
بسم الله الرحمن
الرحيم
حرف النون
النون المفردة ـ تأتى على أربعة أوجه :
أحدها : نون
التوكيد ، وهى خفيفة وثقيلة ، وقد اجتمعتا فى قوله تعالى : (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً) وهما أصلان عند البصريين ، وقال الكوفيون : الثقيلة أصل
، ومعناهما التوكيد ، قال الخليل : والتوكيد بالثقيلة أبلغ ، ويختصان بالفعل ،
وأما قوله :
٥٥٤ ـ [أريت إن جاءت به أماودا
|
|
مرجّلا ويلبس
البرودا]
|
*أقائلنّ أحضروا الشّهودا*
|
فضرورة سوّغها
شبه الوصف بالفعل.
ويؤكد بهما صيغ
الأمر مطلقا ، ولو كان دعائيا كقوله :
٥٥٥ ـ فأنزلن سكينة علينا
|
|
[وثبّت الأقدام إن لاقينا]
|
إلا أفعل فى
التعجب ؛ لأن معناه كمعنى الفعل الماضى ، وشذ قوله :
٥٥٦ ـ [ومستبدل من بعد غضبى صريمة]
|
|
فأحربه بطول
فقر وأحريا
|
ولا يؤكد بهما
الماضى مطلقا ، وشذّ قوله :
٥٥٧ ـ دامنّ سعدك لو رحمت متيّما
|
|
لولاك لم يك
للصّبابة جانحا
|
والذى سهّله
أنه بمعنى أفعل ، وأما المضارع فإن كان حالا لم يؤكد بهما ، وإن كان مستقبلا أكد
بهما وجوبا فى نحو قوله تعالى (وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقريبا من الوجوب بعد إمّا فى نحو (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) وذكر ابن جنى أنه قرىء (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) بياء ساكنة بعدها نون الرفع على حد قوله :
*يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار* [٤٤٨]
ففيها شذوذان :
ترك نون التوكيد ، وإثبات نون الرفع مع الجازم. وجوازا كثيرا بعد الطلب نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) وقليلا فى مواضع كقولهم :
٥٥٨ ـ [إذا مات منهم سيّد سرق ابنه]
|
|
ومن عضة ما
ينبتنّ شكيرها
|
الثانى :
التنوين ، وهو نون زائدة ساكنة تلحق الآخر لغير توكيد ؛ فخرج نون حسن لأنها أصل ،
ونون ضيفن للطفيلىّ لأنها متحركة ، ونون منكسر وانكسر لأنها غير آخر ، ونون (لَنَسْفَعاً) لأنها للتوكيد.
وأقسامه خمسة :
(١) تنوين
التمكين ، وهو : اللاحق للاسم المعرب المنصرف إعلاما ببقائه على أصله وأنه لم يشبه
الحرف فيبنى ، ولا الفعل فيمنع الصرف ، ويسمى تنوين الأمكنية أيضا ، وتنوين الصرف
، وذلك كزيد ورجل ورجال.
(٢) وتنوين
التنكير ، وهو : اللاحق لبعض الأسماء المبنيّة فرقا بين معرفتها ونكرتها ، ويقع فى
باب اسم الفعل بالسماع كصه ومه وإبه ، وفى العلم المختوم بويه بقياس نحو «جاءنى
سيبويه وسيبويه آخر».
وأما تنوين رجل
ونحوه من المعربات فتنوين تمكين ، لا تنوين تنكير ، كما قد يتوهم بعض الطلبة ،
ولهذا لو سميت به رجلا بقى ذلك التنوين بعينه مع زوال التنكير.
(٣) وتنوين
المقابلة ، وهو : اللاحق لنحو «مسلمات» جعل فى مقابلة النون فى «مسلمين» وقيل : هو
عوض عن الفتحة نصبا ، ولو كان كذلك لم يوجد فى الرفع والجر ، ثم الفتحة قد عوّض
عنها الكسرة ، فما هذا العوض الثانى؟ وقيل : هو تنوين التمكين ، ويرده ثبوته مع
التسمية به كعرفات كما تبقى نون مسلمين مسمى به ، وتنوين التمكين لا يجامع
العلّتين ، ولهذا لو سمّى بمسلمة
أو عرفة زال تنوينهما ، وزعم الزمخشرى أن عرفات مصروف ، لأن تاءه ليست
للتأنيث ، وإنما هى والألف للجمع ، قال : ولا يصح أن يقدّر فيه تاء غيرها ، لأن
هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث تأبى ذلك ، كما لا تقدر التاء فى بنت مع أن التاء
المذكورة مبدلة من الواو ، ولكن اختصاصها بالمؤنث يأبى ذلك ، وقال ابن مالك :
اعتبار تاء نحو عرفات فى منع الصرف أولى من اعتبار تاء نحو عرفة ومسلمة ، لأنها
لتأنيث معه جمعية ، ولأنها علامة لا تتغير فى وصل ولا وقف.
(٤) وتنوين
العوض ، وهو : اللاحق عوضا من حرف أصلى ، أو زائد ، أو مضاف إليه : مفردا ، أو
جملة.
فالأول كجوار
وغواش ، فإنه عوض من الياء وفاقا لسيبويه والجمهور ، لا عوض لمن ضمة الياء وفتحتها
النائبة عن الكسرة خلافا للمبرد ، إذ لو صح لعوض عن حركات نحو حبلى ، ولا هو تنوين
التمكين والاسم منصرف خلافا للأخفش ، وقوله لما حذفت الياء التحق الجمع بأوزان
الآحاد كسلام وكلام فصرف مردود ، لأن حذفها عارض للتخفيف ، وهى منويّة ، بدليل أن
الحرف الذى بقى أخيرا لم يحرك بحسب العوامل ، وقد وافق على أنه لو سمى يكتف امرأة
ثم سكن تخفيفا لم يجز صرفه كما جاز صرف هند ، وأنه إذا قيل فى جيأل علما لرجل جيل
بالنقل لم ينصرف انصراف قدم علما لرجل ، لأن حركة تاء كتف وهمزة جيل منويّا الثبوت
، ولهذا لم تقلب ياء جيل ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
والثانى :
كجندل ، فإن تنوينه عوض من ألف جنادل ، قاله ابن مالك ، والذى يظهر خلافه ، وأنه
تنوين الصرف ، ولهذا يجر بالكسرة ، وليس ذهاب الألف التى هى علم الجمعية كذهاب
الياء من نحو جوار وغواش.
والثالث :
تنوين كلّ وبعض إذا قطعتا عن الإضافة نحو (وَكُلًّا ضَرَبْنا
لَهُ
الْأَمْثالَ) (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وقبل : هو تنوين التمكين ، رجع لزوال الإضافة التى كانت
تعارضه.
والرابع :
اللاحق لإذ فى نحو (وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) والأصل فهى يوم إذ انشقت واهية ، ثم حذفت الجملة المضاف
إليها للعلم بها ، وجىء بالتنوين عوضا عنها ، وكسرت الذال للساكنين. وقال الأخفش :
التنوين تنوين التمكين والكسرة إعراب المضاف إليه.
(٥) وتنوين
الترنم ، وهو : اللاحق للقوافى المطلقة بدلا من حرف الإطلاق ، وهو الألف والواو
والياء ، وذلك فى إنشاد بنى تميم ، وظاهر قولهم أنه [تنوين] محصّل للترنم وقد صرح
بذلك ابن يعيش كما سيأتى ، والذى صرح به سيبويه وغيره من المحققين أنه جىء به لقطع
الترنم ، وأن الترنم وهو التّغنّى يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها ،
فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاءوا بالنون فى مكانها ولا يختص هذا التنوين بالاسم ،
بدليل قوله :
٥٥٩ ـ [أقلّى اللّوم عاذل والعتابن]
|
|
وقولى إن
أصبت لقد أصابن
|
وقوله :
[أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا]
|
|
لما تزل
برحالنا وكأن قدن [٢٨٦]
|
وزاد الأخفش
والعروضيون تنوينا سادسا ، وسموه الغالى ، وهو : اللاحق لآخر القوافى المقيدة ،
كقول رؤبة :
٥٦٠ ـ وقاتم الأعماق خاوى المخترقن
|
|
[مشتبه الأعلام لمّاع الخفقن]
|
[ص ٣٦١]
وسمى غاليا
لتجاوزه حدّ الوزن ، ويسمّى الأخفش الحركة التى قبله غلوا ، وفائدته الفرق بين
الوقف والوصل ، وجعله ابن يعيش من نوع تنوين الترنم ، زاعما أن الترنم يحصل بالنون
نفسها ، لأنها حرف أغنّ ، قال : وإنما سمى المغنى مغنيا ،
لأنه يغنّن صوته : أى يجعل فيه غنّة ، والأصل عنده مغنن بثلاث نونات فأبدلت
الأخيرة ياء تخفيفا ، وأنكر الزجاج والسيرافى ثبوت هذا التنوين البتة ؛ لأنه يكسر
الوزن ، وقالا : لعل الشاعر كان يزيد «إن» فى آخر كل بيت ، فضعف صوته بالهمزة ،
فتوهم السامع أن النون تنوين ، واختار هذا القول ابن مالك ، وزعم أبو الحجاج ابن
معزوز أن ظاهر كلام سيبويه فى المسمى تنوين الترنم أنه نون عوض من المدة ، وليس
بتنوين ، وزعم ابن مالك فى التحفة أن تسمية اللاحق للقوافى المطلقة والقوافى
المقيدة تنوينا مجاز ، وإنما هو نون أخرى زائدة ، ولهذا لا يختص بالاسم ، ويجامع
الألف واللام ، ويثبت فى الوقف.
وزاد بعضهم
تنوينا سابعا ، وهو تنوين الضرورة ، وهو : اللاحق لما لا ينصرف كقوله :
٥٦١ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
|
|
[فقالت : لك الويلات ؛ إنّك مرجلى]
|
وللمنادى
المضموم كقوله :
٥٦٢ ـ سلام الله يا مطر عليها
|
|
[وليس عليك يا مطر السّلام]
|
وبقوله أقول فى
الثانى دون الأول ؛ لأن الأول تنوين التمكين ؛ لأن الضرورة أباحت الصرف ، وأما
الثانى فليس تنوين تمكين ، لأن الاسم مبنى على الضم.
وثامنا ، وهو
التنوين الشّاذّ ، كقول بعضهم «هؤلاء قومك» حكاه أبو زيد ، وفائدته مجرد تكثير
اللفظ ، كما قيل فى ألف قبعثرى ، وقال ابن مالك : الصحيح أن هذا نون زيدت فى آخر
الاسم كنون ضيفن ، وليس بتنوين ، وفيما قاله نظر ؛ لأن الذى حكاه سمّاه تنوينا ؛
فهذا دليل منه على أنه سمعه فى الوصل دون الوقف ، ونون ضيفن ليست كذلك.
وذكر ابن
الخباز فى شرح الجزولية أن أقسام التنوين عشرة ، وجعل كلا من
تنوين المنادى وتنوين صرف ما لا ينصرف قسما برأسه ، قال : والعاشر تنوين
الحكاية ، مثل أن تسمى رجلا بعاقلة لبيبة ؛ فإنك تحكى اللفظ المسمى به ، وهذا
اعتراف منه بأنه تنوين الصرف ؛ لأن الذى كان قبل التسمية حكى بعدها.
الثالث : نون
الإناث ، وهى اسم فى نحو «النّسوة يذهبن» خلافا للمازنى ، وحرف فى نحو «يذهبن
النّسوة» فى لغة من قال «أكلونى البراغيث» خلافا لمن زعم أنها اسم وما بعدها بدل
منها ، أو مبتدأ مؤخر والجملة قبله خبره.
الرابع : نون
الوقاية ، وتسمى نون العماد أيضا ، وتلحق قبل ياء المتكلم المنتصبة بواحد من ثلاثة
:
أحدها : الفعل
، متصرفا كان نحو «أكرمنى» أو جامدا نحو «عسانى ، وقاموا ما خلانى وما عدانى
وحاشانى» إن قدّرت فعلا ، وأما قوله :
[عددت قومى كعديد الطّيس]
|
|
إذ ذهب القوم
الكرام ليسى [٢٨٣]
|
فضرورة ، ونحو (تأمروننى)
يجوز فيه الفك ، والإدغام ، والنطق بنون واحدة ، وقد قرىء بهن فى السبعة ، وعلى
الأخيرة فقيل : النون الباقية نون الرفع ، وقيل : نون الوقاية ، وهو الصحيح.
الثانى : اسم
الفعل نحو «دراكنى» و «تراكنى» و «عليكنى» بمعنى أدركنى واتركنى والزمنى.
الثالث : الحرف
نحو «إنّنى» وهى جائزة الحذف مع إنّ وأنّ ولكنّ وكأنّ ، وغالبة الحذف مع لعلّ ،
وقليلته مع ليت.
وتلحق أيضا قبل
الياء المخفوضة بمن وعن إلا فى الضرورة ، وقبل المضاف إليها لدن أو قد أو قط إلا
فى القليل من الكلام ، وقد تلحق فى غير ذلك شذوذا كقولهم «بجلنى»
بمعنى حسبى.
__________________
وقوله :
٥٦٣ ـ [وما أدرى وظنّى كلّ ظنّ]
|
|
أمسلمنى إلى
قومى شراحى
|
يريد شراحيل ،
وزعم هشام أن الذى فى «أمسلمنى» ونحوه تنوين لا نون ، وبنى ذلك على قوله فى ضاربنى
إن الياء منصوبة ، ويرده قول الشاعر :
٥٦٤ ـ وليس الموافينى ليرفد خائبا
|
|
[فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا]
|
وفى الحديث «غير
الدّجّال أخوفنى عليكم» والتنوين لا يجامع الألف واللام ولا اسم التفضيل لكونه غير
منصرف ، وما لا ينصرف لا تنوين فيه ، وفى الصحاح أنه يقال «بجلى» ولا يقال «بجلنى»
وليس كذلك.
(نعم) بفتح
العين ، وكنانة تكسرها ، وبها قرأ الكسائى ، وبعضهم يبدلها حاء ، وبها قرأ ابن
مسعود ، وبعضهم يكسر النون إتباعا لكسرة العين تنزيلا لها منزلة الفعل فى قولهم
نعم وشهد بكسرتين ، كما نزّلت بلى منزلة الفس فى الإمالة ، والفارسىّ لم يطلع على
هذه القراءة وأجازها بالقياس
وهى حرف تصديق
ووعدو إعلام ؛ فالأول بعد الخبر كقام زيد ، وما قام زيد. والثانى بعد افعل ولا
تفعل وما فى معناهما نحو هلّا تفعل وهلّا لم تفعل ، وبعد الاستفهام فى نحو هل
تعطينى ، ويحتمل أن تفسر فى هذا بالمعنى الثالث والثالث بعد الاستفهام فى نحو هل
جاءك زيد ، ونحو (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) وقول صاحب المقرب «إنها بعد الاستفهام للوعد» غير مطرد
؛ لما بيناه قبل.
قيل : وتأتى
للتوكيد إذا وقعت صدرا نحو «نعم هذه أطلالهم» والحق أنها فى ذلك حرف إعلام ؛ وأنها
جواب لسؤال مقدّر ، ولم يذكر سيبويه معنى الإعلام البتة ، بل قال : وأما نعم فعدة
وتصديق ، وأما بلى فيوجب بها بعد النفى ، وكأنه رأى أنه إذا قيل «هل قام زيد» فقيل
نعم فهى لتصديق ما بعد الاستفهام ، والأولى
ما ذكرناه من أنها للاعلام ؛ إذ لا يصح أن تقول لقائل ذلك : صدقت ؛ لأنه
إنشاء لا خبر.
واعلم أنه إذا
قيل «قام زيد» فتصديقه نعم ، وتكذيبه لا ، ويمتنع دخول بلى لعدم النفى. وإذا قيل «ما
قام زيد» فتصديقه نعم ، وتكذيبه بلى ، ومنه (زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) ويمتنع دخول لا ؛ لأنها لنفى الإثبات لا لنفى النفى.
وإذا قيل «أقام زيد» فهو مثل قام زيد ، أعنى أنك تقول إن أثبتّ القيام : نعم ، وإن
نفيته : لا ، ويمتنع دخول بلى ، وإذا قيل «ألم يقم زيد» فهو مثل لم يقم زيد ،
فتقول إذا أثبتّ القيام : بلى ، ويمنع دخول لا ، وإن نفيته قلت : نعم ، قال الله
تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ قالُوا بَلى) (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه لو قيل نعم فى
جواب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) لكان كفرا.
والحاصل أن «بلى»
لا تأتى إلا بعد نفى ، وأن «لا» لا تأتى إلا بعد إيجاب ، وأن «نعم» تأتى بعدهما ،
وإنما جاز (بَلى قَدْ جاءَتْكَ
آياتِي) مع أنه لم يتقدم أداة نفى لأن (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) يدلّ على نفى هدايته ، ومعنى الجواب حينئذ بلى قد هديتك
بمجىء الآيات ، أى قد أرشدتك لذلك ، مثل (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ).
وقال سيبويه ،
فى باب النعت ، فى مناظرة جرت بينه وبين بعض النحويين : فيقال له : ألست تقول كذا
وكذا ، فإنه لا يجد بدا من أن يقول : نعم ، فيقال له : أفلست تفعل كذا؟ فإنه قائل
: نعم ، فزعم ابن الطراوة أن ذلك لحن.
وقال جماعة من
المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين : إذا كان قبل النفى استفهام فإن كان على
حقيقته فجوابه كجواب النفى المجرد ، وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يحاب بما
يجاب به النفى رعيا للفظه ، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب
__________________
رعيا لمعناه ، ألا ترى أنه لا يجوز بعده دخول أحد ، ولا الاستثناء المفرغ ،
لا يقال : أليس أحد فى الدار ، ولا أليس فى الدار إلا زيد ، وعلى ذلك قول الأنصار
رضى الله تعالى عنهم للنبى صلىاللهعليهوسلم ـ وقد قال لهم : ألستم ترون لهم ذلك ـ نعم ، وقول جحدر
:
٥٦٥ ـ أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو
|
|
وإيّانا ؛
فذاك بنا تدانى
|
نعم ، وأرى
الهلال كما تراه
|
|
ويعلوها
النّهار كما علانى
|
وعلى ذلك جرى
كلام سيبويه ، والمخطّىء مخطىء.
وقال ابن عصفور
: أجرت العرب التقرير فى الجواب مجرى النفى المحض وإن كان إيجابا فى المعنى ، فإذا
قيل «ألم أعطك درهما» قيل فى تصديقه : نعم ، وفى تكذيبه : بلى ، وذلك لأن المقرّر
قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك ، فإذا قال نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطنى على
اللفظ أو نعم أعطيتنى على المعنى ؛ فلذلك أجابوه على اللفظ ، ولم يلتفتوا إلى
المعنى ، وأما نعم فى بيت جحدر فجواب لغير مذكور ، وهو ما قدّره فى اعتقاده من أن
الليل يجمعه وأم عمرو ، وجاز ذلك لأمن اللبس ؛ لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل
يجمعه وأم عمرو ، أو هو جواب لقوله «وأرى الهلال ـ البيت» وقدمه عليه. قلت : أو
لقوله : «فذاك بنا تدانى» وهو أحسن. وأما قول الأنصار فجاز لزوال اللّبس ؛ لأنه قد
علم أنهم يريدون نعم نعرف لهم ذلك ، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير
، اه.
ويتحرر على هذا
أنه لو أجيب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) بنعم لم يكف فى الإقرار ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب
فى الإقرار بما يتعلق بالربوبية العبارة التى لا تحتمل غير المعنى المراد من
المقرّ ؛ ولهذا لا يدخل فى الإسلام بقوله «لا إله إلّا الله» برفع إله ؛ لاحتماله
لنفى الوحدة فقط ، ولعل ابن عباس رضى الله عنهما إنما قال إنهم لو قالوا نعم
لم يكن إقرارا كافيا ، وجوز الشلوبين أن يكون مراده أنهم لو قالوا نعم
جوابا للملفوظ به على ما هو الأفصح لكان كفرا ؛ إذ الأصل تطابق الجواب والسؤال
لفظا ، وفيه حظر ؛ لأن التكفير لا يكون بالاحتمال.
حرف الهاء
الهاء المفردة ـ على خمسة أوجه :
أحدها : أن
تكون ضميرا للغائب ، وتستعمل فى موضعى الجر والنصب ، نحو (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ).
والثانى : أن
تكون حرفا للغيبة ، وهى الهاء فى «إياه» فالحقّ أنها حرف لمجرد معنى الغيبة ، وأن الضمير «إيّا» وحدها.
والثالث : هاء
السكت ، وهى اللاحقة لبيان حركة أو حرف نحو (ما هِيَهْ) ونحو «هاهناه ، ووا زيداه» وأصلها أن يوقف عليها ،
وربما وصلت بنية الوقف.
والرابع :
المبدلة من همزة الاستفهام كقوله :
٥٦٦ ـ وأتى صواحبها فقلن : هذا الذى
|
|
منح المودّة
غيرنا وجفانا؟
|
والتحقيق أن لا
تعدّ هذه ؛ لأنها ليست بأصلية ، على أن بعضهم زعم أن الأصل «هذا» فحذفت الألف.
والخامس : هاء
التأنيث ، نحو «رحمه» فى الوقف ، وهو قول الكوفيين ، زعموا أنها الأصل ، وأن التاء
فى الوصل بدل منها ، وعكس ذلك البصريون ، والتحقيق أن لا تعدّ ولو قلنا بقول
الكوفيين ؛ لأنها جزء كلمة لا كلمة.
__________________
(ها) على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
تكون اسما لفعل ، وهو خذ ، ويجوز مدّ ألفها ، ويستعملان بكاف الخطاب وبدونها ،
ويجوز فى الممدودة أن يستغنى عن الكاف بتصريف همزتها تصاريف الكاف ؛ فيقال «هاء»
للمذكر بالفتح و «هاء» للمؤنث بالكسر ، و «هاؤما» و «هاؤنّ» و «هاؤم» ومنه (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).
والثانى : أن
تكون ضميرا للمؤنث ، فتستعمل مجرورة الموضع ومنصوبته نحو (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).
والثالث : أن
تكون للتنبيه ، فتدخل على أربعة ؛ أحدها : الإشارة غير المختصة بالبعيد نحو «هذا»
بخلاف ثمّ وهنّا بالتشديد وهنالك. والثانى : ضمير الرفع المخبر عنه باسم إشارة نحو
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ) وقيل : إنما كانت داخلة على الإشارة فقدمت ، فرد بنحو (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) فأجيب بأنها أعيدت توكيدا ، والثالث : نعت أىّ فى
النداء نحو «يا أيها الرّجل» وهى فى هذا واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء ،
قيل : وللتعويض عما تضاف إليه أىّ ، ويجوز فى هذه فى لغة بنى أسد أن تحذف ألفها ،
وأن تضم هاؤها إتباعا ، وعليه قراءة ابن عامر (أيه المؤمنون) (أيه الثقلان) (أيه
الساحر) بضم الهاء فى الوصل ، والرابع : اسم الله تعالى فى القسم عند حذف الحرف ،
يقال «ها الله» بقطع الهمزة ووصلها ، وكلاهما مع إثبات ألف «ها» وحذفها.
(هل) : حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابى
، دون التصور ، ودون التصديق السلبى ، فيمتنع نحو «هل زيدا ضربت» لأن تقديم الاسم يشعر بحصول
التصديق بنفس النسبة ، ونحو «هل زيد قائم أم عمرو» إذا أريد بأم المتصلة ، و «هل
لم يقم زيد» ونظيرها فى الاختصاص بطلب التصديق أم المنقطعة ، وعكسهما أم المتصلة ،
وجميع أسماء الاستفهام فإنهن لطلب التصور لا غير ، وأعمّ من الجميع الهمزة فإنها
مشتركة بين الطلبين.
وتفترق هل من
الهمزة من عشرة أوجه :
أحدها :
اختصاصها بالتصديق.
والثانى :
اختصاصها بالإيجاب ، تقول «هل زيد قائم» ويمتنع «هل لم يقم» بخلاف الهمزة ، نحو (أَلَمْ نَشْرَحْ) (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وقال :
*ألا طعان ألا فرسان عادية* [١٠٠]
والثالث :
تخصيصها المضارع بالاستقبال ، نحو «هل تسافر؟» بخلاف الهمزة نحو «أتظنه قائما»
وأما قول ابن سيده فى شرح الجمل : لا يكون الفعل المستفهم عنه إلا مستقبلا ؛ فسهو
، قال الله سبحانه وتعالى (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) وقال زهير :
٥٦٧ ـ فمن مبلغ الأحلاف عنّى رسالة
|
|
وذبيان هل
أقسمتم كلّ مقسم
|
والرابع
والخامس والسادس : أنها لا تدخل على الشّرط ، ولا على إنّ ، ولا على اسم بعده فعل
، فى الاختيار ، بخلاف الهمزة ، بدليل (أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخالِدُونَ) (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ).
والسابع
والثامن : أنها تقع بعد العاطف ، لا قبله وبعد أم نحو (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الْفاسِقُونَ) وفى الحديث «وهل ترك لنا عقيل من رباع» وقال :
٥٦٨ ـ ليت شعرى هل ثمّ هل آتينهم
|
|
أو يحولنّ
دون ذاك حمام؟
|
وقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)
التاسع : أنه
يراد بالاستفهام بها النفى ؛ ولذلك دخلت على الخبر بعدها إلا فى نحو (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ) والباء فى قوله :
٥٦٩ ـ [يقول إذا اقلولى عليها وأقردت]
:
|
|
ألا هل أخو
عيش لذيذ بدائم؟
|
وصح العطف فى
قوله :
٥٧٠ ـ وإنّ شفائى عبرة مهراقة
|
|
وهل عند رسم
دارس من معوّل [ص ٤٨٣]
|
إذ لا يعطف
الإنشاء على الخبر.
فإن قلت : قد
مر لك فى صدر الكتاب أن الهمزة تأتى لمثل ذلك مثل (أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ألا ترى أن الواقع أنه سبحانه لم يصفهم بذلك؟.
قلت : إنما مر
أنها للانكار على مدّعى ذلك ، ويلزم من ذلك الانتفاء ، لا أنها للنفى ابتداء ،
ولهذا لا يجوز «أقام إلا زيد» كما يجوز «هل قام إلا زيد» (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) وقد يكون الإنكار مقتضيا لوقوع الفعل ، على العكس من
هذا ، وذلك إذا كان بمعنى ما كان ينبغى لك أن تفعل ، نحو أتضرب زيدا وهو أخوك؟
ويتلخص أن
الإنكار على ثلاثة أوجه : إنكار على من ادعى وقوع الشىء ، ويلزم من هذا النفى
وإنكار على من أوقع الشىء ، ويختصان بالهمزة وإنكار لوقوع الشىء ، وهذا هو معنى
النفى ، وهو الذى تنفرد به هل عن الهمزة.
والعاشر : أنها
تأتى بمعنى قد ، وذلك مع الفعل ، وبذلك فسّر قوله تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ) جماعة منهم ابن عباس رضى الله عنهما والكسائى والفراء
والمبرد قال فى مقتضبه : هل للاستفهام نحو هل جاء زيد ، وقد تكون بمنزلة قد نحو قوله
جل اسمه (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ) اه. وبالغ الزمخشرى فزعم أنها أبدا بمعنى قد ، وأن
الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدرة معها ، ونقله فى المفصل عن سيبويه ، فقال
: وعند سيبويه أن هل بمعنى
قد ، إلا أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلا فى الاستفهام ، وقد
جاء دخولها عليها فى قوله :
٥٧١ ـ سائل فوارس يربوع بشدّتنا
|
|
أهل رأونا
بسفح القاع ذى الأكم
|
اه ولو كان كما
زعم لم تدخل إلا على الفعل كقد ، وثبت فى كتاب سيبويه رحمهالله ما نقله عنه ، ذكره فى باب أم المتصلة ، ولكن فيه أيضا
ما قد يخالفه ؛ فإنه قال فى باب عدّة ما يكون عليه الكلم ما نصه : وهل هى
للاستفهام ، ولم يزد على ذلك. وقال الزمخشرى فى كشافه (هَلْ أَتى) أى قد أتى ، على معنى التقرير والتقريب جميعا ، أى أتى
على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن فيه شيئا مذكورا
، بل شيئا منسيا نطفة فى الأصلاب ، والمراد بالإنسان الجنس بدليل (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ) ه. وفسرها غيره بقد خاصة ، ولم يحملوا قد على معنى
التقريب ، بل على معنى التحقيق ، وقال بعضهم : معناها التوقع ، وكأنه قيل لقوم
يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم عليه الصلاة والسّلام ، قال : والحين
زمن كونه طينا ، وفى تسهيل ابن مالك أنه يتعين مرادفة هل لقد إذا دخلت عليها
الهمزة يعنى كما فى البيت ، ومفهومه أنها لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها ، بل قد
تأتى لذلك كما فى الآية ، وقد لا تأتى له ، وقد عكس قوم ما قاله الزمخشرى ، فزعموا
أن هل لا تأتى بمعنى قد أصلا.
وهذا هو الصواب
عندى ؛ إذ لا متمسك لمن أثبت ذلك إلا أحد ثلاثة أمور :
أحدها : تفسير
ابن عباس رضى الله عنهما ، ولعله إنما أراد أن الاستفهام فى الآية للتقرير ، وليس
باستفهام حقيقى ، وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين ، فقال بعضهم : هل هنا للاستفهام
التقريرى ، والمقرّر به من أنكر البحث ، وقد علم أنهم يقولون : نعم قد مضى دهر
طويل لا إنسان فيه ، فيقال لهم : فالذى أحدث الناس
بعد أن لم يكونوا كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟ وهو معنى قوله تعالى :
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أى فهلا تذكرون فتعلمون أنّه من أنشأ شيئا بعد أن لم
يكن قادر على إعادته بعد عدمه؟ انتهى. وقال آخر مثل ذلك ، إلا أنه فسر الحين بزمن
التصوير فى الرحم ، فقال : المعنى ألم يأت على الناس حين من الدهر كانوا فيه نطفا
ثم علقا ثم مضغا إلى أن صاروا شيئا مذكورا. وكذا قال الزّجاج ، إلا أنه حمل
الإنسان على آدم عليه الصلاة والسّلام ، فقال : المعنى ألم يأت على الانسان حين من
الدهر كان فيه ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح؟ اه. وقال بعضهم : لا تكون هل
للاستفهام التقريرى ، وإنما ذلك من خصائص الهمزة ، وليس كما قال ، وذكر جماعة من
النحويين أن هل تكون بمنزلة إنّ فى إفادة التوكيد والتحقيق ، وحملوا على ذلك (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) وقدّروه جوابا للقسم ، وهو بعيد.
والدليل الثانى
: قول سيبويه الذى شافه العرب وفهم مقاصدهم ، وقد مضى أن سيبويه لم يقل ذلك.
والثالث : دخول
الهمزة عليها فى البيت ، والحرف لا يدخل على مثله فى المعنى ، وقد رأيت عن
السيرافى أن الرواية الصحيحة «أم هل» وأم هذه منقطعة بمعنى بل ؛ فلا دليل ،
وبتقدير ثبوت تلك الرواية فالبيت شاذّ ؛ فيمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين
لمعنى واحد على سبيل التوكيد ، كقوله :
*ولا للما بهم أبدا دواء* [٢٩٩]
بل الذى فى ذلك
البيت أسهل ؛ لاختلاف اللفظين ، وكون أحدهما على حرفين فهو كقوله :
__________________
٥٧٢ ـ فأصبح لا يسألنه عن بما به
|
|
أصعّد فى علو
الهوى أم تصوّبا
|
(هو) وفروعه : تكون أسماء وهو
الغالب ، وأحرفا فى نحو «زيد هو الفاضل» إذا أعرب فصلا وقلنا : لا موضع له من
الإعراب ، وقيل : هى مع القول بذلك أسماء كما قال الأخفش فى نحو صه ونزال : أسماء
لا محل لها ، وكما فى الألف واللام فى نحو «الضّارب» إذا قدرناهما اسما.
حرف الواو
(الواو المفردة) انتهى مجموع ما ذكر من
أقسامها إلى أحد عشر :
الأول : العاطفة ، ومعناها مطلق الجمع ؛ فنعطف الشىء على مصاحبه نحو (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) وعلى سابقه نحو (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) وعلى لاحقه نحو (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقد اجتمع هذان فى (وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فعلى هذا إذا قيل «قام زيد وعمرو» احتمل ثلاثة معان ،
قال ابن مالك : وكونها للمعية راجح ، وللترتيب كثير ، ولعكسه قليل ، اه. ويجوز أن
يكون بين متعاطفيها تقارب أو تراخ نحو (إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فإن الرد بعيد إلقائه فى اليم والإرسال على رأس أربعين
سنة ، وقول بعضهم «إن معناها الجمع المطلق» غير سديد ؛ لتقييد الجمع بقيد الإطلاق
، وإنما هى للجمع لا بقيد ، وقول السيرافى «إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها
لا تفيد الترتيب» مردود ، بل قال بإفادتها إياه قطرب والرّبعىّ والفراء وثعلب وأبو
عمرو الزاهد وهشام والشافعى ، ونقل الإمام فى البرهان عن بعض الحنفية أنها للمعية.
وتنفرد عن سائر
أحرف العطف بخمسة عشر حكما :
أحدها : احتمال
معطوفها للمعانى الثلاثة السابقة.
والثانى :
اقترانها بإمّا نحو (إِمَّا شاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً).
والثالث :
اقترانها بلا إن سبقت بنفى ولم تقصد المعبة نحو «ما قام زيد ولا عمرو» ولتفيد أن
الفعل منفىّ عنهما فى حالتى الاجتماع والافتراق ، ومنه (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) والعطف حينئذ من عطف الجمل عند بعضهم على إضمار العامل
، والمشهور أنه من عطف المفردات ، وإذا فقد أحد الشرطين امتنع دخولها ؛ فلا يجوز
نحو «قام زيد ولا عمرو» وإنما جاز (وَلَا الضَّالِّينَ) لأن فى (غَيْرِ) معنى النفى ، وإنما جاز قوله :
٥٧٣ ـ فاذهب فأىّ فتى فى النّاس أحرزه
|
|
من حتفه ظلم
دعج ولا حيل
|
لأن المعنى لا
فتى أحرزه ، مثل (فَهَلْ يُهْلَكُ
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ، ولا يجوز «ما اختصم زيد ولا عمرو» لأنه للمعية لا غير ، وأما (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما
يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) فلا الثانية والرابعة والخامسة زوائد لأمن اللبس.
والرابع :
اقترانها بلكن نحو (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ).
والخامس : عطف
المفرد السببى على الأجنبى عند الاحتياج إلى الرّبط كـ «مررت برجل قائم زيد وأخوه»
ونحو «زيد قائم عمرو وغلامه» وقولك فى باب الاشتغال «زيدا ضربت عمرا وأخاه».
والسادس : عطف
العقد على السيف ، نحو أحد وعشرون.
والسابع : عطف
الصفات.
٥٧٤ ـ بكيت ، وما بكا رجل حزين؟
|
|
على ربعين
مسلوب وبالى
|
والثامن : عطف
ما حقّه التثنية أو الجمع نحو قول الفرزدق :
٥٧٥ ـ إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلها
|
|
فقدان مثل
محمّد ومحمّد
|
وقول أبى نواس
:
٥٧٦ ـ أقمنا بها يوما ويوما وثالثا
|
|
ويوما له يوم
الترحّل خامس
|
وهذا البيت
يتساءل عنه أهل الأدب ، فيقولون : كم أقاموا؟ والجواب : ثمانية لأن يوما الأخير
رابع ، وقد وصف بأن يوم الترحل خامس له ، وحينئذ فيكون يوم الترحل هو الثامن
بالنسبة إلى أول يوم.
التاسع : عطف
ما لا يستغنى عنه كاختصم زيد وعمرو ، واشترك زيد وعمرو.
وهذا من أقوى
الأدلة على عدم إفادتها الترتيب ، ومن ذلك : جلست بين زيد وعمرو ، ولهذا كان
الأصمعى يقول الصواب :
[قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللّوى]
بين الدّخول وحومل [٢٦٦]
|
لا فحومل ،
وأجيب بأن التقدير : بين نواحى الدخول ، فهو كقولك : «جلست بين الزّيدين فالعمرين»
أو بأن الدّخول مشتمل على أماكن
وتشاركها فى
هذا الحكم أم المتصلة فى نحو «سواء أقمت أم قعدت» فإنها عاطفة ما لا يستغنى عنه.
والعاشر
والحادى عشر : عطف العام على الخاص ، وبالعكس ؛ فالأول نحو (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والثانى نحو
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) الآية.
ويشاركها فى
هذا الحكم الأخير حتى كـ «مات الناس حتى العلماء وقدم الحجّاج حتى المشاة» ؛ فإنها عاطفة خاصا
على عام.
والثانى عشر :
عطف عامل حذف وبقى معموله على عامل آخر مذكور يجمعهما معنى واحد ، كقوله :
٥٧٧ ـ [إذا ما الغانيات برزن يوما]
|
|
وزجّجن
الحواجب والعيونا
|
أى وكحّلن
العيون ، والجامع بينهما التحسين ، ولو لا هذا التقييد لورد «اشتريته بدرهم فصاعدا»
إذ التقدير فذهب الثمن صاعدا.
والثالث عشر :
عطف الشىء على مرادفه نحو (إِنَّما أَشْكُوا
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) ونحو (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ونحو (عِوَجاً وَلا أَمْتاً) وقوله عليه الصلاة والسّلام «ليلنى منكم ذوو الأحلام
والنّهى» وقول الشاعر :
٥٧٨ ـ [وقدّدت الأديم لراهشيه]
|
|
وألفى قولها
كذبا ومينا
|
وزعم بعضهم أن
الرواية «كذبا مبينا» فلا عطف ولا تأكيد ، ولك أن تقدر الأحلام فى الحديث جمع حلم
بضمتين فالمعنى ليلنى البالغون العقلاء ، وزعم ابن مالك أن ذلك قد يأتى فى أو ،
وأن منه (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً).
والرابع عشر :
عطف المقدّم على متبوعه للضرورة كقوله :
٥٧٩ ـ ألا يا نخلة من ذات عرق
|
|
عليك ورحمة
الله السّلام [ص ٦٥٩]
|
والخامس عشر :
عطف المخفوض على الجوار كقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ) فيمن خفض الأرجل ، وفيه بحث سيأتى.
تنبيه ـ زعم
قوم أن الواو قد تخرج عن إفادة مطلق الجمع ، وذلك على أوجه :
__________________
أحدها : أن
تستعمل بمعنى أو ، وذلك على ثلاثة أقسام ؛ أحدها : أن تكون بمعناها فى التقسيم
كقولك «الكلمة اسم وفعل وحرف» وقوله :
*كما النّاس مجروم عليه وجارم* [٩٥]
وممن ذكر ذلك
ابن مالك فى التحفة ، والصواب أنها فى ذلك على معناها الأصلى ؛ إذ الأنواع مجتمعة
فى الدخول تحت الجنس ، ولو كانت «أو» هى الأصل فى التقسيم لكان استعمالها فيه أكثر
من استعمال الواو.
والثانى : أن
تكون بمعنى أو فى الإباحة ، قاله الزمخشرى ، وزعم أنه يقال «جالس
الحسن وابن سيرين» أى أحدهما ، وأنه لهذا قيل (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) بعد ذكر ثلاثة وسبعة ، لئلا يتوهم إرادة الإباحة ،
والمعروف من كلام النحويين أنه لو قيل «جالس الحسن وابن سيرين» كان أمرا بمجالسة
كل منهما ، وجعلوا ذلك فرقا بين العطف بالواو والعطف بأو.
والثالث : أن
تكون بمعناها فى التخيير ، قاله بعضهم فى قوله :
٥٨٠ ـ وقالوا : نأت فاختر لها الصّبر
والبكا
|
|
فقلت : البكا
أشفى إذا لغليلى
|
قال : معناه أو
البكاء ، إذ لا يجتمع مع الصبر. ونقول : يحتمل أن [يكون] الأصل فاختر من الصبر
والبكاء ، أى أحدهما ، ثم حذف من كما فى (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ) ويؤيده أن أبا على القالى رواه بمن ، وقال الشاطبى رحمهالله فى باب البسملة «وصل واسكتا» فقال شارحو كلامه : المراد
التخيير ، ثم قال محققوهم : ليس ذلك من قبل الواو ، بل من جهة أن المعنى وصل إن
شئت واسكتن إن شئت ، وقال أبو شامة : وزعم بعضهم أن الواو تأتى للتخيير مجازا.
والثانى : أن
تكون بمعنى باء الجر كقولهم «أنت أعلم ومالك» و «بعت الشّاء شاة ودرهما» قاله
جماعة ، وهو ظاهر.
__________________
والثالث : أن
تكون بمعنى لام التعليل ، قاله الخارزنجىّ ، وحمل عليه الواوات الداخلة على
الأفعال المنصوبة فى قوله تعالى (أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ) (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ
بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ) والصواب أن الواو فيهن للمعية كما سيأتى.
والثانى
والثالث من أقسام الواو : واوان يرتفع ما بعدهما.
إحداهما : واو
الاستئناف نحو (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) ونحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن» فيمن رفع ، ونحو (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ
وَيَذَرُهُمْ) فيمن رفع أيضا ، ونحو (وَاتَّقُوا اللهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) إذ لو كانت واو العطف لانتصب (نُقِرُّ) ولانتصب أو انجزم «تشرب» ولجزم (يذر) كما قرأ الآخرون ،
وللزم عطف الخبر على الأمر ، وقال الشاعر :
٥٨١ ـ على الحكم المأتىّ يوما إذا قضى
|
|
قضيّته أن لا
يجور ويقصد
|
وهذا متعين
للاستئناف ؛ لأن العطف يجعله شريكا فى النفى ، فيلزم التناقض وكذلك قولهم «دعنى
ولا أعود» لأنه لو نصب كان المعنى ليجتمع تركك لعقوبتى وتركى لما تهانى عنه ، وهذا
باطل ؛ لأن طلبه لترك العقوبة إنما هو فى الحال فإذا تقيّد ترك المنهى عنه
بالحال لم يحصل غرض المؤدب ، ولو جزم فإما بالعطف ولم يتقدم جازم ، أو بلا على أن
تقدر ناهية ، ويرده أن المقتضى لترك التأديب إنما هو الخبر عن نفى العود ، لا نهيه
نفسه عن العود ، إذ لا تناقض بين النهى عن العود وبين العود بخلاف العود والإخبار
بعدمه ، ويوضحه أنك تقول «أنا أنهاه وهو يفعل» ولا تقول «أنا لا أفعل وأنا أفعل
معا».
والثانية : واو
الحال الداخلة على الجملة الاسمية ، نحو «جاء زيد والشّمس طالعة» وتسمى واو
الابتداء ، ويقدرها سيبويه والأقدمون بإذ ، ولا يريدون أنها بمعناها ؛
__________________
إذ لا يرادف الحرف الاسم ، بل إنها وما بعدها قيد للفعل السابق كما أن إذ
كذلك ، ولم يقدرها بإذا لأنها لا تدخل على الجمل الاسمية ، ووهم أبو البقاء فى
قوله تعالى (وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فقال : الواو للحال ، وقيل : بمعنى إذ ، وسبقه إلى ذلك
مكى ، وزاد عليه فقال : الواو للابتداء ، وقيل : للحال ، وقيل : بمعنى إذ ، اه.
والثلاثة بمعنى واحد ؛ فإن أراد بالابتداء الاستئناف فقولهما سواء.
ومن أمثلتها
داخلة على الجملة الفعلية قوله :
٥٨٢ ـ بأيدى رجال لم يشيموا سيوفهم
|
|
ولم تكثر
القتلى بها حين سلّت [ص ٤١١]
|
ولو قدرتها
عاطفة لا نقلب المدح ذما.
وإذا سبقت
بجملة حالية احتملت ـ عند من يجيز تعدد الحال ـ العاطفة والابتدائية نحو (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ).
الرابع والخامس
: واوان ينتصب ما بعدهما ، وهما واو المفعول معه كسرت والنّيل ، وليس النصب بها
خلافا للجرجانى ، ولم يأت فى التنزيل بيقين ، فأما قوله تعالى (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) فى قراءة السبعة (فَأَجْمِعُوا) بقطع الهمزة و (شُرَكاءَكُمْ) بالنصب ، فتحتمل الواو فيه ذلك ، وأن تكون عاطفة مفردا
على مفرد بتقدير مضاف أى وأمر شركائكم ، أو جملة على جملة بتقدير فعل أى واجمعوا
شركاءكم بوصل الهمزة ، وموجب التقدير فى الوجهين أن «أجمع» لا يتعلق بالذوات ، بل
بالمعانى ، كقولك : أجمعوا على قول كذا ، بخلاف جمع فإنه مشترك ؛ بدليل (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) ويقرأ (فَأَجْمِعُوا) بالوصل فلا إشكال ، ويقرأ برفع الشركاء عطفا على الواو
للفصل بالمفعول.
والواو الداخلة
على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو مؤول ؛ فالأول كقوله :
__________________
ولبس عباءة
وتقرّ عينى
|
|
أحبّ إلىّ من
لبس الشفوف [٤٢٤]
|
والثانى شرطه
أن يتقدم الواو نفى أو طلب ، وسمى الكوفيون هذه الواو واو الصّرف ، وليس النصب بها
خلافا لهم ، ومثالها (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) وقوله :
٥٨٣ ـ لا تنه عن خلق وتأتى مثله
|
|
[عار عليك إذا فعلت عظيم]
|
والحق أن هذه
واو العطف كما سيأتى.
السادس والسابع
: واوان ينجرّ ما بعدهما.
إحداهما : واو
القسم ، ولا تدخل إلا على مظهر ، ولا تتعلّق إلا بمحذوف ، نحو (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) فإن تلتها واو أخرى نحو (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) فالتالية واو العطف ، وإلا لاحتاج كل من الاسمين إلى
جواب.
الثانية : واو
ربّ كقوله :
٥٨٤ ـ وليل كموج البحر أرخى سدوله
|
|
[علىّ بأنواع الهموم ليبتلى]
|
ولا تدخل إلا
على منكّر ، ولا تتعلق إلا بمؤخر ، والصحيح أنها واو العطف ، وأن الجرّ بربّ
محذوفة خلافا للكوفيين والمبرد ، وحجتهم افتتاح القصائد بها كقول رؤبة :
*وقاتم الأعماق خاوى المخترق* [٥٦٠]
وأجيب بجواز
تقدير العطف على شىء فى نفس المتكلم ، ويوضح كونها عاطفة أن واو العطف لا تدخل
عليها كما تدخل على واو القسم ، قال :
٥٨٥ ـ ووالله لو لا تمره ما حببته
|
|
[ولا كان أدنى من عبيد ومشرق]
|
__________________
والثامن : واو دخولها كخروجها ، وهى
الزائدة ، أثبتها
الكوفيون والأخفش. وجماعة ، وحمل على ذلك (حَتَّى إِذا جاؤُها
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) بدليل الآية الأخرى ، وقيل : هى عاطفة ، والزائدة الواو
فى (وَقالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها) وقيل : هما عاطفتان ، والجواب محذوف أى كان كيت وكيت ،
وكذا البحث فى (فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) الأولى أو الثانية زائدة على القول الأول ، أو هما
عاطفتان والجواب محذوف على القول الثانى ، والزيادة ظاهرة فى قوله :
٥٨٦ ـ فما بال من أسعى لأجبر عظمه
|
|
حفاظا وينوى
من سفاهته كسرى
|
وقوله :
٥٨٧ ـ ولقد رمقتك فى المجالس كلّها
|
|
فإذا وأنت
تعين من يبغينى
|
والتاسع ، واو الثمانية ، ذكرها جماعة من الأدباء كالحريرى ، ومن النحويين الضعفاء
كابن خالويه ، ومن المفسرين كالثعلبى ، وزعموا أن العرب إذا عدّوا قالوا ستة ،
سبعة ، وثمانية ، إيذانا بأن السبعة عدد تام ، وأن ما بعدها عدد مستأنف
واستدلوا على
ذلك بآيات :
إحداها (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ) إلى قوله سبحانه (سَبْعَةٌ
وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وقيل : هى فى ذلك لعطف جملة على جملة ؛ إذ التقدير هم
سبعة ، ثم قيل : الجميع كلامهم ، وقيل : العطف من كلام الله تعالى ، والمعنى نعم
هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وإن هذا تصديق لهذه المقالة كما أن (رَجْماً بِالْغَيْبِ) تكذيب لتلك المقالة ، ويؤيده قول ابن عباس رضى الله
عنهما : حين جاءت الواو انقطعت العدّة ، أى لم تبق عدة عادّ يلتفت إليها.
فإن قلت : إذا
كان المراد التصديق فما وجه مجىء (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)؟.
قلت : وجه
الجملة الأولى توكيد صحة التصديق بإثبات علم المصدق ، ووجه الثانية الإشارة إلى أن
القائلين تلك المقالة الصادقة قليل ، أو أن الذى قالها منهم عن يقين قليل ، أو لما
كان التصديق فى الآية خفيا لا يستخرجه إلا مثل ابن عباس قيل ذلك ، ولهذا كان يقول
: أنا من ذلك القليل ، هم سبعة وثامنهم كلبهم.
وقيل : هى واو
الحال وعلى هذا فيقدر المبتدأ اسم إشارة أى هؤلاء سبعة ؛ ليكون فى الكلام ما يعمل
فى الحال ، ويرد ذلك أن حذف عامل الحال إذا كان معنويا ممتنع ، ولهذا ردوا على
المبرد قوله فى بيت الفرزدق :
[فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم
|
|
إذ هم قريش]
وإذ ما مثلهم بشر [١٢٠]
|
إن مثلهم حال
ناصبها خبر محذوف ، أى وإذ ما فى الوجود بشر مماثلا لهم.
الثانية : آية
الزمر ؛ إذ قيل (فُتِحَتْ) فى آية النار لأن أبوابها سبعة ، (وَفُتِحَتْ) فى آية الجنة إذ أبوابها ثمانية ، وأقول : لو كان لواو
الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها ؛ إذ ليس فيها ذكر عدد ألبتة ، وإنما فيها ذكر
الأبواب ، وهى جمع لا يدل على عدد خاص ، ثم الواو لبست داخلة عليه ، بل على جملة
هو فيها ، وقد مرّ أن الواو فى (وَفُتِحَتْ) مقحمة عند قوم وعاطفة عند آخرين ، وقيل : هى واو الحال
، أى جاؤها مفتّحة أبوابها كما صرّح بمفتحة حالا فى (جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) وهذا قول المبرد والفارسى وجماعة ، قيل : وإنما فتحت
لهم قبل مجيئهم إكراما لهم عن أن يقفوا حتى تفتح لهم.
الثالثة : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإنه الوصف الثامن ، والظاهر أن العطف
فى هذا الوصف بخصوصه إنما كان من جهة أن الأمر والنهى من حيث هما أمر ونهى
متقابلان ، بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك
المعروف ، والناهى عن المنكر آمر بالمعروف ؛ فأشير إلى الاعتداد بكل منهما وأنه لا يكتفى فيه بما يحصل فى ضمن الآخر ، وذهب أبو
البقاء على إمامته فى هذه الآية مذهب الضعفاء فقال : إنما دخلت [الواو] فى الصفة
الثامنة إيذانا بأن السبعة عندهم عدد تام ؛ ولذلك قالوا : سبع فى ثمانية ، أى سبع
أذرع فى ثمانية أشبار ، وإنما دخلت الواو على ذلك لأن وضعها على مغايرة ما بعدها
لما قبلها.
الرابعة : (وَأَبْكاراً) فى آية التحريم ، ذكرها القاضى الفاضل ، وتبجح
باستخراجها ، وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبى ، والصواب أن هذه الواو وقعت بين صفتين
هما تقسيم لمن اشتمل على جميع الصفات السابقة ، فلا يصح إسقاطها ، إذ لا تجتمع
الثيوبة والبكارة ، وواو الثمانية عند القائل بها صالحة للسقوط ، وأما قول الثعلبى
إن منها الواو فى قوله تعالى : (سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) فسهو بيّن ، وإنما هذه واو العطف ، وهى واجبة الذكر ،
ثم إن (أَبْكاراً) صفة تاسعة لا ثامنة ؛ إذ أول الصفات (خَيْراً مِنْكُنَّ) لا (مُسْلِماتٍ) ؛ فإن أجاب بأن مسلمات وما بعده تفصيل لخيرا منكن فلهذا لم تعدّ قسيمة لها
، قلنا : وكذلك (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً) تفصيل للصفات السابقة فلا نعدّهما معهن.
والعاشرة :
الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوقها بموصوفها وإفادتها أن اتصافه
بها أمر ثابت ، وهذه الواو أثبتها الزمخشرى ومن قلّده ، وحملوا على ذلك مواضع لواو
فيها كلّها واو الحال نحو (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الآية (سَبْعَةٌ
وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا
وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) والمسوغ لمجىء
__________________
الحال من النكرة فى هذه الآية أمران ؛ أحدهما خاص بها ، وهو تقدم النفى ،
والثانى عام فى بقية الآيات وهو امتناع الوصفيّة ؛ إذ الحال متى امتنع كونها صفة
جاز مجيئها من النكرة ، ولهذا جاءت منها عند تقدمها عليها نحو «فى الدّار قائما
رجل» وعند جمودها نحو «هذا خاتم حديدا ، ومررت بماء قعدة رجل» ومانع الوصفية فى
هذه الآية أمران ؛ أحدهما خاص بها ، وهو اقتران الجملة بإلّا ؛ إذ لا يجوز التفريغ
فى الصفات ، لا تقول «ما مررت بأحد إلا قائم» نص على ذلك أبو على وغيره ، والثانى
عام فى بقية الآيات ، وهو اقترانها بالواو.
والحادى عشر : واو ضمير الذكور ، نحو «الرّجال قاموا» وهى اسم ، وقال الأخفش والمازنى :
حرف ، والفاعل مستتر ، وقد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلوا منزلتهم ، نحو قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وذلك لتوجبه الخطاب إليهم ، وشذّ قوله :
٥٨٨ ـ شربت بها والدّيك يدعو صباحه
|
|
إذا ما بنو
نعش دنوا فتصوّبوا
|
والذى جرأه على
ذلك قوله «بنو» لا بنات ، والذى سوّغ ذلك أن ما فيه من تغيير نظم الواحد شبّهه
بجمع التكسير ، فسهل مجيئه لغير العاقل ، ولهذا جاز تأنيث فعله نحو (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا
إِسْرائِيلَ) مع امتناع «قامت الزيدون».
الثانى عشر :
واو علامة المذكرين فى لغة طىء أو أزد شنوأة أو بلحارث ، ومنه الحديث «يتعاقبون
فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنّهار» وقوله :
٥٨٩ ـ يلوموننى فى اشتراء النخيل أهلى فكلّهم ألوم
وهى عند سيبويه
حرف دال على الجماعة كما أن التاء فى «قالت» حرف دال على التأنيث ، وقيل : هى اسم
مرفوع على الفاعلية ، ثم قيل : إن ما بعدها
بدل منها ، وقيل : مبتدأ والجملة خبر مقدم ، وكذا الخلاف فى نحو «قاما
أخواك» و «قمن نسوتك» وقد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلوا منزلتهم ، قال أبو سعيد :
نحو «أكلونى البراغيث» إذ وصفت بالأكل لا بالقرص ، وهذا سهو منه ؛ فإن الأكل من
صفات الحيوانات عاقلة وغير عاقلة ، وقال ابن الشجرى : عندى أن الأكل هنا بمعنى
العدوان والظلم كقوله :
٥٩٠ ـ أكلت بنيك أكل الضّبّ حتّى
|
|
وجدت مرارة
الكلأ الوبيل
|
أى ظلمتهم ،
وشبه الأكل المعنوى بالحقيقى ، والأحسن فى الضب فى البيت أن لا يكون فى موضع نصب
على حذف الفاعل أى مثل أكلك الضبّ ، بل فى موضع رفع على حذف المفعول : أى مثل أكل
الضّب أولاده ؛ لأن ذلك أدخل فى التشبيه ، وعلى هذا فيحتمل الأكل الثانى أن يكون
معنويا ؛ لأن الضب ظالم الأولاده بأكله إياهم ، وفى المثل «أعقّ من ضبّ» وقد حمل بعضهم على هذه اللغة (ثُمَّ عَمُوا
وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) وحملها على غير هذه اللغة أولى لضعفها ، وقد جوّز فى (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أن يكون بدلا من الواو فى (وَأَسَرُّوا) أو مبتدأ خبره إما (وَأَسَرُّوا) أو قول محذوف عامل فى جملة الاستفهام ، أى يقولون هل
هذا ، وأن يكون خبرا لمحذوف : أى هم الذين ، أو فاعلا بأسروا والواو علامة كما
قدمنا ، أو بيقول محذوفا ، أو بدلا من واو (اسْتَمَعُوهُ) وأن يكون منصوبا على البدل من مفعول (يَأْتِيهِمْ) أو على إضمار أذمّ أو أعنى ، وأن يكون مجرورا على البدل
من (الناس) فى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) أو من الهاء والميم فى (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) فهذه أحد عشر وجها ، وأما الآية الأولى فإذا قدرت
الواوان فيها علامتين فالعاملان قد تنازعا الظاهر ؛ فيجب حينئذ أن
__________________
تقدر فى أحدهما ضميرا مستترا راجعا إليه ، وهذا من غرائب العربية ، أعنى
وجوب استتار الضمير فى فعل الغائبين ، ويجوز كون (كَثِيرٌ) مبتدأ وما قبله خبرا ، وكونه بدلا من الواو الأولى مثل «اللهمّ
صلّ عليه الرؤوف الرحيم» فالواو الثانية حينئذ عائدة على متقدم رتبة ، ولا يجوز
العكس ، لأن الأولى حينئذ لا مفسّر لها.
ومنع أبو حيان
أن يقال على هذه اللغة «جاءونى من جاءك» لأنها لم تسمع إلا مع ما لفظه جمع ، وأقول
: إذا كان سبب دخولها بيان أنّ الفاعل الآتى جمع كان لحاقها هنا أولى ، لأن
الجمعية خفية
وقد أوجب
الجميع علامة التأنيث فى «قامت هند» كما أوجبوها فى «قامت امرأة» وأجازوها فى «غلت
القدر ، وانكسرت القوس» كما أجازوها فى «طلعت الشّمس ، ونفعت الموعظة».
وجوز الزمخشرى
فى (لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) كون (مَنِ) فاعلا والواو علامة.
وإذا قيل «جاؤا
زيد وعمرو وبكر» لم يجز عند ابن هشام أن يكون من هذه اللغة ، وكذا تقول فى «جاآ زيد وعمرو»
وقول غيره أولى ، لما بينا من أن المراد بيان المعنى ، وقد ردّ عليه بقوله :
٥٩١ ـ [تولى قتال المارقين بنفسه]
|
|
وقد أسلماه
مبعد وحميم [ص ٣٧١]
|
وليس بشىء ؛
لأنه إنما يمنع التخريج لا التركيب ، ويجب القطع بامتناعها فى نحو «قام زيد أو
عمرو» لأن القائم واحد ، بخلاف «قام أخواك أو غلاماك» لأنه اثنان ، وكذلك تمتنع فى
«قام أخواك أو زيد» وأما قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) فمن زعم أنه من ذلك فهو غالط ، بل الألف ضمير الوالدين
فى (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) وأحدهما أو كلاهما بتقدير يبلغه أحدهما
__________________
أو كلاهما ، أو أحدهما بدل بعض ، وما بعده بإضمار فعل ، ولا يكون معطوفا ،
لأن بدل الكل لا يعطف على بدل البعض ، لا تقول «أعجبنى زيد وجهه وأخوك» على أن
الأخ هو زيد ، لأنك لا تعطف المبين على المخصص.
فإن قلت «قام
أخواك وزيد» جاز «قاموا» بالواو ، إن قدّرته من عطف المفردات ، و «قاما» بالألف إن
قدرته من عطف الجمل ، كما قال السهيلى فى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) إن التقدير ولا يأخذه نوم.
والثالث عشر :
واو الإنكار ، نحو «آلرجلوه» بعد قول القائل قام الرجل والصواب أن لا تعدّ هذه ،
لأنها إشباع للحركة بدليل «آلرّجلاه» فى النصب و «آلرّجليه» فى الجر ، ونظيرها
الواو فى «منو» فى الحكاية ، وفى «أنظور» من قوله :
٥٩٢ ـ [وأنّنى حيثما يثنى الهوى بصرى]
|
|
من حوثما
سلكوا أدنو فأنظور
|
وواو القوافى
كقوله :
٥٩٣ ـ [متى كان الخيام بذى طلوح]
|
|
سقيت الغيث
أيّتها الخيامو
|
الرابع عشر : واو التذكر ، كقول من أراد أن يقول «يقوم زيد» فنسى زيد ، فأراد مدّ
الصوت ليتذكر ، إذ لم يرد قطع الكلام «يقومو» والصواب أن هذه كالتى قبلها.
الخامس عشر :
الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها كقراءة قنبل (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنْتُمْ) (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) والصواب أن لا تعدّ هذه أيضا ، لأنها مبدلة ، ولو صح
عدّها لصحّ عدّ الواو من أحرف الاستفهام .
__________________
(وا) على وجهين :
أحدهما : أن
تكون حرف نداء مختصا بباب النّدبة ، نحو «وازبداه» وأجاز بعضهم استعماله فى النداء
الحقيقى :
والثانى : أن
تكون اسما لأعجب ، كقوله :
٥٩٤ ـ وا ، بأبى أنت وفوك الأشنب
|
|
كأنما ذرّ
عليه الزّرنب
|
*أو زنجبيل ، وهو عندى أطيب*
|
وقد يقال «واها»
كقوله :
٥٩٥ ـ واها لسلمى ثمّ واها واها
|
|
[هى المنى لو أنّنا نلناها]
|
ووى كقوله :
٥٩٦ ـ وى ، كأن من يكن له كسب يحبب ،
|
|
ومن يفتقر
يعش عيش ضرّ
|
وقد تلحق هذه
كاف الخطاب كقوله :
٥٩٧ ـ ولقد شفى نفسى وأبرأ سقمها
|
|
قيل الفوارس
: ويك عنتر ، أقدم
|
وقال الكسائى :
أصل ويك ويلك فالكاف ضمير مجرور ، وأما (وَيْكَأَنَّ اللهَ) فقال أبو الحسن : وى اسم فعل ، والكاف حرف خطاب ، وأنّ
على إضمار اللام ، والمعنى أعجب لأن الله ، وقال الخليل : وى وحدها كما قال *وى
كأن من يكن* البيت [٥٩٦] ، وكأن للتحقيق ، كما قال :
٥٩٨ ـ كأنّنى حين أمسى لا تكلّمنى
|
|
متيّم يشتهى
ما ليس موجود
|
أى إننى حين
أمسى على هذه الحالة.
حرف الألف
والمراد [به]
هنا الحرف الهاوى الممتنع الابتداء به ؛ لكونه لا يقبل الحركة ، فأما الذى يراد به
الهمزة فقد مر فى صدر الكتاب.
وابن جنى يرى
أن هذا الحرف اسمه «لا» وأنه الحرف الذى يذكر قبل الياء عند عدّ الحروف ، وأنه لما
لم يمكن أن يتلفظ به فى أول اسمه كما فعل فى أخواته إذ قيل صاد جيم توصّل إليه
باللّام كما توصل إلى اللفظ بلام التعريف بالألف حين قيل فى الابتداء «الغلام»
ليتقارضا ، وأن قول المعلمين لام ألف خطأ لأن كلّا من اللام والألف قد مضى ذكره ،
وليس الغرض بيان كيفية تركيب الحروف ، بل سرد أسماء الحروف البسائط.
ثم اعترض على
نفسه بقول أبى النجم :
٥٩٩ ـ أقبلت من عند زياد كالخرف
|
|
تخطّ رجلاى
بخطّ مختلف
|
*تكتّبان فى الطّريق لام ألف*
|
وأجاب بأنه
لعله تلقاه من أفواه العامة ؛ لأن الخط ليس له تعلق بالفصاحة وقد ذكر للألف تسعة
أوجه :
أحدها : أن
تكون للانكار ، نحو «أعمراه» لمن قال : رأيت عمرا .
والثانى : أن
تكون للتذكر كرأيت الرّجلا.
وقد مضى أن
التحقيق أن لا يعدّ هذان.
الثالث : أن
تكون ضمير الاثنين نحو «الزيدان قاما» وقال المازنى : هى حرف ، والضمير مستتر.
__________________
الرابع : أن تكون علامة الاثنين كقوله :
٦٠٠ ـ ألفيتا عيناك عند القفا
|
|
[أولى فأولى لك ذا واقيه]
|
وقوله :
*وقد أسلماه مبعد وحميم* [٥٩١]
وعليه قول
المتنبى :
٦٠١ ـ ورمى ، وما رمتا يداه ، فصابنى
|
|
سهم يعذّب ،
والسّهام تريح
|
الخامس : الألف الكافة كقوله :
فبينا نسوس
النّاس والأمر أمرنا
|
|
إذا نحن فيهم
سوقة ليس ننصف [٥١٧]
|
وقيل : الألف
بعض ما الكافة ، وقيل : إشباع ، وبين مضافة إلى الجملة ، ويؤيده أنها قد أضيفت إلى
المفرد فى قوله :
٦٠٢ ـ بينا تعانقه الكماة وروغه
|
|
يوما أتيح له
جرىء سلفع [ص ٥٢٢]
|
السادس : أن تكون فاصلة بين الهمزتين نحو (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ودخولها جائز ، لا واجب ، ولا فرق بين كون الهمزة
الثانية مسهلة أو محققة.
السابع : أن
تكون فاصلة بين النونين نون النسوة ونون التوكيد نحو «اضربنانّ» وهذه واجبة.
الثامن : أن
تكون لمدّ الصوت بالمنادى المستغاث ، أو المتعجّب منه ، أو المندوب ، كقوله :
٦٠٣ ـ يا يزيدا لآمل نيل عزّ
|
|
وغنى بعد
فاقة وهوان
|
وقوله :
٦٠٤ ـ يا عجبا لهذه الفليقه
|
|
هل تذهبنّ
القوباء الرّيقه
|
وقوله :
٦٠٥ ـ حمّلت امرا عظيما فاصطبرت له
|
|
وقمت فيه
بأمر الله يا عمرا
|
التاسع : أن تكون بدلا من نون ساكنة ،
وهى إما نون التوكيد أو تنوين المنصوب ، فالأول نحو (لَنَسْفَعاً) ـ (وَلَيَكُوناً) وقوله :
٦٠٦ ـ [وإيّاك والميتات لا تقربنّها]
|
|
ولا تعبد
الشّيطان ، والله فاعبدا
|
ويحتمل أن تكون
هذه النون من باب «يا حرسىّ اضربا عنقه».
والثانى كرأيت
زيدا ، فى لغة غير ربيعة.
ولا يجوز أن
تعدّ الألف المبدلة من نون إذن ، ولا ألف التكثير كألف قبعثرى ، ولا ألف التأنيث
كألف حبلى ، ولا ألف الإلحاق كألف أرطى ، ولا ألف الإطلاق كالألف فى قوله :
٦٠٧ ـ [ما هاج أشواقا وشجوا قد شجا]
|
|
من طلل
كالأتحمىّ أنهجا
|
ولا ألف
التثنية كالزيدان ، ولا ألف الإشباع الواقعة فى الحكاية نحو «منا» أو فى غيرها فى
الضرورة كقوله :
٦٠٨ ـ أعوذ بالله من العقراب
|
|
[الشّائلات عقد الأذناب]
|
ولا الألف التى
تبين بها الحركة فى الوقف وهى ألف «أنا» عند البصريين ، ولا ألف التصغير نحو ذيّا
واللّذيّا ، لما قدمنا.
حرف الياء
(الياء المفردة) تأتى على ثلاثة أوجه ، وذلك أنها تكون ضميرا للمؤنثة نحو «تقومين ، وقومى» وقال
الأخفش والمازنى : هى حرف تأنيث والفاعل مستتر ، وحرف إنكار نحو «أزيد نيه» وحرف
تذكار نحو قدى ، وقد تقدم البحث فيهما ، والصواب أن لا يعدّا كما لا تعدّ ياء
التصغير ، وياء المضارعة ، وياء الإطلاق ، وياء الإشباع ، ونحوهنّ ، لأنهن أجزاء
للكلمات ، لا كلمات.
(يا) : حرف
موضوع لنداء البعيد حقيقة أو حكما ، وقد ينادى بها القريب توكيدا ، وقيل : هى
مشتركة بين القريب والبعيد ، وقيل : بينهما وبين المتوسط ، وهى أكثر أحرف النداء
استعمالا ؛ ولهذا لا يقدّر عند الحذف سواها نحو (يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا) ولا ينادى اسم الله عزوجل ، ولاسم المستغاث ، وأيّها وأيتها ، إلا بها ، ولا
المندوب إلا بها أو بوا ، وليس نصب المنادى بها ، ولا بأخواتها أحرفا ، ولا بهنّ
أسماء لأدعو متحملة لضمير الفاعل ، خلافا لزاعمى ذلك ، بل بأدعو محذوفا لزوما ،
وقول ابن الطراوة : النداء إنشاء ، وأدعو خبر ، سهو منه ، بل أدعو المقدر إنشاء
كبعت وأقسمت.
وإذا ولى «يا»
ما ليس بمنادى كالفعل فى (ألا يا اسجدوا) وقوله :
٦٠٩ ـ ألا يا اسقيانى بعد غارة سنجال
|
|
وقبل منايا
عاديات وأوجال
|
والحرف فى نحو (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) «يا ربّ كاسية فى الدّنيا عارية يوم القيامة» والجملة الاسمية كقوله :
٦١٠ ـ يا لعنة الله والأقوام كلهم
|
|
والصّالحين
على سمعان من جار
|
فقيل : هى للنداء والمنادى محذوف ، وقيل : هى لمجرد التنبيه ، لئلا يلزم
الإجحاف بحذف الجملة كلها ، وقال ابن مالك : إن وليها دعاء كهذا البيت أو أمر نحو (ألا
يا اسجدوا) فهى للنداء ، لكثرة وقوع النداء قبلهما نحو (يا آدَمُ اسْكُنْ) (يا نُوحُ اهْبِطْ) ونحو (يا مالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ) وإلّا فهى للتنبيه ، والله أعلم.
الباب الثانى من الكتاب
فى تفسير الجملة ، وذكر أقسامها ، وأحكامها
شرح الجملة ،
وبيان أن الكلام أخصّ منها ، لا مرادف لها
الكلام : هو
القول المفيد بالقصد.
والمراد
بالمفيد : ما دل على معنى يحسن السكوت عليه.
والجملة عبارة
عن الفعل وفاعله كـ «قام زيد» والمبتدأ وخبره كـ «زيد قائم» وما كان بمنزلة أحدهما
نحو «ضرب اللّصّ» و «أقائم الزّيدان» و «كان زيد قائما» و «ظننته قائما».
وبهذا يظهر لك
أنهما ليسا بمترادفين كما يتوهمه كثير من الناس ، وهو ظاهر قول صاحب المفصل ، فإنه
بعد أن فرغ من حد الكلام قال : ويسمى جملة ، والصواب أنها أعمّ منه ، إذ شرطه
الإفادة ، بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، جملة الجواب ، جملة الصلة
، وكل ذلك ليس مفيدا ، فليس بكلام.
وبهذا التقرير
يتضح لك صحة قول ابن مالك فى قوله تعالى (ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ،
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ ، أَفَأَمِنَ
أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) إن الزمخشرى حكم بجواز الاعتراض بسبع جمل ، إذ زعم أن (أَفَأَمِنَ) معطوف على (فَأَخَذْناهُمْ) وردّ عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان فقال :
إنما اعترض بأربع جمل ، وزعم أن من عند (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى) إلى (وَالْأَرْضِ) جملة ، لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه.
وبعد ، ففى
القولين نظر.
أما قول ابن
مالك فلأنه كان من حقه أن يعدها ثمان جمل ، إحداها (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) وأربعة فى حيز لو ـ وهى (آمنوا ، واتقوا ، وفتحنا)
والمركبة من أنّ وصلتها مع ثبت مقدرا أو مع ثابت مقدرا ، على الخلاف فى أنها فعلية
أو اسمية ، والسادسة (وَلكِنْ كَذَّبُوا) والسابعة (فَأَخَذْناهُمْ) والثامنة (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ).
فإن قلت : لعله
بنى ذلك على ما اختاره ونقله عن سيبويه من كون أن وصلتها مبتدأ لا خبر له ، وذلك
لطوله وجريان الإسناد فى ضمنه.
قلت : إنما
مراده أن يبين ما لزم على إعراب الزمخشرى ، والزمخشرى يرى أن أنّ وصلتها هنا فاعل
بثبت.
واما قول
المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل ، وذلك لأنه لا يعدّ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة ؛ لأنها حال مرتبطة بعاملها ، وليست مستقلة برأسها
، وبعدّ لو وما فى حيزها جملة واحدة : إما فعلية إن قدّر ولو ثبت أن أهل القرى
آمنوا واتقوا ، أو اسمية إن قدر ولو أن إيمانهم وتقواهم ثابتان ، ويعدّ (وَلكِنْ كَذَّبُوا) جملة ، و (فَأَخَذْناهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) كله جملة ، وهذا هو التحقيق ، ولا ينافى ذلك ما قدمناه
فى تفسير الجملة ، لأن الكلام هنا ليس فى مطلق الجملة ، بل فى الجملة بقيد كونها
جملة اعتراض ، وتلك لا تكون إلا كلاما تاما.
انقسام الجملة إلى اسمية وفعلية وظرفية
فالأسمية هى :
التى صدرها اسم ، كزيد قائم ، وهيهات العقيق ، وقائم الزيدان ، عند من جوزه وهو
الأخفش والكوفيون.
والفعلية هى :
التى صدرها فعل ، كقام زيد ، وضرب اللص ، وكان زيد قائما ، وظننته قائما ، ويقوم
زيد ، وقم.
والظرفية هى :
المصدّرة بظرف أو مجرور ، نحو : أعندك زيد ، وأفى الدار زيد ، إذا قدرت زيدا فاعلا
بالظرف والجار والمجرور ، لا بالاستقرار المحذوف ، ولا مبتدأ مخبرا عنه بهما ،
ومثّل الزمخشرىّ لذلك بفى الدار من قولك «زيد فى الدار» وهو مبنى على أن الاستقرار
المقدر فعل لا اسم ، وعلى أنه حذف وحده وانتقل الضمير إلى الظرف بعد أن عمل فيه.
وزاد الزمخشرى
وغيره الجملة الشرطية ، والصواب أنها من قبيل الفعلية لما سيأتى.
تنبيه ـ مرادنا
بصدر الجملة المسند أو المسند إليه ، فلا عبرة بما تقدم عليهما من الحروف ؛
فالجملة من نحو «أقائم الزيدان ، وأزيد أخوك ، ولعل أباك منطلق ، وما زيد قائما»
اسمية ، ومن نحو «أقام زيد ، وإن قام زيد ، وقد قام زيد ، وهلّا قمت» فعلية.
والمعتبر أيضا
ما هو صدر فى الأصل ، فالجملة من نحو «كيف جاء زيد» ومن نحو (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) ومن نحو (فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) و (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ) فعلية ، لأن هذه الأسماء فى نية التأخير وكذا الجملة فى
نحو «يا عبد الله» ونحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [فعلية] لأن صدورها فى الأصل أفعال ، والتقدير : أدعو زيدا ، وإن استجارك
أحد ، وخلق الأنعام ، وأقسم والليل.
باب ما يجب على المسئول فى المسئول عنه أن يفصّل فيه
لاحتماله
الاسمية والفعلية ، لاختلاف التقدير ، أو لاختلاف النحويين
ولذلك أمثلة :
أحدها : صدر
الكلام من نحو «إذا قام زيد فأنا أكرمه» وهذا مبنى على الخلاف السابق فى عامل إذا
، فإن قلنا جوابها فصدر الكلام جملة اسمية ، وإذا مقدّمة من تأخير ، وما بعد إذا
متمّم لها ؛ لأنه مضاف إليه ، ونظير ذلك قولك «يوم يسافر زيد أنا مسافر» وعكسه
قوله :
٦١١ ـ فبينا نحن نرقبه أتانا
|
|
[معلّق وفضة وزناد راع]
|
إذا قدّرت ألف
بينا زائدة وبين مضافة للجملة الاسمية ؛ فإن صدر الكلام جملة فعلية ، والظرف مضاف
إلى جملة اسمية ، وإن قلنا العامل فى إذا فعل الشرط ، وإذا غير مضافة ؛ فصدر
الكلام جملة فعلية قدّم ظرفها كما فى قولك «متى تقم فأنا أقوم».
الثانى : نحو «أفى
الدّار زيد ، وأعندك عمرو» فإنا إن قدرنا المرفوع مبتدأ أو مرفوعا بمبتدأ محذوف
تقديره كائن أو مستقر ؛ فالجملة اسمية ذات خبر فى الأولى وذات فاعل مغن عن الخبر
فى الثانية ، وإن قدرناه فاعلا باستقرّ ففعلية ، أو بالظرف فظرفية.
الثالث : نحو «يومان»
فى نحو «ما رأيته مذ يومان» فإن تقديره عند الأخفش ولزجاج : بينى وبين لقائه يومان
، وعند أبى بكر وأبى على : أمد انتفاء الرؤية يومان ، وعليهما فالجملة اسمية لا
محل لها ، ومنذ خبر على الأول ومبتدأ على الثانى ، وقال الكسائى وجماعة : المعنى
منذ كان يومان ، فمنذ ظرف لما قبلها ، وما بعدها جملة فعلية فعلها ماض حذف فعلها ،
وهى فى محل خفض ، وقال آخرون : المعنى من الزمن الذى هو يومان ،
ومنذ مركبة من حرف الابتداء وذو الطائية واقعة على الزمن ، وما بعدها جملة
اسمية حذف مبتدؤها ، ولا محل لها لأنها صلة.
الرابع : «ماذا
صنعت» فإنه يحتمل معنيين ؛ أحدهما : ما الذى صنعته؟ فالجملة اسمية قدّم خبرها عند
الأخفش ومبتدؤها عند سيبويه ، والثانى : أىّ شىء صنعت ، فهى فعلية قدّم مفعولها ،
فإن قلت «ماذا صنعته» فعلى التقدير الأول الجملة بحالها ، وعلى الثانى تحتمل
الاسمية بأن تقدر «ماذا» مبتدأ ، و «صنعته» الخبر ، والفعلية بأن تقدره مفعولا
لفعل محذوف على شريطة التفسير ، ويكون تقديره بعد ما ذا ؛ لأن الاستفهام له
الصّدر.
الخامس : نحو (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) فالأرجح تقدير بشر فاعلا ليهدى محذوفا ، والجملة فعلية
، ويجوز تقديره مبتدأ ، وتقدير الاسمية فى (أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ) أرجح منه فى (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لمعادلتها للاسمية ، وهى (أَمْ نَحْنُ
الْخالِقُونَ) وتقدير الفعلية فى قوله :
*فقلت : أهى سرت أم عادنى حلم؟* [٥٣]
أكثر رجحانا من
تقديرها فى (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لمعادلتها الفعلية.
السادس : نحو «قاما
أخواك» فإن الألف إن قدرت حرف تثنية كما أن التاء حرف تأنيث فى «قامت هند» أو اسما
وأخواك بدل منها فالجملة فعلية ، وإن قدرت اسما وما بعدها مبتدأ فالجملة اسمية قدم
خبرها.
السابع : نحو «نعم
الرّجل زيد» فإن قدر «نعم الرجل» خبرا عن زيد فاسمية ، كما فى «زيد نعم الرّجل»
وإن قدر زيد خبرا لمبتدأ محذوف فجملتان فعلية واسمية.
الثامن : جملة
البسملة ، فإن قدر ابتدائى باسم الله فاسمية ، وهو قول البصريين ،
أو أبدأ باسم الله ففعلية ، وهو قول الكوفيين ، وهو المشهور فى التفاسير
والأعاريب ، ولم يذكر الزمخشرى غيره ، إلا أنه يقدر الفعل مؤخرا ومناسبا لما جعلت
البسملة مبتدأ له ؛ فيقدر باسم الله أقرأ ، باسم الله أحلّ ، باسم الله أرتحل ،
ويؤيده الحديث «باسمك ربّى وضعت جنبى».
التاسع : قولهم
«ما جاءت حاجتك» فإنه يروى برفع حاجتك فالجملة فعلية ، وبنصبها فالجملة اسمية ،
وذلك لأن جاء بمعنى صار ؛ فعلى الأول «ما» خبرها ، و «حاجتك» اسمها ، وعلى الثانى
ما مبتدأ واسمها ضمير ما ، وأنّث حملا على معنى ما ، وحاجتك خبرها.
ونظير ما هذه
ما فى قولك «ما أنت وموسى» فإنها أيضا تحتمل الرفع والنصب ، إلا أن الرفع على
الابتدائية أو الخبرية ، على خلاف بين سيبويه والأخفش ، وذلك إذا قدرت موسى عطفا
على أنت ، والنصب على الخبرية أو المفعولية ، وذلك إذا قدرته مفعولا معه ؛ إذ لا
بد من تقدير فعل حينئذ ، أى ما تكون ، أو ما تصنع.
ونظير ما هذه
فى [هذين] الوجهين على اختلاف التقديرين كيف فى نحو «كيف أنت وموسى» إلا أنها لا
تكون مبتدأ ولا مفعولا به ؛ فليس للرفع إلا توجيه واحد ، وأما النصب فيجوز كونه
على الخبرية أو الحالية.
العاشر :
الجملة المعطوفة من نحو «قعد عمرو وزيد قام» فالأرجح الفعلية للتناسب ، وذلك لازم
عند من يوجب توافق الجملتين المتعاطفتين.
ومما يترجح فيه
الفعلية نحو «موسى أكرمه» ونحو «زيد ليقم ، وعمرو لا يذهب» بالجزم ؛ لأن وقوع
الجملة الطلبية خبرا قليل ، وأما نحو «زيد قام» فالجملة اسمية لا غير ؛ لعدم ما
يطلب الفعل. هذا قول الجمهور ، وجوز المبرد وابن العريف وابن مالك فعليتها على
الاضمار والتفسير ، والكوفيون على التقديم والتأخير
فإن قلت : «زيد قام وعمرو قعد عنده» فالأولى اسمية عند الجمهور ، والثانية
محتملة لهما على السواء عند الجميع.
انقسام الجملة إلى صغرى وكبرى
الكبرى هى :
الاسمية التى خبرها جملة نحو «زيد قام أبوه ، وزيد أبوه قائم» والصغرى هى :
المبنية على المبتدأ ، كالجملة المخبر بها فى المثالين.
وقد تكون
الجملة صغرى وكبرى باعتبارين ، نحو «زيد أبوه غلامه منطلق» فمجموع هذا الكلام جملة
كبرى لا غير ، و «غلامه منطلق» صغرى لا غير ؛ لأنها خبر ، و «أبوه غلامه منطلق»
كبرى باعتبار «غلامه منطلق» وصغرى باعتبار جملة الكلام ، ومثله (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) إذ الأصل لكن أنا هو الله ربى ، ففيها أيضا ثلاث مبتدآت
إذا لم يقدر (هُوَ) ضميرا له سبحانه ولفظ الجلالة بدل منه أو عطف بيان عليه
كما جزم به ابن الحاجب ، بل قدر ضمير الشأن وهو الظاهر ، ثم حذفت همزة أنا حذفا
اعتباطيا ، وقيل : حذفا قياسيا بأن نقلت حركتها ثم حذفت ، ثم أدغمت نون لكن فى نون
أنا.
تنبيهان ـ الأول
: ما فسّرت به الجملة الكبرى هو مقتضى كلامهم ، وقد يقال : كما تكون مصدّرة
بالمبتدأ تكون مصدرة بالفعل نحو «ظننت زيدا يقوم أبوه».
الثانى : إنما
قلت صغرى وكبرى موافقة لهم ، وإنما الوجه استعمال فعلى أفعل بأل أو بالإضافة ؛
ولذلك لحن من قال :
٦١٢ ـ كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها
|
|
حصباء درّ
على أرض من الذّهب
|
وقول بعضهم إن
من زائدة وإنهما مضافان على حد قوله :
٦١٣ ـ [يا من رأى عارضا أسرّ به]
|
|
بين ذراعى
وجبهة الأسد
|
يردّه أن
الصحيح أن «من» لا تقحم فى الإيجاب ، ولا مع تعريف المجرور ،
ولكن ربما استعمل أفعل التفضيل الذى لم يرد به المفاضلة مطابقا مع كونه
مجردا قال :
٦١٤ ـ إذا غاب عنكم أسود العين كنتم
|
|
كراما ،
وأنتم ما أقام ألائم
|
أى لئام ، فعلى
هذا يتخرج البيت ، وقول النحويين [جملة] صغرى وكبرى وكذلك قول العروضيين : فاصلة
صغرى ، وفاصلة كبرى.
وقد يحتمل
الكلام الكبرى وغيرها. ولهذا النوع أمثله :
أحدها : نحو (أَنَا آتِيكَ بِهِ) إذ يحتمل (آتِيكَ) أن يكون فعلا مضارعا ومفعولا ، وأن يكون اسم فاعل
ومضافا إليه مثل (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ
عَذابٌ) (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَرْداً) ويؤيده أن أصل الخبر الإفراد ، وأن حمزة يميل الألف من (آتِيكَ) وذلك ممتنع على تقدير انقلابها من الهمزة.
الثانى : نحو «زيد
فى الدّار» إذ يحتمل تقدير استقر وتقدير مستقر.
الثالث : نحو «إنما
أنت سيرا» إذ يحتمل تقدير تسير وتقدير سائر ، وينبغى أن يجرى هنا الخلاف الذى فى
المسألة قبلها.
الرابع : «زيد
قائم أبوه» إذ يحتمل أن يقدر أبوه مبتدأ ، وأن يقدر فاعلا بقائم.
تنبيه ـ يتعين
فى قوله :
*ألا عمر ونّى مستطاع رجوعه* [١٠٢]
تقدير رجوعه
مبتدأ ومستطاع خبره والجملة فى محل نصب على أنها صفة لا فى محل رفع على أنها خبر ،
لأن «ألا» التى للتمنى لا خير لها عند سيبويه لا لفظا ولا تقديرا ، فإذا قيل «ألا
ماء» كان ذلك كلاما مؤلفا من حرف واسم ، وإنما تمّ
الكلام بذلك حملا على معناه وهو أتمنى ماء ، وكذلك يمتنع تقدير مستطاع خبرا
ورجوعه فاعلا لما ذكرنا ، ويمتنع أيضا تقدير مستطاع صفة على المحل ، أو تقدير «مستطاع
رجوعه» جملة فى موضع رفع على أنها صفة على المحل إجراء لألا مجرى ليت فى امتناع
مراعاة محل اسمها ، وهذا أيضا قول سيبويه فى الوجهين ، وخالفه فى المسألتين
المازنى والمبرد.
انقسام الجملة الكبرى
إلى ذات وجه ، وإلى ذات وجهين
ذات الوجهين :
هى اسمية الصّدر فعلية العجز ، نحو «زيد يقوم أبوه» كذا قالوا ، وينبغى أن يراد عكس ذلك فى نحو «ظننت زيدا أبوه قائم» بناء على ما
قدمنا.
وذات الوجه نحو
«زيد أبوه قائم» ومثله على ما قدمنا نحو «ظننت زيدا يقوم أبوه».
الجمل التى لا محل لها من الإعراب
وهى سبع ،
وبدأنا بها لأنها لم تحلّ محلّ المفرد ، وذلك هو الأصل فى الجمل.
فالأولى :
الابتدائية ، وتسمى أيضا المستأنفة ، وهو أوضح ، لأن الجملة الابتدائية تطلق أيضا
على الجملة المصدّرة بالمبتدأ ، ولو كان لها محل ، ثم الجمل المستأنفة نوعان :
أحدهما :
الجملة المفتتح بها النطق ، كقولك ابتداء «زيد قائم» ومنه الجمل المفتتح بها
السّور.
والثانى :
الجملة المنقطعة عما قبلها نحو «مات فلان ، رحمهالله» وقوله تعالى (قُلْ سَأَتْلُوا
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ومنه جملة العامل الملغى لتأخره نحو «زيد قائم أظن»
فأما العامل الملغى لتوسّطه نحو «زيد أظن قائم» فجملته أيضا لا محل لها ، إلا أنها
من باب جمل الاعتراض.
__________________
ويخص البيانيون
الاستئناف بما كان جوابا لسؤال مقدر نحو قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) فإن جملة القول الثانية جواب لسؤال مقدر تقديره : فماذا
قال لهم؟ ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها ، وفى قوله تعالى (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) جملتان حذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية ، إذ التقدير
سلام عليكم ، أنتم قوم منكرون ، ومثله فى استئناف جملة القول الثانية (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) وقد استؤنفت جملتا القول فى قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ
بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) ومن الاستئناف البيانى أيضا قوله :
٦١٥ ـ زعم العواذل أنّنى فى غمرة
|
|
صدقوا ، ولكن
غمرتى لا تنجلى
|
فإن قوله «صدقوا»
جواب لسؤال [مقدر] تقديره : أصدقوا أم كذبوا؟ ومثله قوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ رِجالٌ) فيمن فتح باء (يُسَبِّحُ)
تنبيهات ـ الأول
: من الاستئناف ما قد يخفى ، وله أمثلة كثيرة.
أحدها : (لا يَسَّمَّعُونَ) من قوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) فإن الذى يتبادر إلى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال
منه ، وكلاهما باطل ، إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسّمّع ، وإنما هى للاستئناف
النحوى ، ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا ، وقيل : يحتمل أن الأصل «لئلا
يسمعوا» ثم حذفت اللام كما فى «جئتك أن تكرمنى» ثم حذفت أن فارتفع الفعل كما فى
قوله :
٦١٦ ـ ألا أيّهذا الزّاجرى أحضر الوغى
|
|
[وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدى] [ص٦٤١]
|
فيمن رفع «أحضر»
واستضعف الزمخشرى الجمع بين الحذفين.
فإن قلت :
اجعلها حالا مقدرة ، أى وحفظا من كل شيطان مارد مقدّرا عدم سماعه ، أى بعد الحفظ.
قلت : الذى
يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها ، كالممرور به فى قولك «مررت برجل معه صقر صائدا
به غدا» أى مقدرا حال المرور به أن يصيد به غدا ، والشياطين لا يقدرون عدم السماع
ولا يريدونه.
الثانى : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ) بعد قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) فإنه [ربما [يتبادر إلى الذهن أنه محكى بالقول ، وليس
كذلك ، لأن ذلك ليس مقولا لهم.
الثالث : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) بعد قوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وهى كالتى قبلها ، وفى جمال القراء للسخاوى أن الوقف
على قولهم فى الآيتين واجب ، والصواب أنه ليس فى جميع القرآن وقف واجب.
الرابع : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) لأن إعادة الخلق لم تقع بعد فيقرروا برؤيتها ، ويؤيد
الاستئناف فيه قوله تعالى على عقب ذلك (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
الْآخِرَةَ).
الخامس : زعم
أبو حاتم أن من ذلك (تُثِيرُ الْأَرْضَ) فقال : الوقف على (ذَلُولٌ) جيد ، ثم يبتدىء (تُثِيرُ الْأَرْضَ) على الاستئناف ، وردّه أبو البقاء بأن (وَلا) إنما تعطف على النفى ، وبأنها لو أثارت الأرض كانت
ذلولا. ويردّ اعتراضه الأول صحة «مررت برجل يصلى ولا يلتفت» والثانى أن أبا حاتم
زعم أن ذلك من عجائب هذه البقرة ، وإنما وجه الرد أن الخبر لم يأت بأن ذلك من
عجائبها ، وبأنهم إنما كلفوا بأمر موجود ، لا بأمر خارق للعادة ، وبأنه كان يجب
تكرار «لا» فى «ذلول» إذ لا يقال «مررت برجل لا شاعر» حتى تقول «ولا كاتب» لا يقال
قد تكررت بقوله تعالى (وَلا تَسْقِي
الْحَرْثَ) لأن ذلك واقع بعد الاستئناف على زعمه.
التنبيه الثانى
: قد يحتمل اللفظ الاستئناف وغيره ، وهو نوعان :
أحدهما : ما
إذا حمل على الاستئناف احتيج إلى تقدير جزء يكون معه كلاما نحو «زيد» من قولك «نعم
الرجل زيد».
والثانى : ما
لا يحتاج فيه إلى ذلك ، لكونه جملة تامة ، وذلك كثير جدا نحو الجملة المنفية وما
بعدها فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً ، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) قال الزمخشرى : الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات على
وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة من دون المسلمين ، ويجوز أن يكون لا يألونكم
وقد بدت صفتين ، أى بطانة غير ما نعتكم فسادا بادية بغضاؤهم. ومنع الواحدىّ هذا
الوجه ، لعدم حرف العطف بين الجملتين ، وزعم أنه لا يقال «لا تتخذ صاحبا يؤذيك أحب
مفارقتك» والذى يظهر أن الصفة تتعدد بغير عاطف وإن كانت جملة كما فى الخبر نحو (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ
الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وحصل للامام فخر الدين فى تفسير هذه الآية سهو ، فإنه
سأل ما الحكمة فى تقديم «من دونكم» على «بطانة» وأجاب بأن محطّ النهى هو «من دونكم»
لا بطانة ، فلذلك قدم الأهم ، وليست التلاوة كما ذكر ، ونظير هذا أن أبا حيان فسر
فى سورة الأنبياء كلمة (زُبُراً) بعد قوله تعالى. (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) وإنما هى فى سورة المؤمنين ، وترك تفسيرها هناك ، وتبعه
على هذا السهو رجلان لخصا من تفسيره إعرابا.
التنبيه الثالث
: من الجمل ما جرى فيه خلاف ، هل هو مستأنف أم لا؟ وله أمثلة :
أحدها : «أقوم»
من نحو قولك «إن قام زيد أقوم» وذلك لأن المبرد يرى أنه على إضمار الفاء ، وسيبويه
يرى أنه مؤخر من تقديم ، وأن الأصل أقوم إن قام زيد ، وأن جواب الشرط محذوف ،
ويؤيده التزامهم فى مثل ذلك كون الشرط ماضيا.
وينبنى على هذا
مسألتان :
إحداهما : أنه
هل يجور «زيدا إن أتانى أكرمه» بنصب زيدا؟ فسيبويه يجيزه كما يجيز «زيدا أكرمه إن
أتانى» والقياس أن المبرد يمنعه ، لأنه فى سياق أداة الشرط فلا يعمل فيما تقدم على
الشرط ، فلا يفسر عاملا فيه.
والثانية : أنه
إذا جىء بعد هذا الفعل المرفوع بفعل معطوف ، هل يجزم أم لا؟ فعلى قول سيبويه لا
يجوز الجزم ، وعلى قول المبرد ينبغى أن يجوز الرفع بالعطف على لفظ الفعل والجزم
بالعطف على محل الفاء المقدرة وما بعدها.
الثانى : مذ ومنذ وما بعدهما فى نحو «ما رأيته مذ يومان» فقال
السيرافى : فى موضع نصب على الحال ، وليس بشىء ، لعدم الرابط ، وقال الجمهور : مستأنفة
جوابا لسؤال تقديره عند من قدّر مذ مبتدأ : ما أمد ذلك ، وعند من قدرها خبرا : ما
بينك وبين لقائه.
الثالث : جملة
أفعال الاستثناء ليس ولا يكون وخلا وعدا وحاشا ، فقال السيرافى : حال ، إذ المعنى
قام القوم خالين عن زيد ، وجوز الاستئناف ، وأوجبه ابن عصفور ، فإن قلت «جاءنى
رجال ليسوا زيدا» فالجملة صفة ، ولا يمتنع عندى أن يقال «جاءنى ليسوا زيدا» على
الحال.
الرابع :
الجملة بعد حتى الابتدائية كقوله :
*حتّى ماء دجلة أشكل* [١٩٥]
فقال الجمهور :
مستأنفة ، وعن الزجاج وابن درستويه أنها فى موضع جر بحتى ، وقد تقدم.
الجملة الثانية
: المعترضة بين شيئين لإفادة الكلام تقوية وتسديدا أو تحسينا ، وقد وقعت فى مواضع.
__________________
أحدها : بين
الفعل ومرفوعه كقوله :
٦١٧ ـ شجاك أظنّ ربع الظّاعنينا
|
|
[ولم تعبأ بعذل العاذلينا]
|
ويروى بنصب ربع
على أنه مفعول أول ، و «شجاك» مفعوله الثانى ، وفيه ضمير مستتر راجع إليه ، وقوله
:
٦١٨ ـ وقد أدركتنى والحوادث جمّة
|
|
أسنّة قوم لا
ضعاف ولا عزل
|
وهو الظاهر فى
قوله :
ألم يأتيك
والأنباء تنمى
|
|
بما لاقت
لبون بنى زياد [١٥٤]
|
على أن الباء
زائدة فى الفاعل ، ويحتمل أنّ يأتى وتنمى تنازعا ما فأعمل الثانى وأضمر الفاعل فى
الأول ؛ فلا اعتراض ولا زيادة ، ولكنّ المعنى على الأول أوجه ؛ إذ الأنباء من
شأنها أن تنمى بهذا وبغيره
الثانى : بينه
وبين مفعوله كقوله :
٦٢٩ ـ وبدّلت والدّهر ذو تبدّل
|
|
هيفا دبورا
بالصّبا والشّمأل
|
والثالث : بين
المبتدأ وخبره كقوله :
٦٢٠ ـ وفيهنّ والأيّام يعثرن بالفتى
|
|
نوادب لا
يمسللنه ونوائح
|
ومنه الاعتراض
بجملة الفعل الملغى فى نحو «زيد أظنّ قائم» وبجملة الاختصاص فى نحو قوله عليه
الصلاة والسّلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقول الشاعر
٦٢١ ـ نحن بنات طارق
|
|
نمشى على
النّمارق
|
وأما الاعتراض
بكان الزائدة فى نحو قوله «أو نبىّ كان موسى» فالصحيح أنها لا فاعل لها ، فلا
جملة.
والرابع : بين
ما أصله المبتدأ والخبر كقوله :
٦٢٢ ـ وإنّى لرام نظرة قبل الّتى
|
|
لعلّى ـ وإن
شطّت نواها ـ أزورها
|
[ص ٣٩١ و ٥٨٥]
وذلك على تقدير
أزورها خبر لعل ، وتقدير الصلة محذوفة ، أى التى أقول لعلى ، وكقوله :
٦٢٣ ـ لعلّك والموعود حقّ لقاؤه
|
|
بدا لك فى
تلك القلوص بداء
|
وقوله :
٦٢٤ ـ يا ليت شعرى والمنى لا تنفع
|
|
هل أغدون
يوما وأمرى مجمع
|
إذا قيل بأن
جملة الاستفهام خبر على تأويل شعرى بمشعورى ، لتكون الجملة نفس المبتدأ فلا تحتاج
إلى رابط ، وأما إذا قيل بأن الخبر محذوف أى موجود ، أو إن ليت لا خبر لها ههنا إذ
المعنى ليتنى أشعر ، فالاعتراض بين الشعر ومعموله الذى علق عنه بالاستفهام ، وقول
الحماسى :
٦٢٥ ـ إنّ الثّمانين وبلغتها
|
|
قد أحوجت سمعى
إلى ترجمان
|
[ص ٣٩٦]
وقول ابن هرمة
:
٦٢٦ ـ إنّ سليمى والله بكلؤها
|
|
ضنّت بشىء ما
كان يرزؤها [ص ٣٩٦]
|
وقول رؤية :
٦٢٧ ـ إنّى وأسطار سطرن سطرا
|
|
لقائل يا نصر
نصر نصرا
|
[ص ٣٩٦ و ٤٥٧]
وقول كثير :
٣٢٨ ـ وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما
|
|
تخلّيت ممّا
بيننا وتخلّت
|
لكالمرتجى
ظلّ الغمامة كلما
|
|
تبوّأ منها
للمقيل اضمحلّت
|
قال أبو على :
تهيامى بعزة جملة معترضة بين اسم إن وخبرها ، وقال أبو الفتح : يجوز أن تكون الواو
للقسم كقولك «إنّى وحبّك لضنين بك» فتكون الباء متعلقة بالتّهيام لا بخبر محذوف.
الخامس : بين
الشرط وجوابه ، نحو (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ) ونحو (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) ونحو (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا
أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) قاله جماعة منهم ابن مالك ، والظاهر أن الجواب (فَاللهُ أَوْلى بِهِما
) ولا يردّ ذلك تثنية الضمير كما توهموا لأن أو هنا
للتنويع ، وحكمها حكم الواو فى وجوب المطابقة ، نص عليه الأبدى ، وهو الحق ، أما
قول ابن عصفور إن تثنية الضمير فى الآية شاذة فباطل كبطلان قوله مثل ذلك فى إفراد
الضمير فى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وفى ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أن (أَحَقُّ) خبر عنهما ؛ وسهّل إفراد الضمير أمران : معنوى وهو أن
إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله عليه الصلاة والسّلام ، وبالعكس (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللهَ) ولفظى وهو تقديم إفراد أحق ، ووجه ذلك أن اسم التفضيل
المجرد من أل والإضافة واجب الإفراد نحو (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ) (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) إلى قوله (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ).
__________________
والثانى : أن (أَحَقُّ) خبر عن اسم الله سبحانه ، وحذف مثله خبرا عن اسمه عليه
الصلاة والسّلام ، أو بالعكس.
والثالث : أن (أَنْ يُرْضُوهُ) ليس فى موضع جر أو نصب بتقدير بأن يرضوه ، بل فى موضع
رفع بدلا عن أحد الاسمين ، وحذف من الآخر مثل ذلك ، والمعنى وإرضاء الله وإرضاء
رسوله أحقّ من إرضاء غيرهما.
والسادس : بين
القسم وجوابه كقوله :
٣٢٩ ـ لعمرى وما عمرى علىّ بهيّن
|
|
لقد نطقت
بطلا علىّ الأقارع
|
وقوله تعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
لَأَمْلَأَنَّ) الأصل أقسم بالحق لأملأن وأقول الحق ، فانتصب الحق
الأول ـ بعد إسقاط الخافض ـ بأقسم محذوفا ، والحق الثانى بأقول ، واعترض بجملة «أفول
الحق» وقدم معمولها للاختصاص ، وقرىء برفعهما بتقدير فالحقّ قسمى والحقّ أقوله ،
وبجرهما على تقدير واو القسم فى الأول والثانى توكيدا كقولك «والله والله لأفعلنّ»
، وقال الزمخشرى : جر الثانى على أن المعنى وأقول والحق ، أى هذا اللفظ ، فأعمل
القول فى لفظ واو القسم مع مجرورها على سبيل الحكاية ، قال : وهو وجه حسن دقيق
جائز فى الرفع والنصب ، اه. وقرىء برفع الأول ونصب الثانى ، قيل : أى فالحق قسمى
أو فالحق منى أو فالحق أنا ، والأول أولى ، ومن ذلك قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الآية.
والسابع : بين
الموصوف وصفته كالآية فإن فيها اعتراضين : اعتراضا بين الموصوف وهو (قسم) وصفته
وهو (عَظِيمٌ) بجملة (لَوْ تَعْلَمُونَ) ، واعتراضا بين (أُقْسِمُ بِمَواقِعِ
النُّجُومِ) وجوابه وهو (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) بالكلام الذى بينهما ، وأما قول ابن عطية ليس فيها إلا
اعتراض واحد وهو (لَوْ تَعْلَمُونَ) لأن (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) توكيد لا اعتراض
فمردود ؛ لأن التوكيد والاعتراض لا يتنافيان ، وقد مضى ذلك فى حد جملة
الاعتراض.
والثامن : بين
الموصول وصلته كقوله :
٦٣٠ ـ ذاك الذى وأبيك يعرف مالكا
|
|
[والحقّ يدمغ ترّهات الباطل]
|
ويحتمله قوله :
وإنّى لرام
نظرة قبل الّتى
|
|
لعلّى وإن
شطّت نواها أزورها [٦٢٢]
|
وذلك على أن
تقدر الصلة «أزورها» وتقدر خبر لعل محذوفا ، أى لعلى أفعل ذلك.
والتاسع : بين
أجزاء الصلة نحو (وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) الآيات ؛ فإن جملة (وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ) معطوفة على (كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ) فهى من الصلة ، وما بينهما اعتراض بيّن به قدر جزائهم ،
وجملة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ عاصِمٍ) خبر ، قاله ابن عصفور ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (تَرْهَقُهُمْ) لم يؤت به لتعريف الذين فيعطف على صلته ، بل جىء به
للاعلام بما يصيبهم جزاء على كسهم السيئات ، ثم إنه ليس بمتعين ؛ لجواز أن يكون
الخبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِها) فلا يكون فى الآية اعتراض ، ويجوز أن يكون الخبر جملة
النفى كما ذكر ، وما قبلها جملتان معترضتان ، وأن يكون الخبر (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) فالاعتراض بثلاث جمل ، أو (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ) فالاعتراض بأربع جمل ، ويحتمل ـ وهو الأظهر ـ أن (الَّذِينَ) ليس مبتدأ ، بل معطوف على الذين الأولى ، أى للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة ، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ؛ فمثلها هنا فى
مقابلة الزيادة هناك ، ونظيرها فى المعنى قوله تعالى (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى
الَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وفى اللفظ قولهم «فى الدّار زيد والحجرة عمرو» وذلك من العطف على معمولى
عاملين مختلفين عند الأخفش ، وعلى إضمار الجار عند سيبويه والمحققين ، ومما يرجح
هذا الوجه أن الظاهر أن الباء فى (بِمِثْلِها) متعلقه بالجزاء ؛ فإذا كان جزاء سيئة مبتدأ احتيج إلى
تقدير الخبر ، أى واقع ، قاله أبو البقاء ، أو لهم ، قاله الحوفى ، وهو أحسن ؛
لإغنائه عن تقدير رابط بين هذه الجملة ومبتدئها وهو (الَّذِينَ) وعلى ما اخترناه يكون جزاء عطفا على الحسنى ؛ فلا يحتاج
إلى تقدير آخر ، وأما قول أبى الحسن وابن كيسان إن بمثلها هو الخبر ، وإن الباء
زيدت فى الخبر كما زيدت فى المبتدأ فى «بحسبك درهم» فمردود عند الجمهور ، وقد يؤنس
قولهما بقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
والعاشر : بين
المتضايفين كقولهم «هذا غلام والله زيد» و «لا أخا فاعلم لزيد» وقيل : الأخ هو
الاسم والظرف الخبر ، وإن الأخ حينئذ جاء على لغة القصر ، كقوله «مكره أخاك لا بطل»
فهو كقولهم «لا عصا لك».
الحادى عشر :
بين الجار والمجرور كقوله «اشتريته بأرى ألف درهم».
الثانى عشر :
بين الحرف الناسخ وما دخل عليه كقوله :
٦٣١ ـ كأنّ وقد أتى حول كميل
|
|
أثافيها
حمامات مثول
|
كذا قال قوم ،
ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية تقدمت على صاحبها ، وهو اسم كأن ، على حد الحال فى
قوله :
كأنّ قلوب
الطّير رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العنّاب والحشف البالى [٣٦٥]
|
الثالث عشر :
بين الحرف وتوكيده كقوله :
٦٣٢ ـ لبت وهل ينفع شيئا ليت
|
|
ليت شبابا
بوع فاشتريت
|
الرابع عشر :
بين حرف التنفيس والفعل كقوله :
وما أدرى
وسوف إخال أدرى
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء [٥١]
|
وهذا الاعتراض
فى أثناء اعتراض آخر ، فإن سوف وما يعدها اعتراض بين أدرى وجملة الاستفهام.
الخامس عشر :
بين قد والفعل كقوله :
*أخالد قد والله أوطأت عشوة* [٢٨٤]
السادس عشر :
بين حرف النفى ومنفيه كقوله :
٦٣٣ ـ ولا أراها تزال ظالمة
|
|
[تحدث لى نكبة وتنكؤها]
|
وقوله :
٦٣٤ ـ فلا وأبى دهماء زالت عزيزة
|
|
[على قومها مادام للزّند قادح]
|
السابع عشر :
بين جملتين مستقلتين نحو (فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ ، نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فإن (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) تفسير لقوله تعالى (مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ) أى أن المأتىّ الذى أمركم الله به هو مكان الحرث ،
ودلالة على أن الغرض الأصلى فى الإتيان طلب النسل لا محض الشّهوة ، وقد تضمنت هذه
الآية الاعتراض بأكثر من جملة ، ومثلها فى ذلك قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ) وقوله تعالى (رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) فيمن قرأ بسكون تاء (وَضَعَتْ) إذ الجملتان المصدّرتان بإنى من قولها عليهاالسلام ، وما بينها اعتراض ، والمعنى : وليس الذكر الذى طلبته
كالأنثى التى وهبت لها ، وقال الزمخشرى :
هنا جملتان معترضتان كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) انتهى ، وفى التنظير نظر ، لأن الذى فى الآية الثانية
اعتراضان كل منهما بجملة لا اعتراض واحد بجملتين.
وقد يعترض
بأكثر من جملتين كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) إن قدّر (مِنَ الَّذِينَ
هادُوا) بيانا للذين أوتوا وتخصيصا لهم إذا كان اللفظ عاما فى
اليهود والنصارى والمراد اليهود ، أو بيانا لأعدائكم ، والمعترض به على هذا
التقدير جملتان ، وعلى التقدير الأول ثلاث جمل ، وهى والله أعلم وكفى بالله مرتين
، وأما يشترون ويريدون فجملتا تفسير لمقدر ، إذ المعنى ألم تر إلى قصة الذى أوتوا
، وإن علقت من بنصيرا مثل (وَنَصَرْناهُ مِنَ
الْقَوْمِ) أو بخبر محذوف على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة لمبتدأ محذوف ، أى قوم يحرفون كقولهم «منّا ظعن
ومنّا أقام» أى منا فريق فلا اعتراض البتة ، وقد مر أن الزمخشرىّ أجاز فى سورة
الأعراف الاعتراض بسبع جمل على ما ذكر ابن مالك.
وزعم أبو على
أنه لا يعترض بأكثر من جملة ، وذلك لأنه قال فى قول الشاعر :
٦٣٥ ـ أرانى ولا كفران لله أيّة
|
|
لنفسى قد
طالبت غير منيل
|
إن أية وهى
مصدر «أويت له» إذا رحمته ورفقت به لا ينتصب بأويت محذوفة ، لئلا يلزم الاعتراض
بجملتين ، قال : وإنما انتصابه باسم «لا» أى ولا أكفر الله رحمة منى لنفسى ، ولزمه
من هذا ترك تنوين الاسم المطول ، وهو قول البغداديين أجازوا «لا طالع جبلا» أجروه
فى ذلك مجرى المضاف كما أجرى مجراه فى الإعراب ، وعلى قولهم يتخرج الحديث «لا مانع
لما أعطيت ولا معطى لما
منعت» وأما على قول البصريين فيجب تنوينه ، ولكن الرواية إنما جاءت بغير
تنوين.
وقد اعترض ابن
مالك قول أبى على بقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) وبغول زهير :
٦٣٦ ـ لعمرى والخطوب مغيّرات
|
|
وفى طول
المعاشرة التّقالى
|
لقد باليت
مظعن أم أوفى
|
|
ولكن أمّ
أوفى لا تبالى
|
وقد يجاب عن
الآية بأن جملة الأمر دليل الجواب عند الأكثرين ونفسه عند قوم : فهى مع جملة الشرط
كالجملة الواحدة ، وبأنه يجب أن يقدر للباء متعلق محذوف ، أى أرسلناهم بالبينات ،
لأنه لا يستثنى بأداة واحدة شيئان ، ولا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إلا إذا كان
مستثنى نحو «ما قام إلا زيد» أو مستثنى منه نحو «ما قام إلا زيدا أحد» أو تابعا له
نحو «ما قام أحد إلا زيدا فاضل».
مسألة ـ كثيرا
ما تشتبه المعترضة بالحالية ، ويميزها منها أمور :
أحدها : أنها
تكون غير خبرية كالأمريّة فى (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ، أَنْ يُؤْتى
أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) كذا مثل ابن مالك وغيره ، بناء على أنّ (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) متعلق بتؤمنوا ، وأن المعنى ولا تظهروا تصديقكم بأن
أحدا يؤتى من كتب الله مثل ما أوتيتم ، وبأن ذلك الأحد يحاجّونكم عند الله يوم
القيامة بالحق فيغلبونكم ، إلا لأهل دينكم لأن ذلك لا يغير اعتقادهم بخلاف
المسلمين ، فإن ذلك يزيدهم ثباتا ، وبخلاف المشركين ، فإن ذلك يدعوهم إلى الإسلام
، ومعنى الاعتراض حينئذ أن الهدى بيد الله ، فإذا قدّره لأحد لم يضره مكرهم.
والآية محتملة
لغير ذلك ، وهى أن يكون الكلام قد تم عند الاستثناء ، والمراد ولا تظهروا الإيمان
الكاذب الذى توقعونه وجه النهار وتنقضونه آخره إلا لمن كان منكم كعبد الله بن سلام
ثم أسلم ، وذلك لأن إسلامهم كان أغيظ لهم ورجوعهم إلى الكفر كان عندهم أقرب ، وعلى
هذا فـ (أَنْ يُؤْتى) من كلام الله تعالى ، وهو متعلق بمحذوف مؤخر ، أى
لكراهية أن يؤتى أحد دبّرتم هذا الكيد ، وهذا الوجه أرجح لوجهين :
أحدهما : أنه
الموافق لقراءة ابن كثير (أأن يؤتى) بهمزتين ، أى لكراهية أن يؤتى قلتم ذلك.
والثانى : أنّ
فى الوجه الأول عمل ما قبل إلا فيما بعدها ، مع أنه ليس من المسائل الثلاث
المذكورة آنفا.
وكالدّعائية فى
قوله :
إنّ الثّمانين
وبلّغتها
|
|
قد أحوجت
سمعى إلى ترجمان [٦٢٥]
|
وقوله :
إنّ سليمى
والله يكلؤها
|
|
ضنّت بشىء ما
كان يرزؤها [٦٢٦]
|
وكالقسميّة فى
قوله :
*إنّى وأسطار سطرن سطرا* [٦٢٧] البيت [ص ٤٥٧]
وكالتنزيهية فى
قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ ، سُبْحانَهُ ، وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) كذا مثل بعضهم.
وكالاستفهامية
فى قوله تعالى (فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا) كذا مثل ابن مالك.
فأما الأولى
فلا دليل فيها إذا قدر لهم خبرا ، وما مبتدأ ، والواو للاستئناف لا عاطفة جملة على
جملة ، وقدّر الكلام تهديدا كقولك لعبدك : لك عندى ما تختار ، تريد بذلك إيعاده أو
التهكم به ، بل إذا قدر (لَهُمْ) معطوفا على (لِلَّهِ) وما معطوفة على البنات ، وذلك ممتنع فى الظاهر ؛ إذ لا
يتعدّى فعل الضمير المتصل إلى ضميره المتصل إلا فى باب ظن وفقد وعدم نحو (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ) فيمن ضم الباء ، ونحو (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ولا يجوز مثل «زيد ضربه» تريد ضرب نفسه ، وإنما يصح فى
الآية العطف المذكور إذا قدر أن الأصل ولأنفسهم ثم حذف المضاف ، وذلك تكلف ، ومن
العجب أن الفراء والزمخشرى والحوفى قدروا العطف المذكور ولم يقدروا المضاف المحذوف
، ولا يصح العطف إلا به.
وأما الثانية
فنصّ هو وغيره على أن الاستفهام فيها بمعنى النفى ، فالجملة خبرية.
وقد فهم مما
أوردته من أن المعترضة تقع طلبية أن الحالية لا تقع إلا خبرية ، وذلك بالإجماع ،
وأما قول بعضهم فى قول القائل :
٦٣٧ ـ اطلب ولا تضجر من مطلب
|
|
[فآفة الطّالب أن يضجرا]
|
[ص ٥٨٦]
إن الواو للحال
، وإن لا ناهية ؛ فخطأ ، وإنما هى عاطفة إما مصدرا يسبك من أن والفعل على مصدر
متوهم من الأمر السابق ، أى ليكن منك طلب وعدم ضجر ، أو جملة على جملة ، وعلى
الأول ففتحة تضجر إعراب ، ولا نافية ، والعطف مثله فى قولك «ائتنى ولا أجفوك»
بالنصب وقوله :
٦٣٨ ـ فقلت ادعى وأدعو إنّ أندى
|
|
لصوت أن
ينادى داعيان
|
وعلى الثانى
فالفتحة للتركيب ، والأصل ولا تضجرن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت للضرورة ، ولا
ناهية ، والعطف مثله فى قوله تعالى (وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).
الثانى : أنه
يجوز تصديرها بدليل استقبال كالتنفيس فى قوله :
*وما أدرى وسوف إخال أدرى* [٥١]
وأما قول
الحوفى فى (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي سَيَهْدِينِ)
: إن الجملة
حالية فمردود ، وكلن فى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وكالشرط فى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ
بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يَوْماً) (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها) وإنما جاز «لأضربنه إن ذهب وإن مكث» ؛ لأن المعنى
لأضربنه على كل حال ؛ إذ لا يصح أن يشترط وجود الشىء وعدمه لشىء واحد.
والثالث : أنه
يجوز اقترانها بالفاء كقوله :
٦٣٩ ـ واعلم فعلم المرء ينفعه
|
|
أن سوف يأتى
كلّ ما قدرا
|
وكجملة (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فى قول وقد مضى ، وكجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الفاصلة بين (فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً) وبين الجواب وهو (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ) والفاصلة بين (وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) وبين (فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ) وبين صفتيهما ، وهى (مُدْهامَّتانِ) فى الأولى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) فى الثانية ، ويحتملان تقدير مبتدأ ؛ فتكون الجملة إما
صفة وإما مستأنفة.
الرابع : أنه
يجوز اقترانها بالواو مع تصديرها بالمضارع المثبت كقول المتنبى :
٦٤٠ ـ يا حاديى عيرها ، وأحسبنى
|
|
أوجد ميتا
قبيل أفقدها
|
قفا قليلا
بها علىّ ؛ فلا
|
|
أقلّ من نظرة
أزوّدها
|
قوله «أفقدها»
على إضمار أن ، وقوله «أقل» يروى بالرفع والنصب.
تنبيه ـ للبيانيين
فى الاعتراض اصطلاحات مخالفة لاصطلاح النحويين ، ولزمخشرىّ يستعمل بعضها كقوله فى
قوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) : يجوز أن يكون حالا من فاعل (نَعْبُدُ) أو من مفعوله ؛ لاشتمالها على ضميريهما ، وأن تكون
معطوفة على (نَعْبُدُ) وأن تكون اعتراضية مؤكدة ، أى من حالنا أنا مخلصون له
التوحيد ، ويردّ عليه مثل ذلك من لا يعرف هذا العلم كأبى حيان توهّما منه أنه لا
اعتراض إلا ما يقوله النحوى وهو الاعتراض بين شيئين متطالبين.
الجملة الثالثة
: لتفسيرية ، وهى الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه ، وسأذكر لها أمثلة توضحها :
أحدها : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا : هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فجملة الاستفهام مفسرة للنجوى ، وهل هنا للنفى ، ويجوز
أن تكون بدلا منها إن قلنا إن ما فيه معنى القول يعمل فى الجمل ، وهو قول الكوفيين
، وأن تكون معمولة لقول محذوف ، وهو حال مثل (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ).
الثانى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فخلقه وما بعده تفسير لمثل آدم ، لا باعتبار ما يعطيه
ظاهر لفظ الجملة من كونه قدّر جسدا من طين ثم كوّن ، بل باعتبار المعنى ، أى إن
شأن عيسى كشأن آدم فى الخروج عن مستمرّ العادة وهو التولد بين أبوين.
والثالث : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فجملة تؤمنون تفسير للتجارة ، وقيل : مستأنفة معناها
الطلب ، أى آمنوا ،
بدليل (فَيَغْفِرُ) بالجزم كقولهم «اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» أى
ليتق الله وليفعل يثب ، وعلى الأول فالجزم فى جواب الاستفهام ، تنزيلا للسبب وهو
الدلالة منزلة المسبب وهو الامتثال.
الرابع : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) وجوّز أبو البقاء كونها حالية على إضمار قد ، والحال لا
تأتى من المضاف إليه فى مثل هذا.
الخامس : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ
يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن قدّرت «إذا» غير شرطية فجملة القول تفسير ليجادلونك
، وإلا فهى جواب إذا ، وعليهما فيجادلونك حال.
تنبيه ـ المفسرة
ثلاثة أقسام : مجردة من حرف التفسير كما فى الأمثلة السابقة ، ومقرونة بأى كقوله :
وترميننى
بالطّرف أى أنت مذنب
|
|
[وتقليننى لكنّ إيّاك لا أقلى] [١١٤]
|
ومقرونة بأن (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ) وقولك «كتبت إليه أن افعل» إن لم تقدر الباء قبل أن.
السادس : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) فجملة ليسجننه قيل : هى مفسرة للضمير فى بدا الراجع إلى
البداء المفهوم منه ، والتحقيق أنها جواب لقسم مقدّر ، وأن المفسر مجموع الجملتين
، ولا يمنع من ذلك كون القسم إنشاء ؛ لأن المفسر هنا إنما هو المعنى المتحصل من
الجواب ، وهو خبرى لا إنشائى ، وذلك المعنى هو سجنه عليه الصلاة والسّلام ؛ فهذا
هو البداء الذى بدالهم.
ثم اعلم أنه لا
يمتنع كون الجملة الإنشائية مفسّرة بنفسها ، ويقع ذلك فى موضعين :
أحدهما : أن
يكون المفسّر إنشاء أيضا ، نحو «أحسن إلى زيد أعطه ألف دينار».
والثانى : أن
يكون مفردا مؤدّيا معنى جملة نحو (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية.
وإنما قلنا
فيما مضى إن الاستفهام مراد به النفى تفسيرا لما اقتضاه المعنى وأوجبته الصناعة
لأجل الاستثناء المفرغ ، لا أن التفسير أوجب ذلك ، ونظيره «بلغنى عن زيد كلام
والله لأفعلنّ كذا».
ويجوز أن يكون (لَيَسْجُنُنَّهُ) جوابا لبدا ؛ لأن أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب
بما يجاب به القسم ، قال :
٦٤١ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتى
|
|
[إنّ المنايا لا تطيش سهامها] [ص ٤٠٧]
|
وقال الكوفيون
: الجملة فاعل ، ثم قال هشام وثعلب وجماعة : يجوز ذلك فى كل جملة نحو «يعجبنى تقوم»
وقال الفراء وجماعة : جوازه مشروط بكون المسند إليها قلبيا ، وباقترانها بأداة
معلّقة نحو «ظهر لى أقام زيد ، وعلم هل قعد عمرو» وفيه نظر ؛ لأن أداة التعليق بأن
تكون مانعة أشبه من أن تكون مجوزة ، وكيف تعلق الفعل عما هو منه كالجزء؟ وبعد
فعندى أن المسألة صحيحة ، ولكن مع الاستفهام خاصة دون سائر المعلقات ، وعلى أن
الإسناد إلى مضاف محذوف لا إلى الجملة الأخرى ، ألا ترى أن المعنى ظهر لى جواب
أقام زيد ، أى جواب قول القائل ذلك؟ وكذلك فى «علم أقعد عمرو» وذلك لا بدّ من
تقديره دفعا للتناقض ؛ إذ ظهور الشىء والعلم به منافيان للاستفهام المقتضى للجهل
به.
فإن قلت : ليس
هذا مما تصح فيه الإضافة إلى الجمل.
قلت : قد مضى [لنا]
عن قريب أن الجملة التى يراد بها اللفظ يحكم لها بحكم المفردات.
السابع : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) زعم ابن عصفور أن البصريين يقدرون نائب الفاعل [فى قيل]
ضمير المصدر ، وجملة النهى مفسرة لذلك الضمير ، وقيل : الظرف نائب [عن] الفاعل ؛
فالجملة فى محل نصب ، ويردّ بأنه لا تتم الفائدة بالظرف ، وبعدمه فى (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) والصواب أن النائب الجملة ؛ لأنها كانت قبل حذف الفاعل
منصوبة بالقول ؛ فكيف انقلبت مفسرة؟ والمفعول به متعين للنيابة ، وقولهم الجملة لا
تكون فاعلا ولا نائبا عنه جوابه أن التى يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات ؛
ولهذا تقع مبتدأ نحو «لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنة» وفى المثل «زعموا
مطيّة الكذب» ومن هنا لم يحتج الخبر إلى رابط فى نحو «قولى لا إله إلا الله» كما
لا يحتاج إليه الخبر المفرد الجامد.
الثامن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لأن وعد يتعدى لاثنين ، وليس الثانى هنا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ؛ لأن ثانى مفعولى كسا لا يكون جملة ، بل هو محذوف ، والجملة مفسرة له ،
وتقديره خيرا عظيما أو الجنة ، وعلى الثانى فوجه التفسير إقامة السبب مقام المسبب
؛ إذ الجنة مسببة عن استقرار الغفران والأجر.
وقولى فى
الضابط «الفضلة» احترزت به عن الجملة المفسرة لضمير الشأن ؛ فإنها كاشفة لحقيقة
المعنى المراد به ، ولها موضع بالإجماع ؛ لأنها خبر فى الحال أو فى الأصل ، وعن
الجملة المفسرة فى باب الاشتغال [فى نحو «زيدا ضربته»] فقد قيل : إنها تكون ذات
محل كما سيأتى ، وهذا القيد أهملوه ولا بد منه.
مسألة ـ قولنا
إن الجملة المفسرة لا محل لها خالف فيه الشلوبين ، فزعم أنها بحسب ما تفسره ؛ فهى
فى نحو «زيدا ضربته» لا محل لها ، وفى نحو (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خلقناه
بقدر) ونحو «زيد الخبز يأكله» بنصب الخبز ـ فى محل رفع ،
ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله ، وقال :
٦٤٢ ـ فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن
|
|
[ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا]
|
فظهر الجزم ،
وكأن الجملة المفسرة عند عطف بيان أو بدل ، ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل
جملة ، وقد بينت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التى تسمى فى الاصطلاح جملة مفسرة
وإن حصل فيها تفسير ، ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان ، واختلف فى
المبدل منه ، وفى البغداديات لأبى على أن الجزم فى ذلك بأداة شرط مقدرة ؛ فإنه قال
ما ملخصه : إن الفعل المحذوف والفعل المذكور فى نحو قوله :
*لا تجزعى إن منفسا أهلكته* [٢٧٣]
مجزومان فى
التقدير ، وإنّ انجزام الثانى ليس على البدلية ؛ إذ لم يثبت حذف المبدل منه ، بل
على تكرير إن ، أى إن أهلكت منفسا إن أهلكته ، وساغ إضمار إن وإن لم يجز إضمار لام
الأمر إلا ضرورة لاتّساعهم فيها ، بدليل إيلائهم إياها الاسم ، ولأن تقدمها مقو
للدلالة عليها ، ولهذا أجاز سيبويه «بمن تمرر أمرر» ومنع «من تضرب أنزل» لعدم دليل
على المحذوف ، وهو عليه ، حتى تقول «عليه» وقال فيمن قال «مررت برجل صالح إن لا
صالح فطالح» بالخفض : إنه أسهل من إضمار ربّ بعد الواو ، ورب شىء يكون ضعيفا ثم
يحسن للضرورة كما فى «ضرب غلامه زيدا» فإنه ضعيف جدا ، وحسن فى نحو «ضربونى وضربت
قومك» واستغنى بجواب الأولى عن جواب الثانية كما استغنى فى نحو «أزيدا ظننته قائما»
بثانى مفعولى ظننت المذكورة عن ثانى مفعولى ظننت المقدرة.
الجملة الرابعة
: المجاب بها القسم نحو (وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
ونحو (وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ومنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ
قَبْلُ) يقدر لذلك ولما أشبهه القسم.
ومما يحتمل
جواب القسم (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) وذلك بأن تقدر الواو عاطفة على (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ) فإنه وما قبله أجوبة لقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّياطِينَ) وهذا مراد ابن عطية من قوله : هو قسم ، والواو تقتضيه ،
أى هو جواب قسم والواو هى المحصلة لذلك لأنها عاطفة ، وتوهم أبو حيان عليه مالا يتوهم على صغار الطلمة ،
وهو أن الواو حرف قسم ، فردّ عليه بأنه يلزم منه حذف المجرور وبقاء الجار وحذف
القسم مع كون الجواب منفيا بإن.
تنبيه ـ من
أمثلة جواب القسم ما يخفى نحو (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ
عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) وذلك لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، قاله كثيرون
منهم الزجاج ، ويوضحه (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) وقال الكسائى والفراء ومن وافقهما : التقدير بأن لا
تعبدوا إلا الله ، وبأن لا تسفكوا ، ثم حذف الجار ، ثم أن فارتفع الفعل ، وجوز
الفراء أن يكون الأصل النهى ، ثم أخرج مخرج الخبر ، ويؤيده أن بعده (وَقُولُوا) (وَأَقِيمُوا) (وَآتُوا).
ومما يحتمل
الجواب وغيره قول الفرزدق :
٦٤٣ ـ تعشّ فإن عاهدتنى لا تخوننى
|
|
نكن مثل من
يا ذئب يصطحبان
|
فجملة النفى
إما جواب لعاهدتنى. كما قال :
٦٤٤ ـ أرى محرزا عاهدته ليوافقن
|
|
فكان كمن
أغريته بخلاف
|
__________________
فلا محل لها ،
أو حال من الفاعل أو المفعول أو كليهما فمحلها النصب ، والمعنى شاهد للجوابية ،
وقد يحتج للحالية بقوله أيضا :
٦٤٥ ـ ألم ترنى عاهدت ربّى ، وإنّنى
|
|
لبين رتاج
قائما ومقام
|
على حلفة لا
أشتم الدّهر مسلما
|
|
ولا خارجا من
فىّ زور كلام
|
وذلك أنه عطف «خارجا»
على محل جملة «لا أشتم» فكأنه قال «حلفت غير شاتم ولا خارجا» والذى عليه المحققون
أن «خارجا» مفعول مطلق ، والأصل ولا يخرج خروجا ، ثم حذف الفعل وأناب الوصف عن
المصدر ، كما عكس فى قوله تعالى (إِنْ أَصْبَحَ
ماؤُكُمْ غَوْراً) لأن المراد أنه حلف بين باب الكعبة وبين مقام إبراهيم
أنه لا يشتم مسلما فى المستقبل ولا يتكلم بزور ، لا أنه حلف فى حال اتصافه بهذين
الوصفين على شىء آخر.
مسألة ـ قال
ثعلب : لا تقع جملة القسم خبرا ، فقيل فى تعليله : لأن نحو «لأفعلنّ» لا محل له ،
فإذا بنى على مبتدأ فقيل «زيد ليفعلن» صار له موضع ، وليس بشىء ؛ لأنه إنما منع
وقوع الخبر جملة قسمية ، لا جملة هى جواب القسم ، ومراده أن القسم وجوابه لا
يكونان خبرا ؛ إذ لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى ، وجملتا القسم والجواب يمكن أن يكون
لهما محل من الإعراب كقولك : «قال زيد أقسم لأفعلنّ» وإنما المانع عنده إما كون
جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون خبرا ؛ لأن الجملتين ههنا ليستا كجملتى الشرط
والجزاء ؛ لأن الجملة الثانية ليست معمولة لشىء من الجملة الأولى ، ولهذا منع
بعضهم وقوعها صلة ، وإما كون الجملة ـ أعنى
جملة القسم ـ إنشائية ، والجملة الواقعة خبرا لا بد من احتمالها للصدق
والكذب ، ولهذا منع قوم من الكوفيين ـ منهم ابن الأنبارى ـ أن يقال : «زيد اضربه ،
وزيد هل جاءك!».
وبعد فعندى أن
كلا من التعليلين ملغى.
أما الأول فلأن
الجملتين مرتبطتان ارتباطا صارتا به كالجملة [الواحدة] وإن لم يكن بينهما عمل ،
وزعم ابن عصفور أن السماع قد جاء بوصل الموصول بالجملة القسمية وجوابها ، وذلك
قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) قال : فما موصولة لا زائدة ، وإلا لزم دخول اللام على
اللام ، انتهى. وليس بشىء ؛ لأن امتناع دخول اللام على اللام إنما هو لأمر لفظى ،
وهو ثقل التكرار ، والفاصل يزيله ولو كان زائدا ، ولهذا اكتفى بالألف فاصلة بين
النونات فى «اذهبنانّ» وبين الهمزتين فى (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وإن كانت زائدة ، وكان الجيد أن يستدلّ بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) فإن قيل : تحتمل من الموصوفية ، أى لفريقا ليبطئن ،
قلنا : وكذا ما فى الآية ، أى لقوم ليوفينهم ، ثم إنه لا يقع صفة إلا ما يقع صلة ،
فالاستدلال ثابت وإن قدرت صفة ؛ فإن قيل : فما وجهه والجملة الأولى إنشائية؟ قلت :
جاز لأنها غير مقصودة ، وإنما المقصود جملة الجواب ، وهى خبرية ، ولم يؤت بجملة
القسم إلا لمجرد التوكيد ، لا للتأسيس.
وأما الثانى
فلأن الخبر الذى شرطه احتمال الصدق والكذب الخبر الذى هو قسيم الإنشاء ، لا خبر
المبتدأ ، للاتفاق على أن أصله الإفراد ، واحتمال الصدق والكذب إنما هو من صفات
الكلام ، وعلى جواز «أين زيد؟ وكيف عمرو؟» وزعم ابن مالك أن السماع ورد بما منعه
ثعلب وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ) وقوله :
٦٤٦ ـ جشأت فقلت : اللّذ خشيت ليأتين
|
|
[وإذا أتاك فلات حين مناص]
|
وعندى لما
استدل به تأويل لطيف ، وهو أن المبتدأ فى ذلك كله ضمن معنى الشرط ، وخبره منزل
منزلة الجواب ؛ فإذا قدر قبله قسم كان الجواب له ، وكان خبر المبتدأ المشبه لجواب
الشرط محذوفا ؛ للاستغناء بجواب القسم المقدر قبله ، ونظيره فى الاستغناء بجواب
القسم المقدر قبل الشرط المجرد من لام التوطئة نحو (وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ) التقدير : والله ليمس لئن لم ينتهوا يمسّنّ.
تنبيه ـ وقع
لمكى وأبى البقاء وهم فى جملة الجواب فأعرباها إعرابا يقتضى أن لها موضعا.
فأما مكى فقال
فى قوله تعالى (كتب ربكم على نفسه الرحمة ليجمعنكم) إن ليجمعنكم بدل من الرحمة ،
وقد سبقه إلى هذا الإعراب غيره ، ولكنه زعم أن اللام بمعنى أن المصدرية وأن من ذلك
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) أى أن يسجنوه ، ولم يثبت مجىء اللام مصدرية ، وخلط مكى
فأجاز البدلية مع قوله إن اللام لام جواب القسم ، والصواب أنها لام الجواب ، وأنها
منقطعة مما قبلها إن قدر قسم أو متصلة به اتصال الجواب بالقسم إن أجرى «بدا» مجرى
أقسم كما أجرى علم فى قوله :
*ولقد علمت لتأتينّ منيّتى* [٦٤١]
وأما أبو
البقاء فإنه قال فى قوله (لَما آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ـ الآية) من فتح اللام ففى ما وجهان :
أحدهما : أنها
موصولة مبتدأ ، والخبر إما (مِنْ كِتابٍ) أى للذى آتيتكموه من الكتاب ، أو (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) ، واللام جواب القسم ؛ لأن أخذ الميثاق قسم ، و (جاءَكُمْ) عطف على (آتَيْتُكُمْ) ، والأصل ثم جاءكم به ، فحذف عائد ما ، أو الأصل
مصدّق له ، ثم ناب الظاهر عن المضمر ، أو العائد ضمير «استقر» الدى تعلقت
به مع.
والثانى : أنها
شرطية ، واللام موطئة ، وموضع «ما» نصب بآتيت ، والمفعول الثانى ضمير المخاطب ، و (مِنْ كِتابٍ) مثل من آية فى (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) اه. ملخصا ، وفيه أمور :
أحدها : أن
إجازته كون (مِنْ كِتابٍ) خبرا فيه الإخبار عن الموصول قبل كمال صلته ؛ لأن (ثُمَّ جاءَكُمْ) عطف على الصلة.
الثانى : أن
تجويزه كون (لَتُؤْمِنُنَّ) خبرا مع تقديره إياه جوابا لأخذ الميثاق يقتضى أن له
موضعا ، وأنه لا موضع له ، وإنما كان حقه أن يقدره جوابا لقسم محذوف ، ويقدر
الجملتين خبرا ، وقد يقال : إنما أراد بقوله «اللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق
قسم» أن أخذ الميثاق دال على جملة قسم مقدرة ، ومجموع الجملتين الخبر ، وإنّما
سمّى (لَتُؤْمِنُنَّ) خبرا ؛ لأنه الدال على المقصود بالأصالة ، لا أنه وحده
هو الخبر بالحقيقة وأنه لا قسم مقدر ، بل أخذ الله ميثاق النبيين هو جملة القسم ،
وقد يقال : لو أراد هذا لم يحصر الدليل فيما ذكره ؛ للاتفاق على أن وجود المضارع
مفتتحا بلام مفتوحة مختتما بنون موكدة دليل قاطع على القسم ، وإن لم يذكر معه أخذ
الميثاق أو نحوه.
والثالث : أن
تجويزه كون العائد ضمير استقر يفتضى عود ضمير مفرد إلى شيئين معا ؛ فإنه عائد إلى
الموصول.
والرابع : أنه
جوز حذف العائد المجرور مع أن الموصول غير مجرور ، فإن قيل : اكتفى بكلمة به
الثانية فيكون كقوله :
٦٤٧ ـ ولو أنّ ما عالجت لين فؤادها
|
|
فقسا استلين
به للان الجندل
|
قلنا : قد جوز
على هذا الوجه عود به المذكورة إلى الرسول ، لا إلى ما.
والخامس : أنه
سمى ضمير (آتَيْتُكُمْ) مفعولا ثانيا ، وإنما هو مفعول أول.
مسألة ـ زعم
الأخفش فى قوله :
إذا قال :
قدنى ، قال : بالله حلفة
|
|
لتغنى عنّى
ذا إنائك أجمعا [٣٤٤]
|
أنّ «لتغنى»
جواب القسم ، وكذا قال فى (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لأن قبله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) الآية ، وليس فيه ما يكون (وَلِتَصْغى) معطوفا عليه ، والصواب خلاف قوله ؛ لأن الجواب لا يكون
إلا جملة ، ولام كى وما بعدها فى تأويل المفرد ، وأما ما استدل به فمتعلّق اللام
فيه محذوف ، أى لتشربنّ لتغنى عنى ، وفعلنا ذلك لتصغى
الجملة الخامسة
: الواقعة جوابا لشرط غير جازم مطلقا ، أو جازم ولم تقترن بالفاء ولا بإذا
الفجائية ؛ فالأول جواب لو ولو لا ولمّا وكيف ، والثانى نحو «إن تقم أقم ، وإن قمت
قمت» أما الأول فلظهور الجزم فى لفظ الفعل ، وأما الثانى فلأن المحكوم لموضعه
بالجزم الفعل ، لا الجملة بأسرها.
الجملة السادسة
: الواقعة صلة لاسم أو حرف ؛ فالأول نحو «جاء الّذى قام أبوه» فالذى فى موضع رفع ،
والصلة لا محل لها ، وبلغنى عن بعضهم أنه كان يلقّن أصحابه أن يقولوا : إن الموصول
وصلته فى موضع كذا ، محتجا بأنهما ككلمة واحدة ، والحق ما قدمت لك ؛ بدليل ظهور
الإعراب فى نفس الموصول فى نحو «ليقم أيّهم فى الدّار ، ولألزمنّ أيّهم عندك ،
وامرر بأيّهم هو أفضل» وفى التنزيل (رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) وقرىء (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) بالنصب ، وروى
*فسلّم على أيّهم أفضل* [١١٧]
بالخفض ، وقال
الطائى :
٦٤٨ ـ [فإمّا كرام موسرون لقيتهم]
|
|
فحسبى من ذى
عندهم ما كفانيا
|
وقال العقيلى :
٦٤٩ ـ نحن الّذون صبّحوا الصّباحا
|
|
[يوم النّخيل غارة ملحاحا]
|
وقال الهذلى :
٦٥٠ ـ هم اللّاؤن فكّوا الغلّ عنّى*
والثانى نحو «أعجبنى
أن قمت ، أو ما قمت» إذا قلنا بحرفية ما المصدرية ، وفى هذا النوع يقال : الموصول
وصلته فى موضع كذا ؛ لأن الموصول حرف فلا إعراب له لا لفظا ولا محلا ، وأما قول
أبى البقاء فى (بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ) : إن ما مصدرية وصلتها (يَكْذِبُونَ) وحكمه مع ذلك بأن يكذبون فى موضع نصب خبرا لكان ،
فظاهره متناقض ، ولعل مراده أن المصدر إنما ينسبك من ما ويكذبون ، لا منها ومن كان
، بناء على قول أبى العباس وأبى بكر وأبى على وأبى الفتح وآخرين : إن كان الناقصة
لا مصدر لها.
الجملة السابعة
: التابعة لما لا محل له نحو «قام زيد ولم يقم عمرو» إذا قدرت الواو عاطفة ، لا
واو الحال.
الجمل التى لها محل من الإعراب
وهى أيضا سبع :
الجملة الأولى
: الواقعة خبرا ، وموضعها رفع فى بابى المبتدأ وإنّ ، ونصب فى بابى كان وكاد ،
واختلف فى نحو «زيد اضربه ، وعمرو هل جاءك» فقيل : محل الجملة التى بعد المبتدأ
رفع على الخبرية ، وهو صحيح ، وقيل : نصب بقول مضمر هو الخبر ، بناء على أن الجملة
الإنشائية لا تكون خبرا ، وقد مر إبطاله.
الجملة الثانية
: الواقعة حالا ، وموضعها نصب ، نحو (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ)
ونحو (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ) ومنه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فجملة استمعوه حال من مفعول يأتيهم ، أو من فاعله ،
وقرىء (محدثا) لأن الذكر محتص بصفته مع أنه قد سبق بالنفى ؛ فالحالان على الأول ـ وهو
أن يكون استمعوه حالا من مفعول يأتيهم ـ مثلهما فى قولك «ما لقى الزّيدين عمرو
مصعدا إلّا منحدرين» وعلى الثانى ـ وهو أن يكون جملة استمعوه حالا من فاعل يأتيهم
ـ مثلهما فى قولك «ما لقى الزّيدين عمرو راكبا إلا ضاحكا» وأما (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فحال من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) فالحالان متداخلتان ، ولاهية حال من فاعل (يَلْعَبُونَ) وهذا من التداخل أيضا ، أو من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) فيكون من التعدد لا من التداخل.
ومن مثل
الحالية أيضا قوله عليه الصلاة والسّلام «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد»
وهو من أقوى الأدلّة على أن انتصاب «قائما» فى «ضربى زيدا قائما» على الحال ، لا
على أنه خبر لكان محذوفة ؛ إذ لا يقترن الخبر بالواو ، وقولك «ما تكلم فلان إلّا
قال خيرا» ، كما تقول «ما تكلم إلا قائلا خيرا» ، وهو استثناء مفرغ من أحول عامة
محذوفة ، وقول الفرزدق :
بأيدى رجال
لم يشيموا سيوفهم
|
|
ولم تكثر
القتلى بها حين سلّت [٥٨٢]
|
لأن تقدير العطف
مفسد للمعنى ، وقول كعب رضى الله عنه :
٦٥١ ـ [شجّت بذى شبم من ماء محنية]
|
|
صاف بأبطح
أضحى وهو مشمول
|
وأضحى تامة.
الجملة الثالثة
: الواقعة مفعولا ، ومحلها النصب إن لم تنب عن فاعل ، وهذه النيابة مختصة بباب
القول نحو (ثُمَّ يُقالُ هذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) لما قدمناه من أن الجملة التى يراد بها لفظها تنزل
منزلة الأسماء المفردة.
قيل : وتقع
أيضا فى الجملة المقرونة بمعلّق ، نحو «علم أقام زيد» وأجاز هؤلاء وقوع هذه فاعلا
، وحملوا عليه (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ
كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) والصواب خلاف ذلك ، وعلى قول هؤلاء فيزاد فى الجمل التى
لها محل الجملة الواقعة فاعلا.
فإن قلت :
وينبغى زيادتها على ما قدمت اختياره من جواز ذلك مع الفعل القلبى المعلق
بالاستفهام فقط نحو «ظهر لى أقام زيد».
قلت : إنما
أجزت ذلك على أن المسند إليه مضاف محذوف ، لا الجملة.
وتقع الجملة
مفعولا فى ثلاثة أبواب.
أحدها : باب
الحكاية بالقول أو مرادفه ؛ فالأول نحو (قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ) وهل هى مفعول به أو مفعول مطلق نوعىّ كالقرفصاء فى «قعد
القرفصاء» إذ هى دالة على نوع خاص من القول؟ فيه مذهبان ، ثانيهما اختيار ابن
الحاجب ، قال : والذى غرّ الأكثرين أنهم ظنوا أن تعلق الجملة بالقول كتعلقها بعلم
فى «علمت لزيد منطلق» وليس كذلك ؛ لأن الجملة نفس القول والعلم غير المعلوم
فافترقا ، اه. والصواب قول الجمهور ؛ إذ يصح أن يخبر عن الجملة بأنها مقولة كما
يخبر عن زيد من «ضربت زيدا» بأنه مضروب ، بخلاف القرفصاء فى المثال فلا يصح أن
يخبر عنها بأنها مقعودة ؛ لأنها نفس القعود ، وأما تسمية النحويين الكلام قولا
فكتسمينهم إياه لفظا ، وإنما الحقيقة أنه مقول وملفوظ.
والثانى :
نوعان : ما معه حرف التفسير كقوله :
وترميننى
بالطّرف أى أنت مذنب
|
|
وتقليننى ،
لكنّ إيّاك لا أقلى [١١٤]
|
وقولك «كتبت
إليه أن افعل» إذا لم تقدر باء الجر ، والجملة فى هذا النوع مفسرة للفعل فلا موضع
لها. وما ليس معه حرف التفسير ، نحو (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ونحو (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) وقراءة بعضهم (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ) بكسر الهمزة ، وقوله :
٦٥٢ ـ رجلان من مكّة أخبرانا
|
|
إنّا رأينا
رجلا عريانا
|
روى بكسر «إنّ»
فهذه الجمل فى محل نصب اتفاقا ، ثم قال البصريون : النصب بقول مقدر ، وقال
الكوفيون : بالفعل المذكور ، ويشهد للبصريين التصريح بالقول فى نحو (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ونحو (إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) وقول أبى البقاء فى قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إن الجملة الثانية فى موضع نصب بيوصى ، قال : لأن
المعنى يفرض لكم أو يشرع لكم فى أمر أولادكم ، وإنما يصح هذا على قول الكوفيين ،
وقال الزمخشرى : إن الجملة الأولى إجمال ، والثانية تفصيل لها ، وهذا يقتضى أنها
عنده مفسرة ولا محل لها ، وهو الظاهر.
تنبيهات ـ الأول
: من الجمل المحكية ما قد يخفى ؛ فمن ذلك فى المحكية بعد القول (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا
لَذائِقُونَ) والأصل إنكم لذائقون عذابى ، ثم عدل إلى التكلم ؛ لأنهم
تكلموا بذلك عن أنفسهم ، كما قال :
٦٥٣ ـ ألم تر أنّى يوم جوّ سويقة
|
|
بكيت فنادتنى
هنيدة ماليا
|
والأصل مالك ،
ومنه فى المحكية بعد ما فيه معنى القول (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أى تدرسون فيه هذا اللفظ ، أو تدرسون فيه قولنا هذا
الكلام ، وذلك إما على أن يكونوا خوطبوا بذلك فى الكتاب على زعمهم ، أو الأصل إن
لهم لما يتخيرون ، ثم عدل إلى الخطاب عند مواجهتهم ، وقد قيل فى قوله تعالى (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ
نَفْعِهِ) إن يدعو فى معنى يقول مثلها فى قول عنترة :
٦٥٤ ـ يدعون عنتر والرّماح كأنّها
|
|
أشطان بئر فى
لبان الأدهم
|
فيمن رواه «عنتر»
بالضم على النداء ، وإن (الرَّحْمنِ) مبتدأ ، و (لَبِئْسَ الْمَوْلى) خبره ، وما بينهما جملة اسمية صلة ، وجملة (الرَّحْمنِ) وخبرها محكية بيدعو ، أى أن الكافر يقول ذلك فى يوم
القيامة ، وقيل : من مبتدأ حذف خبره : أى إلهه ، وإن ذلك حكاية لما يقول فى الدنيا
، وعلى هذا فالأصل يقول : الوثن إلهه ، ثم عبر عن الوثن بمن ضرّه أقرب من نفعه ،
تشنيعا على الكافر.
الثانى : قد
يقع بعد القول ما يحتمل الحكاية وغيرها نحو «أتقول موسى فى الدّار» فلك أن تقدر
موسى مفعولا أول وفى الدار مفعولا ثانيا على إجراء القول مجرى الظن ، ولك أن
تقدرهما مبتدأ وخبرا على الحكاية كما فى قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الآية ، ألا ترى أن القول قد استوفى شروط إجرائه مجرى
الظن ومع هذا جىء بالجملة بعده محكية.
الثالث : قد
يقع بعد القول جملة محكية ولا عمل للقول فيها ، وذلك نحو «أوّل قولى إنّى أحمد
الله» إذا كسرت إنّ ؛ لأن المعنى أول قولى هذا اللفظ ، فالجملة خبر لا مفعول ،
خلافا لأبى على ، زعم أنها فى موضع نصب بالقول ، فبقى المبتدأ بلا خبر فقدر موجود
أو ثابت ، وهذا المقدّر يستغنى عنه ، بل هو مفسد للمعنى ؛ لأن «أول قولى إنى أحمد
الله» باعتبار الكلمات إن وباعتبار الحروف الهمزة ، فيفيد الكلام على تقديره
الإخبار بأن ذلك الأول ثابت ، ويقتضى بمفهومه أن بقية الكلام غير ثابت ، اللهم إلا
أن يقدر أول زائدا ، والبصريون لا يجيزونه ، وتبع الزمخشرى أبا على فى التقدير
المذكور ، والصواب خلاف قولهما ، فإن فتحت فالمعنى حمد الله ، يعنى بأى عبارة كانت.
الرابع : قد
تقع الجملة بعد القول غير محكية به ، وهى نوعان :
محكية بقول آخر
محذوف كقوله تعالى (فَما ذا تَأْمُرُونَ) بعد (قالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) لأن قولهم تم عند قوله (مِنْ أَرْضِكُمْ) ثم التقدير : فقال فرعون ، بدليل (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) وقول الشاعر :
٦٥٥ ـ قالت له وهو بعيش ضنك
|
|
لا تكثرى
لومى وخلّى عنك
|
التقدير قالت
له : أتذكر قولك لى إذ ألومك فى الإسراف فى الإنفاق ، لا تكثرى لومى ، فحذف
المحكية بالمذكور ، وأثبت المحكية بالمحذوف.
وغير محكيّة ،
وهى نوعان : دالة على المحكية ، كقولك «قال زيد لعمرو فى حاتم أتظنّ حاتما بخيلا»
فحذف المقول ، وهو «حاتم بخيل» مدلولا عليه بجملة الإنكار التى هى من كلامك دونه ،
وليس من ذلك قوله تعالى : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) وإن كان الأصل والله أعلم
أتقولون للحق لما جاءكم هذا سحر ، ثم حذفت مقالتهم مدلولا عليها بجملة
الإنكار ؛ لأن جملة الإنكار هنا محكية بالقول الأول ، وإن لم تكن محكية بالقول
الثانى ، وغير دالة عليه نحو (وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ، وقد مر البحث فيها.
الخامس : قد
يوصل بالمحكية غير محكى ، وهو الذى يسميه المحدّثون مدرجا ، ومنه (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) بعد حكاية قولها ، وهذه الجملة ونحوها مستأنفة لا يقدر
لها قول.
الباب الثانى
من الأبواب التى تقع فيها الجملة مفعولا : باب ظن وأعلم ؛ فإنها تقع مفعولا ثانيا
لظن وثالثا لأعلم ، وذلك لأن أصلهما الخبر ، ووقوعه جملة سائغ كما مر ، وقد اجتمع
وقوع خبرى كان وإن والثانى من مفعولى باب ظن جملة فى قول أبى ذؤيب :
٦٥٦ ـ فإن تزغمينى كنت أجهل فيكم
|
|
فإنّى شربت
الحلم بعدك بالجهل
|
الباب الثالث :
باب التعليق ، وذلك غير مختص بباب ظن ، بل هو جائز فى كل فعل قلبى ، ولهذا انقسمت
هذه الجملة إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : أن
تكون فى موضع مفعول مقيد بالجار ، نحو (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) لأنه يقال : فكرت فيه ، وسألت عنه ، ونظرت فيه ، ولكن
علقت هنا بالاستفهام عن الوصول فى اللفظ إلى المفعول ، وهى من حيث المعنى طالبة له
على معنى ذلك الحرف.
وزعم ابن عصفور
أنه لا يعلّق فعل غير علم وظنّ حتى يضمن معناهما ، وعلى هذا فتكون هذه الجملة سادة
مسد المفعولين.
واختلف فى قوله
تعالى : (إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) فقيل : التقدير ينظرون أيهم يكفل مريم ، وقيل :
يتعرّفون ، وقيل يقولون ، فالجملة على التقدير الأول مما نحن فيه ، وعلى الثانى فى
موضع المفعول به المسرّح ، أى غير مقيد بالجار ، وعلى الثالث ليست من باب التعليق
البتة.
والثانى : أن
تكون فى موضع المفعول المسرح ، نحو «عرفت من أبوك» وذلك لأنك تقول : عرفت زيدا ،
وكذا «علمت من أبوك» إذا أردت علم بمعنى عرف ، ومنه قول بعضهم «أما ترى أىّ برق
ههنا» لأن رأى البصرية وسائر أفعال الحواسّ إنما تتعدّى لواحد بلا خلاف ، إلا «سمع»
المعلقة باسم عين نحو «سمعت زيدا يقرأ» فقيل : [سمع] متعدية لاثنين ثانيهما الجملة
، وقيل : إلى واحد والجملة حال ، فإن علقت بمسموع فمتعدية لواحد اتفاقا ، نحو (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ).
وليس من الباب (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ) خلافا ليونس ، لأن «ننزع» ليس بفعل قلبى ، بل أى موصولة
لا استفهامية ، وهى المفعول ، وضمّتها بناء لا إعراب ، وأشد : خبر لهو محذوفا ،
والجملة صلة.
والثالث : أن
تكون فى موضع المفعولين ، نحو (وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً) (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) ومنه (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) لأن أيا مفعول مطلق لينقلبون ، لا مفعول به ليعلم ، لأن
الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، ومجموع الجملة الفعلية فى محل نصب بفعل العلم.
ومما يوهمون فى
إنشاده وإعرابه :
٦٥٧ ـ ستعلم ليلى أىّ دين تداينت
|
|
وأىّ غريم
للتّقاضى غريمها [ص ٥١٥]
|
والصواب فيه
نصب «أى» الأولى على حد انتصابها فى (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) إلا أنها مفعول به ، لا مفعول مطلق ، ورفع «أى» الثانية
مبتدأ ، وما بعدها الخبر ، والعلم معلق عن الجملتين المتعاطفتين الفعلية والاسمية.
واختلف فى نحو «عرفت
زيدا من هو» فقيل : جملة الاستفهام حال ، وردّ بأن الجمل الإنشائية لا تكون حالا ،
وقيل : مفعول ثان على تضمين عرف معنى علم ، وردّ بأن التضمين لا ينقاس ، وهذا
التركيب مقيس ، وقيل : بدل من المنصوب ، ثم اختلف ؛ فقيل : بدل اشتمال ، وقيل :
بدل كل ، والأصل عرفت شأن زيد ، وعلى القول بأن عرف بمعنى علم فهل يقال : إن الفعل
معلّق أم لا؟ قال جماعة من المغاربة : إذا قلت «علمت زيدا لأبوه قائم» أو «ما أبوه
قائم» فالعامل معلق عن الجملة ، وهو عامل فى محلها النصب على أنها مفعول ثان ،
وخالف فى ذلك بعضهم ؛ لأن الجملة حكمها فى مثل هذا أن تكون فى موضع نصب ، وأن لا
يؤثر العامل فى لفظها وإن لم يوجد معلق ، وذلك نحو «علمت زيدا أبوه قائم» واضطرب
فى ذلك كلام الزمخشرى فقال فى قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فى سورة هود : إنما جاز تعليق فعل البلوى لما فى
الاختبار من معنى العلم ؛ لأنه طريق إليه ، فهو ملابس له ، كما تقول «انظر أيّهم
أحسن وجها ، واستمسع أيّهم أحسن صوتا» لأن النظر والاستماع من طرق العلم ، اه. ولم
أقف على تعليق النظر البصرى والاستماع إلا من جهته ، وقال فى تفسير الآية فى سورة
الملك : ولا يسمى هذا تعليقا ، وإنما التعليق أن يوقع بعد العامل ما يسدّ مسدّ
منصوبه جميعا كـ «علمت أيهما عمرو» ألا ترى أنه لا يفترق الحال ـ بعد تقدم أحد
المنصوبين ـ بين مجىء ماله الصّدر وغيره؟ ولو كان تعليقا لافترقا كما افترقا فى «علمت
زيدا منطلقا ، وعلمت أزيد منطلق».
تنبيه ـ فائدة
الحكم على محل الجملة فى التعليق بالنصب ظهور ذلك فى التابع ؛ فتقول «عرفت من زيد
وغير ذلك من أموره» واستدل ابن عصفور بقول كثير :
٦٥٨ ـ وما كنت أدرى قبل عزّة ما البكى
|
|
ولا موجعات
القلب حتّى تولّت
|
بنصب «موجعات»
ولك أن تدعى أن البكى مفعول ، وأن «ما» زائدة ، أو أن الأصل «ولا أدرى موجعات»
فيكون من عطف الجمل ، أو أن الواو للحال وموجعات اسم لا ، أى وما كنت أدرى قبل عزة
والحال أنه لا موجعات للقلب موجودة ما البكاء ، ورأيت بخط الإمام بهاء الدين بن
النحاس رحمهالله : أقمت مدة أقول : القياس جواز العطف على محل الجملة
المعلق عنها بالنصب ، ثم رأيته منصوصا ، اه. وممن نص عليه ابن مالك ، ولا وجه
للتوقف فيه مع قولهم : إن المعلق عامل فى المحل.
الجملة الرابعة
: المضاف إليها ، ومحلها الجر ، ولا يضاف إلى الجملة إلا ثمانية :
أحدها : أسماء
الزمان ، ظروفا كانت أو أسماء ، نحو (وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ) ونحو (وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) ونحو (لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ونحو (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ) ألا ترى أن اليوم ظرف فى الأولى ، ومفعول ثان فى
الثانية ، وبدل منه فى الثالثة ، وخبر فى الرابعة ، ويمكن فى الثالثة أن يكون ظرفا
ليخفى من قوله تعالى (لا يَخْفى عَلَى
اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).
ومن أسماء
الزمان ثلاثة إضافتها إلى الجملة واجبة : إذ باتفاق ، وإذا عند الجمهور ولمّا عند
من قال باسميتها ، وزعم سيبويه أن اسم الزمان المبهم إن كان مستقبلا فهو كإذا فى
اختصاصه بالجمل الفعلية ، وإن كان ماضيا فهو كإذ فى الإضافة إلى الجملتين فتقول «آتيك
زمن يقدم الحاج» ولا يجوز «زمن الحاجّ قادم» وتقول «أتيتك زمن قدم الحاجّ ، وزمن
الحاجّ قادم» ورد عليه دعوى اختصاص المستقبل بالفعلية بقوله تعالى (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) وبقول الشاعر :
٦٥٩ ـ وكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة
|
|
بمغن فتيلا
عن سواد بن قارب
|
[ص ٥٨٢]
وأجاب ابن
عصفور عن الآية بأنه إنما يشترط حمل الزمان المستقبل على إذا إذا كان ظرفا ، وهى
فى الآية بدل من المفعول به لا ظرف ، ولا يأتى هذا الجواب فى البيت ، والجواب الشامل لهما أن يوم
القيامة لما كان محقق الوقوع جعل كالماضى ؛ فحمل على إذ ، لا على إذا ، على حد (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ).
الثانى : حيث ،
وتختص بذلك عن سائر أسماء المكان ، وإضافتها إلى الجملة لازمة ، ولا يشترط لذلك
كونها ظرفا ، وزعم المهدوىّ شارح الدّريدية ـ وليس بالمهدوى المفسر المقرىء ـ أن
حيث فى قوله :
٦٦٠ ـ ثمّت راح فى الملبّين إلى
|
|
حيث تحجّى
المأزمان ومنى
|
لما خرجت عن
الظرفية بدخول إلى عليها خرجت عن الإضافة إلى الجمل ، وصارت الجملة بعدها صفة لها
، وتكلف تقدير رابط لها ، وهو فيه ، وليس بشىء ؛ لما قدمنا فى أسماء الزمان.
الثالث : آية
بمعنى علامة ، فإنها تضاف جوازا إلى الجملة الفعلية المتصرف فعلها مثبتا أو منفيا
بما ، كقوله :
٦٦١ ـ بآية يقدمون الخيل شعثا
|
|
[كأنّ على سنابكها مداما] [ص ٦٣٨]
|
وقوله :
٦٦٢ ـ [ألكنى إلى قومى السّلام رسالة]
|
|
بآية ما
كانوا ضعافا ولا عزلا [ص ٤٢١]
|
وهذا قول
سيبويه ، زعم أبو الفتح أنها إنما تضاف إلى المفرد نحو (آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ) وقال الأصل بآية ما يقدمون ، أى بآية إقدامكم كما قال :
٦٦٣ ـ [ألا من مبلغ عنّى تميما]
|
|
بآية ما
تحبّون الطّعاما [ص ٦٣٨] اه
|
وفيه حذف موصول
حرفى غير أن وبفاء صلته ، ثم هو غير متأتّ فى قوله :
__________________
*بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا* [٦٦٢]
الرابع : ذو فى
قولهم «اذهب بذى تسلم» والباء فى ذلك ظرفية ، وذى صفة لزمن محذوف ، ثم قال
الأكثرون : هى بمعنى صاحب ؛ فالموصوف نكرة ، أى اذهب فى وقت صاحب سلامة ، أى فى
وقت هو مظنّة السلامة ، وقيل : بمعنى الذى فالموصوف معرفة ، والجملة صلة فلا محل
لها ، والأصل : اذهب فى الوقت الذى تسلم فيه ، ويضعفه أن استعمال ذى موصولة مختص
بطيئ ، ولم ينقل اختصاص هذا الاستعمال بهم ، وأن الغالب عليها فى لغتهم البناء ،
ولم يسمع هنا إلا الإعراب وأن حذف العائد المجرور هو والموصول بحرف متحد المعنى
مشروط باتحاد المتعلق نحو (وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) والمتعلق هنا مختلف ، وأن هذا العائد لم يذكر فى وقت ،
وبهذا الأخير يضعف قول الأخفش فى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إن أيا موصولة والناس خبر لمحذوف ، والجملة صلة وعائد ،
أى يا من هم الناس ، على أنه قد حذف العائد حذفا لازما فى نحو *ولا سيّما يوم*
[٢١٩] فيمن رفع ، أى لا مثل الذى هو يوم ، ولم يسمع فى نظائره ذكر العائد ، ولكنه
نادر ؛ فلا يحسن الحمل عليه.
والخامس ،
والسادس : لدن وريث ، فإنهما يضافان جوازا إلى الجملة الفعلية التى فعلها متصرف ،
ويشترط كونه مثبتا ، بخلافه مع آية.
فأما لدن فهى
اسم لمبدأ الغاية ، زمانية كانت أو مكانية ، ومن شواهدها قوله :
٦٦٤ ـ لزمنا لدن سألتمونا وفاقكم
|
|
فلا يك منكم
للخلاف جنوح
|
وأما ريث فهى
مصدر راث إذا أبطأ ، وعوملت معاملة أسماء الزمان فى الإضافة إلى الجملة ، كما
عوملت المصادر معاملة أسماء الزمان فى التوقيت كقولك «جئتك صلاة العصر» قال :
٦٦٥ ـ خليلىّ رفقا ريث أقضى لبانة
|
|
من العرصات
المذكرات عهودا
|
وزعم ابن مالك
فى كافيته وشرحها أن الفعل بعدهما على إضمار أن ، والأول قوله فى التسهل وشرحه ،
وقد يعذر فى ريث ؛ لأنها ليست زمانا ، بخلاف لدن ، وقد يجاب بأنها لما كانت لمبدأ
الغايات مطلقا لم تخلص للوقت ، وفى الغرة لابن الدهان أن سيبويه لا يرى جواز
إضافتها إلى الجملة ، ولهذا قال فى قوله :
٦٦٦ ـ *من لد شولا [فإلى إتلائها]*
إن تقديره من
لد أن كانت شولا ، ولم يقدر من لد كانت.
والسابع
والثامن : قول وقائل كقوله :
٦٦٧ ـ قول يا للرّجال ينهض منّا
|
|
مسرعين
الكهول والشّبّانا
|
وقوله :
٦٦٨ ـ وأجبت قائل كيف أنت بصالح
|
|
حتّى مللت
وملّنى عوّادى
|
والجملة
الخامسة : الواقعة بعد الفاء أو إذا جوابا لشرط جازم ؛ لأنها لم تصدّر بمفرد يقبل
الجزم لفظا كما فى قولك «إن تقم أقم» ومحلا كما فى قولك «إن جئتنى أكرمتك» مثال
المقرونة بالفاء (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) ولهذا قرىء بجزم يذر عطفا على المحل ، ومثال المقرونة
بإذا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) والفاء المقدرة كالموجودة كقوله :
*من يفعل الحسنات الله يشكرها* [٨١]
ومنه عند
المبرد نحو «إن قمت أقوم» وقول زهير :
٦٦٩ ـ وإن أتاه خليل يوم مسغبة
|
|
يقول لا غائب
مالى ولا حرم
|
وهذا أحد
الوجهين عند سيبويه ، والوجه الآخر أنه على التقديم والتأخير ؛ فيكون دليل الجواب
لا عينه ، وحينئذ فلا يجزم ما عطف عليه ، ويجوز أن يفسر ناصبا لما قبل الأداة ،
نحو «زيدا إن أتانى أكرمه» ومنع المبرد تقدير التقديم ، محتجا بأنّ الشىء إذا حلّ
فى موضعه لا ينوى به غيره ، وإلا لجاز «ضرب غلامه زيدا» وإذا خلا الجواب الذى لم
يحزم لفظه من الفاء وإذا نحو «إن قام زيد قام عمرو» فمحل الجزم محكوم به للفعل لا
للجملة ، وكذا القول فى فعل الشرط ، قيل : ولهذا جاز نحو «إن قام ويقعدا أخواك»
على إعمال الأول ، ولو كان محل الجزم للجملة بأسرها لزم العطف على الجملة قبل أن
تكمل.
تنبيه ـ قرأ
غير أبى عمرو (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) بالجزم ، فقيل : عطف على ما قبله على تقدير إسقاط الفاء
؛ وجزم (أصدق) ويسمّى العطف على المعنى ، ويقال له فى غير القرآن العطف على التوهم
، وقيل : عطف على محل الفاء وما بعدها وهو (أصدق) ومحله الجزم ؛ لأنه جواب التحضيض
، ويجزم بإن مقدرة وإنه كالعطف على (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) بالجزم ، وعلى هذا فيضاف إلى الضابط المذكور أن يقال :
أو جواب طلب ، ولا تقيد هذه المسألة بالفاء ؛ لأنهم أنشدوا على ذلك قوله :
٦٧٠ ـ فأبلونى بليّتكم لعلى
|
|
أصالحكم
وأستدرج نويّا [ص ٤٧٧]
|
وقال أبو على :
عطف «أستدرج» على محل الفاء الداخلة فى التقدير على لعلى وما بعدها ، قلت : فكأن
هذا [هنا] بمنزلة :
*من يفعل الحسنات الله يشكرها* [٨١]
فى باب الشرط ،
وبعد فالتحقيق أن العطف فى الباب من العطف على المعنى ؛
__________________
لأن المنصوب بعد الفاء فى تأويل الاسم ، فكيف يكون هو والفاء فى محل الجزم؟
وسأوضح ذلك فى باب أقسام العطف.
الجملة السادسة
: التابعة لمفرد ، وهى ثلاثة أنواع :
أحدها :
المنعوت بها ؛ فهى فى موضع رفع فى نحو (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) ونصب فى نحو (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ) وجر فى نحو (رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ومن مثل المنصوبة المحل (رَبَّنا أَنْزِلْ
عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ) الآية ؛ فجملة (تَكُونُ لَنا عِيداً) صفة لمائدة ، وجملة (تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ) صفة لصدقة ، ويحتمل أن الأولى حال من ضمير مائدة
المستتر فى (مِنَ السَّماءِ) على تقديره صفة لها لا متعلقا بأنزل ، أو من (مائِدَةً) على هذا التقدير ؛ لأنها قد وصفت ، وأن الثانية حال من
ضمير (خُذْ) ونحو (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) أى وليا وارثا ، وذلك فيمن رفع (يَرِثُ) وأما من جزمه فهو جواب للدعاء ، ومثل ذلك (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً
يُصَدِّقُنِي) قرىء برفع يصدق وجزمه.
والثانى :
المعطوفة بالحرف نحو «زيد منطلق وأبوه ذاهب» إن قدرت الواو عاطفة على الخبر ؛ فلو
قدرت العطف على الجملة فلا موضع لها ، أو قدرت الواو واو الحال فلا تبعية والمحل
نصب.
وقال أبو
البقاء فى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)
: الأصل فهى تصبح
، والضمير للقصة ، و (تصبح) خبره ، أو (تصيح) بمعنى أصبحت ، وهو معطوف على (أَنْزَلَ) فلا محل له إذا ، اه.
وفيه إشكالان :
أحدهما أنه لا محوج فى الظاهر لتقدير ضمير القصة ، والثانى تقديره الفعل المعطوف
على الفعل المخبر به لا محل له.
وجواب الأول
أنه قد يكون قدّر الكلام مستأنفا ، والنحويون يقدرون فى مثل ذلك مبتدأ كما قالوا
فى «وتشرب اللّبن» فيمن رفع : إن التقدير : وأنت تشرب اللبن ، وذلك إما لقصدهم
إيضاح الاستئناف ، أو لأنه لا يستأنف إلا على هذا التقدير ، وإلا لزم العطف الذى
هو مقتضى الظاهر.
وجواب الثانى
أن الفاء نزّلت الجملتين منزلة الجملة الواحدة ، ولهذا اكتفى فيهما بضمير واحد ،
وحينئذ فالخبر مجموعهما كما فى جملتى الشرط والجزاء الواقعتين خبرا ، والمحل لذلك
المجموع ، وأما كل منهما فجزء الخبر ؛ فلا محل له ، فافهمه فإنه بديع.
ويجب على هذا
أن يدعى أن الفاء فى ذلك وفى نظائره من نحو «زيد يطير الذّباب فيغضب» قد أخلصت
لمعنى السببية ، وأخرجت عن العطف ، كما أن الفاء كذلك فى جواب الشرط ، وفى نحو «أحسن
إليك فلان فأحسن إليه» ويكون ذكر أبى البقاء للعطف تجوزا أو سهوا.
ومما يلحق بهذا
البحث أنه إذا قيل : «قال زيد عبد الله منطلق وعمرو مقيم» فليست الجملة الأولى فى
محل نصب والثانية تابعة لها ، بل الجملتان معا فى موضع نصب ، ولا محل لواحدة منهما
؛ لأن المقول مجموعهما ، وكل منهما جزء للمقول ، كما أن جزأى الجملة الواحدة لا
محل لواحد منهما باعتبار القول ، فتأمله.
الثالث :
المبدلة كقوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ
إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) فإنّ وما عملت فيه بدل من ما وصلتها ، وجاز إسناد يقال
إلى الجملة كما جاز فى (وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) هذا كله إن كان المعنى ما يقول الله لك إلا ما قد قيل ،
فأما إن كان المعنى ما يقول لك كفار قومك من الكلمات المؤذية إلا مثل ما قد قال
الكفار الماضون لأنبيائهم ، وهو الوجه الذى بدأ به الزمخشرى ، فالجملة استئناف.
ومن ذلك (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) ثم قال الله تعالى : (هَلْ هذا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) قال الزمخشرى : هذا فى موضع نصب بدلا من النجوى ،
ويحتمل التفسير : وقال ابن جنى فى قوله :
إلى الله
أشكو بالمدينة حاجة
|
|
وبالشّام
أخرى كيف ينتقيان؟ [٣٣٩]
|
جملة الاستفهام
بدل من حاجة وأخرى ، أى إلى الله أشكو حاجتىّ تعذّر التقائهما
الجملة السابعة
: التابعة لجملة لها محل ، ويقع ذلك فى بابى النّسق والبدل خاصة فالأول نحو «زيد
قام أبوه وقعد أخوه» إذا لم تقدر الواو للحال ، ولا قدرت العطف على الجملة الكبرى.
والثانى شرطه
كون الثانية أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد ، نحو (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فإن دلالة الثانية على نعم الله مفصلة ، بخلاف الأولى ،
وقوله :
٦٧١ ـ أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا
|
|
[وإلا فكن فى السّرّ والجهر مسلما] [ص ٤٥٦]
|
فإن دلالة
الثانية على ما أراده من إظهار الكراهية لإقامته بالمطابقة ، بخلاف الأولى.
قيل : ومن ذلك
قوله :
٦٧٢ ـ ذكرتك والخطّىّ يخطر بيننا
|
|
وقد نهلت
منّا المثقّفة السّمر
|
فإنه أبدل «وقد
نهلت» من قوله «والخطى يخطر بيننا» بدل اشتمال ، اه.
وليس متعينا ؛
لجواز كونه من باب النسق ، على أن تقدر الواو للعطف ، ويجوز أن تقدر واو الحال ،
وتكون الجملة حالا ، إما من فاعل ذكرتك على المذهب
__________________
الصحيح فى جواز ترادف الأحوال ، وإما من فاعل يخطر فتكون الحالان متداخلتين
، والرابط على هذا الواو ، وإعادة صاحب الحال بمعناه ، فإن المثقفة السّمر هى
الرماح.
ومن غريب هذا
الباب قولك «قلت لهم قوموا أولكم وآخركم» زعم ابن مالك أن التقدير : ليقم أولكم
وآخركم ، وأنه من باب بدل الجملة من الجملة لا المفرد من المفرد ، كما قال فى
العطف فى نحو (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) و (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) و (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).
تنبيه ـ هذا
الذى ذكرته ـ من انحصار الجمل التى لها محل فى سبع ـ جار على ما قرّروا ، والحق
أنها تسع ، والذى أهملوه : الجملة المستثناة ، والجملة المسند إليها.
أما الأولى
فنحو (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) قال ابن خروف : من مبتدأ ، ويعذبه الله الخبر ، والجملة
فى موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وقال الفراء فى قراءة بعضهم (فشربوا منه إلا
قليل منهم) : إن (قليل) مبتدأ حذف خبره أى لم يشربوا ، وقال جماعة فى (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالرفع : إنه مبتدأ والجملة بعده خبر ، وليس من ذلك نحو
«ما مررت بأحد إلّا زيد خبر منه» لأن الجملة هنا حال من أحد باتفاق ، أو صفة له
عند الأخفش ، وكل منهما قد مضى ذكره ، وكذلك الجملة فى (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ) فإنها حال ، وفى نحو «ما علمت زيدا إلا يفعل الخير»
فإنها مفعول ، وكل ذلك قد ذكر.
وأما الثانية
فنحو (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) الآية إذا أعرب سواء خبرا ، وأنذرتهم مبتدأ ، ونحو «تسمع
بالمعيدىّ خير من أن تراه» إذا لم تقدر الأصل أن تسمع ، بل يقدر تسمع قائما مقام
السماع كما أن الجملة بعد الظرف فى نحو (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ) وفى نحو (أَأَنْذَرْتَهُمْ) فى تأويل المصدر ، وإن لم يكن معها حرف سابك
__________________
واختلف فى
الفاعل ونائبه هل يكونان جملة أم لا ؛ فالمشهور المنع مطلقا ، وأجازه هشام وثعلب
مطلقا نحو «يعجبنى قام زيد» وفصّل الفراء وجماعة ونسبوه لسيبويه فقالوا : إن كان
الفعل قلبيا ووجد معلّق عن العمل نحو «ظهر لى أقام زيد» صح ، وإلا فلا ، وحملوا
عليه (ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ومنعوا «يعجبنى يقوم زيد» وأجازهما هشام وثعلب ، واحتجا
بقوله :
٦٧٣ ـ وما راعنى إلّا يسير بشرطة
|
|
[وعهدى به قينا يسير بكير]
|
ومنع الأكثرون
ذلك كله ، وأولوا ما ورد مما يوهمه ، فقالوا : فى بدا ضمير البداء ، وتسمع ويسير
على إضمار أن.
وأما قوله
تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) وقوله عليه الصلاة والسّلام «لا حول ولا قوة إلّا بالله
كنز من كنوز الجنة» وقول العرب «زعموا مطية الكذب» فليس من باب الإسناد إلى الجملة
؛ لما بينا فى غير هذا الموضع.
حكم الجمل بعد المعارف وبعد النكرات
يقول المعربون
على سبيل التقريب : الجمل بعد النكرات صفات ، وبعد المعارف أحوال.
وشرح المسألة
مستوفاة أن يقال : الجمل الخبرية التى لم يستلزمها ما قبلها : إن كانت مرتبطة
بنكرة محضة فهى صفة لها ، أو بمعرفة محضة فهى حال عنها ، أو بغير المحضة منهما فهى
محتملة لهما ، وكل ذلك بشرط وجود المقتضى وانتفاء المانع.
مثال النوع
الأول ـ وهو الواقع صفة لا غير لوقوعه بعد النكرات المحضة ـ قوله تعالى (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً
نَقْرَؤُهُ) (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ) ومنه (حَتَّى إِذا أَتَيا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) وإنما أعيد ذكر الأهل لأنه لو قيل استطعماهم مع أن
المراد وصف القرية لزم
خلو الصفة من ضمير الموصوف ، ولو قيل استطعماها كان مجازا ، ولهذا كان هذا
الوجه أولى من أن تقدر الجملة جوابا لإذا ؛ لأن تكرار الظاهر يعرى حينئذ عن هذا
المعنى ، وأيضا فلأنّ الجواب فى قصة الغلام (قالَ أَقَتَلْتَ) لا قوله (فقتله) لأن الماضى المقرون بقد لا يكون جوابا
؛ فليكن (قالَ) فى هذه الآية أيضا جوابا.
ومثال النوع
الثانى ـ وهو الواقع حالا لا غير لوقوعه بعد المعارف المحضة ـ (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكارى).
ومثال النوع
النوع الثالث ـ وهو المحتمل لهما بعد النكرة ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ
أَنْزَلْناهُ) فلك أن تقدر الجملة صفة للنكرة وهو الظاهر ، ولك أن
تقدرها حالا منها لأنها قد تخصصت بالوصف وذلك يقربها من المعرفة ، حتى إن أبا
الحسن أجاز وصفها بالمعرفة فقال فى قوله تعالى (فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) إن الأوليان صفة لآخران لوصفه بيقومان ، ولك أن تقدرها
حالا من المعرفة وهو الضمير فى (مُبارَكٌ) إلا أنه قد يضعف من حيث المعنى وجها الحال ؛ أما الأول
فلأن الإشارة إليه لم تقع فى حالة الإنزال كما وقعت الإشارة إلى البعل فى حالة
الشيخوخة فى (وَهذا بَعْلِي
شَيْخاً) وأما الثانى فلاقتضائه تقييد البركة بحالة الإنزال ،
وتقول «ما فيها أحد يقرأ» فيجوز الوجهان أيضا ؛ لزوال الإبهام عن النكرة بعمومها .
ومثال النوع
الرابع ـ وهو المحتمل لهما بعد المعرفة ـ (كَمَثَلِ الْحِمارِ
يَحْمِلُ أَسْفاراً) فإن المعرف الجنسى يقرب فى المعنى من النكرة ؛ فيصح
تقدير (يَحْمِلُ) حالا أو وصفا ومثله (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) وقوله :
*ولقد أمرّ على اللئيم يسبّنى* [١٤٢]
وقد اشتمل
الضابط المذكور على قيود :
أحدها : كون
الجملة خبرية ، واحترزت بذلك من نحو «هذا عبد بعتكه»
__________________
تريد بالجملة الإنشاء ، و «هذا عبدى بعتكه» كذلك ؛ فإن الجملتين مستأنفتان
، لأن الإنشاء لا يكون نعتا ولا حالا ، ويجوز أن يكونا خبرين آخرين إلا عند من منع
تعدد الخبر مطلقا ، وهو اختيار ابن عصفور ، وعند من منع تعدده مختلفا بالإفراد
والجملة ، وهو أبو على ، وعند من منع وقوع الإنشاء خبرا ، وهم طائفة من الكوفيين.
ومن الجمل ما
يحتمل الإنشائية والخبرية فيختلف الحكم باختلاف التقدير ، وله أمثلة :
منها : قوله
تعالى (قالَ رَجُلانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) فإن جملة (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) تحتمل الدّعاء فتكون معترضة ، والإخبار فتكون صفة ثانية
، ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا ، ولا يضعف فى الصناعة لوصفها بالظرف.
ومنها : قوله
تعالى (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فذهب الجمهور إلى أن (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة خبرية ، ثم اختلفوا فقال جماعة منهم الأخفش : هى
حال من فاعل جاء على إضمار قد ، ويؤيده قراءة الحسن (حصرة صدورهم) وقال آخرون : هى
صفة ؛ لئلا يحتاج إلى إضمار قد ، ثم اختلفوا فقيل : الموصوف منصوب محذوف ، أى قوما
حصرت صدورهم ، ورأوا أن إضمار الاسم أسهل من إضمار حرف المعنى ، وقيل : مخفوض
مذكور وهم قوم المتقدم ذكرهم ؛ فلا إضمار البتة ، وما بينهما اعتراض ، ويؤيده أنه
قرىء بإسقاط (أَوْ) وعلى ذلك فيكون (جاؤُكُمْ) صفة لقوم ، ويكون (حَصِرَتْ) صفة ثانية ، وقيل : بدل اشتمال من (جاؤُكُمْ) لأن المجىء مشتمل على الحصر ، وفيه بعد ، لأن الحصر من
صفة الجائين ، وقال أبو العباس المبرد : الجملة إنشائية معناها الدعاء ، مثل (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) فهى مستأنفة ، ورد بأن الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن
قتال قومهم لا يتجه.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)
فإنه يجوز أن تقدر لا ناهية ونافية ، وعلى الأول فهى مقولة القول محذوف هو
الصفة ، أى فتنة مقولا فيها ذلك ، ويرجحه أن توكيد الفعل بالنون بعد لا الناهية
قياس نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً) وعلى الثانى فهى صفة لفتنة ، ويرجحه سلامته من تقدير.
القيد الثانى :
صلاحيتها للاستغناء عنها ، وخرج بذلك جملة الصلة ، وجملة الخبر ، والجملة المحكية
بالقول ، فإنها لا يستغنى عنها ، بمعنى أن معقولية القول متوقفة عليها وأشباه ذلك.
القيد الثالث :
وجود المقتضى ، واحترزت بذلك عن نحو (فَعَلُوهُ) من قوله تعالى (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) فإنه صفة لكل أو لشىء ، ولا يصح أن يكون حالا من كل مع
جواز الوجهين فى نحو «أكوم كل رجل جاءك» لعدم ما يعمل فى الحال ، ولا يكون خبرا ،
لأنهم لم يفعلوا كل شىء ، ونظيره قوله تعالى (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ) يتعين كون (سَبَقَ) صفة ثانية ، لا حالا من الكتاب ، لأن الابتداء لا يعمل
فى الحال ، ولا من الضمير المستتر فى الخبر المحذوف ، لأن أبا الحسن حكى أن الحال
لا يذكر بعد لو لا كما لا يذكر الخبر ، ولا يكون خبرا ، لما أشرنا إليه ، ولا ينقض
الأول بقوله «لو لا رأسك مدهونا» ولا الثانى بقول الزبير رضى الله عنه :
٦٧٤ ـ ولو لا بنوها حولها لخبطتها
|
|
[كخبطة عصفور ولم أتلعثم]
|
لندورهما ،
وأما قول ابن الشجرى فى (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ)
: إن عليكم خبر ،
فمردود ، بل هو متعلق بالمبتدأ ، والخبر محذوف.
القيد الرابع :
انتفاء المانع ، والمانع أربعة أنواع ، أحدها : ما يمنع حالية كانت متعينة لو لا
وجوده ، ويتعين حينئذ الاستئناف نحو «زارنى زيد سأكافئه» أو
«لن أنسى له ذلك» فإن الجملة بعد المعرفة المحضة حال ، ولكن السين ولن
مانعان ، لأن الحالية لا تصدّر بدليل استقبال ، وأما قول بعضهم فى (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي
سَيَهْدِينِ) : إن (سَيَهْدِينِ) حال كما تقول «سأذهب مهديا» فسهو. والثانى : ما يمنع
وصفية كانت متعينة لو لا وجود المانع ، ويمتنع فيه الاستئناف ، لأن المعنى على
تقييد المتقدم ، فتتعين الحالية بعد أن كانت ممتنعة ، وذلك نحو (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ
وَهِيَ خاوِيَةٌ) وقوله :
٦٧٥ ـ مضى زمن والنّاس يستشفعون بى
|
|
[فهل لى إلى ليلى الغداة شفيع]
|
والمعارض فيهن
الواو ، فإنها لا تعترض بين الموصوف وصفته ، خلافا للزمخشرى ومن وافقه. والثالث :
ما يمنعهما معا ، نحو (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ) وقد مضى البحث فيها ، والرابع : ما يمنع أحدهما دون
الآخر ولو لا المانع لكانا جائزين ، وذلك نحو «ما جاءنى أحد إلا قال خيرا» فإن
جملة القول كانت قبل وجود إلا محتمله للوصفية والحالية ، ولما جاءت إلا امتنعت
الوصفية. ومثله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) وأما (وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) فللوصفية مانعان الواو وإلا ، ولم ير الزمخشرى وأبو
البقاء واحدا منهما مانعا ، وكلام النحويين بخلاف ذلك ، وقال الأخفش : لا تفصل إلا
بين الموصوف وصفته ، فإن قلت «ما جاءنى رجل إلا راكب» فالتقدير إلا رجل راكب ،
يعنى أن راكبا صفة لبدل محذوف ، قال وفيه قبح ، لجعلك الصفة كالاسم ، يعنى فى
إيلائك إياها العامل ، وقال الفارسى : لا يجوز «ما مررت بأحد إلا قائم» فإن قلت «إلا
قائما» جاز ، ومثل ذلك قوله :
٦٧٦ ـ وقائله تخشى علىّ : أظنّه
|
|
سيودى به
ترحاله وجعائله
|
__________________
فإن جملة «تخشى
علىّ» حال من الضمير فى قائلة ، ولا يجوز أن يكون صفة لها ؛ لأن اسم الفاعل لا
يوصف قبل العمل ، والله أعلم.
الباب الثالث من الكتاب
فى ذكر أحكام ما يشبه الجملة ، وهو الظرف والجار والمجرور.
ذكر حكمها فى التعلق
لا بدّ من
تعلقهما بالفعل ، أو ما يشبهه ، أو ما أوّل بما يشبهه ، أو ما يشير إلى معناه ؛
فإن لم يكن شىء من هذه الأربعة موجودا قدّر ، كما سيأتى.
وزعم الكوفيون
وابنا طاهر وخروف أنه لا تقدير فى نحو «زيد عندك» وعمرو فى الدار» ثم اختلفوا ؛
فقال ابنا طاهر وخروف : الناصب المبتدأ ، وزعما أنه يرفع الخبر إذا كان عينه نحو «زيد
أخوك» وينصبه إذا كان غيره ، وأن ذلك مذهب سيبويه ، وقال الكوفيون : الناصب أمر
معنوى ، وهو كونهما مخالفين للمبتدأ.
ولا معوّل على
هذين المذهبين.
مثال التعلق بالفعل
وما يشبهه قوله تعالى (أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وقول ابن دريد :
٦٧٧ ـ واشتعل المبيضّ فى مسودّه
|
|
مثل اشتعال
النار فى جزل الغضا [ص ٦٥٢]
|
وقد تقدر «فى»
الأولى متعلقة بالمبيض ؛ فيكون تعلق الجارين بالاسم ، ولكن تعلق الثانى بالاشتعال
يرجح تعلق الأول بفعله ؛ لأنه أتم لمعنى التشبيه ، وقد يجوز تعلق «فى» الثانية
بكون محذوف حالا من النار ، ويبعده أن الأصل عدم الحذف.
__________________
ومثال التعلق
بما أول بمشبه الفعل قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أى وهو الذى هو إله فى السماء ؛ ففى متعلقة بإله ، وهو
اسم غير صفة ، بدليل أنه يوصف فتقول «إله واحد» ولا يوصف به لا يقال «شىء إله»
وإنما صح التعلق به لتأوله بمعبود ، وإله خبر لهو محذوفا ، ولا يجوز تقدير إله
مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو فاعلا بالظرف ؛ لأن الصلة حينئذ خالية من العائد ، ولا
يحسن تقدير الظرف صلة وإله بدلا من الضمير المستتر فيه ، وتقدير (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) معطوفا كذلك ، لتضمنه الإبدال من ضمير العائد مرتين ،
وفيه بعد ، حتى قيل بامتناعه ، ولأن الحمل على الوجه البعيد ينبغى أن يكون سببه
التخلص به من محذور ، فأما أن يكون هو موقعا فيما يحتاج إلى تأويلين فلا ، ولا يجوز على هذا الوجه أن يكون (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) مبتدأ وخبرا ، لئلا يلزم فساد المعنى إن استؤنف ، وخلو
الصلة من عائد إن عطف.
ومن ذلك أيضا
قوله :
٦٧٨ ـ وإنّ لسانى شهدة يشتفى بها
|
|
وهوّ على من
صبّه الله علقم
|
أصله «علقم
عليه» فعلى المحذوفة متعلقة بصبه ، والمذكورة متعلقة بعلقم ، لتأوله بصعب ، أو شاق
، أو شديد. ومن هنا كان الحذف شاذا ، لاختلاف متعلقى جار الموصول وجار العائد.
ومثال التعلق
بما فيه رائحته قوله :
٦٧٩ ـ *أنا أبو المنهال بعض الأحيان* [ص ٥١٤]
وقوله :
٦٨٠ ـ أنا ابن ماويّة إذ جدّ النّقر
|
|
[وجاءت الخيل أثافىّ زمر]
|
فتعلق بعض وإذ
بالاسمين العلمين ، لا لتأولهما باسم يشبه الفعل ، بل لما فيهما من
__________________
معنى قولك الشجاع أو الجواد. وتقول «فلان حاتم فى قومه» فتعلق الظرف بما فى
حاتم من معنى الجود ، ومن هنا ردّ على الكسائى فى استدلاله على إعمال
اسم الفاعل المصغر بقول بعضهم «أظننى مرتحلا وسويّرا فرسخا» وعلى سيبويه فى
استدلاله على إعمال فعيل بقوله :
٦٨١ ـ حتّى شآها كليل موهنا عمل
|
|
[باتت طرابا وبات اللّيل لم ينم]
|
وذلك أن «فرسخا»
ظرف مكان و «موهنا» ظرف زمان ، والظرف يعمل فيه روائح الفعل ، بخلاف المفعول به ،
ويوضح كون الموهن ليس مفعولا به أن كليلا من كلّ ، وفعله لا يعدّى ، واعتذر عن
سيبويه بأن كليلا بمعنى مكل ، وكأن البرق يكلّ الوقت بدوامه فيه ، كما يقال «أتعبت
يومك» أو بأنه إنما استشهد به على أن فاعلا يعدل إلى فعيل للمبالغة ، ولم يستدل به
على الإعمال ، وهذا أقرب ، فإن فى الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على
الحقيقة ، وقال ابن مالك فى قول الشاعر :
*ونعم من هو فى سرّ وإعلان* [٥٣٥]
يجوز كون من
موصولة فاعلة بنعم ، وهو : مبتدأ خبره هو أخرى مقدرة ، وفى : متعلقة بالمقدرة ،
لأن فيها معنى الفعل ، أى الذى هو مشهور ، انتهى : والأولى أن يكون المعنى الذى هو
ملازم لحالة واحدة فى سر وإعلان ، وقدّر أبو على من هذه تمييزا ، والفاعل مستتر ،
وقد أجيز فى قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تعلقه باسم الله تعالى وإن كان علما ، على معنى وهو
المعبود ، وهو المسمى بهذا الاسم ، وأجيز تعلقه بيعلم ، وبسركم وجهركم ، وبخبر
محذوف قدره الزمخشرى بعالم ، ورد الثانى بأن فيه تقديم معمول المصدر وتنازع عاملين
فى متقدم ، وليس بشى ، لأن المصدر هنا ليس مقدرا بحرف مصدرى وصلته ، ولأنه قد جاء
نحو (بِالْمُؤْمِنِينَ
__________________
لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ) والظرف متعلق بأحد الوصفين قطعا ، فكذا هنا ، وردّ أبو
حيان الثالث بأن «فى» لا تدل على عالم ونحوه من الأكوان الخاصة ، وكذا ردّ على
تقديرهم (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ) مستقبلات لعدتهن ، وليس بشىء ، لأن الدليل ما جرى فى
الكلام من ذكر العلم ، فإن بعده (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ) وليس الدليل حرف الجر ، ويقال له : إذا كنت تجيز الحذف
للدليل المعنوى مع عدم ما يسد مسده فكيف تمنعه مع وجود ما يسد؟ وإنما اشترطوا
الكون المطلق لوجوب الحذف ، لا لجوازه.
ومثال التعلق
بالمحذوف (وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً) بتقدير وأرسلنا ولم يتقدم ذكر الإرسال ، ولكن ذكر النبى
والمرسل إليهم يدل على ذلك ، ومثله (فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ) ففى وإلى متعلقان باذهب محذوفا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أى وأحسنوا بالوالدين إحسانا مثل (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أو وصيناهم بالوالدين إحسانا مثل (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حُسْناً) ومنه باء البسملة.
هل يتعلقان بالفعل الناقص؟
من زعم أنه لا
يدلّ على الحدث منع من ذلك ، وهم المبرد فالفارسى فابن جنى فالجرجانى فابن برهان
ثم الشلوبين ، والصحيح أنها كلها دالة عليه إلا ليس.
واستدل لمثبتى
ذلك التعلق بقوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) فإن اللام لا تتعلق بعجبا ؛ لأنه مصدر مؤخر ، ولا
بأوحينا لفساد المعنى ، ولأنه صلة لأن ، وقد مضى عن قريب أن المصدر الذى ليس فى
تقدير حرف موصول ولا صلته لا يمتنع التقديم عليه ، ويجوز أيضا أن تكون متعلقة
بمحذوف هو حال من عجبا على حد قوله :
لميّة موحشا
طلل
|
|
[يلوح كأنّه خلل] [١٢٥]
|
هل يتعلقان بالفعل الجامد؟
زعم الفارسى فى
قوله :
ونعم مزكأ من
ضاقت مذاهبه
|
|
ونعم من هو
فى سرّ وإعلان [٥٣٥]
|
أن من نكرة
تامة تمييز لفاعل نعم مستترا ، كما قال هو وطائفة فى «ما» من نحو (فَنِعِمَّا هِيَ) إن الظرف متعلق بنعم ، وزعم ابن مالك أنها موصولة فاعل
، وأن هو مبتدأ خبره هو أخرى مقدرة على حد *شعرى شعرى* [٥٣٦] وإن الظرف متعلق بهو
المحذوفة لتضمنها معنى الفعل ، أى ونعم الذى هو باق على وده فى سره وإعلانه ، وإن
المخصوص محذوف ، أى بشر بن مروان ، وعندى أن يقدر المخصوص هو ؛ لتقدم ذكر بشر فى
البيت قبله ، وهو :
٦٨٢ ـ وكيف أرهب أمرا أو أراع به
|
|
وقد زكأت إلى
بشر بن مروان؟
|
فيبقى التقدير
حينئذ هو هو هو.
هل يتعلقان بأحرف المعانى؟
المشهور منع
ذلك مطلقا ، وقيل بجوازه مطلقا ، وفصّل بعضهم فقال : إن كان نائبا عن فعل حذف جاز
ذلك على طريق النّيابة لا الأصالة ، وإلا فلا ، وهو قول أبى على وأبى
الفتح ، زعما فى نحو «يا لزيد» أن اللام متعلقة بيا ، بل قالا فى «يا عبد الله» إن
النصب ييا ، وهو نظير قولهما فى قوله :
*أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر* [٤٤]
إن «ما»
الزائدة هى الرافعة الناصبة ، لا كان المحذوفة.
__________________
وأما الذين
قالوا بالجواز مطلقا فقال بعضهم فى قول كعب بن زهير رضى الله تعالى عنه :
٦٨٣ ـ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
|
|
إلّا أغنّ
غضيض الطّرف مكحول
|
غداة البين :
ظرف للنفى ، أى انتفى كونها فى هذا الوقت إلا كأغنّ.
وقال ابن
الحاجب فى (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) إذ بدل من اليوم ، واليوم إما ظرف للنفع المنفى ، وإما
لما فى لن من معنى النفى ، أى انتفى فى هذا اليوم النفع ، فالمنفى نفع مطلق ، وعلى
الأول نفع مقيد باليوم. وقال أيضا : إذا قلت «ما ضربته للتأديب» فإن قصدت نفى ضرب
معلل بالتأديب فاللام متعلقة بالفعل ، والمنفى ضرب مخصوص ، وللتأديب : تعليل للضرب
المنفى ، وإن قصدت نفى الضرب كل حال فاللام متعلقة بالنفى والتعليل له ، أى أن
انتفاء الضرب كان لأجل التأديب ؛ لأنه قد يؤدّب بعض الناس بترك الضرب ، ومثله فى
التعلق بحرف النفى «ما أكرمت المسىء لتأديبه ، وما أهنت المحسن لمكافأته» ، إذ لو
علق هذا بالفعل فسد المعنى المراد ، ومن ذلك قوله تعالى (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ) الباء متعلقة بالنفى ، إذ لو علقت بمجنون لأفاد نفى
جنون خاص ، وهو الجنون الذى يكون من نعمة الله تعالى ، وليس فى الوجود جنون هو
نعمة ، ولا المراد نفى جنون خاص ، اه ملخصا.
وهو كلام بديع
، إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلق بالحرف ، فينبغى على قولهم أن
يقدر أن التعلق بفعل دل عليه النافى ، أى انتفى ذلك بنعمة ربك.
وقد ذكرت فى
شرحى لقصيدة كعب رضى الله تعالى عنه أن المختار تعلق الظرف بمعنى التشبيه الذى
تضمنه البيت ، وذلك على أن الأصل : وما كسعاد إلا ظبى أغنّ ، على التشبيه المعكوس
للمبالغة ، لئلا يكون الظرف متقدما فى التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التشبيه ،
وهذا الوجه هو اختيار ابن عمرون ، وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل فى الحال فى نحو
قوله :
كأنّ قلوب
الطّير رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العنّاب والحشف البالى [٣٦٥]
|
مع أن الحال
شبيهة بالمفعول به ، فعمله فى الظرف أجدر.
فإن قلت : لا
يلزم من صحة إعمال المذكور [صحة] إعمال المقدر ، لأنه أضعف.
قلت : قد قالوا
«زيد زهير شعرا وخاتم جودا» وقيل فى المنصوب فيهما : إنه حال أو تمييز ، وهو
الظاهر ، وأيا كان فالحجة قائمة [به] ، وقد جاء أبلغ من ذلك ، وهو إعماله فى
الحالين ، وذلك فى قوله :
٦٨٤ ـ تعيّرنا أنّنا عالة
|
|
ونحن صعاليك
أنتم ملوكا
|
إذ المعنى
تعيرنا أننا فقراء ، ونحن فى حال صعلكتنا مثلكم فى حال ملككم.
فإن قلت : قد
أوجبت فى بيت كعب بن زهير رضى الله عنه أن يكون من عكس التشبيه لئلا يتقدم الحال
على عاملها المعنوى ، فما الذى سوّغ تقدم صعاليك هنا عليه؟
قلت : سوّغه
الذى سوغ تقدم بسرا فى «هذا بسرا أطيب منه رطبا» وإن كان معمول اسم التفضيل لا
يتقدم عليه فى نحو «لهوأ كفؤهم ناصرا» وهو خشية اختلاط المعنى ، إلا أن هذا مطّرد
ثمّ لقوة التفضيل. ونادر هنا لضعف حرف التشبيه.
وهذا الذى
ذكرته فى البيت أجود ما قيل فيه ، وفيه قولان آخران ، أحدهما : ذكره السخاوى فى
كتابه سفر السعادة ، وهو أن عالة من «عالنى الشىء» إذا أثقلنى ، و «ملوكا» مفعول :
أى أننا نثقل الملوك بطرح كلّنا عليهم ، ونحن أنتم أى مثلكم فى هذا الأمر ،
فالإخبار هنا مثله فى (وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) والثانى قاله الحريرى وقد سئل عن البيت ، وهو أن
التقدير : إناعالة صعاليك نحن وأنتم ، وقد خطىء فى ذلك ، وقيل : إنه كلام لا معنى
له ، وليس كذلك ، بل هو متجه على
بعد فيه ، وهو أن يكون صعاليك مفعول عالة ؛ أى إنا نعول صعاليك ، ويكون نحن
توكيدا لضمير عالة ، وأنتم توكيد لضمير مستتر فى صعاليك ، وحصل فى البيت تقديم
وتأخير للضرورة ، ولم يتعرض لقوله «ملوكا» وكأنه عنده حال من ضمير عالة ، والأولى
على قوله أن يكون صعاليك حالا من محذوف ، أى نعولكم صعاليك ويكون الحالان
بمنزلتهما فى «لقيته مصعدا منحدرا» فإنهم نصوا على أنه يكون الأول للثانى والثانى
للأول ؛ لأن فصلا أسهل من فصلين ، ويكون أنتم توكيدا للمحذوف ؛ لا لضمير صعاليك
لأنه ضمير غيبة ، وإنما جوزناه أولا لأن الصعاليك هم المخاطبون ، فيحتمل كونه راعى
المعنى.
ذكر ما لا يتعلق من حروف الجر
يستثنى من
قولنا «لا بد لحرف الجر من متعلق» ستة أمور :
أحدها : الحرف
الزائد كالباء ومن فى (كَفى بِاللهِ
شَهِيداً) (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وذلك لأن معنى التعلق الارتباط المعنوى ، والأصل أن
أفعالا قصرت عن الوصول إلى الأسماء فأعينت على ذلك بحروف الجر ، والزائد إنما دخل
فى الكلام تقوية له وتوكيدا ، ولم يدخل للربط.
وقول الحوفى إن
الباء فى (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) متعلقة وهم ، نعم يصح فى اللام المقوية أن يقال إنها
متعلقة بالعامل المقوّى نحو (مُصَدِّقاً لِما
مَعَهُمْ) و (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) و (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) لأن التحقيق أنها ليست زائدة محضة ، بل لما تخيل فى
العامل من الضعف الذى نزله منزلة القاصر ، ولا معدية محضة لاطراد صحة إسقاطها ؛
فلها منزلة بين المنزلتين.
الثانى : لعلّ
فى لغة عقيل ؛ لأنها بمنزلة الحرف الزائد ، ألا ترى أن مجرورها فى موضع رفع على
الابتداء ، بدليل ارتفاع ما بعده على الخيرية ، قال :
*لعلّ أبى المغوار منك قريب* [٤٧٠]
ولأنها لم تدخل
لتوصيل عامل ، بل لإفادة معنى التوقّع ، كما دخلت «ليت» لإفادة معنى التمنى ، ثم
إنهم جروا بها منبهة على أن الأصل فى الحروف المختصة بالاسم أن تعمل الإعراب
المختص به كحروف الجر.
الثالث : لو لا
فيمن قال «لولاى ، ولولاك ، ولولاه» على قول سيبويه : إن لو لا جارة للضمير ؛
فإنها أيضا بمنزلة لعل فى أن ما بعدها مرفوع المحلّ بالابتداء ؛ فإن لو لا
الامتناعية تستدعى جملتين كسائر أدوات التعليق. وزعم أبو الحسن أن لو لا غير جارة
، وأن الضمير بعدها مرفوع ، ولكنهم استعاروا ضمير الجر مكان ضمير الرفع ، كما
عكسوا فى قولهم «ما أنا كأنت» وهذا كقوله فى «عساى» ويردّهما أن نيابة ضمير عن
ضمير يخالفه فى الإعراب إنما تثبت [فى الكلام] فى المنفصل ، وإنما جاءت النيابة فى
المتصل بثلاثة شروط : كون المنوب عنه منفصلا ، وتوافقهما فى الإعراب ، وكون ذلك فى
الضرورة ، كقوله :
٦٨٥ ـ [وما نبالى إذا ما كنت جارتنا]
|
|
أن لا
يجاورنا إلّاك ديّار
|
وعليه خرّج أبو
الفتح قوله :
٦٨٦ ـ نحن بفرس الودىّ أعلمنا
|
|
منّا بركض الجياد
فى السّدف
|
فادعى أن «نا»
مرفوع مؤكّد للضمير فى أعلم ، وهو نائب عن نحن ؛ ليتخلّص بذلك من الجمع بين إضافة
أفعل وكونه بمن ، وهذا البيت أشكل على أبى على حتى جعله من تخليط الأعراب.
والرابع : ربّ
فى نحو «ربّ رجل صالح لقيته ، أو لقيت» ؛ لأن مجرورها
مفعول فى الثانى ، ومبتدأ فى الأول ، أو مفعول على حد «زيدا ضربته» ويقدر
الناصب بعد المجرور لا قبل الجار ؛ لأن ربّ لها الصّدر من بين حروف الجر ، وإنما
دخلت فى المثالين لإفادة التكثير أو التقليل ، لا لتعدية عامل. هذا قول الرمانى
وابن طاهر. وقال الجمهور : هى فيهما حرف جر معد ، فإن قالوا إنها عدّت العامل
المذكور فخطأ ؛ لأنه يتعدى بنفسه ، ولاستيفائه معموله فى المثال الأول ، وإن قالوا
عدّت محذوفا تقديره حصل أو نحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير لما معنى الكلام
مستغن عنه ولم يلفظ به فى وقت.
الخامس : كاف
التشبيه ، قاله الأخفش وابن عصفور ، مستدلين بأنه إذا قيل «زيد كعمرو» فإن كان
المتعلق استقر فالكاف لا تدل عليه ، بخلاف نحو فى من «زيد فى الدار» وإن كان فعلا
مناسبا للكاف ـ وهو أشبه ـ فهو متعد بنفسه لا بالحرف.
والحق أن جميع
الحروف الجارة الواقعة فى موضع الخبر ونحوه تدل على الاستقرار.
السادس : حرف
الاستثناء ، وهو خلا وعدا وحاشا ، إذا خفضن ؛ فإنهن لتنحية الفعل عما دخلن عليه ،
كما أن إلّا كذلك ، وذلك عكس معنى التعدية الذى هو إيصال معنى الفعل إلى الاسم ،
ولو صح أن يقال إنها متعلقة لصح ذلك فى إلا ، وإنما خفض بهن المستثنى ولم ينصب كالمستثنى
بإلا لئلا يزول الفرق بينهن أفعالا وأحرفا.
حكمهما بعد المعارف والنكرات
حكمهما بعدهما
حكم الجمل ؛ فهما صفتان فى نحو «رأيت طائرا فوق غصن ،
أو على غصن» ؛ لأنهما بعد نكرة محضة ، وحالان فى نحو «رأيت الهلال بين
السّحاب ، أو فى الأفق» لأنهما بعد معرفة محضة ، ومحتملان لهما فى نحو «يعجبنى
الزّهر فى أكمامه ، والثمر على أغصانه» ؛ لأن المعرّف الجنسىّ كالنكرة ، وفى نحو «هذا
ثمر يانع على أغصانه» لأن النكرة الموصوفة كالمعرفة.
حكم المرفوع بعدهما
إذا وقع بعدهما
مرفوع ؛ فإن تقدّمهما نفى أو استفهام أو موصوف أو موصول أو صاحب خبر أو حال نحو «ما
فى الدار أحد» و «أفى الدار زيد» و «مررت برجل معه صقر» و «جاء الذى فى الدار أبوه»
و «زيد عندك أخوه» و «مررت بزيد عليه جبة» ففى المرفوع ثلاثة مذاهب :
أحدها : أن
الأرجح كونه مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو المجرور ، ويجوز كونه فاعلا.
والثانى : أنّ
الأرجح كونه فاعلا ، واختاره ابن مالك ، وتوجيهه أن الأصل عدم التقديم والتأخير.
والثالث : أنه
يجب كونه فاعلا ، نقله ابن هشام عن الأكثرين.
وحيث أعرب
فاعلا فهل عامله الفعل المحذوف أو الظرف أو المجرور لنيابتهما عن استقر وقربهما من
الفعل لاعتمادها! فيه خلاف ، والمذهب المختار الثانى ، لدليلين : أحدهما امتناع
تقديم الحال فى نحو «زيد فى الدار جالسا» ولو كان العامل الفعل لم يمتنع ، ولقوله
:
٦٨٧ ـ [فإن يك جثمانى بأرض سواكم]
|
|
فإنّ فؤادى
عندك الدّهر أجمع
|
فأكّد الضمير
المستتر فى الظرف ، والضمير لا يستتر إلا فى عامله ، ولا يصح أن
يكون توكيدا لضمير محذوف مع الاستقرار ، لأن التوكيد والحذف متنافيان ، ولا
لاسم إنّ على محله من الرفع بالابتداء ؛ لأن الطالب للمحل قد زال.
واختار ابن
مالك المذهب الأول ، مع اعترافه بأن الضمير مستتر فى الظرف وهذا تناقض ، فإن
الضمير لا يستكنّ إلا فى عامله.
وإن لم يعتمد
الظرف أو المجرور نحو «فى الدار ـ أو عندك ـ زيد» فالجمهور يوجبون الابتداء ،
والأخفش والكوفيون يجيزون الوجهين ، لأن الاعتماد عندهم ليس بشرط ، ولذا يجيزون فى
نحو «قائم زيد» أن يكون قائم مبتدأ وزيد فاعلا وغيرهم يوجب كونهما على التقديم
والتأخير.
تنبيهات ـ الأول
: يحتمل قول المتنبى يذكر دار المحبوب :
٦٨٨ ـ ظلت بها تنطوى على كبد
|
|
نضيجة فوق
خلبها يدها
|
أن تكون اليد
فيه فاعلة بنضيجة ، أو بالظرف ، أو بالابتداء ، والأول أبلغ ، لأنه أشد للحرارة ،
والخلب : زيادة الكبد ، أو حجاب القلب ، أو ما بين الكبد والقلب ، وأضاف اليد إلى
الكبد للملابسة بينهما ؛ فإنهما فى الشخص.
ولا خلاف فى
تعين الابتداء فى نحو «فى داره زيد» لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة.
فإن قلت «فى
داره قيام زيد» لم يجزها الكوفيون ألبتة ، أما على الفاعلية فلما قدمنا ، وأما على
الابتدائية فلأن الضمير لم يعد على المبتدأ ، بل على ما ضيف إليه المبتدأ ،
والمستحق للتقديم إنما هو المبتدأ ، وأجازه البصريون على أن يكون المرفوع مبتدأ لا
فاعلا ، كقولهم «فى أكفانه درج الميت» وقوله :
٦٨٩ ـ *بمسعاته هلك الفتى أو نجاته*
وإذا كان الاسم
فى نية التقديم كان ما هو من تمامه كذلك.
والأرجح تعين
الابتدائية فى نحو «هل أفضل منك زيد» لأن اسم التفضيل لا يرفع الفاعل الظاهر عند
الأكثر على هذا الحد ، وتجوز الفاعلية فى لغة قليلة.
ومن المشكل
قوله :
فخير نحن عند
النّاس منكم
|
|
[إذا المثوّب قال يالا] [٣٦٦]
|
لأن قوله «نحن»
إن قدر فاعلا لزم إعمال الوصف غير معتمد ، ولم يثبت ، وعمل أفعل فى الظاهر فى غير
مسألة الكحل وهو ضعيف ، وإن قدر مبتدأ لزم الفصل به وهو أجنبى بين أفعل ومن ،
وخرّجه أبو على ـ وتبعه ابن خروف ـ على أن الوصف خبر لنحن محذوفة ، وقدر نحن المذكورة
توكيدا للضمير فى أفعل.
ما يجب فيه تعلقهما بمحذوف
وهو ثمانية :
أحدها : أن
يقعا صفة نحو (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ).
الثانى : أن
يقعا حالا نحو (فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) وأما قوله سبحانه وتعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) فزعم ابن عطية أن (مُسْتَقِرًّا) هو المتعلّق الذى يقدر فى أمثاله قد ظهر ، والصواب ما
قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك ، لا مطلق الوجود
والحصول ، فهو كون خاص.
الثالث : أن
يقعا صلة نحو (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
الرابع : أن
يقعا خبرا ، نحو «زيد عندك ، أو فى الدار» وربما ظهر فى الضرورة كقوله :
٦٩٠ ـ لك العزّ إن مولاك عزّ ، وإن
يهن
|
|
فأنت لدى
بحبوبة الهون كان
|
وفى شرح ابن
يعيش : متعلق الظرف الواقع خبرا ، صرح ابن جنى بجواز إظهاره ، وعندى أنه إذا حذف
ونقل ضميره إلى الظرف لم يجز إظهاره ؛ لأنه قد صار أصلا مرفوضا ، فأما إن ذكرته
أولا فقلت «زيد استقر عندك» فلا يمنع مانع منه ، اه. وهو غريب.
الخامس : أن
يرفعا الاسم الظاهر نحو (أَفِي اللهِ شَكٌّ) ونحو (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) ونحو «أعندك زيد».
والسادس : أن
يستعمل المتعلق محذوفا فى مثل أو شبهه ، كقولهم لمن ذكر أمرا قد تقادم عهده «حينئذ
الآن» أصله : كان ذلك حينئذ واسمع الآن ، وقولهم للمعرس «بالرّفاء والبنين» بإضمار
أعرست.
والسابع : أن
يكون المتعلق محذوفا على شريطة التفسير نحو «أيوم الجمعة صمت فيه» ونحو «بزيد مررت
به» عند من أجازه مستدلا بقراءة بعضهم (وللظالمين أعد لهم) والأكثرون يوجبون فى [مثل]
ذلك إسقاط الجار ، وأن يرفع الاسم بالابتداء أو ينصب بإضمار جاوزت أو نحوه ،
وبالوجهين قرىء فى الآية ، والنصب قراءة الجماعة ، ويرجحها العطف على الجملة
الفعلية ، وهل الأولى أن يقدر المحذوف مضارعا ، أى ويعذب ، لمناسبة يدخل ، أو
ماضيا ، أى وعذب ، لمناسبة المفسر؟ فيه نظر. والرفع بالابتداء ، وأما القراءة
بالجر فمن توكيد الحرف بإعادته داخلا على ضمير ما دخل عليه المؤكّد ، مثل «إنّ
زيدا إنّه فاضل» ولا يكون الجار والمجرور توكيدا للجار والمجرور ؛ لأن الضمير لا
يؤكد الظاهر ؛ لأن الظاهر أقوى ، ولا يكون المجرور بدلا من المجرور بإعادة الجار ؛
لأن العرب لم تبدل مضمرا من مظهر ، لا يقولون «قام زيد هو» وإنما جور ذلك بعض
النحويين بالقياس.
والثامن : القسم
بغير الباء نحو (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقولهم «لله لا يؤخر الأجل» ولو صرح بالفعل فى نحو ذلك
لوجبت الباء.
هل المتعلق الواجب الحذف فعل أو وصف؟
لا خلاف فى
تعيين الفعل فى باب القسم والصّلة ؛ لأن القسم والصلة لا يكونان إلا
جملتين.
قال ابن يعيش :
وإنما لم يجز فى الصلة أن يقال إن نحو «جاء الذى فى الدار» بتقدير مستقر على أنه
خبر لمحذوف على حد قراءة بعضهم (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) بالرفع ؛ لقلة ذاك واطراد هذا ، اه.
وكذلك يجب فى
الصفة فى نحو «رجل فى الدار فله درهم» لأن الفاء تجوز فى نحو «رجل يأتينى فله درهم»
وتمتنع فى نحو «رجل صالح فله درهم» فأما قوله :
٦٩١ ـ كلّ أمر مباعد أو مدان
|
|
فمنوط بحكمة
التعالى
|
فنادر.
واختلف فى
الخبر والصفة والحال ؛ فمن قدّر الفعل ـ وهم الأكثرون ـ فلأنه الأصل فى العمل ،
ومن قدّر الوصف فلأن الأصل فى الخبر والحال والنعت الإفراد ، ولأن الفعل فى ذلك لا
بد من تقديره بالوصف ، قالوا : ولأن تقليل المقدر أولى ، وليس بشىء ؛ لأن الحق أنا
لم نحذف الضمير ، بل نقلناه إلى الظرف ؛ فالمحذوف فعل أو وصف ، وكلاهما مفرد.
وأما فى
الاشتغال فيقدر بحسب المفسر ؛ فيقدر الفعل فى نحو «أيوم الجمعة تعتكف فيه» والوصف
فى نحو «أيوم الجمعة أنت معتكف فيه».
والحق عندى أنه
لا يترجح تقديره اسما ولا فعلا ، بل بحسب المعنى كما سأبينه.
__________________
كيفية تقديره باعتبار المعنى
أما فى القسم
فتقديره أقسم ، وأما فى الاشتغال فتقديره كالمنطوق به نحو «يوم الجمعة صمت فيه».
وأعلم أنهم
ذكروا فى باب الاشتغال أنه يجب أن لا يقدر مثل المذكور إذا حصل مانع صناعى كما فى «زيدا
مررت به» أو معنوى كما فى «زيدا ضربت أخاه» إذ تقدير المذكور يقتضى فى الأول تعدى
القاصر بنفسه ، وفى الثانى خلاف الواقع ؛ إذ الضرب لم يقع بزيد ؛ فوجب أن يقدر
جاوزت فى الأول ، وأهنت فى الثانى ، وليس المانعان مع كل متعد بالحرف ، ولا مع كل
سببى ، ألا ترى أنه لا مانع فى نحو «زيدا شكرت له» لأن شكر يتعدى بالجار وبنفسه ،
وكذلك الظرف نحو «يوم الجمعة صمت فيه» لأن العامل لا يتعدّى إلى ضمير الظرف بنفسه
، مع أنه يتعدى إلى ظاهره بنفسه ، وكذلك لا مانع فى نحو «زيدا أهنت أخاه» لأن
إهانة أخيه إهانة له ، بخلاف الضرب.
وأما فى المثل
فيقدّر بحسب المعنى ، وأما فى البواقى نحو «زيد فى الدّار» فيقدر
كونا مطلقا وهو كائن أو مستقر أو مضارعهما إن أريد الحال أو الاستقبال نحو «الصوم
اليوم» أو «فى اليوم» و «الجزاء غدا» أو «فى الغد» ويقدر كان أو استقر أو وصفهما
إن أريد المضى ، هذا هو الصواب ، وقد أغفلوه مع قولهم فى نحو «ضربى زيدا قائما» :
إن التقدير إذ كان إن أريد المضى أو إذا كان إن أريد المستقبل ، ولا فرق ، وإذا
جهلت المعنى فقدر الوصف فإنه صالح فى الأزمنة كلها ، وإن كانت حقيقته الحال ، وقال
الزمخشرى فى قوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ
مَنْ فِي النَّارِ) إنهم جعلوا فى النار الآن لتحقق الموعود به ، ولا يلزم
ما ذكره ؛ لأنه لا يمتنع تقدير المستقبل ، ولكن ما ذكره أبلغ وأحسن.
ولا يجوز تقدير
الكون الخاص كقائم وجالس إلا لدليل ، ويكون الحذف حينئذ جائزا لا واجبا ، ولا
ينتقل ضمير من المحذوف إلى الظرف والمجرور ، وتوهم
__________________
جماعة امتناع حذف الكون الخاص ، يبطله أنا متفقون على جواز حذف الخبر عند
وجود الدليل ، وعدم وجود معمول ، فكيف يكون وجود المعمول مانعا من الحذف مع أنه
إما أن يكون هو الدليل أو مقويا للدليل؟ واشتراط النحويين الكون المطلق إنما هو
لوجوب الحذف ، لا لجواره.
ومما يتخرج على
ذلك قولهم «من لى بكذا» أى من يتكفّل لى به؟ وقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أى مستقبلات لعدتهن ، كذا فسره جماعة من السلف ، وعليه
عوّل الزمخشرى ، وردّه أبو حيان توهما منه أن الخاص لا يحذف ، وقال : الصواب أن
اللام للتوقيت ، وأن الأصل لاستقبال عدتهن ، فحذف المضاف ، اه. وقد بينا فساد تلك
الشبهة ، ومما يتخرّج على التعلق بالكون الخاص قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) التقدير مقتول أو يقتل ، لا كائن ، اللهم إلا أن تقدر
مع ذلك مضافين ؛ أى قتل الحر كائن بقتل الحر ، وفيه تكلف تقدير ثلاثة الكون
والمضافان ، بل تقدير خمسة ؛ لأن كلا من المصدرين لا بد له من فاعل ، ومما يبعد
ذلك أيضا أنك لا تعلم معنى المضاف الذى تقدره مع المبتدأ إلا بعد تمام الكلام ،
وإنما حسن الحذف أن يعلم عند موضع تقديره نحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ونظير هذه الآية قوله تعالى (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية ، أى أن النفس مقتولة بالنفس ، والعين مفقوءة
بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة بالاذن ، والسن مقلوعة بالسن ، هذا
هو الأحسن ، وكذلك الأرجح فى قوله تعالى (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أن يقدر يجريان ، فإن قدرت الكون قدرت مضافا ، أى جريان
الشمس والقمر كائن بحسبان ، وقال ابن مالك فى قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ)
: إن الظرف ليس
متعلقا بالاستقرار ؛ لاستلزامه إما الجمع بين الحقيقة والمجاز ؛ فإن الظرفية
المستفادة من (فِي) حقيقة بالنسبة
إلى غير الله سبحانه وتعالى ومجاز بالنسبة إليه تعالى ، وإما حمل قراءة
السبعة على لغة مرجوحة ، وهى إبدال المستثنى المنقطع كما زعم الزمخشرى ؛ فإنه زعم
أن الاستثناء منقطع ، والمخلّص من هذين المحذورين أن يقدر : قل لا يعلم من يذكر فى
السموات والأرض ، ومن جوز اجتماع الحقيقة والمجاز فى كلمة واحدة واحتج بقولهم «القلم
أحد اللّسانين» ونحوه لم يحتج إلى ذلك ، وفى الآية وجه آخر ، وهو أن يقدر من
مفعولا به ، والغيب بدل اشتمال ، والله فاعل ، والاستثناء مفرغ.
تعيين موضع التقدير
الأصل أن يقدر
مقدّما عليهما كسائر العوامل مع معمولاتها ، وقد يعرض ما يقتضى ترجيح تقديره مؤخرا
، وما يقتضى إيجابه.
فالأول ، نحو «فى
النار زيد» لأن المحذوف هو الخبر ، وأصله أن يتأخر عن المبتدأ.
والثانى نحو «إنّ
فى الدار زيدا» لأنّ إنّ لا يليها مرفوعها.
ويلزم من قدّر
المتعلق فعلا أن يقدره متأخرا فى جميع المسائل ؛ لأن الخبر إذا كان فعلا لا يتقدم على
المبتدأ.
تنبيه ـ ردّ
جماعة منهم ابن مالك على من قدّر الفعل بنحو قوله تعالى : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) وقولك «أمّا فى الدّار فزيد» لأن «إذا» الفجائية لا
يليها الفعل ، و «أمّا» لا يقع بعدها فعل إلا مقرونا بحرف الشرط نحو (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) ، وهذا على ما بيناه غير وارد ؛ لأن الفعل يقدر مؤخرا.
__________________
الباب الرابع من الكتاب
فى ذكر أحكام
يكثر دورها ، ويقبح بالمعرب جهلها ، وعدم معرفتها على وجهها.
فمن ذلك ما
يعرف به المبتدأ من الخبر.
يجب الحكم
بابتدائية المقدّم من الاسمين فى ثلاث مسائل :
إحداها : أن
يكونا معرفتين ، تساوت رتبتهما نحو «الله ربنا» أو اختلفت نحو «زيد الفاضل ،
والفاضل زيد» هذا هو المشهور ، وقيل : يجوز تقدير كل منهما مبتدأ وخبرا مطلقا ،
وقيل : المشتق خبر وإن تقدم نحو «القائم زيد».
والتحقيق أن
المبتدأ ما كان أعرف كزيد فى المثال ، أو كان هو المعلوم عند المخاطب كأن يقول :
من القائم؟ فتقول «زيد القائم» فإن علمهما وجهل النسبة فالمقدّم المبتدأ.
الثانية : أن
يكونا نكرتين صالحتين للابتداء بهما نحو «أفضل منك أفضل منى».
الثالثة : أن
يكونا مختلفين تعريفا وتنكيرا ولأول هو المعرفة «كزيد قائم» وأما إن كان هو النكرة
فإن لم يكن له ما يسوّغ الابتداء به فهو خبر اتفاقا نحو «خزّ ثوبك» و «ذهب خاتمك»
وإن كان له مسوغ فكذلك عند الجمهور ، وأما سيبويه فيجعله المبتدأ نحو «كم مالك» و
«خير منك زيد» و «حسبنا الله» ووجهه أن الأصل عدم التقديم والتأخير ، وأنهما
شبيهان بمعرفتين تأخّر الأخصّ منهما نحو «الفاضل أنت» ويتّجه عندى جواز الوجهين
إعمالا للدليلين ، ويشهد لابتدائية النكرة قوله تعالى (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وقولهم «إنّ قريبا منك زيد»
وقولهم «بحسبك زيد» والباء لا تدخل فى الخبر فى الإيجاب ، ولخبريتها قولهم «ما
جاءت حاجتك» بالرفع ، والأصل ما حاجتك ، فدخل الناسخ بعد تقدير لمعرفة مبتدأ ، ولو
لا هذا التقدير لم يدخل ؛ إذ لا يعمل فى الاستفهام ما قبله ، وأما من نصب فالأصل
ما هى حاجتك ، بمعنى أىّ حاجة هى حاجتك ، ثم دخل الناسخ على الضمير فاستتر فيه ،
ونظيره أن تقول «زيد هو الفاضل» وتقدر هو مبتدأ ثانيا لا فصلا ولا تابعا ؛ فيجوز
لك حينئذ أن تدخل عليه كان فتقول «زيد كان الفاضل».
ويجب الحكم
بابتدائية المؤخر فى نحو «أبو حنيفة أبو يوسف». و
٦٩٢ ـ بنونا بنو أبنائنا [وبناتنا
|
|
بنوهنّ أبناء
الرّجال الأباعد]
|
رعيا للمعنى ،
ويضعف أن تقدر الأول مبتدأ بناء على أنه من التشبيه المعكوس للمبالغة ؛ لأن ذلك
نادر الوقوع ، ومخالف للأصول ، اللهم إلا أن يقتضى المقام المبالغة ، والله أعلم.
ما يعرف به الاسم من الخبر
اعلم أن لهما
ثلاث حالات :
احداها : أن
يكونا معرفتين ، فإن كان المخاطب يعلم أحدهما دون الآخر فالمعلوم الاسم والمجهول
الخبر ؛ فيقال «كان زيد أخا عمرو» لمن علم زيدا وجهل أخوّته لعمرو ، و «كان أخو
عمرو زيدا» لمن يعلم أخا لعمرو ويجهل أن اسمه زيد ، وإن كان يعلمهما ويجهل انتساب
أحدهما إلى الآخر فإن كان أحدهما أعرف فالمختار جعله الاسم ، فتقول «كان زيد
القائم» لمن كان قد سمع بزيد وسمع برجل قائم ، فعرف كلا منهما بقلبه ، ولم يعلم أن
أحدهما هو الآخر ، ويجوز قليلا «كان القائم زيدا». وإن لم يكن أحدهما أعرف فأنت
مخير نحو «كان زيد أخا عمرو»
__________________
وكان أخو عمرو زيدا» ويستثنى من مختلفى الرتبة نحو «هذا» فإنه يتعين
للاسمية لمكان التنبيه المتصل به ؛ فيقال «كان هذا أخاك ، وكان هذا زيدا» إلا مع
الضمير ، فإن الأفصح فى باب المبتدأ أن تجعله المبتدأ وتدخل التنبيه عليه ؛ فتقول «ها
أنذا» ولا يتأتى ذلك فى باب الناسخ ؛ لأن الضمير متصل بالعامل ؛ فلا يتأتى دخول
التنبيه عليه ، على أنه سمع قليلا فى باب المبتدأ «هذا أنا».
واعلم أنهم
حكموا لأن وأن المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير ؛ لأنه لا يوصف كما أن الضمير
كذلك ؛ فلهذا قرأت السبعة (ما كانَ حُجَّتَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا) (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قالُوا) والرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه فى التعريف.
الحالة الثانية
: أن يكونا نكرتين ؛ فإن كان لكل منهما مسوّغ للإخبار عنها فأنت مخير فيما تجعله
منهما الاسم وما تجعله الخبر ؛ فتقول «كان خير من زيد شرّا من عمرو» أو تعكس ، وإن
كان المسوغ لإحداهما فقط جعلتها الاسم نحو «كان خير من زيد امرأة».
الحالة الثالثة
: أن يكونا مختلفين ، فتجعل المعرفة الاسم والنكرة الخبر ، نحو «كان زيد قائما»
ولا يعكس إلا فى الضرورة كقوله :
٦٩٣ ـ [قفى قبل التّفرّق يا ضباعا]
|
|
ولا يك موقف
منك الوداعا
|
وقوله :
٦٩٤ ـ [كأنّ سبيئة من بيت رأس]
|
|
يكون مزاجها
عسل وماء [ص ٦٩٥]
|
وأما قراءة ابن
عامر (أولم تكن لهم آية أن يعلمه) بتأنيث تكن ورفع آية ، فإن قدرت تكن تامة فاللام
متعلقة بها وآية فاعلها ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل من آية ، أو خبر لمحذوف أى هى أن يعلمه ، وإن
قدرتها ناقصة فاسمها ضمير القصة ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) مبتدأ ، وآية خبره ، والجملة خبر كان ، أو آية اسمها ،
ولهم خبرها ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدل أو خبر لمحذوف ، وأما تجويز الزجاج كون آية اسمها و
(أَنْ يَعْلَمَهُ) خبرها فردّوه لما ذكرنا ، واعتذر له بأن النكرة قد
تخصصت بلهم.
ما يعرف به الفاعل من المفعول
وأكثر ما يشتبه
ذلك إذا كان أحدهما اسما ناقصا والآخر اسما تاما.
وطريق معرفة
ذلك أن تجعل فى موضع التام إن كان مرفوعا ضمير المتكلم المرفوع ، وإن كان منصوبا
ضميره المنصوب ، وتبدل من الناقص اسما بمعناه فى العقل وعدمه ، فإن صحت المسألة
بعد ذلك فهى صحيحة قبله ، وإلا فهى فاسدة ، فلا يجوز «أعجب زيد ما كره عمرو» إن
أوقعت «ما» على ما لا يعقل ، فإنه لا يجوز «أعجبت الثّوب» ويجوز النصب ، لأنه يجوز
«أعجبنى الثوب» فإن أوقعت «ما» على أنواع من يعقل جاز ، لأنه يجوز «أعجبت النّساء»
وإن كان الاسم الناقص من أو الذى جاز الوجهان أيضا.
فروع ـ تقول «أمكن
المسافر السّفر» بنصب المسافر ، لأنك تقول «أمكننى السفر» ولا تقول «أمكنت السّفر»
وتقول «ما دعا زيدا إلى الخروج» و «ما كره زيد من الخروج» بنصب زيد فى الأولى
مفعولا والفاعل ضمير «ما» مستترا ، وبرفعه فى الثانية فاعلا والمفعول ضمير ما
محذوفا ، لأنك تقول «ما دعانى إلى الخروج» و «ما كرهت منه» ويمتنع العكس ، لأنه لا
يجوز «دعوت الثوب إلى الخروج» و «كره من الخروج» وتقول «زيد فى رزق عمرو عشرون دينارا» برفع العشرين لا
غير ، فإن قدمت عمرا فقلت «عمرو زيد فى رزقه عشرون» جاز رفع العشرين ونصبه ، وعلى
الرفع فالفعل خال من الضمير ، فيجب توحيده مع المثنى والمجموع ، ويجب ذكر الجار
والمجرور لأجل الضمير الراجع إلى
__________________
المبتدأ ، وعلى النصب فالفعل متحمل للضمير ؛ فيبرز فى التثنية ، والجمع ،
ولا يجب ذكر الجار والمجرور.
ما افترق فيه عطف البيان والبدل
وذلك ثمانية
أمور :
أحدها : أن
العطف لا يكون مضمرا ولا تابعا لمضمر ؛ لأنه فى الجوامد نظير النعت فى المشتق ،
وأما إجازة الزمخشرى فى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أن يكون بيانا للهاء من قوله تعالى (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) فقد مضى ردّه ، نعم أجاز الكسائى أن ينعت الضمير بنعت
مدح أو ذم أو ترحم ، فالأول نحو «لا إله إلّا هو الرّحمن الرّحيم» ونحو (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وقولهم «اللهمّ صلّ عليه الرّؤوف الرّحيم» والثانى نحو «مررت
به الخبيث» والثالث نحو قوله :
٦٩٥ ـ [قد أصبحت بقرقرى كوانسا]
|
|
فلا تلمه أن
ينام البائسا [ص ٤٩٢]
|
وقال الزمخشرى
فى (جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ)
: إن (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح كما فى الصفة ، لا على جهة
التوضيح ؛ فعلى هذا لا يمتنع مثل ذلك فى عطف البيان على قول الكسائى.
وأما البدل
فيكون تابعا للمضمر بالاتفاق نحو (وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ) (ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ) وإنما امتنع الزمخشرى من تجويز كون (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بدلا من الهاء فى (بِهِ) توهما منه أن ذلك يخل بعائد الموصول ، وقد مضى ردّه.
وأجاز النحويون
أن يكون البدل مضمرا تابعا لمضمر كـ «رأيته إياه» أو لظاهر كـ «رأيت زيدا إياه»
وخالفهم ابن مالك فقال : إن الثانى لم يسمع ، وإن الصواب فى الأول قول الكوفيين
إنه توكيد كما فى «قمت أنت».
الثانى : أن
البيان لا يخالف متبوعه فى تعريفه وتنكيره ، وأما قول الزمخشرى :
إن (مَقامِ إِبْراهِيمَ) عطف على (آياتٍ بَيِّناتٍ) فسهو ، وكذا قال فى (إِنَّما أَعِظُكُمْ
بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا)
: إن (أَنْ تَقُومُوا) عطف على (واحدة) ولا يختلف فى جواز ذلك فى البدل ، نحو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ) ونحو (بِالنَّاصِيَةِ
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ).
الثالث : أنه
لا يكون جملة ، بخلاف البدل نحو (ما يُقالُ لَكَ
إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) ونحو (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهو أصحّ الأقوال فى «عرفت زيدا أبو من هو» وقال :
٦٩٦ ـ لقد أذهلتنى أمّ عمرو بكلمة
|
|
أتصبر يوم
البين أم لست تصبر؟
|
الرابع : أنه
لا يكون تابعا لجملة ، بخلاف البدل ، نحو (اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) ونحو (أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) وقوله :
*أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا* [٦٧١]
الخامس : أنه
لا يكون فعلا تابعا لفعل ، بخلاف البدل ، نحو قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ).
السادس : أنه
لا يكون بلفظ الأول ، ويجوز ذلك فى البدل بشرط أن يكون مع الثانى زيادة بيان
كقراءة يعقوب (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) بنصب كل الثانية ؛ فإنها قد اتصل بها ذكر سبب الجثو ،
وكقول الحماسى :
٦٩٧ ـ روبد بنى شيبان بعض وعيدكم
|
|
تلاقوا غدا
خيلى على سفوان
|
تلاقوا جيادا
لا تحيد عن الوغى
|
|
إذا ما غدت
فى المأزق المتدانى
|
تلاقوهم
فتعرفوا كيف صبرهم
|
|
على ما جنت
فيهم يد الحدثان
|
وهذا الفرق
إنما هو على ما ذهب إليه ابن الطراوة من أن عطف البيان لا يكون من لفظ الأول ،
وتبعه على ذلك ابن مالك وابنه ، وحجتهم أن الشىء لا يبين نفسه ، وفيه نظر من أوجه
، أحدها : أنه يقتضى أن البدل ليس مبينا للمبدل منه ، وليس كذلك ، ولهذا منع
سيبويه «مررت بى المسكين ، وبك المسكين» دون «به المسكين» وإنما يفارق البدل عطف
البيان فى أنه بمنزلة جمله استؤنفت للتبيين ، والعطف تبيين بالمفرد المحض. والثانى
: أن اللفظ المكرر إذا اتصل به ما لم يتصل بالأول كما قدمنا اتّجه كون الثانى بيانا
بما فيه من زيادة الفائدة ، وعلى ذلك أجازوا الوجهين فى نحو قوله :
٦٩٨ ـ يا زيد زيد اليعملات الذّبّل
|
|
[تطاول اللّيل عليك فانزل]
|
[ص ٦٢١ و ٦٢٢]
و ...
٦٩٩ ـ يا تيم تيم عدىّ [لا أبالكم
|
|
لا يلقينّكم
فى سوأة عمر]
|
إذا ضممت
المنادى فهما. والثالث : أن البيان يتصور مع كون المكرر مجردا ، وذلك فى مثل قولك «يا
زيد زيد» إذا قلته وبحضرتك اثنان اسم كل منهما زيد ، فإنك لما تذكر الأول يتوهم كل
منهما أنه المقصود ، فإذا كررته تكرر خطابك لأحدهما وإقبالك عليه فظهر المراد ،
وعلى هذا يتخرج قول النحويين فى قول رؤبة :
*لقائل يا نصر نصر نصرا* [٦٢٧]
إن الثانى
والثالث عطفان على اللفظ وعلى المحل ، وخرّجه هؤلاء على التوكيد اللفظى فيهما أو
فى الأول فقط ، فالثانى إما مصدر دعائى مثل «سقيالك» أو مفعول
به بتقدير عليك ، على أن المراد إغراء نصر بن سيّار بحاجب له اسمه نصر على
ما نقل أبو عبيدة ، وقيل : لو قدّر أحدهما توكيدا لضمّا بغير تنوين كالمؤكد.
السابع : أنه
ليس فى نية إحلاله محل الأول ، بخلاف البدل ، ولهذا امتنع البدل وتعين البيان فى
نحو «يا زيد الحارث» وفى نحو «يا سعيد كرز» بالرفع أو «كرزا» بالنصب ، بخلاف «يا
سعيد كرز» بالضم فإنه بالعكس ، وفى نحو «أنا الضارب الرجل زيد» وفى نحو «زيد أفضل
النّاس الرجال والنساء ، أو النساء والرجال» وفى نحو «يا أيها الرجل غلام زيد» وفى
نحو «أىّ الرجلين زيد وعمرو جاءك» وفى نحو «جاءنى كلا أخويك زيد وعمرو».
الثامن : أنه
ليس فى التقدير من جملة أخرى. بخلاف البدل ، ولهذا امتنع أيضا البدل وتعين البيان
فى نحو قولك «هند قام عمرو أخوها» ونحو «مررت برجل قام عمرو أخوه» ونحوه «زيد ضربت
عمرا أخاه».
ما افترق فيه اسم الفاعل والصفة المشبهة
وذلك أحد عشر
أمرا :
أحدها : أنه
يصاغ من المتعدّى والقاصر كضارب وقائم ومستخرج ومستكبر ، وهى لا تصاغ إلا من
القاصر كحسن وجميل.
الثانى : أنه
يكون للأزمنة الثلاثة ، وهى لا تكون إلا للحاضر ، أى الماضى المتصل بالزمن الحاضر.
الثالث : أنه
لا يكون إلا مجاريا للمضارع فى حركاته وسكناته كضارب ويضرب ومنطلق وينطلق ، ومنه
يقوم وقائم ، لأن الأصل يقوم ، بسكون القاف وضم الواو ، ثم نقلوا ، وأما توافق
أعيان الحركات فغير معتبر ، بدليل ذاهب ويذهب وقاتل ويقتل ، ولهذا قال ابن الخشاب
: وهو وزن عروضى لا نصر بفى ، وهى تكون
مجارية له كمنطلق اللسان ومطمئن النفس وطاهر العرض وغير مجارية وهو الغالب
نحو ظريف وجميل ، وقول جماعة «إنها لا تكون إلا غير مجارية» مردود باتفاقهم على أن
منها قوله :
٧٠٠ ـ من صديق أو أخى ثقة
|
|
أو عدوّ شاحط
دارا
|
الرابع : أن
منصوبه يجوز أن يتقدم عليه نحو «زيد عمرا ضارب» ولا يجوز «زيد وجهه حسن».
الخامس : أن
معموله يكون سببيا وأجنبيا نحو «زيد ضارب غلامه وعمرا» ولا يكون معمولها إلا سببيا
تقول «زيد حسن وجهه» أو «الوجه» ويمتنع «زيد حسن عمرا».
السادس : أنه
لا يخالف فعله فى العمل ، وهى تخالفه ، فإنها تنصب مع قصور فعلها ، تقول «زيد حسن
وجهه» ويمتنع «زيد حسن وجهه» بالنصب ، خلافا لبعضهم ، فأما الحديث «أن امرأة كانت
تهراق الدماء» فالدماء تمييز على زيادة أل ، قال ابن مالك : أو مفعول على أن الأصل
تهريق ثم قلبت الكسرة فتحة والياء ألفا كقولهم جاراة وناصاة وبقا ، وهذا مردود ،
لأن شرط ذلك تحرك الياء كجارية وناصية وبقى.
السابع : أنه
يجوز حذفه وبقاء معموله ، ولهذا أجازوا «أنا زيد ضاربه» و «هذا ضارب زيد وعمرا»
بخفض زيد ونصب عمرو بإضمار فعل أو وصف منون ، وأما العطف على محل المخفوض فممتنع
عند من شرط وجود المحرز كما سيأتى ، ولا يجوز «مررت برجل حسن الوجه والفعل» بخفض
الوجه ونصب الفعل ولا «مررت برجل وجهه حسنه» بنصب الوجه وخفض الصفة ، لأنهما لا
تعمل محذوفة ، ولأن معمولها لا يتقدمها ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا.
الثامن : أنه
لا يقبح حذف موصوف اسم الفاعل وإضافته إلى مضاف إلى ضميره. نحو «مررت بقاتل أبيه»
وبقبح «مررت بحسن وجهه».
التاسع : أنه
يفصل مرفوعه ومنصوبه ، كـ «زيد ضارب فى الدّار أبوه عمرا» ويمتنع عند الجمهور «زيد
حسن فى الحرب وجهه» رفعت أو نصبت.
العاشر : أنه
يجوز إتباع معموله بجميع التوابع ، ولا يتبع معمولها بصفة ، قاله الزجاج ومتأخرو
المغاربة ، ويشكل عليهم الحديث فى صفة الدجال «أعور عينه اليمنى».
الحادى عشر :
أنه يجوز إتباع مجروره على المحل عند من لا يشترط المحرز ، ويحتمل أن يكون منه (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ) ولا يجوز «هو حسن الوجه والبدن» بجر الوجه ونصب البدن ،
خلافا للفراء ، أجاز «هو قوىّ الرّجل واليد» برفع المعطوف ، وأجاز البغداديون
إتباع المنصوب بمجرور فى البابين كقوله :
٧٠١ ـ فظلّ طهاة اللّحم ما بين منضج
|
|
صفيف شواء أو
قدير معجّل [ص ٤٧٤]
|
التقدير :
المطبوخ فى القدر ، وهو عندهم عطف على صفيف ، وخرّج على أن الأصل «أو طابخ قدير»
ثم حذف المضاف وأبقى جر المضاف إليه كقراءة بعضهم (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بالخفض ، أو أنه عطف على صفيف ولكن خفض على الجوار ، أو
على توهم أن الصفيف مجرور بالإضافة كما قال :
*ولا سابق شيئا إذا كان جائيا* [١٣٥]
ما افترق فيه
الحال والتمييز ، وما اجتمعا فيه
اعلم أنهما قد
اجتمعا فى خمسة ، وافترقا فى سبعة.
فأوجه الاتفاق
أنهما اسمان ، نكرتان ، فضلتان ، منصوبتان ، رافعتان للابهام.
وأما أوجه
الافتراق فأحدها : أن الحال يكون جملة كـ «جاء زيد يضحك» وظرفا نحو «رأيت الهلال
بين السّحاب» وجارا ومجرورا نحو (فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) والتمييز لا يكون إلا اسما.
والثانى : أن الحال
قد يتوقّف معنى الكلام عليها كقوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكارى) وقال :
٧٠٢ ـ إنّما الميت من يعيش كئيبا
|
|
كاسفا باله
قليل الرّجاء
|
بخلاف التمييز.
والثالث : أن
الحال مبينة للهيئات ، والتمييز مبين للذوات.
والرابع : أن
الحال يتعدد كقوله :
٧٠٣ ـ علىّ إذا ما زرت ليلى بخفية
|
|
زيارة بيت
الله رجلان حافيا
|
بخلاف التمييز
، ولذلك كان خطأ قول بعضهم فى :
٧٠٤ ـ *تبارك رحمانا رحيما ومؤثلا*
إنهما تمييزان
، والصواب أن رحمانا بإضمار أخصّ أو أمدح ، ورحيما حال منه ، لا نعت له ؛ لأن الحق
قول الأعلم وابن مالك : إن الرحمن ليس بصفة بل علم ، وبهذا أيضا يبطل كونه تمييزا
، وقول قوم إنه حال.
وأما قول
الزمخشرى : إذا قلت «الله رحمن» أتصرفه أم لا ، وقول ابن الحاجب : إنه اختلف فى
صرفه ، فخارج عن كلام العرب من وجهين ؛ لأنه لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل ،
وإنما حذفت فى البيت للضرورة ، وينبنى على علميته أنه فى البسملة ونحوها بدل لا
نعت ، وأن الرحيم بعده نعت له ، لا نعت لاسم
الله سبحانه وتعالى ؛ إذ لا يتقدم البدل على النعت ، وأن السؤال الذى سأله
الزمخشرى وغيره لم قدم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم : عالم تحرير
، وجواد فيّاض ، غير متجه.
ومما يوضح لك
أنه غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ) (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ).
والخامس : أن
الحال تتقدم على عاملها إذا كان فعلا متصرفا ، أو وصفا يشبهه نحو (خاشعا أبصارهم
يخرجون ) وقوله :
٧٠٥ ـ [عدس ما لعيّاد عليك إمارة
|
|
نجوت] وهذا
تحملين طليق
|
أى وهذا طليق
محمولا لك ، ولا يجوز ذلك فى التمييز على الصحيح ، فأما استدلال ابن مالك على
الجواز بقوله :
٧٠٦ ـ رددت بمثل السيّد نهد مقلّص
|
|
كميش إذا
عطفاه ماء تحلّبا
|
وقوله :
٧٠٧ ـ إذا المرء عينا قرّ بالعيش
مثريا
|
|
ولم يعن
بالإحسان كان مذمّما
|
فسهو ؛ لأن
عطفاه والمرء مرفوعان بمحذوف يفسره المذكور ، والناصب للتمييز هو المحذوف ، وأما
قوله :
٧٠٨ ـ [ضيّعت حزمى فى إبعادى الأملا]
|
|
وما ارعويت
وشيبا رأسى اشتعلا
|
__________________
وقوله :
٧٠٩ ـ أنفسا تطيب بنيل المنى
|
|
وداعى المنون
ينادى جهارا
|
فضرورتان.
السادس : أن حق
الحال الاشتقاق ، وحق التمييز الجمود ، وقد يتعا كسان فتقع الحال جامدة نحو «هذا
مالك ذهبا» (وَتَنْحِتُونَ
الْجِبالَ بُيُوتاً) ويقع التمييز مشتقا نحو «لله درّه فارسا» وقولك «كرم
زيد ضيفا» إذا أردت الثناء على ضيف زيد بالكرم ، فإن كان زيد هو الضيف احتمل الحال
والتمييز ، والأحسن عند قصد التمييز إدخال من عليه ، واختلف لى المنصوب بعد «حبذا»
فقال الأخفش والفارسى والرّبعى : حال مطلقا ، وأبو عمرو بن العلاء : تمييز مطلقا ،
وقيل : الجامد تمييز والمشتق حال ، وقيل : الجامد تمييز والمشتق إن أريد تقييد
المدح به كقوله.
٧١٠ ـ *يا حبّذا المال مبذولا بلا سرف*
فحال ، وإلا
فتمييز نحو «حبّذا راكبا زيد».
السابع : أن
الحال تكون مؤكدة لعاملها نحو (وَلَّى مُدْبِراً) (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) ولا يقع التمييز كذلك ، فأما (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً) فشهرا : مؤكد لما فهم من (إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ) وأما بالنسبة إلى عامله وهو اثنا عشر فمبين ، وأما ما
اختاره المبرد ومن وافقه من «نعم الرّجل رجلا زيد» فمردود ، وأما قوله :
٧١١ ـ تزوّد مثل زاد أبيك فينا
|
|
فنعم الزّاد
زاد أبيك زادا
|
فالصحيح أن «زادا»
معمول لتزود : إما مفعول مطلق إن أريد به التزود ، أو مفعول به إن أريد به الشىء
الذى يتزوده من أفعال البر ، وعليهما فمثل نعت له تقدم فصار حالا ، وأما قوله :
٧١٢ ـ نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت
|
|
ردّ التّحيّة
نطقا أو بإيماء
|
ففتاة : حال
مؤكدة.
أقسام الحال
تنقسم
باعتبارات :
الأول :
انقسامها باعتبار انتقال معناها ولزومه إلى قسمين : منتقلة وهو الغالب ، وملازمة ،
وذلك واجب فى ثلاث مسائل :
إحداها :
الجامدة غير المؤولة بالمشتق ، نحو «هذا مالك ذهبا» و «هذه جبّتك خزّا» بخلاف نحو «بعته
يدا بيد» فإنه بمعنى متقابضين ، وهو وصف منتقل ، وإنما لم يؤول فى الأول ، لأنها
مستعملة فى معناها الوضعى ، بخلافها فى الثانى ، وكثير يتوهم أن الحال الجامدة لا
تكون إلا مؤوّلة بالمشتق ، وليس كذلك.
الثانية :
المؤكدة نحو (وَلَّى مُدْبِراً) قالوا : ومنه (هُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً) لأن الحق لا يكون إلا مصدقا ، والصواب أنه يكون مصدقا
ومكذبا ، وغيرهما ، نعم إذا قيل (هو الحق صادقا) فهى مؤكدة.
الثالثة : التى
دلّ عاملها على تجدّد صاحبها ، نحو (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) ونحو «خلق الله الزّرافة يديها أطول من رجليها» الحال
أطول ، ويديها :
بدل بعض ، قال ابن مالك بدر الدين : ومنه (وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) وهذا سهو منه ؛ لأن الكتاب قديم.
وتقع الملازمة
فى غير ذلك بالسماع ، ومنه (قائِماً بِالْقِسْطِ) إذا أعرب حالا ، وقول جماعة إنها مؤكدة وهم ؛ لأن
معناها غير مستفاد مما قبلها.
الثانى :
انقسامها ـ بحسب قصدها لذاتها وللتّوطئة بها ـ إلى قسمين : مقصودة وهو الغالب ،
وموطّئة وهى الجامدة الموصوفة نحو (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) فإنما ذكر بشرا توطئة لذكر سويا ، وتقول «جاءنى زيد
رجلا محسنا».
الثالث :
انقسامها ـ بحسب الزمان ـ إلى ثلاثة : مقارنة ، وهو الغالب ، نحو (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) ومقدّرة ، وهى المستقبلة كمررت برجل معه صقر صائدا به
غدا ، أى مقدّرا ذلك ، ومنه (فَادْخُلُوها
خالِدِينَ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ومحكية ، وهى الماضية نحو «جاء زيد أمس راكبا».
الرابع :
انقسامها ـ بحسب التبيين والتوكيد ـ إلى قسمين : مبيّنة ، وهو الغالب ، وتسمى
مؤسّسة أيضا ، ومؤكّدة ، وهى التى يستفاد معناها بدونها ، وهى ثلاثة : مؤكدة
لعاملها نحو (وَلَّى مُدْبِراً) ومؤكدة لصاحبها نحو «جاء القوم طرّا» ونحو (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعاً) ومؤكدة لمضمون الجملة نحو «زيد أبوك عطوفا» وأهمل
النحويون المؤكدة لصاحبها ، ومثّل ابن مالك وولده بتلك الأمثلة للمؤكدة لعاملها ،
وهو سهو.
ومما يشكل قولهم
فى نحو «جاء زيد والشمس طالعة» : إن الجملة الاسمية حال ، مع أنها لا تنحل إلى
مفرد ، ولا تبين هيئة فاعل ولا مفعول ، ولا هى حال مؤكدة ، فقال ابن جنى : تأويلها
جاء زيد طالعة الشمس عند مجيئه ، يعنى فهى كالحال والنعت
السببين «كمررت بالدار قائما سكّانها ، وبرجل قائم غلمانه» وقال ابن عمرون
: هى مؤولة بقولك مبكّرا ، ونحوه ، وقال صدر الأفاضل تلميذ الزمخشرى : إنما الجملة
مفعول معه ، وأثبت مجىء المفعول معه جملة ، وقال الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) فى قراءة من رفع البحر : هو كقوله :
٧١٣ ـ وقد أغتدى والطّير فى وكناتها
|
|
[بمنجرد قيد الأوابد هيكل]
|
و «جئت والجيش
مصطفّ» ونحوهما من الأحوال التى حكمها حكم الظرف ، فلذلك عريت عن ضمير ذى الحال ،
ويجوز أن يقدر «وبحرها» أى وبحر الأرض.
إعراب أسماء الشرط والاستفهام ونحوها
اعلم أنها إن
دخل عليها جار أو مضاف فمحلّها الجرّ نحو (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ونحو «صبيحة أىّ يوم سفرك» و «غلام من جاءك» وإلّا فإن
وقعت على زمان نحو (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أو مكان نحو (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أو حدث نحو (أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ) فهى منصوبة مفعولا فيه ومفعولا مطلقا ، وإلا فإن وقع
بعدها اسم نكرة نحو «من أب لك» فهى مبتدأ ، أو اسم معرفة نحو «من زيد» فهى خبر أو
مبتدأ على الخلاف السابق ، ولا يقع هذان النوعان فى أسماء الشرط ، وإلّا فإن وقع
بعدها فعل قاصر فهى مبتدأة نحو «من قام» ونحو «من يقم أقم معه» والأصحّ أن الخبر
فعل الشرط لا فعل الجواب ، وإن وقع بعدها فعل متعدّ فإن كان واقعا عليها فهى مفعول
به نحو (فَأَيَّ آياتِ اللهِ
تُنْكِرُونَ) ونحو (أَيًّا ما تَدْعُوا) ونحو (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ) وإن كان واقعا على ضميرها
نحو «من رأيته» أو متعلقها نحو «من رأيت أخاه» فهى مبتدأة أو منصوبة بمحذوف
مقدر بعدها يفسره المذكور.
تنبيه ـ وإذا
وقع اسم الشرط مبتدأ فهل خبره فعل الشرط وحده لأنه اسم تام ، وفعل الشرط مشتمل على
ضميره ، فقولك «من يقم» لو لم يكن فيه معنى الشرط لكان بمنزلة قولك «كل من النّاس
يقوم» أو فعل الجواب لأن الفائدة به تمت ، ولالتزامهم عود ضمير منه إليه على الأصح
، ولأن نظيره وهو الخبر فى قولك «الذى يأتينى فله درهم» أو مجموعهما لأن قولك «من
يقم أقم معه» بمنزلة قولك «كل من الناس إن يقم أقم معه»؟ والصحيح الأول ، وإنما
توقفت الفائدة على الجواب من حيث التعلق فقط ، لا من حيث الخبرية.
مسوغات الابتداء بالنكرة
لم يعوّل
المتقدمون فى ضابط ذلك إلا على حصول الفائدة ، ورأى المتأخرون أنه ليس كلّ أحد
يهتدى إلى مواطن الفائدة ، فتتبّعوها ، فمن مقل مخل ، ومن مكثر مورد ما لا يصلح أو
معدّد لأمور متداخلة ، والذى يظهر لى أنها منحصرة فى عشرة أمور :
أحدها : أن
تكون موصوفة لفظا أو تقديرا أو معنى ؛ فالأول نحو (وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) وقولك «رجل صالح جاءنى» ومن ذلك قولهم «ضعيف عاذ بقرملة»
إذ الأصل : رجل ضعيف ، فالمبتدأ فى الحقيقة هو المحذوف ، وهو موصوف ، والنحويون
يقولون : يبتدأ بالنكرة إذا كانت موصوفة أو خلفا من موصوف ، والصواب ما بينت.
وليست كل صفة تحصّل الفائدة ؛ فلو قلت «رجل من الناس جاءنى» لم يجز ، والثانى
نحو قولهم : «السّمن منوان بدرهم» أى منوان منه ، وقولهم : «شرّ أهرّ ذا
ناب». و ...
٧١٤ ـ قدر أحلّك ذا المجاز [وقد أرى
|
|
وأبىّ مالك
ذو المجاز بدار]
|
إذ المعنى شر
أىّ شر ، وقدر لا يغالب ، والثالث نحو «رجيل جاءنى» لأنه فى معنى رجل صغير وقولهم «ما
أحسن زيدا» لأنه فى معنى شيء عظيم حسّن زيدا ، وليس فى هذين النوعين صفة مقدرة
فيكونان من القسم الثانى.
والثانى : أن
تكون عاملة : إما رفعا نحو «قائم الزّيدان» عند من أجازه ، أو نصبا نحو «أمر
بمعروف صدقة» و «أفضل منك جاءنى» إذ الظرف منصوب المحل بالمصدر والوصف ، أو جرا
نحو «غلام امرأة جاءنى» و «خمس صلوات كتبهنّ الله» وشرط هذه : أن يكون المضاف إليه
نكرة كما مثلنا ، أو معرفة والمضاف مما لا يتعرف بالإضافة نحو «مثلك لا يبخل» و «غيرك
لا يجود» وأما ما عدا ذلك فإن المضاف إليه فيه معرفة لا نكرة.
والثالث :
العطف بشرط كون المعطوف أو المعطوف عليه مما يسوغ الابتداء به نحو (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أى أمثل من غيرهما ، ونحو (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) وكثير منهم أطلق العطف وأهمل الشرط ، منهم ابن مالك ،
وليس من أمثلة المسألة ما أنشده من قوله :
٧١٥ ـ عندى اصطبار وشكوى عند قاتلتى
|
|
فهل بأعجب من
هذا امرؤ سمعا؟
|
إذ يحتمل أن
الواو هنا للحال ، وسيأتى أن ذلك مسوغ ، وإن سلّم العطف فثمّ صفة مقدرة يقتضيها
المقام ، أى وشكوى عظيمة ، على أنا لا نحتاج إلى شىء من هذا كله ؛ فإن الخبر هنا
ظرف مختص ، وهذا بمجرده مسوّغ كما قدمنا ، وكأنه توهم أن التسويغ
مشروط بتقدمه على النكرة ، وقد أسلفنا أن التقديم إنما كان لدفع توهم الصفة
، وإنما لم يجب هنا لحصول الاختصاص بدونه ، وهو ما قدّمناه من الصفة المقدرة ، أو
الوقوع بعد واو الحال ؛ فلذلك جاز تأخر الظرف كما فى قوله تعالى (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).
فإن قلت : لعل
الواو للعطف ، ولا صفة مقدرة : فيكون العطف هو المسوغ.
قلت : لا يسوغ
ذلك ؛ لأن المسوغ عطف النكرة ، والمعطوف فى البيت الجملة لا النكرة.
فإن قيل :
يحتمل أنّ الواو عطف اسما وظرفا على مثليهما ، فيكون من عطف المفردات.
قلنا : يلزم
العطف على معمولى عاملين مختلفين ؛ إذ الاصطبار معمول للابتداء ، والظرف معمول
للاستقرار.
فإن قيل : قدّر
لكل من الظرفين استقرارا ، واجعل التعاطف بين الاستقرارين لا بين الظرفين.
قلنا :
الاستقرار الأول خبر ، وهو معمول للمبتدأ نفسه عند سيبويه ، واختاره ابن مالك ؛
فرجع الأمر إلى العطف على معمولى عاملين.
والرابع : أن
يكون خبرها ظرفا أو مجرورا ، قال ابن مالك : أو جملة ، نحو (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ) و «قصدك غلامه رجل» وشرط الخبر فيهنّ الاختصاص ، فلو قيل «فى دار رجل» لم
يجز ؛ لأن الوقت لا يخلو عن أن يكون فيه رجل ما فى دار ما ؛ فلا فائدة فى الإخبار
بذلك ، قالوا : والتقديم ، فلا يجوز «رجل فى الدار» وأقول : إنما وجب التقديم هنا
لدفع توهم الصفة ، واشتراطه هنا يوهم أن له مدخلا فى التخصيص ، وقد ذكروا المسألة
فيما يجب فيه تقديم الخبر ، وذاك موضعها.
والخامس : أن
تكون عامة : إما بذاتها كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام ، أو بغيرها نحو «ما رجل فى
الدار» و «هل رجل فى الدار؟» و (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) وفى شرح منظومة ابن الحاجب له أن الاستفهام المسوغ
للابتداء هو الهمزة المعادلة بأم نحو «أرجل فى الدّار أم امرأة؟» كما مثل به فى
الكافية ، وليس كما قال.
والسادس : أن تكون
مرادا بها صاحب الحقيقة من حيث هى ، نحو «رجل خير من امرأة» و «تمرة خير من جرادة».
والسابع : أن
تكون فى معنى الفعل ، وهذا شامل لنحو «عجب لزيد» وضبطوه بأن يراد بها التعجب ،
ولنحو : (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) و (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) وضبطوه بأن يراد بها الدعاء ، ولنحو «قائم الزّيدان»
عند من جوزها ، وعلى هذا ففى نحو «ما قائم الزيدان» مسوّغان كما فى قوله تعالى (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) مسوغان ، وأما منع الجمهور لنحو «قائم الزيدان» فليس
لأنه لا مسوغ فيه للابتداء ، بل إما لفوات شرط العمل وهو الاعتماد ، أو لفوات شرط
الاكتفاء بالفاعل عن الخبر وهو تقدم النفى أو الاستفهام ، وهذا أظهر لوجهين ؛
أحدهما : أنه لا يكفى مطلق الاعتماد ؛ فلا يجوز فى نحو «زيد قائم أبوه» كون قائم
مبتدأ وإن وجد الاعتماد على المخبر عنه ، والثانى : أن اشتراط الاعتماد وكون الوصف
بمعنى الحال أو الاستقبال إنما هو للعمل فى المنصوب ، لا لمطلق العمل بدليلين :
أحدهما أنه يصح «زيد قائم أبوه أمس» والثانى : أنهم لم يشترطوا لصحة نحو «أقائم
الزّيدان» كون الوصف بمعنى الحال أو الاستقبال.
والثامن : أن
يكون ثبوت ذلك الخبر للنكرة من خوارق العادة نحو «شجرة سجدت» و «بقرة تكلّمت» إذ
وقوع ذلك من أفراد هذا الجنس غير معتاد ؛ ففى الإخبار به عنها فائدة ، بخلاف نحو «رجل
مات» ونحوه.
والتاسع : أن
تقع بعد إذا الفجائية نحو «خرجت فإذا أسد» أو «رجل بالباب» ، إذ لا توجب العادة أن
لا يخلو الحال من أن يفاجئك عند خروجك أسد أو رجل.
والعاشر : أن
تقع فى أول جملة حالية كقوله :
٧١٦ ـ سرينا ونجم قد أضاء ؛ فمذ بدا
|
|
محيّاك أخفى
ضوءه كلّ شارق
|
وعلة الجواز ما
ذكرناه فى المسألة قبلها ، ومن ذلك قوله :
٧١٧ ـ الذّئب يطرقها فى الدّهر واحدة
|
|
وكلّ يوم
ترانى مدية بيدى
|
وبهذا يعلم أن
اشتراط النحويين وقوع النكرة بعد واو الحال ليس بلازم.
ونظير هذا
الموضع قول ابن عصفور فى شرح الجمل : تكسر إنّ إذا وقعت بعد واو الحال ، وإنما
الضابط أن تقع فى أول جملة حالية ، بدليل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ومن روى «مدية» بالنصب فمفعول لحال محذوفة ، أى حاملا
أو ممسكا ، ولا يحسن أن يكون بدلا من الياء ، ومثّل ابن مالك بقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) وقول الشاعر :
٧١٨ ـ عرضنا فسلّمنا فسلّم كارها
|
|
علينا ،
وتبريح من الوجد خانقه
|
ولا دليل فيهما
؛ لأن النكرة موصوفة بصفة مذكورة فى البيت ومقدرة فى الآية ، أى : وطائفة من غيركم
، بدليل (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ).
ومما ذكروا من
المسوغات : أن تكون النكرة محصورة نحو «إنما فى الدار رجل» أو للتفصيل نحو «الناس
رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته» وقوله :
٧١٩ ـ فأقبلت زحفا على الرّكبنين
|
|
فثوب نسيت
وثوب أجرّ [ص ٦٣٣]
|
وقولهم «شهر
ثرى وشهر ترى وشهر مرعى» أو بعد فاء الجزاء نحو «إن مضى عير فعير فى الرّباط»
وفيهن نظر ؛
أما الأولى فلأن الابتداء فيها بالنكرة صحيح قبل مجىء إنما ، وأما الثانية
فلاحتمال رجل الأول للبدلية والثانى عطف عليه ، كقوله :
٧٢٠ ـ وكنت كذى رجلين رجل صحيحة
|
|
ورجل رمى
فيها الزّمان فشلّت
|
ويسمى بدل
التفصيل ، ولاحتمال شهر الأول الخبرية ، والتقدير : أشهر الأرض الممطورة شهر ذو
ثرى ، أى ذو تراب ند ، وشهر ترى فيه الزرع ، وشهر ذو مرعى ، ولاحتمال نسيت وأجرّ
للوصفيّة والخبر محذوف ، أى فمنها ثوب نسيته ومنها ثوب أجره ، ويحتمل أنهما خبران
وثم صفتان مقدرتان ، أى فثوب لى نسيته وثوب لى أجره ، وإنما نسى ثوبه لشغل قلبه
كما قال :
٧٢١ ـ [ومثلك بيضاء العوارض طفلة]
|
|
لعوب تنسّينى
إذا قمت سربالى
|
وإنما جر الآخر
ليعفى الأثر عن القافة ، ولهذا زحف على ركبتيه ، وأما الثالثة فلأن المعنى فعير
آخر ، ثم حذفت الصفة ، ورأيت فى كلام محمد بن حبيب.
ـ وحبيب ممنوع
من الصرف لأنه اسم أمه ـ قال يونس : قال رؤبة : المطر شهر ثرى إلخ ، وهذا دليل على
أنه خبر ، ولا بد من تقدير مضاف قبل المبتدأ لتصحيح الإخبار عنه بالزمان.
أقسام العطف
وهى ثلاثة :
أحدها : العطف
على اللفظ ، وهو الأصل نحو «ليس زيد بقائم ولا قاعد» بالخفض ، وشرطه إمكان توجّه
العامل إلى المعطوف ، فلا يجوز فى نحو «ما جاءنى من امرأة ولا زيد» إلا الرفع عطفا
على الموضع ، لأن من الزائدة لا تعمل فى المعارف وقد يمتنع العطف على اللفظ وعلى
المحل جميعا ، نحو «ما زيد قائما لكن ـ أو بل ـ قاعد» لأن فى العطف على اللفظ
إعمال «ما» فى الموجب ، وفى العطف على المحل اعتبار الابتداء مع زواله بدخول
الناسخ ، والصواب الرفع على إضمار مبتدأ.
والثانى :
العطف على المحل ، «نحو ليس زيد بقائم ولا قاعدا» بالنصب ، وله عند المحققين ثلاثة
شروط :
أحدها : إمان
ظهوره فى الفصيح ، ألا ترى أنه يجوز فى «ليس زيد بقائم» و «ما جاءنى من امرأة» أن
تسقط الباء فتنصب ؛ ومن فترفع ، فعلى هذا فلا يجوز «مررت بزيد وعمرا» خلافا لابن
جنى ، لأنه لا يجوز «مررت زيدا» وأما قوله :
نمرّون
الدّيار ولم تعوجوا
|
|
[كلامكم علىّ إذن حرام] [١٤٣]
|
فضرورة ، ولا
تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل فى اللفظ زائدا كما مثلنا ، بدليل قوله :
٧٢٢ ـ فإن لم تجد من دون عدنان والدا
|
|
ودون معدّ
فلتزعك العواذل
|
وأجاز الفارسى
فى قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أن يكون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) عطفا على محل هذه [لأن محله النصب].
__________________
الثانى : أن
يكون الموضع بحق الأصالة ؛ فلا يجوز «هذا ضارب زيدا وأخيه» لأن الوصف المستوفى
لشروط العمل الأصل إعماله لا إضافته لالتحاقه بالفعل ، وأجازه البغداديون تمسكا
بقوله :
[فظلّ طهاة اللّحم ما بين] منضج
|
|
صفيف شواء أو
قدير معجّل [٧٠١]
|
وقد مر جوابه.
والثالث : وجود
المحرز ، أى الطالب لذلك المحل ، وابتنى على هذا امتناع مسائل :
إحداها : «إن
زيدا وعمرو قائمان» وذلك لأن الطالب لرفع زيد هو الابتداء والابتداء هو التجرد ،
والتجرد قد زال بدخول إنّ.
والثانية : «إنّ
زيدا قائم وعمرو» إذا قدرت عمرا معطوفا على المحل ، لا مبتدأ ، وأجاز هذه بعض
البصريين ، لأنهم لم يشترطوا المحرز ، وإنما منعوا الأولى لمانع آخر ، وهو توارد
عاملين إن والابتداء على معمول واحد وهو الخبر ، وأجازهما الكوفيون ؛ لأنهم لا
يشترطون المحرز ، ولأن إنّ لم تعمل عندهم فى الخبر شيئا ، بل هو مرفوع بما كان
مرفوعا به قبل دخولها ، ولكن شرط الفراء لصحة الرفع قبل مجىء الخبر خفاء إعراب
الاسم ، لئلا يتنافر اللفظ ، ولم يشترطه الكسائى ، كما أنه ليس لشرط بالاتفاق فى
سائر مواضع العطف على اللفظ ، وحجتهما قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) الآية ، وقولهم «إنّك وزيد ذاهبان» وأجيب عن الآية
بأمرين ، أحدهما : أن خبر إن محذوف أى مأجورون أو آمنون أو فرحون ، والصابئون
مبتدأ ، وما بعده الخبر ، ويشهد له قوله :
٧٢٣ ـ خليلىّ هل طبّ ؛ فإنّى وأنتما
|
|
وإن لم تبوحا
بالهوى دنفان؟ [ص ٦٢٢]
|
ويضعفه أنه حذف
من الأول لدلالة الثانى عليه ، وإنما الكثير العكس ، والثانى : أن الخبر المذكور
لإنّ ، وخبر (الصَّابِئُونَ) محذوف ، أى كذلك ، ويشهد له قوله :
٧٢٤ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله
|
|
فإنّى وقيّار
بها لغريب [ص ٦٢٢]
|
إذ لا تدخل
اللام فى خبر المبتدأ حتى يقدّم ، نحو «لقائم زيد» ويضعفه تقديم الجملة المعطوفة
على بعض الجملة المعطوف عليها ، وعن المثال بأمرين : أحدهما أنه عطف على توهم عدم
ذكر إن ، والثانى أنه تابع لمبتدأ محذوف ، أى إنك أنت وزيد ذاهبان ، وعليهما خرج
قولهم «إنّهم أجمعون ذاهبون».
المسألة
الثالثة : «هذا ضارب زيد وعمرا» بالنصب.
المسألة
الرابعة : «أعجبنى ضرب زيد وعمرو» بالرفع أو «وعمرا» بالنصب ، منعهما الحذّاق ؛
لأن الاسم المشبه للفعل لا يعمل فى اللفظ حتى يكون بأل أو منونا أو مضافا ،
وأجازهما قوم تمسكا بظاهر قوله تعالى (وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) وقول الشاعر :
٧٢٥ ـ [هويت ثناء مستطابا مجدّدا]
|
|
فلا تخل من
تمهيد مجد وسوددا
|
وأجيب بأن ذلك
على إضمار عامل يدل عليه المذكور ، أى وجعل الشمس ، ومهدت سوددا ، أو يكون سوددا
مفعولا معه ، ويشهد للتقدير فى الآية أن الوصف فيها بمعنى الماضى ، والماضى المجرد
من أل لا يعمل النصب ، ويوضح لك مضيّة قوله تعالى (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) الآية ، وجوز
الزمخشرىّ كون (الشَّمْسَ) معطوفا على محل الليل ، وزعم مع ذلك أن الجعل مراد عنه
فعل مستمر فى الأزمنة لا فى الزمن الماضى بخصوصيته مع نصه فى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على أنه إذا حمل على الزمن المستمر كان بمنزلته إذا حمل
على الماضى فى أن إضافته محضة ، وأما قوله :
٧٢٦ ـ قد كنت داينت بها حسّانا
|
|
مخافة
الإفلاس واللّيّانا
|
فيجوز أن يكون «اللّيّانا»
مفعولا معه ، وأن يكون معطوفا على «مخافة» على حذف مضاف ، أى ومخافة الليان ، ولو
لم يقدر المضاف لم يصح ؛ لأن الليان فعل لغير المتكلم ، إذ المراد أنه داين حسان
خشية من إفلاس غيره ومطله ، ولا بدّ فى المفعول له من موافقته لعامله فى الفاعل.
ومن الغريب قول
أبى حيان : إن من شرط العطف على الموضع أن يكون للمعطوف عليه لفظ وموضع ؛ فجعل
صورة المسألة شرطا لها ، ثم إنه أسقط الشرط الأول الذى ذكرناه ، ولا بدّ منه.
والثالث :
العطف على التوهم نحو «ليس زيد قائما ولا قاعد» بالخفض على توهم دخول الباء فى
الخبر ، وشرط جوازه صحة دخول ذلك العامل المتوهم ، وشرط حسنه كثرة دخوله هناك ،
ولهذا حسن قول زهير :
بدا لى أنّى
لست مدرك ما مضى
|
|
ولا سابق
شيئا إذا كان جائيا [١٣٥]
|
وقول الآخر :
٧٢٧ ـ ما الحازم الشّهم مقداما ولا
بطل
|
|
إن لم يكن
للهوى بالحقّ غلاما
|
ولم يحسن قول
الآخر :
٧٢٨ ـ وما كنت ذا نيرب فيهم
|
|
ولا منمش
فيهم منمل
|
لقلة دخول
الباء على خبر كان ، بخلاف خبرى ليس وما ، والنّيرب : النميمة ، والمنمل : الكثير
الميمة ، والمنمش : المفسد ذات البين.
وكما وقع هذا
العطف فى المجرور وقع فى أخيه المجزوم ، ووقع أيضا فى المرفوع اسما ، وفى المنصوب
اسما وفعلا ، وفى المركبات.
فأما المجزوم
فقال به الخليل وسيبويه فى قراءة غير أبى عمرو (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) فإن معنى لو لا أخرتنى فأصدق ومعنى إن أخرتنى أصّدّق
واحد ، وقال السيرافى والفارسى : هو عطف على محل فأصدق كقول الجميع فى قراءة
الأخوين (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) بالجزم ، ويردّه أنهما يسلمان أن الجزم فى نحو «ائتنى
أكرمك» بإضمار الشرط ، فليست الفاء هنا وما بعدها فى موضع حزم ؛ لأن ما بعد الفاء
منصوب بأن مضمرة ، وأن والفعل فى تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم مما تقدم ، فكيف
تكون الفاء مع ذلك فى موضع الجزم؟ وليس بين المفردين المتعاطفين شرط مقدر ، ويأتى
القولان فى قول الهذلى :
فأبلونى
بليّتكم لعلّى
|
|
أصالحكم
وأستدرج نويّا [٦٧٠]
|
أى نواى ،
وكذلك اختلف فى نحو «قام القوم غير زيد وعمرا» بالنصب ، والصواب أنه على التوهم ،
وأنه مذهب سيبويه ، لقوله لأن «غير زيد» فى موضع «إلا زيدا» ومعناه ، فشبهوه
بقولهم :
٧٢٩ ـ [معاوى إنّنا بشر فأسجح
|
|
فلسنا
بالجبال ولا الحديدا
|
وقد استنبط من
ضعف فهمه من إنشاد هذا البيت هنا أنه يراه عطفا على المحل ولو أراد ذلك لم يقل
إنهم شبهوه به.
رجع القول إلى
المجزوم ـ وقال به الفارسى فى قراءة قنبل : (إنه من يتق ويصبر فإن الله) بإثبات
الياء فى (يتقى) وجزم (يصبر) فزعم أن من موصلة ، فلهذا ثبتت ياء يتقى ، وأنها ضمنت
معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء فى الخبر ، وإنما جزم (يَصْبِرْ) على توهم معنى من ، وقيل : بل وصل (يَصْبِرْ) بنية الوقف كقراءة نافع (ومحياى ومماتى) بسكون ياء (محياى)
وصلا ، وقيل : بل سكن لتوالى الحركات فى كلمتين كما فى (يَأْمُرُكُمْ) و (يُشْعِرُكُمْ) وقيل : من شرطية ، وهذه الياء إشباع ، ولام الفعل حذفت
للجازم ، أو هذه الياء لام الفعل ، واكتفى بحذف الحركة المقدرة.
وأما المرفوع
فقال سيبويه : واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون «إنهم أجمعين ذاهبون ، وإنك
وزيد ذاهبان» وذلك على أن معناه معنى الابتداء ، فيرى أنه قال هم ، كما قال :
*بدا لى أنّى لست مدرك ما مضى* البيت اه [١٣٥]
ومراده بالغلط
ما عبر عنه غيره بالتوهم ، وذلك ظاهر من كلامه ، ويوضحه إنشاده البيت ، وتوهم ابن
مالك أنه أراد بالغلط الخطأ فاعترض عليه بأنا متى جوّزنا ذلك عليهم زالت الثقة
بكلامهم ، وامتنع أن نثبت شيئا نادرا لإمكان أن يقال فى كل نادر : إن قائله غلط.
وأما المنصوب
اسما فقال الزمخشرى فى قوله تعالى (وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فيمن فتح الباء. كأنه قيل : ووهبنا له إسحاق ومن وراء
إسحاق يعقوب ، على طريقة قوله :
٧٣٠ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
|
|
ولا ناعب
إلّا ببين غرابها [ص ٥٥٣]
|
اه ، وقيل :
على إضمار وهبنا ، أى ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، بدليل
(فَبَشَّرْناها) لأن البشارة من الله تعالى بالشىء فى معنى الهبة ، وقيل
: هو مجرور عطفا على بإسحاق ، أو منصوب عطفا على محله ، ويردّ الأول أنه لا يجوز
الفصل بين العاطف والمعطوف على المجرور كمررت بزيد واليوم عمرو ، وقال بعضهم فى
قوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ) إنه عطف على معنى (إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا) وهو إنا خلقنا الكواكب فى السماء الدنيا زينة للسماء
كما قال تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً) ويحتمل أن يكون مفعولا لأجله ، أو مفعولا مطلقا ،
وعليهما فالعامل محذوف : أى وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب ، أو وحفظناها
حفظا.
وأما المنصوب فعلا فكقراءة بعضهم (ودوا لو تدهن فيدهنوا) حملا على معنى
ودوا أن تدهن ، وقيل فى قراءة حفص (لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) بالنصب : إنه عطف على معنى لعلى أبلغ ، وهو لعلى أن
أبلغ ، فإن خبر لعل يقترن بأن كثيرا ، نحو الحديث «فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن
بحجّته من بعض» ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد :
*للبس عباءة وتقرّ عينى* [٤٢٤]
ومع هذين
الاحتمالين فيندفع قول الكوفى : إن هذه القراءة حجة على جواز النصب فى جواب
الترجّى حملا له على التمنى.
وأما فى
المركبات فقد قيل فى قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ) إنه على تقدير ليبشركم وليذيقكم ، ويحتمل أن التقدير : وليذيقكم
وليكون كذا وكذا أرسلها ، وقيل فى قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ) إنه على معنى أرأيت كالذى حاجّ أو كالذى مر ، ويجوز أن
يكون على اضمار فعل ، أى أو رأيت مثل الذى ، فحذف لدلالة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ) عليه ؛ لأن كليهما تعجب ، وهذا التأويل هنا وفيما تقدم
أولى ؛ لأن اضمار الفعل لدلالة
المعنى عليه أسهل من العطف على المعنى ، وقيل : الكاف زائدة ، أى ألم تر
إلى الذى حاج أو الذى مر ، وقيل : الكاف [اسم] بمعنى مثل معطوف على الذى ، أى ألم
تنظر إلى الذى حاجّ أو إلى مثل الذى مر.
تنبيه ـ من
العطف على المعنى على قول البصريين نحو «لألزمنّك او تقضينى حقّى» إذ النصب عندهم
بإضمار أن ، وأن والفعل فى تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم ، أن ليكوننّ لزوم منى
أو قضاء منك لحقى ، ومنه (تقاتلونهم أو يسلموا) فى قراءة أبىّ بحذف النون ، وأما
قراءة الجمهور بالنون فبالعطف على لفظ تقاتلونهم ، أو على القطع بتقدير أو هم
يسلمون ، ومثله «ما تأتينا فتحدّثنا» بالنصب ، أى ما يكون منك إتيان فحديث ، ومعنى
هذا نفى الإتيان فينتفى الحديث ، أى ما تأتينا فكيف تحدثنا ، أو نفى الحديث فقط
حتّى كأنه قيل : ما تأتينا محدثا ، أى بل غير محدث ، وعلى المعنى الأول جاء قوله
سبحانه وتعالى (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) أى فكيف يموتون ، ويمتنع أن يكون على الثانى ؛ إذ يمتنع
أن يقضى عليهم ولا يموتون ، ويجوز رفعه فيكون إما عطفا على تأتينا ؛ فيكون كل
منهما داخلا عليه حرف النفى ، أو على القطع فيكون موجبا ، وذلك واضح فى نحو «ما
تأتينا فتجهل أمرنا» و «لم تقرأ فتنسى» لأن المراد إثبات جهله ونسيانه ، ولأنه لو
عطف لجزم تنسى وفى قوله :
٧٣١ ـ غير أنّا لم يأتنا بيقين
|
|
فنرجّى ونكثر
التّأميلا
|
اذ المعنى أنه
لم يأت باليقين فنحن نرجو خلاف ما أتى به لانتفاء اليقين عما أتى به ، ولو جزمه أو
نصبه لفسد معناه ؛ لأنه يصير منفيا على حدته كالأول إذا جزم ، ومنفيا على الجمع
إذا نصب ، وإنما المراد إثباته ، وأما إجازتهم ذلك فى المثال السابق فمشكلة ؛ لأن
الحديث لا يمكن مع عدم الإتيان ، وقد يوجه قولهم بأن يكون معناه ما تأتينا فى
المستقبل فأنت تحدثنا الآن ، عوضا عن ذلك ، وللاستئناف وجه آخر ، وهو أن
يكون على معنى السببية وانتفاء الثانى لانتفاء الأول ، وهو أحد وجهى النصب
، وهو قليل ، وعليه قوله :
٧٣٢ ـ فلقد تركت صبيّة مرحومة
|
|
لم تدر ما
جزع عليك فتجزع
|
أى لو عرفت
الجزع لجزعت ، ولكنها لم تعرفه فلم تجزع ، وقرأ عيسى بن عمر (فيموتون) عطفا على (يُقْضى) ، وأجاز ابن خروف فيه الاستئناف على معنى السببية كما قدمنا فى البيت ،
وقرأ السبعة (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) وقد كان النصب ممكنا مثله فى (فَيَمُوتُوا) ولكن عدل عنه لتناسب الفواصل ، والمشهور فى توجيهه أنه
لم يقصد إلى معنى السببية ، بل إلى مجرد العطف على الفعل وإدخاله معه فى سلك النفى
؛ لأن المراد بلا يؤذن لهم نفى الإذن فى الاعتذار ، وقد نهوا عنه فى قوله تعالى (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فلا يتأتى العذر منهم بعد ذلك ، وزعم ابن مالك بدر الدين أنه مستأنف
بتقدير : فهم يعتذرون ، وهو مشكل على مذهب الجماعة ؛ لاقتضائه ثبوت الاعتذار مع
انتفاء الإذن كما فى قولك «ما تؤذينا فنحبّك» بالرفع ، ولصحة الاستئناف يحمل ثبوت
الاعتذار مع مجىء (لا تَعْتَذِرُوا
الْيَوْمَ) على اختلاف المواقف ، كما جاء (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، وإليه ذهب ابن الحاجب ؛ فيكون بمنزلة «ما تأتينا فتجهل أمورنا» ويردّه أن
الفاء غير العاطفة للسببية ، ولا يتسبب الاعتذار فى وقت عن نفى الإذن فيه فى وقت
آخر ، وقد صح الاستئناف بوجه آخر يكون الاعتذار معه منفيا ، وهو ما قدمناه ونقلناه
عن ابن خروف من أن المستأنف قد يكون على معنى السببية ، وقد صرح به هنا الأعلم ،
وأنه فى المعنى مثل (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) ورده ابن عصفور بأن الإذن
__________________
فى الاعتذار قد يحصل ولا يحصل اعتذار ، بخلاف الفضاء عليهم ؛ فإنه يتسبب
عنه الموت جزما ، وردّ عليه ابن الضائع بأن النصب على معنى السببية فى «ما تأتينا
فتحدثنا» جائز بإجماع ، مع أنه قد يحصل الإتيان ولا يحصل التحديث ، والذى أقول :
إن مجىء الرفع بهذا المعنى قليل جدا ؛ فلا يحسن حمل التنزيل عليه.
تنبيه ـ «لا
تأكل سمكا وتشرب لبنا» إن جزمت فالعطف على اللفظ والنهى عن كل منهما ، وإن نصبت
فالعطف عند البصريين على المعنى والنهى عند الجميع عن الجمع ، أى لا يكن منك أكل
سمك مع شرب لبن ، وإن رفعت فالمشهور أنه نهى عن الأول وإباحة للثانى ، وأن المعنى
: ولك شرب اللبن ، وتوجيهه أنه مستأنف ، فلم يتوجه إليه حرف النهى ، وقال بدر
الدين ابن مالك : إن معناه كمعنى وجه النصب ، ولكنه على تقدير لا تأكل السمك وأنت تشرب اللبن ، اه. وكأنه قدّر الواو للحال ،
وفيه بعد ؛ لدخولها فى اللفظ على المضارع المثبت ، ثم هو مخالف لقولهم ؛ إذ جعلوا
لكل من أوجه الإعراب معنى.
عطف الخبر على الإنشاء ، وبالعكس
منعه البيانيون
، وابن مالك فى شرح باب المفعول معه من كتاب التسهيل ، وابن عصفور فى شرح الإيضاح
، ونقله عن الأكثرين ، وأجازه الصفار ـ بالفاء ـ تلميذ ابن عصفور ، وجماعة ،
مستدلين بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فى سورة البقرة ، (وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) فى سورة الصف ، قال أبو حيان : وأجاز سيبويه «جاءنى زيد
ومن عمرو العاقلان» على أن يكون العاملان خبرا لمحذوف ، ويؤيده قوله :
__________________
وإنّ شفائى
عبرة مهراقة
|
|
وهل عند رسم
دارس من معوّل؟ [٥٧٠]
|
وقوله :
٧٣٣ ـ تناغى غزالا عند باب ابن عامر
|
|
وكحّل أماقيك
الحسان بإثمد
|
واستدل الصفار
بهذا البيت ، وقوله :
وقائلة خولان
فانكح فتاتهم
|
|
[وأكرومة الحيّين خلو كما هيا] [٢٧١]
|
فإن تقديره عند
سيبويه : هذه خولان :
وأقول : أما
آية البقرة فقال الزمخشرى : ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مشاكل ، بل
المراد عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عذاب الكافرين ، كقولك «زيد يعاقب بالقيد
وبشّر فلانا بالإطلاق» وجوز عطفه على (فَاتَّقُوا) وأنمّ من كلامه فى الجواب الأول أن يقال : المعتمد
بالعطف جملة الثواب كما ذكر ، ويزاد عليه فيقال : والكلام منظور فيه إلى المعنى
الحاصل منه ، وكأنه قيل : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات فبشرهم بذلك ،
وأما الجواب الثانى ففيه نظر ؛ لأنه لا يصح أن يكون جوابا للشرط ؛ إذ ليس الأمر
بالتبشير مشروطا بعجز الكافرين عن الإتيان بمثل القرآن ، ويجاب بأنه قد علم أنهم
غير المؤمنين ، فكأنه قيل : فإن لم يفعلوا فبشر غيرهم بالجنات ، ومعنى هذا فبشر
هؤلاء المعاندين بأنه لا حظّ لهم من الجنة.
وقال فى آية
الصف : إن العطف على (تُؤْمِنُونَ) لأنه بمعنى آمنوا ، ولا يقدح فى ذلك أن المخاطب بتؤمنون
المؤمنون ، وببشّر النبى عليه الصلاة والسّلام ،
ولا أن يقال فى (تُؤْمِنُونَ)
: إنه تفسير
للتجارة لا طلب ، وإن (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الاستفهام تنزيلا لسبب السبب منزله السبب كما مر
فى بحث الجمل المفسرة ؛ لأن تخالف الفاعلين لا يقدح ، تقول «قوموا واقعد يا زيد»
ولأن (فَتُؤْمِنُونَ) لا يتعين للتفسير ، سلمنا ، ولكن يحتمل أنه تفسير مع
كونه أمرا ، وذلك بأن يكون معنى الكلام السابق اتجروا تجارة تنجيكم من عذاب أليم
كما كان (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) فى معنى انتهوا ، أو بأن يكون تفسيرا فى المعنى دون
الصناعة ؛ لأن الأمر قد يساق لإفادة المعنى الذى يتحصّل من المفسرة ، يقول : هل
أدلك على سبب نجاتك؟ آمن بالله ، كما تقول : هو أن تؤمن بالله ، وحينئذ فيمتنع
العطف ؛ لعدم دخول التبشير فى معنى التفسير.
وقال السكاكى :
الأمران معطوفان على قل مقدرة قبل (يا أَيُّهَا) ، وحذف القول كثير ، وقيل : معطوفان على أمر محذوف تقديره فى الأولى فأنذر
، وفى الثانية فأبشر ، كما قال الزمخشرى فى (وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا)
: إن التقدير
فاحذرنى واهجرنى ، لدلالة (لَأَرْجُمَنَّكَ) على التهديد.
وأما *وهل عند
رسم دارس من معوّل* [٥٧٠] فهل فيه نافية ، مثلها (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) :
وأما *هذه
خولان* [٢٧١] فمعناه تنبه لخولان ، أو الفاء لمجرد السببية مثلها فى جواب الشرط ،
وإذ قد استدلا بذلك فهلا استدلّا بقوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ونحوه فى التنزيل كثير.
وأما *وكحّل
أماقيك* [٧٣٣] فيتوقف على النظر فيما قبله من الأبيات ، وقد يكون معطوفا على أمر
مقدر يدلّ عليه المعنى ، أى فافعل كذا وكحل ، كما قيل فى (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).
وأما ما نقله
أبو حيان عن سيبويه فغلط عليه ، وإنما قال : واعلم أنه لا يجوز «من عبد الله وهذا
زيد الرجلين الصالحين» رفعت أو نصبت ؛ لأنك لا تثنى إلا على من أثبتّه وعلمته ،
ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة ، وقال الصفار : لما
منعها سيبويه من جهة النعت علم أنّ زوال النعت يصحّحها ؛ فتصرّف أبو حيان فى كلام
الصفار فوهم فيه ، ولا حجة فيما ذكر الصفار ؛ إذ قد يكون للشىء مانعان ويقتصر على
ذكر أحدهما ؛ لأنه الذى اقتضاه المقام. والله أعلم.
عطف الاسمية على الفعلية ، وبالعكس
فيه ثلاثة
أقوال :
أحدها : الجواز
مطلقا ، وهو المفهوم من قول النحويين فى باب الاشتغال فى مثل «قام زيد وعمرا
أكرمته» إن نصب عمرا أرجح ؛ لأن تناسب الجملتين المتعاطفتين أولى من تخالفهما.
والثانى :
المنع مطلقا ، حكى عن ابن جنى أنه قال فى قوله :
٧٣٤ ـ عاضها الله غلاما بعد ما
|
|
شابت الأصداغ
والضّرس نقد
|
إن الضرس فاعل
بمحذوف يفسره المذكور ، وليس بمبتدأ ، ويلزمه إيجاب النصب فى مسألة الاشتغال
السابقة ، إلا إن قال : أقدر الواو للاستئناف.
والثالث : لأبى
على ، أنه يجوز فى الواو فقط ، نقله عنه أبو الفتح فى سر الصناعة ، وبنى عليه منع
كون الفاء فى «خرجت فإذا الأسد حاضر» عاطفة.
وأضعف الثلاثة
القول الثانى ، وقد لهج به الرازى فى تفسيره ، وذكر فى كتابه فى مناقب الشافعى رضى
الله عنه أن مجلسا جمعه وجماعة من الحنفية ،
وأنهم زعموا أن قول الشافعى «يحلّ أكل متروك التسمية» مردود بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فقال : فقلت لهم : لا دليل فيها ، بل هى حجة للشافعى ،
وذلك لأن الواو ليست للعطف ؛ لتخالف الجملتين بالاسمية والفعلية ، ولا للاستئناف ؛
لأن أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها ، فبقى أن تكون للحال ؛ فتكون جملة
الحال مقيدة للنهى ، والمعنى لا تأكلوا منه فى حالة كونه فسقا ، ومفهومه جواز
الأكل إذا لم يكن فسقا ، والفسق قد فسره الله تعالى بقوله (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ
بِهِ) فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سمى عليه غير الله ، ومفهومه
كلوا منه إذا لم يسم عليه غير الله ، اه ملخصا موضحا. ولو أبطل العطف لتخالف
الجملتين بالإنشاء والخبر لكان صوابا.
العطف على معمولى عاملين
وقولهم «على
عاملين» فيه تجوز ، أجمعوا على جواز العطف على معمولى عامل واحد ، نحو «إن زيدا
ذاهب وعمرا جالس» وعلى معمولات عامل نحو «أعلم زيد عمرا بكرا جالسا ، وأبو بكر
خالدا سعيدا منطلقا» وعلى منع العطف على معمولى أكثر من عاملين نحو «إنّ زيدا ضارب
أبوه لعمرو ، وأخاك غلامه بكر» وأما معمولا عاملين ، فإن لم يكن أحدهما جارا فقال
ابن مالك : هو ممتنع إجماعا نحو «كان آكلا طعامك عمرو وتمرك بكر» وليس كذلك ، بل نقل
الفارسىّ الجواز مطلقا عن جماعة ، وقيل : إن منهم الأخفش ، وإن كان أحدهما جارا
فإن كان الجارّ مؤخرا نحو «زيد فى الدار والحجرة عمرو ، أو وعمرو الحجرة» فنقل
المهدوىّ أنه ممتنع إجماعا ، وليس كذلك ، بل هو جائز عند من ذكرنا ، وإن كان الجار
مقدما نحو «فى الدار زيد والحجرة عمرو» فالمشهور عن سيبويه المنع ، وبه قال المبرد
وابن السراج وهشام ، وعن الأخفش الإجازة ، وبه قال الكسائى والفراء والزجاج ،
وفصّل قوم ـ منهم الأعلم ـ فقالوا : إن ولى المخفوض العاطف كالمثال جاز ، لأنه
كذا سمع ، ولأن فيه تعادل المتعاطفات ، وإلا امتنع نحو «فى الدار زيد وعمرو
الحجرة».
وقد جاءت مواضع
يدلّ ظاهرها على خلاف قول سيبويه ، كقوله تعالى (إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ
مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) آيات الأولى منصوبة إجماعا ؛ لأنها اسم إن ، والثانية
والثالثة قرأهما الأخوان بالنصب ، والباقون بالرفع ، وقد استدل بالقراءتين فى (آياتٌ) الثالثة على المسألة ، أما الرفع فعلى نيابة الواو مناب
الابتداء وفى ، وأما النصب فعلى نيابتها مناب إنّ وفى.
وأجيب بثلاثة
أوجه :
أحدها : أن فى
مقدرة ؛ فالعمل لها ، ويؤيده أن فى حرف عبد الله التصريح بقى ، وعلى هذا الواو
نائبة مناب عامل واحد ، وهو الابتداء أو إنّ.
والثانى : أن
انتصاب (آياتٌ) على التوكيد للأولى ، ورفعها على تقدير مبتدأ ، أى هى
آيات ، وعليهما فليست فى مقدرة.
والثالث : يخصّ
قراءة النصب ، وهو أنه لى إضمار إنّ وفى ، ذكره الشاطبى وغيره ، وإضمار إنّ بعيد.
ومما يشكل على
مذهب سيبويه قوله :
هوّن عليك ؛
فإنّ الأمور
|
|
بكفّ الإله
مقاديرها
|
[٢٣٢]
فليس بآتيك
منهيّها
|
|
ولا قاصر عنك
مأمورها
|
لأن «قاصر» عطف
على مجرور الباء ، فإن كان مأمورها عطفا على مرفوع
ليس لزم العطف على معمولى عاملين ، وإن كان فاعلا بقاصر لزم عدم الارتباط
بالمخبر عنه ؛ إذ التقدير حينئذ فليس منهيا بقاصر عنك مأمورها.
وقد أجيب عن
الثانى بأنه لما كان الضمير فى مأمورها عائدا على الأمور كان كالعائد على
المنهيّات ؛ لدخولها فى الأمور.
واعلم أن
الزمخشرىّ ممن منع العطف المذكور ، ولهذا اتجه له أن يسأل فى قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) الآيات ، فقال : فإن قلت : نصب إذا معضل ؛ لأنك إن جعلت
الواوات عاطفة وقعت فى العطف على عاملين ، يعنى أنّ إذا عطف على إذا المنصوبة
بأقسم ، والمخفوضات عطف على الشمس المخفوضة بواو القسم ، قال : وإن جعلتهن للقسم
وقعت فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه ، يعنى أنهما استكرها ذلك لئلا يحتاج
كل قسم إلى جواب يخصه ، ثم أجاب بأن فعل القسم لما كان لا يذكر مع واو القسم بخلاف
الباء صارت كأنها هى الناصبة الخافضة فكان العطف على معمولى عامل.
قال ابن الحاجب
: وهذه قوة منه ، واستنباط لمعنى دقيق ، ثم اعترض عليه بقوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ
الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) فإن الجار هنا الباء ، وقد صرح معه بفعل القسم ؛ فلا
تنزل الباء منزلة الناصبة الخافضة ، اه.
وبعد ، فالحق
جواز العطف على معمولى عاملين فى نحو «فى الدّار زيد والحجرة عمرو» ولا إشكال
حينئذ فى الآية.
وأخذ ابن
الخباز جواب الزمخشرىّ فجعله قولا مستقلا فقال فى كتاب النهاية : وقيل إذا كان أحد
العاملين محذوفا فهو كالمعدوم ، ولهذا جاز العطف فى نحو (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ
إِذا تَجَلَّى) وما أظنه وقف فى ذلك على كلام غير الزمخشرى فينبغى له
أن يقيد الحذف بالوجوب.
المواضع التى يعود الضمير فيها على متأخر لفظا ورتبة
وهى سبعة :
أحدها : أن
يكون الضمير مرفوعا بنعم أو بئس ، ولا يفسر إلا بالتمييز ، نحو «نعم رجلا زيد ،
وبئس رجلا عمرو» ويلتحق بهما فعل الذى يراد به المدح والذم نحو (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) و (كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ) و «ظرف رجلا زيد» وعن الفراء والكسائى أن المخصوص هو الفاعل ، ولا ضمير فى
الفعل ، ويرده «نعم رجلا كان زيد» ولا يدخل الناسخ على الفاعل ، وأنه قد يحذف نحو (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).
الثانى : أن
يكون مرفوعا بأول المتنازعين المعمل ثانيهما نحو قوله :
٧٣٥ ـ جفونى ولم أجف الأخلاء ؛ إنّنى
|
|
لغير جميل من
خليلى مهمل
|
والكوفيون
يمنعون من ذلك ، فقال الكسائى : يحذف الفاعل ، وقال الفراء : يضمر ويؤخر عن المفسر
، فإن استوى العاملان فى طلب الرفع وكان العطف بالواو نحو «قام وقعد أخواك» فهو
عنده فاعل بهما.
الثالث : أن
يكون مخبرا عنه فيفسره خبره نحو (إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) قال الزمخشرى : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما
يتلوه ، وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ثم وضع هى موضع الحياة لأن الخبر يدل
عليها ويبيّنها ، قال : ومنه :
٧٣٦ ـ *هى النّفس تحمل ما حمّلت*
و «هى العرب
تقول ما شاءت» قال ابن مالك : وهذا من جيد كلامه ، ولكن فى تمثيله بهى النفس وهى
العرب ضعف ؛ لإمكان جعل النفس والعرب بدلين وتحمل وتقول خبرين ، وفى كلام ابن مالك
أيضا ضعف ؛ لإمكان وجه ثالث
فى المثالين لم يذكره ، وهو كون هى ضمير القصة ، فإن أراد الزمخشرى أن
المثالين يمكن حملهما على ذلك لا أنه متعين فيهما فالضعف فى كلام ابن مالك وحده.
الرابع : ضمير
الشأن والقصة نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ونحو (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ
أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والكوفى يسميه ضمير المجهول.
وهذا الضمير
مخالف للقياس من خمسة أوجه :
أحدها : عوده
على ما بعده لزوما ؛ إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم هى ولا شىء منها عليه
، وقد غلط يوسف ابن السيرافى ؛ إذ قال فى قوله :
٧٣٧ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا
|
|
تميما بجوّ
الشّام أم متساكر
|
فيمن رفع سكران
وابن المراغة : إن كان شانية ، وابن المراغة سكران : مبتدأ وخبر ، والجملة خبر
كان. والصواب أن كان زائدة ، والأشهر فى إنشاده نصب سكران ورفع ابن المراغة ؛
فارتفاع متساكر على أنه خبر لهو محذوفا ، ويروى بالعكس ؛ فاسم كان مستتر فيها.
والثانى : أن
مفسره لا يكون إلا جملة ، ولا يشاركه فى هذا ضمير ، وأجاز الكوفيون والأخفش تفسيره
بمفرد له مرفوع نحو «كان قائما زيد ، وظننته قائما عمرو» وهذا إن سمع خرج على أن
المرفوع مبتدأ ، واسم كان وضمير ظننته راجعان إليه ؛ لأنه فى نية التقديم ، ويجوز
كون المرفوع بعد كان اسما لها ، وأجاز الكوفيون «إنه قام» و «إنه ضرب» على حذف
المرفوع والتفسير بالفعل مبنيا للفاعل أو للمفعول ، وفيه فسادان : التفسير بالمفرد
، وحذف مرفوع الفعل.
والثالث : أنه
لا يتبع بتابع ؛ فلا يؤكد ، ولا يعطف عليه ، ولا يبدل منه.
والرابع : أنه
لا يعمل فيه إلا الابتداء أو أحد نواسخه.
والخامس : أنه
ملازم للإفراد ، فلا يثنّى ولا يجمع ، وإن فسر بحديثين أو أحاديث.
وإذا تقرر هذا
علم أنه لا ينبغى الحمل عليه إذا أمكن غيره ، ومن ثمّ ضعف قول الزمخشرى فى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) إن اسم إن ضمير الشأن ، والأولى كونه ضمير الشيطان ،
ويؤيده أنه قرىء (وَقَبِيلُهُ) بالنصب ، وضمير الشأن لا يعطف عليه ، وقول كثير من
النحويين إن اسم أنّ المفتوحة المخففة ضمير شأن ، والأولى أن يعاد على غيره إذا
أمكن ، ويؤيده قول سيبويه فى (أَنْ يا إِبْراهِيمُ
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) إن تقديره أنك ، وفى «كتبت إليه أن لا يفعل» إنه يجزم
على النهى ، وينصب على معنى لئلا ، ويرفع على أنك.
الخامس : أن يجر برب مفسّرا بتمييز ، وحكمه حكم ضمير نعم وبئس
فى وجوب كون مفسره تمييزا وكونه هو مفردا ، وقال :
٧٣٨ ـ ربّه فتية دعوت إلى ما
|
|
يورث المجد
دائبا فأجابوا
|
ولكنه يلزم
أيضا التذكير ، فيقال «ربّه امرأة» لا ربّها ، ويقال «نعمت امرأة هند» وأجاز
الكوفيون مطابقته للتمييز فى التأنيث والتثنية والجمع ، وليس بمسموع.
وعندى أن
الزمخشرى يفسر الضمير بالتمييز فى غير بابى نعم وربّ ، وذلك أنه قال فى تفسير (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) الضمير فى (فَسَوَّاهُنَّ) ضمير مبهم ، وسبع سموات تفسيره ، كقولهم «ربه رجلا»
وقيل : راجع إلى السماء ، والسماء فى معنى الجنس ، وقيل : جمع سماءة ، والوجه
العربى هو الأول ، اه. وتؤول على أن مراده أن سبع سموات بدل ، وظاهر تشبيهه بربه
رجلا يأباه.
السادس : أن
يكون مبدلا منه الظاهر المفسر له ، كـ «ضربته زيدا» قال
__________________
ابن عصفور : أجازه الأخفش ومنعه سيبويه ، وقال ابن كيسان : هو جائز بإجماع
، نقله عنه ابن مالك ، ومما خرجوا على ذلك قولهم «اللهمّ صلّ عليه الرّؤوف الرّحيم»
وقال الكسائى : هو نعت ، والجماعة يأبون نعت الضمير ، وقوله :
قد أصبحت
بقرقرى كوانسا
|
|
فلا تلمه أن
ينام البائسا [٦٩٥]
|
وقال سيبويه :
هو بإضمار أذمّ ، وقولهم «قاما أخواك ، وقاموا إخوتك ، وقمن نسوتك» وقيل : على
التقديم والتأخير ، وقيل : الألف والواو والنون أحرف كالتاء فى «قامت هند» وهو
المختار.
والسابع : أن
يكون متصلا بفاعل مقدم ، ومفسره مفعول مؤخر كـ «ضرب غلامه زيدا» أجازه الأخفش وأبو
الفتح وأبو عبد الله الطّوال من الكوفيين ، ومن شواهده قول حسان :
٧٣٩ ـ ولو أنّ مجدا أخلد الدّهر واحدا
|
|
من النّاس
أبقى مجده الدّهر مطعما
|
وقوله :
٧٤٠ ـ كسا حلمه ذا الحلم أثواب سودد
|
|
ورقّى نداه
ذا النّدى فى ذرى المجد
|
والجمهور يوجبون
فى ذلك فى النثر تقديم المفعول ، نحو (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) ويمتنع بالإجماع نحو «صاحبها فى الدار» لاتصال الضمير
بغير الفاعل ، ونحو «ضرب غلامها عبد هند» لتفسيره بغير المفعول ، والواجب فيهما
تقديم الخبر والمفعول ولا خلاف فى جواز نحو «ضرب غلامه زيد» وقال الزمخشرى فى (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا) الآية فى قراءة أبى عمرو فلا يحسبنهم
بالغيبة وضم آخر الفعل : إن الفعل : مسند للذين يفرحون واقعا على ضميرهم
محذوفا ، والأصل لا يحسبنّهم الذين يفرحون بمفازة ، أى لا يحسبنّ أنفسهم الذين
يفرحون فائزين ، و (فلا يحسبنهم) توكيد ، وكذا قال فى قراءة هشام (ولا يحسبن الذين
قتلوا فى سبيل الله أمواتا) بالغيبة : إن التقدير ولا يحسبنهم ، والذين فاعل ،
ورده أبو حيان باستلزامه عود الضمير على المؤخر ، وهذا غريب جدا ؛ فإن هذا المؤخر
مقدم فى الرتبة ؛ ووقع له نظير هذا فى قول القائل : مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا
سرجها ، فقال : تقديم الحال هنا على عاملها وهو ذاهبة ممتنع ، لأن فيه تقديم
الضمير على مفسره ، ولا شك أنه لو قدم لكان كقولك «غلامه ضرب زيد» ووقع لابن مالك
سهو فى هذا المثال من وجه غير هذا ، وهو أنه منع من التقديم لكون العامل صفة ، ولا
خلاف فى جواز تقديم معمول الصفة عليها بدون الموصوف ، ومن الغريب أن أبا حيان صاحب
هذه المقالة وقع له أنه منع من التقديم لكون العامل صفة ، ولا خلاف فى جواز تقديم
معمول الصفة عليها بدون الموصوف ، ومن الغريب أن أبا حيان صاحب هذه المقالة وقع له
أنه منع عود الضمير إلى ما تقدم لفظا ، وأجاز عوده إلى ما تأخر لفظا ورتبة ، أما
الأول فإنه منع فى قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْ مِنْ
سُوءٍ تَوَدُّ) كون ما شرطية ، لأن (تَوَدُّ) حينئذ يكون دليل الجواب ، لا جوابا ، لكونه مرفوعا ،
فيكون فى نية التقديم ، فيكون حينئذ الضمير فى (بَيِّنَةٍ) عائدا على ما تأخر لفظا ورتبة ، وهذا عجيب ، لأن الضمير
الآن عائد على متقدم لفظا ، ولو قدم (تَوَدُّ) لغير التركيب ، ويلزمه أن يمنع «ضرب زيدا غلامه» لأن
زيدا فى نية التأخير ، وقد استشعر ورود ذلك ، وفرق بينهما بما لا معوّل عليه ،
وأما الثانى فإنه قال فى قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) إن فاعل بدا عائد على السّجن المفهوم من ليسجننه
شرح حال الضمير المسمى فصلا وعمادا
والكلام فيه فى
أربع مسائل :
الأولى : فى
شروطه ، وهى ستة ، وذلك أنه يشترط فيما قبله أمران :
أحدهما : كونه
مبتدأ فى الحال أو فى الأصل ، نحو (أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) الآية (كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً
وَوَلَداً) وأجاز الأخفش وقوعه بين الحال وصاحبها كجاء زيد هو
ضاحكا ، وجعل منه (هؤُلاءِ بَناتِي
هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فيمن نصب (أَطْهَرُ) ، ولحن أبو عمرو من قرأ بذلك ، وقد خرّجت على أن (هؤُلاءِ بَناتِي) جملة ، و (هُنَّ) إما توكيد لضمير مستتر فى الخبر ، أو مبتدأ ولكم الخبر
؛ وعليهما فأطهر حال ، وفيهما نظر ، أما الأول فلأن بناتى جامد غير مؤول بالمشتق ،
فلا يتحمل ضميرا عند البصريين ، وأما الثانى فلأن الحال لا يتقدم على عاملها
الظرفى عند أكثرهم.
والثانى : كونه
معرفة كما مثلنا ، وأجاز الفراء وهشام ومن تابعهما من الكوفيين كونه نكرة نحو «ما
ظننت أحدا هو القائم» و «كان رجل هو القائم» وحملوا عليه (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ
أُمَّةٍ) فقدروا (أَرْبى) منصوبا.
ويشترط فيما
بعده أمران : كونه خبرا لمبتدأ فى الحال أو فى الأصل ، وكونه معرفة أو كالمعرفة فى
أنه لا يقبل أل كما تقدم فى خيرا وأقل ، وشرط الذى كالمعرفة : أن يكون اسما كما
مثلنا ، وخالف فى ذلك الجرجانى فألحق المضارع بالاسم لتشابههما وجعل منه (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) وهو عند غيره توكيد ، أو مبتدأ ، وتبع الجرجانىّ أبو
البقاء ، فأجاز الفصل فى (وَمَكْرُ أُولئِكَ
هُوَ يَبُورُ) وابن الخباز فقال فى شرح الإيضاح : لا فرق بين كون
امتناع أل لعارض كأفعل من والمضاف كمثلك وغلام زيد ، أو لذاته كالفعل المضارع ، اه
، وهو قول السهيلى ، قال فى قوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا ، وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)
: وإنما أتى
بضمير الفصل فى الأولين دون الثالث ، لأن بعض
الجهال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله كقول نمرود : أنا أحيى وأميت ، وأما
الثالث فلم يدّعه أحد من الناس ، اه.
وقد يستدل
لقوله الجرجانى بقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ
وَيَهْدِي) فعطف (يَهْدِي) على (الْحَقَّ) الواقع خبرا بعد الفصل ، اه.
ويشترط له فى
نفسه أمران :
أحدهما : أن
يكون بصيغة المرفوع ، فيمتنع «زيد إيّاه الفاضل ، وأنت إياك العالم» وأما «إنك
إياك الفاضل» فجائز على البدل عند البصريين ، وعلى التوكيد عند الكوفيين.
والثانى : أن
يطابق ما قبله ، فلا يجوز «كنت هو الفاضل» فأما قول جرير بن الخطفى.
٧٤١ ـ وكائن بالأباطح من صديق
|
|
يرانى لو
أصبت هو المصابا
|
وكان قياسه «يرانى
أنا» مثل (إِنْ تَرَنِ أَنَا
أَقَلَّ) فقيل : ليس هو فصلا وإنما هو توكيد للفاعل ، وقيل : بل
هو فصل ، فقيل : لما كان صديقه بمنزلة نفسه حتى كان إذا أصيب كأن صديقه هو قد أصيب
فجعل ضمير الصديق بمنزلة ضميره ، لأنه نفسه فى المعنى ، وقيل : هو على تقدير مضاف
إلى الياء ، أى يرى مصابى ، والمصاب حينئذ مصدر كقولهم «جبر الله مصابك» أى مصيبتك
، أى يرى مصابى هو المصاب العظيم ، ومثله فى حذف الصفة (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أى الواضح ، وإلا لكفروا بمفهوم الظرف (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) أى نافعا ، لأن أعمالهم توزن ، بدليل (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الآية ، وأجازوا «سير بزيد سير»
بتقدير الصفة ، أى واحد ، وإلا لم يفد ، وزعم ابن الحاجب أن الإنشاد «لو
أصيب» بإسناد الفعل إلى ضمير الصديق ، وإنّ «هو» توكيد له ، أو لضمير يرى ، قال :
إذ لا يقول عاقل يرانى مصلتا إذا أصابتنى مصيبة ، اه. وعلى ما قدمناه من تقدير
الصفة لا يتجه الاعتراض ، ويروى «يراه» أى يرى نفسه ، و «تراه» بالخطاب ، ولا
إشكال حينئذ ولا تقدير ، والمصاب حينئذ مفعول لا مصدر ، ولم يطلع على هاتين
الروايتين بعضهم فقال : ولو أنه قال يراه لكان حسنا ، أى يرى الصديق نفسه مصابا
إذا أصبت.
المسألة
الثانية : فى فائدته ، وهى ثلاثة أمور :
أحدها لفظى ،
وهو الإعلام من أول الأمر بأن ما بعده خبر لا تابع ، ولهذا سمى فصلا ، لأنه فصل
بين الخبر والتابع ، وعمادا ، لأنه يعتمد عليه معنى الكلام ، وأكثر النحويين يقتصر
على ذكر هذه الفائدة ، وذكر التابع أولى من ذكر أكثرهم الصفة ، لوقوع الفصل فى نحو
(كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) والضمائر لا توصف.
والثانى معنوى
، وهو التوكيد ، ذكره جماعة ، وبنوا عليه أنه لا يجامع التوكيد فلا يقال «زيد نفسه
هو الفاضل» وعلى ذلك سماه بعض الكوفيين دعامة ، لأنه يدعم به الكلام ، أى يقوى
ويؤكد.
والثالث معنوى
أيضا ، وهو الاختصاص ، وكثير من البيانيين يقتصر عليه ، وذكر الزمخشرى الثلاثة فى
تفسير (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) فقال : فائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ،
والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره.
المسألة
الثالثة : فى محله.
زعم البصريون
أنه لا محل له ، ثم قال أكثرهم : إنه حرف ، فلا إشكال ،
وقال الخليل : اسم ، ونظيره على هذا القول أسماء الأفعال فيمن يراها غير
معمولة لشىء ، وأل الموصولة ، وقال الكوفيون : له محل ، ثم قال الكسائى : محلّه
بحسب ما بعده ، وقال الفراء : بحسب ما قبله ؛ فمحله بين المبتدأ والخبر رفع ، وبين
معمولى ظن نصب ، وبين معمولى كان رفع عند الفراء ، ونصب عند الكسائى.
وبين معمولى
إنّ بالعكس.
المسألة
الرابعة : فيما يحتمل من الأوجه.
يحتمل فى نحو (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ونحو (إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ) الفصلية والتوكيد ، دون الابتداء لانتصاب ما بعده ، وفى
نحو (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) ونحو «زيد هو العالم ، وإنّ عمرا هو الفاضل» الفصلية
والابتداء ، دون التوكيد لدخول اللام فى الأولى ولكون ما قبله ظاهرا فى الثانية ،
والثالثة. ولا يؤكّد الظاهر بالمضمر لأنه ضعيف والظاهر قوى ، ووهم أبو البقاء ؛
فأجاز فى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) التوكيد ، وقد يريد أنه توكيد لضمير مستتر فى (شانِئَكَ) لا لنفس شانئك ، ويحتمل الثلاثة فى نحو «أنت أنت الفاضل»
ونحو (إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ومن أجاز إبدال الضمير من الظاهر أجاز فى نحو «إنّ زيدا
هو الفاضل» البدلية ، ووهم أبو البقاء ؛ فأجاز فى (تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللهِ هُوَ خَيْراً) كونه بدلا من الضمير المنصوب.
ومن مسائل
الكتاب «قد جرّبتك فسكنت أنت أنت» الضميران مبتدأ وخبر ، والجملة خبر كان ، ولو
قدّرت الأول فصلا أو توكيدا لقلت «أنت إياك».
والضمير فى
قوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) مبتدأ : لأن ظهور ما قبله يمنع التوكيد ، وتنكيره يمنع
الفصل.
__________________
وفى الحديث «كلّ
مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهودّانه أو ينصّرانه» إن قدّر
فى «يكون» ضمير لكل فأبواه مبتدأ ، وقوله «هما» إما مبتدأ ثان وخبره للذان والجملة
خبر أبواه ، وإما فصل ، وإما بدل من أبواه إذا أجزنا إبدال الضمير من الظاهر ، واللذان خبر أبواه ، وإن قدّر
«يكون» خاليا من الضمير فأبواه اسم يكون ، و «هما» مبتدأ أو فصل أو بدل ، وعلى
الأول فاللذان بالألف ، وعلى الأخيرين هو بالياء.
روابط الجملة بما هى خبر عنه
وهى عشرة :
أحدها الضمير ،
وهو الأصل ، ولهذا يربط به مذكورا كزيد ضربته ، ومحذوفا مرفوعا نحو (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إن قدر لهما ساحران ، ومنصوبا كقراءة ابن عامر فى سورة الحديد (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ولم يقرأ بذلك فى سورة النساء ، بل قرأ بنصب (كل)
كالجماعة ، لأن قبله جملة فعلية وهى (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ) فساوى بين الجملتين فى الفعلية ، بل بين الجمل ؛ لأن
بعده (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ) وهذا مما أغفلوه ، أعنى الترجيح باعتبار ما يعطف على
الجملة ، فإنهم ذكروا رجحان النصب على الرفع فى باب الاشتغال فى نحو «قام زيد
وعمرا أكرمته» للتناسب ، ولم يذكروا مثل ذلك فى نحو «زيد ضربته وأكرمت عمرا» ولا
فرق بينهما ، وقول أبى النجم :
[قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى
|
|
على ذنبا]
كلّه لم أصنع [٣٣٢]
|
ولو نصب «كل»
على التوكيد لم يصح ؛ لأن «ذنبا» نكرة ، أو على المفعولية كان فاسدا معنى ، لما
بيناه فى فصل كل ، وضعيفا صناعة ، لأن حق كل متصلة بالضمير أن لا تستعمل إلا
توكيدا أو مبتدأ نحو (إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) قرىء بالنصب والرفع
__________________
وقراءة جماعة (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) بالرفع ، ومجرورا نحو «السّمن منوان بدرهم» أى منه ،
وقول امرأة «زوجى المسّ مسّ أرنب والرّيح ريح زرنب» إذا لم نقل إن أل نائبة عن
الضمير ، وقوله تعالى (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أى إن ذلك منه ، ولا بدّ من هذا التقدير ، سواء أقدّرنا
اللام للابتداء ومن موصولة أو شرطية أم قدرنا اللام موطئة ومن شرطية ، أما على
الأول فلأن الجملة خبر ، وأما على الثانى فلأنه لا بد فى جواب اسم الشرط المرتفع
بالابتداء من أن يشتمل على ضمير ، سواء قلنا إنه الخبر أو إن الخبر فعل الشرط وهو
الصحيح ، وأما الثالث فلأنها جواب القسم فى اللفظ ، وجواب الشرط فى المعنى ، وقول
أبى البقاء والحوفى «إن الجملة جواب الشرط» مردود ؛ لأنها اسمية ، وقولهما «إنها
على إضمار الفاء» مردود ؛ لاختصاص ذلك بالشعر ، ويجب على قولهما أن تكون اللام
للابتداء ، لا للتوطئة.
تنبيه ـ قد
يوجد الضمير فى اللفظ ولا يحصل الرّبط ، وذلك فى ثلاث مسائل :
أحدها : أن
يكون معطوفا بغير الواو ، نحو «زيد قام عمرو فهو» أو «ثم هو».
والثانية : أن
يعاد العامل ، نحو «زيد قام عمرو وقام هو».
والثالثة : أن
يكون بدلا نحو «حسن الجارية الجارية أعجبتنى هو» فهو : بدل اشتمال من الضمير
المستتر العائد على الجارية ، وهو فى التقدير كأنه من جملة أخرى ، وقياس قول من
جعل العامل فى البدل نفس العامل فى المبدل منه أن تصحّ المسألة ، ونحو ذلك مسألة
الاشتغال ؛ فيجوز النصب والرفع فى نحو «زيد ضربت عمرا وأباه» ويمتنع الرفع والنصب
مع الفاء وثم ومع التصريح بالعامل ، وإذا أبدلت «أخاه» ونحوه من عمرو لم يجوزا ،
على ما مر من الاختلاف فى عامل البدل ،
__________________
فإن قدرته بيانا جاز باتفاق [أو بدلا لم يجز ] ويجوز بالاتفاق «زيد ضربت رجلا يحبه» رفعت زيدا أو
نصبته ؛ لأن الصفة والموصوف كالشىء الواحد.
الثانى :
الإشارة ، نحو (وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ
عَنْهُ مَسْؤُلاً) ويحتمله (وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ) وخص ابن الحاج المسألة بكون المبتدأ موصولا أو موصوفا
والإشارة إشارة البعيد ؛ فيمتنع نحو «زيد قام هذا» لمانعين ، و «زيد قام ذلك»
لمانع ، والحجة عليه فى الآية الثالثة ، ولا حجة عليه فى الرابعة ؛ لاحتمال كون (ذلِكَ) فيها بدلا أو بيانا ، وجوز الفارسى كونه صفة ، وتبعه
جماعة منهم أبو البقاء ، وردّه الحوفى بأن الصفة لا تكون أعرف من الموصوف.
الثالث : إعادة
المبتدأ بلفظه ، وأكثر وقوع ذلك فى مقام التهويل والتفخيم ، نحو (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) وقال :
٧٤٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شىء
|
|
نغّص الموت
ذا الغنى والفقيرا
|
والرابع :
إعادته بمعناه ، نحو «زيد جاءنى أبو عبد الله» إذا كان أبو عبد الله كنية له ،
أجازه أبو الحسن مستدلا بنحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ) وأجيب بمنع كون الذين مبتدأ ، بل [هو] مجرور بالعطف على
(الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ولئن سلّم فالرابط العموم ؛ لأن المصلحين أعم من
المذكورين ، أو ضمير محذوف ، أى منهم ، وقال الحوفى : الخبر محذوف ، أى مأجورون ؛
والجملة دليله.
والخامس : عموم
يشمل المبتدأ نحو «زيد نعم الرّجل» وقوله :
__________________
٧٤٣ ـ [ألا ليت شعرى هل إلى أمّ جحدر
|
|
سبيل؟] فأمّا
الصّبر عنها فلا صبرا
|
كذا قالوا ،
ويلزمهم أن يجيزوا «زيد مات الناس ، وعمرو كلّ الناس يموتون ، وخالد لا رجل فى
الدار» أما المثال فقيل : الرابط إعادة المبتدأ بمعناه بناء على قول أبى الحسن فى
صحة تلك المسألة ، وعلى القول بأن أل فى فاعلى نعم وبئس للعهد لا للجنس ، وأما
البيت فالرابط فيه إعادة المبتدأ بلفظه ، وليس العموم فيه مرادا ؛ إذ المراد أنه
لا صبر له عنها ؛ لأنه لا صبر له عن شىء.
والسادس : أن
يعطف بفاء السببية جملة ذات ضمير على جملة خالية منه أو بالعكس ، نحو (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وقوله :
٧٤٤ ـ وإنسان عينى يحسر الماء تارة
|
|
فيبدو ، وتارات
يحمّ فيغرق
|
كذا قالوا ،
والبيت محتمل لأن يكون أصله يحسر الماء عنه ، أى ينكشف عنه ، وفى المسألة تحقيق
تقدم فى موضعه.
والسابع :
العطف بالواو ، أجازه هشام وحده نحو «زيد قامت هند وأكرمها» ونحو «زيد قام وقعدت
هند» بناء على أن الواو للجمع ؛ فالجملتان كالجملة كمسألة الفاء ، وإنما الواو
للجمع فى المفردات لا فى الجمل ؛ بدليل جواز «هذان قائم وقاعد» دون «هذان يقوم
وقعد».
والثامن : شرط
يشتمل على ضمير مدلول على جوابه بالخبر ، نحو «زيد يقوم عمرو إن قام».
التاسع : أل
النائبة عن الضمير ، وهو قول الكوفيين وطائفة من البصريين ،
ومنه (وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) الأصل مأواه ، وقال المانعون : التقدير هى المأوى له.
والعاشر : كون
الجملة نفس المبتدأ فى المعنى ، نحو «هجّيرى أبى بكر لا إله إلّا الله» ومن هذا
أخبار ضمير الشأن والقصّة ، نحو (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ونحو (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ
أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
تنبيه ـ الرابط
فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) إما النون على أن الأصل وأزواج الذين ، وإما كلمة هم
مخفوضة محذوفة هى وما أضيف إليه على التدريج ، وتقديرهما إما قبل يتربّصن ، أى
أزواجهم يتربصن ، وهو قول الأخفش ، وإما بعده ، أى يتربصن بعدهم ، وهو قول الفراء
، وقال الكسائى ـ وتبعه ابن مالك ـ الأصل يتربّص أزواجهم ، ثم جىء بالضمير مكان
الأزواج لتقدم ذكرهن فامتنع ذكر الضمير ؛ لأن النون لا تضاف لكونها ضميرا ، وحصل
الربط بالضمير القائم مقام الظاهر المضاف للضمير.
الأشياء التى تحتاج إلى الرابط
وهى أحد عشر :
أحدها : الجملة
المخبر بها ، وقد مضت ، ومن ثمّ كان مردودا قول ابن الطراوة فى «لو لا زيد لأكرمتك»
: إن لأكرمتك هو الخبر ، وقول ابن عطية فى (فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ) إن لأملأن خبر الحق الأول فيمن قرأه بالرفع ، وقوله إن
التقدير أن أملأ مردود ؛ لأن أن تصير الجملة مفردا ، وجواب القسم لا يكون مفردا ،
بل الخبر فيهما محذوف ، أى لو لا زيد موجود ، والحق قسمى ، كما فى «لعمرك لأفعلنّ».
__________________
والثانى :
الجملة الموصوف بها ، ولا يربطها إلا الضمير : إما مذكورا نحو (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً
نَقْرَؤُهُ) أو مقدرا إما مرفوعا كقوله :
إن يقتلوك
فإنّ قتلك لم يكن
|
|
عارا عليك ،
وربّ قتل عار [٣١]
|
أى هو عار ، أو
منصوبا كقوله :
٧٤٥ ـ [حميت حمى تهامة بعد نجد]
|
|
وما شىء حميت
بمستباح
|
[ص ٦١٢ و ٦٣٣]
أى حميته ، أو
مجرورا نحو (وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ، وَلا
يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فإنه على تقدير فيه أربع مرات ، وقراءة الأعمش (فسبحان
الله حينا تمسون وحينا تصبحون) على تقدير فيه مرتين ، وهل حذف الجار والمجرور معا
أو حذف الجار وحده فانتصب الضمير واتصل بالفعل كما قال :
٧٤٦ ـ ويوما شهدناه سليما وعامرا
|
|
[قليلا سوى الطّعن النّهال نوافله]
|
أى شهدنا فيه ،
ثم حذف منصوبا؟ قولان : الأول عن سيبويه ، والثانى عن أبى الحسن ، وفى أمالى ابن
الشّجرى قال الكسائى : لا يجوز أن يكون المحذوف إلا الهاء ، أى أن الجار حذف أولا
، ثم حذف الضمير ، وقال آخر : لا يكون المحذوف إلا فيه ، وقال أكثر النحويين منهم
سيبويه والأخفش : يجوز الأمران ، والأقيس عندى الأول ، اه. وهو مخالف لما نقل غيره
، وزعم أبو حيان أن الأولى أن لا يقدر فى الآية الأولى ضمير ، بل يقدر أن الأصل
يوما يوم لا تجزى ، بإبدال يوم الثانى من الأول ، ثم حذف المضاف ، ولا يعلم أن
مضافا إلى جملة حذف ، ثم إن ادعى أن الجملة باقية
على محلها من الجر فشاذ ، أو أنها أنيبت عن المضاف ، تكون الجملة مفعولا فى
مثل هذا الموضع.
الثالث :
الجملة الموصول بها الأسماء ، ولا يربطها غالبا إلا الضمير : إما مذكورا نحو (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) ونحو (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) ونحو (يَأْكُلُ مِمَّا
تَأْكُلُونَ مِنْهُ) وإما مقدرا نحو (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ونحو (وما عملت أيديهم) (وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) ونحو (وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) والحذف من الصلة أقوى منه من الصفة ، ومن الصفة أقوى
منه من الخبر.
وقد يربطها
ظاهر يخلف الضمير كقوله :
فيا ربّ ليلى
أنت فى كلّ موطن
|
|
وأنت الّذى
فى رحمة الله أطمع [٣٤٣]
|
وهو قليل ،
قالوا وتقديره وأنت الذى فى رحمته ، وقد كان يمكنهم أن يقدروا فى رحمتك ، كقوله :
٧٤٧ ـ وأنت الّذين أخلفتنى ما وعدتنى
|
|
[وأشمتّ بى من كان فيك يلوم]
|
وكأنهم كرهوا
بناء قليل على قليل ؛ إذ الغالب «أنت الّذى فعل» وقولهم «فعلت» قليل. ولكنه مع هذا
مقيس ، وأما «أنت الّذى قام زيد» فقليل غير مقيس ، وعلى هذا فقول الزمخشرى فى قوله
تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) إنه يجوز كون العطف بثم على الجملة الفعلية ضعيف ؛ لأنه
يلزمه أن يكون من هذا القليل ، فيكون الأصل كفروا به ؛ لأن المعطوف على الصلة صلة
؛ فلا بد من رابط ، وأما إذا قدر العطف على الحمد لله وما بعده فلا إشكال.
__________________
الرابع :
الواقعة حالا ، ورابطها إما الواو والضمير نحو (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكارى) أو الواو فقط نحو (لَئِنْ أَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ونحو «جاء زيد والشمس طالعة» أو الضمير فقط نحو (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ
وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) وزعم أبو الفتح فى الصورة الثانية أنه لا بد من تقدير
الضمير ، أى طالعة وقت مجيئه ، وزعم الزمخشرى فى الثالثة أنها شاذة نادرة ، وليس
كذلك ؛ لورودها فى مواضع من التنزيل نحو (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (فنبذوه وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون) (وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) وقد يخلو منهما لفظا فيقدر الضمير نحو «مررت بالبر قفيز
بدرهم» أو الواو كقوله يصف غائصا لطلب اللؤلؤ انتصف النهار وهو غائص وصاحبه لا
يدرى ما حاله :
٧٤٨ ـ نصف النّهار الماء غامره
|
|
ورفيقه
بالغيب لا يدرى [ص ٦٣٦]
|
الخامس :
المفسرة لعامل الاسم المشتغل عنه نحو «زيدا ضربته ، أو ضربت أخاه ، أو عمرا وأخاه
، أو عمرا أخاه» إذا قدرت الأخ بيانا ، فإن قدرته بدلا لم يصحّ نصب الاسم على
الاشتغال ، ولا رفعه على الابتداء ، وكذا لو عطفت بغير الواو ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) الذين : مبتدأ ، وتعسا : مصدر لفعل محذوف هو الخبر ،
ولا يكون الذين منصوبا بمحذوف يفسره تعسا كما تقول «زيدا ضربا إياه» وكذا لا يجوز «زيدا
جدعا له» ولا «عمرا سقيا له» خلافا لجماعة منهم أبو حيان ؛ لأن اللام متعلقة
بمحذوف ، لا بالمصدر لأنه لا يتعدى بالحرف ، وليست لام التقوية لأنها لازمة ، ولام
التقوية غير لازمة ، وقوله تعالى (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ) إن قدرت (الرَّحْمنِ) زائدة فكم مبتدأ أو مفعول لآتينا مقدرا بعده ، وإن
قدرتها بيانا لكم
كما هى بيان لما فى (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) لم يجز واحد من الوجهين ، لعدم الراجع حينئذ إلى كم ،
وإنما هى مفعول ثان مقدم ، مثل «أعشرين درهما أعطيتك» وجوّز الزمخشرى فى كم
الخبرية والاستفهامية ، ولم يذكر النحويون أن كم الخبرية تعلّق العامل عن العمل ،
وجوّز بعضهم زيادة من كما قدمنا ، وإنما تزاد بعد الاستفهام بهل خاصة ، وقد يكون
تجويزه ذلك على قول من لا يشترط كون الكلام غير موجب مطلقا ، أو على قول من يشترطه
فى غير باب التمييز ، ويرى أنها فى «رطل من زيت ، وخاتم من حديد» زائدة ، لا مبينة
للجنس.
السادس والسابع
: بدلا البعض والاشتمال ، ولا يربطهما إلا الضمير : ملفوظا نحو (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ
مِنْهُمْ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ) أو مقدرا نحو (مَنِ اسْتَطاعَ) أى منهم ، ونحو (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ) أى فيه ، وقيل : إن أل خلف عن الضمير ، أى ناره ، وقال
الأعشى :
٧٤٩ ـ لقد كان فى حول ثواء ثويته
|
|
تقضّى لبانات
ويسأم سائم
|
أى ثوبته فيه ،
فالهاء من «ثويته» مفعول مطلق ، وهى ضمير الثّواء ، لأن الجملة صفته ، والهاء رابط
الصفة ، والضمير المقدر رابط للبدل ـ وهو ثواء ـ بالمبدل منه وهو حول ، وزعم ابن
سيده أنه يجوز كون الهاء من ثويته للحول على الاتساع فى ضمير الظرف بحذف كلمه فى ،
وليس بشى ، لخلو الصفة حينئذ من ضمير الموصوف ، ولاشتراط الرابط فى بدل البعض وجب
فى نحو قولك «مررت بثلاثة زيد وعمرو» القطع بتقدير منهم ، لأنه لو اتبع لكان بدل
بعض من غير ضمير.
تنبيه ـ إنما
لم يحتج بدل الكل إلى رابط لأنه نفس المبدل منه فى المعنى ، كما أن الجملة التى هى
نفس المبتدأ لا تحتاج إلى رابط لذلك.
الثامن : معمول
الصفة المشبهة ، ولا يربطه أيضا إلا الضمير : إما ملفوظا به نحو «زيد حسن وجهه» أو
«وجها منه» أو مقدرا نحو «زيد حسن وجها» أى منه ، واختلف فى نحو «زيد حسن الوجه»
بالرفع ؛ فقيل : التقدير منه ، وقيل : أل خلف عن الضمير ، وقال تعالى (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) جنات بدل أو بيان ، والثانى يمنعه البصريين ؛ لأنه لا
يجوز عندهم أن يقع عطف البيان فى النكرات ، وقول الزمخشرى إنه معرفة لأن عدنا علم
على الإقامة بدليل (جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) لو صح تعينت البدلية بالاتفاق ، إذ لا تبين المعرفة
النكرة ، ولكن قوله ممنوع ، وإنما عدن مصدر عدن ، فهو نكرة ، والتى فى الآية بدل
لا نعت ، و (مُفَتَّحَةً) حال من جنات لاختصاصها بالإضافة ، أو صفة لها ، لا صفة
لحسن ؛ لأنه مذكر ، ولأن البدل لا يتقدم على النعت ، و (الْأَبْوابُ) مفعول ما لم يسمّ فاعله أو بدل من ضمير مستتر ، والأول
أولى ؛ لضعف مثل «مررت بامرأة حسنة الوجه» وعليهما فلا بد من تقدير أن الأصل
الأبواب منها أو أبوابها ، ونابت أل عن الضمير ، وهذا البدل بدل بعض لا اشتمال
خلافا للزمخشرى.
التاسع : جواب
اسم الشرط المرفوع بالابتداء ، ولا يربطه أيضا إلا الضمير : إما مذكورا نحو (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) أو مقدرا أو منوبا عنه نحو (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) أى منه ، أو الأصل فى حجه ، وأما قوله تعالى (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى
فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) وقول الشاعر :
٧٥٠ ـ فمن تكن الحضارة أعجبته
|
|
فأىّ رجال
بادية ترانا؟
|
فقال الزمخشرى
فى الآية الأولى : إن الرابط عموم المتقين ، والظاهر أنه لا عموم فيها ، وأن
المتقين مساوون لمن تقدم ذكره ، وإنما الجواب فى الآيتين والبيت محذوف وتقديره فى
الآية الأولى : يحبه الله ، وفى الثانية : يغلب ، وفى البيت : فلسنا على صفته.
العاشر : العاملان
فى باب التنازع ، فلا بد من ارتباطهما إما بعاطف كما فى «قام وقعد أخواك» أو عمل
أوّلهما فى ثانيهما نحو (وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ
لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أو كون ثانيهما جوابا للأول ، إما جوابية الشرط نحو (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللهِ) ونحو (آتُونِي أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْراً) أو جوابية السؤال نحو (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) أو نحو ذلك من أوجه الارتباط ، ولا يجوز «قام قعد زيد»
ولذلك بطل قول الكوفيين إن من التنازع قول أمرىء القيس :
*كفانى ـ ولم أطلب ـ قليل من المال* [٤١٤]
وإنه حجة على
رجحان اختيار إعمال الأول ، لأن الشاعر فصيح وقد ارتكبه مع لزوم حذف مفعول الثانى
وترك إعمال الثانى مع تمكنه منه وسلامته من الحذف والصواب أنه ليس من التنازع فى
شىء ، لاختلاف مطلوبى العاملين ، فإن كفانى طالب للقليل ، وأطلب طالب للملك محذوفا
للدليل ، وليس طالبا للقليل ، لئلا يلزم فساد المعنى ، وذلك لأن التنازع يوجب
تقدير قوله ولم أطلب معطوفا على كفانى ، وحينئذ يلزم كونه مثبتا ، لأنه حينئذ داخل
فى حيز الامتناع المفهوم من لو ، وإذا امتنع النفى جاء الإثبات ، فيكون قد أثبت
طلبه للقليل بعد ما نفاه بقوله :
*ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة*
وإنما لم يجز
أن يقدر مستأنفا لأنه لا ارتباط حينئذ بينه وبين كفانى ؛ فلا تنازع بينهما.
فإن قلت : لم
لا يجوز التنازع على تقدير الواو للحال ، فإنك إذا قلت «لو دعوته لأجابنى غير
متوان» أفادت لو انتفاء الدعاء والإجابة دون انتفاء عدم التوانى حتى يلزم إثبات
التوانى؟
قلت : أجاز ذلك
قوم منهم ابن الحاجب فى شرح المفصل ووجّه به قول الفارسى والكوفيين إن البيت من
التنازع وإعمال الأول ، وفيه نظر ؛ لأن المعنى حينئذ لو ثبت أنى أسعى لأدنى معيشة
لكفانى القليل فى حالة أنى غير طالب له ؛ فيكون انتفاء كفاية القليل المقيدة بعدم
طلبه موقوفا على طلبه له ؛ فيتوقف عدم الشىء على وجوده.
ولهذه القاعدة
أيضا بطن قول بعضهم فى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن فاعل تبين ضمير راجع إلى المصدر المفهوم من أن
وصلتها بناء على أن تبين وأعلم قد تنازعاه كما فى «ضربنى وضربت زيدا» ؛ إذ لا
ارتباط بين تبين وأعلم ، على أنه لو صح لم يحسن حمل التنزيل عليه ؛ لضعف الإضمار
قبل الذكر فى باب التنازع ، حتى إن الكوفيين لا يجيزونه البتة ، وضعف حذف مفعول
العامل الثانى إذا أهمل كـ «ضربنى وضربت زيد» حتى إن البصريين لا يجيزونه إلا فى
الضرورة.
والصواب أن
مفعول أطلب «الملك» محذوفا كما قدمنا ، وأن فاعل تبين ضمير مستتر : إما للمصدر ،
أى فلما تبين له تبين كما قالوا فى (ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) أو لشىء دل عليه الكلام ، أى فلما تبين له الأمر أو ما
أشكل عليه ، ونظيره «إذا كان غدا فأتنى» أى إذا كان هو ، أى ما نحن عليه من سلامة.
الحادى عشر :
ألفاظ التوكيد الأول ، وإنما يربطها الضمير الملفوظ به نحو «جاء زيد نفسه ،
والزيدان كلاهما ، والقوم كلّهم» ومن ثمّ كان مردودا قول الهروى فى الذخائر تقول «جاء
القوم جميعا» على الحال ، و «جميع» على التوكيد ، وقول بعض من عاصرناه فى قوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)
: إن جميعا توكيد
لما ، ولو كان كذا لقيل جميعه ، ثم التوكيد بجميع قليل ، فلا يحمل عليه التنزيل ،
والصواب أنه حال ، وقول الفراء والزمخشرى فى قراءة بعضهم (إنا كلا فيها) : إن كلا
توكيد ، والصواب أنها بدل ، وإبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ جائز إذا كان
مفيدا للإحاطة ، نحو «قمتم ثلاثتكم» وبدل الكل لا يحتاج إلى ضمير ، ويجوز لكل أن
تلى العوامل إذا لم تتصل بالضمير ، نحو «جاءنى كلّ القوم» فيجوز مجيئها بدلا ،
بخلاف «جاءنى كلهم» فلا يجوز إلا فى الضرورة ، فهذا أحسن ما قيل فى هذه القراءة ،
وخرّجها ابن مالك على أن كلا حال ، وفيه ضعفان : تنكير كل بقطعها عن الإضافة لفظا
ومعنى ، وهو نادر ، كقول بعضهم «مررت بهم كلّا» أى جميعا ، وتقديم الحال على
عاملها الظرفى.
واحترزت بذكر
الأول عن أجمع وأخواته ، فإنها إنما تؤكد بعد كل ، نحو (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ).
الأمور التى يكتسبها لاسم بالإضافة
وهى عشرة :
أحدها :
التعريف ، نحو «غلام زيد» .
الثانى :
التخصيص ، نحو «علام امرأة» والمراد بالتخصيص الذى لم يبلغ
__________________
درجة التعريف ؛ فإن «غلام رجل» أخصّ من غلام ، ولكنه لم يتميز بعينه كما
يتميز «غلام زيد».
الثالث :
التخفيف ، كـ «ضارب زيد ، وضاربا عمرو ، وضاربو بكر» إذا أردت الحال أو الاستقبال
؛ فإن الأصل فيهن أن يعملن النصب ، ولكن الخفض أخفّ منه ؛ إذ لا تنوين معه ولا نون ، ويدلّ على أن هذه
الإضافة لا تفيد التعريف قولك «الضاربا زيد ، والضاربو زيد» ولا يجتمع على الاسم
تعريفان ، وقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) ولا توصف النكرة بالمعرفة ، وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) وقول أبى كبير :
٧٥١ ـ فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا
|
|
[سهدا إذا ما نام ليل الهوجل]
|
ولا تنتصب
المعرفة على الحال ، وقول جرير :
٧٥٢ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم
|
|
[لاقى مباعدة منكم وحرمانا]
|
ولا تدخل ربّ
على المعارف ، وفى التحفة أن ابن مالك ردّ على ابن الحاجب فى قوله «ولا تفيد إلا
تخفيفا» فقال : بل تفيد أيضا التخصص ، فإن «ضارب زيد» أخصّ من «ضارب» وهذا سهو ؛
فإن «ضارب زيد» أصله «ضارب زيدا» بالنصب ، وليس أصله ضاربا فقط ؛ فالتخصيص حاصل
بالمعمول قبل أن تأنى الإضافة.
فإن لم يكن
الوصف بمعنى الحال والاستقبال ؛ فإضافته محضة تفيد التعريف والتخصيص ؛ لأنها ليست
فى تقدير الانفصال.
وعلى هذا صحّ
وصف اسم الله تعالى بمالك يوم الدين ، قال الزمخشرى : أريد باسم الفاعل هنا : إما
الماضى ، كقولك «هو مالك عبيده أمس»
__________________
أى مالك الأمور يوم الدين على حد (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ولهذا قرأ أبو حنيفة (ملك يوم الدين) وإما الزمان
المستمر كقولك «هو مالك العبيد» فإنه بمنزلة قولك مولى العبيد ، اه ملخصا.
وهو حسن ، إلا
أنه نقض هذا المعنى الثانى عند ما تكلم على قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) فقال : قرىء بجر الشمس والقمر عطفا على الليل ،
وبنصبهما بإضمار جعل أو عطفا على محل الليل ، لأن اسم الفاعل هنا ليس فى معنى
المضى فتكون إضافته حقيقية ، بل هو دال على جعل مستمر فى الأزمنة المختلفة ، ومثله
(فالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوى) و (فالِقُ الْإِصْباحِ) كما تقول «زيد قادر عالم» ولا تقصد زمانا دون زمان ،
اه.
وحاصله أن
إضافة الوصف إنما تكون حقيقية إذا كان بمعنى الماضى ، وأنه إذا كان لإفادة حدث
مستمر فى الأزمنة كانت إضافته غير حقيقية ، وكان عاملا ، وليس الأمر كذلك.
الرابع : إزالة
القبح أو التجوز ، كـ «مررت بالرجل الحسن الوجه» فإن الوجه إن رفع قبح الكلام ،
لخلو الصفة لفظا عن ضمير الموصوف ، وإن نصب حصل التجوز بإجرائك الوصف القاصر مجرى
المتعدى.
الخامس : تذكير
المؤنث كقوله :
٧٥٣ ـ إنارة العقل مكسوف بطوع هوى
|
|
وعقل عاصى
الهوى يزداد تنويرا
|
ويحتمل أن يكون
منه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ويبعده (لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) فذكّر الوصف حيث لا إضافة ، ولكن ذكر الفراء أنهم
التزموا التذكير فى «قريب» إذا لم يرد قرب النسب ، قصدا للفرق ، وأما قول الجوهرى «إن
التذكير لكون التأنيث مجازيا» فوهم ، لوجوب التأنيث
فى نحو «الشّمس طالعة ، والموعظة نافعة» وإنما يفترق حكم المجازى والحقيقى
الظاهرين ، لا المضمرين.
السادس : تأنيث
المذكر ، كقولهم «قطعت بعض أصابعه» وقرىء (تلتفطه بعض السيارة) ويحتمل أن يكون منه
(فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها) (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أى من الشّفا ، ويحتمل أن الضمير للنار ، وفيه بعد ،
لأنهم ما كانوا فى النار حتى ينفذوا منها ، وأن الأصل فله عشر حسنات أمثالها ؛
فالمعدود فى الحقيقة الموصوف ، وهو مؤنث ، وقال :
٧٥٤ ـ طول اللّيالى أسرعت فى نقضى
|
|
نقضن كلى
ونقضن بعضى
|
وقال :
٧٥٥ ـ وما حبّ الدّيار شغفن قلبى
|
|
[ولكن حبّ من سكن الدّيارا]
|
وأنشد سيبويه :
٧٥٦ ـ وتشرق بالقول الّذى قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدّم
|
وإلى هذا البيت
يشير ابن حزم الظاهرىّ فى قوله :
٧٥٧ ـ تجنّب صديقا مثل ما ، واحذر
الّذى
|
|
يكون كعمرو
بين عرب وأعجم
|
فإنّ صديق
السّوء يزرى ، وشاهدى
|
|
(كما شرقت صدر القناة من الدّم)
|
ومراده بما
الكناية عن الرجل الناقص كنقص ما الموصولة ، وبعمرو الكناية عن الرجل المريد أخذ
ما ليس له كأخذ عمرو الواو فى الخط.
وشرط هذه
المسألة والتى قبلها صلاحية المضاف للاستغناء عنه ؛ فلا يجوز «أمة زيد جاء» ولا «غلام
هند ذهبت» ومن ثمّ ردّ ابن مالك فى التوضيح قول أبى الفتح فى توجيهه قراءة أبى
العالية (لا تنفع نفسا إيمانها) بتأنيث الفعل : إنه من باب «قطعت بعض أصابعه» لأن
المضاف لو سقط هنا لقيل نفسا لا تنفع بتقديم المفعول ليرجع إليه الضمير المستتر
المرفوع الذى ناب عن الإيمان فى الفاعلية ، ويلزم من ذلك تعدّى فعل المضمر المتصل
إلى ظاهره نحو قولك «زيد ظلم» تريد أنه ظلم نفسه ، وذلك لا يجوز.
السابع :
الظرفية ، نحو (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ) وقوله :
*أنا أبو المنهال بعض الأحيان* [٦٧٩]
وقال المتنبى :
أىّ يوم
سررتنى بوصال
|
|
لم تسؤنى
ثلاثة بصدود [١١٨]
|
وأى فى البيت
استفهامية يراد بها النفى ، لا شرطية ؛ لأنه لو قيل مكان ذلك «إن سررتنى» انعكس
المعنى ، لا يقال : يدلّ على أنها شرطية أن الجملة المنفية إن استؤنفت ولم تربط
بالأولى فسد المعنى لأنا نقول : الرّبط حاصل بتقديرها صفة لوصال ، والرابط محذوف ،
أى لم ترعنى بعده ، ثم حذفا دفعة أو على التدريج ، أو حالا من تاء المخاطب ،
والرابط فاعلها ، وهى حال مقدرة ، أو معطوفة بفاء محذوفة فلا موضع لها ، أى ما
سررتنى غير مقدر أنك تروعنى ، ومن روى ثلاثة بالرفع فالحالية ممتنعة ؛ لعدم
الرابط.
الثامن :
المصدرية ، نحو (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فأىّ : مفعول مطلق ناصبه ينقلبون ، ويعلم : معلقة عن
العمل بالاستفهام ، وقال :
ستعلم ليلى
أىّ دين تداينت
|
|
وأىّ غريم
للتّقاضى غريمها [٦٥٧]
|
أىّ الأولى
واجبة النصب بما بعدها كما فى الآية ، إلا أنها [هنا] مفعول به ، كقولك «تداينت
مالا» لا مفعول مطلق ؛ لأنها لم تضف لمصدر ، والثانية واجبة الرفع بالابتداء مثلها
فى (لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً).
التاسع : وجوب
التصدير ؛ ولهذا وجب تقديم المبتدأ فى نحو «غلام من عندك» والخبر فى نحو «صبيحه
أىّ يوم سفرك» والمفعول فى نحو «غلام أيّهم أكرمت» ومن ومجرورها فى نحو «من غلام
أيّهم أنت أفضل» ووجب الرفع فى نحو «علمت أبو من زيد» وإلى هذا يشير قول بعض
الفضلاء :
٧٥٨ ـ عليك بأرباب الصّدور ؛ فمن غدا
|
|
مضافا لأرباب
الصّدور تصدّرا
|
وإيّاك أن
ترضى صحابة ناقص
|
|
فتنحطّ قدرا
من علاك وتحقرا
|
فرفع أبو من
ثم خفض مزمّل
|
|
يبيّن قولى
مغريا ومحذّرا
|
والإشارة بقوله
«ثم خفض مزمّل» إلى قول امرىء القيس :
٧٥٩ ـ كأنّ أبانا فى عرانين وبله
|
|
كبير أناس فى
بجاد مزمّل [ص ٦٨٣]
|
وذلك أن «مزمّلا»
صفة لكبير ، فكان حقه الرفع ، ولكنه خفض لمجاورته المخفوض .
__________________
والعاشر : الإعراب
، نحو «هذه خمسة عشر زيد» فيمن أعربه ، والأكثر البناء.
والحادى عشر :
البناء ، وذلك فى ثلاثة أبواب :
أحدهما : أن
يكون المضاف مبهما كغير ومثل ودون ، وقد استدل على ذلك بأمور : منها قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما
يَشْتَهُونَ) (ومنّا دون ذلك قاله الأخفش ، وخولف ، وأجيب عن الأول بأن نائب الفاعل ضمير
المصدر ، أى وحيل هو ، أى الحول ، كما فى قوله :
٧٦٠ ـ وقالت : متى يبخل عليك ويعتلل
|
|
يسؤك ، وإن
يكشف غرامك تدرب
|
أى ويعتلل هو ،
أى الاعتلال ، ولا بدّ عندى من تقدير «عليك» مدلولا عليها بالمذكورة ، وتكون حالا
من المضمر ؛ ليتقيد بها فتفيد ما لم يفده الفعل ، وعن الثانى بأنه [على] حذف
الموصوف ، أى ومنا قوم دون ذلك كقولهم «منّا ظعن ومنّا أقام» أى منا فريق ظعن ومنا
[فريق] أقام ، ومنها قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) فيمن فتح بينا ، قاله الأخفش ، ويؤيده قراءة الرفع ،
وقيل : بين ظرف ، والفاعل ضمير مستتر راجع إلى مصدر الفعل ، أى لقد وقع النقطع ،
أو إلى الوصل ؛ لأن (وَما نَرى مَعَكُمْ
شُفَعاءَكُمُ) يدل على التهاجر ، وهو يستلزم عدم التواصل ، أو إلى (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) على أن الفعلين تنازعاه ، ويؤيد التأويل قوله :
٧٦١ ـ أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه
|
|
وقد حيل بين
العير والنّزوان
|
بفتح «بين» مع
إضافته لمعرب ، ومنها قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فيمن فتح مثلا ، وقراءة بعض السلف (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ) بالفتح ، وقول الفرزدق :
__________________
*إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر* [١٢٠]
وزعم ابن مالك
أن ذلك لا يكون فى «مثل» لمخالفتها للمبهمات ؛ فإنها تثنى وتجمع كقوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) وقول الشاعر :
*والشّرّ بالشر عند الله مثلان* [٨١]
وزعم أن «حقا»
اسم فاعل من حقّ يحق ، وأصله حاقّ فقصر ، كما قيل برّ وسرّ ونمّ ؛ ففيه ضمير مستتر
، ومثل : حال منه ، وأن فاعل يصيبكم ضميره تعالى لتقدمه فى (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) ومثل : مصدر ، وأما بيت الفرزدق ففيه أجوبة مشهورة ،
ومنها قوله :
لم يمنع
الشّرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة فى
غصون ذات أو قال [٢٦٠]
|
فغير : فاعل
ليمنع وقد جاء مفتوحا ، ولا يأتى فيه بحث ابن مالك ؛ لأن قولهم «غيران وأغيار» ليس
بعربى.
ولو كان المضاف
غير مبهم لم يبن ، وأما قول الجرجانى وموافقيه إن «غلامى» ونحوه مبنى فمردود ،
ويلزمهم بناء «غلامك ، وغلامه» ولا قائل بذلك.
الباب الثانى :
أن يكون المضاف زمانا مبهما ، والمضاف إليه «إذ» نحو (وَمِنْ خِزْيِ
يَوْمِئِذٍ) و (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ) يقرآن بجر يوم وفتحه.
الثالث : أن
يكون زمانا مبهما والمضاف إليه فعل مبنى ، بناء أصليا كان بناء كقوله :
٧٦٢ ـ على حين عاتبت المشيب على
الصّبا
|
|
وقلت : ألمّا
أصح والشّيب وازع؟
|
أو بناء عارضا
كقوله.
٧٦٣ ـ لأجتذبن منهنّ قلبى تحلّما
|
|
على حين
يستصبين كلّ حليم
|
رويا بالفتح ،
وهو أرجح من الإعراب عند ابن مالك ، ومرجوح عند ابن عصفور.
فإن كان المضاف
إليه فعلا معربا أو جملة اسمية ، فقال البصريون : يجب الإعراب ، والصحيح جواز
البناء ، ومنه قراءة نافع (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ
الصَّادِقِينَ) بفتح يوم ، وقراءة غير أبى عمرو وابن كثير (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) بالفتح ، وقال :
٧٦٤ ـ إذا قلت هذا حين أسلو يهيجنى
|
|
نسيم الصّبا
من حيث يطّلع الفجر
|
وقال آخر :
٧٦٥ ـ ألم تعلمى ـ يا عمرك الله ـ أنّنى
|
|
كريم على حين
الكرام قليل
|
وأنّى لا
أخزى إذا قيل : مملق
|
|
سخىّ ، وأخزى
أن يقال : بخيل
|
رويا بالفتح.
ويحكى أن ابن
الأخضر سئل بحضرة ابن الأبرش عن وجه النصب فى قول النابغة :
٧٦٦ ـ أتانى ـ أبيت اللّعن ـ أنّك
لمتنى
|
|
وتلك الّتى
تستكّ منها المسامع
|
مقالة أن قد
قلت : سوف أناله ،
|
|
وذلك من
تلقاء مثلك رائع
|
فقال :
٧٦٧ ـ [إذا كنت فى قوم فصاحب خيارهم]
|
|
ولا تصحب
الأردى فتردى مع الرّدى
|
فقيل له :
الجواب ، فقال ابن الأبرش : قد أجاب ، يريد أنه لما أضيف إلى المبنى اكتسب منه
البناء ؛ فهو مفتوح لا منصوب ، ومحله الرفع بدلا من «أنك لمتنى» وقد روى بالرفع ،
وهذا الجواب عندى غير جيد ، لعدم إبهام المضاف ، ولو صحّ لصح البناء فى نحو «غلامك
، وفرسه» ونحو هذا مما لا قائل به ، وقد مضى أن ابن مالك منع البناء فى «مثل» مع
إبهامها لكونها تثنى وتجمع ، فما ظنك بهذا؟ وإنما هو منصوب على إسقاط الباء ، أو
بإضمار أعنى أو على المصدرية ، وفى البيت إشكال لو سأل السائل عنه لكان أولى ، وهو
إضافة «مقالة» إلى «أن قد قلت» فإنه فى التقدير : مقالة قولك ، ولا يضاف الشىء إلى
نفسه ، وجوابه أن الأصل مقالة فحذف التنوين للضرورة لا للاضافة ، وأن وصلتها بدل
من مقالة ، أو من «أنك لمتنى» أو خبر لمحذوف ، وقد يكون الشاعر إنما قاله «مقالة
ان» بإثبات التنوين ونقل حركة الهمزة ، فأنشده الناس بتحقيقها ، فاضطروا إلى حذف
التنوين ، ويروى «ملامة» وهو مصدر للمتنى المذكورة ، أو لأخرى محذوفة.
الأمور التى لا يكون الفعل معها إلا قاصرا
وهى عشرون :
أحدها : كونه
على فعل بالضم كظرف وشرف ، لأنه وقف على أفعال السجايا وما أشبهها مما يقوم بفاعله
ولا يتجاوزه ، ولهذا يتحوّل المتعدّى قاصرا إذا حوّل وزنه إلى فعل لغرض المبالغة
والتعجب ، نحو ضرب الرجل وفهم بمعنى ما أضربه وأفهمه ،
وسمع «رحبتكم الطّاعة» و «أن بشرا طلع اليمن» ولا ثالث لهما ، ووجههما
أنهما ضمّنا معنى وسع وبلغ.
والثانى
والثالث : كونه على فعل بالفتح أو فعل بالكسر ووصفهما على فعيل ، نحو ذلّ وقوى.
والرابع : كونه
على أفعل بمعنى صار ذا كذا نحو «أغدّ البعير ، وأحصد الزرع» إذا صارا ذوى غدّة وحصاد.
والخامس : كونه
على افعللّ كافشعرّ واشمأزّ.
السادس : كونه
على افوعلّ كاكوهدّ الفرخ إذا ارتعد.
السابع : كونه
على افعنلل بأصالة اللامين كاحرنجم بمعنى اجتمع.
الثامن : كونه
على افعنلل بزيادة أحد اللامين كاقعنس الجمل إذا أبى أن ينقاد.
التاسع : كونه
على افعنلى كاحر نبى الديك إذا انتفش ، وشذ قوله :
٧٦٨ ـ قد جعل النّعاس يغرندينى
|
|
أطرده عنّى
ويسرندينى
|
ولا ثالث لهما
، ويغرندينى ـ بالغين المعجمة ـ يعلونى ويغلبنى ، وبمعناه يسرندينى.
العاشر : كونه
على استفعل وهو دال على التحوّل كاستحجر الطين ، وقولهم «إن البغاث بأرضنا يستنسر».
الحادى عشر :
كونه على وزن انفعل نحو انطلق وانكسر.
الثانى عشر :
كونه مطاوعا لمتعد إلى واحد نحو كسرته فانكسر وأزعجته فانزعج.
__________________
فإن قلت : قد
مضى عدّ انفعل.
قلت : نعم لكن
تلك علامة لفظية وهذه معنوية ، وأيضا فالمطاوع لا يلزم وزن انفعل ، تقول : ضاعفت الحسنات
فتضاعفت ، وعلمته فتعلّم ، وثلمته فتثلم ، وأصله أن المطاوع ينقص عن المطاوع درجة
كألبسته الثوب فلبسه ، وأقمته فأقام ، وزعم ابن برى أن الفعل ومطاوعه قد يتفقان فى
التعدّى لاثنين نحو استخبرته الخبر فأخبرنى الخبر ، واستفهمته الحديث فأفهمنى
الحديث ، واستعطيته درهما فأعطانى درهما ، وفى التعدى لواحد نحو استفتيته فأفتانى
، واستنصحته فنصحنى ، والصواب ما قدمته لك ، وهو قول النحويين ، وما ذكره ليس من
باب المطاوعة ، بل من باب الطلب والإجابة ، وإنما حقيقة المطاوعة أن يدل أحد الفعلين على تأثير
ويدل الآخر على قبول فاعله لذلك التأثير.
الثالث عشر :
أن يكون رباعيا مزيدا فيه نحو تدحرج واحرنجم واقشعرّ واطمأنّ.
الرابع عشر :
أن يضمّن معنى فعل قاصر ، نحو قوله تعالى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ) (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ) (أَذاعُوا بِهِ) (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى) وقولهم «سمع الله لمن حمده» وقوله :
٧٦٩ ـ [وإن تعتذر بالمحل من ذى ضروعها
|
|
إلى الضّيف]
يجرح فى عراقيها نصلى
|
فإنها ضمّنت
معنى ولا تنب ويخرجون ، وتحدثوا ، وبارك ، ولا يصغون ، واستجاب ، وبعث أو يفسد.
والستة الباقية
أن يدل على سجية كلؤم وجبن وشجع ، أو على عرض
__________________
كفرح وبطر وأشر وحزن وكسل ، أو على نظافة كطهر ووضؤ ، أو دنس كنجس ورجس
وأجنب ، أو على لون كاحمرّ واخضرّ وأدم واحمارّ واسوادّ ، أو حلية كدعج وكحل وشنب
وسمن وهزل.
تنبيه : فى
فصيح ثعلب فى باب المشدّد : فلان يتعهّد ضيعته ، قال ابن درستويه : ولا يجوز عنده
يثعاهد ؛ لأنه لا يكون عند أصحابه إلا من اثنين ، ولا يكون متعدّيا ، ويرده قوله :
*تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا* [٤٢٣]
وأجاز الخليل
يتعاهد ، وهو قليل ، وسأل الحكم بن قنبر أبا زيد عنها فمنعها ، وسأل يونس فأجازها
، فجمع بينهما ، وكان عنده ستة من فصحاء العرب ، فسئلوا عنها فامتنعوا من يتعاهد ،
فقال يونس : يا أبا زيد كم من علم استفدناه كنت أنت سببه ، ونقل ابن عصفور عن ابن
السّيد أنه قال فى قول أبى ذؤيب :
بينا تعانقه
الكماة وروغه
|
|
يوما أتيح له
جرىء سلفع [٦٠٢]
|
إن من رواه بجر
التعانق مخطئ ؛ لأن تفاعل لا يتعدى ، ثم رد عليه بأنه إن كان قبل دخول التاء
متعديا إلى اثنين فإنه يبقى بعد دخولها متعديا إلى واحد ، نحو عاطيته الدراهم
وتعاطينا الدراهم ، وإن كان متعديا إلى واحد فإنه يصير قاصرا ، نحو تضارب زيد
وعمرو ، إلا قليلا نحو جاوزت زيدا وتجاوزته ، وعانقته وتعانقته ، اه وإنما ذكر ابن
السيد أن تعانق لا يتعدى ، ولم يذكر أن تفاعل لا يكون متعديا ، وأيضا فلم يخصّ
الرد برواية الجر ، ولا معنى لذلك.
الأمور التى يتعدّى بها الفعل القاصر
وهى سبعة :
أحدها : همزة
أفعل نحو (أَذْهَبْتُمْ
طَيِّباتِكُمْ) (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) وقد ينقل المتعدّى إلى واحد بالهمزة إلى التعدى إلى
اثنين نحو «ألبست زيدا ثوبا ، وأعطيته دينارا» ولم ينقل متعد إلى اثنين بالهمزة
إلى التعدى إلى ثلاثة إلا فى «رأى ، وعلم» وقاسه الأخفش فى أخواتهما الثلاثة
القلبية نحو ظن وحسب وزعم ، وقيل : النقل بالهمزة كله سماعى ، وقيل : قياسى فى
القاصر والمتعدى إلى واحد ، والحقّ أنه قياسى فى القاصر ، سماعى فى غيره ، وهو
ظاهر مذهب سيبويه.
الثانى : ألف
المفاعلة ، تقول فى جلس زيد ومشى وسار «جالست زيدا ، وما اشيته ، وسايرته».
الثالث : صوغه
على فعلت بالفتح افعل بالضم لإفادة الغلبة ، تقول «كرمت زيدا» بالفتح ـ أى غلبته
الكرم.
الرابع : صوغه
على استفعل للطلب أو النسبة إلى الشىء كـ «استخرجت المال ، واستحسنت زيدا ،
واستقبحت الظلم» وقد ينقل ذو المفعول الواحد إلى اثنين ، نحو «استكتبته الكتاب ،
واستغفرت الله الذنب» ، وإنما جاز «استغفرت الله من الذنب» لتضمنه معنى استتبت ،
ولو استعمل على أصله لم يجز فيه ذلك ، وهذا قول ابن الطراوة وابن عصفور ، وأما قول
أكثرهم إن استغفر من باب اختار فمردود.
الخامس : تضعيف
العين ، تقول فى فرح زيد «فرّحته» ومنه (قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ
زَكَّاها) (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) وزعم أبو على أن التضعيف فى هذا للمبالغة لا للتعدية ؛
لقولهم «سرت زيدا» وقوله :
٧٧٠ ـ [فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها]
|
|
فأوّل راض
سنّة من يسيرها
|
وفيه نظر ؛ لأن
«سرته» قليل ، وسيّرته كثير ، بل قيل : إنه لا يجوز «سرته» وإنه فى البيت على
إسقاط الباء توسعا ، وقد اجتمعت التعدية بالباء والتضعيف فى قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ
قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وزعم الزمخشرى أن بين التعديتين فرقا ؛ فقال : لما نزّل
القرآن منجما والكتابان جملة واحدة جىء بنزّل فى الأول وأنزل فى الثانى ، وإنما
قال هو فى خطبة الكشاف «الحمد لله الذى أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما ، ونزّله
بحسب المصالح منجما» لأنه أراد بالأول أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا
وهو الإنزال المذكور فى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وفى قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وأما قول القفال : إن المعنى الذى أنزل فى وجوب صومه أو
الذى أنزل فى شأنه فتكلّف لا داعى إليه ، وبالثانى تنزيله من السماء الدنيا إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم نجوما فى ثلاث وعشرين سنة.
ويشكل على
الزمخشرى قوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) فقرن نزل بجملة واحدة ، وقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) وذلك إشارة إلى قوله تعالى (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آياتِنا) الآية ، وهى آية واحدة.
والنقل
بالتضعيف سماعى فى القاصر كما مثلنا ، وفى المتعدى لواحد نحو «علّمته الحساب ،
وفهّمته المسالة» ولم يسمع فى المتعدى لاثنين ، وزعم الحريرى أنه يجوز فى علم
المتعدية لاثنين أن ينقل بالتضعيف إلى ثلاثة ، ولا يشهد له سماع ولا قياس ،
وظاهر قول سيبويه أنه سماعى مطلقا ، وقيل : قياسى فى القاصر والمتعدى إلى
واحد.
السادس :
التضمين ؛ فلذلك عدى رحب وطلع إلى مفعول لمّا تضمنا معنى وسع وبلغ ، وقالوا : فرقت
زيدا ، و (سَفِهَ نَفْسَهُ) لتضمنهما معنى خاف وامتهن أو أهلك.
ويختص التضمين
عن غيره من المعدّيات بأنه قد ينقل الفعل [إلى] أكثر من درجة ، ولذلك عدى ألوت
بقصر الهمزة بمعنى قصرت إلى مفعولين بعد ما كان قاصرا ، وذلك فى قولهم «لا آلوك
نصحا ، ولا آلوك جهدا» لما ضمن معنى لا أمنعك ، ومنه قوله تعالى (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) وعدى أخبر وخبّر وحدّت وأنبأ ونبّأ إلى ثلاثة لما ضمنت
معنى أعلم وأرى بعد ما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بالجار ، نحو (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ).
السابع : إسقاط
الجار توسعا نحو (وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أى على سر ، أى نكاح (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ) أى عن أمره (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) أى عليه ، وقول الزجاج إنه ظرف ردّه الفارسىّ بأنه مختص
بالمكان الذى يرصد فيه ؛ فليس مبهما ، وقوله :
*كما عسل الطّريق الثّعلب* [٣]
أى فى الطريق ،
وقول ابن الطراوة إنه ظرف مردود أيضا بأنه غير مبهم ، وقوله إنه اسم لكل ما يقبل
الاستطراق فهو مبهم لصلاحيته لكل موضع منازع فيه ، بل هو اسم لما هو مستطرق.
ولا يحذف الجار
قياسا إلا مع أنّ وأن ، وأهمل النحويون هنا ذكر كى مع تجويزهم فى نحو «جئت كى
تكرمنى» أن تكون كى مصدرية واللام
مقدرة والمعنى لكى تكرمنى ، وأجازوا أيضا كونها تعليلية وأن مضمرة بعدها ،
ولا يحذف مع كى إلا لام العلة ؛ لأنها لا يدخل عليها جار غيرها ، بخلاف أختيها ،
قال الله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ) أى بأن لهم ، وبأنه (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ) أى فى أن ، أو عن ، على خلاف فى ذلك بين المفسرين ،
ومما يحتملهما قوله :
٧٧١ ـ ويرغب أن يبنى المعالى خالد
|
|
ويرغب أن
يرضى صنيع الألائم
|
أنشده ابن
السيّد ، فإن قدر «فى» أولا و «عن» ثانيا فمدح ، وإن عكس فذم ، ولا يجوز أن يقدّر
فيهما معا فى أو عن ؛ للتناقض.
ومحل أنّ وأن
وصلتهما بعد حذف الجار نصب عند الخليل وأكثر النحويين حملا على الغالب فيما ظهر
فيه الإعراب مما حذف منه ، وجوّز سيبويه أن يكون المحلّ جرا ، فقال بعد ما حكى قول
الخليل : ولو قال إنسان إنه جر لكان قولا قويا ، وله نظائر نحو قولهم «لاه أبوك»
وأما نقل جماعة منهم ابن مالك أن الخليل يرى أن الموضع جر وأن سيبويه يرى أنه نصب فسهو.
ومما يشهد
لمدعى الجر قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أصلهما لا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله ،
وفاعبدون لأن هذه.
ولا يجوز تقديم
منصوب الفعل عليه إذا كان أنّ وصلتها ، لا تقول «أنك فاضل عرفت» وقوله :
٧٧٢ ـ وما زرت ليلى أن تكون حبيبة
|
|
إلىّ ، ولا
دين بها أنا طالبه
|
رووه بخفض «دين»
عطفا على محل «أن تكون» ؛ إذ أصله لأن تكون ، وقد يجاب بأنه عطف على توهّم دخول
اللام ، وقد يعترض بأنّ الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على
التوهم ، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات.
وهنا معدّ ثامن
ذكره الكوفيون ، وهو تحويل حركة العين ، يقال : كسى زيد ، بوزن فرح ، فيكون قاصرا
، قال :
٧٧٣ ـ وأن يعرين إن كسى الجوارى
|
|
فتنبو العين
عن كرم عجاف
|
فإذا فتحت
السين صار بمعنى ستر وغطّى ، وتعدّى إلى واحد ، كقوله :
٧٧٤ ـ وأركب فى الرّوع خيفانة
|
|
كسا وجهها
سعف منتشر
|
أو بمعنى أعطى
كسوه وهو الغالب ، فيتعدى إلى اثنين ، نحو كسوت زيدا جبّة ، قالوا : وكذلك شترت
عينه بكسر التاء قاصر بمعنى انقلب جفنها ، وشتر الله عينه بفتحها متعد [بمعنى]
قلبها ، وهذا عندنا من باب المطاوعة ، يقال : شتره فشتر كما يقال ثرمه فثرم وثلمه
فثلم ، ومنه كسوته الثوب فكسيه ، ومنه البيت ، ولكن حذف فيه المفعول.
* * *
الباب الخامس من الكتاب
فى ذكر الجهات التى يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها
وهى عشرة :
الجهة الأولى :
أن يراعى ما يقتضيه ظاهر الصناعة ولا يراعى المعنى ، وكثيرا ما تزلّ الأقدام بسبب
ذلك.
وأول واجب على
المعرب أن يفهم معنى ما يعربه ، مفردا أو مركبا ، ولهذا
__________________
لا يجوز إعراب فواتح السور على القول بأنها من المتشابه الذى استأثر الله
تعالى بعلمه.
ولقد حكى لى أن
بعض مشايح الإقراء أعرب لتلميذ له بيت المفصّل.
٧٧٥ ـ لا يبعد الله التلبّب وال
|
|
غارات إذ قال
الخميس : نعم
|
فقال : نعم حرف
جواب ، ثم طلبا محل الشاهد فى البيت ، فلم يجداه ، فظهر لى حينئذ حسن لغة كنانة فى
نعم الجوابية وهى نعم بكسر العين ، وإنما نعم هنا واحد الأنعام ، وهو خبر لمحذوف ،
أى هذه نعم ، وهو محل الشاهد.
وسألنى أبو
حيّان ـ وقد عرض اجتماعنا ـ علام عطف «بحقلّد» من قول زهير :
٧٧٦ ـ تقىّ نقىّ لم يكثر غنيمة
|
|
بنهكة ذى
قربى ولا بحقلّد
|
فقلت : حتى
أعرف ما الحقلّد ، فنظرناه فإذا هو سىء الخلق ، فقلت : هو معطوف على شىء متوهم ؛
إذ المعنى ليس بمكثر غنيمة ، فاستعظم ذلك.
وقال الشلوبين
: حكى لى أن نحويا من كبار طلبة الجزولى سئل عن إعراب (كَلالَةً) من قوله تعالى (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) فقال : أخبرونى ما الكلالة ، فقالوا له : الورثة إذا لم
يكن فيهم أب فماعلا ولا ابن فما سفل ، فقال : فهى إذا تمييز ، وتوجيه قوله أن يكون
الأصل : وإن كان رجل يرثه كلالة ، ثم حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فارتفع الضمير
واستتر ، ثم جىء بكلالة تمييزا ، ولقد أصاب هذا النحوىّ فى سؤاله ، وأخطأ فى جوابه
؛ فإن التمييز بالفاعل بعد حذفه نقض للغرض الذى حذف لأجله ، وتراجع عما بنيت
الجملة عليه من طىّ ذكر الفاعل فيها ؛ ولهذا لا يوجد فى كلامهم مثل ضرب أخوك رجلا
، وأما قراءة من قرأ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) بفتح الباء ـ فالذى سوّغ فيها أن يذكر الفاعل بعد ما
حذف أنه إنما ذكر فى جملة أخرى غير التى حذف فيها.
وكإعراب هذا
المعرب كلالة تمييزا قول بعضهم فى هذا البيت :
٧٧٧ ـ يبسط للأضياف وجها رحبا
|
|
بسط ذراعيه
لعظم كلبا
|
إن الأصل كما
بسط كلب ذراعيه ، ثم جىء بالمصدر وأسند للمفعول فرفع ، ثم أضيف إليه ، ثم جىء
بالفاعل تمييزا.
والصواب فى
الآية أنّ (كَلالَةً) بتقدير مضاف ، أى ذا كلالة ، وهو إمّا حال من ضمير (يُورَثُ) فكان ناقصة ، ويورث خبر ، أو تامة فيورث صفة ، وإما خبر
فيورث صفة ، ومن فسّر الكلالة بالميت الذى لم يترك ولدا ولا والدا فهى أيضا حال أو
خبر ، ولكن لا يحتاج إلى تقدير مضاف ، ومن فسّرها بالقرابة فهى مفعول لأجله.
أما البيت
فتخريجه على القلب ، وأصله كما بسط ذراعاه كلبا ، ثم جىء بالمصدر وأضيف للفاعل
المقلوب عن المفعول ، وانتصب كلبا على المفعول المقلوب عن الفاعل.
وها أنا مورد
بعون الله أمثلة متى بنى فيها على ظاهر اللفظ ولم ينظر فى موجب المعنى حصل الفساد
، وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهم بهذا السبب ، وسترى ذلك معينا.
فأحدها : قوله
تعالى : (أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا
ما نَشؤُا) فإنّه يتبادر إلى الذهن عطف (أَنْ نَفْعَلَ) على (أَنْ نَتْرُكَ) ، وذلك باطل ؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا فى أموالهم ما يشاؤن ، وإنما هو
عطف على ما ؛ فهو معمول للتّرك ، والمعنى أن نترك أن نفعل ، نعم من قرأ تفعل وتشاء
ـ بالتاء لا بالنون ـ فالعطف على (أَنْ نَتْرُكَ).
وموجب الوهم
المذكور أن المعرب يرى أن والفعل مرتين ، وبينهما حرف العطف.
ونظير هذا سواء
أن يتوهم فى قوله :
لن ما رأيت أبا يزيد
مقاتلا
|
|
أدع القتال
وأشهد الهيجاء [٤٦١]
|
__________________
أن الفعلين
متعاطفان ، حين يرى فعلين مضارعين منصوبين ، وقد بينت فى فصل لمّا أن ذلك خطأ ،
وأنّ «أدع» منصوب بلن ، وأشهد معطوف على القتال.
الثانى : قوله
تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) فإن المتبادر تعلّق من بخفت ، وهو فاسد فى المعنى ،
والصواب تعلقه بالموالى ؛ لما فيه من معنى الولاية ، أى خفت ولايتهم من بعدى وسوء
خلافتهم ، أو بمحذوف هو حال من الموالى أو مضاف إليهم ، أى كائنين من ورائى ، أو
فعل الموالى من ورائى ، وأما من قرأ (خفت) بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء فمن
متعلقة بالفعل المذكور.
الثالث : قوله
تعالى (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) فإن المتبادر تعلّق إلى بتكتبوه ، وهو فاسد ؛ لاقتضائه
استمرار الكتابة إلى أجل الدّين ، وإنما هو حال ، أى مستقرا فى الذمة إلى أجله.
ونظيره قوله
تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ
مِائَةَ عامٍ) فإن المتبادر انتصاب مائة بأماته ، وذلك ممتنع مع بقائه
على معناه الوضعى ، لأن الإمانة سلب الحياة وهى لا تمتد ، والصواب أن يضمّن أماته
معنى ألبثه ، فكأنه قيل فألبثه الله بالموت مائة عام ، وحينئذ يتعلق به الظرف بما
فيه من المعنى العارض له بالتضمين ، أى معنى اللبث لا معنى الإلباث ؛ لأنه
كالإماتة فى عدم الامتداد ؛ فلو صح ذلك لعلّقناه بما فيه من معناه الوضعى ، ويصير
هذا التعلق بمنزلته فى قوله تعالى (قالَ لَبِثْتُ
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ).
وفائدة التضمين
: أن يدلّ بكلمة واحدة على معنى كلمتين ، يدلك على ذلك أسماء الشرط والاستفهام.
ونظيره أيضا
قوله عليه الصلاة والسّلام : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما
اللّذان يهوّدانه وينصرانه» لا يجوز أن يعلق حتى
بيولد ؛ لأن الولادة لا تستمر إلى هذه الغاية ، بل الذى يستمر إليها كونه
على الفطرة ؛ فالصواب تعليقها بما تعلقت به على ، وأن على متعلقة بكائن محذوف
منصوب على الحال من الضمير فى بولد ، ويولد خبر كل.
الرابع : قول
الشاعر :
٧٧٨ ـ تركت بنا لوحا ، ولو شئت جادنا
|
|
بعيد الكرى
ثلج بكرمان ناصح
|
فإن المتبادر
تعلّق بعيد الكرى بجاد ، والصواب تعليقه بما فى ثلج من معنى بارد ، إذ المراد وصفها
بأن ريقها يوجد عقب الكرى باردا ، فما الظن به فى غير ذلك الوقت؟ لا أنه يتمنّى أن
تجود له [به بعيد] الكرى دون ما عداه من الأوقات ، واللّوح ـ بفتح اللام ـ العطش.
الخامس : قوله
تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ) فإن المتبادر تعلق مع ببلغ ، قال الزمخشرى : أن فلما
بلغ أن يسعى مع أبيه فى أشغاله وحوائجه ، قال : ولا يتعلق مع ببلغ ؛ لاقتضائه
أنهما [بلغا] معا حد السعى ، ولا بالسعى ؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، وإنما
هى متعلقة بمحذوف على أن يكون بيانا ، كأنه قيل : فلما بلغ الحدّ الذى يقدر فيه
على السعى ، فقيل : مع من؟ فقيل : مع أعطف الناس عليه وهو أبوه ، أى أنه لم يستحكم
قوته بحيث يسعى مع غير مشفق.
السادس : قوله
تعالى (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإن المتبادر أن حيث ظرف مكان ؛ لأنه المعروف فى
استعمالها ، ويردّه أن المراد أنه تعالى يعلم المكان المستحقّ للرسالة ، لا أن
علمه فى المكان ؛ فهو مفعول به ، لا مفعول فيه ، وحينئذ لا ينتصب بأعلم إلا على
قول بعضهم بشرط تأويله بعالم ، والصواب انتصابه بيعلم محذوفا دلّ عليه أعلم.
__________________
السابع : قوله
تعالى (فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) فإن المتبادر تعلّق إلى بصرهنّ ، وهذا لا يصح إذا فسّر
صرهنّ بقطّعهن ، وإنما تعلقه بخذ ، وأما إن فسر بأملهنّ فالتعلق به ، وعلى الوجهين
يجب تقدير مضاف ، أى إلى نفسك ؛ لأنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل
إلا فى باب ظن نحو (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) فيمن ضم الباء ، ويجب تقدير هذا المضاف فى نحو (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وقوله :
هوّن عليك
فإنّ الأمور
|
|
بكفّ الإله
مقاديرها [٢٣٢]
|
وقوله :
*ودع عنك نهبا صيح فى حجرانه* [٢٤٢]
قوله «حجراته»
بفتحتين أى نواحيه ، وقول ابن عصفور إن عن وعلى فى ذلك اسمان كما فى قوله :
*غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها* [٢٣١]
وقوله :
فلقد أرانى
للرّماح دريئة
|
|
من عن يمينى
مرّة وأمامي [٢٤٠]
|
دفعا للمحذور
المذكور وهم ؛ لأن معنى على الاسمية فوق ، ومعنى عن الاسمية جانب ، ولا يتأتيان
هنا ، ولأن ذلك لا يتأتى مع إلى ؛ لأنها لا تكون اسما.
الثامن : قوله
تعالى (يَحْسَبُهُمُ
الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) فإن المتبادر تعلق من بأغنياء لمجاورته له ، ويفسده
أنهم متى ظنّهم ظانّ قد استغنوا من تعففهم
علم أنهم فقراء من المال ؛ فلا يكون جاهلا بحالهم ، وإنما هى متعلقة بيحسب
، وهى للتعليل.
التاسع : قوله
تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا) فإن المتبادر تعلق إذ بفعل الرؤية ، ويفسده أنه لم ينته
علمه أو نظره إليهم فى ذلك الوقت ، وإنما العامل مضاف محذوف ، أى ألم تر إلى قصتهم
أو خبرهم ، إذ التعجب إنما هو من ذلك ، لا من ذواتهم.
العاشر : قوله
تعالى (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً) فإن المتبادر تعلق الاستثناء بالجملة الثانية ، وذلك
فاسد ، لاقتضائه أن من اغترف غرفة بيده ليس منه ، وليس كذلك ، بل ذلك مباح لهم ،
وإنما هو مستثنى من الأولى ، ووهم أبو البقاء فى تجويزه كونه مستثنى من الثانية ،
وإنما سهل الفصل بالجملة الثانية لأنها مفهومة من الأولى المفصولة ، لأنه إذا ذكر
أن الشارب ليس منه اقتضى مفهومه أن من لم يطعمه منه ، فكان الفصل به كلا فصل.
الحادى عشر :
قوله تعالى (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فإن المتبادر تعلق إلى باغسلوا ، وقد ردّه بعضهم بأن ما
قبل الغاية لا بدّ أن يتكرر قبل الوصول إليها ، تقول «ضربته إلى أن مات» ويمتنع «قتلته
إلى أن مات» وغسل اليد لا يتكرر قبل الوصول إلى المرفق ، لأن اليد شاملة لرؤوس
الأنامل والمناكب وما بينهما ، قال : فالصواب تعلق إلى بأسقطوا محذوفا ، ويستفاد
من ذلك دخول المرافق فى الغسل ، لأن الإسقاط قام الإجماع على أنه ليس من الأنامل ،
بل من المناكب ، وقد انتهى إلى المرافق ، والغالب أن ما بعد إلى بكون غير داخل ،
بخلاف حتى ، وإذا لم يدخل فى الإسقاط بقى داخلا فى المأمور
بغسله ، وقال بعضهم : الأيدى فى عرف الشرع اسم للأكفّ فقط ، بدليل آية
السرقة ، وقد صح الخبر باقتصاره صلىاللهعليهوسلم فى التيمم على مسح الكفين ، فكان ذلك تفسيرا للمراد
بالأيدى فى آية التيمم. قال : وعلى هذا فإلى غاية للغسل ، لا للاسقاط ، قلت : وهذا
إن سلّم فلا بد من تقدير محذوف أيضا ، أى ومدّوا الغسل إلى المرافق ، إذ لا يكون
غسل ما وراء الكف غاية لغسل الكف.
الثانى عشر :
قول ابن دريد :
٧٧٩ ـ إنّ امرأ القيس جرى إلى مدى
|
|
فاعتاقه
حمامه دون المدى
|
فإن المتبادر
تعلق إلى بجرى ، ولو كان كذلك لكان الجرى قد انتهى إلى ذلك المدى ، وذلك مناقض
لقوله :
*فاعتاقه حمامه دون المدى*
وإنما «إلى مدى»
متعلق بكون خاصّ منصوب على الحال ، أى طالبا إلى مدى ، ونظيره قوله أيضا يصف الحاج
:
٧٨٠ ـ ينوى الّتى فضّلها ربّ العلى
|
|
لمّا دحا
تربتها على البنى
|
فإن قوله «على
البنى» متعلق بأبعد الفعلين ، وهو فضّل ، لا بأقربهما وهو دحا بمعنى بسط ، لفساد
المعنى.
الثالث عشر :
ما حكاه بعضهم من أنه سمع شيخا يعرب لتلميذه (قَيِّماً) من قوله تعالى (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً قَيِّماً) صفة لعوجا ، قال : فقلت له : يا هذا كيف يكون العوج
قيما؟ وترّحمت على من وقف من القرّاء على ألف التنوين فى (عِوَجاً) وقفة لطيفة دفعا لهذا التوهم ، وإنما (قَيِّماً) حال : إما من اسم محذوف هو وعامله ، أى أنزله
قيما ؛ وإمّا من الكتاب ، وجملة النفى معطوفة على الأول ومعترضة على الثانى
، قالوا : ولا تكون معطوفة ؛ لئلا يلزم العطف على الصلة قبل كمالها ، وإما من
الضمير المجرور باللام إذا أعيد إلى الكتاب لا إلى مجرور على ، أو جملة النفى
وقيما حالان من الكتاب ، على أن الحال يتعدّد ، وقياس قول الفارسى فى الخبر إنه لا
يتعدد مختلفا بالإفراد والجملة أن يكون الحال كذلك ، لا يقال : قد صح ذلك فى النعت
نحو (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) بل قد ثبت فى الحال فى نحو (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكارى) ثم قال سبحانه (وَلا جُنُباً) لأن الحال بالخبر أشبه ومن ثمّ اختلف فى تعددهما ،
واتفق على تعدد النعت ، وأما (جُنُباً) فعطف على الحال ، لا حال ، وقيل : المنفية حال ، و (قَيِّماً) بدل منها ، عكس «عرفت زيدا أبو من هو».
الرابع عشر :
قول بعضهم فى (أَحْوى) إنه صفة لغثاء ، وهذا ليس بصحيح على الإطلاق ، بل إذا
فسر الأحوى بالأسود من الجفاف واليبس ، وأما إذا فسر بالأسود من شدة الخضرة لكثرة
الرىّ كما فسّر (مُدْهامَّتانِ) فجعله صفة لغثاء كجعل قيما صفة لعوجا ، وإنما الواجب أن
تكون حالا من المرعى وأخر لتناسب الفواصل.
الخامس عشر :
قول بعضهم فى قوله تعالى (فَأَخْرَجْنا بِهِ
نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) فيمن رفع (جَنَّاتٍ) إنه عطف على قنوان ، وهذا يقتضى أن جنات الأعناب تخرج
من طلع النخل ، وإنما هو مبتدأ بتقدير : وهناك جنات ، أو ولهم جنات ، ونظيره قراءة
من قرأ (وَحُورٌ عِينٌ) بالرفع بعد قوله تعالى (يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أى ولهم حور ، وأما قراءة السبعة (وَجَنَّاتٍ) بالنصب فبا لعطف على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) وهو من باب (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ).
السادس عشر :
قول ابن السيّد فى قوله تعالى (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) إن (مَنْ) فاعل بالمصدر ، ويردّه أن المعنى حينئذ ولله على الناس
أن يحجّ المستطيع ؛ فيلزم تأثيم جميع الناس إذا تخلف مستطيع عن الحج ، وفيه مع
فساد المعنى ضعف من جهة الصناعة ؛ لأن الإتيان بالفاعل بعد إضافة المصدر إلى المفعول
شاذ ، حتى قيل : إنه ضرورة كقوله :
٧٨١ ـ أفنى تلادى وما جمّعت من نشب
|
|
قرع القواقيز
أفواه الأباريق
|
فيمن رواه برفع
أفواه ، والحق جواز ذلك فى النثر ، إلا أنه قليل ، ودليل الجواز هذا البيت ، فإنه
روى بالرفع مع التمكن من النصب وهى الرواية الأخرى ، وذلك على أن القواقيز الفاعل
، والأفواه مفعول ، وصح الوجهان لأن كلا منهما قارع ومقروع ، ومن مجيئه فى النثر
الحديث «وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا» ولا يتأتى فيه ذلك الإشكال ؛ لأنه ليس
فيه ذكر الوجوب على الناس ، والمشهور فى (مَنْ) فى الآية أنها بدل من الناس بدل بعض ، وجوز الكسائى
كونها مبتدأ ، فإن كانت موصولة فخبرها محذوف ، أو شرطية فالمحذوف جوابها ،
والتقدير عليهما : من استطاع فليحج ؛ وعليهن فالعموم مخصّص إما بالبدل أو بالجملة.
السابع عشر :
قول الزمخشرى فى قوله تعالى (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ
أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) إن انتصاب (أوارى) فى جواب الاستفهام ، ووجه فساده أن
جواب الشىء مسبّب عنه ، والمواراة لا تتسبب عن العجز وإنما انتصابه بالعطف على (أَكُونَ) ومن هنا امتنع نصب (تصبح) فى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لأن إصباح الأرض مخضرة لا يتسبّب عن رؤية إنزال المطر ،
بل عن الإنزال نفسه ، وقيل : إنما لم ينصب
لأن (أَلَمْ تَرَ) فى معنى قد رأيت ، أى أنه استفهام تقريرى مثل (أَلَمْ نَشْرَحْ) وقيل : النصب جائز كما فى قوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ) ولكن قصد هنا إلى العطف على (أُنْزِلَ) على تأويل تصبح بأصبحت ، والصواب القول الأول ، وليس (أَلَمْ تَرَ) مثل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) لما بيناه.
الثامن عشر :
قول بعضهم فى (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) إن الأصل اتخذوهم قربانا ، وإن الضمير وقربانا مفعولان
، وآلهة بدل من قربانا ، وقال الزمخشرى : إن ذلك فاسد فى المعنى ، وإن الصواب أن
آلهة هو المفعول الثانى ، وأن قربانا حال ، ولم يبين وجه فساد المعنى ؛ ووجهه أنهم
إذا ذمّوا على اتخاذهم قربانا من دون الله اقتضى مفهومه الحثّ على أن يتّخذوا الله
سبحانه قربانا ، كما أنك إذا قلت «أتتّخذ فلانا معلّما دونى؟» كنت آمرا له أن
يتخذك معلما له دونه ، والله تعالى يتقرب إليه بغيره ، ولا يتقرب به إلى غيره ،
سبحانه.
التاسع عشر :
قول المبرد فى قوله تعالى (أَوْ جاؤُكُمْ
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) إن جملة (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة دعائية ، وردّه الفارسىّ بأنه لا يدعى عليهم بأن
تحصر صدورهم عن قتال قومهم ، ولك أن تجيب بأن المراد الدعاء عليهم بأن يسلبوا
أهليّة القتال حتى لا يستطيعوا أن يقاتلوا أحدا البتة.
المتمم العشرين
: قول أبى الحسن فى قوله تعالى (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) فيمن نون مائة إنه يجوز كون سنين منصوبا بدلا من ثلاث ،
أو مجرورا بدلا من مائة ، والثانى مردود ، فإنه إذا أقيم مقام مائة فسد المعنى.
الحادى
والعشرون : قول المبرد فى (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)
: إن اسم الله
تعالى بدل من آلهة ، ويردّه أن البدل فى باب الاستثناء مستثنى موجب له الحكم ، أما
الأول فلأن الاستثناء إخراج ، و «ما قام أحد إلا زيد» مفيد لإخراج
زيد ، وأما الثانى فلأنه كلما صدق «ما قام أحد إلا زيد» صدق «قام زيد» واسم
الله تعالى هنا ليس بمستثنى ولا موجب له الحكم ؛ أما الأول فلأن الجمع المنكّر لا
عموم له فيستثنى منه ، ولأن المعنى حينئذ لو كان فيهما آلهة مستثنى منهم الله
لفسدتا ، وذلك يقتضى أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم يفسدا ، وإنما المراد أن
الفساد يترتّب على تقدير التعدد مطلقا ، وأما أنه ليس بموجب له الحكم فلأنه لو قيل
لو كان فيهما الله لفسدتا لم يستقم. وهذا البحث يأتى فى مثال سيبويه «لو كان معنا
رجل إلا زيد لغلبنا» لأن رجلا ليس بعام فيستثنى منه ، ولأنه لو قيل لو كان معنا
جماعة مستثنى منهم زيد لغلبنا اقتضى أنه لو كان معهم جماعة فيهم زيد لم يغلبوا ،
وهذا وإن كان معنى صحيحا إلا أن المراد إنما هو أن زيدا وحده كاف.
فإن قيل : لا
نسلم أن الجمع فى الآية والمفرد فى المثال غير عامين ؛ لأنهما واقعان فى سياق لو ،
وهى للامتناع ، والامتناع انتفاء.
قلت : لو صح
ذلك لصح أن يقال لو كان فيهما من أحد ، ولو جاءنى ديّار ولو جاءنى فأكرمه بالنصب
لكان كذا وكذا ، واللازم ممتنع.
الثانى
والعشرون : قول أبى الحسن الأخفش فى «كلّمته فاه إلى فىّ» إن انتصاب فاه على إسقاط
الخافض ، أى من فيه ، وردّه المبرد فقال : إنما يتكلم الإنسان من فى نفسه لا من فى
غيره ، وقد يكون أبو الحسن إنما قال ذلك فى «كلمنى فاه إلى فىّ» أو قاله فى ذلك
وحمله على القلب لفهم المعنى ؛ فلا يرد عليه سؤال أبى العباس ، فلنعدل إلى مثال
غير هذا.
حكى عن اليزيدى
أنه قال فى قول العرجىّ :
٧٨٢ ـ أظلوم إنّ مصابكم رجلا
|
|
ردّ السّلام
تحيّة ظلم
|
[ص ٦٧٣]
إن الصواب رجل
بالرفع خبر لإنّ ، وعلى هذا الإعراب يفسد المعنى المراد فى البيت ، ولا يتحصل له
معنى ألبتة ، وله حكاية مشهورة بين أهل الأدب.
رووا عن أبى
عثمان المازنى أن بعض أهل الذمّة بذل له مائة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه ،
فامتنع من ذلك مع ما كان به من شدّة احتياج ، فلامه تلميذه المبرد ، فأجابه بأن
الكتاب مشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله تعالى ، فلا ينبغى تمكين
ذمىّ من قراءتها ، ثمّ قدّر أن غنّت جارية بحضرة الواثق بهذا البيت ، فاختلف
الحاضرون فى نصب رجل ورفعه ، وأصرّت الجارية على النصب ، وزعمت أنها قرأته على أبى
عثمان كذلك ، فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة ، فلما حضر أوجب النصب ، وشرحه بأن
مصابكم بمعنى إصابتكم ، ورجلا مفعوله ، وظلم الخبر ، ولهذا لا يتم المعنى بدونه ،
قال : فأخذ اليزيدىّ فى معارضتى ، فقلت له : هو كقولك «إن ضربك زيدا ظلم» فاستحسنه
الواثق ، ثم أمر له بألف دينار ، وردّه مكرما ، فقال للمبرد : تركنا لله مائة
دينار فعوضنا ألفا.
الجهة الثانية
: أن يراعى المعرب معنى صحيحا ، ولا ينظر فى صحته فى الصناعة ، وها أنا مورد لك
أمثلة من ذلك.
أحدها : قول
بعضهم فى (وَثَمُودَ فَما
أَبْقى) إن ثمودا مفعول مقدم ، وهذا ممتنع ، لأن لما النافية
الصّدر ، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإنما هو معطوف على (عاداً) أو هو بتقدير وأهلك ثمودا ، وإنما جاء :
*ونحن عن فضلك ما استغنينا* [١٣٧]
لأنه شعر ، مع
أن المعمول ظرف ، وأما قراءة عمرو بن فائد (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) بتنوين شر ، فما بدل من شر ، بتقدير مضاف ، أى من شر شر
ما خلق ، وحذف الثانى لدلالة الأول.
الثانى : قول
بعضهم فى إذ من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) إنها ظرف للمقت الأول ، أو للثانى ، وكلاهما ممنوع ،
أما امتناع تعليقه بالثانى فلفساد المعنى ، لأنهم لم يمقتوا أنفسهم ذلك الوقت ،
وإنما يمقتونها فى الآخرة.
ونظيره قول من
زعم فى (يَوْمَ تَجِدُ) إنه ظرف ليحذركم ، حكاه مكى ، قال : وفيه نظر ، والصواب
الجزم بأنه خطأ ، لأن التحذير فى الدنيا لا فى الآخرة ، ولا يكون مفعولا به
ليحذركم كما فى (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ) لأن يحذر قد استوفى مفعوليه ، وإنما هو نصب بمحذوف
تقديره اذكروا أو احذروا.
وأما امتناع
تعليقه بالأول ـ وهو رأى جماعة منهم الزمخشرى ـ فلاستلزامه الفصل بين المصدر
ومعموله بالأجنبى ، ولهذا قالوا فى قوله :
٧٨٣ ـ وهنّ وقوف ينتظرن قضاءه
|
|
بضاحى غداة
أمره وهو ضامز
|
إن الباء
متعلقة بقضائه ، لا بوقوف ولا بينتظرن ، لئلا يفصل بين قضائه وأمره بالأجنبى ، ولا
حاجة إلى تقدير ابن الشجرى وغيره أمره معمولا لقضى محذوفا لوجود ما يعمل ، ونظير
ما لزم الزمخشرىّ هنا ما لزمه إذ علق (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) بالرجع من قوله تعالى (إِنَّهُ عَلى
رَجْعِهِ لَقادِرٌ) وإذ علق أياما بالصيام من قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) فإن فى الأولى الفصل بخبر إنّ وهو لقادر ، وفى الثانى
الفصل بمعمول كتب وهو كما كتب.
فإن قيل : لعله
يقدر (كَما كُتِبَ) صفة للصيام ، فلا يكون متعلقا بكتب.
قلنا : يلزم
محذور آخر ، وهو إتباع المصدر قبل أن يكمل معموله ، ونظير اللازم له على هذا
التقدير ما لزمه إذ قال فى قوله تعالى (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ
وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : إن المسجد عطف على سبيل الله ، وإنه حينئذ من جملة معمول المصدر ، وقد
عطف (كُفْرٌ) على المصدر قبل مجيئه.
والصواب أن
الظروف الثلاثة متعلقة بمحذوف ، أى مقتكم إذ تدعون ، وصوموا أياما ، ويرجعه يوم
تبلى السرائر ، ولا ينتصب يوم بقادر ، لأن قدرته تعالى لا تتقيد بذلك اليوم ولا
بغيره ، ونظيره فى التعلق بمحذوف (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) ألا ترى أن اليوم لو علّق ببشرى لم يصح من وجهين : أنه
مصدر ، وأنه اسم للا ، وأما (أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) فعلى الخلاف فى جواز تقدم منصوب ليس عليها.
والصواب أن خفض
(الْمَسْجِدِ) بباء محذوفة لدلالة ما قبلها عليها ، لا بالعطف ،
ومجموع الجار والمجرور عطف على (بِهِ) ، ولا يكون خفض المسجد بالعطف على الهاء ، لأنه لا يعطف على الضمير المخفوض
إلا بإعادة الخافض.
ومن أمثلة ذلك
قول المتنبى :
٧٨٤ ـ وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه
|
|
بأن تسعدا
والدّمع أشفاه ساجمه
|
وقد سأل أبو
الفتح المتنبى عنه ، فأعرب «وفاؤكما كالربع» مبتدأ وخبره ، وعلق الباء بوفاؤكما ،
فقال له : كيف تخبر عن اسم لم يتم؟ فأنشده قول الشاعر :
٧٨٥ ـ لسنا كمن جعلت إياد دارها
|
|
تكريت تمنع
حبّها أن يحصدا
|
أى أن «إباد»
بدل من من قبل مجىء معمول جعلت وهو دارها ، والصواب تعليق دارها وبأن تسعدا بمحذوف
، أى جعلت ووفيتما ، ومعنى البيت وفاؤكما
يا صاحبىّ بما وعدتمانى به من الإسعاد بالبكاء عند ربع الأحبة إنما يسلينى
إذا كان يدمع ساجم ، أى هامل ، كما أن الربع إنما يكون أبعث على الحزن إذا كان
دارسا.
الثالث : تعليق
جماعة الظروف من قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ومن قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا مانع لما أعطيت ،
ولا معطى لما منعت» باسم لا ، وذلك باطل عند البصريين ، لأن اسم لا حينئذ مطول ،
فيجب نصبه وتنوينه ، وإنما التعليق فى ذلك بمحذوف إلا عند البغداديين ، وقد مضى.
والرابع ، وهو
عكس ذلك : تعليق بعضهم الظرف من قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ) بمحذوف : أى كائن عليكم ، وذلك ممتنع عند الجمهور ،
وإنما هو متعلق بالمذكور وهو الفضل ، لأن خبر المبتدأ بعد لو لا واجب الحذف ،
ولهذا لحن المعرى فى قوله :
*فلو لا الغمد يمسكه لسالا* [٤٤٢]
الخامس : قول
بعضهم فى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا
أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) : إن الظرف كان صفة لأمة ، ثم قدم عليها فانتصب على الحال ، وهذا يلزم منه
الفصل بين العاطف والمعطوف بالحال ، وأبو على لا يجيزه بالظرف ، فما الظن بالحال
التى هى شبيهة بالمفعول به؟ ومثله قول أبى حيان فى (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إن (أَشَدَّ) حال كان فى الأصل صفة لذكرا.
السادس : قول
الحوفى : إن الباء من قوله تعالى (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) متعلقة بناظرة ، ويردّه أن الاستفهام له الصّدر ، ومثله
قول ابن عطية
فى (قاتَلَهُمُ اللهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : إنّ أنى ظرف لقاتلهم الله ، وأيضا فيلزم كون يؤفكون لا موقع لها حينئذ ، والصواب
تعلقهما بما بعدهما.
ونظيرهما قول
المفسرين فى (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) : إن المعنى إذا أنتم تخرجون من الأرض ، فعلّقوا ما قبل إذا بما بعدها ،
حكى ذلك عنهم أبو حاتم فى كتاب الوقف والابتداء ، وهذا لا يصح فى العربية.
وقول بعضهم فى (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا
أُخِذُوا) : إن ملعونين حال من معمول ثقفوا أو أخذوا ، ويردّه أن الشرط له الصّدر.
والصواب أنه منصوب على الذم ، وأما قول أبى البقاء إنه حال من فاعل (يُجاوِرُونَكَ) فمردود ، لأن الصحيح أنه لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف
شيئان.
وقول آخر فى (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) : إن فى متعلقة بزاهدين المذكور ، وهذا ممتنع إذا قدرت أل موصولة وهو
الظاهر ، لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول ، فيجب حينئذ تعلقها بأعنى محذوفة
، أو بزاهدين محذوفا مدلولا عليه بالمذكور ، أو بالكون المحذوف الذى تعلق به من
الزاهدين ، وأما إن قدرت أل للتعريف فواضح.
السابع : قول
بعضهم فى بيت المتنبى يخاطب الشيب :
٧٨٦ ـ ابعد بعدت بياضا لا بياض له
|
|
لأنت أسود فى
عينى من الظّلم
|
إن من متعلقة
بأسود ، وهذا يقتضى كونه اسم تفضيل ، وذلك ممتنع فى الألوان ، والصحيح أن «من
الظلم» صفة لأسود ، أى أسود كائن من جملة الظلم ، وكذا قوله :
٧٨٧ ـ يلقاك مرتديا بأحمر من دم
|
|
ذهبت بخضرته
الطّلى والأكبد
|
«من دم» إما تعليل ، أى أجمر من أجل التباسه بالدم ، أو صفة كأن السيف
لكثرة التباسه بالدم صار دما.
الثامن : قول
بعضهم فى «سقيا لك» إن اللام متعلقة بسقيا ، ولو كان كذا لقيل سقيا إياك ، فإن سقى
يتعدى بنفسه.
فإن قيل :
اللام للتقوية مثل (مُصَدِّقاً لِما
مَعَهُمْ).
فلام التقوية
لا تلزم ، ومن هنا امتنع فى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْساً لَهُمْ) كون الذين نصبا على الاشتغال ، لأن لهم ليس متعلقا
بالمصدر.
التاسع : قول
الزمخشرى فى (وَمِنْ آياتِهِ
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : إنه من اللف والنشر ، وإن المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل
والنهار ، وهذا يقتضى أن يكون النهار معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه ، وعطفه على
معمول منامكم وهو بالليل ، وهذا لا يجوز فى الشعر ، فكيف فى أفصح الكلام؟
وزعم عصرىّ فى
تفسير له على سورتى البقرة وآل عمران فى قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أن (مِنَ) متعلقة بحذر أو بالموت ، وفيهما تقديم معمول المصدر ،
وفى الثانى أيضا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وحامله على ذلك أنه لو
علّقه بيجعلون وهو فى موضع المفعول له لزم تعدد المفعول له من غير عطف ؛ إذ كان
حذر الموت مفعولا له ، وقد أجيب بأن الأول تعليل للجعل مطلقا ، والثانى تعليل له
مقيدا بالأول ، والمطلق والمقيد غيران ، فالمعلل متعدد فى المعنى ، وإن اتحد فى
اللفظ ، والصواب أن يحمل على أن المنام فى الزمانين والابتغاء فيهما.
العاشر : قول
بعضهم فى (قَلِيلاً ما
تُؤْمِنُونَ) : إن ما بمعنى من ، ولو كان كذلك لرفع قليل على أنه خبر.
الحادى عشر :
قول بعضهم فى (وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ)
: إن هو ضمير
الشأن ، وأن يعمر : مبتدأ ، وبمزحزحه : خبر ، ولو كان كذلك لم يدخل الباء فى
الخبر.
ونظيره قول آخر
فى حديث بدء الوحى «ما أنا بقارى» : إن ما استفهامية مفعولة لقارىء ، ودخول الباء
فى الخبر يأبى ذلك.
الثانى عشر :
قول الزمخشرى فى (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) فيمن رفع يدرك : إنه يجوز كون الشرط متصلا بما قبله ،
أى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا ؛ يعنى فيكون الجواب محذوفا مدلولا عليه بما
قبله ، ثم يبتدىء (يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وهذا مردود بأن سيبويه وغيره من الأئمة نصّوا على أنه
لا يحذف الجواب إلا وفعل الشرط ماض ، تقول «أنت ظالم إن فعلت» ولا تقول «أنت ظالم
إن تفعل» إلا فى الشعر ، وأما قول أبى بكر فى كتاب الأصول : إنه يقال «آتيك إن
تأتنى» فنقله من كتب الكوفيين ، وهم يجيزون ذلك ، لا على الحذف ، بل على أنّ
المتقدم هو الجواب ، وهو خطأ عند أصحابنا ، لأن الشرط له الصّدر.
الثالث عشر :
قول بعضهم فى (بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً)
: إن (أَعْمالاً) مفعول به ، ورده ابن خروف بأن خسر لا يتعدّى كنقيضه ربح
، ووافقه الصفار مستدلا بقوله تعالى : (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) إذ لم يرد أنها خسرت شيئا ، وثلاثتهم ساهون ، لأن اسم
التفضيل لا ينصب المفعول به ، ولأن خسر متعد ، ففى التنزيل (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) وأما خاسرة فكأنه على النسب أى ذات خسر ، وربح أيضا
يتعدّى فيقال : ربح دينارا ، وقال سيبويه : أعمالا مشبه بالمفعول به ، ويردّه أن
اسم التفضيل لا يشبه باسم الفاعل ، لأنه لا تلحقه علامات الفروع إلا بشرط ،
والصواب أنه تمييز.
الجهة الثالثة
: أن يخرج على ما لم يثبت فى العربية ، وذلك إنما يقع عن جهل أو غفلة ، فلنذكر منه
أمثلة.
أحدها : قول
أبى عبيدة فى (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) إن الكاف حرف قسم ، وإن المعنى : الأنفال لله والرسول
والذى أخرجك ، وقد شنع ابن الشجرى على مكى فى حكايته هذا القول وسكوته عنه قال :
ولو أن قائلا قال «كالله لأفعلنّ» لاستحق أن يبصق فى وجهه.
ويبطل هذه
المقالة أربعة أمور ، أن الكاف لم تجىء بمعنى واو القسم ، وإطلاق «ما» على الله
سبحانه وتعالى ، وربط الموصول بالظاهر وهو فاعل أخرج وباب ذلك الشعر كقوله :
[فياربّ أنت الله فى كلّ موطن]
|
|
[وأنت الّذى فى رحمة الله أطمع] [٣٤٣]
|
ووصله بأول
السورة مع تباعد ما بينهما.
وقد يجاب عن
الثانى بأنه قد جاء نحو (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) وعنه أنه قال : الجواب (يُجادِلُونَكَ) ويردّه عدم توكيده ، وفى الآية أقوال أخر ، ثانيها : أن
الكاف مبتدأ ، وخبره فاتقوا الله ، ويفسده اقترانه بالفاء ، وخلوّه من رابط وتباعد
ما بينهما ، وثالثها أنها نعت مصدر محذوف ، أى يجادلونك فى الحق الذى هو إخراجك من
بيتك جدالا مثل جدال إخراجك ، وهذا فيه تشبيه الشىء بنفسه ورابعها ـ وهو أقرب مما
قبله ـ أنها نعت مصدر أيضا ، ولكن التقدير قل الأنفال ثابتة لله والرسول مع
كراهيتهم ثبوتا مثل ثبوت إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون ، وخامسها ـ وهو أقرب
من الرابع ـ : أنها نعت لحقا ، أى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ، والذى سهّل
هذا تقاربهما ، ووصف الإخراج بالحق فى الآية ، وسادسها ـ وهو أقرب من الخامس ـ أنها
خبر لمحذوف ، أى هذه الحال
كحال إخراجك ، أى أن حالهم فى كراهية ما رأيت من تنفيلك الغزاة مثل حالهم
فى كراهية خروجك من بيتك للحرب ، وفى الآية أقوال أخر منتشرة.
المثال الثانى
: قول ابن مهران فى كتاب الشواذ فيمن قرأ (إن البقر تشابهت) بتشديد التاء : إن
العرب تزيد تاء على التاء الزائدة فى أول الماضى ، وأنشد :
٧٨٨ ـ تتقطعت بى دونك الأسباب
ولا حقيقة لهذا
البيت ولا لهذه القاعدة ، وإنما أصل القراءة (إن البقرة) بتاء الوحدة ، ثم أدغمت
فى تاء تشابهت ، فهو إدغام من كلمتين.
الثالث : قول
بعضهم فى (وَما لَنا أَلَّا
نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ)
: إنّ الأصل وما
لنا وأن لا نقاتل ، أى ما لنا وترك القتال ، كما تقول «مالك وزيدا» ولم يثبت فى
العربية حذف واو المفعول معه.
الرابع : قول
محمد بن مسعود الزكى فى كتابه البديع ـ وهو كتاب خالف فيه أقوال النحويين فى أمور
كثيرة ـ : إن الذى وأن المصدريّة يتقارضان ، فيقع الذى مصدرية كقوله :
٧٨٩ ـ أتقرح أكباد المحبّين كالّذى
|
|
أرى كبدى من
حبّ ميّة يقرح؟
|
وتقع أن بمعنى
الذى كقولهم «زيد أعقل من أن يكذب» أى من الذى يكذب ، اه.
فأما وقوع الذى
مصدرية فقال به يونس والفراء والفارسىّ ، وارتضاه ابن خروف وابن مالك ، وجعلوا منه
(ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا).
وأما عكسه فلم
أعرف له قائلا ، والذى جرّأه عليه إشكال هذا الكلام ،
فإن ظاهره تفضيل زيد فى العقل على الكذب ، وهذا لا معنى له ، ونظائر هذا
التركيب كثيرة مشهورة الاستعمال ، وقلّ من يتنبه لإشكالها ، وظهر لى فيها توجيهان
، أحدهما : أن يكون فى الكلام تأويل على تأويل ، فيؤول أن والفعل بالمصدر ، ويؤوّل
المصدر بالوصف ، فيؤول إلى المعنى الذى أراده ولكن بتوجيه يقبله العلماء ، ألا ترى
أنه قيل فى قوله تعالى (وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) إن التقدير : ما كان افتراء. ومعنى هذا ما كان مفترى.
وقال أبو الحسن فى قوله تعالى (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) : إن المعنى ثم يعودون للقول ، والقول فى تأويل المقول : أى يعودون للمقول
فيهن لفظ الظهار ، وذلك هو الموافق لقول جمهور العلماء : إنّ العود الموجب للكفارة
العود إلى المرأة لا العود إلى القول نفسه كما يقول أهل الظاهر ، وبعد فهذا الوجه
عندى ضعيف ؛ لأن التفضيل على الناقص لا فضل فيه ، وعليه قوله :
٧٩٠ ـ إذ أنت فضّلت امرأ ذا براعة
|
|
على ناقص كان
المديح من النّقص
|
التوجيه الثانى
: أن «أعقل» ضمن معنى أبعد فمعنى المثال زيد أبعد الناس من الكذب لفضله من غيره ،
فمن المذكورة ليست الجارة للمفضول ، بل متعلقة بأفعل ، لما تضمنه من معنى البعد ،
لا لما فيه من المعنى الوضعى ، والمفضل عليه متروك أبدا مع أفضل هذا لقصد التعميم
، ولو لا خشية الإسهاب لأوردت لك أمثلة كثيرة من هذا الباب لتقف منها على العجب
العجاب.
الجهة الرابعة
: أن يخرج على الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة ، ويترك الوجه القريب والقوى ، فإن
كان لم يظهر له إلا ذاك فله عذر ، وإن ذكر الجميع فإن قصد بيان المحتمل أو تدريب
الطالب فحسن ، إلا فى ألفاظ التنزيل فلا يجوز أن يخرج إلا على ما يغلب على الظن
إرادته ، فإن لم يغلب شىء فليذكر الأوجه المحتملة من
غير تعسّف ، وإن أراد مجرد الإغراب على الناس وتكثير الأوجه فصعب شديد ،
وسأضرب لك أمثله مما خرّجوه على الأمور المستبعدة لتجتنبها وأمثالها.
أحدها : قول
جماعة فى (وَقِيلِهِ) إنه عطف على لفظ (السَّاعَةُ) فيمن خفض ، وعلى محلها فيمن نصب ، مع ما بينهما من
التباعد ، وأبعد منه قول أبى عمرو فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) إن خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وأبعد من هذا قول الكوفيين والزجاج فى قوله تعالى (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)
: إن جوابه (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) وقول بعضهم فى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ)
: إنه عطف على (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) وقول الزمخشرى فى (وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ) فيمن جر (مُسْتَقِرٌّ)
: إن كلا عطف على
(السَّاعَةُ) وأبعد منه قوله فى (وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ)
: إنه عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وأبعد من هذا قوله فى (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ)
: إنه عطف على (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) قال : هو معطوف على مثله فى أول السورة وإن تباعدت
بينهما المسافة ، انتهى.
والصواب خلاف
ذلك كله.
فأما (وَقِيلِهِ) فيمن خفض ، فقيل : الواو للقسم وما بعده الجواب ،
واختاره الزمخشرى ، وأما من نصب ، فقيل : عطف على (سِرَّهُمْ) أو على مفعول محذوف معمول ليكتبون أو ليعلمون ، أى
يكتبون ذلك ، أو يعلمون الحق ، أو أنه مصدر لقال محذوفا ، أو نصب على إسقاط حرف
القسم ، واختاره الزمخشرى.
وأما (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) فقيل : الذين بدل من الذين فى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) والخبر (لا يَخْفَوْنَ) واختاره الزمخشرى ، وقيل : مبتدأ خبره مذكور ، ولكن حذف
رابطه ، ثم اختلف فى تعيينه ؛ فقيل : هو (ما يُقالُ لَكَ) أى فى شأنهم ، وقيل : هو (لَمَّا جاءَهُمْ) أى كفروا به ، وقيل (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ) أى لا يأتيه منهم ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (لا يَأْتِيهِ) من جملة خبر إنه.
وأما (ص وَالْقُرْآنِ) الآية ؛ فقيل : الجواب محذوف ، أى إنه لمعجز ، بدليل
الثناء عليه بقوله (ذِي الذِّكْرِ) أو (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) بدليل (وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أو ما الأمر كما زعموا ، بدليل (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ
كَذَّابٌ) وقيل : مذكور ، فقال الأخفش (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) وقال الفراء وثعلب (أَحْرَصَ) لأن معناها صدق الله ، ويردّه أن الجواب لا يتقدم ، فإن
أريد أنه دليل الجواب فقريب ، وقيل (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية ، وحذفت اللام للطول.
وأما (ثُمَّ آتَيْنا) فعطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ) وثم لترتيب الأخبار ، لا لترتيب الزمان ، أى ثم أخبركم
بأنا آتينا موسى الكتاب.
وأما (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فمبتدأ حذف خبره ، أى وكل أمر مستقر عند الله واقع ، أو
ذكر ، وهو (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) وما بينهما اعتراض ، وقول بعضهم الخبر (مُسْتَقِرٌّ) وخفض على الجوار حمل على ما لم يثبت فى الخبر.
وأما (وَفِي مُوسى) فعطف على (فِيها) من (وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ).
الثانى : قول
بعضهم فى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) إن الوقف على (فَلا جُناحَ)
: إنّ ما بعده
إغراء ليفيد صريحا مطلوبيّة التطوف بالصفا والمروة ؛ ويردّه أن إغراء الغائب ضعيف
، كقول بعضهم وقد بلغه أن إنسانا يهدّده «عليه رجلا ليسنى» أى ليلزم [غيرى] ،
والذى فسّرت به عائشة رضى الله عنها خلاف ذلك ، وقصتها مع عروة بن الزبير رضى الله
تعالى عنهم فى ذلك مسطورة فى صحيح البخارى ثم الإيجاب لا بتوقّف على كون (عَلَيْهِ) إغراء ، بل كلمة على تقتضى ذلك مطلقا.
وأما قول بعضهم
فى (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)
: إن الوقف قبل (عَلَيْكُمْ) وإن (عَلَيْكُمْ) إغراء فحسن ، وبه يتخلص من إشكال ظاهر فى الآية محوج
للتأويل.
الثالث : قول
بعضهم فى (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) إن (أَهْلَ) منصوب على الاختصاص ، وهذا ضعيف ؛ لوقوعه بعد ضمير الخطاب
مثل «بك الله نرجو الفضل» وإنما الأكثر أن يقع بعد ضمير التكلم كالحديث «نحن معاشر
الأنبياء لا نورث» والصواب أنه منادى.
الرابع : قول
الزمخشرى فى (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) إنه يجوز كون (تَجْعَلُوا) منصوبا فى جواب الترجى أعنى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) على حد النصب فى قراءة حفص (فَاطَّلَعَ) وهذا لا يجيزه بصرى ، ويتأولون قراءة حفص : إما على أنه
جواب للأمر وهو (ابْنِ لِي صَرْحاً) أو على العطف على الأسباب ، على حد قوله :
*ولبس عباءة وتقرّ عينى* [٤٢٤]
أو على معنى ما
يقع موقع أبلغ ، وهو أنّ أبلغ ، على حد قوله *ولا سابق شيئا* [١٣٥] ثم إن ثبت قول
الفراء إن جواب الترجّى منصوب كجواب التمنى فهو قليل ، فكيف تخرج عليه القراءة
المجمع عليها
وهذا كتخريجه
قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) على أن الاستثناء منقطع ، وأنه جاء على البدل الواقع فى
اللغة التميمية ، وقد مضى البحث فيها.
ونظير هذا على
العكس قول الكرمانى فى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إن (مَنْ) نصب على الاستثناء و (نَفْسَهُ) توكيد ، فحمل قراءة السبعة على النصب فى مثل «ما قام
أحد إلا زيدا» كما حمل الزمخشرى قراءتهم على البدل فى مثل «ما فيها أحد إلا حمار»
وإنما تأتى قراءة الجماعة على أفصح الوجهين ، ألا ترى إلى إجماعهم على الرفع فى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ) وأن أكثرهم قرأ به فى (ما فَعَلُوهُ إِلَّا
قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وأنه لم يقرأ أحد بالبدل فى (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) لأنه منقطع؟. وقد قيل :
إن بعضهم قرأ به فى (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) وإجماع الجماعة على خلافة.
ونظير حمل
الكرمانى النفس على التوكيد فى موضع لم يحسن فيه ذلك قول بعضهم فى قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ) إن الباء زائدة ، و (بِأَنْفُسِهِنَّ) توكيد للنون ، وإنما لغة الأكثرين فى توكيد الضمير
المرفوع المتصل بالنفس أو العين أن يكون بعد التوكيد بالمنفصل نحو «قمتم أنتم
أنفسكم».
الخامس : قول
بعضهم فى (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ)
: إن اللام للأمر
، والفعل مجزوم ، والصواب أنها لام العلة والفعل منصوب ؛ لضعف أمر المخاطب باللام
كقوله :
لتقم أنت يا
ابن خير قريش
|
|
فلتقضى حوائج
المسلمينا [٣٧٦]
|
السادس : قول
التبريزى فى قراءة يحيى بن يعمر (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) بالرفع : إن أصله أحسنوا ، فحذفت الواو اجتزاء عنها
بالضمة ، كما قال :
٧٩١ ـ إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا
|
|
ولا يألوهم
أحد ضرارا
|
واجتماع حذف
الواو وإطلاق الذى على الجماعة كقوله :
*وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم* [٣١٥]
ليس بالسهل ،
والأولى قول الجماعة : إنه بتقدير مبتدأ ، أى هو أحسن ، وقد جاءت منه مواضع ، حتى
إن أهل الكوفة يقيسونه ، والاتفاق على أنه قياس مع أىّ كقوله :
*فسلّم على أيّهم أفضل* [١١٧]
وأما قول بعضهم
فى قراءة ابن محيصن (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)
: إن الأصل أن
يتمّوا بالجمع فحسن ؛ لأن الجمع على معنى من مثل (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ) ولكن أظهر منه قول الجماعة : إنه قد جاء على إهمال أن
الناصبة حملا على أختها ما المصدرية.
السابع : قول
بعضهم فى قوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) فيمن قرأ بتشديد الراء وضمها : إنه على حد قوله :
٧٩٢ ـ [يا أقرع بن حابس يا أقرع]
|
|
إنّك إن يصرع
أخوك تصرع
|
فخرج القراءة
المتواترة على شىء لا يجوز إلا فى الشعر ، والصواب أنه مجزوم ، وأن الضمة إتباع
كالضمة فى قولك لم يشدّ ولم يردّ وقوله تعالى (عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إذا قدر (لا يَضُرُّكُمْ) جوابا لاسم الفعل ، فإن قدر استئنافا فالضمة إعراب ، بل
قد امتنع الزمخشرى من تخريج التنزيل على رفع الجواب مع مضى فعل الشرط فقال فى قوله
تعالى (وَما عَمِلَتْ مِنْ
سُوءٍ تَوَدُّ)
: لا يجوز أن
تكون ما شرطية لرفع تود ، هذا مع تصريحه فى المفصل بجواز الوجهين فى نحو «إن قام
زيد أقوم» ولكنه لما رأى الرفع مرجو حالم يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه
، يوضح لك هذا أنه جوز ذلك فى قراءة شاذة مع كون فعل الشرط مضارعا ، وذلك على
تأويله بالماضى ، فقال قرىء (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) برفع يدرك ؛ فقيل : هو على حذف الفاء ، ويجوز أن يقال :
إنه محمول على ما يقع موقعه ، وهو أينما كنتم ، كما حمل *ولا ناعب* [فى قوله] :
[مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
|
|
ولا ناعب
إلّا ببين غرابها] [٧٣٠]
|
على ما يقع
موقع «ليسوا مصلحين» وهو ليسوا بمصلحين ، وقد يرى كثير من الناس قول الزمخشرى فى
هذه المواضع متناقضا ، والصواب ما بينت لك ، قال : ويجوز أن يتصل بقوله (وَلا تُظْلَمُونَ) اه ، وقد مضى ردّه.
الثامن : قول
ابن حبيب : إن (بِسْمِ اللهِ) خبر ، و (الْحَمْدُ) مبتدأ ، ولله حال ، والصواب أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مبتدأ وخبر ، وبسم الله على ما تقدم فى إعرابها.
التاسع : قول
بعضهم إن أصل بسم كسر السين أو ضمها على لغة من قال سم أو سم ، ثم سكنت السين ؛
لئلا يتوالى كسرات ، أو لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم ، والأولى قول الجماعة إن
السكون أصل ، وهى لغة الأكثرين ، وهم الذين يبتدئون اسما بهمز الوصل.
العاشر : قول
بعضهم فى الرحيم من البسملة : إنه وصل بنية الوقف فالتقى ساكنان الميم ولام الحمد
فكسرت الميم لالتقائهما ، وممن جوز ذلك ابن عطية ، ونظير هذا قول جماعة منهم
المبرد إن حركة راء «أكبر» من قول المؤذن «الله أكبر ، الله أكبر» فتحة ، وإنه وصل
بنية الوقف ، ثم اختلفوا ، فقيل : هى حركة الساكنين ، وإنما لم يكسروا حفظا لتفخيم
اللام كما فى (الم اللهُ) وقيل : هى حركة الهمزة نقلت ، وكل هذا خروج عن الظاهر
لغير داع ، والصواب أن كسرة الميم إعرابية ، وأن حركة الراء ضمة إعرابية ، وليس
لهمزة الوصل ثبوت فى الدّرج فتنقل حركتها إلا فى ندور.
الحادى عشر :
قول الجماعة فى قوله تعالى (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)
: إن فيه حذف
مضافين ، والمعنى علمت ضعفاء الجن أن لو كان رؤساؤهم ، وهذا معنى حسن ، إلا أن فيه
دعوى حذف مضافين لم يظهر الدليل عليهما ؛ والأولى أنّ (تَبَيَّنَ) بمعنى وضح ؛ وأن وصلتها بدل اشتمال من الجن ، أى وضح
للناس أن الجن لو كانوا إلخ.
الثانى عشر :
قول بعضهم فى (عَيْناً فِيها
تُسَمَّى)
: إن الوقف على (تُسَمَّى) هنا ، أى عينا مسماة معروفة ، وإن (سَلْسَبِيلاً) جملة أمرية أى : اسأل طريقا موصّلة إليها ، ودون هذا فى
البعد قول آخر : إنه علم مركب كتأبّط شرا ، والأظهر أنه اسم مفرد مبالغة فى
السلسال ، كما أن السلسال مبالغة فى السّلس ، ثم يحتمل أنه نكرة ، ويحتمل أنه علم
منقول وصرف لأنه اسم لماء ، وتقدم ذكر العين لا يوجب تأنيثه كما تقول «هذه واسط»
بالصّرف ، ويبعد أن يقال : صرف للتناسب كـ (قَوارِيرَا) لاتفاقهم على صرفه.
الثالث عشر :
قول مكى وغيره فى قوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا)
: إن زهرة حال من
الهاء فى به ، أو من ما ، وإن التنوين حذف للساكنين مثل قوله :
٧٩٣ ـ [فألفيته غير مستعتب]
|
|
ولا ذاكر
الله إلّا قليلا [ص ٦٤٤]
|
وإن جر الحياة
على أنه بدل من ما ، والصواب أن (زَهْرَةَ) مفعول بتقدير جعلنا لهم أو آتيناهم ، ودليل ذلك ذكر
التمتيع ، أو بتقدير أذمّ ؛ لأن المقام يقتضيه ، أو بتقدير أعنى بيانا لما أو
للضمير ، أو بدل من أزواج ، إما بتقدير ذوى زهرة ، أو على أنهم جعلوا نفس الزهرة
مجازا للمبالغة ، وقال الفراء : هو تمييز لما أو للهاء ، وهذا على مذهب الكوفيين
فى تعريف التمييز ، وقيل : بدل من ما ، وردّ بأن (لِنَفْتِنَهُمْ) من صلة (مَتَّعْنا) فيلزم الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبى ، وبأن الموصول لا
يتبع قبل كمال صلته ، وبأنه لا يقال «مررت بزيد أخاك» على البدل ؛ لأن العامل فى
المبدل منه لا يتوجّه إليه بنفسه ، وقيل : من الهاء ، وفيه ما ذكر ، وزيادة
الإبدال من العائد ، وبعضهم يمنعه بناء على أن المبدل منه فى نية الطّرح فيبقى
الموصول بلا عائد فى التقدير ، وقد مر أن الزمخشرى منع فى (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أن يكون بدلا من الهاء فى (أَمَرْتَنِي بِهِ) ورددناه عليه ، ولو لزم إعطاء منوىّ الطّرح حكم المطروح
لزم إعطاء منوىّ التأخير حكم المؤخر ، فكان يمتنع «ضرب زيدا غلامه» ويرد ذلك قوله
تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) والإجماع على جوازه.
تنبيه ـ وقد
يكون الموضع لا يتخرّج إلا على وجه مرجوح ؛ فلا حرج على مخرجه ، كقراءة ابن عامر
وعاصم (وكذلك نجى المؤمنين) فقيل : الفعل ماض مبنى للمفعول ، وفيه ضعف من جهات :
إسكان آخر الماضى ، وإنابة ضمير المصدر مع أنه مفهوم من الفعل ، وإنابة غير
المفعول به مع وجوده ، وقيل : مضارع أصله ننجى بسكون ثانيه ، وفيه ضعف ؛ لأن النون
عند الجيم تخفى ولا تدغم ، وقد زعم قوم أنها أدغمت فيها قليلا وأن منه أترجّ
وإجّاصة وإجّانة ، وقيل : مضارع وأصله
ننجّى بفتح ثانية وتشديد ثالثة ثم حذفت النون الثانية ، ويضعفه أنه لا يجوز
فى مضارع نبّأت ونقبت ونزّلت ونحوهن إذا ابتدأت بالنون أن تحذف النون الثانية إلا
فى ندور كقراءة بعضهم (وَنُزِّلَ
الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).
الجهة الخامسة
: أن يترك بعض ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة. ولنورد مسائل من ذلك ليتمرن بها
الطالب مرتبة على الأبواب ليسهل كشفها.
باب المبتدأ
مسألة ـ يجوز
فى الضمير المنفصل من نحو (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ثلاثة أوجه : الفصل وهو أرجحها ، والابتداء وهو أضعفها
، ويختصّ بلغة تميم ، والتوكيد.
مسألة ـ يجوز
فى الاسم المفتتح به من نحو قوله «هذا أكرمته» الابتداء والمفعولية ، ومثله «كم
رجل لقيته» و «من أكرمته» لكن فى هاتين يقدر الفعل مؤخرا ، ومثلهما «ربّ رجل صالح
لقيته».
مسألة ـ يجوز
فى المرفوع من نحو «أفى الله شكّ» و «ما فى الدّار زيد» الابتدائية والفاعلية ،
وهى أرجح لأن الأصل عدم التقديم والتأخير ، ومثله كلمتا (غُرَفٌ) فى سورة الزمر ؛ لأن الظرف الأول معتمد على المخبر عنه ، والثانى على
الموصوف ؛ إذ الغرف الأولى موصوفة بما بعدها ، وكذا «نار» فى قول الخنساء :
٧٩٤ ـ [وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به]
|
|
كأنّه علم فى
رأسه نار
|
ومثله الاسم
التالى للوصف فى نحو «زيد قائم أبوه» و «أقائم زيد» لما ذكرنا ، ولأن الأب إذا قدر
فاعلا كان خبر زيد مفردا ، وهو الأصل فى الخبر ، ومثله
__________________
(ظُلُماتٌ) من قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) لأن الأصل فى الصفة الإفراد ، فإن قلت «أقائم أنت»
فكذلك عند البصريين ، وأوجب الكوفيون فى ذلك الابتدائية ، ووافقهم ابن الحاجب ،
ووهم إذ نقل فى أماليه الإجماع على ذلك ، وحجتهم أن المضمر المرتفع بالفعل لا
يجاوره منفصلا عنه ، لا يقال «قام أنا» والواجب أنه إنما انفصل مع الوصف لئلا يجهل
معناه ؛ لأنه يكون معه مستترا ، بخلافه مع الفعل فإنه يكون بارزا كقمت أو قمت ،
ولأن طلب الوصف لمعموله دون طلب الفعل ؛ فلذلك احتمل معه الفصل ، ولأن المرفوع
بالوصف سدّ فى اللفظ مسدّ واجب الفصل وهو الخبر ، بخلاف فاعل الفعل ، ومما يقطع به
على بطلان مذهبهم قوله تعالى (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ
آلِهَتِي) وقول الشاعر :
٧٩٥ ـ خليلىّ ما واف بعهدى أنتما
|
|
[إذا لم تكونا لى على من أقاطع]
|
فإن القول بأن
الضمير مبتدأ كما زعم الزمخشرى فى الآية مؤدّ إلى فصل العامل من معموله بالأجنبى ،
والقول بذلك فى البيت مؤدّ إلى الإخبار عن الاثنين بالواحد ، ويجوز فى نحو «ما فى
الدار زيد» وجه ثالث عند ابن عصفور ، ونقله عن أكثر البصريين ، وهو أن يكون
المرفوع اسما لما الحجازية ، والظرف فى موضع نصب على الخبرية ، والمشهور وجوب
بطلان العمل عند تقدم الخبر ولو ظرفا.
مسألة ـ يجوز
فى نحو «أخوه» من قولك «زيد ضرب فى الدار أخوه» أن يكون فاعلا بالظرف ؛ لاعتماده
على ذى الحال وهو ضمير زيد المقدر فى ضرب ، وأن يكون نائبا عن فاعل ضرب على تقديره
خاليا من الضمير ، وأن يكون مبتدأ خبره الظرف والجملة حال ، والفراء والزمخشرى
يريان هذا الوجه شاذا رديئا ؛ لخلو الجملة الاسمية الحالية من الواو ، ويوجبان
الفاعلية فى نحو «جاء زيد عليه جبّة» وليس كما زعما ، والأوجه الثلاثة فى قوله
تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ
كَثِيرٌ) قيل : وإذا قرىء بتشديد قتل لزم ارتفاع ربيون بالفعل ،
يعنى لأن التكثير لا ينصرف إلى الواحد ، وليس بشىء ؛ لأن النبى هنا متعدد لا واحد
، بدليل كأين ، وإنما أفرد الضمير بحسب لفظها.
مسألة ـ «زيد
نعم الرجل» يتعين فى زيد الابتداء ، و «نعم الرجل زيد» قيل : كذلك ، وعليهما
فالرابط العموم ، أو إعادة المبتدأ بمعناه ، على الخلاف فى الألف واللام أللجنس هى
أم للعهد ، وقيل : يجوز أيضا أن يكون خبرا لمحذوف وجوبا ، أى الممدوح زيد ، وقال
ابن عصفور : يجوز فيه وجه ثالث وهو أن يكون مبتدأ حذف خبره وجوبا ، أى زيد الممدوح
، وردّ بأنه لم يسدّ شىء مسدّه.
مسألة ـ «حبذا
زيد» يحتمل زيد ـ على القول بأن حبّ فعل وذا فاعل ـ أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بحبذا
، والرابط الإشارة ، وأن يكون خبرا لمحذوف ، ويجوز على قول ابن عصفور السابق أن
يكون مبتدأ حذف خبره ، ولم يقل به هنا ؛ لأنه يرى أن حبذا اسم ، وقيل : بدل من ذا
، ويرده أنه لا يحل محل الأول وأنه لا يجوز الاستغناء عنه ، وقيل : عطف بيان ،
ويرده قوله :
٧٩٦ ـ وحبّذا نفحات من يمانية
|
|
[تأتيك من قبل الرّيّان أحيانا]
|
ولا تبيّن
المعرفة بالنكرة باتفاق ، وإذا قيل حبذا اسم للمحبوب فهو مبتدأ وزيد خبر ، أو
بالعكس عند من يجيز فى قولك «زيد الفاضل» وجهين وإذا قيل بأن حبذا كله فعل فزيد
فاعل ، وهذا أضعف ما قيل ؛ لجواز حذف المخصوص كقوله :
٧٩٧ ـ ألا حبّذا ـ لو لا الحياء ـ وربّما
|
|
منحت الهوى
ما ليس بالمتقارب
|
والفاعل لا
يحذف.
مسألة ـ يجوز
فى نحو (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ابتدائية كل منهما وخبرية الآخر ، أى شأنى صبر جميل ،
أو صبر جميل أمثل من غيره.
باب كان وما جرى مجراها
مسألة ـ يجوز
فى كان من نحو (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) ونحو «زيد كان له مال» نقصان كان ، وتمامها ، وزيادتها
وهو أضعفها ، قال ابن عصفور : باب زيادتها الشّعر ، والظرف متعلق بها على التمام ،
وباستقرار محذوف مرفوع على الزيادة ، ومنصوب على النقصان ، إلا أن قدرت الناقصة
شانية فالاستقرار مرفوع لأنه خبر المبتدأ.
مسألة ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ) يحتمل فى كان الأوجه الثلاثة ، إلا أن الناقصة لا تكون
شانية ؛ لأجل الاستفهام ، ولتقدم الخبر ، وكيف : حال على التمام ، وخبر لكان على
النقصان ، وللمبتدأ على الزيادة.
مسألة ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) تحتمل كان الأوجه الثلاثة ؛ فعلى الناقصة الخبر إما
لبشر ، ووحيا استثناء مفرغ من الأحوال ؛ فمعناه موحيا أو موحى ، أو من وراء حجاب ،
بتقدير : أو موصّلا ذلك من وراء حجاب ، وأو يرسل بتقدير أو إرسالا ، أى أو ذا
إرسال ، وإما وحيا والتفريغ فى الأخبار ، أى ما كان تكليمهم إلا إيحاء أو إيصالا
من وراء حجاب أو إرسالا ، وجعل ذلك تكليما على حذف مضاف ، ولبشر على هذا تبيين ،
وعلى التمام والزيادة فالتفريغ فى الأحوال المقدرة فى الضمير المستتر فى لبشر.
مسألة ـ «أين
كان زيد قائما» يحتمل الأوجه الثلاثة ، وعلى النقصان فالخبر إما قائما وأين ظرف له
، أو أين فيتعلق بمحذوف وقائما حال ، وعلى الزيادة
والتمام فقائما حال ، وأين ظرف له ، ويجوز كونه ظرفا لكان إن قدرت تامة.
مسألة ـ يجوز
فى نحو «زيد عسى أن يقوم» نقصان عسى فاسمها مستتر ، وتمامها فأن والفعل مرفوع
المحل بها.
مسألة ـ يجوز
الوجهان فى «عسى أن يقوم زيد» فعلى النقصان زيد اسمها وفى يقوم ضميره ، وعلى
التمام لا إضمار ، وكل شىء فى محله ، ويتعين التمام فى نحو «عسى أن يقوم زيد فى
الدار» و (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) لئلا يلزم فصل صلة أن من معمولها بالأجنبى وهو اسم عسى.
مسألة ـ (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) تحتمل ما الحجازية والتميمية ، وأوجب الفارسىّ
والزمخشرىّ الحجازية ظنا أن المقتضى لزيادة الباء نصب الخبر ، وإنما المقتضى نفيه
؛ لامتناع الباء فى «كان زيد قائما» وجوازها فى :
٧٩٨ ـ [وإن مدّت الأيدى إلى الزّاد]
لم أكن
|
|
بأعجلهم ؛ [إذ
أجشع القوم أعجل]
|
وفى «ما إن زيد
بقائم».
مسألة ـ «لا
رجل ولا امرأة فى الدار» إن رفعت الاسمين فهما مبتدآن على الأرجح ، أو اسمان للا
الحجازية ، فإن قلت «لا زيد ولا عمرو فى الدار» تعين الأول ؛ لأن لا إنما تعمل فى
النكرات ، فإن قلت «لا رجل فى الدار» تعين الثانى ؛ لأن لا إذا لم تتكرر يجب أن
تعمل ، ونحو (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) إن فتحت الثلاثة فالظرف خبر للجميع عند سيبويه ، ولواحد
عند غيره ، ويقدر للآخرين ظرفان ، لأن لا المركبة عند غيره عاملة فى الخبر ، ولا
يتوارد عاملان على معمول واحد ، فكيف عوامل؟ وإن رفعت الأولين فإن قدرت لا معهما
حجازية تعين عند الجميع إضمار خبرين إن قدرت لا الثانية كالأولى وخبرا واحدا إن
قدرتها مؤكدة لها وقدرت الرفع بالعطف ، وإنما وجب التقدير فى الوجهين
لاختلاف خبرى الحجازية والتبرئة بالنصب والرفع ؛ فلا يكون خبر واحد لهما ،
وإن قدرت الرفع بالابتداء فيهما ـ على أنهما مهملتان ـ قدرت عند غير سيبويه خبرا
واحدا للأولين أو للثالث كما تقدر فى «زيد وعمرو قائم» خبرا للأول أو للثانى ، ولم
يحتج لذلك عند سيبويه .
باب المنصوبات المتشابهة
ما يحتمل
المصدرية والمفعولية ـ من ذلك نحو (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أى ظلما مّا أو خيرا مّا ، أى لا تنقصونه مثل (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) ومن ذلك (ثُمَّ لَمْ
يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أى نقصا أو خيرا ، وأما (وَلا تَضُرُّوهُ
شَيْئاً) فمصدر ؛ لاستيفاء ضرّ مفعوله ، وأما (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فشىء قبل ارتفاعه مصدر أيضا ، لا مفعول به ؛ لأن عفا لا
يتعدّى.
ما يحتمل
المصدرية والظرفية والحالية ـ من ذلك «سرت طويلا» أى سيرا طويلا ، أو زمنا طويلا ،
أو سرته طويلا ، ومنه (وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أى إزلافا غير بعيد ، أو زمنا غير بعيد أو أزلفته الجنة
ـ أى الإزلاف ـ فى حالة كونه غير بعيد ، إلا أن هذه الحال مؤكدة ، وقد يجعل حالا
من الجنة فالأصل غير بعيدة ، وهى أيضا حال مؤكدة ، ويكون التذكير على هذا مثله فى (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).
ما يحتمل
المصدرية والحالية ـ «جاء زيد ركضا» أى يركض ركضا ، أو عامله «جاء» على حد «قعدت
جلوسا» أو التقدير جاء راكضا ، وهو قول سيبويه ، ويؤيده قوله تعالى (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا
: أَتَيْنا طائِعِينَ) فجاءت الحال فى موضع المصدر السابق ذكره.
ما يحتمل
المصدرية والحالية والمفعول لأجله ـ من ذلك (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
__________________
خَوْفاً
وَطَمَعاً) أى فتخافون خوفا وتطمعون طمعا ، وابن مالك يمنع حذف
عامل المصدر المؤكد إلا فيما استثنى ، أو خائفين وطامعين ، أو لأجل الخوف والطمع ،
فإن قلنا «لا يشترط اتحاد فاعلى الفعل والمصدر المعلّل» وهو اختيار ابن خروف فواضح
، وإن قيل باشتراطه فوجهه أنّ (يُرِيكُمْ) بمعنى يجعلكم ترون ، والتعليل باعتبار الرؤية لا
الإراءة ، أو الأصل إخافة وإطماعا ، وحذفت الزوائد.
وتقول «جاء زيد
رغبة» أى يرغب رغبة ، أو مجىء رغبة ، أو راغبا ، أو للرغبة ، وابن مالك يمنع الأول
؛ لما مر ، وابن الحاجب يمنع الثانى ؛ لأنه يؤدى إلى إخراج الأبواب عن حقائقها ،
إذ يصح فى «ضربته يوم الجمعة» أن يقدر ضرب يوم الجمعة ، قلت : وهو حذف بلا دليل ؛
إذ لم تدع إليه ضرورة ، وقال المتنبى :
٧٩٩ ـ أيلى الهوى أسفا يوم النّوى
بدنى
|
|
[وفرّق الهجر بين الجفن والوسن]
|
والتقدير آسف
أسنا ، ثم اعترض بذلك بين الفاعل والمفعول به ، أو إبلاء أسف ، أو لأجل الأسف ؛
فمن لم يشترط اتحاد الفاعل فلا إشكال ، وأما من اشترطه فهو على إسقاط لام العلة
توسّعا ، كما فى قوله تعالى : (يَبْغُونَها عِوَجاً) أو الاتحاد موجود تقديرا : إما على أن الفعل المعلّل
مطاوع أبلى محذوفا ، أى فبليت أسفا ، ولا تقدر فبلى بدنى ؛ لأن الاختلاف حاصل ؛ إذ
الأسف فعل النفس لا البدن ، أو لأن الهوى لما حصل بتسببه كان كأنه قال : أبليت
بالهوى بدنى.
ما يحتمل
المفعول به والمفعول معه ـ نحو «أكرمتك وزيدا» يجوز كونه عطفا على المفعول وكونه
مفعولا معه ، ونحو «أكرمتك وهذا» يحتملهما وكونه معطوفا على الفاعل ؛ لحصول الفصل
بالمفعول ، وقد أجيز فى «حسبك وزيدا درهم» كون «زيد» مفعولا معه ، وكونه مفعولا به
بإضمار يحسب ، وهو الصحيح ، لأنه لا يعمل فى المفعول معه إلا ما كان من جنس ما
يعمل فى المفعول به ، ويجوز جره :
فقيل : بالعطف ، وقيل : بإضمار حسب أخرى وهو الصواب ، ورفعه بتقدير حسب
فحذفت وخلفها المضاف إليه ، ورووا بالأوجه الثلاثة قوله :
٨٠٠ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا
|
|
فحسبك
والضّحّاك سيف مهنّد
|
باب الاستثناء
يجوز فى نحو «ما
ضربت أحدا إلّا زيدا» كون زيد بدلا من المستثنى منه ، أرجحها ، وكونه منصوبا على
الاستثناء ، وكون إلا وما بعدها نعتا ، وهو أضعفها ، ومثله «ليس زيد شيئا إلّا
شيئا لا يعبأ به» فإن جئت بما مكان ليس بطل كونه بدلا ، لأنها لا تعمل فى الموجب.
مسألة ـ يجوز
فى نحو «قام القوم حاشاك ، وحاشاه» كون الضمير منصوبا ، وكونه مجرورا ، فإن قلت «حاشاى»
تعين الجر ، أو «حاشانى» تعين النصب ، وكذا القول فى خلا وعدا.
مسألة ـ يجوز
فى نحو «ما أحد يقول ذلك إلّا زيد» كون زيد بدلا من أحد وهو المختار ، وكونه بدلا
من ضميره ، وأن ينصب على الاستثناء ، فارتفاعه من وجهين ، وانتصابه من وجه ، فإن
قلت «ما رأيت أحدا يقول ذلك إلا زيد» فبالعكس ، ومن مجيئه مرفوعا قوله :
فى ليلة لا
نرى بها أحدا
|
|
يحكى علينا
إلّا كواكبها [٢٢٤]
|
و «على» هنا
بمعنى عن ، أو ضمّن يحكى معنى ينمّ أو يشنع.
ما يحتمل
الحالية والتمييز ـ من ذلك «كرم زيد ضيفا» إن قدرت أن الضيف غير زيد فهو تمييز
محول عن الفاعل ، يمتنع أن تدخل عليه من ، وإن قدّر نفسه احتمل الحال والتمييز ،
وعند قصد التمييز فالأحسن إدخال من ، ومن ذلك
«هذا خاتم حديدا» والأرجح التمييز للسلامة به من جمود الحال ، ولزومها ، أى
عدم انتقالها ، ووقوعها من نكرة ، وخير منهما الخفض بالإضافة.
من الحال ما
يحتمل كونه من الفاعل وكونه من المفعول ـ نحو «ضربت زيدا ضاحكا» ونحو (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) وتجويز الزمخشرى الوجهين فى (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) وهم لأن كافة مختص بمن يعقل ، ووهمه فى قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ) إذ قدّر (كَافَّةً) نعتا لمصدر محذوف ـ أى إرسالة كافة ـ أشدّ ، لأنه أضاف
إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحالية ، ووهمه فى خطبة
المفصل إذ قال «محيط بكافّة الأبواب» أشدّ وأشدّ لإخراجه إياه عن النصب ألبتة.
من الحال ما
يحتمل باعتبار عامله وجهين ـ نحو (وَهذا بَعْلِي
شَيْخاً) يحتمل أن عامله معنى التنبيه أو معنى الإشارة ، وعلى
الأول فيجوز «قائما ذا زيد» قال :
٨٠١ ـ ها بيّنا ذا صريح النّصح فاصغ
له
|
|
[وطع فطاعة مهد نصحه رشد]
|
[ص ٦٥٩]
وعلى الثانى
يمتنع ، وأما التقديم عليهما معا فيمتنع على كل تقدير.
من الحال ما
يحتمل التعدّد والتداخل ـ نحو «جاء زيد راكبا ضاحكا» فالتعدد على أن يكون عاملهما
جاء ، وصاحبهما زيد ، والتداخل على أن الأولى من زيد وعاملها جاء والثانية من ضمير
الأولى وهى العامل ، وذلك واجب عند من منع تعد : الحال ، وأما «لقيته مصعدا منحدرا»
فمن التعدد ، لكن مع اختلاف الصاحب ، ويستحيل التداخل ، ويجب كون الأولى من
المفعول والثانية من الفاعل تقليلا للفصل ، ولا يحمل على العكس إلا بدليل كقوله :
٨٠٢ ـ خرجت بها أمشى تجرّ وراءنا
|
|
[على أثرينا ذيل مرط مرحّل]
|
ومن الأول قوله
:
٨٠٣ ـ عهدت سعاد ذات هوى معنّى
|
|
فزدت ، وعاد
سلوانا هواها
|
باب إعراب الفعل
مسألة ـ «ما
تأتينا فتحدثنا» لك رفع تحدث على العطف فيكون شريكا فى النفى ، أو الاستئناف فتكون
مثبتا ، أى فأنت تحدثنا الآن بدلا عن ذلك ، ونصبه بإضمار أن ، وله معنيان : نفى
السبب فينتفى المسبب ، ونفى الثانى فقط ؛ فإن جئت بلن مكان ما ؛ فللنصب وجهان :
إضمار أن والعطف ، وللرفع وجه وهو القطع ، وإن جئت بلم فللنصب وجه وهو إضمار أن ،
وللرفع وجه وهو الاستئناف ولك الجزم بالعطف ، فإن قلت «ما أنت آت فتحدثنا» فلا جزم
ولا رفع بالعطف ؛ لعدم تقدم الفعل ، وإنما هو على القطع.
مسألة ـ «هل
تأتينى فأكرمك» الرفع على وجهين ، والنصب على الإضمار ، و «هل زيد أخوك فتكرمه» لا
يرفع على العطف ، بل على الاستئناف ، و «هل لك التفات إليه فتكرمه» الرفع على
الاستئناف ، والنصب إما على الجواب أو على العطف على التفات ، وإضمار أن واجب على
الأول وجائز على الثانى ، وكالمثال سواء (فَلَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً فَنَكُونَ) إن سلّم كون «لو» للتمنى.
مسألة ـ «ليتنى
أجد مالا فأنفق منه» الرفع على وجهين ، والنصب على إضمار أن ، و «ليت لى مالا
فأنفق منه» يمتنع الرفع على العطف.
مسألة ـ «ليقم
زيد فنكرمه» الرفع على القطع ، والجزم بالعطف ، والنصب على الإضمار.
مسألة ـ نحو (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا) يحتمل الجزم بالعطف والنصب على الإضمار ، مثل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ)
ونحو : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) يحتمل (تَتَّقُوا) الجزم بالعطف ، وهو الراجح ، والنصب بإضمار أن على حد
قوله :
٨٠٤ ـ ومن يقترب منّا ويخضع نؤوه
|
|
[ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما
|
باب الموصول
مسألة ـ يجوز
فى نحو «ماذا صنعت ، وما ذا صنعته» ما مضى شرحه وقوله تعالى : (ما ذا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ) ماذا : مفعول مطلق ، لا مفعول به ؛ لأن أجاب لا يتعدّى
إلى الثانى بنفسه ، بل بالباء ، وإسقاط الجار ليس بقياس ، ولا يكون «ماذا» مبتدأ
وخبرا ، لان التقدير حينئذ : ما الذى أجبتم به ، ثم حذف العائد المجرور من غير شرط
حذفه ، والأكثر فى نحو «من ذا لقيت» كون ذا للإشارة خبرا ، ولقيت : جملة حالية ،
وبقلّ كون ذا موصولة ، ولقيت صلة ، وبعضهم لا يخيزه ، ومن الكثير (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) إذ لا يدخل موصول على موصول إلا شاذا كقراءة زيد بن على
(وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) بفتح الميم واللام.
مسألة ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ما مصدرية ، أى بالأمر ، أو موصول اسمى أى بالذى تؤمره
، على حد قولهم *أمرتك الخير* [٥٢٤] وأما من قال «أمرتك بكذا» وهو الأكثر فيشكل ؛
لأن شرط حذف العائد المجرور بالحرف أن يكون الموصول مخفوضا بمثله معنى ومتعلقا نحو
(وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) أى منه ، وقد يقال : إن (اصدع) بمعنى اؤمر ، وأما (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما
كَذَّبُوا) فى الأعراف فيحتمل أن يكون الأصل بما كذبوه فلا إشكال ،
أو بما كذبوا به ويؤيده التصريح به فى سورة يونس ، وإنما جاز مع اختلاف المتعلق ،
لأن (ما كانوا ليؤمنوا) بمنزلة كذبوا فى المعنى ، وأما (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) فقيل : الذى مصدرية
__________________
أى ذلك تبشير الله ، وقيل : الأصل يبشر به ، ثم حذف الجار توسعا فانتصب
الضمير ثم حذف.
مسألة ـ يجوز
فى نحو (تَماماً عَلَى
الَّذِي أَحْسَنَ) كون الذى موصولا اسميا فيحتاج إلى تقدير عائد ، أى
زيادة على العلم الذى أحسنه ، وكونه موصولا حرفيا ، فلا يحتاج لعائد ، أى تماما
على إحسانه ، وكونه نكرة موصوفة فلا يحتاج إلى صلة ، ويكون أحسن حينئذ اسم تفضيل ،
لا فعلا ماضيا ، وفتحته إعراب لا بناء ، وهى علامة الجر ، وهذان الوجهان كوفيان ،
وبعض البصريين يوافق [على] الثانى.
مسألة ـ نحو «أعجبنى
ما صنعت» يجوز فيه كون ما بمعنى الذى ، وكونها نكرة موصوفة ، وعليهما فالعائد
محذوف ، وكونها مصدرية فلا عائد ، ونحو (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ) يحتمل الموصولة والموصوفة ، دون المصدرية ، لأن المعانى
لا ينفق منها ، وكذا (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فإن ذهبت الى تأويل (مِمَّا تُحِبُّونَ) و (ما رزقناهم) بالحب والرزق وتأويل هذين بالمحبوب والمرزوق فقد تعسّفت من
غير محوج إلى ذلك ، وقال أبو حيان : لم يثبت مجىء ما نكرة موصوفة ؛ ولا دليل فى «مررت
بما معجب لك» لاحتمال الزيادة ، ولو ثبت نحو «سرّنى ما معجب لك» لثبت ذلك ، انتهى.
ولا أعلمهم زادوا ما بعد الباء إلا ومعناها السببية ، نحو (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
لَعَنَّاهُمْ) (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ
لَهُمْ).
مسألة ـ إذا
قلت : «أعجبنى من جاءك» احتمل كون من موصولة أو موصوفة ، وقد جوزوا فى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) وضعف أبو البقاء الموصولة ، لأنها تتناول قوما بأعيانهم
، والمعنى على الإبهام ، وأحيب بأنها نزلت فى عبد الله بن أبىّ وأصحابه.
باب التوابع
مسألة ـ نحو (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ
مُوسى وَهارُونَ) يحتمل بدل الكل من الكل ، وعطف البيان ، ومثله (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) فيمن فتح الهمزة ، ويحتمل هذا تقدير مبتدأ أيضا ، أى هى
أنّا دمرناهم.
مسألة ـ نحو (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) يجوز فيه كون (الْأَعْلَى) صفة للاسم أو صفة للرب ، وأما نحو «جاءنى غلام زيد
الظريف» فالصفة للمضاف ، ولا تكون للمضاف إليه إلا بدليل ، لأن المضاف إليه إنما
جىء به لغرض التخصيص ، ولم يؤت به لذاته ، وعكسه :
٨٠٥ ـ *وكلّ فتى يتّقى فائز*
فالصفة للمضاف
إليه ، لأن المضاف إنما جىء به لقصد التعميم ، لا للحكم عليه ولذلك ضعف قوله :
وكلّ أخ
مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك
إلّا الفرقدان [١٠٦]
|
مسألة ـ نحو (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ) و «مررت بالرجل الذى فعل» يجوز فى الموصول أن يكون تابعا أو بإضمار أعنى أو
أمدح أو هو ، وعلى التبعية فهو نعت لا بدل إلا إذا تعذر ، نحو (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
الَّذِي جَمَعَ مالاً) لأن النكرة لا توصف بالمعرفة.
باب حروف الجر
مسألة ـ نحو «زيد
كعمرو» تحتمل الكاف فيه عند المعربين الحرفية فتتعلق باستقرار ، وقيل : لا تتعلق ،
والاسمية فتكون مرفوعة المحل وما يعدها جرّ
بالإضافة ولا تقدير بالاتفاق ، ونحو «جاء الّذى كزيد» يتعين الحرفية ؛ لأن
الوصل بالمتضايفين ممتنع.
مسألة ـ «زيد
على السّطح» يحتمل على الوجهين ، وعليهما فهى متعلقة باستقرار محذوف.
مسألة ـ قيل فى
نحو (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ)
: إن الواو تحتمل
العاطفة والقسمية ، والصواب الأول ، وإلا لاحتاج كل إلى الجواب ، ومما يوضحه مجىء «الفاء
فى أوائل سورتى المرسلات والنازعات.
باب فى مسائل مفردة
مسألة ـ نحو (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) فيمن فتح الباء يحتمل كون النائب عن الفاعل الظرف الأول
ـ وهو الأولى ـ أو الثانى أو الثالث ، ونحو (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى) النائب الظرف أو الوصف ، وفى هذا ضعف ؛ لضعف قولهم «سير
عليه طويل».
مسألة ـ «تجلّى
الشّمس» يحتمل كون تجلى ماضيا تركت التاء من آخره لمجازية التأنيث ، وكونه مضارعا
أصله تتجلّى ثم حذفت إحدى التاءين على حد قوله تعالى : (ناراً تَلَظَّى) ولا يجوز فى هذا كونه ماضيا ، وإلا لقيل تلظّت ؛ لأن
التأنيث واجب مع المجازى إذا كان ضميرا متصلا ، وبما ذكرنا من الوجهين فى المثال
الأول تعلم فساد قول من استدل على جواز نحو «قام هند» فى الشعر بقوله :
٨٠٦ ـ تمنّى ابنتاى أن يعيش أبوهما
|
|
[وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر]
|
[ص ٦٧٠]
لجواز أن يكون
أصله تتمنّى.
* * *
الجهة السادسة
: أن لا يراعى الشروط المختلفة بحسب الأبواب ؛ فإن العرب
__________________
يشترطون فى باب شيئا ويشترطون فى آخر نقيض ذلك الشىء على ما اقتضته حكمة
لغتهم وصحيح أقيستهم ؛ فإذا لم يتأمل المعرب اختلطت عليه الأبواب والشرائط.
فلنورد أنواعا
من ذلك مشيرين إلى بعض ما وقع فيه الوهم للمعربين :
النوع الأول :
اشتراطهم الجمود لعطف البيان ، والاشتقاق للنعت.
ومن الوهم فى
الأول قول الزمخشرى فى (مَلِكِ النَّاسِ ،
إِلهِ النَّاسِ) إنهما عطفا بيان ، والصواب أنهما نعتان ، وقد يجاب
بأنهما أجريا مجرى الجوامد ؛ إذ يستعملان غير جاريين على موصوف وتجرى عليهما
الصفات ، نحو قولنا «إله واحد ، وملك عظيم».
ومن الخطأ فى
الثانى قول كثير من النحويين فى نحو «مررت بهذا الرّجل» إن الرجل نعت ، قال ابن
مالك : أكثر المتأخرين يقلد بعضهم بعضا فى ذلك ، والحامل لهم عليه توهمهم أن عطف
البيان لا يكون إلّا أخصّ من متبوعه ، وليس كذلك ؛ فإنه فى الجوامد بمنزلة النعت
فى المشتق ، ولا يمتنع كون المنعوت أخصّ من النعت ، وقد هدى ابن السيّد إلى الحق
فى المسألة فجعل ذلك عطفا لا نعتا ، وكذا ابن جنى ، اه. قلت : وكذا الزجاج
والسهيلى ، قال السهيلى : وأما تسمية سيبويه له نعتا فتسامح ، كما سمى التوكيد
وعطف البيان صفة ، وزعم ابن عصفور أن النحويين أجازوا فى ذلك الصفة والبيان ، ثم
استشكله بأن البيان أعرف من المبين وهو جامد ، والنعت دون المنعوت أو مساو له وهو
مشتق أو فى تأويله ، فكيف يجتمع فى الشىء أن يكون بيانا ونعتا؟ وأجاب بأنه إذا قدر
نعتا فاللام فيه للعهد والاسم مؤول بقولك الحاضر أو المشار إليه ، وإذا قدر بيانا
فاللام لتعريف الحضور ؛ فيساوى الإشارة بذلك ويزيد بإفادته الجنس المعين فكان أخص
، قال : وهذا معنى قول سيبويه ، اه. وفيما قاله نظر ؛ لأن الذى يؤوله النحويون
بالحاضر والمشار إليه إنما هو اسم الإشارة نفسه إذا وقع نعتا «كمررت بزيد هذا»
فأما نعت اسم الإشارة فليس ذلك معناه ، وإنما هو معنى ما قبله ، فكيف يجعل معنى ما
قبله تفسيرا له؟
وقال الزمخشرى
فى (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ)
: يجوز كون اسم
الله تعالى صفة للإشارة أو بيانا ، وربكم الخبر ، فجوز فى الشىء الواحد البيان
والصفة ، وجوز كون العلم نعتا ، وإنما العلم ينعت ولا ينعت به ، وجوز نعت الإشارة
بما ليس معرفا بلام الجنس ، وذلك مما أجمعوا على بطلانه.
النوع الثانى :
اشتراطهم التعريف لعطف البيان ولنعت المعرفة ، والتنكير للحال ، والتمييز ، وأفعل
من ، ونعت النكرة.
ومن الوهم فى
الأول قول جماعة فى (صديد من ماء صديد) وفى طعام مساكين من (كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فيمن نون كفارة : إنهما عطفا بيان ، وهذا إنما هو معترض
على قول البصريين ومن وافقهم ؛ فيجب عندهم فى ذلك أن يكون بدلا ، وأما الكوفيون
فيرون أن عطف البيان فى الجوامد كالنعت فى المشتقّات ، فيكون فى المعارف والنكرات
، وقول بعضهم فى «ناقع» من قول النابغة :
٨٠٧ ـ [فبتّ كأنى ساورتنى ضئيلة]
|
|
من الرّقش فى
أنيابها السّمّ ناقع
|
إنه نعت للسم ،
والصواب أنه خبر للسم ، والظرف متعلق به ، أو خبر ثان.
وليس من ذلك
قول الزمخشرى فى (شَدِيدُ الْعِقابِ)
: إنه يجوز كونه
صفة لاسم الله تعالى فى أوائل سورة المؤمن ، وإن كان من باب الصفة المشبهة ،
وإضافتها لا تكون إلا فى تقدير الانفصال ، ألا ترى أن (شَدِيدُ الْعِقابِ) معناه شديد عقابه ، ولهذا قالوا : كل شىء إضافته غير
محضة فإنه يجوز أن تصير إضافته محضة ، إلا الصفة المشبهة ؛ لأنه جعله على تقدير أل ، وجعل سبب حذفها إرادة الازدواج ، وأجاز
وصفيّته أيضا أبو البقاء ، لكن على أن شديدا بمعنى مشدد كما أن الأذين فى معنى
المؤذّن ، فأخرجه بالتأويل من باب الصفة المشبهة إلى باب اسم الفاعل ، والذى قدّمه
الزمخشرىّ أنه وجميع ما قبله أبدال ، أما أنه بدل فلتنكيره ، وكذا المضافان قبله
وإن
__________________
كانا من باب اسم الفاعل ؛ لأن المراد بهما المستقبل ، وأما البواقى
فللتناسب ، وردّ على الزجاج فى جعله (شَدِيدُ الْعِقابِ) بدلا وما قبله صفات ، وقال : فى جعله بدلا وحده من بين
الصفات نبوّ ظاهر.
ومن ذلك قول الجاحظ فى بيت الأعشى :
٨٠٨ ـ ولست بالأكثر منهم حصى
|
|
[وإنّما العزّة للكاثر]
|
إنه يبطل قول
النحويين «لا تجتمع أل ومن فى اسم التفضيل» فجعل كلا من أل ومن معتدا به جاريا على
ظاهره ، والصواب أن تقدر أل زائدة ، أو معرفة ومن متعلقة بأكثر منكرا محذوفا مبدلا
من المذكور أو بالمذكور على أنها بمنزلتها فى قولك «أنت منهم الفارس البطل» أى أنت
من بينهم ، وقول بعضهم «إنها متعلقة بليس» قد يردّ بأنها لا تدل على الحدث عند من
قال فى أخواتها إنها تدل عليه ، ولأن فيه فصلا بين أفعل وتمييزه بالأجنبى ، وقد
يجاب بأن الظرف يتعلق بالوهم ، وفى ليس رائحة قولك انتفى ، وبأن فصل التمييز قد
جاء فى الضرورة فى قوله :
٨٠٩ ـ على أنّنى بعد ما قد مضى
|
|
ثلاثون للهجر
حولا كميلا
|
وأفعل أقوى فى
العمل من ثلاثون.
ومن الوهم فى
الثانى قول مكى فى قراءة ابن أبى عبلة (فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ) بالنصب : إن (قَلْبُهُ) تمييز ، والصواب أنه مشبه بالمفعول به كحسن وجهه ، أو
بدل من اسم إنّ وقول الخليل والأخفش والمازنى فى «إياى ، وإيّاك ، وإيّاه» : إن
إيا ضمير أضيف إلى ضمير ؛ فحكموا للضمير بالحكم الذى لا يكون إلا للنكرات وهو
الإضافة ، وقول بعضهم فى «لا إله إلا الله» إن اسم الله تعالى خبر لا التبرئة
ويردّه أنها لا تعمل إلا فى نكرة منفيّة ، واسم الله تعالى معرفة موجبة ، نعم يصح
أن يقال : إنه خبر للامع
__________________
اسمها فإنهما فى موضع رفع بالابتداء عند سيبويه ، وزعم أن المركبة لا تعمل
فى الخبر ؛ لضعفها بالتركيب عن أن تعمل فيما تباعد منها وهو الخبر ، كذا قال ابن
مالك. والذى عندى أن سيبويه يرى أن المركبة لا تعمل فى الاسم أيضا ؛ لأن جزء الشىء
لا يعمل فيه ، وأما «لا رجل ظريفا» بالنصب فإنه عند سيبويه مثل «يا زيد الفاضل»
بالرفع ، وكذا البحث فى «لا إله إلا هو» للتعريف والإيجاب أيضا ، وفى «لا إله إلا
إله واحد» للإيجاب ، وإذا قيل «لا مستحقا للعبادة إلا إله واحد ، أو إلا الله» لم
يتجه الاعتذار المتقدم ؛ لأن لا فى ذلك عاملة فى الاسم والخبر لعدم التّركيب ،
وزعم الأكثرون أن المرتفع بعد «إلا» فى ذلك كله بدل من محل اسم لا ، كما فى قولك «ما
جاءنى من أحد إلّا زيد» ويشكل على ذلك أن البدل لا يصلح هنا لحلوله محل الأول ،
وقد يجاب بأنه بدل من الاسم مع لا ، فإنهما كالشىء الواحد ، ويصح أن يخلفهما ،
ولكن يذكر الخبر حينئذ فيقال «الله موجود» وقيل : هو بدل من ضمير الخبر المحذوف ،
ولم يتكلم الزمخشرى فى كشّافه على المسألة اكتفاء بتأليف مفرد له فيها ، وزعم فيه
أن الأصل «الله إله» المعرفة مبتدأ ، والنكرة خبر ، على القاعدة ، ثم قدّم الخبر ،
ثم أدخل النفى على الخبر والإيجاب على المبتدأ ، وركبت لا مع الخبر ، فيقال له :
فما تقول فى نحو «لا طالعا جبلا إلا زيد» لم انتصب خبر المبتدأ؟ فإن قال : إن لا
عاملة عمل ليس ، فذلك ممتنع ؛ لتقدم الخبر ، ولانتقاض النفى ، ولتعريف أحد الجزأين
، فأما قوله «يجب كون المعرفة المبتدأ» فقد مر أن الإخبار عن النكرة المخصّصة
المقدمة بالمعرفة جائز نحو (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ).
ومن ذلك قول
الفارسى فى «مررت برجل ما شئت من رجل» : إن ما مصدرية ، وإنها وصلتها صفة لرجل ،
وتبعه على ذلك صاحب الترشيح ، قال : ومثله قوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أى فى أى صورة مشيئته أى يشاؤها ، وقول أبى البقاء فى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا
اللهَ)
: إنّ أن وصلتها
بدل من سواء ، وبدل الصفة صفة ، والحرف المصدرى وصلته فى نحو ذلك معرفة ، فلا يقع
صفة للنكرة. وقول بعضهم فى (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ)
: إنّ الذى صفة.
والصواب أن «ما»
فى المثال شرطية حذف جوابها ، أى فهو كذلك ، والصفة الجملتان معا.
وأما الآية
الأولى فقال أبو البقاء : ما شرطية أو زائدة ، وعليهما فالجملة صفة لصورة ،
والعائد محذوف ، أى عليها ، وفى متعلقة بركبك ، اه كلامه.
وكان حقه إذ
علّق فى بركبك وقال الجملة صفة أن يقطع بأن ما زائدة ، إذ لا يتعلق الشرط الجازم
بجوابه ، ولا تكون جملة الشرط وحدها صفة ، والصواب أن يقال : إن قدرت ما زائدة
فالصفة جملة شاء وحدها ، والتقدير شاءها ، وفى متعلقة بركبك ، أو باستقرار محذوف
هو حال من مفعوله ، أو بعدّلك ، أى وضعك فى صورة أى صورة ، وإن قدرت ما شرطية
فالصفة مجموع الجملتين ، والعائد محذوف أيضا ، وتقديره عليها ، وتكون فى حينئذ
متعلقة بعدّلك ، أى عدّلك فى صورة أى صورة ، ثم استؤنف ما بعده.
والصواب فى
الآية الثانية أنها على تقدير مبتدأ.
وفى الثالثة أن
(الَّذِي) بدل ، أو صفة مقطوعة بتقدير هو أو أذم أو أعنى.
هذا هو الصواب
، خلافا لمن أجاز وصف النكرة بالمعرفة مطلقا ، ولمن أجازه بشرط وصف النكرة أولا
بنكرة ، وهو قول الأخفش ، زعم أن (الْأَوْلَيانِ) صفة لآخران فى (فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما) الآية ، لوصفهما بيقومان ، وكذا قال بعضهم فى قوله
تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ).
ومن ذلك قول
الزمخشرى فى (إِنَّما أَعِظُكُمْ
بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ)
: إن (أَنْ تَقُومُوا) عطف بيان على واحدة ، وفى (مَقامِ إِبْراهِيمَ)
:
انه عطف بيان على (آياتٍ بَيِّناتٍ) مع اتفاق النحويين على أن البيان والمبين لا يتخالفان
تعريفا وتنكيرا ، وقد يكون عبّر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما ، ويؤيده فى قوله (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ)
: إن (مِنْ وُجْدِكُمْ) عطف بيان لقوله تعالى (مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ) وتفسير له ، قال : ومن : تبعيضية حذف مبعضها ، أى
أسكنوهن مكانا من مساكنكم مما تطيقون ، اه. وإنما يريد البدل ، لأن الخافض لا يعاد
إلا معه ، وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمى التوكيد صفة وعطف البيان صفة كما مر.
النوع الثالث :
اشتراطهم فى بعض ما التعريف شرطه تعريفا خاصا ، كمنع الصرف اشترطوا له تعريف
العلمية أو شبهه ، كما فى أجمع ، وكنعت الإشارة وأىّ فى النداء ، اشترطوا لهما
تعريف اللام الجنسية ، وكذا تعريف فاعلى نعم وبئس ، ولكنها تكون مباشرة له أو لما
أضيف إليه ، بخلاف ما تقدم فشرطها المباشرة له.
ومن الوهم فى
ذلك قول الزمخشرى فى قراءة ابن أبن عبلة (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) بنصب تخاصم : إنه صفة للاشارة ، وقد مضى أن جماعة من
المحققين اشترطوا فى نعت الإشارة الاشتقاق كما اشترطوه فى غيره من النعوت ، ولا
يكون التخاصم أيضا عطف بيان ، لأن البيان يشبه الصفة ، فكما لا توصف الإشارة إلا
بما فيه أل كذلك ما يعطف عليها ، ولهذا منع أبو الفتح فى (وهذا بعلى شيخ) فى قراءة
ابن مسعود برفع شيخ كون (بَعْلِي) عطف بيان ، وأوجب كونه خبرا ، وشيخ : إما خبر ثان ، أو
خبر لمحذوف ، أو بدل من بعلى ، أو بعلى بدل وشيخ الخبر ، ونظير منع أبى الفتح ما
ذكرنا منع ابن السيّد فى كتاب المسائل والأجوبة وابن مالك فى التسهيل كون عطف
البيان تابعا للمضمر ، لامتناع ذلك فى النعت ، ولكن أجاز سيبويه «يا هذان زيد
وعمرو» على عطف البيان ، وتبعه الزيادى ، فأجاز «مررت بهذين الطويل والقصير» على
البيان ، وأجازه على البدل أيضا ، ولم يجزه
على النعت ، لأن نعت الإشارة لا يكون إلا طبقها فى اللفظ ، وممن نص على منع
النعت فى هذا سيبويه والمبرد والزجاج ، وهو مقتضى القياس. ومنع سيبويه فيها مخالف
لإجازته فى النداء.
النوع الرابع :
اشتراط الإبهام فى بعض الألفاظ كظروف المكان ، والاختصاص فى بعضها كالمبتدآت
وأصحاب الأحوال.
ومن الوهم فى الأول
قول الزمخشرى فى (فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ) وفى (سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى) وقول ابن الطراوة فى قوله :
*كما عسل الطّريق الثّعلب* [٣]
وقول جماعة فى «دخلت
الدار ، أو المسجد ، أو السّوق» إن هذه المنصوبات ظروف ، وإنما يكون ظرفا مكانيا
ما كان مبهما ، ويعرف بكونه صالحا لكل بقعة كمكان وناحية وجهة وجانب وأمام وخلف.
والصواب أن هذه
المواضع على إسقاط الجار توسعا ، والجار المقدر «إلى» فى (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) و «فى» فى البيت ، وفى أو إلى فى الباقى ، ويحتمل أن (استبقوا) ضمّن معنى
تبادروا ، وقد أجيز الوجهان فى (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) ويحتمل (سِيرَتَهَا) أن يكون بدلا من ضمير المفعول بدل اشتمال ، أى سنعيدها
طريقتها.
ومن ذلك قول
الزجاج فى (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) إن كلا ظرف ، وردّه أبو على فى الأغفال بما ذكرنا ،
وأجاب أبو حيان بأن (اقْعُدُوا) ليس على حقيقته ، بل معناه ارصدوهم كل مرصد ، ويصح
ارصدوهم كل مرصد ، فكذا يصح قعدت كل مرصد ، قال : ويجوز قعدت مجلس زيد ، كما يجوز
قعدت مقعده ، اه.
وهذا مخالف
لكلامهم ، إذ اشترطوا توافق مادتى الظرف وعامله ، ولم يكتفوا بالتوافق المعنوى كما
فى المصدر ، والفرق أن انتصاب هذا النوع على الظرفية على خلاف القياس لكونه مختصا
، فينبغى أن لا يتجاوز به محل السماع ، وأما نحو «قعدت
جلوسا» فلا دافع له من القياس ، وقيل : التقدير [اقعدوا لهم] على كل مرصد ،
فحذفت على ، كما قال :
*وأخفى الّذى لو لا الأسى لقضانى* [٢٢٢]
أى لقضى علىّ ،
وقياس الزجاج أن يقول فى (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) مثل قوله فى (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) والصواب فى الموضعين أنهما على تقدير على ، كقولهم «ضرب
زيد الظّهر والبطن» فيمن نصبهما ، أو أنّ لأقعدنّ واقعدوا ضمنا معنى لألزمنّ
والزموا.
ومن الوهم فى
الثانى قول الحوفى فى (ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ)
: إن (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) جملة مخبر بها عن ظلمات ، وظلمات غير مختص : فالصواب
قول الجماعة إنه خبر لمحذوف ، أى تلك ظلمات ؛ نعم إن قدر أن المعنى ظلمات أىّ
ظلمات بمعنى ظلمات عظام أو متكاثفة وتركت الصفة لدلالة المقام عليها كما قال
٨١٠ ـ له حاجب فى كلّ أمر يشينه
|
|
[وليس له عن طالب العرف حاجب]
|
صحّ ، وقول
الفارسى فى (وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها)
: إنه من باب «زيدا
ضربته» واعترضه ابن الشجرى بأن المنصوب فى هذا الباب شرطه أن يكون مختصا ليصح رفعه
بالابتداء ، والمشهور أنه عطف على ما قبله ، وابتدعوها : صفة ، ولا بد من تقدير
مضاف ، أى وحبّ رهبانية ، وإنما لم يحمل أبو على الآية على ذلك لاعتزاله ، فقال :
لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عزوجل ، وقد يتخيّل ورود اعتراض ابن الشجرى على أبى البقاء فى
تجويزه فى (وَأُخْرى
تُحِبُّونَها) كونه كزيدا ضربته ، ويجاب بأن الأصل «وصفة أخرى» ويجوز
كون (تُحِبُّونَها) صفة ، والخبر إما نصر ، وإما محذوف ، أى ولكم نعمة أخرى
، ونصر : بدل أو خبر لمحذوف ، وقول ابن [ابن] مالك بدر الدين فى قول الحماسى :
٨١١ ـ فارسا ما غادروه ملحما
|
|
[غير زمّيل ولا نكس وكل]
|
إنه من باب
الاشتغال كقول أبى على فى الآية ، والظاهر أنه نصب على المدح لما قدمنا ، وما فى
البيت زائدة ؛ ولهذا أمكن أن يدّعى أنه من باب الاشتغال.
النوع الخامس :
اشتراطهم الإضمار فى بعض المعمولات ، والإظهار فى بعض ؛ فمن الأول مجرور لو لا
ومجرور وحد ، ولا يختصّان بضمير خطاب ولا غيره ، تقول : لولاى ، ولولاك ، ولولاه ،
ووحدى ، ووحدك ، ووحده ، ومجرور لبّى وسعدى وحنانى ، ويشترط لهن ضمير الخطاب ، وشذ
نحو قوله :
٨١٢ ـ [دعونى] فيالبّىّ إذ هدرت لهم
|
|
[شقاشق أقوام فأسكتها هدرى]
|
وقول آخر :
٨١٣ ـ [إنّك لو دعوتنى ودونى
|
|
زوراء ذات
مترع بيون]
|
*لقلت لبّيه لمن يدعونى*
|
كما شذت
إضافتها إلى الظاهر فى قوله :
٨١٤ ـ [دعوت لما نابنى مسورا]
|
|
فلبّى فلبّى
يدى مسور
|
ومن ذلك مرفوع
خبر كاد وأخواتها إلا عسى ؛ فتقول : كاد زيد يموت ولا تقول : يموت أبوه ، ويجوز «عسى
زيد أن يقوم ، أو يقوم أبوه» فيرفع السببىّ ، ولا يجوز رفعه الأجنبىّ نحو «عسى زيد
أن يقوم عمرو عنده».
ومن ذلك مرفوع
اسم التفضيل فى غير مسألة الكحل ، وهذا شرطه مع الإضمار الاستتار ، وكذا مرفوع نحو
قم وأقوم ونقوم وتقوم.
ومن الثانى
تأكيد الاسم المظهر ، والنعت ، والمنعوت ، وعطف البيان ، والمبين
ومن الوهم فى
الأول قول بعضهم فى «لولاى وموسى» : إن موسى يحتمل الجر ، وهذا خطأ ؛ لأنه لا يعطف
على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ولأن لو لا لا تجر الظاهر ؛ فلو أعيدت لم
تعمل الجر ، فكيف ولم تعد؟ هذه مسألة يحاجى بها فيقال ضمير مجرور لا يصح أن يعطف
عليه اسم مجرور أعدت الجار أم لم تعده ، وقولى
«مجرور» لأنه يصح أن تعطف عليه اسما مرفوعا ؛ لأن «لو لا» محكوم لها بحكم
الحروف الزائدة ، والزائد لا يقدح فى كون الاسم مجردا من العوامل اللفظية ؛ فكذا
ما أشبه الزائد ؛ وقول جماعة فى قول هدبة :
عسى الكرب
الّذى أمسيت فيه
|
|
يكون وراءه
فرج قريب [٢٤٧]
|
إن فرجا اسم
كان ، والصواب أنه مبتدأ خبره الظرف ؛ والجملة خبر كان ، واسمها ضمير الكرب ، وأما
قوله :
٨١٥ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلنى
|
|
ثوبى ؛ فأنهض
نهض الشّارب الثّمل
|
فتوبى : بدل
اشتمال من تاء جعلت ، لا فاعل يثقلنى.
ومن الوهم فى
الثانى قول أبى البقاء فى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ)
: إنه يجوز كون
هو توكيدا وقد مضى ، وقول الزمخشرى فى قوله تعالى (ما قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إذا قدرت أن مصدرية ، وأنها وصلتها عطف بيان على الهاء
، وقول النحويين فى نحو (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) إن العطف على الضمير المستتر ، وقد ردّ ذلك ابن مالك
وجعله من عطف الجمل ، والأصل وليسكن زوجك ، وكذا قال فى (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ)
: إن التقدير ولا
تخلفه أنت ؛ لأنّ مرفوع فعل الأمر لا يكون ظاهرا ، ومرفوع الفعل المضارع ذى النون
لا يكون غير ضمير المتكلم ، وجوز فى قوله :
٨١٦ ـ نطوّف ما نطوّف ثمّ نأوى
|
|
ذوو الأموال
منّا والعديم
|
إلى حفر
أسافلهنّ جوف
|
|
وأعلاهنّ صفّاح
مقيم
|
كون ذوو فاعلا بفعل غيبة محذوف ، أى يأوى ذوو الأموال ، وكونه وما بعده
توكيدا على حد «ضرب زيد الظّهر والبطن».
تنبيه ـ من
العوامل ما يعمل فى الظاهر وفى المضمر بشرط استتاره وهو نعم وبئس ، تقول «نعم
الرّجلان الزّيدان ، ونعم رجلين الزّيدان» ولا يقال «نعمّا» إلا فى لغيّة ، أو
بشرط إفراده وتذكيره وهو «ربّ» فى الأصح.
النوع السادس :
اشتراطهم المفرد فى بعض المعمولات ، والجملة فى بعض.
فمن الأول
الفاعل ونائبه وهو الصحيح ، فأما (ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) فقد مرّ البحث فيهما.
ومن الثانى خبر
أنّ المفتوحة إذا خففت ، وخبر القول المحكى نحو «قولى لا إله إلّا الله» وخرج بذكر
المحكى قولك «قولى حقّ» وكذلك خبر ضمير الشأن ، وعلى هذا فقوله تعالى (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ) إذا قدر ضمير إنه للشأن لزم كون آثم خبرا مقدما وقلبه
مبتدأ مؤخرا ، وإذا قدر راجعا إلى اسم الشرط جاز ذلك ، وأن يكون آثم الخبر وقلبه
فاعل به ، وخبر أفعال المقاربة.
ومن الوهم قول
بعضهم فى (فَطَفِقَ مَسْحاً
بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) إن (مَسْحاً) خبر طفق ، والصواب أنه مصدر لخبر محذوف أى يمسح مسحا ،
وجواب الشرط ، وجواب القسم ومن الوهم قول الكسائى وأبى حاتم فى نحو (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ) إن اللام وما بعدها جواب ، وقد مر البحث فى ذلك ، وقول
بدر الدين ابن مالك فى قوله تعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) إن جواب الشرط محذوف ، وإن تقديره : ذهبت نفسك عليهم
حسرة ، بدليل (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أو كمن هداه الله ، بدليل (فَإِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
__________________
وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ) ، والتقدير الثانى باطل : ويجب عليه كون من موصولة ، وقد يتوهم أنّ مثل هذا
قول صاحب اللوامح ـ وهو أبو الفضل الرازى ـ فإنه قال فى قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لا بد من إضمار جملة معادلة ، والتقدير كمن لا يخلق ـ اه.
وإنما هذا مبنى على تسمية جماعة منهم الزمخشرى فى مفصّلة الظرف من نحو «زيد فى
الدار» جملة ظرفية ؛ لكونه عندهم خلفا عن جملة مقدرة ، ولا يعتذر بمثل هذا عن ابن
مالك ؛ فإن الظرف لا يكون جوابا ، وإن قلنا إنه جملة.
النوع السابع :
اشتراط الجملة الفعلية فى بعض المواضع ، والاسمية فى بعض.
ومن الأول جملة
الشرط غير لو لا وجملة جواب لو ولو لا ولو ما ، والجملتان بعد لما ، والجمل
التالية أحرف التحضيض ، وجملة أخبار أفعال المقاربة ، وخبر أن المفتوحة بعد لو عند
الزمخشرى ومتابعيه نحو (وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا).
ومن الثانى
الجملة بعد «إذا» الفجائية ، و «ليتما» على الصحيح فيهما.
ومن الوهم فى
الأول أن يقول من لا يذهب إلى قول الأخفش والكوفيين فى نحو (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ) و (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ)
: إن المرفوع
مبتدأ ، وذلك خطأ ؛ لأنه خلاف قول من اعتمد عليهم ، وإنما قاله سهوا ، واما إذا
قال ذلك الأخفش أو الكوفى فلا يعدّ ذلك الإعراب خطأ ؛ لأن هذا مذهب ذهبوا إليه ولم
يقولوه سهوا عن قاعدة ، نعم الصواب خلاف قولهم فى أصل المسألة ، وأجازوا أن يكون
المرفوع محمولا على إضمار فعل كما يقول الجمهور ، وأجاز الكوفيون وجها ثالثا ، وهو
أن يكون فاعلا بالفعل المذكور على التقديم والتأخير ، مستدلين على جواز ذلك بنحو
قول الزباء :
٨١٧ ـ ما للجمال مشيها وئيدا
|
|
[أجندلا يحملن أم حديدا]
|
فيمن رفع «مشيها»
وذلك عند الجماعة مبتدأ حذف خبره وبقى معمول الخبر ، أى مشيها يكون وئيدا أو يوجد
وئيدا ، ولا يكون بدل بعض من الضمير المستتر فى الظرف كما كان فيمن جره بدل اشتمال
من الجمال ؛ لأنه عائد على «ما» الاستفهامية ، ومتى أبدل اسم من اسم استفهام وجب
اقتران البدل بهمزة الاستفهام ، فكذلك حكم ضمير الاستفهام ، ولأنه لا ضمير فيه
راجع إلى المبدل منه.
ومن ذلك قول
بعضهم فى بيت الكتاب :
[صددت فأطولت الصّدود] وقلّما
|
|
وصال على طول
الصّدود يدوم [٥٠٩]
|
إن «وصال»
مبتدأ ، والصواب أنه فاعل بيدوم محذوفا مفسرا بالمذكور ، وقول آخر فى نحو «آتيك
يوم زيدا تلقاه» : إنه يجوز فى زيد الرفع بالابتداء ، وذلك خطأ عند سيبويه ؛ لأن
الزمن المبهم المستقبل يحمل على إذا فى أنه لا يضاف إلى الجملة الاسمية ، وأما
قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ) فقد مضى أن الزمن هنا محمول على إذ ، لا على إذا ، وأنه
لتحققه نزّل منزلة الماضى ، وأما جواب ابن عصفور عن سيبويه بأنه إنما يوجب ذلك فى
الظروف ، واليوم هنا بدل من المفعول به وهو (يَوْمَ التَّلاقِ) فى قوله تعالى (لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ) فمردود ، وإنما ذلك فى اسم الزمان ظرفا كان أو غيره ،
ثم هذا الجواب لا يتأتى له فى قوله :
وكن لى شفيعا
يوم لا ذو شفاعة
|
|
بمغن فتيلا
عن سواد بن قارب [٦٥٩]
|
ومن الوهم أيضا
قول بعضهم فى قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) بعد ما جزم بأنّ (مِنَ) شرطية : إنه يجوز كون الجملة الاسمية
معطوفة على (كانَ) وما بعدها ، ويرده أن جملة الشرط لا تكون اسمية ، فكذا
المعطوف عليها ، على أنه لو قدّر من موصولة لم يصح قوله أيضا ؛ لأن الفاء لا تدخل
فى الخبر إذا كانت الصلة جملة اسمية ؛ لعدم شبهه حينئذ باسم الشرط ، وقول ابن طاهر
فى قوله :
٨١٨ ـ فإن لا مال أعطيه فإنّى
|
|
صديق من غدوّ
أو رواح
|
وقول آخرين فى
قول الشاعر :
ونبّئت ليلى
أرسلت بشفاعة
|
|
إلىّ ، فهلّا
نفس ليلى شفيعها [١٠٩]
|
إن ما بعد إن
لا وهلّا جملة اسمية نابت عن الجملة الفعلية ، والصواب أن التقدير فى الأولى فإن
أكن ، وفى الثانية فهلّا كان ، أى الأمر والشأن ، والجملة الاسمية فيهما خبر.
ومن ذلك قول
جماعة منهم الزمخشرى فى (وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ)
: إن الجملة
الاسمية جواب لو ، والأولى أن يقدر الجواب محذوفا ، أى لكان خيرا لهم ، أو أن يقدر
«لو» بمنزلة ليت فى إفادة التمنى ؛ فلا تحتاج إلى جواب.
ومن ذلك قول
جماعة منهم ابن مالك فى قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)
: إن الجملة جواب
لما ، والظاهر أن الجواب جملة فعلية محذوفة ، أى انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم
غير ذلك ، ويؤيد هذا أن جواب لما لا يقترن بالفاء.
ومن الوهم فى
الثانى تجويز كثير من النحويين الاشتغال فى نحو «خرجت
فإذا زيد يضربه عمرو» ومن العجب أن ابن الحاجب أجاز ذلك فى كافيته مع قوله
فيها فى بحث الظروف : وقد تكون للمفاجأة فيلزم المبتدأ بعدها ، وأجاز ابن أبى
الربيع فى «ليتما زيدا أضربه» أن يكون انتصاب «زيدا» على الاشتغال كالنصب فى «إنما
زيدا أضربه» والصواب أن انتصابه بليت ؛ لأنه لم يسمع نحو «ليتما قام زيد» كما سمع «إنما
قام زيد».
تنبيه ـ اعترض
الرازى على الزمخشرى فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)
: إن الجملة
معطوفة على (وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) بأن الاسمية لا تعطف على الفعلية ، وقد مر أن تخالف
الجملتين فى الاسمية والفعلية لا يمنع التعاطف ، وقال بعض المتأخرين فى تجويز أبى
البقاء فى قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ)
: إنه يجوز كون
الجملة الاسمية بدلا من (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ)
: هذا مردود ،
لأن الاسمية لا تبدّل من الفعلية ، اه. ولم يقم دليل على امتناع ذلك.
النوع الثامن :
اشتراطهم فى بعض الجمل الخبريّة ، وفى بعضها الإنشائية.
فالأول كثير
كالصلة ، والصفة ، والحال ، والجملة الواقعة خبرا لكان ، أو خبرا لإن أو لضمير
الشأن ، قيل : أو خبرا للمبتدأ ، أو جوابا للقسم غير الاستعطافى.
ومن الثانى
جواب القسم الاستعطافى كقوله :
٨١٩ ـ بربّك هل ضممت إليك ليلى
|
|
[قبيل الصّبح أو قبّلت فاها؟]
|
وقوله :
٨٢٠ ـ بعيشك يا سلمى ارحمى ذا صبابة
|
|
[أبى غير ما يرضيك فى السّرّ والجهر]
|
وما ورد على
خلاف ما ذكر مؤوّل ، فمن الأول قوله :
وإنّى لراج
نظرة قبل الّتى
|
|
لعلّى ـ وإن
شطّت نواها ـ أزورها [٦٢٢]
|
وتخريجه على
إضمار القول ، أى قبل التى أقول لعلى ، أو على أن الصلة أزورها وخبر لعل محذوف ،
والجملة معترضة ، أى لعلّى أفعل ذلك ، وقوله :
*جاؤا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ* [٤٠٥]
وقوله :
٨٢١ ـ *فإنّما أنت أخ لا نعدمه*
وتخريجهما على
إضمار القول ، أى أخ مقول فيه لا جعلنا الله نعدمه ، وبمذق مقول عند رؤيته ذلك ،
وقول أبى الدرداء رضى الله عنه «وجدت النّاس اخبر تقله» أى صادفت الناس مقولا فيهم
ذلك ، وقوله :
٨٢٢ ـ وكونى بالمكارم ذكّرينى
|
|
ودلّى دلّ
ماجدة صناع
|
والجملة فى هذا
مؤولة بالجملة الخبرية ، أى وكونى تذكريننى ، مثل قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أى فيمد ، وقوله :
٨٢٣ ـ إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم
|
|
لا تحسبوا
ليلهم عن ليلكم ناما
|
وقوله :
٨٢٤ ـ إنّى إذا ما القوم كانوا أنجيه
|
|
واضطرب القوم
اضطراب الأرشيه
|
*هناك أوصينى ولا توصى بيه*
|
وينبغى أن
يستثنى من منع ذلك فى خبرى إنّ وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا
خففت ؛ فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ
عَلَيْها) فى قراءة من قرأ أن بالتخفيف وغضب بالفعل والله فاعل ،
وقولهم «أما أن جزاك الله خيرا» فيمن فتح الهمزة ، وإذا لم نلتزم قول الجمهور فى
وجوب كون اسم [أن] هذه ضمير شأن فلا استثناء بالنسبة إلى ضمير الشأن ، إذ يمكن أن
يقدر والخامسة أنها ، وأما أنّك ، وأما (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
مَنْ فِي النَّارِ) فيجوز كون أن تفسيرية.
ومن الوهم فى
هذا الباب قول بعضهم فى قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها)
: إن جملة
الاستفهام حال من العظام ، والصواب أن كيف وحدها حال من مفعول ننشز ، وأن الجملة
بدل من العظام ، ولا يلزم من جواز كون الحال المفردة استفهاما جواز ذلك فى الجملة
؛ لأن الحال كالخبر وقد جاز بالاتفاق نحو «كيف زيد» واختلف فى نحو «زيد كيف هو»
وقول آخرين إن جملة الاستفهام حال فى نحو «عرفت زيدا أبو من هو» وقد مر.
واعلم أن النظر
البصرىّ يعلّق فعله كالنظر القلبى ، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها
أَزْكى طَعاماً) ، وقال سبحانه وتعالى : (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).
ومن ذلك قول
الأمين المحلى فيما رأيت بخطه : إن الجملة التى بعد الواو من قوله :
اطلب ولا
تضجر من مطلب
|
|
[فآفة الطّالب أن يضجرا] [٦٣٧]
|
حالية ، وإن «لا»
ناهية ، والصواب أن الواو للعطف ، ثم الأصح أن الفتحة إعراب مثلها فى «لا تأكل
السمك وتشرب للبن» لا بناء لأجل نون توكيد خفيفة محذوفة.
النون التاسع :
اشتراطهم لبعض الأسماء أن يوصف ، ولبعضها أن لا يوصف فمن الأول مجرور ربّ إذا كان
ظاهرا ، وأىّ فى النداء ، والجماء فى قولهم «جاؤا الجمّاء
الغفير» وما وطّىء به من خبر أو صفة أو حال ، نحو «زيد رجل صالح ، ومررت
بزيد الرجل الصالح» ومنه (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تُفْتَنُونَ) (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ) إلى قوله تعالى (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقول الشاعر :
٨٢٥ ـ أأكرم من ليلى علىّ فتبتغى
|
|
به الجاه أم
كنت امرا لا أطيعها؟
|
ومن ثمّ أبطل
أبو على كون الظرف من قول الأعشى :
٨٢٦ ـ ربّ رفد هرقته ذلك اليو
|
|
م وأسرى من
معشر أقيال
|
متعلقا بأسرى ؛
لئلا يخلو ما عطف على مجرور ربّ من صفة ، قال : وأما قوله
فيا ربّ يوم
قد لهوت وليلة
|
|
بآنسة كأنّها
خطّ تمثال [٢٠٦]
|
فعلى أن صفة
الثانى محذوفة مدلول عليها بصفة الأول ، ولا يتأتى ذلك هنا ، وقد يجوز ذلك هنا ؛
لأن الإراقة إتلاف ، فقد تجعل دليلا عليه.
ومن الثانى
فاعلا نعم وبئس والأسماء المتوغلة فى شبه الحرف إلا من وما النكرتين فإنهما يوصفان
نحو «مررت بمن معجب لك ، وبما معجب لك» وألحق بهما الأخفش أيا نحو «مررت بأىّ معجب
لك» وهو قوىّ فى القياس ؛ لأنها معربة ؛ ومن ذلك الضمير ، وجوز الكسائى نعته إن
كان لغائب والنعت لغير التوضيح ، نحو (قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ونحو (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) فقدر (عَلَّامُ) نعتا للضمير المستتر فى (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) و (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) نعتين لهو ، وأجاز غير الفارسى وابن السراج نعت فاعلى
نعم وبئس تمسكا بقوله :
٨٢٧ ـ نعم الفتى المرّى أنت إذا هم
|
|
حضروا لدى
الحجرات نار الموقد
|
وحمله الفارسى
وابن السراج على البدل ، وقال ابن مالك : يمتنع نعته إذا قصد بالنعت التخصيص مع
إقامة الفاعل مقام الجنس ؛ لأن تخصيصه حينئذ مناف لذلك القصد ، فأما إذا تؤول
بالجامع لأكمل الخصال فلا مانع من نعته حينئذ ؛ لإمكان أن
ينوى فى النعت ما نوى فى المنعوت ، وعلى هذا يحمل البيت ، اه. وقال
الزمخشرى وأبو البقاء فى (وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ)
: إن الجملة
بعدكم صفة لها ، والصواب أنها صفة لقرن ، وجمع الضمير حملا على معناه ، كما جمع
وصف جميع فى نحو (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).
النوع العاشر :
تخصيصهم جواز وصف بعض الأسماء بمكان دون آخر ، كالعامل من وصف ومصدر ، فإنه لا
يوصف قبل العمل ويوصف بعده ، وكالموصول فإنه لا يوصف قبل تمام صلته ويوصف بعد
تمامها ، وتعميمهم الجواز فى البعض ، وذلك هو الغالب.
ومن الوهم فى
الأول قول بعضهم فى قول الحطيئة :
٨٢٨ ـ أزمعت يأسا مبينا من نوالكم
|
|
ولن ترى
طاردا للحرّ كالياس
|
إن «من» متعلقة
بيأسا ، والصواب أن تعلها بيئست محذوفا ، لأن المصدر لا يوصف قبل أن يأتى معموله.
وقال أبو
البقاء فى (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً)
: لا يكون يبتغون
نعتا لآمّين ؛ لأن اسم الفاعل إذا وصف لم يعمل فى الاختيار ، بل هو حال من آمّين ،
اه. وهذا قول ضعيف ، والصحيح جواز الوصف بعد العمل
النوع الحادى
عشر : إجازتهم فى بعض أخبار النواسخ أن يتصل بالناسخ نحو «كان قائما زيد» ومنع ذلك
فى البعض نحو «إنّ زيدا قائم».
ومن الوهم فى
هذا قول المبرد فى قولهم «إنّ من أفضلهم كان زيدا» إنه لا يجب أن يحمل على زيادة
كان كما قال سيبويه ، بل يجوز أن تقدر كان ناقصة واسمها ضمير زيد ، لأنه متقدم
رتبة ، إذ هو اسم إنّ ، ومن أفضلهم : خبر كان ، وكان ومعمولاها خبر إنّ ، فلزمه
تقديم خبر إن على اسمها مع أنه ليس ظرفا ولا مجرورا ، وهذا لا يجيزه أحد.
النوع الثانى
عشر : إيجابهم لبعض معمولات الفعل وشبهه أن يتقدم كالاستفهام والشرط وكم الخبرية
نحو (فَأَيَّ آياتِ اللهِ
تُنْكِرُونَ) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) ولهذا قدر ضمير الشأن فى قوله :
إنّ من يدخل
الكنبسة يوما
|
|
يلق فيها
جآذرا وظباء [٤٨]
|
ولبعضها أن
يتأخر : إما لذاته كالفاعل ونائبه ومشبهه ، أو لضعف الفعل كمفعول التعجب نحو «ما
أحسن زيدا» أو لعارض معنوى أو لفظى وذلك كالمفعول فى نحو «ضرب موسى عيسى» فإن
تقديمه يوهم أنه مبتدأ وأن الفعل مسند إلى ضميره ، وكالمفعول الذى هو أى الموصولة
نحو «سأكرم أيّهم جاءنى» كأنهم قصدوا الفرق بينها وبين أىّ الشرطية والاستفهامية ،
والمفعول الذى هو أنّ وصلتها نحو «عرفت أنّك فاضل» كرهوا الابتداء بأنّ المفتوحة
لئلا يلتبس بأن التى بمعنى لعلّ ، وإذا كان المبتدأ الذى أصله التقديم يجب تأخره
إذا كان أنّ وصلتها نحو (وَآيَةٌ لَهُمْ
أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) فأن يجب تأخّر المفعول الذى أصله التأخير نحو (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ) أحقّ وأولى ، وكمعمول عامل اقترن بلام الابتداء أو
القسم ، أو حرف الاستثناء ، أو ما النافية ، أولا فى جواب القسم.
ومن الوهم
الأول قول ابن عصفور فى (أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا)
: إن كم فاعل يهد
، فإن قلت : خرجه على لغة حكاها الأخفش ، وهى أن بعض العرب لا يلتزم صدرية كم
الخبرية ، قلت : قد اعترف برداءتها ، فتخريج التنزيل عليها بعد ذلك رداءة ،
والصواب أن الفاعل مستتر راجع إلى الله سبحانه وتعالى ، أى أو لم يبين الله لهم ،
أو إلى الهدى ، والأول قول أبى البقاء ، والثانى قول الزجاج ، وقال الزمخشرى :
الفاعل الجملة ، وقد مر أن الفاعل لا يكون جملة ، وكم مفعول أهلكنا ، والجملة
مفعول يهد ، وهو معلّق عنها ، وكم الخبرية تعلق خلافا لأكثرهم.
ومن الوهم فى
الثانى قول بعضهم فى بيت الكتاب :
[صددت فأطولت الصّدود] وقلّما
|
|
وصال على طول
الصّدود يدوم [٥٠٩]
|
إن «وصال» فاعل
بيدوم ، وفى بيت الكتاب أيضا :
٨٢٩ ـ [فإنّك لا تبالى بعد حول
|
|
أظبى كان
أمّك أم حمار
|
إن «ظبى» اسم
كان ، والصواب أن «وصال» فاعل يدوم محذوفا مدلولا عليه بالمذكور ، وأن «ظبى» اسم
لكان محذوفة مفسّرة بكان المذكورة ، أو مبتدأ ، والأول أولى ؛ لأن همزة الاستفهام
بالجمل الفعلية أولى منها بالاسمية ، وعليهما فاسم كان ضمير راجع إليه ، وقول
سيبويه «إنه أخبر عن النكرة بالمعرفة» واضح على الأول ؛ لأن ظبيا المذكور اسم كان
، وخبره «أمّك» وأما على الثانى فخبر ظبى إنما هو الجملة ، والجمل نكرات ، ولكن
يكون محل الاستشهاد قوله «كان أمك» على أن ضمير النكرة عنده نكرة لا على أن الاسم
مقدم.
وقول بعضهم فى
قوله تعالى (إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)
: إن (عَنْهُ) مرفوع المحل بمسؤلا ، والصواب أن اسم كان ضمير المكلف
وإن لم يجر له ذكر ، وأن المرفوع بمسؤلا مستتر فيه راجع إليه أيضا ، وأن (عَنْهُ) فى موضع نصب.
وقول بعضهم فى
قوله :
*آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه* [١٣٩]
إنه من باب
الاشتغال ، لا على إسقاط على كما قال سيبويه ، وذلك مردود : لأن «أطعمه» بتقدير لا
أطعمه.
وقول الفراء فى
(وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) فيمن خفف إن : إنه أيضا من باب الاشتغال مع قوله إن
اللام بمعنى إلا ، وإن نافية ولا يجوز بالإجماع أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها ،
على أن هنا مانعا آخر وهو لام القسم ، وأما قوله تعالى (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ
لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) فإن إذا ظرف لأخرج ، وإنما جاز تقديم الظرف على لام
القسم لتوسّعهم فى الظرف ، ومنه قوله :
رضيعى لبان
ثدى أمّ تحالفا
|
|
بأسحم داج
عوض لا نتفرّق [٢٤٤]
|
أى لا نتفرق
أبدا ، ولا النافية لها الصّدر فى جواب القسم ، وقيل : العامل محذوف ، أى أئذا ما
مت أبعث لسوف أخرج.
النوع الثالث
عشر : منعهم من حذف بعض الكلمات ، وإيجابهم حذف بعضها ؛ فمن الأول الفاعل ، ونائبه
، والجار الباقى عمله ، إلا فى مواضع نحو قولهم «الله لأفعلنّ» و «بكم درهم اشتريت»
أى والله ، وبكم من درهم.
ومن الثانى أحد
معمولى «لات».
ومن الوهم فى
الأول قول ابن مالك فى أفعال الاستثناء نحو «قاموا ليس زيدا ، ولا يكون زيدا ، وما
خلا زيدا» : إن مرفوعهن محذوف ، وهو كلمة بعض مضافة إلى ضمير من تقدم ، والصواب
أنه مضمر عائد إما على البعض المفهوم من الجمع السابق كما عاد الضمير من قوله
تعالى (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) على البنات المفهومة من الأولاد (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وإما على اسم الفاعل المفهوم من الفعل ، أى لا يكون هو
ـ أى القائم ـ زيدا ، كما جاء «لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يشرب
الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وإما على المصدر المفهوم من الفعل ، وذلك فى غير ليس
ولا يكون ، تقول «قاموا خلا زيدا» أى جانب هو ـ أى قيامهم ـ زيدا.
ومن ذلك قول
كثير من المعربين والمفسرين فى فواتح السور : إنه يجوز كونها فى موضع جر بإسقاط
حرف القسم.
وهذا مردود بأن
ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وتعالى ، وبأنه لا أجوبة للقسم فى سورة
البقرة وآل عمران ويونس وهود ونحوهنّ ، ولا يصحّ أن يقال : قدّر (ذلِكَ الْكِتابُ) فى البقرة ، و (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فى آل عمران جوابا ، وحذفت اللام من الجملة الاسمية
كحذفها فى قوله.
٨٣٠ ـ وربّ السّموات العلى وبروجها
|
|
والأرض وما
فيها المقدّر كائن
|
وقول ابن مسعود
«والله الذى لا إله غيره هذا مقام الذى أنزلت عليه سورة البقرة» لأن ذلك ـ على
قلّته ـ مخصوص باستطالة القسم.
ومن الوهم فى
الثانى قول ابن عصفور فى قوله :
٨٣١ ـ حنّت نوار ولات هنّا حنّت
|
|
[وبدا الّذى كانت نوار أجنّت]
|
إن هنّا اسم
لات ، وحنّت خبرها بتقدير مضاف ، أى وقت حنت ، فاقتضى إعرابه الجمع بين معموليها ،
وإخراج هنّا عن الظرفية ، وإعمال لات فى معرفة ظاهرة وفى غير الزمان وهو الجملة
النائبة عن المضاف ، وحذف المضاف إلى الجملة ، والأولى قول الفارسى إن «لات» مهملة
، وهنّا خبر مقدم ، وحنت مبتدأ مؤخر بتقدير أن مثل «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه».
النوع الرابع
عشر : تجويزهم فى الشعر ما لا يجوز فى النثر ، وذلك كثير ، وقد أفرد بالتصنيف ،
وعكسه ، وهو غريب جدا ، وذلك بدلا الغلط والنسيان زعم بعض القدماء أنه لا يجوز فى
الشعر ، لأنه يقع غالبا عن تروّ وفكر.
النوع الخامس
عشر : اشتراطهم وجود الرابط فى بعض المواضع ، وفقده فى بعض ، فالأول قد مضى
مشروحا. والثانى الجملة المضاف إليها نحو «يوم قام زيد» فأما قوله :
٨٣٢ ـ وتسخن ليلة لا يستطيع
|
|
نباحا بها
الكلب إلّا هريرا
|
وقوله :
٨٣٣ ـ مضت سنة لعام ولدت فيه
|
|
وعشر بعد ذاك
وحجّتان
|
فنادر ، وهذا
الحكم خفى على أكثر النحويين ، والصواب فى مثل قولك «أعجبنى يوم ولدت فيه» تنوين
اليوم ، وجعل الجملة بعده صفة له ، وكذلك «أجمع» وما يتصرف منه فى باب التوكيد ،
يجب تحريده من ضمير المؤكد ، وأما قولهم «جاء
القوم بأجمعهم» فهو بضم الميم لا بفتحها ، وهو جمع لقولك جمع ، على حد
قولهم فلس وأفلس ، والمعنى جاءوا بجماعتهم ، ولو كان توكيدا لكانت الباء فيه زائدة
مثلها فى قوله :
٨٣٤ ـ هذا وجدّكم الصّغار بعينه
|
|
[لا أمّ لى إن كان ذاك ولا أب]
|
فكان يصح
إسقاطها.
النوع السادس
عشر : اشتراطهم لبناء بعض الأسماء أن تقطع عن الإضافة كقبل وبعد وغير ، ولبناء
بعضها أن تكون مضافة ، وذلك أىّ الموصولة ؛ فإنها لا تبنى إلا إذا أضيفت وكان صدر
صلتها ضميرا محذوفا نحو (أَيُّهُمْ أَشَدُّ).
ومن الوهم فى
ذلك قول ابن الطراوة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) مبتدأ وخبر ، وأىّ مبنية مقطوعة عن الإضافة ، وهذا
مخالف لرسم المصحف ولإجماع النحويين.
* * *
الجهة السابعة
: أن يحمل كلاما على شىء ، ويشهد استعمال آخر فى نظير ذلك الموضع بخلافه ، وله
أمثلة :
أحدها : قول
الزمخشرى فى (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ
مِنَ الْحَيِّ) إنه عطف على (فالِقُ الْحَبِّ
وَالنَّوى) ولم يجعله معطوفا على (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) ؛ لأن عطف الاسم على الاسم أولى ، ولكن مجىء قوله تعالى (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالفعل فيهما يدلّ على خلاف ذلك.
الثانى : قول
مكى وغيره فى قوله تعالى (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)
: إن جملة (يُضِلُّ) صفة لمثلا أو مستأنفة ، والصواب الثانى ؛ لقوله تعالى
فى سورة المدثر (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ).
الثالث : قول
بعضهم فى (ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ)
: إن الوقف هنا
على (رَيْبَ) ويبتدىء (فِيهِ هُدىً) ويدل على خلاف ذلك قوله تعالى فى سورة السجدة (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ
فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).
الرابع : قول
بعضهم فى (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : إن الرابط الإشارة ، وإن الصابر والغافر جعلا من عزم الأمور مبالغة ،
والصواب أن الإشارة للصبر والغفران ، بدليل (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ولم يقل إنكم.
الخامس : قولهم
فى (أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
: إن التقدير
تزعمونهم شركاء ، والأولى أن يقدر تزعمون أنهم شركاء ، بدليل (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) ولأن الغالب على «زعم» أن لا يقع على المفعولين صريحا ،
بل على أنّ وصلتها ، ولم يقع فى التنزيل إلا كذلك.
ومثله فى هذا
الحكم «تعلم» كقوله :
٨٣٥ ـ تعلّم رسول الله أنّك مدركى
|
|
[وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد]
|
ومن القليل
فيهما قوله :
٨٣٦ ـ زعمتنى شيخا ولست بشيخ
|
|
[إنّما الشيخ من يدبّ دبيبا]
|
وقوله :
٨٣٧ ـ تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها
|
|
[فبالغ بلطف فى التّحيّل والمكر]
|
وعكسهما فى ذلك
هب بمعنى ظن ؛ فالغالب تعدّيه إلى صريح المفعولين كقوله :
٨٣٨ ـ فقلت : أجرنى أبا خالد ،
|
|
وإلّا فهبنى
امرأ هالكا
|
ووقوعه على أنّ
وصلتها نادر ، حتى زعم الحريرى أن قول الخواص «هب أنّ زيدا قائم» لحن ، وذهل عن
قول القائل «هب أنّ أبانا كان حمارا» ونحوه.
السادس : قولهم
فى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إن (لا يُؤْمِنُونَ) مستأنف ، أو خبر لإنّ ، وما بينهما اعتراض ، والأولى
الأول ؛ بدليل (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
السابع : قولهم
فى نحو (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ) (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) : إن المجرور فى
موضع نصب أو رفع على الحجازية والتميمية ، والصواب الأول ؛ لأن الخبر بعد «ما»
لم يجىء فى التنزيل مجردا من الباء إلا وهو منصوب نحو (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) (ما هذا بَشَراً).
الثامن : قول
بعضهم فى (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) : إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل ، أى الله حلقهم أو خلقهم الله.
والصواب الحمل على الثانى ؛ بدليل (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).
التاسع : قول
أبى البقاء فى (أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى) إن الظرف حال أى على قصد تقوى ، أو مفعول أسس ، وهذا
الوجه هو المعتمد عليه عندى ؛ لتعينه فى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى).
تنبيه ـ وقد
يحتمل الموضع أكثر من وجه ، ويوجد ما يرجح كلا منها ؛ فينظر فى أولاها كقوله تعالى
(فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) فإنّ الموعد محتمل للمصدر ، ويشهد له (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) وللزمان ويشهد له (قالَ مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ) وللمكان ويشهد له (مَكاناً سُوىً) وإذا أعرب (مَكاناً) بدلا منه لا ظرفا لتخلفه تعين ذلك.
* * *
الجهة الثامنة
: أن يحمل المعرب على شىء ، وفى ذلك الموضع ما يدفعه. وهذا أصعب من الذى قبله ،
وله أمثلة :
أحدها : قول
بعضهم فى (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ)
: إنها إنّ
واسمها ، أى إن القصة ، وذان : مبتدأ ، وهذا يدفعه رسم إنّ منفصلة ، وهذان متصلة.
والثانى : قول
الأخفش وتبعه أبو البقاء فى (وَلَا الَّذِينَ
يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)
: إن اللام
للابتداء ، والّذين : مبتدأ ، والجملة بعده خبره ، ويدفعه أن الرسم (وَلَا) وذلك يقتضى أنه مجرور بالعطف على (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) لا مرفوع بالابتداء ، والذى
حملهما على الخروج عن ذلك الظاهر أن من الواضح أن الميت على الكفر لا توبة
له لفوات زمن التكليف ويمكن أن يدّعى لهما أن الألف [فى لا] زائدة كالألف فى (لا
اذبحنه) ، فإنها زائدة فى لرسم ، وكذا فى (لا أوضعوا) والجواب أن هذه الجملة لم
تذكر ليفاد معناها بمجرده ، بل ليسوى بينها وبين ما قبلها ، أى أنه لا فرق فى عدم
الانتفاع بالتوبة بين من أخّرها إلى حضور الموت وبين من مات على الكفر ، كما نفى
الإثم عن المتأخر فى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) مع أن حكمه معلوم ؛ لأنه آخذ بالعزيمة ، بخلاف المتعجل
فإنه آخذ بالرخصة ، على معنى يستوى فى عدم الإثم من يتعجل ومن لم يتعجل ، وحمل
الرسم على خلاف الأصل مع إمكانه غير سديد.
والثالث : قول
ابن الطراوة فى (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) هم أشد : مبتدأ وخبر ، وأى مضافة لمحذوف ، ويدفعه رسم
أيهم متصلة ، وأن أيا إذا لم تضف أعربت باتفاق.
والرابع : قول
بعضهم فى (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)
: إن هم الأولى
ضمير رفع مؤكد للواو ، والثانية كذلك أو مبتدأ وما بعده خبره ، والصواب أن هم
مفعول فيهما ؛ لرسم الواو بغير ألف بعدها ، ولأن الحديث فى الفعل لا فى الفاعل ؛
إذ المعنى إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإذا جعلت الضمير
للمطففين صار معناه إذا أخذوا استوفوا وإذا تولّوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص
أخسروا ، وهو كلام متنافر ، لأن الحديث فى الفعل لا فى المباشر.
الخامس : قول
مكى وغيره فى قوله تعالى (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) إن جنات بدل من الفضل ، والأولى أنه مبتدأ ؛ لقراءة
بعضهم بالنصب على حد «زيدا ضربته».
السادس : قول
كثير من النحويين فى قوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ)
: إنه دليل على
جواز استثناء الأكثر من الأقل ، والصواب
أن المراد بالعباد المخلصون لا عموم المملوكين ، وأن الاستثناء منقطع ؛
بدليل سقوطه فى آية سبحان (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) ونظيره المثال الآتى.
السابع : قول
الزمخشرى فى (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)
: إن من نصب قدّر
الاستثناء من (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ومن رفع قدّره من (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ) ويردّ باستلزامه تناقض القراءتين ؛ فإن المرأة تكون
مسرى بها على قراءة الرفع ، وغير مسرّى بها على قراءة النصب ، وفيه نظر ؛ لأن
إخراجها من جملة النهى لا يدل على أنها مسرى بها ، بل على أنها معهم ، وقد روى
أنها تبعتهم ، وأنها التفتت فرأت العذاب فصاحت فأصابها حجر فقتلها ، وبعد فقول
الزمخشرى فى الآية خلاف الظاهر ، وقد سبقه غيره إليه ، والذى حملهم على ذلك أن
النصب قراءة الأكثرين ، فاذ قدّر الاستثناء من (أَحَدٌ) كانت قراءتهم على الوجه المرجوح ، وقد التزم بعضهم جواز
مجىء قراءة الأكثر على ذلك ، مستدلا بقوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فإن النصب فيها عند سيبويه على حد قولهم «زيدا ضربته»
ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين وذلك لأنه يرى فى نحو
«خفت» بالكسر و «طلت» بالضم ، أنه محتمل لفعلى الفاعل والمفعول ، ولا خلاف أن نحو «تضارّ»
محتمل لهما ، وأن نحو «مختار» محتمل لوصفهما ، وكذلك نحو «مشترى» فى النسب ، وقال الزجاج
فى (فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ)
: إن النحويين
يجيزون كون الأول اسما والثانى خبرا والعكس ، وممن ذكر الجواز فيهما الزمخشرى ،
قال ابن الحاج : وكذا نحو «ضرب موسى عيسى» كل من الاسمين محتمل للفاعلية
والمفعولية ، والذى التزم فاعلية الأول إنما هو بعض المتأخرين ، والإلباس واقع فى
العربية ، بدليل أسماء الأجناس والمشتركات. اه.
والذى أجزم به
أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجوحة ، وأن الاستثناء فى الآية من جملة الأمر على
القراءتين ، بدليل سقوط (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ) فى قراءة ابن مسعود ، وأن الاستثناء منقطع بدليل سقوطه
فى آية الحجر ، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته ، لا أهل
بيته وإن لم يكونوا مؤمنين ، ويؤيده ما جاء فى ابن نوح عليهالسلام (يا نُوحُ إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ووجه الرفع أنه على الابتداء ، وما بعده الخبر ،
والمستثنى الجملة ونظيره (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع ،
ولكنه قال : وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية ، وهذا يدل على
أنه جعل الاستثناء من جملة النهى وما قدمته أولى ؛ لضعف اللغة التميمية ، ولما
قدمت من سقوط جملة النهى فى قراءة ابن مسعود حكاها أبو عبيدة وغيره.
* * *
الجهة التاسعة
: أن لا يتأمل عند وجود المشتبهات ، ولذلك أمثلة :
أحدها : نحو «زيد
أحصى ذهنا ، وعمرو أحصى مالا» فإن الأول على أن أحصى اسم تفضيل ، والمنصوب تمييز
مثل «أحسن وجها» والثانى على أن أحصى فعل ماض ، والمنصوب مفعول مثل (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).
ومن الوهم قول
بعضهم فى (أَحْصى لِما لَبِثُوا
أَمَداً)
: إنه من الأول ،
فإن الأمد ليس محصيا بل محصى ، وشرط التمييز المنصوب بعد أفعل كونه فاعلا فى
المعنى كـ «زيد أكثر مالا» بخلاف «مال زيد أكثر مال».
الثانى : نحو «زيد
كاتب شاعر» فإن الثانى خبر أو صفة للخبر ، ونحو «زيد رجل صالح» فإن الثانى صفة لا
غير ، لأن الأول لا يكون خبرا على انفراده لعدم الفائدة ومثلهما «زيد عالم يفعل
الخير وزيد رجل يفعل الخير» وزعم الفارسى أن الخير
لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملة ؛ فيتعين عنده كون الجملة الفعليّة صفة
فيهما ، والمشهور فيهما الجواز ؛ كما أن ذلك جائز فى الصفات ، وعليه قول بعضهم فى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ)
: إن يختصمون خبر
ثان أو صفة ، ويحتمل الحالية أيضا ، أى فإذا هم مفترقون مختصمين ، وأوجب الفارسىّ
فى (كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) كون خاسئين خبرا ثانيا ؛ لأن جمع المذكر السالم لا يكون
صفة لما لا يعقل.
الثالث : «رأيت
زيدا فقيها ، ورأيت الهلال طالعا» فإن رأى فى الأول علمية ، وفقيها مفعول ثان ،
وفى الثانى بصرية ، وطالعا حال ، وتقول : «تركت زيدا عالما» فإن فسرت تركت بصيّرت
فعالما مفعول ثان ، أو بخلفت فحال ، وإذا حمل قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا
يُبْصِرُونَ) على الأول فالظرف ولا يبصرون مفعول ثان ، وتكرر كما يتكرر
الخبر ، أو الظرف مفعول ثان والجملة بعده حال ، أو بالعكس ، وإن حمل على الثانى
فحالان.
الرابع : (اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) إن فتحت الغين فمفعول مطلق ، أو ضممتها فمفعول به ،
ومثلهما «حسوت حسوة ، وحسوة».
* * *
الجهة العاشرة
: أن يخرج على خلاف الأصل ، أو على خلاف الظاهر لغير مقتض ، كقول مكى فى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى كَالَّذِي) الآية إن الكاف نعت لمصدر محذوف ، أى إبطالا كالذى ،
ويلزمه أن يقدر إبطالا كإبطال إنفاق الذى ينفق ، والوجه أن يكون (كَالَّذِي) حالا من الواو ، أى لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذى ينفق
، فهذا الوجه لا حذف فيه.
وقول بعض
العصريين فى قول ابن الحاجب «الكلمة لفظ» أصله الكلمة هى لفظ ، ومثله قول ابن
عصفور فى شرح الجمل : إنه يجوز فى «زيد هو الفاضل» أن
يحذف ، مع قوله وقول غيره : إنه لا يجوز حذف العائد فى نحو «جاء الّذى هو فى
الدّار» لأنه لا دليل حينئذ على المحذوف ، وردّه على من قال فى بيت الفرزدق :
فأصبحوا قد
أعاد الله نعمتهم
|
|
إذ هم قريش
وإذ ما مثلهم بشر [١٢٠]
|
إن بشر مبتدأ ،
ومثلهم : نعت لمكان محذوف خبره ، أى وإذ ما بشر مكانا مثل مكانهم ، بأنّ مثلا لا
يختصّ بالمكان ؛ فلا دليل حينئذ ، وكقول الزمخشرى فى قوله :
لا نسب اليوم
ولا خلة
|
|
[اتّسع الخرق على الرّاقع] [٣٧٥]
|
إن النصب
بإضمار فعل ، أى ولا أرى ، وإنما النصب مثله فى «لا حول ولا قوّة» وقول الخليل فى
قوله :
ألا رجلا
جزاه الله خيرا
|
|
[يدلّ على محصّلة تبيت] [١٠٣]
|
إن التقدير «ألا
ترونى رجلا» مع إمكان أن يكون من باب الاشتغال ، وهو أولى من تقدير فعل غير مذكور
، وقد يجاب عن هذا بثلاثة أمور :
أحدها : أن
رجلا نكرة ، وشرط المنصوب على الاشتغال أن يكون قابلا للرفع بالابتداء ، ويجاب بأن
النكرة هنا موصوفة بقوله :
*يدلّ على محصّلة تبيت*
الثانى : أن
نصبه على الاشتغال يستلزم الفصل بالجملة المفسرة بين الموصوف والصفة ، ويجاب بأن
ذلك جائز كقوله تعالى (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).
الثالث : أن
طلب رجل هذه صفته أهم من الدعاء له ؛ فكان الحمل عليه أولى.
وأما قول
سيبويه فى قوله :
اليت حبّ
العراق الدّهر أطعمه
|
|
[والحبّ يأكله فى القرية السّوس] [١٣٩]
|
إن أصله آليت
على حب العراق ، مع إمكان جعله على الاشتغال وهو قياسى ، بخلاف حذف الجار ، فجوابه
أن «أطعمه» بتقدير لا أطعمه ، ولا النافية فى جواب القسم لها الصّدر ؛ لحلولها محل
أدوات الصدور ، كلام الابتداء وما النافية ، وماله الصدر لا يعمل ما بعده فيما
قبله ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا.
وإنما قال فى (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ)
: إنه على تقدير «يا»
، ولم يجعله صفة على المحل ؛ لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصل به
الميم المعوضة عن حرف النداء أشبه الأصوات ؛ فلم يجز نعته.
وإنما قال فى
قوله :
٨٣٩ ـ اعتاد قلبك من سلمى عوائده
|
|
وهاج أحزانك
المكنونة الطّلل
|
ربع قواه
أذاع المعصرات به
|
|
وكل حيران
سار ماؤه خضل
|
إن التقدير :
هو ربع ، ولم يجعله على البدل من الطلل ؛ لأن الربع أكثر منه ، فكيف يبدل الأكثر
من الأقل؟ ولئلا يصير الشعر معيبا لتعلق أحد البيتين بالآخر ؛ إذ البدل تابع
للمبدل منه ، ويسمّى ذلك علماء القوافى تضمينا ، ولأن أسماء الديار قد كثر فيها أن
تحمل على عامل مضمر ، يقال : دارمية ، وديار الأحباب ، رفعا بإضمار هى ، ونصبا
بإضمار اذكر ، فهذا موضع ألف فيه الحذف.
وإنما قال
الأخفش فى «ما أحسن زيدا» إن الخبر محذوف بناء على أن «ما» معرفة موصولة أو نكرة
موصوفة ، وما بعدها صلة أو صفة ، مع أنه إذا قدر «ما» نكرة تامة والجملة بعدها
خبرا ـ كما قال سيبويه ـ لم يحتج إلى تقدير
خبر ؛ لأنه رأى أن «ما» التامة غير ثابتة أو غير فاشية ، وحذف الخبر فاش ؛
فترجّح عنده الحمل عليه.
وإنما أجاز
كثير من النحويين فى نحو قولك «نعم الرجل زيد» كون زيد خبرا لمحذوف مع إمكان
تقديره مبتدأ والجملة قبله خبرا ؛ لأن نعم وبئس موضوعان للمدح والذم العامّين ؛
فناسب مقامهما الإطناب بتكثير الجمل ، ولهذا يجيزون فى نحو (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ) أن يكون (الَّذِينَ) نصبا بتقدير أمدح ، أو رفعا بتقديرهم ، مع إمكان كونه
صفة تابعة ، على أن التحقيق الجزم بأن المخصوص مبتدأ وما قبله خبر ، وهو اختيار
ابن خروف وابن الباذش ، وهو ظاهر قول سيبويه : وأما قولهم «نعم الرّجل عبد الله» فهو بمنزلة «ذهب أخوه عبد
الله ، مع قوله : وإذا قال «عبد الله نعم الرجل» فهو بمنزلة «عبد الله ذهب أخوه»
فسوّى بين تأخير المخصوص وتقديمه ، والذى غرّ أكثر النحويين أنه قال : كأنه قال «نعم
الرجل» فقيل له : من هو؟ فقال : عبد الله ، ويرد عليهم أنه قال أيضا : وإذا قال «عبد
الله» فكأنه قيل له : ما شأنه؟ فقال : نعم الرجل ، فقال مثل ذلك مع تقدم المخصوص ،
وإنما أراد أنّ تعلق المخصوص بالكلام تعلق لازم ؛ فلا تحصل الفائدة إلا بالمجموع
قدّمت أو أخرت ، وجوز ابن عصفور فى المخصوص المؤخّر أن يكون مبتدأ حذف خبره ،
ويردّه أن الخبر لا يحذف وجوبا إلّا إن سدّ شىء مسدّه ، وذلك وارد على الأخفش فى «ما
أحسن زيدا».
وأما قول
الزمخشرى فى قول الله عزوجل : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ)
: إنه يجوز أن
يكون تقديره : هو فى آذانهم وقر ؛ فحذف المبتدأ ، أو فى آذانهم منه وقر ، والجملة
خبر الذين ، مع
__________________
إمكان أن يكون لا حذف فيه ؛ فوجهه أنه لما رأى ما قبل هذه الجملة وما بعدها
حديثا فى القرآن قدّر ما بينهما كذلك ، ولا يمكن أن يكون حديثا فى القرآن إلا على
ذلك ، اللهم إلا أن يقدر عطف الذين على الذين ، ووقر على هدى ؛ فيلزم العطف على
معمولى عاملين ، وسيبويه لا يجيزه ، وعليه فيكون (فِي آذانِهِمْ) نعتا لوقر قدم عليه فصار حالا.
وأما قول
الفارسى فى «أوّل ما أقول إنّى أحمد الله» فيمن كسر الهمزة : إن الخبر محذوف
تقديره ثابت ؛ فقد خولف فيه ، وجعلت الجملة خبرا ، ولم يذكر سيبويه المسألة ،
وذكرها أبو بكر فى أصوله ، وقال : الكسر على الحكاية ، فتوهم الفارسى أنه أراد
الحكاية بالقول المذكور ، فقدر الجملة منصوبة المحل ، فبقى له المبتدأ بلا خبر
فقدّره ، وإنما أراد أبو بكر أنه حكى لنا اللفظ الذى يفتتح به قوله.
خاتمة ـ وإذ قد
انجرّ بنا القول إلى ذكر الحذف فلنوجه القول إليه ؛ فإنه من المهمات ؛ فنقول :
ذكر شروطه ـ وهى
ثمانية :
أحدها : وجود
دليل حالى كقولك لمن رفع سوطا «زيدا» بإضمار اضرب ، ومنه (قالُوا سَلاماً) أى سلّمنا سلاما ، أو مقالىّ كقولك لمن قال : من أضرب؟ «زيدا»
ومنه (وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم؟ قالوا : خيرا) وإنما يحتاج إلى ذلك إذا كان
المحذوف الجملة بأسرها كما مثلنا ، أو أحد ركنيها نحو (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أى سلام عليكم أنتم قوم منكرون ، فحذف خبر الأولى
ومبتدأ الثانية ، أو لفظا يفيد معنى فيها هى مبنية عليه نحو (تَاللهِ تَفْتَؤُا) أى لا تفتؤ ، وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط
لحذفه وجدان الدليل ،
__________________
ولكن يشترط أن لا يكون فى حذفه ضرر معنوى كما فى قولك «ما ضربت إلّا زيدا»
أو صناعى كما فى قولك «زيد ضربته» وقولك «ضربنى وضربته زيد» وسيأتى شرحه.
ولاشتراط
الدليل فيما تقدم امتنع حذف الموصوف فى نحو «رأيت رجلا أبيض» بخلاف نحو «رأيت رجلا
كاتبا» وحذف المضاف فى نحو «جاءنى غلام زيد» بخلاف نحو (وَجاءَ رَبُّكَ) وحذف العائد فى نحو «جاء الذى هو فى الدار» بخلاف نحو (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ) وحذف المبتدأ إذا كان ضمير الشأن ؛ لأن ما بعده جملة
تامة مستغنية عنه ، ومن ثم جاز حذفه فى باب إنّ نحو «إنّ بك زيد مأخوذ» لأن عدم
المنصوب دليل عليه ، وحذف الجار فى نحو «رغبت فى أن تفعل» أو «عن أن تفعل» بخلاف «عجبت
من أن تفعل» وأما (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ) فإنّما حذف الجار فيها لقرينة ، وإنما اختلف العلماء فى
المقدّر من الحرفين فى الآية لاختلافهم فى سبب نزولها ؛ فالخلاف فى الحقيقة فى
القرينة.
وكان مردودا
قول أبى الفتح : إنه يجوز «جلست زيدا» بتقدير مضاف ، أى جلوس زيد ؛ لاحتمال أن
المقدر كلمة إلى ، وقول جماعة : إن بنى تميم لا يثبتون خبر لا التبرئة ، وإنما ذلك
عند وجود الدليل ، وأما نحو «لا أحد أغير من الله» وقولك مبتدئا من غير قرينة «لا
رجل يفعل كذا» فإثبات الخبر فيه إجماع ، وقول الأكثرين : إن الخبر بعد لو لا واجب
الحذف ، وإنما ذلك إذا كان كونا مطلقا نحو «لو لا زيد لكان كذا» يريد لو لا زيد
موجود أو نحوه ، وأما الأكوان الخاصة التى لا دليل عليها لو حذفت فواجبة الذكر ،
نحو «لو لا زيد سالمنا ما سلم» ونحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «لو لا قومك
حديثو عهد بالإسلام لأسّست البيت على قواعد إبراهيم» وقال الجمهور : لا يجوز «لا
تدن من الأسد يأكلك» بالجزم ؛ لأن الشرط المقدر إن قدر مثبتا ـ أى فإن تدن ـ
لم يناسب فعل النهى الذى جعل دليلا عليه ، وإن قدر منفيا ـ أى فلا تدن ـ فسد
المعنى ، بخلاف «لا تدن من الأسد تسلم» فإن الشرط المقدر منفى ، وذلك صحيح فى
المعنى والصناعة ، ولك أن تجيب عن الجمهور بأن الخبر إذا كان مجهولا وجب أن يجعل
نفس المخبر عنه عند الجميع فى باب لو لا ، وعند تميم فى باب لا ، فيقال «لو لا
قيام زيد» و «لا قيام» أى موجود ، ولا يقال «لو لا زيد» ولا «لا رجل» ويراد قائم ؛
لئلا يلزم المحذور المذكور ، وأما «لو لا قومك حديثو عهد» فلعله مما يروى بالمعنى
، وعن الكسائى فى إجازته الجزم بأنه يقدّر الشرط مثبتا مدلولا عليه بالمعنى لا
باللفظ ؛ ترجيحا للقرينة المعنوية على القرينة اللفظية ، وهذا وجه حسن إذا كان
المعنى مفهوما.
تنبيهان ـ أحدهما
: أن دليل الحذف نوعان ؛ أحدهما : غير صناعى ، وينقسم إلى حالىّ ومقالىّ كما تقدم
، والثانى : صناعى ، وهذا يختص بمعرفته النحويون ؛ لأنه إنما عرف من جهة الصناعة ،
وذلك كقولهم فى قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) إن التقدير : لأنا أقسم ؛ وذلك لأن فعل الحال لا يقسم
عليه فى قول البصريين ؛ وفى «قمت وأصكّ عينه» إن التقدير : وأنا أصك ، لأن واو
الحال لا تدخل على المضارع المثبت الخالى من قد ؛ وفى «إنها لإبل أم شاء» إن
التقدير : أم هى شاء ؛ لأن أم المنقطعة لا تعطف إلا الجمل ؛ وفى قوله :
٨٤٠ ـ إنّ من لام فى بنى بنت حسّا
|
|
ن ألمه وأعصه
فى الخطوب
|
إن التقدير :
إنه أى الشأن ، لأن [اسم] الشرط لا يعمل فيه ما قبله ، ومثله قول المتنبى :
وما كنت ممّن
يدخل العشق قلبه
|
|
ولكنّ من
يبصر جفونك يعشق [٤٨٣]
|
وفى (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) إن التقدير : ولكن كان رسول الله ، لأن ما بعد
لكن ليس معطوفا بها لدخول الواو عليها ، ولا بالواو لأنه مثبت وما قبلها
منفى ، ولا يعطف بالواو مفرد على مفرد إلا وهو شريكه فى النفى والإثبات ، فإذا قدر
ما بعد الواو جملة صح تخالفهما كما تقول «ما قام زيد وقام عمرو» وزعم سيبويه فى
قوله :
٨٤١ ـ ولست بحلّال التّلاع مخافة
|
|
ولكن متى
يسترفد القوم أرفد
|
أن التقدير :
ولكن أنا ، ووجّهوه بأن لكن تشبه الفعل فلا تدخل عليه وبيان كونها داخلة عليه أن «متى»
منصوبة بفعل الشرط ، فالفعل مقدّم فى الرتبة عليه. وردّه الفارسى بأن المشبه
بالفعل هو لكن المشددة لا المخففة ، ولهذا لم تعمل المخففة لعدم اختصاصها بالأسماء
، وقيل : إنما يحتاج إلى التقدير إذا دخلت عليها الواو ، لأنها حينئذ تخلص لمعناها
، وتخرج عن العطف.
التنبيه الثانى
ـ شرط الدليل اللفظى أن يكون طبق المحذوف ، فلا يجوز «زيد ضارب وعمرو» أى ضارب ،
وتريد بضارب المحذوف معنى يخالف المذكور : بأن يقدر أحدهما بمعنى السفر من قوله
تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ) والآخر بمعنى الإيلام المعروف ، ومن ثمّ أجمعوا على
جواز «زيد قائم وعمرو ، وإن زيدا قائم وعمرو» وعلى منع «ليت يدا قائم وعمرو» وكذا
فى لعلّ وكأنّ ، لأن الخبر المذكور متمنّى أو مترجّى أو مشبه به ، والخبر المحذوف
ليس كذلك ، لأنه خبر المبتدأ.
فإن قلت : فكيف
تصنع بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) فى قراءة من رفع. وذلك محمول عند البصريين على الحذف من
الأول لدلالة الثانى ، أى إن الله يصلى وملائكته يصلون. وليس عطفا على الموضع
ويصلون خبرا عنهما ،
__________________
لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد ، والصلاة المذكورة بمعنى الاستغفار ،
والمحذفة بمعنى الرحمة ، وقال الفراء فى قوله تعالى (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ) إن التقدير : بلى ليحسبنا قادرين ، والحسبان المذكور
بمعنى الظن ، والمحذوف بمعنى العلم ؛ إذ التردد فى الادعاء كفر ، فلا يكون مأمورا
به ، وقال بعض العلماء فى بيت الكتاب :
٨٤٢ ـ لن تراها ـ ولو تأمّلت ـ إلا
|
|
ولها فى
مفارق الرّأس طيبا
|
إن ترى المقدرة
الناصبة لطيبا قلبيّة لا بصرية ، لئلا يقتضى كون الموصوفة مكشوفة الرأس ، وإنما
تمدح النساء بالخفر والتصوّن ، لا بالتبذّل ، مع أن رأى المذكورة بصرية؟؟.
قلت : الصواب
عندى أن الصلاة لغة بمعنى واحد ، وهو العطف ، ثم العطف بالنسبة إلى الله سبحانه
وتعالى الرحمة وإلى الملائكة الاستغفار وإلى الآدميين دعاء بعضهم لبعض ، وأما قول
الجماعة فبعيد من جهات ، إحداها : اقتضاؤه الاشتراك والأصل عدمه لما فيه من
الإلباس ، حتى إن قوما نفوه ، ثم المثبتون له يقولون : متى عارضه غيره مما يخالف
الأصل كالمجاز قدّم عليه ، الثانية : أنا لا نعرف فى العربية فعلا واحدا يختلف
معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الإسناد حقيقيا ، والثالثة : أن الرحمة فعلها
متعدّ والصلاة فعلها قاصر ، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدى ، والرابعة : أنه لو
قيل مكان «صلى عليه» دعا عليه انعكس المعنى ، وحقّ المترادفين صحة حلول كل منهما
محلّ الآخر.
وأما آية
القيامة فالصواب فيها قول سيبويه إن (قادِرِينَ) حال ، أى بلى نجمعها قادرين ، لأن فعل الجمع أقرب من
فعل الحسبان ، ولأن بلى إيجاب للمنفى وهو فى الآية فعل الجمع ، ولو سلم قول الفراء
فلا يسلم أن الحسبان فى الآية ظن ، بل اعتقاد وجزم ، وذلك لإفراط كفرهم.
وأما قول
المعرب فى البيت فمردود ، وأحوال الناس فى اللباس والاحتشام مختلفة ، فحال أهل
المدر يخالف حال أهل الوبر ، وحال أهل الوبر مختلف ، وبهذا أجاب الزمخشرىّ عن
إرسال شعيب عليه الصلاة والسّلام ابنتيه لسقى الماشية ، وقال : العادات فى مثل ذلك
متباينة ، وأحوال العرب خلاف أحوال العجم.
الشرط الثانى :
أن لا يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يحذف الفاعل ولا نائبه ولا مشبهه ، وقد مضى الردّ
على ابن مالك فى مرفوع أفعال الاستثناء ، وقال الكسائى وهشام والسهيلى فى نحو «ضربنى
وضربت زيدا» : إن الفاعل محذوف لا مضمر ، وقال ابن عطية فى (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا)
: إن التقدير بئس
المثل مثل القوم ، فإن أراد أن الفاعل لفظ المثل محذوفا فمردود ، وإن أراد تفسير
المعنى وأن فى بئس ضمير المثل مستترا فأين تفسيره ، وهذا لازم للزمخشرى فإنه قال
فى تقديره : بئس مثلا! وقد نص سيبويه على أن تمييز فاعل نعم وبئس لا يحذف ،
والصواب أن (مَثَلُ الْقَوْمِ) فاعل ، وحذف المخصوص ، أى مثل هؤلاء ، أو مضاف : أى مثل
الذين كذبوا ، ولا خلاف فى جواز حذف الفاعل مع فعله نحو (قالُوا خَيْراً) و «يا عبد الله» و «زيدا ضربته».
الثالث : أن لا
يكون مؤكّدا ، وهذا الشرط أول من ذكره الأخفش ، منع فى نحو «الذى رأيت زيد» أن
يؤكد العائد المحذوف بقولك «نفسه» ، لأن المؤكد مريد للطول ، والحاذف مريد
للاختصار ، وتبعه الفارسى ، فرد فى كتاب الأغفال قول الزجاج فى (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إن التقدير : إن هذان لهما ساحران ، فقال : الحذف
والتوكيد باللام متنافيان ، وتبع أبا على أبو الفتح ، فقال فى الخصائص : لا يجوز «الّذى
ضربت نفسه زيد» كما لا يجوز إدغام نحو اقعنسس ، لما فيهما جميعا من نقض الغرض [وهو
الإلحاق باحرنجم] وتبعهم ابن مالك فقال : لا يجوز حذف عامل المصدر المؤكّد كـ «ضربت
ضربا» لأن المقصود به تقوية عامله وتقرير معناه ، والحذف مناف لذلك ، وهؤلاء كلهم
مخالفون
للخليل وسيبويه أيضا ؛ فإن سيبويه سأل الخليل عن نحو «مررت بزيد وأتانى
أخوه أنفسهما» كيف ينطق بالتوكيد؟ فأجابه بأنه يرفع بتقدير : هما صاحباى أنفسهما ،
وينصب بتقدير : أعنيهما أنفسهما ، ووافقهما على ذلك جماعة ، واستدلوا بقول العرب :
إنّ محلّا
وإن مرتجلا
|
|
[وإنّ فى السّفر إذ مضوا مهلا] [١٢١]
|
و «إنّ مالا
وإنّ ولدا» فحذفوا الخبر مع أنه مؤكد بإنّ ، وفيه نظر : فإن المؤكّد نسبة الخبر
إلى الاسم ، لا نفس الخبر ، وقال الصفار : إنما فرّ الأخفش من حذف العائد فى نحو «الذى
رأيته نفسه زيد» لأن المقتضى للحذف الطول ، ولهذا لا يحذف فى نحو «الذى هو قائم
زيد» فإذا فروا من الطول فكيف يؤكدون؟ وأما حذف الشىء لدليل وتوكيده فلا تنافى
بينهما ؛ لأن المحذوف لدليل كالثابت ، ولبدر الدين بن مالك مع والده فى المسألة
بحث أجاد فيه.
الرابع : أن لا
يؤدّى حذفه إلى اختصار المختصر ؛ فلا يحذف اسم الفعل دون معموله ؛ لأنه اختصار
للفعل ، وأما قول سيبويه فى «زيدا فاقتله» وفى «شأنك والحجّ» وقوله :
٨٤٣ ـ يا أيّها المائح ، دلوى دونكا
|
|
[إنّى رأيت النّاس يحمدونكا]
|
[ص ٦١٨]
إن التقدير :
عليك زيدا ، وعليك الحج ، ودونك دلوى ، فقالوا : إنما أراد تفسير المعنى لا
الإعراب ، وإنما التقدير خذ دلوى ، والزم زيدا ، والزم الحج ، ويجوز فى دلوى أن
يكون مبتدأ ودونك خبره.
الخامس : أن لا
يكون عاملا ضعيفا ؛ فلا يحذف الجار والجازم والناصب للفعل ، إلا فى مواضع قويت
فيها الدلالة وكثر فيها استعمال تلك العوامل ، ولا يجوز القياس عليها.
السادس : أن لا
يكون عوضا عن شىء ؛ فلا تحذف ما فى «أمّا أنت
منطلقا انطلقت» ولا كلمة لا من قولهم «افعل هذا إمّا لا» ولا التاء من عدّة
وإقامة واستقامة ؛ فأما قوله تعالى (وَأَقامَ الصَّلاةَ) فمما يجب الوقوف عنده ، ومن هنا لم يحذف خبر كان لأنه
عوض أو كالعوض من مصدرها ، ومن ثمّ لا يجتمعان ، ومن هنا قال ابن مالك : إن العرب
لم تقدر أحرف النداء عوضا من أدعو وأنادى ؛ لإجازتهم حذفها.
السابع والثامن
: أن لا يؤدى حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، ولا إلى إعمال العامل
الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوى ، وللأمر الأول منع البصريون حذف المفعول
الثانى من نحو «ضربنى وضربته زيد» لئلا يتسلّط على زيد ثم يقطع عنه برفعه بالفعل
الأول ، ولاجتماع الأمرين امتنع عند البصريين أيضا حذف المفعول فى نحو «زيد ضربته»
لأن فى حذفه تسليط ضرب على العمل فى زيد مع قطعه عنه ، وإعمال الابتداء مع التمكن
من إعمال الفعل ، ثم حملوا على ذلك «زيد ما ضربته ، أو هل ضربته» فمنعوا الحذف وإن
لم يؤدّ إلى ذلك ، وكذلك منعوا رفع رأسها فى «أكلت السمكة حتّى رأسها» إلا أن يذكر
الخبر ، فتقول : مأكول ، ولاجتماعهما مع الإلباس منع الجميع تقديم الخبر فى نحو «زيد
قام» ولانتفاء الأمرين جاز عند البصريين وهشام تقديم معمول الخبر على المبتدأ فى
نحو «زيد ضرب عمرا» وإن لم يجز تقديم الخبر ، فأجاروا «زيدا أجله أحرز» وقال
البصريون فى قوله :
٨٤٤ ـ [قنافذ هدّاجون حول بيوتهم]
|
|
بما كان
إيّاهم عطيّة عوّدا
|
إن عطية مبتدأ
، وإياهم مفعول عوّد ، والجملة خبر كان ، واسمها ضمير الشأن ، وقد خفيت هذه النكتة
على ابن عصفور فقال : هربوا من محذور ـ وهو أن يفصلوا بين كان واسمها بمعمول خبرها
ـ فوقعوا فى محذور آخر ، وهو تقديم معمول الخبر حيث لا يتقدم خبر المبتدأ ، وقد
بينا أن امتناع تقديم الخبر فى ذلك لمعنى مفقود
فى تقديم معموله ، وهذا بخلاف علّة امتناع تقديم المفعول على ما النافية فى
نحو «ما ضربت زيدا» فإنه لنفس العلة المقتضية لامتناع تقديم الفعل عليها ، وهو
وقوع ما النافية [فيه] حشوا.
تنبيه ـ ربما
خولف مقتضى هذين الشرطين أو أحدهما فى ضرورة أو قليل من الكلام.
فالأول كقوله :
٨٤٥ ـ وخالد يحمد ساداتنا
|
|
[بالحقّ ، لا يحمد بالباطل]
|
وقوله :
[قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى
|
|
علىّ ذنبا]
كلّه لم أصنع [٣٣٢]
|
وقيل : هو فى
صيغ العموم أسهل ، ومنه قراءة ابن عامر (وكل وعد الله الحسنى).
والثانى كقوله
:
٨٤٦ ـ بعكاظ يعشى النّاظرين
|
|
إذا هم لمحوا
شعاعه
|
فإن فيه تهيئة «لمحوا»
للعمل فى «شعاعه» مع قطعه عن ذلك بإعمال «يعشى» فيه ، وليس فيه إعمال ضعيف دون قوى
، وذكر ابن مالك فى قوله :
عممتهم
بالنّدى حتّى غواتهم
|
|
فكنت مالك ذى
غىّ وذى رشد [١٩٨]
|
إنه يروى «غواتهم»
بالأوجه الثلاثة ؛ فإن ثبتت رواية الرفع فهو من الوارد فى النوع الأول فى الشذوذ ؛
إذ لا ضرورة تمنع من الجر والنصب ، وقد رويا.
بيان أنه قد
يظن أن الشىء من باب الحذف ، وليس منه
جرت عادة
النحويين أن يقولوا : يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ، ويريدون بالاختصار الحذف
لدليل ، وبالاقتصار الحذف لغير دليل ، ويمثلونه بنحو
(كُلُوا وَاشْرَبُوا) أى أوقعوا هذين الفعلين ، وقول العرب فيما يتعدى إلى
اثنين «من يسمع يخل» أى تكن منه خيلة.
والتحقيق أن
يقال : إنه تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو
من أوقع عليه ؛ فيجاء بمصدره مسندا إلى فعل كون عام ؛ فيقال : حصل حريق أو نهب.
وتارة يتعلق
بالإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل ؛ فيقتصر عليهما ، ولا يذكر المفعول ، ولا ينوى
؛ إذ المنوىّ كالثابت ، ولا يسمى محذوفا ؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا
مفعول له ، ومنه (رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) إذ المعنى ربى الذى يفعل الإحياء والإماتة ، وهل يستوى
من يتّصف بالعلم ومن ينتفى عنه العلم ، وأوقعوا الأكل والشرب ، وذروا الإسراف ،
وإذا حصلت منك رؤية هنالك ، ومنه على الأصح (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ) الآية ، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسّلام إنما رحمهما
إذ كانتا على صفة الذّياد وقومهما على السقى ، لا لكون مذودهما غنما ومسقيهم إبلا
، وكذلك المقصود من قولهما (نَسْقِي) السقى ، لا المسقى ، ومن لم يتأمل قدّر : يسقون إبلهم ،
وتذودان غنمهما ولا نسقى غنمنا.
وتارة يقصد
إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله ؛ فيذكران نحو (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وقولك «ما أحسن زيدا» وهذا النوع إذا لم يذكر مفعوله
قيل : محذوف ، نحو (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) وقد يكون فى اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره
، نحو (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) و :
[حميت حمى تهامة بعد نجد]
|
|
وما شىء حميت
بمستباح [٧٤٥]
|
بيان مكان المقدّر
القياس أن يقدر
الشىء فى مكانه الأصلى ، لئلا يخالف الأصل من وجهين : الحذف ، ووضع الشىء فى غير
محله.
فيجب أن يقدر
المفسر فى نحو «زيدا رأيته» مقدما عليه ، وجوز البيانيون تقديره مؤخّرا عنه ،
وقالوا : لأنه يفيد الاختصاص حينئذ ، وليس كما توهموا ، وإنما يرتكب ذلك عند تعذر
الأصل ، أو عند اقتضاء أمر معنوى لذلك.
فالأول نحو «أيّهم
رأيته» إذ لا يعمل فى الاستفهام ما قبله ، ونحو (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) فيمن نصب ، إذ لا يلى «أمّا» فعل ، وكنا قدّمنا فى نحو «فى
الدار زيد» أن متعلق الظرف يقدر مؤخرا عن زيد ؛ لأنه فى الحقيقة الخبر ، وأصل
الخبر أن يتأخر عن المبتدأ ، ثم ظهر لنا أنه يحتمل تقديره مقدما لمعارضة أصل آخر ،
وهو أنه عامل فى الظرف ، وأصل العامل أن يتقدم على المعمول ، اللهم إلا أن يقدر
المتعلق فعلا فيجب التأخير ، لأن الخبر الفعلى لا يتقدم على المبتدأ فى مثل هذا ،
وإذا قلت «إنّ خلفك زيدا» وجب تأخير المتعلق ، فعلا كان أو اسما ، لأن مرفوع إنّ
لا يسبق منصوبها وإذا قلت «كان خلفك زيد» جاز الوجهان ، ولو قدرته فعلا ، لأن خبر
كان يتقدم مع كونه فعلا على الصحيح ، إذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية.
والثانى نحو
متعلق باء البسملة الشريفة ، فإن الزمخشرى قدّره مؤخّرا عنها ، لأن قريشا كانت
تقول : باسم اللات والعزّى نفعل كذا ، فيؤخرون أفعالهم عن ذكر ما اتخذوه معبودا
لهم تفخيما لشأنه بالتقديم ، فوجب على الموحّد أن يعتقد ذلك فى اسم الله تعالى
فإنه الحقيق بذلك ، ثم اعترض بـ (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) وأجاب بأنها أول سورة أنزلت ، فكان تقديم الأمر
بالقراءة فيها أهمّ ، وأجاب عنه السكاكى بتقديرها متعلقة باقرأ الثانى. واعترضه
بعض العصريين باستلزامه الفصل بين المؤكد وتأكيده بمعمول المؤكد. وهذا سهو منه ،
إذ لا توكيد هنا ، بل أمر أولا بإيجاد القراءة ، وثانيا بقراءة مقيدة ، ونظيره (الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ)
ومثل هذا لا يسميه أحد توكيدا. ثم هذا الإشكال لازم له على قوله إن الباء
متعلقة باقرأ الأول لأن تقييد الثانى إذا منع من كونه توكيدا فكذا تقييد الأول ،
ثم لو سلم ففصل الموصوف من صفته بمعمول الصفة جائز باتفاق ، كـ «مررت برجل عمرا
ضارب» فكذا فى التوكيد ، وقد جاء الفصل بين المؤكد والمؤكد فى (وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) مع أنهما مفردان ، والجمل أحمل للفصل ، وقال الراجز :
٨٤٧ ـ [يا ليتنى كنت صبيّا مرضعا
|
|
تحملنى
الذلفاء حولا أكتعا
|
إذا بكيت
قبّلتنى أربعا]
|
|
إذا ظللت
الدّهر أبكى أجمعا
|
تنبيه ـ ذكروا
أنه إذا اعترض شرط على آخر نحو «إن أكلت إن شربت فأنت طالق» فإن الجواب المذكور
للسابق منهما ، وجواب الثانى محذوف مدلول عليه بالشرط الأول وجوابه ، كما قالوا فى
الجواب المتأخر عن الشرط والقسم ، ولهذا قال محققوا الفقهاء فى المثال المذكور : إنها
لا تطلق حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم ، وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربت فإن أكلت
فأنت طالق ، وهذا كله حسن ، ولكنهم جعلوا منه قوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ
أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وفيه نظر ؛ إذ لم يتوال شرطان وبعدها جواب كما فى
المثال ، وكما فى قول الشاعر :
٨٤٨ ـ إن تستغيثوا بنا إن تذعروا
تجدوا
|
|
منّا معاقل
عزّ زانها كرم
|
وقول ابن دريد
:
٨٤٩ ـ فإن عثرت بعدها إن وألت
|
|
نفسى من هاتا
فقولا لالعا
|
__________________
إذ الآية الكريمة لم يذكر فيها جواب ، وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب
فى المعنى للشرط الأول ؛ فينبغى أن يقدّر إلى جانبه ، ويكون الأصل : إن أردت أن
أنصح لكم فلا ينفعكم نصحى إن كان الله يريد أن يغويكم ، وأما أن يقدّر الجواب
بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له ، والله أعلم.
بيان مقدار المقدّر
ينبغى تقليله
ما أمكن ، لتقلّ مخالفة الأصل.
ولذلك كان
تقدير الأخفش فى «ضربى زيدا قائما» ضربه قائما ، أولى من تقدير باقى البصريين :
حاصل إذا كان ـ أو إذ كان ـ قائما ، لأنه قدّر اثنين وقدروا خمسة ، ولأن التقدير
من اللفظ أولى.
وكان تقديره فى
«أنت منّى فرسخان» بعدك منى فرسخان ، أولى من تقدير الفارسى : أنت منى ذو مسافة
فرسخين ؛ لأنه قدر مضافا لا يحتاج معه إلى تقدير شىء آخر يتعلق به الظرف ،
والفارسىّ قدر شيئين يحتاج معهما إلى تقدير ثالث.
وضعف قول بعضهم
فى (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) إن التقدير : حبّ عبادة العجل ، والأولى تقدير الحب
فقط.
وضعف قول
الفارسى ومن وافقه فى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) الآية : إن الأصل : واللاء لم يحضن فعدّتهن ثلاثة أشهر
، والأولى أن يكون الأصل : واللاء لم يحضن كذلك.
وكذلك ينبغى أن
يقدر فى نحو «زيد صنع بعمرو جميلا وبخالد سوأ
وبكر» أى كذلك ، ولا يقدر عين المذكور ؛ تقليلا للمحذوف ، ولأن الأصل فى
الخبر الإفراد ، ولأنه لو صرّح بالخبر لم يحسن إعادة ذلك المتقدم لثقل التكرار.
ولك أن لا تقدر
فى الآية شيئا البتة ؛ وذلك بأن تجعل الموصول معطوفا على الموصول ، فيكون الخبر
المذكور لهما معا ، وكذا تصنع فى نحو «زيد فى الدّار وعمرو» ، ولا يتأتى ذلك فى
المثال السابق ، لأن إفراد فاعل الفعل يأباه ، نعم لك أن تسلم فيه من الحذف ، بأن
تقدر العطف على ضمير الفعل لحصول الفصل بينهما.
فإن قلت : لو
صح ما ذكرته فى الآية والمثال السابق لصح «زيد قائمان وعمرو» بتقدير : زيد وعمرو
قائمان.
قلت : إن سلّم
منعه فلقبح اللفظ ، وهو منتف فيما نحن بصدده ، ولكن يشهد للجواز قوله :
٨٥٠ ـ ولست مقرّا للرّجال ظلامة
|
|
أبى ذاك عمّى
الأكرمان وخاليا
|
وقد جوزوا فى «أنت
أعلم وزيد» كون زيد مبتدأ حذف خبره ، وكونه عطفا على أنت ؛ فيكون خبرا عنهما.
بيان كيفية التقدير
إذا استدعى
الكلام تقدير أسماء متضايقة ، أو موصوفة وصفة مضافة ؛ أو جار ومجرور مضمر عائد على ما يحتاج إلى
الرابط ، فلا تقدر أن ذلك حذف دفعة واحدة ، بل على التدريج.
__________________
فالأول نحو (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) أى كدوران عين الذى.
والثانى كقوله :
٨٥١ ـ إذا قامتا تضوّع المسك منهما
|
|
نسيم الصّبا
جاءت بريّا القرنفل
|
أى تضوّعا مثل
تضوّع نسيم الصبا
والثالث كقوله
تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أى لا تجزى فيه ، ثم حذفت فى فصار لا تجزيه ، ثم حذف
الضمير منصوبا لا مخفوضا ، هذا قول الأخفش ، وعن سيبويه أنهما حذفا دفعة [واحدة]
ونقل ابن الشجرى القول الأول عن الكسائى ، واختاره ، قال : والثانى قول نحوى آخر ،
وقال أكثر أهل العربية منهم سيبويه والأخفش : يجوز الأمران ، اه. وهو نقل غريب.
ينبغى أن يكون المحذوف من لفظ المذكور
مهما أمكن
فيقدر فى «ضربى
زيدا قائما» ضربه قائما ، فإنه من لفظ المبتدأ وأقل تقديرا ، دون «إذ كان ، أو إذا
كان» ويقدر «اضرب» دون أهن فى «زيدا اضربه».
فإن منع من
تقدير المذكور معنى أو صناعة قدّر ما لا مانع له.
فالأول نحو «زيدا
اضرب أخاه» يقدر فيه أهن دون اضرب ، فإن قلت «زيدا أهن أخاه» قدرت أهن.
والثانى نحو «زيدا
امرر به» تقدر فيه جاوز دون امور ، لأنه لا يتعدّى بنفسه ، نعم إن كان العامل مما
يتعدّى تارة بنفسه وتارة بالجار نحو نصح فى قولك «زيدا نصحت له» جاز أن يقدر نصحت
زيدا ؛ بل هو أولى من تقدير غير الملفوظ به.
ومما لا يقدر
فيه مثل المذكور لمانع صناعى قوله :
يا أيّها
المائح دلوى دونكا
|
|
[إنّى رأيت النّاس يحمدونكا] [٨٤٣]
|
إذا قدر دلوى
منصوبا فالمقدر خذ ، لا دونك ، وقد مضى ، وقوله :
٨٥٢ ـ [أكرّ وأحمى للحقيقة منهم]
|
|
وأضرب منّا
بالسّيوف القوانسا
|
الناصب فيه للقوانس
فعل محذوف ، لا اسم تفضيل محذوف ، لأنا فررنا بالتقدير من إعمال اسم التفضيل
المذكور فى المفعول ، فكيف يعمل فيه المقدر؟ وقولك «هذا معطى زيد أمس درهما»
التقدير أعطاه ، ولا يقدر اسم فاعل ، لأنك إنما فررت بالتقدير من إعمال اسم الفاعل
الماضى المجرد من أل ، وقال بعضهم فى قوله تعالى (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى
ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا)
: إن لواو للقسم
، فعلى هذا دليل الجواب المحذوف جملة النفى السابقة ، ويجب أن يقدر : والذى فطرنا
لا نؤثرك ، لأن القسم لا يجاب بلن إلا فى الضرورة كقول أبى طالب :
والله لن
يصلوا إليك بجمعهم
|
|
حتّى أوسّد
فى التّراب دفينا [٤٦٤]
|
وقال الفارسى
ومتابعوه فى (وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) التقدير : فعدتهن ثلاثة أشهر ، وهذا لا يحسن وإن كان
ممكنا ، لأنه لو صرّح به اقتضت الفصاحة أن يقال : كذلك ، ولا تعاد الجملة الثانية.
إذا دار الأمر بين كون المحذوف مبتدأ وكونه خبرا
فأيهما أولى؟
قال الواسطى :
الأولى كون المحذوف المبتدأ ، لأن الخبر محطّ الفائدة
وقال العبدى : الأولى كونه الخبر ؛ لأن التجوز فى أواخر الجملة أسهل ، نقل
القولين ابن إياز.
ومثال المسألة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى : شأنى صبر جميل ، أو صبر جميل أمثل من غيره ، ومثله
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أى الذى يطلب منكم طاعة معلومة لا يرتاب فيها ، لا
إيمان باللسان لا يواطئه القلب ، أو طاعتكم معروفة ، أى عرف أنها بالقول دون الفعل
، أو طاعة معروفة أمثل بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
ولو عرض ما يوجب
التعيين عمل به ، كما فى «نعم الرّجل زيد» على القول بأنهما جملتان ؛ إذ لا يحذف
الخبر وجوبا إلا إذا سدّ شىء مسدّه ، ومثله «حبّذا زيد» إذا حمل على الحذف ، وجزم
كثير من النحويين فى نحو «عمرك لأفعلنّ» و «أيمن الله لأفعلنّ» بأن المحذوف الخبر
، وجوز ابن عصفور كونه المبتدأ ، ولذلك لم يعدّه فيما يجب فيه حذف الخبر ؛ لعدم
تعينه عنده لذلك ، قال : والتقدير إمّا قسمى أيمن الله ، أو أيمن الله قسم لى ،
اه. ولو قدرت أيمن الله قسمى ، لم يمتنع ؛ إذ المعرفة المتأخرة عن معرفة يجب كونها
الخبر على الصّحيح.
إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلا والباقى فاعلا
وكونه مبتدأ والباقى خبرا ؛ فالثانى أولى
لأن المبتدأ
عين الخبر ؛ فالمحذوف عين الثابت ؛ فيكون الحذف كلا حذف ، فأما الفعل فإنه غير
الفاعل.
اللهم إلا أن
يعتضد الأول برواية أخرى فى ذلك الموضع ، أو بموضع آخر يشبهه ، أو بموضع آت على
طريقته.
فالأول كقراءة
شعبة (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) بفتح الباء ، وكقراءة ابن كثير (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ، اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) بفتح الحاء ، وكقراءة بعضهم (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ ، شُرَكاؤُهُمْ) ببناء زيّن للمفعول ، ورفع الفتل والشركاء ، وكقوله :
٨٥٣ ـ ليبك يزيد ، ضارع لخصومه
|
|
[ومختبط ممّا تطيح الطّوائح]
|
فيمن رواه
مبنيا للمفعول ، فإن التقدير : يسبّحه رجال ، ويوحيه الله ، وزيّنه شركاؤهم ،
ويبكيه ضارع ، ولا تقدر هذه المرفوعات مبتدآت حذفت أخبارها ؛ لأن هذه الأسماء قد
ثبتت فاعليتها فى رواية من بنى الفعل فيهن للفاعل.
والثانى كقوله
تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فلا يقدر ليقولن الله خلقهم ، بل خلقهم الله ؛ لمجىء
ذلك فى شبه هذا الموضع ، وهو : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وفى مواضع آتية على طريقته نحو (قالَتْ : مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ :
نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟
قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها).
إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولا ، أو ثانيا
فكونه ثانيا أولى
وفيه مسائل :
إحداها : نون
الوقاية فى نحو (أَتُحاجُّونِّي) و (تَأْمُرُونِّي) فيمن قرأ بنون واحدة
__________________
وهو قول أبى العباس وأبى سعيد وأبى على وأبى الفتح وأكثر المتأخرين ، وقال
سيبويه واختاره ابن مالك : إن المحذوف الأولى.
الثانية : نون
الوقاية مع نون الإناث فى نحو قوله :
٨٥٤ ـ [تراه كالثّغام يعلّ مسكا]
|
|
يسوء
الفاليات إذا فلينى
|
هذا هو الصحيح
، وفى البسيط أنه مجمع عليه ؛ لأن نون الفاعل لا يليق بها الحذف ، ولكن فى التسهيل
أن المحذوف الأولى ، وأنه مذهب سيبويه.
الثالثة : تاء
الماضى مع تاء المضارع فى نحو (ناراً تَلَظَّى) وقال أبو البقاء فى قوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) يضعف كون (تَوَلَّوْا) فعلا مضارعا ؛ لأن أحرف المضارعة لا تحذف ، اه. وهذا
فاسد؟ لأن المحذوف الثانية ، وهو قول الجمهور ، والمخالف فى ذلك هشام الكوفى ، ثم
إن التنزيل مشتمل على مواضع كثيرة من ذلك لا شك فيها نحو (ناراً تَلَظَّى) (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ).
الرابعة : نحو
مقول ومبيع ، المحذوف منهما واو مفعول ، والباقى عين الكلمة ، خلافا للاخفش.
الخامسة : نحو
إقامة واستقامة ، المحذوف منهما ألف الإفعال والاستفعال والباقى عين الكلمة ،
خلافا للأخفش أيضا.
السادسة : نحو
:
يا زيد زيد
اليعملات الذّبّل
|
|
[تطاول اللّيل عليك فانزل] [٦٩٨]
|
بفتحهما ، و :
٨٥٥ ـ [يا من رأى عارضا أسرّبه]
|
|
بين ذراعى
وجبهة الأسد
|
وهذا هو الصحيح
، خلافا للمبرد.
السابعة : نحو «زيد
وعمرو قائم» ومذهب سيبويه أن الحذف فيه من الأول لسلامته من الفصل ، ولأن فيه
إعطاء الخبر للمجاور ، مع أن مذهبه فى نحو
*يا زيد زيد اليعملات* [٦٩٨]
أن الحذف من
الثانى ، قال ابن الحاجب : إنما اعترض بالمضاف الثانى بين المتضايفين ليبقى المضاف
إليه المذكور فى اللفظ عوضا مما ذهب ، وأما هنا فلو كان قائم خبرا عن الأول لوقع
فى موضعه ، إذ لا ضرورة تدعو إلى تأخيره ؛ إذ كان الخبر يحذف بلا عوض نحو «زيد
قائم وعمرو» من غير قبح فى ذلك ، اه. وقيل أيضا : كل من المبتدأين عامل فى الخبر ؛
فالأولى إعمال الثانى لقربه ، ويلزم من هذا التعليل أن يقال بذلك فى مسألة الإضافة
تنبيه ـ الخلاف
إنما هو عند التردد ، وإلا فلا تردّد فى أن الحذف من الأول فى قوله
٨٥٦ ـ نحن بما عندنا ، وأنت بما
|
|
عندك راض ،
والرّأى مختلف
|
وقوله :
خليلىّ هل
طبّ؟ فانّى وأنتما
|
|
وإن لم تبوحا
بالهوى دنفان [٧٢٣]
|
ومن الثانى فى
قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) إذ لو كان الجواب للثانى لجزم ، فقلنا بذلك فى نحو «إن
أكلت إن شربت فأنت طالق» وفى (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ) ونحو (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ) ثم قال تعالى (لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا) وانبنى على ذلك المثال أنها لا تطلق حتى تؤخر المقدم
وتقدم المؤخر ، إذ التقدير : إن أكلت فأنت طالق إن شربت ، وجواب الثانى فى هذا
الكلام من حيث المعنى هو الشرط الأول وجوابه ، كما أن الجواب من حيث المعنى فى «أنت
ظالم إن فعلت» ما تقدم على اسم الشرط ، بل قال جماعة : إنه الجواب فى الصناعة
أيضا.
ومن ذلك قوله :
[فمن يك أمسى بالمدينة رحله]
|
|
فإنّى وقيّار
بها لغريب [٧٢٤]
|
وقد تكلّف
بعضهم فى البيت الأول ؛ فزعم أن «نحن» للمعظم نفسه ، وأنّ «راض» خبر عنه ، ولا
يحفظ مثل «نحن قائم» بل يجب فى الخبر المطابقة نحو (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وأما (قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ) فأفرد ثم جمع لأن غير المبتدأ والخبر لا يجب لهما من
التطابق ما يجب لهما.
ذكر أماكن من الحذف يتمرن بها المعرب
حذف الاسم
المضاف ـ (وَجاءَ رَبُّكَ) (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) أى أمره ، لاستحالة الحقيقى ، فأما (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) فالباء للتعدية ، أى أذهب الله نورهم.
ومن ذلك ما نسب
فيه حكم شرعى إلى ذات ، لأن الطلب لا يتعلق إلا بالأفعال نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أى استمتاعهن (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) أى أكلها (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
طَيِّباتٍ) أى تناولها ، لا أكلها ، ليتناول شرب ألبان الإبل (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أى منافعها ، ليتناول الركوب والتحميل ، ومثله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ).
ومن ذلك ما علق
فيه الطلب بما قد وقع نحو (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) فإنهما قولان قد وقعا فلا يتصور فيهما نقض ولا وفاء ،
وإنما المراد الوفاء بمقتضاهما ، ومنه (فَذلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ) إذ الذوات لا يتعلق بها لوم ، والتقدير فى حبه ، بدليل (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أو فى مراودته ، بدليل (تُراوِدُ فَتاها) وهو أولى لأنه فعلها بخلاف الحب (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أى أهل القرية وأهل العير (وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً) أى وإلى أهل مدين بدليل (أَخاهُمْ) وقد ظهر فى (وَما كُنْتَ ثاوِياً
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وأما (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) فقدر النحويون الأهل بعد من وأهلكنا وجاء ، وخالفهم
الزمخشرى فى الأولين ، لأن القرية تهلك ، ووافقهم فى (فَجاءَ) لأجل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ) أى ضعف عذاب الحياة
وضعف عذاب الممات (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ) أى رحمته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) أى عذابه ، بدليل (وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى يضاهى قولهم قول الذين كفروا ، وقال الأعشى :
٨٥٧ ـ ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
|
|
[وبتّ كما بات السّليم مسهّدا]
|
فحذف المضاف
إلى ليلة والمضاف إليه ليلة وأقام صفته مقامه ، أى اغتماض ليلة رجل أرمد ، وعكسه
نيابة المصدر عن الزمان «جئتك طلوع الشّمس» أى وقت طلوعها ، فناب المصدر عن الزمان
، وليس من ذلك «جئتك مقدم الحاج» خلافا للزمخشرى ، بل المقدم اسم لزمن القدوم.
تنبيه ـ إذا
احتاج الكلام إلى حذف مضاف يمكن تقديره مع أول الجزءين ومع ثانيهما فتقديره مع
الثانى أولى ، نحو (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) ونحو (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ) فيكون التقدير : الحجّ حجّ أشهر ، والبر برّ من آمن ،
أولى من أن يقدر : أشهر الحج أشهر ، وذا البر من آمن ، لأنك فى الأول قدرت عند
الحاجة إلى التقدير ، ولأن الحذف من آخر الجملة أولى.
حذف المضاف إليه
يكثر فى ياء المتكلم
مضافا إليها المنادى نحو (رَبِّ اغْفِرْ لِي) وفى الغايات نحو (لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أى من قبل الغلب ومن بعده ، وفى أىّ وكلّ وبعض وغير بعد
ليس ، وربما جاء فى غيرهن ، نحو (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) فيمن ضم ولم ينون ، أى فلا خوف شىء عليهم ، وسمع «سلام
عليكم» فيحتمل ذلك ، أى سلام الله ، أو إضمار أل.
حذف اسمين مضافين
(فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ) أى فإن تعظيمها من أفعال ذوى تقوى القلوب (قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أى من أثر حافر فرس الرسول (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) أى كدوران عين الذى ، وقال رؤبة :
٨٥٨ ـ [فأدرك إرقال العرادة ظلعها]
|
|
وقد جعلتنى
من حزيمة إصبعا
|
__________________
أى ذا مسافة
إصبع
حذف ثلاث متضايفات
(فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ) أى فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ؛ فحذف ثلاثة
من اسم كان ، وواحد من خبرها ، كذا قدره الزمخشرى.
تنبيه ـ للقاب
معنيان : القدر ، وما بين مقبض القوس وطرفيها ، وعلى تفسير الذى فى الآية بالثانى
فقيل : هى على القلب ، والتقدير قابى قوس ، ولو أريد هذا لأغنى عنه ذكر القوس.
حذف الموصول الاسمى
ذهب الكوفيون
والأخفش إلى إجازته ، وتبعهم ابن مالك ، وشرط فى بعض كتبه كونه معطوفا على موصول
آخر ، ومن حجتهم (آمنوا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم) وقول حسان :
٨٥٩ ـ أمن يهجو رسول الله منكم
|
|
ويمدحه
وينصره سواء؟
|
وقول آخر :
٨٦٠ ـ ما الّذى دأبه احتياط وحزم
|
|
وهواه أطاع
يستويان
|
أى والذى أنزل
، ومن يمدحه ، والذى أطاع هواه.
حذف الصّلة
يجوز قليلا
لدلالة صلة أخرى ، كقوله :
٨٦١ ـ وعند الّذى واللّات عدنك إحنة
|
|
عليك ؛ فلا
يغررك كيد العوائد
|
أى الذى عادك ،
أو دلالة غيرها كقوله :
نحن الأولى
فاجمع جمو
|
|
عك ثمّ
وجّههم إلينا [١٢٧]
|
أى نحن الأولى
عرفوا بالشجاعة ، وقال :
٨٦٢ ـ بعد اللّتيّا واللّتيّا والّتى
|
|
إذا علتها
أنفس تردّت
|
فقيل : يقدّر
مع اللّتيّا فيهما نظير الجملة الشرطية المذكورة ، وقيل : يقدّر اللتيا دقّت
واللّتيّا دقت ؛ لأن التصغير يقتضى ذلك ، وصلة الثالثة الجملة الشرطية ،
وقيل : يقدر مع اللتيا فيهما : عظمت ، لا دقت ، وإنه تصغير تعظيم كقوله :
[وكلّ أناس سوف تدخل بينهم]
|
|
دويهية تصفرّ
منها الأنامل [٦٣]
|
حذف الموصوف
قوله تعالى (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أى حور قاصرات (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أى دروعا سابغات (فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أى ضحكا قليلا وبكاء كثيرا ، كذا قيل ، وفيه بحث سيأتى (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أى دين الملة القيمة (وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ) أى ولدار الساعة الآخرة ، قاله المبرد ، وقال ابن
الشجرى : الحياة الآخرة ، بدليل (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ومنه (حَبَّ الْحَصِيدِ) أى حب النبت الحصيد ، وقال سحيم :
أنا ابن جلا
وطلّاع الثّنايا
|
|
[متى أضع العمامة تعرفونى] [٢٦٣]
|
قيل : تقديره
أنا ابن رجل جلا الأمور ، وقيل : جلا علم محكى على أنه منقول من نحو قولك «زيد جلا»
فيكون جملة ، لا من قولك جلا زيد ، ونظيره قوله :
٨٦٣ ـ نبّئت أخوالى بنى يزيد
|
|
ظلما علينا
لهم فديد
|
فيزيد : منقول
من نحو قولك «المال يزيد» لا من قولك يزيد المال ، وإلا لأعرب غير منصرف ، فكان
يفتح ؛ لأنه مضاف إليه.
واختلف فى
المقدر مع الجملة فى نحو «منّا ظعن ومنّا أقام» فأصحابنا يقدرون موصوفا : أى فريق
، والكوفيون يقدرون موصولا ، أى الذى أو من ، وما قدرناه أقيس ؛ لأن اتصال الموصول
بصلته أشدّ من اتصال الموصوف بصفته لتلازمهما ، ومثله «ما منهما مات حتّى لقيته»
نقدره بأحد ، ويقدرونه بمن (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أى إلا إنسان ، أو إلا من ، وحكى الفراء عن بعض
قدمائهم أن الجملة القسمية لا تكون صلة ، وردّه بقوله تعالى (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ).
حذف الصفة
(يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْباً) أى صالحة ، بدليل أنه قرىء كذلك ، وأن تعبيبها لا
يخرجها عن كونها سفينة ؛ فلا فائدة فيه حينئذ (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ) أى سلطت عليه بدليل (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) الآية (قالُوا الْآنَ جِئْتَ
بِالْحَقِّ) أى الواضح ، وإلا لكان مفهومه كفرا (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) وقال :
٨٦٤ ـ [وقد كنت فى الحرب ذا تدرإ
|
|
فلم أعط شيئا
ولم أمنع
|
وقال :
٨٦٥ ـ [وليس لعيشنا هذا مهاه]
|
|
وليست دارنا
هاتا بدار
|
أى من أختها
السابقة ، وبدار طائلة ، ولم أعط شيئا طائلا ؛ دفعا للتناقض فيهن (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى
شَيْءٍ) أى نافع (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا) أى ضعيفا.
حذف المعطوف
ويجب أن يتبعه
العاطف نحو (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أى ومن أنفق من بعده ، دليل التقدير أن الاستواء إنما
يكون بين شيئين ودليل المقدر (أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أى بين أحد وأحد منهم ، وقيل : أحد فيهما ليس بمعنى
واحد مثله فى (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) بل هو الموضوع للعموم ، وهمزته أصلية لا مبدلة من الواو
؛ فلا تقدير ، وردّ بأنه يقتضى حينئذ أن المعرّض بهم وهم الكافرون فرّقوا بين كل
الرسل ، وإنما فرقوا بين محمد عليه الصلاة والسّلام وبين غيره فى النبوة ، وفى
لزوم هذا نظر ، والذى يظهر لى وجه التقدير ، وأن المقدر بين أحد
وبين الله ، بدليل (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) ونحو (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) أى والبرد ، وقد يكون اكتفى عن هذا بقوله سبحانه وتعالى
فى أول السورة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) (وَلَهُ ما سَكَنَ) أى وما تحرك ، وإذا فسر سكن باستقرّ لم يحتج إلى هذا (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) أى فإن أحصرتم فحللتم (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) أى فحلق ففدية (لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أى إيمانها وكسبها ، والآية من اللفّ والنشر وبهذا
التقدير تندفع شبهة المعتزلة كالزمخشرى وغيره ؛ إذ قالوا : سوّى الله تعالى بين
عدم الإيمان وبين الإيمان الذى لم يقترن بالعمل الصالح فى عدم الانتفاع به ، وهذا
التأويل ذكره ابن عطية وابن الحاجب.
ومن القليل حذف
«أم» ومعطوفها كقوله :
[دعانى إليها القلب إنّى لأمره
|
|
مطيع] فما
أدرى أرشد طلابها [٥]
|
أى أم غى ، وقد
مرّ البحث فيه.
حذف المعطوف عليه
(اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) أى فضرب فانفجرت ، وزعم ابن عصفور أن الفاء فى (فَانْفَجَرَتْ) هى فاء فضرب ، وأن فاء (فَانْفَجَرَتْ) حذفت ؛ ليكون على المحذوف دليل ببقاء بعضه ، وليس بشىء
؛ لأن لفظ الفاءين واحد ، فكيف يحصل الدليل؟ وجوّز الزمخشرى ومن تبعه أن تكون فاء
الجواب ، أى : فإن ضربت فقد انفجرت ، ويردّه أن ذلك يقتضى تقدم الانفجار على الضرب
مثل (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) إلا إن قيل : المراد فقد حكمنا بترتّب الانفجار على
ضربك ، وقيل فى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)
: إن أم متصلة ،
والتقدير : أعلمتم أن الجنة حفّت بالمكاره أم حسبتم.
حذف المبدل منه
قيل فى (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) وفى (كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ)
: إن الكذب بدل
من مفعول تصف المحذوف ، أى لما تصفه ، وكذلك فى (رَسُولاً) بناء على أن ما فى (كَما) موصول اسمىّ ، ويردّه أن فيه إطلاق «ما» على الواحد من
أولى العلم ، والظاهر أن ما كافة ، وأظهر منه أنها مصدرية ؛ لإبقاء الكاف حينئذ
على عمل الجر ، وقيل فى (الْكَذِبَ) إنه مفعول إما لتقولوا والجملتان بعده بدل منه ، أى لا
تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة ، وإما لمحذوف ، أى
فتقولون الكذب ، وإما لتصف على أن ما مصدرية والجملتان محكيتا القول ، أى لا
تحللوا وتحرموا لمجرد قول تنطق به ألسنتكم ، وقرىء بالجر بدلا من (مِمَّا) على أنها اسم ، وبالرفع وضم الكاف والذال جمعا لكذوب
صفة للفاعل ، وقد مر أنه قيل فى «لا إله إلّا الله» : إن اسم الله تعالى بدل من
ضمير الخبر المحذوف.
حذف المؤكده بقاء توكيده
قد مرّ أن
سيبويه والخليل أجازاه ، أن أبا الحسن ومن تبعه منعوه .
حذف المبتدأ
يكثر ذلك فى
جواب الاستفهام نحو (وَما أَدْراكَ مَا
الْحُطَمَةُ؟ نارُ اللهِ) أى هى نار الله (وَما أَدْراكَ ما
هِيَهْ؟ نارٌ حامِيَةٌ) (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ) الآيتين (هل أنبئكم بشر من ذلكم؟ النار).
وبعد فاء
الجواب نحو (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أى فعمله لنفسه وإساءته عليها (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أى فهم إخوانكم (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها
وابِلٌ فَطَلٌّ) (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ
قَنُوطٌ) (فَإِنْ لَمْ
__________________
يَكُونا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أى فالشاهد ، وقرأ ابن مسعود (إن تعذبهم فعبادك).
وبعد القول نحو
(وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) الآيات (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ).
وبعد ما الخبر
صفة له فى المعنى نحو (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ) ونحو (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
ووقع فى غير
ذلك أيضا نحو (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ
نَهارٍ ، بَلاغٌ) أى هذا بلاغ ، وقد صرح به فى (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) أى هذه سورة ، ومثله قول العلماء «باب كذا» وسيبويه
يصرح به.
حذف الخبر
(وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أى حل لكم (أُكُلُها دائِمٌ ،
وَظِلُّها) أى دائم ، وأما (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ
أَمِ اللهُ) فلا حاجة إلى دعوى الحذف كما قيل ؛ لصحة كون اعلم خيرا
عنهما ، وأما «أنت أعلم ومالك» فمشكل لأنه إن عطف على أنت لزم كون أعلم خبرا عنهما
، أو على أعلم لزم كونه شريكه فى الخبرية ، أو على ضمير أعلم لزم أيضا نسبة العلم
إليه والعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير توكيد ولا فصل ، وإعمال أفعل فى
الظاهر ، وإن قدر مبتدأ حذف خبره لزم كون المحذوف أعلم ، والوجه فيه أن الأصل
بمالك ، ثم أنيبت الواو مناب الباء قصدا للتشاكل اللفظى ، لا للاشتراك المعنوى ،
كما قصد بالعطف فى نحو (وَأَرْجُلَكُمْ) فيمن خفض على القول بأن الخفض للجوار ، ونظيره «بعت
الشّاة شاة ودرهما» والأصل
شاة بدرهم ، وقالوا «النّاس مجزيّون بأعمالهم ، إن خير فخير» أى إن كان فى
عملهم خير ، فحذفت كان وخبرها ، وقال :
٨٦٦ ـ لهفى عليك للهفة من خائف
|
|
يبغى جوارك
حين ليس مجير
|
أى ليس له ،
وقالوا «من تأتّى أصاب أو كاد ، ومن استعجل أخطأ أو كاد» وقالوا «إنّ مالا وإنّ
ولدا» وقال الأعشى :
إنّ محلا
وإنّ مرتحلا
|
|
[وإنّ فى السّفر إذ مضوا مهلا] [١٢١]
|
أى إن لنا
حلولا فى الدنيا وإلا لنا ارتحالا عنها ، وقد مر البحث فى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ) مستوفى ، وقال تعالى (قالُوا لا ضَيْرَ) أى علينا (وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أى لهم ، وقال الحماسى :
من صدّ عن
نيرانها
|
|
فأنا ابن قيس
لا براح [٣٩٣]
|
وقد كثر حذف
خبر «لا» هذه حتى قيل : إنه لا يذكر ، وقال آخر :
٨٦٧ ـ إذا قيل سيروا إنّ ليلى لعلّها
|
|
جرى دون ليلى
مائل القرن أعضب
|
أى لعلها
قريبة.
ما يحتمل النوعين
يكثر بعد الفاء
نحو (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أى فالواجب كذا ، أو فعليه كذا ، أو فعليكم كذا.
ويأتى فى غيره
نحو (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أى أمرى ، أو أمثل ، ومثله (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أى أمرنا أو أمثل ، ويدل للأول قوله :
٨٦٨ ـ فقالت : على اسم الله ، أمرك
طاعة
|
|
[وإن كنت قد كلفت ما لم أعوّد]
|
__________________
وقد مرّ تجويز
ابن عصفور الوجهين فى «لعمرك لأفعلنّ ، وأيمن الله لأفعلنّ» وغيره جزم بأن ذلك من
حذف الخبر ، وفى «نعم الرّجل زيد» وغيره جزم بأنه إذا جعل على الحذف كان من حذف
المبتدأ.
حذف الفعل وحده
أو مع مضمر مرفوع أو منصوب ، أو معهما
يطّرد حذفه
مفسّرا نحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) والأصل : لو تملكون تملكون ، فلما حذف الفعل انفصل
الضمير ، قاله الزمخشرى وأبو البقاء وأهل البيان ، وعن البصريين أنه لا يجوز «لو
زيد قام» إلا فى الشعر أو الندور نحو «لو ذات سوار لطّمتنى» وقيل : الأصل لو كنتم
، فحذفت كان دون اسمها ، وقيل : لو كنتم أنتم ، فحذفا مثل «التمس ولو خاتما من
حديد» وبقى التوكيد.
ويكثر فى جواب
الاستفهام نحو (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أى ليقولن خلقهن الله (وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم
قالوا خيرا).
وأكثر من ذلك
كله حذف القول ، نحو (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) حتى قال أبو على : حذف القول من حديث البحر قل ولا حرج.
ويأتى حذف
الفعل فى غير ذلك نحو (انْتَهُوا خَيْراً
لَكُمْ) أى وأتوا خيرا ، وقال الكسائى : يكن الانتهاء خيرا ،
وقال الفراء : الكلام جملة واحدة ، وخيرا : نعت لمصدر محذوف ، أى انتهاءا خيرا (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى واعتقدوا الإيمان من قبل هجرتهم. وقال :
٨٦٩ ـ علفتها تبنا وماءا باردا
|
|
[حتّى شتت همّالة عيناها]
|
فقيل : التقدير
وسقيتها ، وقيل : لا حذف ، بل ضمن علفتها معنى أنلتها وأعطيتها وألزموا صحة نحو «علفتها
ماءا باردا وتبنا» فالتزموه محتجّين بقول طرفة :
٨٧٠ ـ أعمرو بن هند ما ترى رأى صرمة]
|
|
لها سبب ترعى
به الماء والشّجر
|
وقالوا «الحمد
لله أهل الحمد» بإضمار أمدح ، وفى التنزيل (وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بإضمار أذم ، ونظائره كثيرة ، وقالوا «أمّا أنت منطلقا
انطلقت» أى لأن كنت منطلقا انطلقت ، وقالوا «لا أكلّمه ما أنّ حراء مكانه ، وما
أنّ فى السّماء نجما» أى ما ثبت ، ويروى «نجم» بالرفع ، فأنّ : فعل ماض بمعنى عرض
، وأصله عنّ.
حذف المفعول
يكثر بعد «لو
شئت» نحو (فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أى فلو شاء هدايتكم ، وبعد نفى العلم ونحوه ، نحو (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ
وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أى أنهم سفهاء (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) وعائدا على الموصول نحو (أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وحذف عائد الموصوف دون ذلك كقوله :
[حميت حمى تهامة بعد نجد]
|
|
وما شىء حميت
بمستباح [١٤٥]
|
وعائد المخبر
عنه دونهما كقوله :
*علىّ ذنبا كلّه لم أصنع* [٣٣٢]
وقوله :
*فثوب لبست وثوب أجرّ * [٧١٩]
وجاء فى غير
ذلك ، نحو (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً) أى فمن لم يجد الرقبة ، فمن لم يستطع الصوم.
ومن غريبه حذف
المقول وبقاء القول نحو (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) أى هو سحر ، بدليل (أَسِحْرٌ هذا) ويكثر حذفه فى الفواصل نحو (وَما قَلى) (وَلا تَخْشى) ويجوز حذف مفعولى أعطى نحو (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) وثانيهما فقط نحو
__________________
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ) ، وأولهما فقط ، خلافا للسهيلىّ ، نحو (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ).
حذف الحال
أكثر ما يرد
ذلك إذا كان قولا أغنى عنه المقول نحو (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أى قائلين ذلك ، ومثله (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ويحتمل أن الواو للحال وأن القول المحذوف خبر ، أى
وإسماعيل يقول ، كما أن القول حذف خبرا للموصول فى (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا) ويحتمل أن الخبر هنا (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) فالقول المحذوف نصب [على الحال] أو رفع خبرا أول ، أو
لا موضع له ؛ لأنه بدل من الصلة ، هذا كله إن كان (الَّذِينَ) للكفار ، والعائد الواو ، فإن كان للمعبودين عيسى
والملائكة والأصنام والعائد محذوف ـ أى اتخذوهم ـ فالخبر (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وجملة القول حال أو بدل.
حذف التمييز
نحو «كم صمت»
أى كم يوما ، وقال تعالى (عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ) (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ) وهو شاذ فى باب نعم نحو «من توضّأ يوم الجمعة فيها
ونعمت» أى فبالرخصة أخذ ونعمت رخصة.
حذف الاستثناء
وذلك بعد إلا
وغير المسبوقين بليس ، يقال : قبضت عشرة ليس إلا ، أو ليس غير ، وقد تقدم ، وأجاز
بعضهم ذلك بعد لم يكن ، وليس بمسموع.
حذف حرف العطف
بابه الشعر
كقول الحطيئة :
٨٧١ ـ إنّ امرأ رهطه بالشّام منزله
|
|
برمل يبرين
جارا شدّ ما اغتربا
|
أى ومنزله برمل
يبرين ، كذا قالوا ، ولك أن تقول : الجملة الثانية صفة ثانية ، لا معطوفة ، وحكى
أبو زيد «أكلت خبزا لحما تمرا» فقيل : على حذف الواو ، وقيل : على بدل الإضراب ،
وحكى أبو الحسن «أعطه درهما درهمين ثلاثة» وخرج على إضمار أو ، ويحتمل البدل
المذكور ، وقد خرج على ذلك آيات ؛ إحداها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ) أى ووجوه ، عطف على (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ) ، والثانية (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فيمن فتح الهمزة ، أى وأنّ الدّين ، عطف على (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وببعده أن فيه فصلا بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب
، وبين المنصوبين بالمرفوع ، وقيل : بدل من أن الأولى وصلتها ، أو من القسط ، أو
معمول للحكيم على أن أصله الحاكم ثم حول للمبالغة ، والثالثة (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ) أى وقلت ، وقيل : بل هو الجواب ، و (تُوَلُّوا) جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فما حالهم إذ ذاك؟ وقيل : (تُوَلُّوا) حال على إضمار قد ، وأجاز الزمخشرى أن يكون (قُلْتَ) استئنافا ، أى إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، ثم قدر أنه
قيل : لم تولوا باكين؟ فقيل : (قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ثم وسط بين الشرط والجزاء.
حذف فاء الجواب
هو مختصّ
بالضرورة ، كقوله :
*من يفعل الحسنات الله يشكرها* [٨١]
وقد مر أن أبا
الحسن خرّج عليه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ).
حذف واو الحال
تقدم فى قوله :
نصف النّهار
الماء غامره [ورفيقه بالغيب لا يدرى] [٧٤٨] أى انتصف النهار والحال أن الماء غامر
هذا الغائص.
حذف قد
زعم البصريون
أن الفعل الماضى الواقع حالا لا بد معه من «قد» ظاهرة نحو (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) أو مضمرة نحو (أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وخالفهم الكوفيون ، واشترطوا ذلك فى الماضى الواقع خبرا
لكان كقوله عليه الصلاة والسّلام لبعض أصحابه «أليس قد صلّيت معنا» ، وقول الشاعر
:
٨٧٢ ـ وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة
|
|
عشيّة لاقينا
جذاما وحميرا
|
وخالفهم
البصريون. وأجاز بعضهم «إن زيدا لقام» على إضمار قد ، وقال الجميع : حقّ الماضى
المثبت المجاب به القسم أن يقرن باللام وقد نحو (تَاللهِ لَقَدْ
آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) وقيل فى (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) إنه جواب للقسم على إضمار اللام وقد جميعا للطول ، وقال
:
حلفت لها
بالله حلفة فاجر
|
|
لناموا ، فما
إن من حديث ولا صال [٢٨٨]
|
فأضمر «قد»
وأما (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) فزعم قوم أنه من ذلك ، وهو سهو ، لأن ظلّوا مستقبل ،
لأنه مرتب على الشرط وساد مسد جوابه ؛ فلا سبيل فيه إلى قد ؛ إذ المعنى ليظلّنّ ،
ولكن النون لا تدخل على الماضى.
حذف لا التبرئة
حكى الأخفش «لا
رجل وامرأة» بالفتح ، وأصله ولا امرأة ، فحذفت لا وبقى البناء للتركيب بحاله.
حذف لا النافية وغيرها
يطرد ذلك فى
جواب القسم إذا كان المنفى مضارعا نحو (تَاللهِ تَفْتَؤُا
تَذْكُرُ يُوسُفَ) وقوله :
٨٧٣ ـ فقلت : يمين الله أبرح قاعدا
|
|
[ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى]
|
وبقل مع الماضى
كقوله :
٨٧٤ ـ فإن شئت آليت بين المقا
|
|
م والرّكن
والحجر الأسود
|
نسيتك مادام
عقلى معى
|
|
أمدّ به أمد
السّرمد
|
ويسهله تقدم لا
على القسم كقوله :
٨٧٥ ـ فلا والله نادى الحىّ قومى
|
|
[طوال الدّهر ما دعى الهديل]
|
وسمع بدون
القسم كقوله :
٨٧٦ ـ وقولى إذا ما أطلقوا عن بعيرهم
:
|
|
يلاقونه حتّى
يؤوب المنخّل
|
وقد قيل به فى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أى لئلا ، وقيل : المحذوف مضاف ، أى كراهة أن تضلوا.
حذف ما النافية
ذكر ابن معطى
ذلك فى جواب القسم ، فقال فى ألفيته :
وإن أتى
الجواب منفيّا بلا
|
|
أو ما كقولى
والسّما ما فعلا
|
فإنّه يجوز
حذف الحرف
|
|
إن أمن
الإلباس حال الحذف
|
قال ابن الخباز
: وما رأيت فى كتب النحو إلّا حذف لا ، وقال لى شيخنا : لا يجوز حذف ما ، لأن
التصرف فى لا أكثر من التصرف فى ما ، انتهى.
وأنشد ابن مالك
:
٨٧٧ ـ فو الله ما نلتم وما نيل منكم
|
|
بمعتدل وفق
ولا متقارب
|
وقال : أصله ما
ما نلتم ، ثم فى بعض كتبه قدر المحذوف «ما» النافية ، وفى بعضها قدره ما الموصولة.
حذف ما المصدرية
قاله أبو الفتح
فى قوله :
بآية يقدمون
الخيل شعثا
|
|
[كأنّ على سنابكها مداما [٦٦١]
|
والصواب أن آية
مضافة إلى الجملة كما مر ، وعكسه قول سيبويه فى قوله :
[ألا من مبلغ عنّى تميما]
|
|
بآية ما
تحبّون الطعاما [٦٦٣]
|
إن ما زائدة ،
والصواب أنها مصدرية.
حذف كى المصدرية
أجازه السيرا
فى نحو «جئت لتكرمنى» وإنما يقدر الجمهور هنا «أن» بعينها ، لأنها أمّ الباب ؛ فهى
أولى بالتجوز.
حذف أداة الاستثناء
لا أعلم أن
أحدا أجازه ، إلا أن السهيلى قال فى قوله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ) الآية : لا يتعلق الاستثناء بفاعل إذ لم ينه عن أن يصل
إلا أن يشاء الله بقوله ذلك ، ولا بالنهى ، لأنك إذا قلت أنت منهىّ عن أن تقوم إلا
أن يشاء الله فلست بمنهى ، فقد سلّطته على أن يقوم ويقول : شاء الله ذلك ، وتأويل
ذلك أن الأصل إلا قائلا إلا أن يشاء الله ، وحذف القول كثير ، اه فتضمن كلامه حذف
أداة الاستثناء والمستثنى جميعا ، والصواب أن الاستثناء مفرّغ ، وأن المستثنى مصدر
أو حال ، أى إلا قولا مصحوبا بأن يشاء الله ، أو إلا متلبسا بأن يشاء الله ، وقد
علم أنه لا يكون القول مصحوبا بذلك إلا مع حرف الاستثناء ، فطوى ذكره لذلك ،
وعليهما فالباء محذوفة من أن ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون (أَنْ يَشاءَ اللهُ) كلمة تأييد ، أى لا تقولّنه أبدا ، كما قيل فى (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) ؛ لأن عودهم فى ملتهم مما لا يشاؤه الله سبحانه. وجوّز الزمخشرى أن يكون
المعنى ولا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه ، ولما قاله مبعد
، وهو أن ذلك معلوم فى كل أمر ونهى ، ومبطل ، وهو أنه يقتضى النهى عن قول إنى فاعل
ذلك غدا مطلقا ، وبهذا يردّ أيضا قول من زعم أن الاستثناء منقطع ، وقول من زعم أن (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) كناية عن التأييد.
حذف لام التوطئة
(وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ) (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) بخلاف (وَإِلَّا تَغْفِرْ
لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ).
حذف الجار
يكثر ويطّرد مع
أنّ وأن نحو (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا) أى بأن ، ومثله (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أى : ولأن المساجد لله (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) أى بأنكم.
وجاء فى غيرهما
نحو : (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أى قدر ناله (وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) أى يبغون لها (إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أى يخوفكم بأوليائه.
وقد يحذف مع
بقاء الجر كقول رؤبة ـ وقد قيل له كيف أصبحت ـ «خير عافاك الله» وقولهم «بكم درهم
اشتريت» ويقال فى القسم «الله لأفعلنّ».
حذف أن الناصبة
هو مطرد فى
موضع معروفة ، وشاذ فى غيرها نحو «خذ اللص قبل يأخذك» و «مره يحفرها» و «لا بدّ من
تتبعها» وقال به سيبوه فى قوله :
٨٧٨ ـ [فلم أر مثلها خباسة واجد]
|
|
ونهنهت نفسى
بعد ما كدت أفعله
|
وقال المبرد :
الأصل أفعلها ، ثم حذفت الألف ونقلت حركة الهاء إلى ما قبلها ، وهذا أولى من قول
سيبويه ، لأنه أضمر أن فى موضع حقها أن لا تدخل فيه صريحا وهو خبر كاد ، واعتد بها
مع ذلك بإبقاء عملها.
وإذا رفع الفعل
بعد إضمار أن سهل الأمر ، ومع ذلك فلا ينقاس ، ومنه (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) و «تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه» وهو الأشهر فى بيت طرفة :
ألا أيّها ذا
الزّاجرى أحضر الوغى
|
|
وأن أشهد
اللّذّات هل أنت مخلدى؟ [٦١٦]
|
وقرىء (أعبد)
بالنصب كما روى «أحضر» كذلك ، وانتصاب (غَيْرِ) فى الآية على القراءتين لا يكون بأعبد ؛ لأن الصلة لا
تعمل فيما قبل الموصول ، بل بتأمرونى ، و (أَنْ أَعْبُدَ) بدل اشتمال منه ، أى تأمرونى بغير الله عبادته.
حذف لام الطلب
هو مطرد عند
بعضهم فى نحو «قل له يفعل» وجعل منه (قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا) وقيل : هو جواب لشرط محذوف ، أو جواب للطلب ، والحقّ أن
حذفها مختص بالشعر كقوله :
محمّد تفد
نفسك كلّ نفس
|
|
[إذا ما خفت من أمر تبالا] [٣٧١]
|
حذف حرف النداء
نحو (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) وشذ فى اسمى الجنس والإشارة فى نحو «أصبح ليل» وقوله :
٨٧٩ ـ [إذا هملت عينى لها قال صاحبى]:
|
|
بمثلك هذا
لوعة وغرام
|
ولحن بعضهم
المتنبى فى قوله :
٨٨٠ ـ هذى برزت لنا فهجت رسيسا
|
|
[ثمّ انثنيت وما شفيت رسيسا]
|
وأجيب بأن «هذى»
مفعول مطلق : أى برزت هذه البررة ، وردّه ابن مالك
بأنه لا يشار إلى المصدر إلا منعوتا بالمصدر المشار إليه كضربته ذلك الضرب
، ويرده بيت أنشده هو ، وهو قوله :
٨٨١ ـ يا عمرو إنّك قد مللت صحابتى
|
|
وصحابتيك
إخال ذاك قليل
|
حذف همزة الاستفهام
قد ذكر فى أول
الباب الأول من هذا الكتاب.
حذف نون التوكيد
يجوز فى نحو «لأفعلن»
فى الضرورة كقوله :
٨٨٢ ـ فلا وأبى لنأتيها جميعا
|
|
ولو كانت بها
عرب وروم
|
ويجب حذف
الخفيفة إذا لقيها ساكن نحو «اضرب الغلام» بفتح الباء ، والأصل اضربن ، وقوله :
لا تهين
الفقير علّك أن
|
|
تركع يوما
والدّهر قد رفعه [٢٥٥]
|
وإذا وقف عليها
تالية ضمة أو كسرة ويعاد حينئذ ما كان حذف لأجلها ، فيقال فى «اضربن يا قوم» :
اضربوا ، وفى «اضربن يا هند» : اضربى ، قيل : وحذفها فى غير ذلك ضرورة كقوله :
٨٨٣ ـ اضرب عنك الهموم طارقها
|
|
ضربك بالسّيف
قونس الفرس
|
وقيل : ربما
جاء فى النثر ، وخرّج بعضهم عليه قراءة من قرأ (أَلَمْ نَشْرَحْ) بالفتح ،
وقيل : إن بعضهم ينصب بلم ويجزم بلن ، ولك أن تقول : لعل المحذوف فيهما
الشديدة ؛ فيجاب بأن تقليل الحذف والحمل على ما ثبت حذفه أولى.
حذف نونى التثنية والجمع
يحذفان للإضافة
نحو (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) و (إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ) ولشبه الإضافة نحو «لا غلامى لزيد» و «لا مكرمى لعمرو»
إذا لم تقدر اللام مقحمة ، ولتقصير الصلة نحو «الضّاربا زيدا ، والضّاربو عمرا»
وللام الساكنة قليلا نحو (لَذائِقُوا الْعَذابِ) فيمن قرأه بالنصب ، وللضرورة نحو قوله :
٨٨٤ ـ هما خطّتا : إمّا إسار ومنّة ،
|
|
وإمّا دم ،
والقتل بالحرّ أجدر
|
[ص ٦٩٩]
فيمن رواه برفع
«إسار ومنة» وأمامن خفض فبالإضافة ، وفصل بين المتضايفين بإمّا ؛ فلم ينفكّ البيت
عن ضرورة ، واختلف فى قوله :
٨٨٥ ـ [ربّ حىّ عرندس ذى طلال]
|
|
لا يزالون
ضاربين القباب
|
فقيل : الأصل :
ضاربين ضاربى القباب ، وقيل للقباب ، كقوله :
*أشارت كليب بالأكفّ الأصابع* [٢]
وقيل : ضاربين
معرب إعراب مساكين ، فنصبه بالفتحة ، لا بالياء.
حذف التنوين
يحذف لزوما
لدخول أل نحو «الرّجل» وللإضافة نحو «غلامك» ولشبهها نحو «لا مال لزيد» إذا لم
تقدر اللام مقحمة ؛ فإن قدرت فهو مضاف ، ولمانع الصرف نحو «فاطمة» وللوقف فى غير
النصب ، وللاتصال بالضمير نحو «ضاربك» فيمن قال إنه غير مضاف ، فأما قوله :
[وما أدرى وظنّى كلّ ظنّى]
|
|
أمسلمنى إلى
قوم شراحى [٥٦٣]
|
فضرورة ، خلافا
لهشام ، ثم هو نون وقاية لا تنوين كقوله :
وليس
الموافينى ليرفد خائبا
|
|
[فإنّ له أضعاف ما كان أمّلا] [٥٦٤]
|
إذ لا يجتمع
التنوين مع ال ، ولكون الاسم علما موصوفا بما اتصل به وأضيف إلى علم ، من ابن
وابنة اتفاقا ، أو بنت عند قوم من العرب ، فأما قوله :
٨٨٦ ـ جارية من قيس بن ثعلبه
|
|
[كريمة أخوالها والعصبه]
|
فضرورة ، ويحذف
لالتقاء الساكنين قليلا كقوله :
فألفيته غير
مستعتب
|
|
ولا ذاكر
الله إلّا قليلا [٧٩٣]
|
وإنما آثر ذلك
على حذفه للإضافة لإرادة تماثل المتعاطفين فى التنكير ، وقرىء (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بترك تنوين أحد وسابق وينصب النهار.
واختلف لم ترك
التنوين فى نحو «قبضت عشرة ليس غير» فقيل : لأنه مبنى كقبل وبعد
، وقيل : لنية الإضافة وإن الضمة إعراب وغير متعينة لأنها اسم ليس ، لا محتملة
لذلك وللخبرية ، ويرده أن هذا التركيب مطرد ، ولا يحذف تنوين مضاف لعير مذكور
باطراد ، إلا إن أشبه فى اللفظ المضاف نحو «قطع الله يد ورجل من قالها» فإن الأول
مضاف للمذكور ، والثانى لمجاورته له مع أنه المضاف إليه فى المعنى كأنه مضاف إليه
لفظا.
حذف أل
تحذف للاضافة
المعنوية ، وللنداء نحو «يا رحمن» إلا من اسم الله تعالى ، والجمل المحكية ، قيل :
والاسم المشبه به نحو «يا الخليفة هيبة» وسمع «سلام عليكم»
__________________
بغير تنوين ؛ فقيل : على إضمار أل ، ويحتمل عندى كونه على تقدير المضاف
إليه ، والأصل سلام الله عليكم ، وقال الخليل فى «ما يحسن بالرّجل خير منك أن يفعل
كذا» هو على نية أل فى خبر ، ويرده أنه لا تجامع من الجارة للمفضول ، وقال الأخفش
: اللام زائدة ، وليس هذا بقياس ، والتركيب قياسى ، وقال ابن مالك : خير بدل ،
وإبدال المشتق ضعيف ، وأولى عندى أن يخرج على قوله :
ولقد أمرّ
على اللّئيم يسبّنى
|
|
[فمضيت ثمّت قلت لا يعنينى] [١٤٢]
|
حذف لام الجواب
وذلك ثلاثة :
حذف لام جواب لو نحو (لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً) وحذف لام لقد ، يحسن مع طول الكلام نحو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وحذف لام لأفعلنّ يختص بالضرورة كقول عامر بن الطّفيل :
٨٨٧ ـ وقتيل مرّة أثأرنّ ؛ فإنّه
|
|
فرغ ، وإنّ
أخاكم لم يثأر
|
حذف جملة القسم
كثير جدا ، وهو
لازم مع غير الباء من حروف القسم ، وحيث قيل «لأفعلنّ» أو «لقد فعل» أو «لئن فعل»
ولم يتقدم جملة قسم فثمّ جملة قسم مقدرة ، نحو (لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً) الآية (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ) (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ) واختلف فى نحو «لزيد قائم» ونحو «إنّ زيدا قائم ، أو
لقائم» هل يجب كونه جوابا لقسم أولا؟
حذف جواب القسم
يجب إذا تقدم
عليه أو اكتنفه ما يغنى عن الجواب ؛ فالأول نحو «زيد قائم والله» ومنه «إن جاءنى
زيد والله أكرمته» والثانى نحو «زيد والله قائم» فإن قلت «زيد والله إنه قائم ، أو
لقائم» احتمل كون المتأخر عنه خبرا عن المتقدم عليه ، واحتمل كونه جوابا وجملة
القسم وجوابه الخبر.
ويجوز فى غير
ذلك ، نحو (وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً) الآيات ، أى لتبعثنّ ، بدليل ما بعده ، وهذا المقدر هو
العامل فى (يَوْمَ تَرْجُفُ) أو عامله اذكر ، وقيل : الجواب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) وهو بعيد لبعده ، ومثله (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أى لنهلكن ، بدليل (كَمْ أَهْلَكْنا) أو إنك لمنذر ، بدليل (بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) وقيل : الجواب مذكور ؛ فقال الأخفش (لَقَدْ عَلِمْنَا) وحذفت اللام للطول مثل (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) وقال ابن كيسان (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ) الآية ، الكوفيون (بَلْ عَجِبُوا) والمعنى لقد عجبوا ، بعضهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) ومثله (ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) أى إنه لمعجز ، أو (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) أو ما الأمر كما يزعمون ، وقيل : مذكور ؛ فقال الكوفيون
والزجاج (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ) وفيه بعد ، الأخفش (إِنْ كُلٌّ إِلَّا
كَذَّبَ الرُّسُلَ) الفراء وثعلب (أَحْرَصَ) لأن معناها صدق الله ، ويرده أن الجواب لا يتقدم ، وقيل
: (كَمْ أَهْلَكْنا) وحذفت اللام للطول.
حذف جملة الشرط
هو مطّرد بعد
الطلب نحو (فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أى فإن تتبعونى يحببكم الله (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ) (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).
وجاء بدونه نحو
(إِنَّ أَرْضِي
واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أى فإن لم يتأت إخلاص العبادة لى فى هذه البلدة فإياى
فاعبدون فى غيرها (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) أى إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولى (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) أى إن صدقتم فيما كنتم تعدون به من أنفسكم فقد جاءكم
بينة وإن كذبتم فلا أحد أكذب منكم فمن أظلم ، وإنما جعلت هذه الآية من حذف جملة
الشرط فقط ـ وهى من حذفها وحذف جملة الجواب ـ لأنه قد ذكر فى اللفظ جملة قائمة
مقام الجواب ، وذلك يسمى جوابا تجوزا كما سيأتى ،
وجعل منه
الزمخشرى وتبعه ابن مالك بدر الدين (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أى إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، ويرده أن الجواب
المنفى بلم لا تدخل عليه الفاء.
وجعل منه أبو
البقاء (فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أى إن أردت معرفته فذلك ، وهو حسن.
وحذف جملة
الشرط بدون الأداة كثير كقوله :
٨٨٨ ـ فطلقها فلست لها بكفء
|
|
وإلّا بعل
مفرقك الحسام
|
أى وإلا
تطلقها.
حذف جملة جواب الشرط
وذلك واجب إن
تقدم عليه أو اكتنفه ما يدلّ على الجواب : فالأول نحو «هو ظالم إن فعل» والثانى
نحو «هو إن فعل ظالم» (وَإِنَّا إِنْ شاءَ
اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ومنه «والله إن جاءنى زيد لأكرمنه» وقول ابن معطى :
*اللّفظ إن يفد هو الكلام*
إما من ذلك
ففيه ضرورة ، وهو حذف الجواب مع كون الشرط مضارعا ، وإما الجواب الجملة الاسمية
وجملتا الشرط والجواب خبر ففيه ضرورة أيضا ، وهى حذف الفاء كقوله :
*من يفعل الحسنات الله يشكرها* [٨١]
ووهم ابن
الخباز إذ قطع بهذا الوجه ، ويجوز حذف الجواب فى غير ذلك نحو (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ
نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) الآية ، أى فافعل (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآية ، أى لما آمنوا به ، بدليل (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) والنحويون يقدرون : لكان هذا القرآن ، وما قدرته أظهر (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أى لارتدعتم وما ألهاكم التكاثر (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أى ما تقبّل منه (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أى لأدرككم (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أى أعرضوا ، بدليل ما بعده (أَإِنْ
ذُكِّرْتُمْ) أى تطيرتم (وَلَوْ جِئْنا
بِمِثْلِهِ مَدَداً) أى لنفد (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أى لرأيت أمرا فظيعا (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أى لهلكتم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) قال الزمخشرى : تقديره ألستم ظالمين ، بدليل (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) ويرده أن جملة الاستفهام لا تكون جوابا إلا بالفاء
مؤخرة عن الهمزة نحو «إن جئتك أفما تحسن إلىّ» ومقدمة على غيرها نحو «فهل تحسن إلى».
تنبيه ـ التحقيق
أن من حذف الجواب مثل (مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) لأن الجواب مسبّب عن الشرط ، وأجل الله آت سواء أوجد
الرجاء أم لم يوجد ، وإنما الأصل فليبادر بالعمل فإن أجل الله لآت ، ومثله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أى فاعلم أنه غنى عن جهرك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ) (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أى فتصبّر (فَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) أى فاصبروا (فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أى يفعل الفواحش والمنكرات (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ) (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) أى يغلب (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ
هُمُ الْغالِبُونَ) (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أى فلا تؤذوهم بقول ولا فعل ؛ فإن الله يسمع ذلك ويعلمه
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أى فلا لوم علىّ (فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ).
حذف الكلام بجملته
يقع ذلك باطراد
فى مواضع :
أحدها : بعد
حرف الجواب ، يقال : أقام زيد؟ فتقول : نعم ، وألم يقم زيد؟ فتقول : نعم ، إن
صدّقت النفى ، وبلى ، إن أبطلته ، ومن ذلك قوله :
٨٨٩ ـ قالوا : أخفت؟ فقلت : إنّ ،
وخيفتى
|
|
ما إن تزال
منوطة برجائى
|
فإن إنّ هنا
بمعنى نعم ، وأما قوله :
ويقلن : شيب
قد علا
|
|
ك وقد كبرت
فقلت : إنّه [٤٩]
|
فلا يلزم كونه
من ذلك ، خلافا لأكثرهم ؛ لجواز أن لا تكون الهاء للسكت ، بل اسما لإنّ على أنها
المؤكدة والخبر محذوف ، أى إنه كذلك.
الثانى : بعد
نعم وبئس إذا حذف المخصوص ، وقيل : إن الكلام جملتان نحو (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ
الْعَبْدُ).
والثالث : بعد
حروف النداء فى مثل (يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ) إذا قيل : إنه على حذف المنادى ، أى يا هؤلاء.
الرابع : بعد
إن الشرطية كقوله :
٨٩٠ ـ قالت بنات العمّ يا سلمى وإن
|
|
كان فقيرا
معدما؟ قالت : وإن
|
أى : وإن كان
كذلك رضيته.
الخامس : فى
قولهم «افعل هذا إمّا لا» أى إن كنت لا تفعل غيره فافعله.
حذف أكثر من جملة
فى غير ما ذكر
، أنشد أبو الحسن :
٨٩١ ـ إن يكن طبّك الدّلال فلو فى
|
|
سالف الدّهر
والسّنين الخوالى
|
أى إن كان
عادتك الدلال فلو كان هذا فيما مضى لاحتملناه منك ، وقالوا فى قوله تعالى (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ،
كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)
: إن التقدير
فضربوه فحيى فقلنا : كذلك يحيى الله ، وفى قوله تعالى (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ) الآية : إن التقدير : فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا
فأرسلوه فأتاه وقال له يا يوسف ؛ وفى قوله تعالى (فَقُلْنَا اذْهَبا
إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ) إن التقدير فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما
فدمرناهم.
تنبيه ـ الحذف
الذى يلزم النحوىّ النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة ، وذلك
بأن يجد خبرا بدون مبتدأ أو بالعكس ، أو شرطا بدون جزاء أو بالعكس ، أو
معطوفا بدون معطوف عليه ، أو معمولا بدون عامل ، نحو (لَيَقُولُنَّ اللهُ) ونحو (قالُوا خَيْراً) ونحو «خير عافاك الله» وأما قولهم فى نحو (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) إن التقدير : والبرد ، ونحو (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ
أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إن التقدير ولم تعبدنى ، ففضول فى فن النحو ، وإنما ذلك
للمفسر ، وكذا قولهم : يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به
أو للخوف عليه أو منه أو نحو ذلك ، فإنه تطفل منهم على صناعة البيان ، ولم أذكر
بعض ذلك فى كتابى جريا على عادتهم ، وأنشد متمثلا :
٨٩٢ ـ وهل أنا إلّا من غزّية : إن غوت
|
|
غويت ، وإن
ترشد غزيّة أرشد
|
بل لأنى وضعت
الكتاب لإفادة متعاطى التفسير والعربية جميعا ، وأما قولهم فى «راكب النّاقة
طليحان» إنه على حذف عاطف ومعطوف ، أى والناقة ، فلازم لهم ؛ ليطابق الخبر المخبر
عنه ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أى أحد طليحين ، وهذا لا يتأتى فى نحو «غلام زيد
ضربتهما».
الباب السادس من الكتاب
فى التحذير من
أمور اشتهرت بين المعربين ، والصواب خلافها.
وهى كثيرة ،
والذى يحضرنى الآن منها عشرون موضعا.
أحدها : قولهم
فى لو «إنها حرف امتناع لامتناع» وقد بيّنا الصواب فى ذلك فى فصل لو ، وبسطنا
القول فيه بما لم نسبق إليه.
والثانى :
قولهم فى إذا غير الفجائية «إنها ظرف لما يستقبل من الزمان وفيها معنى الشرط غالبا»
وذلك معيب من جهات :
إحداها : أنهم
يذكرونه فى كل موضع ، وإنما ذلك تفسير للأداة من حيث
هى ، وعلى المعرب أن يبين فى كل موضع : هل هى متضمنة لمعنى الشرط أم لا؟
وأحسن مما
قالوه أن يقال ، إذا أريد تفسيرها من حيث هى : ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه
صالح لغير ذلك.
والثانية : أن
العبارة التى تلقى للمتدرّبين يطلب فيها الإيجاز لتخف على الألسنة ؛ إذ الحاجة
داعية إلى تكرارها ، وكان أخصر من قولهم لما يستقبل من الزمان أن يقولوا : مستقبل.
والثالثة : أن
المراد أنها ظرف موضوع للمستقبل ، والعبارة موهمة أنها محل للمستقبل ، كما تقول :
اليوم ظرف للسفر ؛ فإن الزمان قد يجعل ظرفا للزمان مجازا كما تقول : كتبته فى يوم
الخميس فى عام كذا ، فإن الثانى حال من الأول ، فهو ظرف له على الاتساع ، ولا يكون
بدلا منه ؛ إذ لا يبدل الأكثر من الأقل على الأصح ، ولو قالوا «ظرف مستقبل» لسلموا
من الإسهاب والإيهام المذكورين.
والرابعة : أن
قولهم «غالبا» راجع إلى قولهم «فيه معنى الشرط» كذا يفسرونه ، وذلك يقتضى أن كونه
ظرفا وكونه للزمان وكونه للمستقبل لا يتخلّفن ، وقد بينا فى بحث إذا أن الأمر
بخلاف ذلك.
الثالث : قولهم
«النعت يتبع المنعوت فى أربعة من عشرة» وإنما ذلك فى النعت الحقيقى ، فأما السببى
فإنما يتبع فى اثنين من خمسة : واحد من أوجه الإعراب ، وواحد من التعريف والتنكير
، وأما الإفراد والتذكير وأضدادهما فهو فيها كالفعل تقول : مررت برجلين قائم
أبواهما ، وبرجال قائم آباؤهم ، وبرجل قائمة أمّه وبامرأة قائم أوها ، وإنما يقول
: قائمين أبواهما ، وقائمين آباؤهم ، من يقول أكلونى البراغيث ، وفى التنزيل (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) غير أن الصفة الرافعة للجمع يجوز فيها فى الفصيح أن
تفرد ، وأن تكسّر ، وهو أرجح على الأصح كقوله :
٨٩٣ ـ بكرت عليه بكرة فوجدته
|
|
قعودا عليه
بالصّريم عواذله
|
وصح الاستشهاد
بالبيت لأن هذا الحكم ثابت أيضا للخبر والحال.
والرابع :
قولهم فى نحو (وَكُلا مِنْها
رَغَداً) «إن رغدا نعت مصدر محذوف» ومثله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً) وقول ابن دريد :
واشتعل
المبيضّ فى مسودّه
|
|
مثل اشتعال
النّار فى جزل الغضا [٦٧٧]
|
أى أكلا رغدا ،
وذكرا كثيرا ، واشتعالا مثل اشتعال النار.
قيل : ومذهب
سيبويه والمحققين خلاف ذلك ، وأن المنصوب حال من ضمير مصدر الفعل ، والأصل فكلاه ،
واشتعله ، أى فكلا الأكل واشتعل الاشتعال ودليل ذلك قولهم «سير عليه طويلا» ولا
يقولون طويل ، ولو كان نعتا للمصدر لجاز ، وبدليل أنه لا يحذف الموصوف إلا والصفة
خاصة بجنسه ، تقول «رأيت كاتبا» ولا تقول : رأيت طويلا ، لأن الكتابة خاصة بجنس
الإنسان دون الطول
وعندى فيما
احتجوا به نظر ؛ أما الأول فلجواز أن المانع من الرفع كراهية اجتماع مجازين : حذف
الموصوف ، وتصيير الصفة مفعولا على السّعة ؛ ولهذا يقولون «دخلت الدّار» بحذف فى
توسعا ، ومنعوا «دخلت الأمر» لأن تعلق الدخول بالمعانى مجاز ، وإسقاط الخافض مجاز
، وتوضيحه أنهم يفعلون ذلك فى صفة الأحيان ؛ فيقولون : سير عليه زمن طويل ، فإذا
حذفوا الزمان قالوا : طويلا ، بالنصب لما ذكرنا ، وأما الثانى فلأن التحقيق أن حذف
الموصوف إنما يتوقف على وجدان الدليل ، لا على الاختصاص ، بدليل (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ
اعْمَلْ سابِغاتٍ) أى دروعا سابغات ، ومما يقدح فى قولهم مجىء نحو قولهم «اشتمل
الصّمّاء» أى الشملة الصماء ، والحالية متعذّرة لتعريفه.
والخامس :
قولهم «الفاء جواب الشرط» والصواب أن يقال : رابطة لجواب الشرط ، وإنما جواب الشرط
الجملة
والسادس :
قولهم «العطف على عاملين» والصواب على معمولى عاملين.
والسابع :
قولهم «بل حرف إضراب» والصواب حرف استدراك وإضراب ؛ فإنها بعد النفى والنهى بمنزلة
لكن سواء.
والثامن :
قولهم فى نحو «ائتنى أكرمك» : إن الفعل مجزوم فى جواب الأمر ، والصحيح أنه جواب
لشرط مقدر ، وقد يكون إنما أرادوا تقريب المسافة على المتعلمين.
والتاسع :
قولهم فى المضارع فى مثل «يقوم زيد» : فعل مضارع مرفوع لخلوه من ناصب وجازم ،
والصواب أن يقال : مرفوع لحلوله محل الاسم ، وهو قول البصريين ، وكأن حاملهم على
ما فعلوا إرادة التقريب ، وإلا فما بالهم يبحثون على تصحيح قول البصريين فى ذلك ،
ثم إذا أعربوا أو عربوا قالوا خلاف ذلك؟.
والعاشر :
قولهم «امتنع نحو سكران من الصرف للصفة والزيادة ، ونحو عثمان للعلمية والزيادة»
وإنما هذا قول الكوفيين ، فأما البصريون فمذهبهم أن المانع الزيادة المشبهة لألفى
التأنيث ، ولهذا قال الجرجانى : وينبغى أن تعدّموا مع الصرف ثمانية لا تسعة ،
وإنما شرطت العلمية أو الصفة لأن الشبه لا يتقوم إلا بأحدهما ، ويلزم الكوفيين أن
يمنعوا صرف نحو عفريت ـ علما ـ فإن أجابوا بأن المعتبر هو زيادتان بأعيانهما ،
سألناهم عن علة الاختصاص ؛ فلا يجدون مصرفا عن التعليل بمشابهة ألفى التأنيث ؛
فيرجعون إلى ما اعتبره البصريون.
والحادى عشر :
قولهم فى نحو قوله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) «إن الواو نائبة عن أو» ولا يعرف ذلك فى اللغة ، وإنما يقوله بعض ضعفاء
المعربين والمفسرين ، وأما الآية فقال أبو طاهر حمزة بن الحسين الإصفهانى فى كتابه
المسمى بـ «الرسالة المعربة عن شرف الإعراب» القول فيها
بأن الواو بمعنى أو عجز عن درك الحق ، فاعلموا أن الأعداد التى تجمع قسمان
: قسم يؤتى به ليضم بعضه إلى بعض وهو الأعداد الأصول ، نحو (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ
فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقسم يؤتى به لا ليضم بعضه إلى بعض ، وإنما يراد به
الانفراد ، لا الاجتماع ، وهو الأعداد المعدولة كهذه الآية وآية سورة فاطر ، وقال
: أى منهم جماعة ذوو جناحين جناحين وجماعة ذوو ثلاثة ثلاثة وجماعة ذوو أربعة أربعة
؛ فكل جنس مفرد بعدد ، وقال الشاعر :
٨٩٤ ـ ولكنّما أهلى بواد أنيسه
|
|
ذئاب تبغّى
النّاس مثنى وموحدا
|
ولم يقولوا
ثلاث وخماس ويريدون ثمانية كما قال تعالى (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) وللجهل بمواقع هذه الألفاظ استعملها المتنبى فى غير
موضع التقسيم ، فقال :
أحاد أم سداس
فى أحاد
|
|
لييلتنا
المنوطة بالتّنادى [٦٠]
|
وقال الزمخشرى
: فإن قلت الذى أطلق للناكح فى الجمع أن يجمع بين اثنين أو ثلاث أو أربع ، فما
معنى التكرير فى مثنى وثلاث ورباع؟ قلت : الخطاب للجميع ؛ فوجب التكرير ليصيب كل
ناكح يريد الجمع ما أراده من العدد الذى أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا
المال درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن
قلت : لم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت : كما جاء بها فى المثال المذكور ، ولو جئت
فيه بأو لأعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس
لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسمة على تثنية وبعضها على تثليث وبعضها على
تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذى دلّت عليه الواو ، وتحريره
أن الواو دلّت على إطلاق أن يأخذ الناكحون
من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع ، إن شاؤوا مختلفين فى تلك
الأعداد وإن شاؤا متفقين فيها ، محظورا عليهم ماوراء ذلك.
وأبلغ من هذه
المقالة فى الفساد قول من أثبت واو الثمانية ، وجعل منها (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وقد مضى فى باب الواو أن ذلك لا حقيقة له ، واختلف فيها
هنا فقيل : عاطفة خبر هو جملة على خبر مفرد ، والأصل هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وقيل
: للاستئناف ، والوقف على سبعة ، وإن فى الكلام تقريرا لكونهم سبعة ، وكأنه لما
قيل سبعة قيل : نعم وثامنهم كلبهم ، واتصل الكلامان ، ونظيره (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا
قَرْيَةً) الآية ، فإن (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) ليس من كلامها ، ويؤيده أنه قد جاء فى المقالتين
الأوليين (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يجىء مثله فى هذه المقالة ؛ فدل على مخالفتها لهما
فتكون صدقا ، ولا يرد ذلك بقوله تعالى (ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) لأنه يمكن أن يكون المراد ما يعلم عدّتهم أوقصتهم قبل
أن نتلوها عليك إلا قليل من أهل الكتاب الذين عرفوه من الكتب ، وكلام الزمخشرى
يقتضى أن القليل هم الذين قالوا سبعة ؛ فيندفع الإشكال أيضا ، ولكنه خلاف الظاهر ،
وقيل : هى واو الحال ، أو الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الاسم
بالصفة كمررت برجل ومعه سيف ، فأما الواو الأولى فلا حقيقة لها ، وأما واو الحال
فأين عامل الحال إن قدرت هم ثلاثة أو هؤلاء ثلاثة ، فإن قيل على التقدير الثانى :
هو من باب (وَهذا بَعْلِي
شَيْخاً) قلنا : العامل المعنوى لا يحذف.
الثانى عشر :
قولهم «المؤنث المجازىّ يجوز معه التذكير والتأنيث» وهذا يتداوله الفقهاء فى
محاورانهم ، والصواب تقييده بالمسند إلى المؤنث المجازى ، وبكون المسند فعلا أو
شبهه ، وبكون المؤنث ظاهرا ، وذلك نحو «طلع الشّمس ، ويطلع الشّمس ، وأطالع الشّمس»
ولا يجوز : هذا الشمس ، ولا هو الشمس ، ولا الشمس
هذا ، أو هو ، ولا يجوز فى غير ضرورة «الشّمس طلع» خلافا لابن كيسان ،
واحتج بقوله :
٨٩٥ ـ [فلا مزنة ودقت ودقها]
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها [ص ٦٧٠]
|
قال : وليس
بضرورة لتمكنه من أن يكون «أبقلت ابقالها» بالنقل ، وردّ بأنا لا نسلم أن هذا
الشاعر ممن لغته تخفيف الهمزة بنقل أو غيره.
الثالث عشر :
قولهم «ينوب بعض حروف الجر عن بعض» وهذا أيضا مما يتداولونه ويستدلون به ، وتصحيحه
بإدخال قد على قولهم ينوب ، وحينئذ فيتعذر استدلالهم به ، إذ كل موضع ادعوا فيه
ذلك يقال لهم فيه : لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة ، ولو صح قولهم لجاز أن
يقال : مررت فى زيد ، ودخلت من عمرو ، وكتبت إلى القلم ، على أن البصريين ومن
تابعهم يرون فى الأماكن التى ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه ، وأن
العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف ؛ لأن التجوز فى الفعل أسهل منه فى الحرف.
الرابع عشر :
قولهم «إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت
المعرفة معرفة أو نكرة كان الثانى عين الأول» وحملوا على ذلك ما روى «لن يغلب عشر
يسرين» قال الزجاج : ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره ؛ فصار المعنى إن مع
اليسر يسرين ، اه. ويشهد للصورتين الأوليين أنك تقول : اشتريت فرسا ثم بعت فرسا ،
فيكون الثانى غير الأول ، ولو قلت. ثم بعت الفرس ، لكان الثانى عين الأول ،
وللرابع قول الحماسى :
٨٩٦ ـ صفحنا عن بنى ذهل
|
|
وقلنا :
القوم إخوان
|
عسى الأيّام
أن يرجعن
|
|
قوما كالّذى
كانوا
|
ويشكل على ذلك
أمور ثلاثة.
أحدها : أن
الظاهر فى آية (أَلَمْ نَشْرَحْ) أن الجملة الثانية تكرار للجملة الأولى ، كما تقول «إنّ
لزيد دارا إن لزيد دارا» وعلى هذا فالثانية عين الأولى.
والثانى : أن
ابن مسعود قال : لو كان العسر فى جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر
يسرين ، مع أن الآية فى قراءته وفى مصحفه مرة واحدة ؛ فدلّ على ما ادعيناه من
التأكيد ، وعلى أنه لم يستفد تكرر اليسر من تكرره ، بل هو من غير ذلك كأن يكون
فهمه مما فى التنكير من التفخيم فتأوله بيسر الدارين
والثالث : أن
فى التنزيل آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة ، فيشكل على الأول قوله تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الآية ، (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) والله إله واحد سبحانه وتعالى ، وعلى الثانى قوله تعالى
(فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) فالصلح الأول خاص ، وهو الصلح بين الزوجين ، والثانى
عام ، ولهذا يستدل بها على استحباب كل صلح جائز ، ومثله (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) والشىء لا يكون فوق نفسه ، وعلى الثالث قوله تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) فإن الملك الأول عام ، والثانى خاص (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ) فإن الأول العمل والثانى الثواب (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) فإن الأولى القاتلة والثانية المقتولة ، وكذلك بقية
الآية. وعلى الرابع (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) وقوله :
٨٩٧ ـ [بلاد بها كنّا وكنّا من أهلها]
|
|
إذ النّاس
ناس والزّمان زمان
|
فإن الثانى لو
ساوى الأول فى مفهومه لم يكن فى الإخبار به عنه فائدة ، وإنما هذا من باب قوله :
__________________
*أنا أبو النّجم وشعرى شعرى* [٥٣٦]
أى وشعرى لم
يتغير عن حالته.
فإذا ادّعى أن
القاعدة فيهن إنما هى مستمرة مع عدم القرينة ، فأمّا إن وجدت قرينة فالتعويل عليها
؛ سهل الأمر.
وفى الكشاف «فإن
قلت : ما معنى لن يغلب عسر يسرين؟ قلت : هذا حمل على الظاهر ، وبناء على قوة
الرجاء ، وأن وعد الله لا يحمل إلا على أبلغ ما يحتمله اللفظ ، والقول فيه أن
الجملة الثانية يحتمل أن تكون تكريرا للأولى كتكرير (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) لتقرير معناها فى النفوس وكتكرير المفرد فى نحو جاء زيد زيد ، وأن تكون الأولى
عدة بأن العسر مردوف باليسر لا محالة ، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع
باليسر لا محالة ؛ فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنما كان العسر واحدا لأن
اللام إن كانت فيه للعهد فى العسر الذى كانوا فيه فهو هو ؛ لأن حكمه حكم زيد فى
قولك «إنّ مع زيد مالا إن مع زيد مالا» وإن كانت للجنس الذى يعلمه كلّ أحد فهو هو
أيضا ، وأما اليسر فمنكّر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثانى مستأنفا فقد
تناول بعضا آخر ، ويكون الأول ما تيسر لهم من الفتوح فى زمنه عليه الصلاة والسّلام
، والثانى ما تيسر فى أيام الخلفاء ، ويحتمل أن المراد بهما يسر الدنيا ويسر
الآخرة مثل (هَلْ تَرَبَّصُونَ
بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وهما الظّفر والثواب» اه ملخصا.
وقال بعضهم :
الحقّ أن فى تعريف الأول ما يوجب الاتحاد ، وفى التنكير يقع الاحتمال ، والقرينة
تعين ، وبيانها هنا أنه عليه الصلاة والسّلام كان هو وأصحابه فى عسر الدنيا ؛
فوسّع الله عليهم بالفتوح والغنائم ، ثم وعد عليه الصلاة والسّلام بأن الآخرة خير
له من الأولى ، فالتقدير : إن مع العسر فى الدنيا يسرا فى الدنيا وإن مع
__________________
العسر فى الدّنيا يسرا فى الآخرة ؛ للقطع بأنه لا عسر عليه فى الآخرة ،
فتحققنا اتحاد العسر ، وتيقّنا أن له يسرا فى الدنيا ويسرا فى الآخرة.
الخامس عشر :
قولهم «يجب أن يكون العامل فى الحال هو العامل فى صاحبها» وهذا مشهور فى كتبهم
وعلى ألسنتهم ، وليس بلازم عند سيبويه ، ويشهد لذلك أمور :
أحدها : قولك «أعجبنى
وجه زيد متبسما ، وصوته قارئا» فإن صاحب الحال معمول للمضاف أو لجار مقدر ، والحال
منصوبة بالفعل.
والثانى قوله :
لمّية موحشا
طلل
|
|
[يلوح كأنّه خلل] [١٢٥]
|
فإن صاحب الحال
عند سيبويه النكرة ، وهو عنده مرفوع بالابتداء ، وليس فاعلا كما يقول الأخفش
والكوفيون ، والناصب للحال الاستقرار الذى تعلق به الظرف.
والثالث : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) فإن (أُمَّةً) حال من معمول إن وهو (أُمَّتُكُمْ) وناصب الحال حرف التنبيه أو اسم الإشارة ، ومثله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) وقال :
ها بيّنا ذا
صريح النّصح فاصغ له
|
|
[وطع فطاعة مهد نصحه رشد] [٨٠١]
|
العامل حرف
التنبيه ، ولك أن تقول : لا نسلم أن صاحب الحال طلل ، بل ضميره المستتر فى الظرف ؛
لأن الحال حينئذ حال من المعرفة ، وأما جواب ابن خروف بأن الظرف إنما يتحمل الضمير
إذا تأخر عن المبتدأ فمخالف لإطلاقهم ولقول أبى الفتح فى :
[ألا يا نخلة من ذات عرق]
|
|
عليك ورحمة
الله السّلام [٥٧٩]
|
إنّ الأولى
حمله على العطف على ضمير الظرف ، لا على تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، وقد
اعترض عليه بأنه تخلّص عن ضرورة بأخرى ، وهى العطف مع عدم الفصل ، ولم يعترض بعدم
الضمير ، وجوابه أن عدم الفصل أسهل ، لوروده فى النثر كـ «مررت برجل سواء والعدم»
حتى قيل : إنه قياس ، وأما جواب ابن مالك بأن الحمل على طلل أولى لأنه ظاهر ،
فإنما يصح لو ساوى الظاهر الضمير فى التعريف ، وأما البواقى فاتّحاد العامل فيها
موجود تقديرا ؛ إذ المعنى أشير إلى أمتكم وإلى صراطى ، وتنبه لصريح النصح بينا ،
وأما مسألتا المضاف إليه فصلاحية المضاف فيهما للسقوط جعل المضاف إليه كأنه معمول
فعل ، وعلى هذا فالشرط فى المسألة اتحاد العامل تحقيقا أو تقديرا.
السادس عشر :
قولهم «يغلّب المؤنث على المذكر فى مسألتين ؛ إحداهما ضبعان فى تثنية ضبع للمؤنث ،
وضبعان للمذكر ؛ إذ لم يقولوا ضبعانان ، والثانية : التأريخ ؛ فإنهم أرّخوا
بالليالى دون الأيام» ذكر ذلك الجرجانى وجماعة ، وهو سهو ، فإن حقيقة التغليب : أن
يجتمع شيئان فيجرى حكم أحدهما على الآخر ، ولا يجتمع الليل والنهار ، ولا هنا
تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما على الآخر ، وإنما أرّخت العرب بالليالى لسبقها ؛ إذ
كانت أشهرهم قمرية ، والقمر إنما يطلع ليلا ، وإنما المسألة الصحيحة قولك : كتبته
لثلاث بين يوم وليلة ، وضابطها : أن يكون معنا عدد مميز بمذكر ومؤنث ، وكلاهما مما
لا يعقل ، وفصلا من العدد بكلمة بين ، قال :
٨٩٨ ـ *فطافت ثلاثا بين يوم وليلة*
السابع عشر :
قولهم فى نحو (خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ) إن السموات مفعول به ، والصواب أنه مفعول مطلق : لأن
المفعول المطلق ما يقع عليه اسم المفعول بلا قيد ، نحو
قولك «ضربت ضربا» والمفعول به ما لا يقع عليه ذلك إلا مقيدا بقولك به كضربت
زيدا ، وأنت لو قلت السّموات مفعول كما تقول الضّرب مفعول كان صحيحا ، ولو قلت
السموات مفعول به كما تقول زيد مفعول به لم يصح.
وقد يعارض هذا
بأن يصاغ لنحو السموات فى المثال اسم مفعول تام ، فيقال : فالسموات مخلوقة ، وذلك
مختص بالمفعول به.
إيضاح آخر :
المفعول به ما كان موجودا قبل الفعل الذى عمل فيه ، ثم أوقع الفاعل به فعلا ،
والمفعول المطلق ما كان الفعل العامل فيه هو فعل إيجاده ، والذى غرّ أكثر النحويين
فى هذه المسألة أنهم يمثلون المفعول المطلق بأفعال العباد ، وهم إنما يجرى على
أيديهم إنشاء الأفعال لا الذوات ، فتوهّموا أن المفعول المطلق لا يكون إلا حدثا ، ولو
مثلوا بأفعال الله تعالى لظهر لهم أنه لا يختص بذلك ؛ لأن الله تعالى موجد للأفعال
والذوات جميعا ، لا موجد لهما فى الحقيقة سواه سبحانه وتعالى ،
وممن قال بهذا الذى ذكرته الجرجانى وابن الحاجب فى أماليه.
وكذا البحث فى «أنشأت
كتابا» و «عمل فلان خيرا» و (آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ).
وزعم ابن
الحاجب فى شرح المفصل وغيره أن المفعول المطلق يكون جملة ، وجعل من ذلك نحو «قال
زيد عمرو منطلق» وقد مضى ردّه ، وزعم أيضا فى «أنبأت زيدا عمرا فاضلا» أن الأول
مفعول به ، والثانى والثالث مفعول مطلق ؛ لأنهما نفس النبأ ، قال : بخلاف الثانى
والثالث فى «أعلمت زيدا عمرا فاضلا» فإنهما متعلقا العلم ، لا نفسه ، وهذا خطأ ؛
بل هما أيضا منبأ بهما ، لا نفس النبأ ، وهذا الذى قاله لم يقله أحد ، ولا يقتضيه
النظر الصحيح.
الثامن عشر :
قولهم فى كاد : إثباتها نفى ، ونفيها إثبات ، فإذا قيل «كاد
__________________
يفعل» فمعناه أنه لم يفعل ، وإذا قيل «لم يكد يفعل» فمعناه أنه فعله ، دليل
الأول (وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وقوله :
٨٩٩ ـ كادت النّفس أن تفيض عليه
|
|
[إذ غدا حشو ريطة وبرود]
|
ودليل الثانى (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وقد اشتهر ذلك بينهم حتى جعله المعرّىّ لغزا فقال :
أنحوىّ هذا
العصر ما هى لفظة
|
|
جرت فى لسانى
جرهم وثمود
|
إذا استعملت
فى صورة الجحد أثبتت
|
|
وإن أثبتت
قامت مقام جحود
|
والصواب أن
حكمها حكم سائر الأفعال فى أن نفيها نفى وإثباتها إثبات ، وبيانه : أن معناها
المقاربة ، ولا شك أن معنى «كاد يفعل» قارب الفعل ، وأن معنى «ما كاد يفعل» ما
قارب الفعل ؛ فخبرها منفى دائما ، أما إذا كانت منفية فواضح ، لأنه إذا انتفت
مقاربة الفعل انتفى عقلا حصول ذلك الفعل ، ودليله (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَراها) ولهذا كان أبلغ من أن يقال «لم يرها» لأن من لم يرقد
يقارب الرؤية ، وأما إذا كانت المقاربة مثبتة فلأن الإخبار بقرب الشىء يقتضى عرفا
عدم حصوله ، وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله ، لا بمقاربة حصوله ؛ إذ لا يحسن فى
العرف أن يقال لمن صلى : قارب الصلاة ، وإن كان ما صلى حتى قارب الصلاة ، ولا فرق
فيما ذكرنا بين كاد ويكاد ، فإن أورد على ذلك (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) مع أنهم قد فعلوا ؛ إذ المراد بالفعل الذبح ، وقد قال
تعالى (فَذَبَحُوها) فالجواب أنه إخبار عن حالهم فى أول الأمر ؛ فإنهم كانوا
أولا بعداء من ذبحها ، بدليل ما يتلى علينا
من تعنتهم وتكرر سؤالهم ، ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة
الفعل أولا ثم فعله بعد ذلك توهّم من توهم أن هذا الفعل بعينه هو الدالّ على حصول
ذلك الفعل بعينه ، وليس كذلك ، وإنما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم فى الآية
من قوله تعالى : (فَذَبَحُوها).
التاسع عشر :
قولهم فى السين وسوف : حرف تنفيس ، والأحسن حرف استقبال ؛ لأنه أوضح ، ومعنى
التنفيس التوسيع ؛ فإن هذا الحرف ينقل الفعل عن الزمن الضيق ـ وهو الحال ـ إلى
الزمن الواسع وهو الاستقبال.
وههنا تنبيهان
ـ أحدهما : أن الزمخشرى قال فى (أُولئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ)
: إن السين مفيدة
وجود الرحمة لا محالة ، فهى مؤكدة للوعد ، واعترضه بعض الفضلاء بأن وجود الرحمة
مستفاد من الفعل ، لامن السين ، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله لا محالة لا إشعار
للسين به ، وأجيب بأن السين موضوعة للدّلالة على الوقوع مع التأخر ، فإن كان المقام ليس مقام تأخر لكونه بشارة تمحّضت لإفادة الوقوع
، وبتحقق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب.
الثانى : قال
بعضهم فى (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ)
: السين
للاستمرار ، لا للاستقبال مثل (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ) فإنها نزلت بعد قولهم : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ) الآية ، ولكن دخلت السين إشعارا بالاستمرار ، اه.
والحق أنها
للاستقبال ، وأنّ (يَقُولُ) بمعنى يستمر على القول ، وذلك مستقبل ؛ فهذا فى المضارع
نظير (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) فى الأمر ، هذا إن سلم أن قولهم سابق على النزول ، وهو
خلاف المفهوم من كلام الزمخشرى ؛ فإنه سأل : ما الحكمة فى الإعلام بذلك قبل وقوعه؟
__________________
تمام العشرين :
قولهم فى نحو «جلست أمام زيد» : إن زيدا مخفوض بالظرف ، والصواب أن يقال : مخفوض
بالإضافة ؛ فإنه لا مدخل فى الخفض لخصوصية كون المضاف ظرفا.
خاتمة ـ ينبغى
للمعرب أن يتخير من العبارات أوجزها وأجمعها للمعنى المراد ؛ فيقول فى نحو ضرب :
فعل ماض لم يسم فاعله ، ولا يقول : مبنى لما لم يسم فاعله ، لطول ذلك وخفائه ، وأن
يقول فى المرفوع به : نائب عن الفاعل ، ولا يقول مفعول ما لم يسم فاعله ، لذلك
ولصدق هذه العبارة على المنصوب من نحو «أعطى زيد دينارا» ألا ترى أنه مفعول لأعطى ،
وأعطى لم يسمّ فاعله؟ وأما النائب عن الفاعل فلا يصدق إلا على المرفوع ، وأن يقول
فى قد : حرف لتقليل زمن الماضى وحدث الآنى ولتحقيق حدثهما ، وفى أما : حرف شرط
وتفصيل وتوكيد ، وفى لم : حرف جزم لنفى المضارع وقلبه ماضيا ، ويزيد فى لمّا
الجازمة متصلا نفيه متوقعا ثبوته ، وفى الواو : حرف عطف لمجرد الجمع ، أو لمطلق
الجمع ، ولا يقول : للجمع المطلق ، وفى حتى : حرف عطف للجمع والغاية ، وفى ثم :
حرف عطف للترتيب والمهلة ، وفى الفاء : حرف عطف للترتيب والتعقيب ، وإذا اختصرت
فيهن فقل : عاطف ومعطوف ، وناصب ومنصوب ، وجازم ومجزوم ، كما تقول : جار ومجرور.
الباب السابع من الكتاب
فى كيفيّة الإعراب
والمخاطب بمعظم هذا الباب المبتدئون
اعلم أن اللفظ
المعبّر عنه إن كان حرفا واحدا عبر عنه باسمه الخاص به أو المشترك
__________________
فيقال فى المتصل بالفعل من نحو «ضربت» : التاء فاعل ، أو الضمير فاعل ، ولا
يقال ت فاعل ، كما بلغنى عن بعض المعلمين ؛ إذ لا يكون اسم [ظاهر] هكذا فأما الكاف
الاسمية فإنها ملازمة للاضافة ، فاعتمدت على المضاف إليه ، ولهذا إذا تكلمت على
إعرابها جئت باسمها فقلت فى [نحو] قوله :
٩٠٠ ـ *وما هداك إلى أرض كعالمها*
الكاف فاعل ،
ولا تقول كـ فاعل ؛ لزوال ما تعتمد عليه ، ويجوز فى نحو «م الله» و «ق نفسك» و «ش
الثّوب» و «ل هذا الأمر» أن تنطق بلفظها فتقول : م مبتدأ ، وذلك على القول بأنها
بعض أيمن ، وتقول : ق فعل أمر ؛ لأن الحذف فيهن عارض ، فاعتبر فيهن الأصل ، وتقول
: الباء حرف جر ، والواو حرف عطف ، ولا تنطق بلفظهما.
وإن كان اللفظ
على حرفين نطق به ؛ فقيل : قد حرف تحقيق ، وهل حرف استفهام ، ونا فاعل أو مفعول ،
والأحسن أن تعبر عنه بقولك : الضمير ؛ لئلا تنطق بالمتصل مستقلا ، ولا يجوز أن
تنطق باسم شىء من ذلك كراهية الإطالة ، وعلى هذا فقولهم «أل» أقيس من قولهم :
الألف واللام ، وقد استعمل التعبير بهما الخليل وسيبويه.
وإن كان أكثر
من ذلك نطق به أيضا ؛ فقيل : سوف حرف استقبال ، وضرب فعل ماض ، وضرب هذا اسم ؛
ولهذا أخبر عنها بقولك فعل ماض ، وإنما فتحت على الحكاية ، يدلّك على ما ذكرنا أن
الفعل ما دلّ على حدث وزمان ، وضرب هنا لا تدل على ذلك ، وأن الفعل لا يخلو عن
الفاعل فى حالة التركيب ، وهذا لا يصح أن يكون له فاعل ، ومما يوضّح لك ذلك أنك
تقول فى زيد من «ضرب زيد» زيد مرفوع بضرب ، أو فاعل بضرب ؛ فتدخل الجار عليه ،
وقال لى
بعضهم : لا دليل فى ذلك ؛ لأن المعنى بكلمة ضرب ، فقلت له : وكيف وقع ضرب
مضافا إليه مع أنه فى ذلك ليس باسم فى زعمك؟ فإن قلت : فإذا كان اسما فكيف أخبرت
عنه بأنه فعل؟ قلت : هو نظير الإخبار فى قولك «زيد قائم» ألا ترى أنك أخبرت عن زيد
باعتبار مسماه ، لا باعتبار لفظه؟ وكذلك أخبرت عن ضرب باعتبار مسمّاه ، وهو ضرب
الدالّ على الحدث والزمان ، فهذا فى أنه لفظ مسماه لفظ كأسماء
السّور وأسماء حروف المعجم ، ومن هنا قلت : حرف التعريف أل ، فقطعت الهمزة ، وذلك
لأنك لما نقلت اللفظ من الحرفية إلى الاسمية أجريت عليه قياس همزات الأسماء ، كما
أنك إذا سميت باضرب قطعت همزته ، وأما قول ابن مالك : إن الإسناد اللفظى يكون فى
الأسماء والأفعال والحروف ، وإن الذى يختص به الاسم هو الإسناد المعنوى ؛ فلا
تحقيق فيه.
وقال لى بعضهم
: كيف تتوهّم أن ابن مالك اشتبه عليه الأمر فى الاسم والفعل والحرف؟ فقلت : كيف
توهّم ابن مالك أن النحويين كافة غلطوا فى قولهم : إن الفعل يحبر به ولا يخبر عنه
، وإن الحرف لا يخبر به ولا عنه ، وممن قلد ابن مالك فى هذا الوهم أبو حيان.
ولا بد للمتكلم
على الاسم أن يذكر ما يقتضى وجه إعرابه كقولك : مبتدأ ، خبر ، فاعل ، مضاف إليه ؛
وأما قول كثير من المعربين مضاف أو موصول أو اسم إشارة فليس بشىء ؛ لأن هذه
الأشياء لا تستحقّ إعرابا مخصوصا ، فالاقتصار فى الكلام عليها على هذا القدر لا
يعلم به موقعها من الإعراب ، وإن كان المبحوث فيه مفعولا عين نوعه ؛ فقيل : مفعول
مطلق ، أو مفعول به ، أو لأجله ، أو معه ، أو فيه ، وجرى اصطلاحهم على أنه إذا قيل
مفعول وأطلق لم يرد إلا المفعول به ، لما كان أكثر المفاعيل دورا فى الكلام خففوا
اسمه ؛ وإنما كان حق ذلك
__________________
أن لا يصدق إلا على المفعول المطلق ، ولكنهم لا يطلقون على ذلك اسم المفعول
إلا مقيدا بقيد الإطلاق ، وإن عين المفعول فيه ـ فقيل : ظرف زمان أو مكان ـ فحسن
ولا بد من بيان متعلقه كما فى الجار والمجرور الذى له متعلق ، وإن كان المفعول به
متعددا عينت كل واحد فقلت : مفعول أول ، أو ثان ، أو ثالث.
وينبغى أن تعين
للمبتدىء نوع الفعل ؛ فتقول : فعل ماض ، أو فعل مضارع أو فعل أمر ، وتقول فى نحو
تلظّى : فعل مضارع أصله تتلظّى ؛ وتقول فى الماضى : مبنى على الفتح ، وفى الأمر :
مبنى على ما يجزم به مضارعه ، وفى نحو (يَتَرَبَّصْنَ) مبنى على السكون لاتصاله بنون الإناث ، وفى نحو (لَيُنْبَذَنَّ)
: مبنى على الفتح
لمباشرته لنون التوكيد ، وتقول فى المضارع المعرب : مرفوع لحلوله محل الاسم ،
وتقول : منصوب بكذا ، أو بإضمار أن ، ومجزوم بكذا ، ويبين علامة الرفع والنصب
والجزم ، وإن كان الفعل ناقصا نصّ عليه فقال مثلا : كان فعل ماض ناقص يرفع الاسم
وينصب الخبر ، وإن كان المعرب حالّا فى غير محله عين ذلك : فقيل فى قائم مثلا من
نحو «قائم زيد» : خبر مقدم ، ليعلم أنه فارق موضعه الأصلىّ ، وليتطلب مبتدأه ، وفى
نحو (وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ)
: الذين مفعول
مقدّم ، ليتطلب فاعله ، وإن كان الخبر مثلا غير مقصود لذاته قيل : خبر موطّئ ؛
ليعلم أن المقصود ما بعده كقوله تعالى (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) وقوله :
كفى بجسمى
نحولا أنّنى رجل
|
|
لو لا
مخاطبتى إيّاك لم ترنى [١٥٩]
|
ولهذا أعيد
الضمير بعد قوم ورجل إلى ما قبلهما ، لا إليهما ، ومثله الحال الموطّئة فى نحو (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا).
وإن كان
المبحوث فيه حرفا بين نوعه ومعناه وعمله إن كان عاملا ، فقال مثلا :
إنّ حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر ، لن : حرف نفى ونصب واستقبال ، أن :
حرف مصدرىّ ينصب الفعل المضارع ، لم : حرف نفى يجزم المضارع ويقلبه ماضيا ، ثم بعد
الكلام على المفردات يتكلم عن الجمل ، ألها محلّ من الإعراب أم لا؟
فصل
وأول ما يحترز
منه المبتدىء فى صناعة الإعراب ثلاثة أمور :
أحدها : أن
يلتبس عليه الأصلى بالزائد ، ومثاله أنه إذا سمع أنّ أل من علامات الاسم ، وأن
أحرف نأيت من علامات المضارع ، وأن تاء الخطاب من علامات الماضى ، وأن الواو
والفاء من أحرف العطف ، وأن الباء واللام من أحرف الجر ، وأن فعل ما لم يسمّ فاعله
مضموم الأول ، سبق وهمه إلى أن ألفيت وألهبت اسمان ، وأن أكرمت وتعلمت مضارعان ،
وأن وعظ وفسخ عاطفان ومعطوفان ، وأن نحو بيت وبين ولهو ولعب كل منهما جار ومجرور ،
وأن نحو أدحرج مبنىّ لما لم يسمّ فاعله ، وقد سمعت من يعرب (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) مبتدأ وخبرا ، فظنهما مثل قولك «المنطلق زيد». ونظير
هذا الوهم قراءة كثير من العوام (نارٌ حامِيَةٌ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بحذف الألف كما تحذف أول السورة فى الوصل فيقال (لخبير
القارعة) وذكر [لى] عن رجل كبير من الفقهاء ممن يقرأ علم العربية أنه استشكل قول
الشريف المرتضى :
٩٠١ ـ أتبيت ريّان الجفون من الكرى
|
|
وأبيت منك
بليلة الملسوع
|
وقال : كيف ضمّ
التاء من تبيت وهى للمخاطب لا للمتكلم؟ وفتحها من أبيت وهو للمتكلم لا للمخاطب ،
فبينت للحاكى أن الفعلين مضارعان ، وأن التاء فيهما لام الكلمة ، وأن الخطاب فى
الأول مستفاد من تاء المضارعة ، والتكلم فى الثانى
__________________
مستفاد من الهمزة ، والأول مرفوع لحلوله محل الاسم ، والثانى منصوب بأن
مضمرة بعد واو المصاحبة على حد قول الحطيئة :
٩٠٢ ـ ألم أك جاركم ويكون بينى
|
|
وبينكم
المودّة والإخاء؟
|
وحكى العسكرى
فى كتاب التصحيف أنه قيل لبعضهم : ما فعل أبوك بحماره؟ فقال : باعه ، فقيل له : لم
قلت باعه؟ قال : فلم قلت أنت بحماره؟ فقال : أنا جررته بالباء ، فقال : فلم تجرّ
باؤك وبائى لا تجر؟
ومثله من
القياس الفاسد ما حكاه أبو بكر التاريخى فى كتاب «أخبار النحويين» أن رجلا قال
لسمّاك بالبصرة : بكم هذه السّمكة؟ فقال : بدرهمان ، فضحك الرجل ، فقال السماك :
أنت أحمق ، سمعت سيبويه يقول : ثمنها درهمان.
وقلت يوما :
ترد الجملة الاسمية الحالية بغير واو فى فصيح الكلام ، خلافا للزمخشرى ، كقوله
تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) فقال بعض من حضر : هذه الواو فى أولها.
وقلت يوما :
الفقهاء يلحنون فى قولهم «البايع» بغير همز ، فقال قائل : فقد قال الله تعالى (فَبايِعْهُنَّ).
وقال الطبرى فى
قوله تعالى (أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ)
: إن ثم بمعنى
هنالك.
وقال جماعة من
المعربين فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) فى قراءة ابن عامر وأبى بكر بنون واحدة : إن الفعل ماض
، ولو كان كذلك لكان آخره مفتوحا ، والمؤمنين مرفوعا.
فإن قيل : سكنت
الياء للتخفيف كقوله :
٩٠٣ ـ *هو الخليفة فارضوا ما رصى لكم*
وأقيم ضمير
المصدر مقام الفاعل.
قلنا : الإسكان
ضرورة ، وإقامة غير المفعول به مقامه مع وجوده ممتنعة ، بل إقامة ضمير المصدر
ممتنعة ، ولو كان وحده ؛ لأنه مبهم.
ومما يشتبه نحو
(تُوَلُّوا) بعد الجازم والناصب ، والقرائن تبين ؛ فهو فى نحو (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ
اللهُ) ماض ، وفى نحو (وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ
ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) مضارع ، وقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الأول أمر ، والثانى مضارع ؛ لأن النهى لا يدخل على
الأمر ، و (تَلَظَّى) فى (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى) مضارع ، وإلا لقيل : تلظّت ، وكذا تمنّى من قوله :
تمنّى ابنتاى
أن يعيش أبوهما
|
|
[وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر]؟ [٨٠٦]
|
ووهم ابن مالك
فجعله ماضيا من باب.
[فلا مزنة ودقت ودقها]
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها [٨٩٥]
|
وهذا حمل على
الضرورة من غير ضرورة.
ومما يلتبس على
المبتدىء أن يقول فى نحو «مررت بقاض» إن الكسرة علامة الجر ، حتى إن بعضهم يستشكل
قوله تعالى (لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) وقد سألنى بعضهم عن ذلك فقال : كيف عطف المرفوع على
المجرور؟ فقلت : فهلا استشكلت ورود الفاعل مجرورا ، وبينت له أن الأصل زانى بياء
مضمومة ، ثم حذفت الضمة للاستثقال ، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة هى والتنوين ؛
فيقال فيه : فاعل ، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة ، ويقال فى نحو «مررت
بقاض» : جار ومجرور ، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة ، وفى نحو (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) والفجر جار ومجرور ، وليال عاطف
ومعطوف ، وعلامة جرّه فتحه مقدرة على الياء المحذوفة ، وإنما قدرت الفتحة
مع خفتها لنيابتها عن الكسرة ، ونائب الثفيل ثقيل ؛ ولهذا حذفت الواو فى يهب كما
حذفت فى يعد ، ولم تحذف فى يوجل ، لأن فتحته ليست نائبة عن الكسرة ، لأن ماضيه وجل
بالكسر فقياس مضارعه الفتح ، وماضيهما فعل بالفتح فقياس مضارعهما الكسر ، وقد جاء
يعد على ذلك ، وأما يهب فإن الفتحة فيه عارضة لحرف الحلق.
ومن هنا أيضا
قال أبو الحسن فى يا غلاما : يا غلام ، بحذف الألف وإن كانت أخف الحروف ، لأن
أصلها الياء.
ومن ذلك أن
يبادر فى نحو المصطفين والأعلين إلى الحكم بأنه مثنى ، والصوب أن ينظر أولا فى
نونه ، فإن وجدها مفتوحة كما فى قوله تعالى (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا
لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) حكم بأنه جمع ، وفى الآية دليل ثان ، وهو وصفه بالجمع ،
وثالث وهو دخول من التبعيضية عليه بعد (وَإِنَّهُمْ) ومحال أن يكون الجمع من الاثنين ، وقال الأحنف [بن قيس]
:
٩٠٤ ـ تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم
|
|
ولن تستطيع
الحلم حتّى تحلّما
|
ومن ذلك أن
يعرب الياء والكاف والهاء فى نحو «غلامى أكرمنى ، وغلامك أكرمك ، وغلامه أكرمه»
إعرابا واحدا ، أو بعكس الصواب ، فليعلم أنهن إذا اتصلن بالفعل كن مفعولات ، وإن
اتصلن بالاسم كن مضافا إليهن ، ويستثنى من الأول ، نحو «أرأيتك زيدا ما صنع ،
وأبصرك زيدا» فإن الكاف فيهما حرف خطاب ، ومن الثانى نوعان : نوع لا محل فيه لهذه
الألفاظ ، وذلك نحو قولهم «ذلك ، وتلك ، وإيّاى ، وإيّاك ، وإيّاه» فإنهن أحرف
تكلم وخطاب وغيبة ، ونوع هى فيه فى محل نصب ، وذلك نحو «الضّاربك ،
والضّاربه» على قول سيبويه ؛ لأنه لا يضاف الوصف الذى بأل إلى عار منها ،
ونحو قولهم «لا عهد لى بألأم قفا منه ولا أوضعه» بفتح العين ، فالهاء فى موضع نصب
كالهاء فى «الضاربه» إلا أن ذلك مفعول ، وهذا مشبه بالمفعول ؛ لأن اسم التفضيل لا
ينصب المفعول إجماعا ، وليست مضافا إليها وإلا لخفض «أوضع» بالكسرة ، وعلى ذلك
فإذا قلت «مررت برجل أبيض الوجه لا أحمره» فإن فتحت الراء فالهاء منصوبة المحل ،
وإن كسرتها فهى مجرورته ومن ذلك قوله :
٩٠٥ ـ [فإن يكن النّكاح أحلّ شىء]
|
|
فإنّ نكاحها
مطر حرام
|
فيمن رواه بجر
مطر ؛ فالضمير منصوب على المفعولية ، وهو فاصل بين المتضايفين
تنبيه ـ إذا
قلت «رويدك زيد» فإن قدرت رويدا اسم فعل فالكاف حرف خطاب ، وإن قدرته مصدرا فهو
اسم مضاف إليه ، ومحله الرفع ؛ لأنه فاعل.
والثانى : أن
يجرى لسانه على عبارة اعتادها فيستعملها فى غير محلها ، كأن يقول فى «كنت ،
وكانوا» فى الناقصة : فعل وفاعل ؛ لما ألف من قول ذلك فى نحو فعلت وفعلوا ، وأما
تسمية الأقدمين الاسم فاعلا والخبر مفعولا فهو اصطلاح غير مألوف ، وهو مجاز ،
كتسميتهم الصورة الجميلة دمية ، والمبتدىء إنما يقوله على سبيل الغلط ؛ فلذلك يعاب
عليه.
والثالث : أن
يعرب شيئا طالبا لشىء ، ويهمل النظر فى ذلك المطلوب ، كأن يعرب فعلا ولا يتطلب
فاعله ، أو مبتدأ ولا يتعرض لخبره ، بل ربما مر به فأعربه بما لا يستحقه ونسى ما
تقدم له.
فإن قلت : فهل
من ذلك قول الزمخشرى فى قوله تعالى (وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ
__________________
أَنْفُسُهُمْ) الآية : قد أهمتهم : صفة لطائفة ، ويظنون : صفة أخرى ،
أو حال بمعنى قد أهمتهم أنفسهم ظانين ، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها ،
ويقولون : بدل من يظنون ، فكأنه نسى المبتدأ ؛ فلم يجعل شيئا من هذه الجملة خبرا
له.
قلت : لعله رأى
أن خبره محذوف ، أى ومعكم طائفة صفتهم كيت وكيت ، والظاهر أن الجملة الأولى خبر ،
وأن الذى سوّغ الابتداء بالنكرة صفة مقدرة ، أى وطائفة من غيركم ، مثل «السّمن
منوان بدرهم» أى منه ، أو اعتماده على واو الحال كما جاء فى الحديث «دخل عليه
الصّلاة والسّلام وبرمة على النّار».
وسألت كثيرا من
الطلبة عن إعراب «أحقّ ما سأل العبد مولاه» فيقولون : مولاه مفعول ، فيبقى لهم
المبتدأ بلا خبر ، والصواب أنه الخبر ، والمفعول العائد المحذوف : أى سأله ، وعلى
هذا فيقال : أحقّ ما سأل العبد ربّه ، بالرفع ، وعكسه «إنّ مصابك المولى قبيح»
يذهب الوهم فيه إلى أن المولى خبر ، بناء على أن المصاب اسم مفعول ، وإنما هو
مفعول ، والمصاب مصدر بمعنى الإصابة ، بدليل مجىء الخبر بعده ، ومن هنا أخطأ من
قال فى مجلس الواثق بالله فى قوله :
أظلوم إنّ
مصابكم رجلا
|
|
أهدى السّلام
تحيّة ظلم [٧٨٢]
|
إنه برفع رجل ،
وقد مضت الحكاية.
تنبيه ـ قد
يكون للشىء إعراب إذا كان وحده ؛ فإذا اتصل به شىء آخر تغير إعرابه ؛ فينبغى
التحرز فى ذلك.
من ذلك «ما أنت
، وما شأنك» فإنهما مبتدأ وخبر ، إذا لم تأت بعدهما بنحو قولك «وزيدا» فإن جئت به
فأنت مرفوع بفعل محذوف ، والأصل : ما تصنع ، أو ما تكون ، فلما حذف الفعل برز
الضمير وانفصل ، وارتفاعه بالفاعلية ، أو على أنه اسم لكان ، وشأنك بتقدير ما يكون
، وما فيهما فى موضع نصب خبرا
ليكون ، أو مفعولا لتصنع. ومثل ذلك «كيف أنت وزيدا» إلا أنك إذا قدرت تصنع
كان «كيف» حالا ؛ إذ لا تقع مفعولا به.
وكذلك يختلف
إعراب الشىء باعتبار المحل الذى يحل فيه ، وسألت طالبا : ما حقيقة كان إذا ذكرت فى
قولك «ما أحسن زيدا؟» فقال : زائدة ، بناء منه على أن المثال المسئول عنه «ما كان
أحسن زيدا» وليس فى السؤال تعيين ذلك ، والصواب الاستفصال ؛ فإنها فى هذا الموضع
زائدة كما ذكر ، وليس لها اسم ولا خبر ؛ لأنها [قد] جرت مجرى الحروف ، كما أن قلّ
فى «قلّما يقوم زيد» لما استعملت استعمال ما النافية لم تحتج لفاعل ، هذا قول
الفارسى والمحققين ، وعند أبى سعيد [هى] تامة وفاعلها ضمير الكون ، وعند بعضهم هى
ناقصة ، واسمها ضمير ما ، والجملة بعدها خبرها. وإن ذكرت بعد فعل التعجب وجب
الإتيان قبلها بما المصدرية وقيل «ما أحسن ما كان زيد» وكان تامة ، وأجاز بعضهم
أنها ناقصة على تقدير ما اسما موصولا ، وأن ينصب زيد على أنه الخبر ، أى ما أحسن
الذى كان زيدا ، وردّ بأن «ما أحسن زيدا» مغن عنه.
الباب الثامن من الكتاب
فى ذكر أمور
كلّية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصّور الجزئية وهى إحدى عشرة قاعدة :
القاعدة الأولى
قد يعطى الشىء
حكم ما أشبهه : فى معناه ، أو فى لفظه ، أو فيهما.
فأما الأول فله
صور كثيرة :
إحداها : دخول
الباء فى خبر أنّ فى قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) لأنه فى معنى أو ليس الله بقادر ، وللذى سهل ذلك
التقدير تباعد ما بينهما ، ولهذا لم تدخل فى (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ).
ومثله إدخال
الباء فى (كَفى بِاللهِ
شَهِيداً) لما دخله من معنى اكتف بالله شهيدا ، بخلاف قوله :
قليل منك
يكفينى ، ولكن
|
|
[قليلك لا يقال له قليل] [١٥٢]
|
وفى قوله :
[هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة]
|
|
سود المحاجر
لا يقرأن بالسّور [٣٢]
|
لما دخله من
معنى لا يتقربن بقراءة السور ، ولهذا قال السهيلى : لا يجوز أن تقول «وصل إلىّ
كتابك فقرأت به» على حد قوله :
*لا يقرأن بالسّور*
لأنه عار عن
معنى التقرب.
والثانية :
جواز حذف خبر المبتدأ فى نحو «إنّ زيدا قائم وعمرو» اكتفاء بخبر إن ، لما كان «إن
زيدا قائم» فى معنى زيد قائم ؛ ولهذا لم يجز «ليت زيدا قائم وعمرو».
والثالثة :
جواز «أنا زيدا غير ضارب» لما كان فى معنى أنا زيدا لا أضرب ، ولو لا ذلك لم يجز ؛
إذ لا يتقدم المضاف إليه على المضاف. فكذا لا يتقدم معموله ، لا تقول «أنا زيدا
أوّل ضارب ، أو مثل ضارب» ودليل المسألة قوله تعالى (وَهُوَ فِي الْخِصامِ
غَيْرُ مُبِينٍ) وقول الشاعر :
٩٠٦ ـ فتى هو حقّا غبر ملغ تولّه
|
|
ولا تتّخذ
يوما سواه خليلا
|
__________________
وقوله :
٩٠٧ ـ إنّ امرأ خصّنى يوما مودّته
|
|
على التّنائى
لعندى غير مكفور
|
ويحتمل أن يكون
منه (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) ويحتمل تعلق (عَلَى) بعسير ، أو بمحذوف هو نعت له ، أو حال من ضميره.
ولو قلت «جاءنى
غير ضارب زيدا» لم يجز التقديم ؛ لأن النافى هنا لا يحل مكان غيره.
والرابعة :
جواز «غير قائم الزّيدان» لما كان فى معنى ما قائم الزيدان ، ولو لا ذلك لم يجز ؛
لأن المبتدأ إما أن يكون ذا خبر أو ذا مرفوع يغنى عن الخبر ، ودليل المسألة قوله :
٩٠٨ ـ غير لاه
عداك فاطّرح اللهو ، ولا تغترر بعارض سلم وهو أحسن ما قيل فى بيت أبى نواس :
غير مأسوف
على زمن
|
|
ينقضى بالهمّ
والحزن [٢٦٢]
|
والخامسة :
إعطاؤهم «ضارب زيد الآن أو غدا» حكم «ضارب زيدا» فى التنكير ؛ لأنه فى معناه ،
ولهذا وصفوا به النكرة ، ونصبوه على الحال ، وخفضوه بربّ ، وأدخلوا عليه أل ،
وأجاز بعضهم تقديم حال مجروره عليه نحو «هذا ملتوتا شارب السّويق» كما يتقدم عليه
حال منصوبه ، ولا يجوز شىء من ذلك إذا أريد المضىّ ؛ لأنه حينئذ ليس فى معنى
الناصب.
والسادسة : وقع
الاستثناء المفرّغ فى الإيجاب فى نحو (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ
إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ) لما كان المعنى وإنها لا تسهل إلا على الخاشعين ، ولا
يريد الله إلا أن يتم نوره.
السابعة :
العطف بولا بعد الإيجاب فى نحو :
٩٠٩ ـ [فما سوّدتنى عامر عن وراثة]
|
|
أبى الله أن
اسمو بأمّ ولا أب
|
لما كان معناه
قال الله لى : لا تسم بأم ولا أب.
الثامنة :
زيادة لا فى قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ) قال ابن السيد : المانع من الشىء آمر للممنوع أن لا
يفعل ، فكأنه قيل : ما الذى قال لك لا تسجد ، والأقرب عندى أن يقدر فى الأول لم
يرد الله لى ، وفى الثانى ما الذى أمرك ، يوضّحه فى هذا أن الناهية لا نصاحب
الناصبة ، بخلاف النافية.
التاسعة :
تعدّى رضى بعلى فى قوله :
إذا رضيت
علىّ بنو قشيّر
|
|
[لعمر الله أعجبنى رضاها] [٢٢٣]
|
لما كان رضى
عنه بمعنى أقبل عليه بوجه ودّه ، وقال الكسائى : إنما جاز هذا حملا على نقيضه وهو
سخط.
العاشرة : رفع
المستثنى على إبداله من الموجب فى قراءة بعضهم (فشربوا منه إلا قليل) لما كان
معناه فلم يكونوا منه ، بدليل (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي) وقيل : إلا وما بعدها صفة ، فقيل : إن الضمير يوصف فى
هذا الباب ، وقيل : مرادهم بالصفة عطف البيان ، وهذا لا يخلص من الاعتراض إن كان
لازما ؛ لأن عطف البيان كالنعت فلا يتبع الضمير ، وقيل : قليل مبتدأ حذف خبره ، أى
لم يشربوا.
الحادية عشرة :
تذكير الإشارة فى قوله تعالى (فَذانِكَ بُرْهانانِ) مع أن المشار إليه اليد والعصا وهما مؤنثان ، ولكن
المبتدأ عين الخبر فى المعنى والبرهان مذكر ، ومثله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) فيمن نصب الفتنة وأنّث الفعل.
الثانية عشرة :
قولهم «علمت زيد من هو» برفع زيد جوازا ؛ لأنه نفس من فى المعنى.
الثالثة عشرة :
قولهم «إنّ أحدا لا يقول ذلك» فأوقع أحدا فى الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر فى
يقول ، والضمير فى سياق النفى فكان أحد كذلك ، وقال :
فى ليلة لا
ترى بها أحدا
|
|
يحكى علينا
إلّا كواكبها [٢٢٤]
|
فرفع كواكبها
بدلا من ضمير يحكى ؛ لأنه راجع إلى «أحدا» ، وهو واقع فى سياق غير الإيجاب ؛ فكان
الضمير كذلك.
وهذا الباب
واسع ، ولقد حكى أبو عمرو بن العلاء أنه سمع شخصا من أهل اليمن يقول : فلان لغوب
أتته كتابى فاحتقرها ، فقال له : كيف قلت أتته كتابى؟ فقال : أليس الكتاب فى معنى
الصحيفة؟.
وقال أبو عبيدة
لرؤبة بن العجاج لما أنشد :
٩١٠ ـ فيها خطوط من سواد وبلق
|
|
كأنّه فى
الجلد توليع البهق
|
إن أردت الخطوط
فقل : كأنها ، أو السواد والبلق فقل : كأنهما ، فقال : أردت ذلك ويلك.
وقالوا «مررت
برجل أبى عشرة نفسه ، وبقوم عرب كلّهم ، وبقاع عرفج كلّه» برفع التوكيد فيهنّ ،
فرفعوا الفاعل بالأسماء الجامدة ، وأكدوه لما لحظوا فيها المعنى ؛ إذ كان العرب
بمعنى الفصحاء ، والعرفح بمعنى الخشن ، والأب بمعنى الولد.
تنبيهان ـ الأول
: أنه وقع فى كلامهم أبلغ مما ذكرنا من تنزيلهم لفظا موجودا منزلة لفظ آخر لكونه
بمعناه ، وهو تنزيلهم اللفظ [المعدوم] الصالح للوجود بمنزلة الموجود كما فى قوله :
بدالى أنّى
لست مدرك ما مضى
|
|
ولا سابق
شيئا إذا كان جائيا [١٣٥]
|
وقد مضى ذلك.
والثانى : أنه
ليس بلازم أن يعطى الشىء حكم ما هو فى معناه ، ألا ترى أن المصدر قد لا يعطى حكم
أنّ أو أن وصلتهما ، وبالعكس ، دليل الأول أنهم لم يعطوه حكمهما فى جواز حذف الجار
، ولا فى سدّهما مسدّ جزءى الإسناد ، ثم إنهم شركوا بين أنّ وأن فى هذه المسألة فى
باب ظن ، وخصّوا أن الخفيفة وصلتها بسدها مسدهما فى باب عسى ، وخصوا الشديدة بذلك
فى باب لو ، ودليل الثانى أنهما لا يعطيان حكمه فى النيابة عن ظرف الزمان ، تقول :
عجبت من قيامك ، وعجبت أن تقوم ، وأنك قائم ، ولا يجوز : عجبت قيامك ، وشذ قوله :
٩١١ ـ فإيّاك إيّاك المراء فإنّه
|
|
إلى الشّرّ
دعّاء وللشّرّ جالب
|
فأجرى المصدر
مجرى أن يفعل فى حذف الجار ، وتقول «حسبت أنه قائم ، أو أن قام» ولا تقول «حسبت
قيامك» حتى تذكر الخبر ، وتقول «عسى أن تقوم» ويمتنع : عسى أنك قائم ، ومثلها فى
ذلك لعل ، وتقول : لو أنّك تقوم ، ولا تقول لو أن تقوم ، وتقول : جئتك صلاة العصر
، ولا يجوز «جئتك أن تصلى العصر» خلافا لابن جنى والزمخشرى.
والثانى ـ وهو
ما أعطى حكم الشىء المشبه له فى لفظه دون معناه ـ له صور كثيرة أيضا :
أحدها : زيادة
إن بعد ما المصدرية الظرفية ؛ وبعد ما التى بمعنى الذى ؛ لأنهما بلفظ ما النافية
كقوله :
ورجّ الفتى
للخير ما إن رأيته
|
|
على السّنّ
خيرا لا يزال يزيد [٢٧]
|
وقوله :
يرجّى المرء
ما إن لا يراه
|
|
وتعرض دون
أدناه الخطوب [٢٦]
|
فهذان محمولان
على نحو قوله :
٩١٢ ـ ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
|
|
كاليوم هانىء
أينق جرب
|
الثانية : دخول
لام الابتداء على ما النافية ، حملا لها فى اللفظ على ما الموصولة الواقعة مبتدأ ،
كقوله :
٩١٣ ـ لما أغفلت شكرك فاصطنعنى
|
|
فكيف ومن
عطائك جلّ مالى؟
|
فهذا محمول فى
اللفظ على نحو قولك «لما تصنعه حسن».
الثالثة :
توكيد المضارع بالنون بعد لا النافية حملا لها فى اللفظ على لا الناهية نحو (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) ونحو (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فهذا محمول فى اللفظ على نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) ومن أوّلها على النهى لم يحتج إلى هذا.
الرابعة : حذف
الفاعل فى نحو قوله تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ) لما كان «أحسن بزيد» مشبها فى اللفظ لقولك «امرر بزيد».
الخامسة : دخول
لام الابتداء بعد إنّ التى بمعنى نعم ، لشبهها فى اللفظ بإنّ المؤكدة ، قاله بعضهم
فى قراءة من قرأ (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) وقد مضى البحث فيها.
السادسة :
قولهم «الّلهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة» بضم أية ورفع صفتها كما يقال «يا أيّتها
العصابة» وإنما [كان] حقهما وجوب النصب كقولهم «نحن العرب أقرى النّاس للضّيف»
ولكنها لما كانت فى اللفظ بمنزلة المستعملة فى النداء أعطيت حكمها وإن انتفى موجب
البناء ، وأما «نحن العرب» فى المثال فإنه لا يكون منادى ؛ لكونه بأل ، فأعطى
الحكم الذى يستحقه فى نفسه ، وأما نحو «نحن معاشر الأنبياء لا ورث» فواجب النصب ،
سواء اعتبر حاله أو حال ما يشبهه وهو المنادى.
السابعة : بناء
باب حذام فى لغة الحجاز على الكسر ، تشبيها لها بدراك ونزال ، وذلك مشهور فى
المعارف ، وربما جاء فى غيرها ، وعليه وجّه قوله :
٩١٤ ـ يا ليت حظّى من جداك الصّافى
|
|
والفضل أن
تتركنى كفاف
|
فالأصل كفافا ،
فهو حال ، أو ترك كفاف ، فمصدر ، ومنه عند أبى حاتم قوله :
٩١٥ ـ جاءت لتصرعنى ، فقلت لها :
اقصرى
|
|
إنّى امرؤ
صرعى عليك حرام
|
وليس كذلك ؛ إذ
ليس لفعله فاعل أو فاعلة ، فالأولى قول الفارسى إن أصله «حرامىّ» كقوله :
[أطربا وأنت قنّسرىّ]
|
|
والدّهر
بالإنسان دوّارىّ [١٢]
|
ثم خفف ، ولو
أقوى لكان أولى ، وأما قوله :
طلبوا صلحنا
ولات أوان
|
|
فأجبنا أن
ليس حين يقاء [٤١٣]
|
فعلة بنائه
قطعه عن الإضافة ، ولكن علة كسره وكونه لم يسلك به فى الضم مسلك قبل وبعد شبهه
بنزال.
الثامنة : بناء
حاشا فى (وَقُلْنَ حاشَ
لِلَّهِ) لشبهها فى اللفظ بحاشا الحرفية ، والدليل على اسميتها
قراءة بعضهم (حاشا) بالتنوين على إعرابها كما تقول «تنزيها لله» وإنما قلنا إنها
ليست حرفا لدخولها على الحرف ، ولا فعلا إذ ليس بعدها اسم منصوب بها ، وزعم بعضهم
أنها فعل حذف مفعوله ، أى جانب يوسف المعصية لأجل الله وهذا التأويل لا يتأتى فى
كل موضع ، يقال لك : أتفعل كذا؟ أو أفعلت كذا؟ فنقول «حاشا لله» فإنما هذه بمعنى
تبرأت لله براءة من هذا الفعل ، ومن نوّنها أعربها على إلغاء هذا الشبه ، كما أن
بنى تميم أعربوا باب حذام لذلك.
التاسعة : قول
بعض الصحابة رضى الله تعالى عنهم «قصرنا الصلاة مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكثر ما كنّا قطّ وآمنه» فأوقع قطّ بعد ما المصدرية كما
تقع بعد ما النافية.
العاشرة :
إعطاء الحرف حكم مقاربه فى المخرج حتى أدغم فيه ، نحو (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) و (لَكَ قُصُوراً) وحتى اجتمعا رويّين كقوله :
__________________
٩١٦ ـ بنىّ إنّ البرّ شىء هيّن
|
|
المنطق
الطّيّب والطّعيّم
|
وقول أبى جهل :
ما تنقم
الحرب العوان منّى
|
|
بازل عامين
حديث سنّى
|
*لمثل هذا ولدتنى أمّى* [٥٨]
|
وقول آخر :
٩١٧ ـ إذا ركبت فاجعلونى وسطا
|
|
إنّى كبير لا
أطيق العنّدا
|
ويسمى ذلك
إكفاء.
والثالث ـ وهو
ما أعطى حكم الشىء لمشابهته له لفظا ومعنى ـ نحو اسم التفضيل وأفعل فى التعجب ؛
فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل فى التعجب وزنا وأصلا وإفادة
للمبالغة ، وأجازوا تصغير أفعل فى التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا ، قال :
٩١٨ ـ يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا
|
|
[من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر]
|
ولم يسمع ذلك
إلا فى أحسن وأملح ، ذكره الجوهرى ، ولكن النحويين مع هذا قاسوه ، ولم يحك ابن
مالك اقتياسه إلا عن ابن كيسان ، وليس كذلك ، قال أبو بكر بن الأنبارى : ولا يقال
إلا لمن صغر سنه.
القاعدة الثانية
أن الشىء يعطى حكم الشىء إذا جاوره كقول بعضهم «هذا جحر ضبّ خرب» بالجر ، والأكثر الرفع ،
وقال :
__________________
[كأنّ أبانا فى عرانين وبله]
|
|
كبير أناس فى
بجاد مزمّل [٧٥٩]
|
وقيل به فى (وَحُورٌ عِينٌ) فيمن جرهما ، فإن العطف على (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) لا على (بِأَكْوابٍ
وَأَبارِيقَ) إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور ، وقيل :
العطف على (جَنَّاتٍ) وكأنه قيل : المقربون فى جنات وفاكهة ولحم طير وحور ،
وقيل : على (أكواب) باعتبار المعنى ؛ إذ معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ) ينعمون بأكواب ، وقيل فى (وَأَرْجُلَكُمْ) بالخفض : إنه عطف على (بِأَيْدِيكُمْ) لا على (رُؤُسَكُمْ) ؛ إذ الأرجل مغسولة لا ممسوحة ، ولكنه خفض لمجاورة (رُؤُسَكُمْ) والذى عليه المحققون أن خفض الجوار يكون فى النعت قليلا
كما مثلنا ، وفى التوكيد نادرا كقوله :
٩١٩ ـ يا صاح بلّغ ذوى الزّوجات كلّهم
|
|
أن ليس وصل
إذا انحلّت عرى الذّنب
|
قال الفراء :
أنشدنيه أبو الجراح بخفض كلهم ، فقلت له : هلا قلت كلّهم ـ يعنى بالنصب ـ فقال :
هو خير من الذى قلته أنا ، ثم استنشدته إياه ، فأنشدنيه بالخفض ، ولا
يكون فى النسق ؛ لأن العاطف يمنع من التجاور ، وقال الزمخشرى : لما كانت الأرجل من
بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها كانت مظنة الإسراف المذموم
شرعا ، فعطف على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد
فى صبّ الماء عليها ، وقيل (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فجىء بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة ؛ لأن المسح
لم تضرب له غاية فى الشريعة ، انتهى.
تنبيه ـ أنكر
السيرافى وابن جنى الخفض على الجوار ، وتأولا قولهم «خرب» بالجز على أنه صفة لضب.
__________________
ثم قال
السيرافى : الإصل خرب الجحر منه ، بتنوين خرب ورفع الجحر ، ثم حذف الضمير للعلم به
، وحوّل الإسناد إلى ضمير الضب ، وخفض الجحر كما تقول «مررت برجل حسن الوجه»
بالإضافة ، والأصل حسن الوجه منه ، ثم أتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر.
وقال ابن جنى :
الأصل خرب جحره ، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر.
ويلزمهما
استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هى له ، وذلك لا يجوز عند البصريين وإن
أمن اللبس ، وقول السيرافى إن هذا مثل «مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين» مردود ؛
لأن ذلك إنما يجوز فى الوصف الثانى دون الأول على ما سيأتى.
ومن ذلك قولهم «هنأنى
ومرأنى» والأصل أمرأنى ، وقولهم «هو رجس نجس» بكسر النون وسكون الجيم ، والأصل نجس
بفتحة فكسرة ، كذا قالوا ، وإنما يتم هذا أن لو كانوا لا يقولون هذا نجس بفتحة
فكسرة ، وحينئذ فيكون محل الاستشهاد إنما هو الالتزام للتناسب ، وأما إذا لم يلتزم
فهذا جائز بدون تقدم رجس ؛ إذ يقال فعل بكسرة فسكون فى كل فعل بفتحة فكسرة ، نحو :
كتف ولبن ونبق ، وقولهم «أخذه ما قدم وما حدث» بضم دال حدث ، وقراءة جماعة (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً) بصرف سلاسل ، وفى الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات»
والأصل موزورات بالواو لأنه من الوزر ، وقراءة أبى حبة (يُوقِنُونَ) بالهمزة ، وقوله :
٩٢٠ ـ أحبّ المؤقدين إلىّ مؤسى
|
|
وجعدة ؛ إذ
أضاءهما الوقود
|
بهمز «المؤقدين ومؤسى» على إعطاء الواو المجاورة للضمة حكم الواو المضمومة
، فهمزت كما قيل فى وجوه : أجوه : وفى وقّتت : أقّتت ، ومن ذلك قولهم فى صوّم : صيّم
، حملا على قولهم فى عصوّ عصىّ ، وكان أبو على ينشد فى مثل ذلك :
٩٢١ ـ *قد يؤخذ الجار بجرم الجار*
القاعدة الثالثة
قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمى ذلك تضمينا.
وفائدته : أن
تؤدى كلمة مؤدى كلمتين ؛ قال الزمخشرى : ألا ترى كيف رجع معنى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) إلى قولك : ولا تقتحم عيناك مجاوزين إلى غيرهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) أى ولا تضموها إليها آكلين ، اه.
ومن مثل ذلك
أيضا قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلى
نِسائِكُمْ) ضمن الرفث معنى الإفضاء ، فعدى بإلى مثل (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وإنما أصل الرفث أن يتعدى بالباء ، يقال : أرفث فلان
بامرأته ، وقوله تعالى (وَما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أى فلن تحرموه ، أى فلن تحرموا ثوابه ، ولهذا عدّى إلى
اثنين لا إلى واحد ، وقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكاحِ) أى لا تنووا ، ولهذا عدى بنفسه لا بعلى ، وقوله تعالى (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى) أى لا يصغون. وقولهم «سمع الله لمن حمده» أى استجاب ،
فعدى يسمع فى الأول بإلى وفى الثانى باللام ، وإنما أصله أن يتعدى بنفسه مثل (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أى يميز ، ولهذا عدى بمن لا بنفسه ، وقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أى يمتنعون من وطء نسائهم بالحلف ؛ فلهذا عدى بمن ،
ولما خفى التضمين على بعضهم فى الآية ، ورأى أنه لا يقال «حلف من كذا» بل حلف عليه
ـ قال : من متعلقة بمعنى للذين ، كما تقول لى منك مبرّة ، قال وأما قول الفقهاء «آلى
من امرأته» فغلط أوقعهم فيه عدم فهم المتعلق فى الآية ، وقال أبو كبير الهذلى :
٩٢٢ ـ حملت به فى ليلة مزءودة
|
|
كرها ، وعقد
نطاقها لم يحلل
|
وقال قبله :
٩٢٣ ـ ممّن حملن به وهنّ عواقد
|
|
حبك النّطاق
فشبّ غير مهبّل
|
مزءودة أى
مذعورة ، ويروى بالجر صفة لليلة مثل (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) وبالنصب حالا من المرأة ، وليس بقوىّ ، مع أنه الحقيقة
؛ لأن ذكر الليلة حينئذ لا كبير فائدة فيه. والشاهد فيهما أنه ضمن حمل معنى علق ،
ولو لا ذلك لعدى بنفسه مثل (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً) ، وقال الفرزدق :
٩٢٤ ـ كيف ترانى قالبا مجنّى
|
|
قد قتل الله
زيادا عنّى
|
أى صرفه عنى
بالقتل.
وهو كثير ، قال
أبو الفتح فى كتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه لجاء عنه كتاب يكون مئين
أوراقا.
القاعدة الرابعة
أنهم يعلبون على الشىء ما لغيره ، لتناسب بينهما ، أو اختلاط.
فلهذا قالوا «الأبوين»
فى الأب والأم ، ومنه (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وفى الأب والخالة ، ومنه (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ) و «المشرقين ، والمغربين» ومثله «الخافقان» فى المشرق والمغرب ، وإنما
الخافق المغرب ، ثم إنما سمى خافقا مجازا ، وإنما هو مخفوق فيه ؛ و «القمرين» فى
الشمس والقمر ؛ قال المتنبى :
٩٢٥ ـ واستقبلت قمر السّماء بوجهها
|
|
فأرتنى
القمرين فى وقت معا
|
أى الشمس وهو
وجهها وقمر السماء. وقال التبريزى : يجوز أنه أراد قمرا وقمرا ؛ لأنه لا يجتمع
قمران فى ليلة كما أنه لا تجتمع الشمس والقمر ، اه. وما ذكرناه أمدح ، و «القمران»
فى العرف الشمس والقمر ؛ وقيل : إن منه قول الفرزدق :
٩٢٦ ـ أخذنا بآفاق السّماء عليكم
|
|
لنا قمراها
والنّجوم الطوالع
|
وقيل : إنما
أراد محمدا والخليل عليهما الصلاة والسّلام ؛ لأن نسبه راجع إليهما بوجه ، وإن
المراد بالنجوم الصحابة ، وقالوا «العمرين» فى أبى بكر وعمر ، وقيل : المراد عمر
بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ، فلا تغليب ، ويردّ بأنه قيل لعثمان رضى الله عنه :
نسألك سيرة العمرين ؛ قال : نعم ؛ قال قتادة : أعتق العمران فمن بينهما من الخلفاء
أمهات الأولاد ، وهذا المراد به عمر وعمر ؛ وقالوا «العجّاجين» فى رؤبة والعجاج ؛ و
«المروتين» فى الصّفا والمروة.
ولأجل الأختلاط
أطلقت من على ما لا يعقل فى نحو (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) فإن الاختلاط حاصل فى العموم السابق فى قوله تعالى (كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) وفى (مَنْ يَمْشِي عَلى
رِجْلَيْنِ) اختلاط آخر فى عبارة التفصيل ؛ فإنه يعم الإنسان
والطائر ؛ واسم المخاطبين على الغائبين فى قوله تعالى (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن «لعلّ» متعلقة بخلقكم لا باعبدوا ؛ وللذكرين على
المؤنث حتى عدّت منهم فى (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) والملائكة على أبليس حتى استثنى منهم فى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قال الزمخشرى : والاستثناء متصل ؛ لأنه واحد
من بين أظهر الألوف من الملائكة ؛ فغلبوا عليه فى (فَسَجَدُوا) ثم استثنى منهم استثناء أحدهم ؛ ثم قال : ويجوز أن يكون
منقطعا.
ومن التغليب (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بعد (لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) فإنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن فى ملتهم قط ؛ بخلاف
الذين آمنوا معه ومثله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام ؛ فغلب المخاطبون
والعاقلون على الغائبين والأنعام ؛ ومعنى (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يبثكم ويكثركم فى هذا التدبير ؛ وهو أن جعل للناس
وللأنعام أزواجا حتى حصل بينهم التوالد ؛ فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ
والتكثير ؛ فلذا جىء بفى دون الباء ؛ ونظيره (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) وزعم جماعة أن منه (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) ونحو (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) وإنما هذا من مراعاة المعنى ؛ الأول من مراعاة اللفظ.
القاعدة الخامسة
أنهم يعبرون بالفعل عن أمور :
. أحدها :
وقوعه ؛ وهو الأصل.
والثانى :
مشارفته ؛ نحو (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) أى فشارفن انقضاء العدة (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أى والذين يشارفون الموت وترك الأزواج يوصون وصية (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) أى لو شارفوا أن يتركوا ، وقد مضت فى فصل لو ونظائرها ؛
ومما لم يتقدم ذكره قوله :
٩٢٧ ـ إلى ملك كاد الجبال لفقده
|
|
تزول ، وزال
الرّاسيات من الصّخر
|
الثالث :
إرادته ؛ وأكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط نحو (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا) (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ) (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ) (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
ـ الآية) (إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) وفى الصحيح «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل».
ومنه فى غيره (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أى فأردنا الإخراج (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) لأن ثم للترتيب ؛ ولا يمكن هنا مع الحمل على الظاهر ؛
فإذا حمل خلقنا وصورنا على إرادة الخلق والتصوير لم يشكل. وقيل : هما على حذف
مضافين ؛ أى خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم. ومثله (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) أى أردنا إهلاكها (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى) أى أراد الدنو من محمد عليه الصلاة والسّلام ، فتدلّى
فتعلّق فى الهواء ، وهذا أولى من قول من ادعى لقلب فى هاتين الآيتين وأن التقدير :
وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناه ، ثم تدلى فدنى ، وقال :
٩٢٨ ـ فارقنا قبل أن نفارقه
|
|
لمّا قضى من
جماعنا وطرا
|
أى أراد فراقنا.
وفى كلامهم عكس
هذا ؛ وهو التعبير بإرادة الفعل عن إيجاده ، نحو (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بدليل أنه قوبل بقوله سبحانه وتعالى (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ).
والرابع :
القدرة عامه ، نحو (وَعْداً عَلَيْنا
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أى قادرين على الإعادة ، وأصل ذلك أن الفعل يسبّب عن
الإرادة والقدرة ، وهم يقيمون سبب
مقام المسبب وبالعكس ؛ فالأول نحو (وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) أى ونعلم أخباركم ؛ لأن الابتلاء الاختبار ، وبالاختبار
يحصل العلم ، وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ) الآية فى قراءة غير الكسائى يستطيع بالغبة وربك بالرفع
، معناه هل يفعل ربك ؛ فعبر عن الفعل بالاستطاعة لأنها شرطه ، أى هل ينزل علينا
ربك مائدة إن دعوته. ومثله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أى لن نؤاخذه ، فعبر عن المؤاخذة بشرطها ، وهو القدرة
عليها. وأما قراءة الكسائى فتقديرها هل تستطيع سؤال ربك ، فحذف المضاف ، أو هل
تطلب طاعة ربك فى إنزال المائدة أى استجابته ، ومن الثانى (فَاتَّقُوا النَّارَ) أى [فاتقوا] العناد الموجب للنار.
القاعدة السادسة
أنهم يعبرون عن الماضى والآتى كما يعبرون عن الشىء الحاضر قصدا لإحضاره فى الذهن حتى
كأنه مشاهد حالة الإخبار ، نحو (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأن لام الابتداء للحال ، ونحو (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ
عَدُوِّهِ) إذ ليس المراد تقريب الرجلين من النبى صلىاللهعليهوسلم ، كما نقول : هذا كتابك فخذه ، وإنما الإشارة كانت
إليهما فى ذلك الوقت هكذا فحكيت ، ومثله (وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) قصد بقوله سبحانه وتعالى (فَتُثِيرُ) إحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من
إثارة السحاب ، تبدو أولا قطعا ثم تتضامّ متقلبة بين أطوار حتى تصير ركاما. ومنه (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أى فكان (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ) ومنه عند الجمهور (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أى يبسط ذراعيه ، بدليل (وَنُقَلِّبُهُمْ)
__________________
ولم يقل وقلبناهم ، وبهذا التقرير يندفع قول الكسائى وهشام : إن اسم الفاعل
الذى بمعنى الماضى يعمل ، ومثله (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إلا أن هذا على حكاية حال كانت مستقبلة وقت التدارؤ ،
وفى الآية الأولى حكيت الحال الماضية ، ومثلها قوله :
٩٢٩ ـ جارية فى رمضان الماصى
|
|
تقطّع الحديث
بالإيماض
|
ولو لا حكاية
الحال فى قول حسان :
يغشون حتّى
لا تهرّ كلابهم
|
|
[لا يسألون عن السّواد المقبل] [١٩٧]
|
لم يصح الرفع ؛
لأنه لا يرفع إلا وهو للحال ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ) بالرفع.
القاعدة السابعة
أن اللفظ قد
يكون على تقدير ، وذلك المقدّر على تقدير آخر ، نحو قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) فإن يفترى مؤول بالافتراء ، والافتراء مؤول بمفترى ،
وقال :
٩٣٠ ـ لعمرك ما الفتيان أن تنبت
اللّحى
|
|
ولكنّما
الفتيان كلّ فتى ندى
|
وقالوا «عسى
زيد أن يقوم» فقيل : هو على ذلك ، وقيل : على حذف مضاف ، أى عسى أمر زيد ، أو عسى
زيد صاحب القيام ، وقيل : أن زائدة ، ويرده عدم صلاحيتها للسقوط فى الأكثر ، وأنها
قد عملت ، والزائد لا يعمل ، خلافا لأبى الحسن ؛ وأما قول أبى الفتح فى بيت
الحماسة :
٩٣١ ـ حتّى يكون عزيزا فى نفوسهم
|
|
أو أن يبين
جميعا وهو مختار
|
يجوز كون أن
زائدة ؛ فلأن النصب هنا يكون بالعطف لا بأن ؛ وقيل فى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إن (لِما قالُوا) بمعنى القول ، والقول بتأويل المقول ، أى يعودون للمقول
فيهن لفظ الظهار وهنّ الزوجات ، وقال أبو البقاء فى (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ)
: يجوز عند أبى
على كون ما مصدرية ، والمصدر فى تأويل اسم المفعول ، اه. وهذا يقتضى أن غير أبى
على لا يجيز ذلك. وقال السيرافى : إذا قيل : «قاموا ما خلا زيدا ، وما عدا زيدا»
فما مصدرية ، وهى وصلتها حال ، وفيه معنى الاستثناء ، قال ابن مالك : فوقعت الحال
معرفة لتأولها بالنكرة ، اه. والتأويل خالين عن زيد ، ومتجاوزين زيدا ، وأما قول
ابن خروف والشلوبين «إن ما وصلتها نصب على الاستثناء» فغلط ؛ لأن معنى الاستثناء
قائم بما بعدهما لابهما ، والمنصوب على معنى لا يليق ذلك المعنى بعيره.
القاعدة الثامنة
كثيرا ما يغتفر فى الثّوانى ما لا يغتفر
فى الأوائل ؛ فمن ذلك «كلّ
شاة وسخلتها بدرهم» و
٩٣٢ ـ *أىّ فتى هيجاء أنت وجارها*
و «ربّ رجل
وأخيه» (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ) ولا يجوز : كل سخلتها ، ولا أى جارها ، ولا ربّ أخيه ،
ولا يجوز «إن يقم زيد قام عمرو» فى الأصح ، إلا فى الشعر كقوله :
٩٣٣ ـ ان يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا
|
|
عنّى ، وما
يسمعوا من صالح دفنوا
|
إذ لا تضاف كلّ
وأىّ إلى معرفة مفردة ، كما أن اسم التفضيل كذلك ، ولا تجرّ ربّ إلا النكرات ، ولا
يكون فى النثر فعل الشرط مضارعا والجواب ماضيا ، وقال الشاعر :
٩٣٤ ـ إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
|
|
أو تنزلون
فإنّا معشر نزل
|
فقال يونس :
أراد أو أنتم تنزلون ، فعطف الجملة الاسمية على جملة الشرط ، وجعل سيبويه ذلك من
العطف على التوهم ؛ قال : فكأنه قال : أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون فنحن معروفون
بذلك ، ويقولون : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين ويمتنع قائمين لا قاعد أبواه ،
على إعمال الثانى وربط الأول بالمعنى.
القاعدة التاسعة
أنهم يتّسعون فى الظرف والمجرور ما لا
يتسعون فى غيرهما ؛ فلذلك فصلوا
بهما الفعل الناقص من معموله نحو «كان فى الدّار ـ أو عندك ـ زيد جالسا» وفعل
التعجب من المتعجّب منه نحو «ما أحسن فى الهيجاء لقاء زيد ، وما أثبت عند الحرب
زيدا» وبين الحرف الناسخ ومنسوخه نحو قوله :
٩٣٥ ـ فلا تلحنى فيها فإنّ بحبّها
|
|
أخاك مصاب
القلب جمّ بلابله
|
وبين الاستفهام
والقول الجارى مجرى الظن كقوله
٩٣٦ ـ أبعد بعد تقول الدّار جامعة
|
|
[شملى بهم أم تقول البعد محتوما]
|
وبين المضاف
وحرف الجر ومجرورهما ، وبين إذن ولن ومنصوبهما نحو «هذا غلام والله زيد ، واشتريته
بو الله درهم» وقوله :
٩٣٧ ـ إذن والله نرميهم بحرب
|
|
[تشيب الطّفل من قبل المشيب]
|
وقوله :
لن ما رأيت
أبا يزيد مقاتلا
|
|
أدع القتال
وأشهد الهيجاء [٤٦١]
|
وقدموهما خبرين
على الاسم فى باب إنّ نحو (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً) ومعمولين للخبر فى باب ما نحو «ما فى الدار زيد جالسا»
وقوله :
٩٣٨ ـ [بأهبة حزم لذ وإن كنت آمنا]
|
|
فما كلّ حين
من تؤاتى مؤاتيا
|
فإن كان
المعمول غيرهما بطل عملها كقوله :
٩٣٩ ـ [وقالوا : تعرّفها المنازل من
منّى]
|
|
وما كل من
وافى منى أنا عارف
|
ومعمولين لصلة
أل نحو (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) فى قول ، وعلى الفعل المنفى بما فى نحو قوله :
*ونحن عن فضلك ما استغنينا* [١٣٧]
وقيل : وعلى إن
معمولا لخبرها فى نحو أما بعد فإنى أفعل كذا وكذا ، وقوله :
أبا خراشة
أمّا أنت ذا نفر
|
|
فإنّ قومى لم
تأكلهم الضّبع [٤٤]
|
وعلى العامل
المعنوى فى نحو قولهم «أكلّ يوم لك ثوب».
وأقول : أما
مسألة أما فاعلم أنه إذا تلاها ظرف ، ولم يل الفاء ما يمتنع تقدم معموله عليه نحو «أمّا
فى الدّار ـ أو عندك ـ فزيد جالس» جاز كونه معمولا لأما أو لما بعد الفاء ، فإن
تلا الفاء ما لا يتقدم معموله عليه نحو «أما زيدا ـ أو اليوم ـ فإنى صارب» فالعامل
فيه عند المازنى أما فتصحّ مسألة الظرف فقط ؛ لأن الحروف لا تنصب المفعول به ،
وعند المبرد تجوز مسألة الظرف من وجهين ، ومسألة المفعول به
من جهة إعمال ما بعد الفاء ، واحتج بأن «أما» وضعت على أن ما بعد فاء
جوابها يتقدم بعضه فاصلا بينها وبين أما ، وجوّزه بعضهم فى الظرف دون المفعول به ،
وأما قوله *أمّا أنت ذا نفر* [٤٤] فليس المعنى على تعلّقه بما بعد الفاء ، بل هو
متعلق تعلق المفعول لاجله بفعل محذوف ؛ والتقدير : ألهذا فخرت على؟ وأما المسألة
الأخيرة فمن أجاز «زيد جالسا فى الدار» لم يكن ذلك مختصا عنده بالظرف.
القاعدة العاشرة
من فنون كلامهم القلب. وأكثر وقوعه فى الشعر ، كقول حسان رضى الله تعالى عنه :
كأنّ سبيئة
من بيت رأس
|
|
يكون مزاجها
عسل وماء [٦٩٤]
|
فيمن نصب
المزاج ؛ فجعل المعرفة الخبر والنكرة الاسم ، وتأوّله الفارسى على أن انتصاب
المزاج على الظرفية المجازية ، والأولى رفع المزاج ونصب العسل ، وقد روى كذلك أيضا
؛ فارتفاع ماء بتقدير وخالطها ماء ، ويرى برفعهن على إضمار الشأن ، وأما قول ابن
أسد إنّ كان زائدة فخطأ ؛ لأنها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس ، ولا ضرورة تدعو إلى
ذلك هنا ، وقول رؤبة :
٩٤٠ ـ ومهمه مغبرّة أرجاؤه
|
|
كأنّ لون
أرضه سماؤه
|
أى كأن لون
سمائه لغبرتها لون أرضه ، فعكس التشبيه مبالغة ، وحذف المضاف ، وقال آخر :
٩٤١ ـ فإن أنت لاقيت فى نجدة
|
|
فلا تتهيّبك
أن تقدما
|
أى تنهيّبها ،
وقال ابن مقبل :
٩٤٢ ـ ولا تهيّبنى الموماة أركبها
|
|
إذا تجاوبت
الأصداء بالسّحر
|
أى ولا أتهيبها
، وقال كعب :
٩٤٣ ـ كأنّ أوب ذراعيها إذا عرقت
|
|
وقد تلفّع
بالقور العساقيل
|
القور : جمع
قارة ، وهى الجبل الصغير ، والعساقيل : اسم لأوائل السراب ، ولا واحد له ، والتلفع
: الاشتمال. وقال عروة بن الورد :
٩٤٤ ـ فديت بنفسه نفسى ومالى
|
|
وما آلوك
إلّا ما أطيق
|
وقال القطامى :
٩٤٥ ـ فلمّا أن جرى سمن عليها
|
|
كما طيّنت
بالفدن السّياعا
|
الفدن : القصر
، والسّياع : الطين ، ومنه فى الكلام «أدخلت القلنسوة فى رأسى» و «عرضت الناقة على
الحوض» و «عرضتها على الماء» قاله الجوهرى وجماعة منهم السكاكى والزمخشرى ، وجعل
منه (وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) وفى كتاب التوسعة ليعقوب بن إسحاق السكيت : إن «عرضت
الحوض على الناقة» مقلوب ، وقال آخر : لا قلب فى واحد منهما ، واختاره أبو حيان ،
وردّ على قول الزمخشرى فى الآية ، وزعم بعضهم فى قول المتنبى :
٩٤٦ ـ وعذلت أهل العشق حتّى ذقته
|
|
فعجبت كيف
يموت من لا يعشق
|
أن أصله كيف لا
يموت من يعشق ، والصواب خلافه ، وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق
، ويقال : إذا طلعت الجوزاء انتصب العود فى الحرباء ، أى انتصب الحرباء فى العود.
وقال ثعلب فى قوله تعالى (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ)
: إن المعنى
اسلكوا فيه سلسلة ، وقيل : إن منه (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وقد مضى تأويلهما ونقل الجوهرى فى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أن أصله قابى قوس ، فقلبت التثنية
بالإفراد ، وهو حسن إن فسّر القلب بما بين مقبض القوس وسيتها أى طرفها ،
ولها طرفان ، فله قابان ؛ ونظير هذا إنشاد ابن الأعرابى :
٩٤٧ ـ إذا أحسن ابن العمّ بعد إساءة
|
|
فلست لشرّى
فعله بحمول
|
أى فلست لشر
فعليه.
قيل : ومن
القلب (اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا) الآية ؛ وأجيب بأن المعنى ثم تولّ عنهم إلى مكان يقرب
منهم ؛ ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ما ذا يرجعون ، وقيل فى (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ)
: إن المعنى
فعميتم عنها ، وفى (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا
أَقُولَ) الآية فيمن جرّ بعلى بعد أن وصلتها على أن المعنى حقيق
علىّ ، بإدخالها على ياء المتكلم كما قرأ نافع ؛ وقيل : ضمن حقيق معنى حريص ؛ وفى (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ)
: إن المعنى
لتنوء العصبة بها أى تنهض بها متثاقلة ، وقيل الباء للتعدية كالهمزة ، أى لتنىء
العصبة ؛ أى تجعلها تنهض متثاقلة.
القاعدة الحادية عشرة
من ملح كلامهم تقارض اللفظين فى الأحكام
، ولذلك أمثلة
:
أحدها : إعطاء «غير»
حكم إلا فى الاستثناء بها نحو (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فيمن نصب غير ، وإعطاء «إلا» بحكم غير فى الوصف بها نحو
(لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).
والثانى :
إعطاء أن المصدرية حكم «ما» المصدرية فى الإهمال كقوله :
أن تقرآن على
أسماء ويحكما
|
|
منّي السّلام
وأن لا تشعرا أحدا [٣٥]
|
الشاهد فى «أن»
الأولى ، وليست مخففة من الثقيلة ، بدليل أن المعطوفة عليها ، وإعمال «ما» حملا
على أن كما روى من قوله عليه الصلاة والسّلام «كما تكونوا يولّى عليكم» ذكره ابن
الحاجب ، والمعروف فى الرواية كما تكونون.
__________________
والثالث :
إعطاء إن الشرطية حكم لو فى الإهمال كما روى فى الحديث «فإن لا تراه فإنّه يراك»
وإعطاء لو حكم إن فى الجزم كقوله :
لو يشأ طار
بها ذوميعة
|
|
[لاحق الآطال نهد ذو خصل] [٤٣٦]
|
ذكر الثانى ابن
الشجرى ، وخرّجه غيره على أنه [جاء] على لغة من يقول شايشا ـ بالألف ـ ثم أبدلت
الألف همزة على حد قول بعضهم العألم والخأتم ـ بالهمزة ـ ويؤيده أنه لا يجوز مجىء
إن الشرطية فى هذا الموضع ؛ لأنه إخبار عما مضى ، فالمعنى لو شاء ، وبهذا يقدح
أيضا فى تخريج الحديث السابق على ما ذكر ، وهو تخريج ابن مالك ، والظاهر أنه يتخرج
على إجراء المعتل مجرى الصحيح كقراءة قنبل (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ) بإثبات ياء يتقى وجزم يصبر.
والرابع :
إعطاء إذا حكم متى فى الجزم بها كقوله :
[استغن ما أغناك ربّك بالغنى]
|
|
وإذا تصبك
خصاصة فتحمّل [١٣٢]
|
وإهمال متى
حكما لها بحكم إذا ، كقول عائشة رضى الله عنها «وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس».
والخامس :
إعطاء لم حكم لن فى عمل النصب ، ذكره بعضهم مستشهدا بقراءة بعضهم (أَلَمْ نَشْرَحْ) بفتح الحاء ، وفيه نظر ؛ إذ لا تحل لن هنا ، وإنما يصح
ـ أو يحسن ـ حمل الشىء على ما يحل محله كما قدمنا ، وقيل : أصله «نشرحن» ثم حذفت
النون الخفيفة وبقى الفتح دليلا عليها ، وفى هذا شذوذان : توكيد المنفى بلم مع أنه
كالفعل الماضى فى المعنى ، وحذف النون لغير مقتض مع أن المؤكد لا يليق به الحذف ،
وإعطاء لن حكم لم فى الجزم كقوله :
لن يخب الآن
من رجائك من
|
|
حرّك من دون
بابك الحلقه [٤٦٦]
|
الرواية بكسر
الباء.
والسادس :
إعطاء ما النافية حكم ليس فى الإعمال ، وهى لغة أهل الحجاز نحو (ما هذا بَشَراً) وإعطاء ليس حكم ما فى الإهمال عند انتقاض النفى بإلّا
كقولهم «ليس الطّيب إلّا المسك» وهى لغة بنى تميم.
والسابع :
إعطاء عسى حكم لعل فى العمل كقوله :
[تقول بنتى قد أنى أناكا]
|
|
يا أبتا علّك
أو عساكا [٢٤٦]
|
وإعطاء لعل حكم
عسى فى اقتران خبرها بأن ، ومنه الحديث «فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض».
والثامن :
إعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه عند أمن اللبس ، كقولهم : خرق الثّوب المسمار ،
وكسر الزجاج الحجر ، وقال الشاعر :
٩٤٨ ـ مثل القنافد هدّاجون قد بلغت
|
|
نجران أو
بلغت سوآتهم هجر
|
وسمع أيضا
نصبهما كقوله :
٩٤٩ ـ قد سالم الحيّات منه القدما
|
|
[الأفعوان والشّجاع الشجعما]
|
فى رواية من
نصب الحيات ، وقيل : القدما تثنية حذفت نونه للضرورة كقوله :
هما خطّتا
إمّا إسار ومنّة
|
|
[وإمّا دم ، والقتل بالحرّ أجدر] [٨٨٤]
|
فيمن رواه برفع
إسار ومنة ، وسمع أيضا رفعهما كقوله :
٩٥٠ ـ إنّ من صاد عقمقا لمشوم
|
|
كيف من صاد
عقعقان وبوم
|
والتاسع :
إعطاء «الحسن الوجه» حكم «الضارب الرجل» فى النصب ، وإعطاء «الضارب الرجل» حكم «الحسن
الوجه» فى الجر.
والعاشر :
إعطاء أفعل فى التعجب حكم أفعل التفضيل ، فى جواز التصغير ، وإعطاء أفعل التفضيل
حكم أفعل فى التعجب فى أنه لا يرفع الظاهر ، وقد مر ذلك.
ولو ذكرت أحرف
الجر ودخول بعضها على بعض فى معناه لجاء من ذلك أمثلة كثيرة.
وهذا آخر ما
تيسر إيراده فى هذا التأليف ، وأسأل الله الذى منّ علىّ بإنشائه وإتمامه فى البلد
الحرام ، فى شهر ذى القعدة الحرام ، ويسّر علىّ إتمام ما ألحقت به من الزوائد فى
شهر رجب الحرام : أن يحرّم وجهى على النار ، وأن يتجاوز عما تحمّلته من الأوزار ،
وأن يوقظنى من رفدة الغفلة قبل الفرت ، وأن يلطف بى عند معالجة سكرات الموت ، وأن
يفعل ذلك بأهلى وأحبابى ، وجميع المسلمين ، وأن يهدى أشرف صلواته وأزكى تحياته إلى
أشرف العالمين ، وإمام العاملين : محمد نبى الرّحمة ، الكاشف فى يوم الحشر بشفاعته
الغمّة ، وعلى آله الهادين ، وأصحابه الذين شادوا لنا قواعد الإسلام ، ومهّدوا
الدين ، وأن يسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين ، اللهم صل
وسلّم وبارك على حبيبنا محمد عدد الرمل والدقيق وعدد الموج الدقيق ، وسلم تسليما.
تنبيه ـ قد
وضعنا رقما متتابعا للشواهد الشعرية ، فإذا تكرر البيت وضعنا فى المرة الأولى فى
آخره رقم الصفحة أو الصفحات التى يتكرر فيها ، ووضعنا فى آخره فى كل مرة بعد
الأولى رقمه الذى استحقه أول مرة ، فإذا رأيت بيتا وضع فى أوله رقم فاعلم أنه لم
يتقدم ذكره ، وإذا رأيت فى آخره رقما مسبوقا بحرف ص فاعلم أنه سيأتى فى الصفحة أو
الصفحات المذكورة أرقامها ، وإذا رأيت فى آخره رقما غير مسبوق بهذا الحرف فاعلم
أنه قد سبق ذكره بهذا الرقم.
|