي المقام ، الكبرى محرزة ، دون الصغرى ، فلا يحتج بالكبرى المجرّدة على العبد.

المقام الثاني : الشكّ في الشبهة الوجوبية

إذا شكّ في وجوب شيء وعدمه ، ففيها أيضا مسائل أربع :

أ. الشبهة الحكمية الوجوبية لأجل فقدان النصّ ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، أو الاستهلال في شهر رمضان.

ب. الشبهة الحكمية الوجوبية لأجل إجمال النصّ ، كاشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب.

ج. الشبهة الحكمية الوجوبية لأجل تعارض النصّين ، كما في الخبرين المتعارضين ، أحدهما يأمر ، والآخر يبيح ، ولم يكن لأحدهما مرجح.

د. الشبهة الموضوعية لأجل الاشتباه في بعض الأمور الخارجية ، كما إذا تردّدت الفائتة بين صلاة أو صلاتين.

والحكم في الجميع البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، إجماعا.

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.


الفصل الثاني

أصالة التخيير

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ، فهنا مسائل أربع :

المسألة الأولى : دوران الأمر بين المحذورين لفقدان النص

وذلك كدفن الكافر لو تردّد حكمه بين الوجوب والحرمة ولم يكن دليل معتبر في البين.

لا شكّ انّ المكلّف مخيّر بين الفعل والترك تخييرا تكوينيا على وجه ليس بإمكانه المخالفة القطعية ، لامتناع الجمع بين الفعل والترك مع وحدة زمان العمل ، ولا الموافقة القطعية لنفس السبب. وأمّا من حيث الحكم الظاهري فالمقام محكوم بالبراءة عقلا وشرعا.

أمّا جريان البراءة العقلية ، فلأنّ موضوعها هو عدم البيان الوافي ، والمراد من الوافي ما لو اقتصر عليه المكلّف لكفى في نظر العقلاء ، ويقال انّه أدّى الوظيفة في مقام البيان،ولكنّ الحكم المردّد بين الوجوب والحرمة ليس بيانا وافيا لدى العقلاء حتى يصحّ للمتكلّم السكوت عليه ، فيكون من مصاديق ، قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا جريان البراءة الشرعية فلانّ موضوعها هو الجهل بالحكم الواقعي والمفروض وجود الجهل ، والعلم بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة ليس علما


بالحكم الواقعي ، فيشمله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون».

المسألة الثانية : دوران الأمر بين المحذورين لإجمال النص

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ، كالأمر المردّد بين الإيجاب والتهديد فالحكم فيه كالحكم في المسألة السابقة.

المسألة الثالثة : دوران الأمر بين المحذورين لتعارض النصّين

لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة تعارض الأدلّة ، فالحكم هو التخيير شرعاـ أي الأخذ بأحد الدليلين بحكم الشرع ـ لإطلاق أدلّته.

روى الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام : قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحق ، قال : «فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيّهما أخذت». (١)

أضف إلى ذلك أنّ بعض روايات التخيير وردت في دوران الأمر بين المحذورين. (٢)

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعية

إذا وجب إكرام العادل وحرم إكرام الفاسق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة ، فالحكم فيه كالحكم في المسألة الأولى طابق النعل بالنعل.

ثمّ إذا دار الأمر بين المحذورين وكانت الواقعة واحدة ، فلا شكّ أنّه مخيّر عقلا بين الأمرين ، مع جريان البراءة عن كلا الحكمين في الظاهر ، أمّا لو كانت لها

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥ و ٤٢.


أفراد في طول الزمان ، كما إذا تردّد (إكرام زيد في كلّ جمعة إلى شهر) بين الوجوب والحرمة، فيقع الكلام في أنّ التخيير العملي هل هو حكم استمراري ، فله أن يختار في الجمعة الثانية غير ما اختاره في الجمعة الأولى ، وإن استلزم ذلك ، المخالفة القطعية ، أو لا، بل التخيير ابتدائي فلا يجوز له أن يكرمه في الجمعة الأولى دون الثانية؟

الظاهر عدم كونه استمراريّا ، لأنّه لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي وحرمة المخالفة بين كون الواقعة دفعية أو تدريجية ، فكما تحرم المخالفة العملية الدفعية كذلك تحرم التدريجية أيضا ، فإنّه يعلم بأنّه لو أكرم زيدا في الجمعة الأولى وترك إكرامه في الجمعة الثانية ، فقد ارتكب مبغوضا للشارع.

فالمانع هو تنجيز العلم الإجمالي مطلقا في الدفعيات والتدريجيات ، وعدم الفرق بينهما لحكم العقل بلزوم إطاعة المولى وحرمة المخالفة حسب الإمكان والاستطاعة.

فتلخص انّ الحكم بالتخيير عند دوران الأمر بين المحذورين لا يكون حجّة على جواز المخالفة القطعية ، وهذه ضابطة كلية تجب مراعاتها.


الفصل الثالث

أصالة الاحتياط

هذا هو الأصل الثالث من الأصول العملية ويعبّر عنه بأصالة الاشتغال أيضا ومجراه هو الشكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف وإمكان الاحتياط.

ثمّ الشبهة تنقسم إلى تحريمية ووجوبية ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : الشبهة التحريمية

مقتضى التقسيم السابق في الشكّ في التكليف يقتضي أن يكون هنا أيضا مسائل أربع ، لأنّ الشبهة إمّا حكمية ، أو موضوعية ، ومنشأ الشكّ في الحكمية إمّا فقدان النص،أو إجماله ، أو تعارض النصين ، ولكن كلّ ذلك فروض نظرية لا واقع لها في الفقه فالتي لها تطبيقات عملية ملموسة في الفقه هي المسألة الرابعة ، أي الشبهة التحريمية الموضوعية ، وأمّا المسائل الثلاث الحكمية ، فليست لها تطبيقات عملية ، ولذلك نكتفي بالمسألة الرابعة.

ثمّ إنّ الشبهة الموضوعية التحريمية من الشكّ في المكلّف به تنقسم إلى قسمين ، لأنّ الحرام المشتبه بغيره ، إمّا مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار الحرام بين


أمرين أو أمور محصورة ، وتسمّى بالشبهة المحصورة ؛ وإمّا مشتبه في أمور غير محصورة ، وتسمى بالشبهة غير المحصورة ، فإليك دراسة حكم كلا القسمين.

حكم الشبهة المحصورة

إذا قامت الأمارة على حرمة شيء وشمل إطلاق الدليل مورد العلم الإجمالي ، كما إذا قال : اجتنب عن النجس ، وكان مقتضى إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالا أيضا ، فالكلام في جواز المخالفة القطعية أو الاحتمالية يقع في موردين :

الأوّل : مقتضى القاعدة الأوّلية.

الثاني : مقتضى القاعدة الثانوية.

أمّا الأوّل فمقتضى القاعدة هو حرمة المخالفة القطعية والاحتمالية معا بمعنى انّه لا يجوز ارتكاب جميع الأطراف (المخالفة القطعية) أو بعضها (الاحتمالية) والدليل على ذلك وجود المقتضي وعدم المانع.

أمّا الأوّل فلأنّ إطلاق قول الشارع مثلا اجتنب عن الخمر يشمل الخمر المعين والخمر المردد بين الإناءين أو أزيد.

وأمّا الثاني فلانّ العقل لا يمنع من تعلق التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن الحرام المشتبه بين أمرين كما لا يمنع عن العقاب على مخالفة هذا التكليف.

وعلى ضوء ذلك ، فالاشتغال القطعي بالحرمة (وجود المقتضي) وعدم المانع عن تنجز التكليف ، يقتضي البراءة اليقينية بالاجتناب عن كلتا المخالفتين : القطعية والاحتمالية.

هذا كلّه حول القاعدة الأوّلية ، وأمّا القاعدة الثانوية بمعنى ورود الترخيص


من الشارع في ارتكاب الجميع أو البعض أو عدم وروده ، فالتتبع في الروايات يقضي بعدم وروده مطلقا بعضا أو كلا ، بل ورد التأكيد على الاجتناب عن جميع الأطراف وإليك بعض ما ورد :

١. روى سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه اناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيره ، قال : يهريقهما ويتيمم. (١)

٢. روى زرارة ، قال : قلت له : إنّي قد علمت انّه قد أصابه (الدم) ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك. (٢)

الاستدلال على جواز الترخيص

وربما يستدلّ على جواز الترخيص ببعض الروايات منها : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه.

وجه الاستدلال : أنّ قوله : «بعينه» تأكيد للضمير في قوله : «إنّه» فيكون المعنى حتى تعلم أنّه بعينه حرام ، فيكون مفاده أنّ محتمل الحرمة ما لم يتعيّن انّه بعينه حرام ، فهو حلال ، فيعم العلم الإجمالي والشبهة البدوية.

الجواب : انّ تلك الفقرة ليست رواية مستقلة ، بل هي جزء من رواية مسعدة ابن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته ، يقول : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨٢.

(٢) التهذيب : ١ / ٤٢١ ، الحديث ١٣٣٥.


قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة». (١)

والأمثلة الواردة في ذلك الحديث كلّها من الشبهة البدوية ، وهذا يوجب انصراف إطلاق الحديث إلى مواردها ، وعدم عموميته لموارد العلم الإجمالي ، ولو كان الحديث عاما لكلا الموردين لكان له عليه‌السلام الإتيان بمثال لصورة العلم الإجمالي.

الشبهة غير المحصورة

اتّفق الأصوليّون على عدم تنجيز العلم الإجمالي في أطراف الشبهة التحريمية الموضوعية غير المحصورة ، ولا بدّ من تحديد الموضوع (غير المحصورة) أوّلا ، ثمّ بيان حكمها ثانيا.

أمّا الأوّل فبيانه انّه ربّما تبلغ أطراف الشبهة إلى حدّ يوجب ضعف احتمال كون الحرام في طرف خاص بحيث لا يعتني به العقلاء ، ويتعاملون معه معاملة الشكّ البدوي ، فلو أخبر أحد باحتراق بيت في بلد أو اغتيال إنسان فيه ، وللسامع فيه بيت أو ولد لا يعتدّ بذلك الخبر.

وأمّا حكمها ، فلو علم المكلّف علما وجدانيّا بوجود تكليف قطعي أو احتمالي بين الأطراف على وجه لا يرضى المولى بمخالفته على فرض وجوده ، فلا يجوز الترخيص لا في كلّها ولا في بعضها ، ولكن الكلام في مقام آخر ، وهو انّه إذا دلّ الدليل الشرعي على حرمة الشيء وكان مقتضى إطلاق الدليل حرمته مطلقا ، وإن كانت غير محصورة ، فهل هناك دليل أقوى يقدّم على ذلك الإطلاق؟

__________________

(١) الوسائل : ١٢ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.


وقد استدلّ القوم على وجود دليل يقدّم على الإطلاق بوجوه نذكر بعضها :

الأوّل : انّ الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة أمر موجب للعسر والحرج ، ومعه لا يكون التكليف فعليا ، فيجوز ارتكاب الأطراف جميعها أو بعضها.

الثاني : الروايات الواردة حول الجبن وغيرها المحمولة على الشبهة غير المحصورة ، الدالة على عدم وجوب الاجتناب ، منها :

١. روى إسحاق بن عمّار عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ، قال : «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا». (١)

٢. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألته عن الرجل أيشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال : «يشتري منه». (٢)

وقد وردت روايات في أخذ جوائز الظالم. (٣)

إلى غير ذلك من الروايات المورثة لليقين بعدم وجوب الموافقة القطعية.

تنبيه

إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأمور المحصورة ، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرّمة في ضمن ألف شاة ، فإنّ نسبة المائة إلى الألف نسبة الواحد إلى العشرة ، وهذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير ، فالعلم الإجمالي هنا منجز ، والعقلاء يتعاملون معه معاملة الشبهة المحصورة ، ولا يعد احتمال الحرمة في كلّ طرف احتمالا ضئيلا.

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ١٢ ، الباب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ و ٣ ، ولاحظ الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٣.

(٣) لاحظ الوسائل : ١٢ ، الباب ٥١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.


المقام الثاني : الشبهة الوجوبية

إنّ الشبهة الوجوبية في المكلّف به تنقسم إلى قسمين ، تارة يكون الشك مردّدا بين المتباينين كتردّد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة ، وأخرى بين الأقل والأكثر كتردّد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها ، وبذلك يقع الكلام في موضعين.

الموضع الأوّل : الشبهة الوجوبية الدائرة بين متباينين

إذا دار الواجب بين أمرين متباينين ، فمنشأ الشك إمّا فقدان النص أو إجماله ، أو تعارض النصّين ، أو الشبهة الموضوعية ، فهناك مسائل أربع : وإليك البحث فيها بوجه موجز :

١. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل فقدان النصّ ، كتردّده بين الظهر والجمعة.

٢. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل إجمال النص بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (البقرة / ٢٣٨) حيث إنّ الصلاة الوسطى مردّدة بين عدّة منها.

٣. إذا تردّد الواجب بغيره لأجل تعارض النصّين وتكافؤهما ، كما إذا دار الأمر بين القصر والإتمام.

٤. إذا تردّد الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة بين العصر والمغرب.

إنّ الخلاف في هذه المسائل كالخلاف في الشبهة التحريمية ، والمختار هو المختار طابق النعل بالنعل ، فيجب الاحتياط في الأولى والثانية والرابعة ، وأمّا الثالثة ، فالمشهور فيها التخيير ، لأخبار التخيير السليمة عن المعارض.


الموضع الثاني : الشبهة الوجوبية الدائرة بين الأقل والأكثر

إنّ الأقل والأكثر ينقسمان إلى استقلاليين وارتباطيين والفرق بينهما ، هو انّ وجوب الأقل وامتثاله في الاستقلالي يغاير وجوب الأكثر ـ على فرض وجوبه ـ وامتثاله ، فلكل وجوب وامتثال ، كالدين المردّد بين الدينار والدينارين ، والظاهر وجوب امتثال الأقل ، وعدم لزوم امتثال الأكثر لعدم ثبوت وجوبه ، بخلاف الأقل في الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر يكون واجبا بنفس وجوب الأكثر فلهما وجوب واحد وامتثال فارد ، ولذلك اختلفوا في جواز الاقتصار بالأقل ، أو لزوم الإتيان بالأكثر.

ونقتصر بالبحث هنا على الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويبحث عنه ضمن مسائل أربع:

المسألة الأولى : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل فقدان النص

إذا شككنا في جزئية السورة ، أو جلسة الاستراحة ، أو شرطية إباحة ثوب المصلّي فيكون الواجب مردّدا بين الأقل كالصلاة بلا سورة وبلا جلسة الاستراحة ... ، أو الأكثر كالصلاة مع السورة ومع جلسة الاستراحة ، فهل الإتيان بالأكثر مجرى للبراءة ، أو مجرى للاحتياط؟ والمختار هو البراءة.

واعلم أنّه يعتمد في تقرير البراءة العقلية على مسألة قبح العقاب بلا بيان ، فيقال في المقام انّ الجزء المشكوك لم يرد في وجوبه بيان ، فلو تركه العبد وكان واجبا في الواقع فالعقاب على تركه عقاب بلا بيان وهو قبيح على الحكيم.

كما أنّه يعتمد في تقرير البراءة الشرعية لأجل رفع الوجوب الشرعي ، على حديث الرفع ، فيقال انّ وجوب الأكثر بعد «مما لا يعلمون» وكلّ ما كان كذلك فهو مرفوع.


استدلال القائلين بالاحتياط

إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فذمّة المكلّف مشغولة بالواجب المردّد بين الأقل والأكثر ، ولا يحصل اليقين بالبراءة إلاّ بالإتيان بالأكثر نظير ما إذا دار أمر الصلاة الفائتة بين إحدى الصلاتين : المغرب أو العشاء ، فيجب الإتيان بالأقل والأكثر كما يجب الإتيان بكلتا الصلاتين.

يلاحظ عليه : وجود الفرق بين المشبّه (دوران الواجب بين الأقل والأكثر) والمشبّه به (دوران الواجب بين المتباينين) فانّ العلم الإجمالي في الثاني باق على حاله حيث إنّ الواجب مردد بين شيئين مختلفين غير متداخلين كصلاتي المغرب والعشاء.

وهذا بخلاف المقام فانّ الترديد زائل بأدنى تأمّل حيث يعلم وجوب الأقل على كلّ حال ، بنحو لا يقبل الترديد ، وإنّما الشك في وجوب الزائد أي السورة ، ففي مثله يكون وجوب الأقل معلوما على كلّ حال ، ووجوب الزائد مشكوكا من رأس ، فيأخذ بالمتيقن وتجري البراءة في المشكوك.

ومن ذلك يعلم أنّ عدّ الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين من باب العلم الإجمالي إنّما هو بظاهر الحال وبدء الأمر ، وأمّا بالنسبة إلى حقيقة الأمر فوجوب الزائد داخل في الشبهة البدوية التي اتفق الأخباري والأصولي على جريان البراءة فيها.

المسألة الثانية : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل إجمال النص

إذا دار الواجب بين الأقل والأكثر لأجل إجمال النصّ ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردّد معناه بين مركبين يدخل أقلّهما تحت الأكثر بحيث يكون إتيان الأكثر إتيانا للأقل ، ولا عكس ، كما إذا دلّ الدليل على غسل


ظاهر البدن ، فيشك في أنّ الجزء الفلاني كداخل الأذن من الظاهر أو من الباطن ، والحكم فيه كالحكم في السابق ، ونزيد هنا بيانا :

إنّ الملاك في جريان البراءة الشرعية هو رفع الكلفة المشكوكة ، فكلّ شيء فيه كلفة زائدة وراء الكلفة الموجودة في الأقل ، يقع مجرى للبراءة الشرعية.

المسألة الثالثة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل تعارض النصّين

إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئية شيء ، كأن يدل أحد الدليلين على جزئية السورة ، والآخر على عدمها ، ولم يكن لأحدهما مرجح ، فالحكم فيه هو التخيير ، لما عرفت من تضافر الروايات العديدة على التخيير عند التعارض.

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية

إذا شكّ في جزئية شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، وهذا كما إذا أمر المولى بإكرام العلماء على نحو العام المجموعي بحيث تكون للجميع إطاعة واحدة وعصيان واحد ، فالشكّ في كون زيد عالما أو غير عالم شكّ في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر ومنشأ الشكّ هو خلط الأمور الخارجية وبما انّ عنوان المجموع ، عنوان طريقي إلى الواجب ففي الحقيقة يتردّد الواجب بين الأقل والأكثر فتجري البراءة.

حكم الشكّ في المانعية والقاطعية

المراد من المانع ما اعتبره الشارع بما أنّ وجوده مخلّ بتأثير الأجزاء في الغرض


المطلوب كنجاسة الثوب في حال الصلاة.

والمراد من القاطع ما اعتبره الشارع بما انّه قاطع للهيئة الاستمرارية كالفعل الماحي للصورة الصلاتية.

فإذا شككنا في مانعية شيء أو قاطعيته ، فمرجع الشك إلى اعتبار أمر زائد على الواجب ـ وراء ما علم اعتباره ، فيحصل هنا علم تفصيلي ، بوجوب الأجزاء وشك بدوي في مانعية شيء أو قاطعيته ـ فالأصل عدم اعتبارهما إلى أن يعلم خلافه ، فالشكّ فيهما كالشكّ في جزئية شيء أو شرطيته في أنّ المرجع في الجميع هو البراءة.

والحمد لله ربّ العالمين


الفصل الرابع

الاستصحاب

لإيضاح الحال نذكر أمورا :

الأوّل : تعريف الاستصحاب وهو في اللغة أخذ الشيء مصاحبا أو طلب صحبته ، وفي الاصطلاح «إبقاء ما كان على ما كان» مثلا إذا كان المكلف متيقنا بأنّه متطهّر من الحدث ، ولكن بعد فترة شك في حصول حدث ناقض طهارته ، فيبني على بقائها ، وأنّه بعد متطهر ، فتكون النتيجة : «إبقاء ما كان على ما كان» ويختلف عن الأصول الثلاثة السابقة باختلاف المجرى ، فانّ مجرى الأصول الثلاثة هو الشكّ في الشيء من دون لحاظ الحالة السابقة ، إمّا لعدمها أو لعدم لحاظها ، وهذا بخلاف الاستصحاب فانّ مجراه هو لحاظ الحالة السابقة.

الثاني : أركان الاستصحاب

إنّ الاستصحاب يتقوم بأمور منها :

١. اليقين بالحالة السابقة والشكّ (١) في بقائها.

٢. اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد عند المستصحب ، أي فعلية اليقين في ظرف الشكّ.

٣. تعدد زمان المتيقن والمشكوك.

__________________

(١) المراد بالشكّ هو اللاحجّة فيعم الظن غير المعتبر والاحتمال المساوي والوهم.


٤. سبق زمان المتيقّن على زمان المشكوك.

٥. وحدة متعلّق اليقين والشكّ.

الثالث : تطبيقات

ألف : استصحاب الكرية إذا كان الماء مسبوقا بها فيترتب عليه عدم نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ب : استصحاب عدم الكرية إذا كان الماء مسبوقا به فيترتّب عليه نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.

ج : استصحاب حياة زيد فيترتب عليه حرمة قسمة أمواله وبقاء علقة الزوجية بينه وبين زوجته.

الرابع : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين

وهناك قاعدة أخرى تسمّى في مصطلح الأصوليين بقاعدة اليقين، وهذا كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة (لا السبت) وممّا ذكرنا يظهر انّه تختلف عن الاستصحاب في الأمرين التاليين :

أ. عدم فعلية اليقين لزواله بالشك.

ب. وحدة متعلّقي اليقين والشكّ جوهرا وزمانا.

والمعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. وانّ روايات الباب منطبقة على الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.


أدلّة حجّية الاستصحاب

اختلف الأصوليون في كيفيّة حجّية الاستصحاب ، فذهب القدماء إلى أنّه حجّة من باب الظن ، واستدلوا عليه بالوجوه التالية :

١. بناء العقلاء على العمل على وفق الحالة السابقة ، ولم يثبت الردع عنه من جانب الشارع.

يلاحظ عليه ـ مضافا إلى عدم كلّيتها ، فانّ العقلاء لا يعملون في الأمور الخطيرة على وفق الاستصحاب وإن أفاد الظن ـ : أنّه يكفي في الردع ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم ، وقد مرّت تلك الآيات عند البحث عن حجّية خبر الواحد.

٢. ما استند إليه العضدي في شرح المختصر ، فقال : إنّ استصحاب الحال :انّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء.

يلاحظ عليه : أوّلا : بمنع كلية الكبرى ، لمنع إفادة الاستصحاب الظن في كلّ مورد ، وثانيا سلّمنا لكن الأصل في الظنون عدم الحجّية إلاّ أن يدلّ دليل قاطع عليها.

٣. الاستدلال بالإجماع ، قال العلاّمة : الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ، ثمّ وقع الشكّ في طروء ما يزيله ، وجب الحكم على ما كان أوّلا ، ولو لا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح.

يلاحظ عليه : عدم حجّية الإجماع المنقول ، خصوصا إذا علم مستند المجمعين. أضف إلى ذلك مخالفة عدّة من الفقهاء مع الاستصحاب.

وأمّا المتأخرون فقد استدلّوا بالأخبار ، وأوّل من استدلّ بها الشيخ الجليل


الحسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدين العاملي (٩١٨ ـ ٩٨٤ ه‍) في كتابه المعروف ب «العقد الطهماسبي» وهي عدّة روايات :

١. صحيحة زرارة الأولى

روى الشيخ الطوسي بإسناده ، عن الحسين بن سعيد عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة : قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء».

قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر». (١)

وجه الدلالة : أنّ المورد وإن كان هو الوضوء ، لكن قوله : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ» إلى آخره ظاهر في أنّه قضية كلّية طبّقت على مورد الوضوء ، فلا فرق بين الشكّ في الوضوء وغيره. وانّ اللاّم في قوله : «اليقين» لام الجنس لا العهد ، ويدلّك على هذا ، أنّ التعليل بأمر ارتكازيّ وهو عدم نقض مطلق اليقين بالشك ، لا خصوص اليقين بالوضوء.

٢. صحيحة زرارة الثانية

روى الشيخ في التهذيب (٢) عن زرارة رواية مفصّلة تشتمل على أسئلة وأجوبة ، ونحن ننقل مقاطع منها :

أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من مني ، فعلّمت أثره إلى أن

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٢) رواه عن زرارة بنفس السند السابق.


أصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك.

قال : «تعيد الصلاة وتغسله».

قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه ، فلما صلّيت وجدته؟

قال : «تغسله وتعيد».

قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟

قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة» ، قلت : لم ذلك؟

قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». (١)

وجه الاستدلال : يركّز الراوي في سؤاله الثالث على أنّه ظن ـ قبل الدخول في الصلاةـ بإصابة الدم بثوبه ولكن لم يتيقن ذلك فنظر فلم ير شيئا فصلّى فلما فرغ عنها رأى الدم ـ الذي ظن به قبل الصلاة ـ فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّه يغسل ثوبه للصلوات الأخرى ولكن لا يعيد ما صلّى. فسأل الراوي عن سببه مع أنّه صلّى في الثوب النجس ، كالصورتين الأوليين فأجاب عليه‌السلام : بوجود الفرق ، وهو علمه السابق بنجاسة ثوبه في الصورتين فدخل في الصلاة بلا مسوّغ شرعي ، وشكّه فيها بعد الإذعان بطهارته في الصورة الثالثة فدخل فيها بمجوز شرعي وهو عدم نقض اليقين بالطهارة ، بالشك في النجاسة ومنه يعلم أنّ ظرف الاستصحاب هو قبيل الدخول فيها.

__________________

(١) الوسائل : ٢ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث ١ ، وقد تركنا نقل الأسئلة الباقية للاختصار.


ثم إنّ للاستصحاب دورا فقط في إحراز الصغرى : أعني : طهارة الثوب ، ويترتب عليه أمر الشارع بجواز الصلاة فيه ، ومن المعلوم أنّ امتثال الأمر الشرعي واقعيا كان أو ظاهريا مسقط للتكليف ، كما مرّ في مبحث الاجزاء.

٣. حديث الأربعمائة (١)

روى أبو بصير ، ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه ، فانّ الشكّ لا ينقض اليقين». (٢)

والرواية صالحة للاستدلال بها على حجية قاعدة اليقين إذا كان متعلّق اليقين والشك واحدا ذاتا وزمانا ، بأن يكون مفادها ، من كان على يقين (من عدالة زيد يوم الجمعة) ثم شك (في عدالته في نفس ذلك اليوم وبالتالي شك في صحة الطلاق الذي طلق عنده) فليمض على يقينه.

كما هي صالحة للاستدلال بها على حجية الاستصحاب إذا كان متعلّق الشك غير متعلّق اليقين زمانا ففي المثال : إذا أيقن بعدالته يوم الجمعة وشك في بقائها يوم السبت فليمض على يقينه (مثلا ليطلق عنده).

لكنّها في الاستصحاب أظهر لوجهين :

١. انّ الصحاح السابقة تشكل قرينة منفصلة على تفسير هذه الرواية فتحمل إلى ما حملت عليه الروايات السابقة.

٢. انّ التعليل في الحديث تعليل بأمر ارتكازي وهو موجود في الاستصحاب دون قاعدة اليقين لفعلية اليقين في الأوّل دون الآخر.

__________________

(١) المراد من حديث الأربعمائة ، الحديث الذي علّم فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام أصحابه أربعمائة كلمة تصلح للمسلم في دينه ودنياه ، رواه الصدوق بسند صحيح ، عن أبي بصير ، ومحمد بن مسلم ، في كتاب الخصال في أبواب المائة وما فوقها. لاحظ ص ٦١٩.

(٢) الوسائل : ٧ ، باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.


في تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأوّل : في فعلية الشك

يشترط في الاستصحاب فعلية الشكّ فلا يفيد الشكّ التقديريّ ، فلو تيقن الحدث من دون أن يشكّ ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت بعدها فشكّ في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب ، لأنّ اليقين بالحدث وإن كان موجودا قبل الصلاة لكنّه لم يشك لغفلته ، ولأجل عدم جريانه يحكم عليه بصحّة الصلاة أخذا بقاعدة الفراغ ، لاحتمال أنّه توضّأ قبل الصلاة ، وهذا المقدار من الاحتمال كاف لجريان قاعدة الفراغ ، ولكن يجب عليه التوضّؤ بالنسبة إلى سائر الصلوات ، لأنّ قاعدة الفراغ لا تثبت إلاّ صحّة الصلاة السابقة ، وأمّا الصلوات الآتية فهي رهن إحراز الطهارة.

وهذا بخلاف ما إذا كان على يقين من الحدث ثمّ شكّ في وضوئه ومع ذلك غفل وصلّى والتفت بعدها فالصلاة محكومة بالبطلان لتماميّة أركان الاستصحاب وإن احتمل انّه توضّأ بعد الغفلة.

التنبيه الثاني : في استصحاب الكلّي

المراد من استصحاب الكلّي هو استصحاب الجامع بين الفردين ، كاستصحاب الإنسان المشترك بين زيد وعمرو ، وكاستصحاب الطلب الجامع بين الوجوب والندب ، وله أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل من استصحاب الكلّي

إذا علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه ، فلا محالة


يشك في بقاء الكلّي وارتفاعه ، فإذا علم بوجود زيد في الدار فقد علم بوجود الإنسان فيها، فإذا شكّ في بقائه فيها يجري هناك استصحابان :

أ. استصحاب بقاء الفرد ـ أعني : زيدا ـ.

ب. استصحاب بقاء الكلّي ـ أعني : الإنسان ـ.

وهكذا إذا صار محدثا بالحدث الأكبر ـ أعني : الجنابة ـ وشكّ في ارتفاعها بالرافع فيجوز له استصحاب الجنابة ، فيترتب عليه جميع آثار الجنابة كحرمة المكث في المساجد وعبور المسجدين الشريفين.

كما يجوز استصحاب الكلّي ، أي أصل الحدث الجامع بين الجنابة وسائر الأحداث، فيترتب عليه أثر نفس الحدث الجامع كحرمة مس كتابة القرآن.

القسم الثاني من استصحاب الكلّي

إذا علم إجمالا أنّ في الدار حيوانا مردّدا بين قصير العمر كالبق ، وطويله كالفيل ، فقد علم تفصيلا بوجود حيوان فيها ـ وإن كانت المشخّصات مجهولة ثمّ مضى زمان يقطع بانتفاء الفرد القصير فيشكّ في بقاء الحيوان في الدار ـ فلا يصحّ استصحاب الفرد مثل البقّ أو الفيل ، لعدم الحالة المتيقّنة للفرد ، لافتراض كون المشخّصات مجهولة ، ولكن يصحّ استصحاب الكلي.

ومثاله من الأمور الشرعية ما إذا كان متطهّرا وخرج بلل مردّد بين البول والمني ، فعندئذ حصل له علم تفصيلي بالحدث الكليّ. ثمّ إذا توضّأ بعده فلو كان البلل بولا ارتفع الحدث الأصغر قطعا ، ولو كان منيّا فهو باق ، وعندئذ لا يقطع بارتفاع الحدث الجامع لاحتمال كون الحادث هو المني.

فلا يجوز استصحاب أيّ فرد من أفراد الحدث لعدم العلم بالحالة السابقة ، لكن يصحّ استصحاب الجامع أي مطلق الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر.


القسم الثالث من استصحاب الكلّي

إذا تحقّق الكلّي (الإنسان) في الدار في ضمن فرد كزيد ، ثمّ علم بخروجه من الدار قطعا ، ولكن يحتمل مصاحبة عمرو معه عند ما كان زيد في الدار ، أو دخوله فيها مقارنا مع خروجه.

ففي هذا المقام لا يجري استصحاب الفرد أصلا ، لأنّ الفرد الأوّل مقطوع الارتفاع والفرد الثاني مشكوك الحدوث من رأس ، ولكن يجري استصحاب الكلّي أي وجود الإنسان في الدار الذي هو الجامع بين الفردين.

مثاله في الأحكام الشرعية ما إذا علمنا بكون الشخص كثير الشك وعلمنا أيضا ارتفاع كثرة شكه إجمالا ، ولكن احتملنا ارتفاعها من رأس أو انقلابها إلى مرتبة ضعيفة ، فلا يجوز استصحاب المرتبة الشديدة لأنّها قطعية الارتفاع ، ولا المرتبة الضعيفة لأنّها مشكوكة الحدوث ، لكن يمكن استصحاب الجامع بين المرتبتين وهو كونه كثير الشكّ غير مقيد بالشدة والضعف.

التنبيه الثالث : عدم حجّية الأصل المثبت

يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا حكما شرعيّا كاستصحاب أحد الأحكام الشرعية ـ كليّة أو جزئية ـ أو موضوعا لحكم شرعي كاستصحاب حياة زيد ، فانّها موضوعة لأحكام كثيرة ، مثل بقاء علقة الزوجية وحرمة تقسيم أمواله ، إلى غير ذلك من الآثار الشرعيّة.

فلو افترضنا أنّ زيدا غاب وله من العمر اثنا عشر عاما ، فشككنا في حياته بعد مضيّ ثلاثة أعوام من غيبته ، فلا يصحّ استصحاب حياته لغاية إثبات أثره العقلي ـ بلوغه ـ حتى يترتب عليه آثاره الشرعيّة من وجوب الإنفاق من ماله على والديه فالمراد من الأصل المثبت هو إجراء الاستصحاب لإثبات الأثر العقلي أو


العادي للمستصحب.

ذهب المحقّقون إلى عدم صحّته لأنّ الآثار العقلية وإن كانت أثرا لنفس المتيقّن، ولكنّها ليست آثارا شرعيّة ، بل آثار تكوينية غير خاضعة للجعل والاعتبار ، والآثار الشرعية المترتبة على تلك الأمور العادية والعقلية وإن كانت خاضعة للجعل لكنّها ليست آثارا للمتيقّن (الحياة) الذي أمرنا الشارع بإبقائه وتنزيل مشكوكه منزلة المتيقّن.

وإليك مثالا آخر :

مثلا إذا تعبّدنا الشارع بإبقاء شهر رمضان ، أو عدم رؤية هلال شوال في يوم الشك فإذا ضمّ هذا التعبد إلى العلم القطعي بمضيّ تسعة وعشرين يوما من أوّل الشهر قبل هذا اليوم ، يلازمه الأثر العادي وهو كون اليوم التالي هو عيد الفطر ، فهل يترتب على ذلك الأثر العادي ـ الملازم للاستصحاب ـ الأثر الشرعي من صحّة صلاة الفطر ولزوم إخراج الفطرة بعد الهلال ونحوهما؟

فالتحقيق : انّه لا يترتب على الاستصحاب ، الأثر العادي حتى يترتب عليه الأثر الشرعي ، لأنّ الذي تعبدنا الشارع بإبقائه هو بقاء شهر رمضان أو عدم رؤية هلال شوال ، فلصيانة تعبد الشارع عن اللغوية يترتب كل أثر شرعي على هذين المستصحبين ، لا الأثر العادي ، لأنّه غير خاضع للجعل والاعتبار ، فإنّ الأمور التكوينية تدور مدار الواقع.

وأمّا الآثار الشرعيّة المرتبة على ذلك الأثر العادي ، فهي وإن كانت خاضعة للجعل والاعتبار ، لكنّها ليست أثرا مترتبا على ما تعبدنا الشارع بإبقائه وهو كون اليوم شهر رمضان أو عدم كونه من شوال.

نعم استثنى بعض المحقّقين من الأصل المثبت موارد تطلب من الدراسات العليا.


التنبيه الرابع : تقدّم الأصل السببي على المسببي

إذا كان في المقام أصلان متعارضان ، غير أنّ الشك في أحدهما مسبب عن الشكّ في الآخر ، مثلا إذا كان ماء قليل مستصحب الطهارة ، وثوب متنجس قطعا ، فغسل الثوب بهذا الماء ، فهنا يجري بعد الغسل استصحابان :

أ. استصحاب طهارة الماء الذي به غسل الثوب النجس ، ومقتضاه طهارة الثوب المغسول به.

ب. استصحاب نجاسة الثوب وبقائها حتى بعد الغسل.

وعندئذ يقدّم الاستصحاب الأوّل على الاستصحاب الثاني ، لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة في الثوب ـ بعد الغسل ـ ناشئ عن الشكّ في طهارة الماء الذي غسل به ، فإذا تعبدنا الشارع ببقاء طهارة الماء ظاهرا يكون معناه ترتيب ما للماء الطاهر الواقعي من الآثار على مستصحب الطهارة ، ومن جملة آثاره طهارة الثوب المغسول به ، فالتعبد ببقاء الأصل السببي يرفع الشك ، في جانب الأصل المسببي بمعنى انّ النجاسة هناك مرتفعة غير باقية فيكون الأصل السببي مقدّما على الأصل المسببي.

ويمكن أن يقال إنّ الأصل السببي ـ استصحاب طهارة الماء ـ ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي ، فيكون الدليل الاجتهاديّ مقدّما على الأصل المسببي ، لأنّ استصحاب طهارة الماء يثبت موضوعا ، وهو أنّ هذا الماء طاهر ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر دلّ الدليل الاجتهادي أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر ، فبضم الصغرى إلى الكبرى لا يبقى شكّ في طهارة الثوب وارتفاع نجاسته.


التنبيه الخامس : تقدّم الاستصحاب على سائر الأصول

يقدّم الاستصحاب على سائر الأصول ، لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق وجعله حجّة في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الأصول ، أو حصول غاياتها ، وإليك البيان :

أ. إنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، فإذا كان الشيء مستصحب الحرمة أو الوجوب ، فالأمر بالتعبّد بإبقاء اليقين السابق بيان من الشارع ، فلا يبقى موضوع للبراءة العقلية.

ب. كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو «ما لا يعلمون» والمراد من العلم هو الحجّة الشرعيّة ، والاستصحاب كما قرّرناه حجّة شرعيّة على بقاء الوجوب والحرمة في الأزمنة اللاحقة ، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.

ج. إنّ موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال ، والاستصحاب بحكم الشرع هادم لذلك التساوي.

د. إنّ موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل أو الترك ، والاستصحاب بما أنّه حجّة مؤمّنة ، فالاستصحاب بالنسبة إلى هذه الأصول رافع لموضوعها. وإن شئت فسمّه واردا عليها.

وربّما يكون الاستصحاب موجبا لحصول غاية الأصل كما هو الحال في أصالتي الطهارة والحليّة ، فإنّ الغاية في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، وفي قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» وإن كان هو العلم ، لكن المراد منه هو الحجّة ، وبما انّ الاستصحاب حجّة ، فمع جريانه تحصل الغاية ، فلا يبقى للقاعدة مجال.

تمّ الكلام في الأصول العملية ،

ويليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء الله

والحمد لله ربّ العالمين


المقصد الثامن

في تعارض الأدلّة الشرعية

وفيه فصلان :

الفصل الأوّل : في التعارض غير المستقر.

الفصل الثاني : في التعارض المستقر.

خاتمة المطاف : في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه.


في تعارض الأدلّة الشرعيّة

يعدّ البحث عن تعارض الأدلّة الشرعية ، وكيفيّة علاجها ، من أهمّ المسائل الأصوليّة، وذلك لانّه قلّما يتفق في باب أن لا توجد فيه حجّتان متعارضتان ، على نحو لا مناص للمستنبط من علاجهما بالقواعد المذكورة في باب تعارض الأدلّة ولأجل تلك الأهميّة أفردوا له مقصدا.

إنّ التعارض من العرض وهو في اللغة بمعنى الإراءة قال سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) (البقرة / ٣١).

وامّا اصطلاحا فقد عرّف بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض كما إذا قال:يحرم العصير العنبي قبل التثليث ، وقال أيضا : لا يحرم ، أو التضاد كما إذا قال : تستحب صلاة الضحى وقال أيضا «تحرم».

ثمّ إنّ التعارض بين الدليلين تارة يكون أمرا زائلا بالتأمل واللازم فيه هو الجمع بين الدليلين ، وأخرى يكون باقيا غير زائل فالمرجع فيه ، هو الترجيح أوّلا ثمّ التخيير ثانيا. فصار ذلك سببا لعقد فصلين يتكفّلان لبيان حكم القسمين فنقول :


الفصل الأوّل

في الجمع بين الدليلين

أو

التعارض غير المستقر

إذا كان التعارض بين الخبرين تعارضا غير مستقر ، يزول بالتأمّل بحيث لا يعدّ التكلّم بهذا النحو على خلاف الأساليب المعروفة بين المقنّنين وعلماء الحقوق ، بل كان دارجا بينهم، فيقدّم فيه الجمع على التخيير أو الترجيح أو التساقط وهذا هو المراد من قول الأصوليّين : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» ومقصودهم هو الجمع المطلوب عند أهل الحقوق والقانون بحيث يعد أحد الدليلين قرينة على التصرف في الآخر ، وهذا ما يعبّر عنه بالجمع العرفي ، أو الجمع مع الشاهد في مقابل الجمع التبرّعي الذي يجمع بين الدليلين بلا شاهد وقرينة ، ولأجل ذلك يكون الجمع الأوّل مقبولا والآخر مرفوضا.

وقد بذل الأصوليّون جهودهم في إعطاء ضوابط الجمع المقبول وحصروها في العناوين التالية :

١. التخصّص ، ٢. الورود ، ٣. الحكومة ، ٤. التخصيص ، ٥. تقديم الأظهر على الظاهر.

وإليك تعريف تلك العناوين :

١. التخصّص : هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر


حقيقة وتكوينا ، كقولنا : «الخمر حرام» و «الخل حلال» فالمحمولان وإن كانا متنافيين ، ولكن التنافي بينهما بدويّ يزول بالنظر إلى تغاير الموضوعين.

٢. الورود : هو رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقة ، لكن بعناية من الشارع بحيث لولاها لما كان له هذا الشأن كتقدّم الأمارة على الأصول العملية.

توضيحه : انّ لكلّ من الأصول العملية موضوعا خاصّا.

مثلا موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، وموضوع الاشتغال هو احتمال العقاب، وموضوع التخيير هو عدم المرجّح ، فإذا قام الدليل القطعي على حجّية الأمارة ارتفع بذلك موضوع الأصل ، فتكون الأمارة بيانا لمورد الشك (في أصل البراءة) ، ورافعا لاحتمال العقاب (في أصالة الاشتغال) ، ومرجحا لأحد الطرفين على الآخر (في أصالة التخيير). كلّ ذلك بفضل جعل الشارع الحجّية للأمارة.

وهذا هو المراد من قولنا : «لكن بعناية الشارع» إذ لولاها لكانت الأمارة في عرض الأصول لعدم افادتها العلم كالأصول ، لكن لما افيضت عليها الحجية من جانب الشارع ، صارت تهدد كيان الأصول لكونها بيانا من الشارع ، ومؤمّنا للعقاب و ... وبذلك يظهر ورود الأمارة على أصالتي الطهارة والحلّية ، لأنّهما مغياة بعدم العلم ، والمراد منه هو الحجّة الشرعية، فالأمارة بما أنّها حجّة شرعية ، دالة على حصول الغاية في قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» أو قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام».

٣. الحكومة : أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ومفسرا له ، فيقدّم على الآخر بحكم انّ له تلك الخصوصية ويسمّى الناظر بالحاكم ، والمنظور إليه بالمحكوم ، ويتلخّص النظر في الأقسام التالية :


أ : التصرف في عقد الوضع بتوسيعه ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (المائدة / ٦) فالمتبادر من الصلاة هي الاعمال المعهودة ، فإذا ضمّ إليه قوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» يكون حاكما على الآية بتوسيع موضوعها ببيان انّ الطواف على البيت من مصاديق الصلاة فيشترط فيه ما يشترط في الصلاة.

ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة إلاّ بطهور» الظاهرة في شرطية الطهارة المائية ، فكأنّه قال : «الطهور شرط للصلاة» فإذا قال : التراب أحد الطهورين ، فقد وسّع الموضوع (الطهور) إلى الطهارة الترابية أيضا ، وهذا النوع من التصرّف في عقد الوضع لا يتم إلاّ ادّعاء ، كادّعاء انّ الطواف أو التيمّم صلاة أو طهور.

ب : التصرّف في عقد الوضع بتضييقه ، ويتحقّق ذلك بنفي الموضوع لغاية نفي حكمه كما إذا قال : «لا شكّ لكثير الشك» ، أو قال : «لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم» ، أو بالعكس ، وذلك بعد العلم بانّ للشاك أحكاما معينة في الشريعة فهي حاكمة على أحكام الشاكّ ، متصرفة في موضوعها بادّعاء عدم وجود الشك في تلك الموارد الثلاثة ، والغاية هي رفع الحكم برفع الموضوع ادّعاء.

مع أنّ هذه الأمثلة أشبه بالتخصيص ، ولكن الذي يميّزها عن التخصيص هو أنّ لسانها لسان النظارة إلى الدليل الآخر.

ج : التصرّف في عقد الحمل أو متعلّقه بتوسيعه ، فإذا قال : ثوب المصلي يلزم أن يكون طاهرا وقال : «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» فقد وسّع متعلّق الحكم إلى الطهارة الثابتة حتى بالأصل.

د : التصرّف في عقد الحمل بتضييقه ، وهذا كقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج / ٧٨) فإنّها بحكم نظرها إلى الأحكام الشرعية المترتبة على العناوين الأوّلية تضيق محمولاتها ويخصصها بغير صورة الحرج ، ومثله


قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بالنسبة إلى سائر الأحكام فوجوب الوضوء محدد بعدم الحرج والضرر.

والحاصل : أنّ مقوم الحكومة اتخاذ الدليل لنفسه موقف الشرح والتبيين ، فتكون النتيجة إمّا تصرّفا في عقد الوضع ، أو الحمل إمّا بالتوسيع أو بالتضييق. ولكن التعارض ورفعه بالحكومة مختص بصورة التضييق لا التوسيع وليس فيها أيّ تعارض حتى تعالج بالحكومة بخلاف صورة التضييق فالتعارض محقّق لكن يقدم الحاكم على المحكوم في عرف أهل التقنين فلاحظ.

٤. التخصيص : عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن الحكم المحمول عليه مع التحفّظ على الموضوع كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم العالم الفاسد ، فهو يشارك الحكومة في بعض أقسامه (القسم الرابع) لكنّه يفارقه بأنّ لسان التخصيص هو رفع الحكم عن بعض أفراد الموضوع ابتداء من دون أن يكون لسانه ، لسان النظارة ، بخلاف الحكومة فإنّ لسانها لسان النظر إمّا إلى المحمول أو إلى الموضوع ، ولذلك ربما يقال بأنّه لو لم يرد من الشارع حكم في المحكوم لم يكن للدليل الحاكم مجال.

٥. تقديم الأظهر على الظاهر ، إذا عدّ أحد الدليلين قرينة على التصرّف في الآخر يقدم ما يصلح للقرينية على الآخر وإن لم يدخل تحت العناوين السابقة ، وهذا ما يسمّى بتقديم الأظهر على الظاهر ولأجل التعرّف على الأظهر والظاهر نذكر أمثلة :

أ : دوران الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق

إذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفاسق ، فدار أمر العالم الفاسق بين دخوله تحت الحكم


الأوّل أو الثاني ، فقد اختار الشيخ الأعظم الأنصاريّ تقديم العام على المطلق ، ولزوم التصرّف في الثاني بتقييد المطلق به ، فتكون النتيجة وجوب إكرام العالم الفاسق ، وما هذا إلاّ لأنّ دلالة العام على الشمول أظهر من دلالة المطلق عليه.

ب : إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن

إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن ، مع تساويهما في الظهور اللفظي وكونهما بصيغة العموم كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ، فبين الدليلين عموم وخصوص من وجه ، فيتعارضان في مجمع العنوانين : أعني : العالم الفاسق ، فيجب إكرامه على الأوّل ويحرم على الثاني ولكن علمنا من حال المتكلّم أنّه يبغض العالم الفاسق ، فهو قرينة على تقديم عموم النهي على عموم الأمر ، فيكون مجمع العنوانين (العالم الفاسق) محرّم الإكرام.

ج : دوران الأمر بين التقييد والحمل على الاستحباب

إذا قال الشارع إذا أفطرت فاعتق رقبة ، ثمّ ورد بعد مدّة إذا أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة، فيدور الأمر بين حمل المطلق على المقيد ، أو حمل الأمر المتعلّق بالمقيّد على الاستحباب ، فربما يقدّم الأوّل على الثاني لشيوع التقييد ، وربما يرجح العكس لشيوع استعمال الأوامر على لسان الشارع في الاستحباب. وقد مرّ تفصيله في المقصد الخامس عند البحث في المطلق والمقيّد.

ويدلّ على هذا النوع من الجمع طائفة من الروايات منها :

ما روى داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، انّ الكلمة لتنصرف على وجوه لو شاء إنسان لصرف كلامه حيث يشاء». (١)

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.


وهذا الحديث يحث على التأمّل والتدبّر في الأحاديث المروية ، حتى لا يتسرّع السامع باتّهامها بالتعارض بمجرد السماع ، دون التدبّر في أطرافها.

فتلخّص أنّ التنافي غير المستقر يرتفع بأحد الأمور الخمسة التي أشرنا إليها ، بقي الكلام في التنافي المستقر وهو الذي نبحث عنه في الفصل التالي.

الفصل الثاني

التعارض المستقر

أو إعمال الترجيح والتخيير

إذا كان هناك بين الدليلين تناف وتدافع في المدلول على وجه لا يمكن الجمع بينهما جمعا عرفيا مقبولا عند أهل التقنين ، فيقع البحث في أمور :

الأوّل : ما هي القاعدة الأوّلية عند التعارض؟

لا شكّ أنّ الأخبار حجّة من باب الطريقية بمعنى أنّها الموصلة إلى الواقع في كثير من الأحيان ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ دليل حجية قول الثقة منحصرة في السيرة العقلائية عند المحقّقين ، وبما أنّ السيرة دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقّن منه لعدم وجود لسان لفظي لها حتى يؤخذ بإطلاقه ، والقدر المتيقّن من السيرة في مورد حجّية قول الثقة هي صورة عدم التعارض ، فتكون القاعدة الأوّلية هي سقوط الخبرين المتعارضين عن الحجّية. لما مضى من أنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها.


الثاني : ما هي القاعدة الثانوية عند التعارض؟

قد وقفت على أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في الخبرين المتعارضين هو التساقط ، فلو ثبت شيء على خلاف تلك القاعدة نأخذ به ، وإلاّ فهي محكّمة.

فنقول : إنّ الخبرين المتعارضين على صورتين :

أ : الخبران المتكافئان اللّذان لا مزيّة لأحدهما توجب ترجيحه على الآخر.

ب : الخبران المتعارضان اللّذان في أحدهما مزيّة توجب ترجيحه على الآخر.

وإليك الكلام في كلا القسمين :

الصورة الأولى : الخبران المتعارضان المتكافئان

إذا ورد خبران متعارضان متكافئان من دون مزية لأحدهما على الآخر (١) فقد استفاضت الروايات على التخيير بينهما ، فمنها :

١. ما روى الطبرسي في «الاحتجاج» عن الحسن بن الجهم (٢) قال : قلت له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا» ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت». (٣)

٢. ما رواه الشيخ في «التهذيب» ، عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب

__________________

(١) سيوافيك أنّ أخبار التخيير محمولة على صورة التكافؤ.

(٢) الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الشيباني ، ترجمه النجاشي برقم ١٠٨ ، وقال : ثقة ، روى عن أبي الحسن والرضا عليهما‌السلام.

(٣) الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.


لعبد الله بن محمد ، إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلّها في المحمل ، وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض ، فقال عليه‌السلام : «موسّع عليك بأيّة عملت». (١)

والرواية بقرينة قوله : «موسّع عليك بأيّة عملت» ناظرة إلى الأخبار المتعارضة ، نعم موردها هي الأمور المستحبّة ، والتخيير في المستحبات لا يكون دليلا على التخيير في الواجبات ، لأنّ للأولى مراتب مختلفة في الفضيلة ، فيصح التخيير بين درجاتها ، وهذا بخلاف الواجبات ، فإنّ أحد الطرفين تعلّق به الأمر دون الآخر.

هل التخيير بدوي أو استمراري؟

إذا ورد خبران متعارضان متكافئان ، فهل التخيير بينهما بدوي أو استمراري بمعنى أنّه له اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأولى؟ والحقّ أنّه بدوي ، وقد سبق بيانه في مبحث الاشتغال ، وذكرنا فيه أنّ المخالفة القطعية العملية للعلم الإجمالي قبيح وحرام ، من غير فرق بين أن تكون المخالفة دفعية أو تدريجية ، فإذا أخذ بأحد الخبرين في واقعة ، والخبر الآخر في واقعة أخرى ، فقد علم بالمخالفة العملية امّا بعمله هذا أو بما سبق.

ما هو مرجع الروايات الآمرة بالتوقّف؟

هناك روايات تأمر بالتوقف والصبر إلى لقاء الإمام ، أو من يخبر بحقيقة الحال من بطانة علومهم عليهم‌السلام ومعها كيف يكون التكليف هو التخيير بين الخبرين المختلفين؟

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.


روى الكليني ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه». (١)

وفي مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة حينما انتهى السائل إلى مساواة الخبرين في المرجّحات قال : «إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». (٢)

والأوّل يأمر بالتوقّف منذ بدء الأمر ، والآخر يأمر به بعد مساواتهما في المرجحات ، وعلى كلّ تقدير ينفيان التخيير.

والجواب : أنّ هذا القسم من الروايات محمول على صورة التمكن من لقاء الإمام ، أو من لقاء بطانة علومهم ، ويشهد لهذا الجمع نفس الحديثين ، ففي الأوّل : «يرجئه حتى يلقى من يخبره» أي يخبره بحقيقة الحال وما هو الصحيح من الخبرين ، وفي الثاني : «فارجئه حتى تلقى إمامك» ومن لاحظ الروايات الآمرة بالتوقّف يلمس ذلك ، فإنّ من الرواة من كان يتمكن من لقاء الإمام والسماع منه ، ومنهم من لم يكن متمكنّا من لقائه عليه‌السلام إلاّ ببذل مؤن ، وقطع مسافة بعيدة ، فالأمر بالتوقّف راجع إلى المتمكّن ، والأمر بالتخيير إلى الثاني.

الصورة الثانية : الخبران المتعارضان غير المتكافئين

إذا كان هناك خبران ، أو أخبار متعارضة ، ويكون لأحدهما ترجيح على الآخر ؛ فيقع الكلام في الأمور الثلاثة :

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥ ، ١. ولاحظ الحديث ٤٢ و ٣٦ من هذا الباب.


١. التعرّف على هذه المرجّحات.

٢. هل الأخذ بذي المزيّة واجب أو راجح؟

٣. هل يقتصر على المنصوص من المرجّحات أو يتعدى غيره؟

ولنتناول البحث في كل واحد منها.

الأمر الأوّل : في بيان المرجّحات الخبرية

نستعرض في هذا الأمر المرجّحات الخبرية ـ عندنا ـ أو ما قيل إنّها من المرجّحات الخبرية وهي أمور :

أ. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي ، مثل الأعدليّة والأفقهية والأصدقية والأورعية ، في غير واحد من الروايات التي نذكر بعضها.

روى الكليني بسند صحيح ، عن عمر بن حنظلة (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين ، أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان ، وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال : «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا ، وإن كان حقا ثابتا له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وما أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(٢)».

قلت : فكيف يصنعان؟ قال : «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا

__________________

(١) عمر بن حنظلة وإن لم يوثق في المصادر الرجاليّة ، لكن الأصحاب تلقّوا روايته هذه بالقبول وـ لذا ـ سمّيت بالمقبولة ، واعتمدوا عليها في باب القضاء ، والحديث مفصّل ذكرناه في مقاطع أربعة فلا تغفل.

(٢) النساء / ٦٠.


ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخف بحكم الله وعلينا ردّ ، والراد علينا ، راد على الله وهو على حدّ الشرك بالله».

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم ، فقال : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر». (١)

إنّ هذا القسم من الترجيح قد ورد في غير واحد من الروايات (٢) لكن الجميع راجع إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على حكم القاضي الآخر ، ومن المحتمل جدا اختصاص الترجيح به لمورد الحكومة ، حتى يرتفع النزاع وتفصل الخصومة ، ولا دليل على التعدي منه إلى غيره ، وذلك لأنّه لمّا كان إيقاف الواقعة وعدم صدور الحكم ، غير خال من المفسدة ، أمر الإمام بإعمال المرجحات حتى يرتفع النزاع.

نعم ورد الترجيح بصفات الراوي في مورد تعارض الخبرين ، فيما رواه ابن أبي جمهور الاحسائي ، عن العلاّمة ، مرفوعا إلى زرارة ، لكن الرواية فاقدة للسند ، يرويها ابن أبي جمهور الاحسائي (المتوفّى حوالي سنة ٩٠٠ ه‍) ، عن العلاّمة (المتوفّى عام ٧٢٦ ه‍)، عن زرارة (المتوفّى عام ١٥٠ ه‍) ، ومثل هذا الحديث لا يصحّ الاحتجاج به أبدا ، ولأجل ذلك، لم نعتمد عليها. وعلى ذلك ليس هنا دليل صالح لوجوب الترجيح بصفات الراوي.

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٨ ، ط دار الكتب الإسلامية.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ رواية داود بن الحصين و ٤٥ ، رواية موسى بن أكيل.


ب : الترجيح بالشهرة العمليّة

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية ، أي عمل جلّ الأصحاب بإحدى الروايتين ، دون الرواية الأخرى ، في المقبولة السابقة ، فقد طرح عمر بن حنظلة مساواة الراويين في الصفات قائلا : «فقلت : إنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا ـ في ذلك الذي حكما به ـ المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه.

إنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله». (١)

يلاحظ على الاستدلال بأنّه : يحتمل جدا اختصاص الترجيح بالشهرة العملية بمورد القضاء وفصل الخصومة الذي لا يصحّ فيه إيقاف الحكم فيرجّح أحد الراويين على الآخر بملاحظة مصدره ، وأمّا لزوم الترجيح بها أيضا في تعارض الخبرين في مقام الإفتاء ، فغير ظاهر من الحديث ، لا يثبته ولا ينفيه ، إلا إذا قيل بإلغاء الخصوصية بين المقامين عرفا.

ج : الترجيح بموافقة الكتاب

إنّ الإمعان في المقبولة يثبت انّ صدر الحديث بصدد بيان مرجحات القضاء ، لكن السائل لمّا وقف على أنّ الإمام عليه‌السلام يقدّم رأي أحد القاضيين على

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٨.


الآخر بحجّة أنّ مستند أحدهما هو الخبر المجمع عليه ، بدا له أن يسأله عن تعارض الخبرين ومرجّحاتهما مع قطع النظر عن كونهما مصدرا للقضاء وقال : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة (وخالف العامة) فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة (ووافق العامة)». (١)

ويدلّ على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة غير واحد من الروايات : روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه». (٢)

ثمّ إنّه ليس المراد من مخالفة الكتاب هو المخالفة بالتناقض والتباين الكلّي ، لأنّ عدم حجية المباين الصريح معلوم لا يحتاج إلى البيان أوّلا ، ولا يضعه الوضّاعون ثانيا ، لأنّه يواجه من أوّل الأمر بالنقد والرد بأنّه كذب موضوع على لسان الإمام.

فإذن المراد من مخالفة الكتاب هو المخالفة بمثل العموم والخصوص ، فلو كان أحد الخبرين موافقا لعموم الكتاب والآخر مخالفا له بنحو التخصيص يؤخذ بالأوّل دون الثاني ، وإن كان المخالف (الخاص) حجّة يخصص به الكتاب إذا لم يكن مبتلى بالمعارض.

__________________

(١) أخذنا الرواية من كتاب الكافي : ١ / ٦٧ ، الحديث ١٠ ، لأنّ صاحب الوسائل جزّأها على عدّة أبواب.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ؛ ولاحظ أيضا الحديث ٢١ و ٢٠ من هذا الباب.


د : الترجيح بمخالفة العامة

روى عمر بن حنظلة ، قال : قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : «ما خالف العامة ففيه الرشاد».

فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا ، قال : «ينظر إلى ما هم إليه أميل ـ حكّامهم وقضاتهم ـ فيترك ويؤخذ بالآخر». (١)

ويدلّ عليه أيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله (البصري) قال : قال الصادقعليه‌السلام : «فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه». (٢)

كلّ ذلك يكشف عن صدور الموافق تقيّة دون المخالف.

وجه الإفتاء بالتقية

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كانوا يفتون بالتقية خوفا من شرّ السلطان أوّلا ، وفقهاء السلطة ثانيا ، والمحافظة على نفوس شيعتهم ثالثا ، وكان العامل الثالث من أكثر الدواعي إلى الإفتاء بها ، وكفانا في ذلك ما جمعه المحدّث البحراني في هذا الصدد ، في مقدّمة حدائقه. (٣)

إنّ الرواة كانوا على علم بأنّ الإمام ربما يفتي في مكاتيبه بالتقيّة بشهادة ما

__________________

(١) مضى مصدر الرواية.

(٢) الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ؛ لاحظ الحديث ٢١ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤ ، ٤٠ ، ٤٢ ، ٤٨ من ذلك الباب.

(٣) الحدائق : ١ / ٥ ـ ٨.


رواه الصدوق باسناده عن يحيى بن أبي عمران أنّه قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في السنجاب والفنك والخز ، وقلت : جعلت فداك أحب أن لا تجيبني بالتقية في ذلك ، فكتب إليّ بخطّه : «صلّ فيها». (١)

لم يكن للإمام بد ، من إعمالها لصيانة دمه ودم شيعته حتى نرى أنّه ربما كان يذم أخلص شيعته ، كزرارة في غير واحد من المحافل حتى لا يؤخذ ويضرب عنقه بحجّة أنّه من شيعة أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام.

وكانت بطانة علومه وخاصة شيعته يميزون الحكم الصادر عن تقية ، عن الحكم الصادر لبيان الواقع عند ما كانت تصل إليهم أجوبة الإمام ، فإن كان على وجه التقية يقولون لمن جاء به : «أعطاك من جراب النورة» وعند ما كان يفتي بالحكم الواقعي يقولون: «أعطاك من عين صافية».

الأمر الثاني : الأخذ بالمرجحات لازم

لا شك انّ من رجع إلى لسان الروايات يقف على لزوم العمل بالمرجحات ، ولا يمكن حملها على الاستحباب إذ كيف يمكن حمل الأمر في قوله عليه‌السلام : «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه» على الاستحباب ، وقد سبق أنّ الأمر حجّة من المولى على العبد ، فليس له ترك العمل إلاّ بحجّة أخرى.

وأمّا ما هو ترتيب العمل بالمرجحات ، فهل يقدّم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة أو لا؟

الجواب : انّ المستفاد من رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله هو تقديم

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٣ ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٦.


الترجيح بالأوّل على الثاني وقد مضى نصها. (١)

الأمر الثالث : التعدّي من المنصوص إلى غير المنصوص

قد عرفت أنّ المنصوص من المرجحات لا يتجاوز الاثنين «موافقة الكتاب ومخالفة العامة» ، وهل يجب الاقتصار عليهما ، والرجوع في غيرهما إلى أخبار التخيير ، أو يجوز التعدّي من المنصوص إلى غيره ، فيعمل بكل خبر ذي مزية ، ولا تصل النوبة إلى أخبار التخيير إلاّ بعد تساوي الخبرين في كلّ مزيّة توجب أقربية أحدهما إلى الواقع؟

الحقّ هو الأوّل : لأنّ إطلاق أخبار التخيير يفرض علينا التخيير في مطلق المتعارضين، سواء كانا متكافئين أم غير متكافئين ، خرجنا عن إطلاقها بروايات الترجيح ، وأمّا في غير موردها فالمحكّم هو أخبار التخيير ، فلو كان في أحد الطرفين مزيّة غير منصوصة ، فالتخيير هو المحكّم.

* * *

النتائج المحصلة

قد خرجنا من هذا البحث الضافي في هذا المقصد بالنتائج التالية :

١. إذا كان التنافي بين الخبرين أمرا غير مستقرّ ، يزول بالتدبّر ، فهو خارج عن باب التعارض ، وداخل في باب الجمع الدلاليّ بين الخبرين.

٢. أنّ القاعدة الأوّلية في الخبرين المتعارضين اللّذين يكون التنافي بينهما أمرا مستقرا ، هو التساقط والرجوع إلى دليل آخر ، كالعمومات والإطلاقات إن وجدت ،

__________________

(١) لاحظ صفحة ٢٣٣ من هذا الكتاب.


وإلاّ فالأصل العملي ، لكن خرجنا عن تلك القاعدة بأخبار التخيير.

٣. انّ مقتضى أخبار التخيير وإن كان هو التخيير بين الخبرين مطلقا ، سواء كان هناك ترجيح أو لا ، لكن خرجنا عن مقتضى تلك الأخبار بلزوم إعمال المرجحات المنصوصة فقط دون غيرها. وهي منحصرة في موافقة الكتاب ومخالفة العامة والأوّل مقدم على الثاني.

خاتمة المطاف

التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه

إنّ التنافي بين الدليلين إذا كان بنحو العموم والخصوص المطلق ، أو المطلق والمقيّد، فقد علمت أنّه من أقسام التعارض غير المستقر وانّه داخل في قاعدة الجمع ، وانّ المرجع هناك هو الجمع بينهما ، بتخصيص العام وتقييد المطلق.

وإذا كان التنافي بينهما بنحو التباين الكلي فالمرجع هو الترجيح ، ثمّ التخيير ، كما إذا ورد في الخبر : «ثمن العذرة سحت» وفي الخبر الآخر : «لا بأس بثمن العذرة».

بقي الكلام فيما إذا كان التعارض بين الدليلين على نحو العموم والخصوص من وجه، كما إذا قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم الفسّاق» فيكون العالم الفاسق مجمع العنوانين فيجب إكرامه باعتبار كونه عالما ، ويحرم باعتبار كونه فاسقا ، فما هي الوظيفة؟

وكما إذا ورد دليل يدلّ بإطلاقه على نجاسة عذرة كلّ ما لا يؤكل لحمه ، وورد


دليل آخر يدلّ بإطلاقه على طهارة عذرة كلّ طائر ، فيكون الطائر غير المأكول مجمع العنوانين ، فهل يحكم بنجاسة عذرته بحكم الدليل الأوّل ، أو بطهارته بحكم الدليل الثاني؟

لا شكّ في انصراف روايات التخيير عن المقام ، لأنّ المتبادر من قوله في رواية الحسن بن الجهم «يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين» هو اختلافهما في تمام المدلول لا في بعضه ، ولذلك كان منصرفا عمّا إذا كان التنافي بنحو العموم والخصوص المطلق.

فيكون المرجع هو روايات الترجيح ، فلو كان حكم أحد الدليلين في مورد الاجتماع موافقا للكتاب ، دون غيره ، أو مخالفا للعامّة ، فيؤخذ به دون الآخر.

نعم يعمل بهما في موردي الافتراق ولا محذور في ذلك لإمكان أن يكون الإمام في مقام بيان الحكم الواقعي بالنسبة إلى أصل الحكم لا بالنسبة إلى إطلاقه ، وليس الخبر كشهادة الشاهد حيث لا يجوز الأخذ ببعض مدلولها دون بعض.

تمّ الكلام بحمد الله في تعارض الأدلّة

وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب ، ولاح بدر تمامه بيد مؤلّفه جعفر السبحاني

ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي ـ قدّس الله سرّه ـ

يوم الأحد الثامن من شهر رجب المرجب

من شهور عام ١٤١٨ من الهجرة النبوية

على هاجرها وآله ألف صلاة وتحية.


فهرس المحتويات

مقدمة المؤلف................................................................. ٨

المقدمة وفيها أمور............................................................. ٨

الأمر الأوّل : تعريف علم الأصول وموضوعه وغايته................................ ٩

الأمر الثاني : تقسيم مباحثه إلى لفظية وعقلية................................... ١٠

الأمر الثالث : في الوضع وأقسامه الأربعة....................................... ١٠

الأمر الرابع : تقسيم الدلالة إلى تصوّرية وتصديقيّة............................... ١٣

الأمر الخامس : في الحقيقة والمجاز............................................... ١٤

الأمر السادس : علامات الحقيقة والمجاز......................................... ١٥

الأمر السابع : الأصول اللفظية................................................ ١٨

الأمر الثامن : في الاشتراك والترادف............................................ ٢٠

الأمر التاسع : في استعمال المشترك في أكثر من معنى............................. ٢٢

الأمر العاشر : في الحقيقة الشرعية.............................................. ٢٣

الأمر الحادي عشر : الصحيح والأعم.......................................... ٢٤

الأمر الثاني عشر :في المشتق وفيه أمور.......................................... ٢٦


المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول      

الفصل الأوّل في مادّة الأمر وفيه مباحث........................................ ٣٢

الفصل الثاني في هيئة الأمر وفيه مباحث........................................ ٣٥

المبحث الأوّل : في بيان مفاد الهيئة............................................. ٣٥

المبحث الثاني : في دلالة هيئة الأمر على الوجوب................................ ٣٧

المبحث الثالث : في استفادة الوجوب من أساليب أخرى.......................... ٣٧

المبحث الرابع : في الأمر عقيب الحظر.......................................... ٣٨

المبحث الخامس : في المرّة والتكرار.............................................. ٣٩

المبحث السادس : الفور والتراخي.............................................. ٣٩

الفصل الثالث في لإجزاء وفيه مباحث.......................................... ٤١

المبحث الأوّل : إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياريّ........................

المبحث الثاني : في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي......................... ٤٣

الفصل الرابع مقدّمة الواجب.................................................. ٤٥

تقسيمها المقدمة إلى داخلية وخارجية............................................ ٤٥

تقسيمها إلى عقلية وشرعية وعادية............................................. ٤٦

تقسيمها إلى مقدّمة الوجود والصحّة والوجوب والعلم.............................. ٤٦

الرابع : تقسيمها إلى السبب والشرط والمعدّ والمانع................................ ٤٧

تقسيمها إلى مفوّتة وغير مفوّتة................................................. ٤٨


تقسيمها إلى مقدّمة عبادية وغيرها............................................. ٤٨

الفصل الخامس في تقسيمات الواجب........................................... ٥٠

١. تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط......................................... ٥٠

٢. تقسيم الواجب إلى المؤقّت وغير المؤقّت..................................... ٥١

٣. تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري......................................... ٥٣

٤. تقسيم الواجب إلى أصلي وتبعي............................................ ٥٣

٥. تقسيم الواجب إلى العيني والكفائي......................................... ٥٣

٦. تقسيم الواجب إلى التعييني والتخييري....................................... ٥٣

٧. تقسيم الواجب إلى التوصّلي والتعبّدي....................................... ٥٤

الفصل السادس اقتضاء الأمر بالشيء ، النهي عن ضدّه.......................... ٥٥

الضدّ العام والخاص وفيه مسألتان.............................................. ٥٦

المسألة الأولى: الضد العام..................................................... ٥٦

المسألة الثانية : الضد الخاص.................................................. ٥٦

الثمرة الفقهية للمسألة........................................................ ٥٧

الفصل السابع في نسخ الوجوب وبقاء الجواز..................................... ٥٨

الفصل الثامن في الأمر بالأمر بفعل ، أمر بذلك الفعل............................ ٦٠

الفصل التاسع في الأمربالشيء بعد الأمر به...................................... ٦١


المقصد الثاني في النواهي وفيه فصول    

الفصل الأوّل في مادة النهي وصيغته............................................ ٦٤

الفصل الثاني جواز اجتماع الأمر والنهي واحد وفيه أمور........................... ٦٦

الأمرالأول : في أن للاجتماع أقسام ثلاثة....................................... ٦٦

الأمر الثاني : ما هو المراد من الواحد في العنوان؟................................. ٦٧

الأمر الثالث : الأقوال في المسألة............................................... ٦٧

الفصل الثالث في اقتضاء النهي للفساد وفيه مقامان.............................. ٧٠

المقام الأوّل : في العبادات..................................................... ٧٠

المقام الثاني : في المعاملات.................................................... ٧٢

المقصد الثالث في المفاهيم وفيه أمور    

الأمر الأوّل : تعريف المفهوم والمنطوق........................................... ٧٨

الأمر الثاني : تقسيم المدلول المنطوقي إلى صريح وغير صريح....................... ٧٩

الأمر الثالث : النزاع في باب المفاهيم صغروي................................... ٨٠

الأمر الرابع : تقسيم المفهوم إلى مخالف وموافق................................... ٨٠

الأمر الخامس : أقسام مفهوم المخالف.......................................... ٨١

الأوّل : مفهوم الشرط........................................................ ٨٢

تبيهان

التنبيه الأول : في تعدّد الشرط واتّحد الجزاء...................................... ٨٧


التنبيه الثاني : في تداخل الأسباب والمسببات..................................... ٨٩

الثاني : في مفهوم الوصف..................................................... ٩١

الثالث : في مفهوم الغاية ، وفيه جهتان......................................... ٩٣

الجهة الأولى : في دخول الغاية في حكم المنطوق.................................. ٩٣

الجهة الثانية : في مفهوم الغاية وانتفاء ستخ الحكم عمّا وراءها...................... ٩٥

الرابع : مفهوم الحصر......................................................... ٩٦

في أدوات الحصر............................................................. ٩٦

الخامس : مفهوم العدد...................................................... ١٠٠

السادس : مفهوم اللقب.................................................... ١٠٢

المقصد الرابع العموم والخصوص وفيه فصول     

الفصل الأوّل ألفاظ العموم.................................................. ١٠٥

الفصل الثاني في انّ العام بعد التخصيص حقيقة................................ ١٠٧

الفصل الثالث في إنّ العام المخصص حجّة في الباقي............................ ١١٠

الفصل الرابع في التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصص...................... ١١١

الفصل الخامس في تخصيص العام بالمفهوم...................................... ١١٢

الفصل السادس : تخصيص الكتاب بخبر الواحد................................ ١١٣

الفصل السابع : في تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة............................ ١١٥


الفصل الثامن : في النسخ والتخصيص........................................ ١١٦

المقصد الخامس في المطلق والمقيد والمجمل والمبين وفيه فصول 

الفصل الأوّل : في تعريف المطلق............................................. ١٢٠

الفصل الثاني : في ألفاظ المطلق.............................................. ١٢٢

الفصل الثالث : في أنّ المطلق بعد التقييد ليس المجازية........................... ١٢٤

الفصل الرابع : في مقدمات الحكمة........................................... ١٢٥

الفصل الخامس : في المطلق والمقيد المتنافيان.................................... ١٢٧

الفصل السادس : في المجمل والمبين وتعريفهما................................... ١٢٨

المقصد السادس في الحجج والأمارات وفيه مقامان         

المقام الأوّل : في القطع وأحكامه وفيه فصول................................... ١٣٥

الفصل الأوّل : في حجية القطع.............................................. ١٣٥

الفصل الثاني : التجرّي..................................................... ١٣٧

الفصل الثالث تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي............................. ١٣٩

الفصل الرابع في قطع القطّاع................................................. ١٤١

الفصل الخامس في لمعلوم إجمالا كالمعلوم تفصيلا................................ ١٤٣

الفصل السادس : حجية العقل.............................................. ١٤٦

الفصل السابع : العرف والسيرة.............................................. ١٥٠

المقام الثاني : أحكام الظن المعتبر............................................. ١٥٤


الفصل الأوّل : في حجّية ظواهر الكتاب...................................... ١٥٦

الفصل الثاني : الشهرة الفتوائيّة............................................... ١٦٠

الفصل الثالث : حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد............................... ١٦١

أ. الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالكتاب................................. ١٦٢

١. الاستدلال بآية النبأ..................................................... ١٦٢

٢. الاستدلال بآية النفر.................................................... ١٦٥

٣. الاستدلال بآية الكتمان................................................. ١٦٦

٤. الاستدلال بآية السؤال.................................................. ١٦٦

ب. الاستدلال على حجّية خبرالواحد بالسنة.................................. ١٦٧

ج. الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالإجماع................................ ١٦٩

د. الاستدلال على حجّية خبر الواحدبالسيرة العقلائية.......................... ١٦٩

الفصل الرابع في حجيّة الإجماع المحصل والمنقول بخبرالواحد........................ ١٧١

الفصل الخامس في حجّية قول اللغوي......................................... ١٧٥

المقصد السابع الأصول العملية وفيه فصول       

الفصل الأوّل في أصالة البراءة وفيه مقامان..................................... ١٨٠

المقام الأوّل : في الشبهة الحكمية التحريمية بمسائل أربع.......................... ١٨١

المسألة الأولى : في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص.................. ١٨١

المسألة الثانية : في الشبهة الحكمية التحريمية لإجمال النص....................... ١٩٢


المسألة الثالثة : في الشبهة الحكمية التحريمية لتعارض النصّين..................... ١٩٢

المسألة الرابعة : في الشبهة الموضوعية التحريمية................................. ١٩٢

المقام الثاني : الشكّ في الشبهة الوجوبية....................................... ١٩٣

الفصل الثاني في أصالة التخيير بمسائلها الأربع.................................. ١٩٤

المسألة الأولى : في دوران الأمر بين المحذورين لفقدان النص....................... ١٩٤

المسألة الثانية : في دوران الأمر بين المحذورين لإجمال النص....................... ١٩٥

المسألة الثالثة : في دوران الأمر بين المحذورين لتعارض النصين..................... ١٩٥

المسألة الرابعة : في دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعية................. ١٩٥

الفصل الثالث : في أصالة الاحتياط ، وفيه مقامان............................. ١٩٧

المقام الأوّل : الشبهة التحريمية............................................... ١٩٧

أ. حكم الشبهة الموضوعية التحريمية المحصورة................................... ١٩٨

ب. حكم الشبهة الموضوعية التحريمية غير المحصورة............................. ٢٠٠

المقام الثاني : في الشبهة الوجوبية ، وفيه موضعان............................... ٢٠٢

الموضع الأوّل : الشبهة الوجوبية الدائرة بين متباينين بمسائلها الأربع................ ٢٠٢

الموضع الثاني : الشبهة الوجوبية الدائرة بين الأقل والأكثر بمسائلها الأربع........... ٢٠٣

المسألة الأولى : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل فقدان النص................ ٢٠٣

المسألة الثانية : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل إجمال النص................ ٢٠٤


المسألة الثالثة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأجل تعارض النصين.............. ٢٠٥

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الأقل والأكثر للخلط بين الأمورالخارجية.......... ٢٠٥

حكم الشكّ في المانعية والقاطعية............................................. ٢٠٥

الفصل الرابع في الاستصحاب ، وفيه أمور..................................... ٢٠٧

الأمرالأول : في تعريف الاستصحاب.......................................... ٢٠٧

الأمرالثاني : اركات الاستصحاب............................................. ٢٠٨

الأمرالثالث : تطبيقات...................................................... ٢٠٨

الأمرالرابع : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين............................. ٢٠٨

أدلّة حجّية الاستصحاب.................................................... ٢٠٩

صحيحة زرارة الأولى........................................................ ٢١٠

صحيحة زرارة الثانية........................................................ ٢١٠

حديث الأربعمائة.......................................................... ٢١٢

التنبيه الأوّل : في شرطية فعلية الشك......................................... ٢١٣

التنبيه الثاني : في استصحاب الكلّي بأقسامه الثلاثة............................ ٢١٣

التنبيه الثالث : عدم حجّية الأصل المثبت..................................... ٢١٥

التنبيه الرابع : تقدّم الأصل السببي على المسببي................................. ٢١٧

المقصد الثامن : في تعارض الأدلّة الشرعية وفيه فصلان    


الفصل الأوّل في التعارض غير المستقر......................................... ٢٢١

١. التخصّص............................................................. ٢٢١

٢. الورود................................................................. ٢٢٢

٣. الحكومة............................................................... ٢٢٢

٤. التخصيص............................................................ ٢٢٤

٥. تقديم الأظهرعلى الظاهر................................................. ٢٢٤

الفصل الثاني : التعارض المستقر، وفيه أمور.................................... ٢٢٦

الأمرالأوّل : ما هي القاعدة الأوّلية عند التعارض؟.............................. ٢٢٦

الأمرالثاني : ما هي القاعدة الثانوية عند التعارض؟.............................. ٢٢٧

الصورة الأولى : الخبران المتعارضان المتكافئان.................................... ٢٢٧

الصورة الثانية : الخبران المتعارضان غير المتكافئين وفيه أمور....................... ٢٢٩

١. في بيان المرجّحات الخبرية................................................ ٢٣٠

أ. الترجيح بصفات الراوي................................................... ٢٣٠

ب : الترجيح بالشهرة العمليّة................................................ ٢٣٢

ج : الترجيح بموافقة الكتاب................................................. ٢٣٢

د : الترجيح بمخالفة العامة.................................................. ٢٣٤

٢. الأخذ بالمرجحات لازم.................................................. ٢٣٥

٣. التعدّي من المنصوص إلى غير المنصوص.................................... ٢٣٦

خاتمة المطاف التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه...................... ٢٣٧

الموجز في اصول الفقه

المؤلف:
الصفحات: 248