

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
تصدير
إن أفضل تعريف يمكن أن يقدم لكتاب تلخيص الكون والفساد
هو ما كتبه المرحوم في كتابه المتن الرشدي (الدار البيضاء ١٩٨٨) حيث قال : «يمثل
كتاب الكون والفساد الجزء الثالث من أجزاء العلم الطبيعي لأرسطو ، كما يحتل تلخيص
ابن رشد للكتاب الرتبة الثالثة في تلاخيصه الطبيعية. والراجح أن أبا الوليد احترم
الترتيب من الناحية الزمنية فالف هذا التلخيص بعد إنهاء تلخيصيه للسماع الطبيعي والسماء
والعالم. وهذا ما تؤكده النسخ المعروفة اليوم. ففي نسختي باريس ومودينا نقرأ ما
يلي : «وكان الفراغ منه يوم الخميس عقب شهر جمادي الأخيرة من سنة سبع وستين وخمسمائة
للهجرة». والنسخ المشار إليها ثلاث. وهي جميعها تشترك في كونها تنقل إلينا النص
العربي بحروف عبرية. فهي عربية النص عبرية الحروف. ولكن المهم فضلا عن ذلك هو اننا
نجد خلافا بين هذه النسخ الثلاث ، أو نقرأ في إحداها إضافة غير واردة في الأخرى.
مثال ذلك ما تثبته نسخة باريس وتثبته نسخة مودينا استدراكا في الهامش ، وذلك في
مسألة الفرق بين الموضوع للاستحالة والموضوع للكون والفساد. وهي مسألة ساقطة في
نسخة أكسفورد. ومثال ذلك أيضا ما تنفرد به نسخة مودينا ، وذلك في سياق مناقشة
مسألة النمو في المادة والصورة. ونحن وإن كنا لا نعلم على وجه القطع تراتب هذه
الإضافات من الناحية الزمنية ، فإن وجودها يعني أن تلخيصنا هذا قد خضع هو أيضا
للمراجعة والتعديل
والإضافة. وإذا كان
ابن رشد لم يكتب شرحا كبيرا للكتاب كما فعل في السماع الطبيعي ، أو السماء والعالم
، على سبيل المثال ، فإنه لا مفر من اعتبار تلخيصنا هذا قطعة أساسية في التعرف على
ما انتهت إليه الرشدية في كثير من الإشكالات الطبيعية ، وذلك على الرغم من أن ابن
رشد لم يكن راضيا تمام الرضى على ما وضعه في تلخيصه هذا ، كما افصح عن ذلك في شرحه
الكبير للسماء والعالم حين قال «ولذلك يرى الإسكندر أن الجسم الذي هنالك إنما يسمى
نارا باشتراك الاسم مع هذا النار. وقد فحصنا عن هذا المسألة فيما فحصناه من كتاب
الآثار العلوية. وذكرنا منها طرفا في تلخيص الكون والفساد ، وإن قضى الله أن نصل
بالشرح إلى تلك المواضع فسيستوفي الشرح البالغ في ذلك بفضله ورحمته ...». ولعل في
هذا القول ما يفيد أن ابن رشد كان يأمل أن يشرح كتاب الكون والفساد شرحا تاما
مستوفيا ، كما فعل في غيره من اجزاء العلم الطبيعي.»» (ص ٧٦ ـ ٧٧).
وكتاب تلخيص الكون والفساد
هو الكتاب الثالث والأخير من تلاخيص ابن رشد الطبيعية التي قام بتحقيقها الفقيد
جمال الدين العلوي ، بعد أن قام بتحقيق تلخيص السماء والعالم سنة
١٩٨٤ (ضمن
منشورات كلية الآداب بفاس) ، وتلخيص
الآثار العلوية سنة ١٩٩٤ (بيروت ، دار الغرب
الإسلامي ١٩٩٤). فإذا
أضفنا إلى ذلك صدور تلخيص
كتاب النفس بعناية الأستاذ
الفرد إيفري بالقاهرة عن الهيئة المصرية للكتاب هذه السنة ، وأخذنا بعين الاعتبار
أن تلخيص
السماع الطبيعي لا يوجد في أصله
العربي بأي من الحرفين العربي أو العبري ، أمكننا القول بأن كل التلخيصات الطبيعية
الموجودة في أصلها العربي قد نشرت.
هذا وقد سبق للأستاذ فرانسيس هوارد فوبس
francishoward fobes أن حقق ونشر الترجمة اللاتينية لتلخيص الكون والفساد (كيمبريج ، الأكاديمية
الأميركية للقرون الوسطى ، سنة ١٩٥٦) ؛ ثم نشر الدكتور صامويل كورلاند samuel kurland الترجمة العبرية للتلخيص والجوامع مع ترجمة إلى الإنجليزية سنة ١٩٥٨ بنفس الأكاديمية.
ولكتاب الكون والفساد جوامع سبق أن نشرت
بحيدر أباد تحت اسم رسائل ابن رشد بمعية أربع جوامع طبيعية هي السماع الطبيعي
، والسماء والعالم
، الآثار العلوية. والنفس ، بالإضافة إلى كتاب ما بعد الطبيعة
، وذلك سنة ١٣٦٦
ه ـ ١٩٤٧
م ، وأعيد نشرها في بيروت ، دار الفكر اللبناني ، سنة ١٩٩٤. وقد قام الأستاذ
جوزيپ پويج مونطادا josep puig montada بتحقيق جوامع
الكون والفساد مع ترجمة
بالإسبانية سنة ١٩٩٢ ونشره المجلس الأعلى للبحوث العلمية بمدريد. وما عدا جوامع
كتاب النفس
وكتاب الحس
والمحسوس
وكتاب ما بعد
الطبيعة التي حققت عدة مرات ، وكتاب جوامع السماع الطبيعي
الذي أعاد تحقيقه جوزيپ پويج سنة ١٩٨٣ عن نفس المعهد ، فإن جوامع السماء والعالم والآثار
العلوية ما زالا ينتظران تحقيقا جديدا.
وكما أشار الفقيد ، فقد اعتمد في تحقيقه
هذا على ثلاثة مخطوطات : مخطوط باريس رقم ١٠٠٩ عبري ، ويبتدئ من الورقة ١ ظ إلى
الورقة ٤٢
ظ؛ ثم مخطوط أكسفورد رقم ٣٤ عبري من الورقة ٥١ وإلى الورقة ٧٣ ظ؛
ثم مخطوط مودينا رقم ١٣ عبري ، من الورقة ١ وإلى الورقة ٢٣ ظ. وبالرغم من اشتراك
النسخ الثلاث في
عدم اكتمالها بسبب
سقوط أوراق وعبارات منها ، وصعوبة قراءة بعض فقراتها وألفاظها ، فقد اعتبر المرحوم
مخطوط باريس المخطوط الأساسي في تحقيقه ابتداء من الجملة الثانية من المقالة
الأولى لأنه أكملهما ، وكان يصححه بمخطوطي أكسفورد أولا ثم مودينا ثانيا. وكما
أشار الفقيد توجد في مخطوطتي باريس ومودينا هوامش استفاد منها في تقويم النص أو
دمجها في متنه. وبالرغم من استعانته بالمخطوطين لملء الفراغات والأخطاء والعبارات
الغامضة الموجودة في مخطوط باريس ، فقد ظلت بعض البياضات وبعض العبارات غير
المقروءة بدون حل. وابتداء من المقالة الثانية يتوقف المرحوم عن الإحالة إلى مخطوط
مودينا ، أي عند الورقة ١٦ ظ [ص ٨٠] ، ومخطوط أكسفورد عند الورقة ٦٣ ظ ، ولكنه يذكر
آخر ورقة منه وهي ٧٣ ظ ، بينما لا يذكر آخر ورقة في مخطوط مودينا التي هي ٢٣ ظ.
وضع المحقق أرقاما للفقرات التي تبتدئ بلفظة «قال» والتي تميز جنس التلخيص من جنسي
الجوامع والتفاسير.
وأريد بالمناسبة أن أقدم آيات الشكر
للأستاذ محسن مهدي على مباركته لهذا المشروع منذ بدايته وتشجيعه على إخراج الأعمال
التي تركها الفقيد إلى الوجود ، كما أشكر الأستاذ عبد العلي العمراني جمال على
دعمه ومتابعته لهذا العمل ، والأستاذين محمد أبلاغ وعبد العزيز الساوري على ما
قاما به من أجل إخراج هذا التلخيص.
|
محمد المصباحي
الرباط ٣٠ مارس ١٩٩٥
|
الرموز
ب : مخطوط باريس رقم ١٠٠٩ عبري
ا : مخطوط اكسفورد ٣٤ عبري
م : مخطوط مودينا رقم ١٣ عبري
[] : اضافة من هامش مخطوط مودينا او
اكسفورد ، وفي غالب الأحيان لا يشير المحقق إلى مصدر الإضافة.
< > : اقتراح حذف
بسم اللّه الرّحمن الرحيم
المقالة
الأولى
إن الذي تضمنته هذه المقالة هو منحصر في
ثماني جمل.
الجملة الاولى : في غرض الكتاب وذكر
الأشياء التي يتضمن الفحص عنها.
الجملة الثانية : في تعريف مذاهب
القدماء في الكون
والفساد والاستحالة ومن يمكنه من القدماء بحسب رأيه من مبادئ الكون والفساد أن
يفرق بين الكون
والاستحالة ومن لا يمكنه ذلك وتعريف من سلك في ذلك ما يلزم عن أصله ومن لم يسلك
في ذلك اللازم من اصوله.
الجملة الثالثة : في الفحص عن وجود
الكون والفساد في الجوهر ، وهو الكون والفساد باطلاق ، وإن كان موجودا فعلى أي جهة
وجوده هل على جهة الاجتماع والافتراق او على جهة أخرى.
الجملة الرابعة : في الفرق بين الكون والاستحالة.
الجملة الخامسة : في تعريف حركة النمو وكيف
ينمو النامي وبما ذا ينمو.
___________________
الجملة السادسة : في تعريف المماسة والأشياء
المتماسة.
الجملة السابعة : في طبيعة الانفعال والفعل
وطبيعة الأشياء الفاعلة والمنفعلة.
الجملة الثامنة : في معرفة الاختلاط والأشياء
المختلطة.
الجملة الاولى
١ ـ قال :
إن الغرض الذي قصد إليه هاهنا والأمر
الواجب هو تلخيص الأسباب العامة لجميع ما يكون ويفسد بالطبع وتلخيص أسباب النمو والاستحالة
ايضا وتعريف ما كل واحد منها ، وهل ينبغي أن يعتقد أن الاستحالة والتكون شيء واحد
او هما طبيعتان كما أن اسميهما مفترقان.
الجملة الثانية
٢ ـ قال : إن اعتقاد القدماء في الكون
المطلق والفساد والاستحالة يوجد على مذهبين :
_________________
احدهما مذهب من اعتقد أن الكون المطلق
استحالة ، والثاني مذهب من يعتقد أن الكون المطلق غير الاستحالة . فاما من قال منهم بأن الكل شيء واحد وان الأشياء كلها إنما تتكون
عن شيء واحد ، فقد يضطره الأمر إلى أن يقول أن الكون المطلق والاستحالة هما شيء
واحد ، والسبب في ذلك أن الموضوع لجميع التغايير عند هؤلاء هو شيء واحد بالفعل ومشار
اليه غير متغاير .
واما من جعل العناصر والأسطقسات أكثر من واحد مثل ابن دقليس وانكساغورش ولوقيش وديمقريطس
فإنه يلزمهم أن يقولوا ان
الكون هو غير الاستحالة لأنه يجب أن يكون الكون باجتماع الاسطقسات [والفساد
بافتراقها فالاستحالة شيء غير الاجتماع والافتراق. فأما ابن دقليس فانه كان يقول
ان الاسطقسات] ستة ، اثنان محركان وهما
العداوة والمحبة وأربعة متحركة وهي الأرض والماء والهواء والنار. واما انكساغورش ولوقيش
وديمقراطس فإنهم كانوا يقولون ان الاسطقسات / غير
____________________
متناهية فاما
انكساغورش فكان يضع التي بهذه الصفة هي الاجسام المتشابهة الاجزاء وهي التي يسمى
الكل منها والجزء باسم واحد بعينه مثل اللحم والمخ والخشب. واما ديمقراطيس ولوقيس فانهما يريان ان التي بهذه الصفة هي اجسام غير متجزئة وانها غير
متناهية في عددها واشكالها وان الاجسام المركبة من هذه إنما تختلف لمكان اختلاف
الأجزاء التي تتركب منها من قبل ثلاثة أشياء الشكل والوضع والترتيب.
وآل انكساغورش يخالفون آل ابن دقليس وذلك ان ابن دقليس يرى ان الاجسام المتشابهة
الأجزاء هي مركبة من الاسطقسات الأربعة التي هي الهواء والماء
والنار والأرض. وآل
انكساغورش
يخالفون آل ابن دقليس فيرون ان هذه الاجسام الأربعة مركبة من المتشابهة الاجزاء. وكل
هؤلاء كما قلنا قد كان يجب عليهم بحسب هذا
_________________
الرأي في الاسطقسات
ان يقول
ان الكون المطلق غير الاستحالة ، الا ان بعضهم لزم في ذلك أصله وبعضهم لم يلزم في
ذلك أصله مثل انكساغورش وابن دقليس. فاما انكساغورش فلم يلزم أصله لأنه يسمى الكون
والفساد
المطلق استحالة. واما ابن دقليس فلما كان يضع ان الكون انما هو باجتماع الاسطقسات
الأربعة من
المحبة ، والفساد بافتراقها عن البغضة ، وكان يضع ان هذه الاسطقسات غير متغيرة
بعضها الى بعض وان فصولها التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وغير ذلك من
الكيفيات التي تعرض فيها الاستحالة باقية باعيانها فانه بين
أنه لا يوجد على مذهبه استحالة ، اذ كانت الاستحالة انما هي في هذه الفصول. وايضا
فلما كان يرى انه لا يمكن ان يكون من الماء نار ، ولا من الأرض ماء ، وبالجملة انه
لا يكون واحد من هذه الاجسام الأربعة عن صاحبه على طريق الكون والفساد المطلق ، فقد يجب ضرورة الا يكون من الأبيض
أسود ولا من الصلب لين وهذه هي الاستحالة. وانما كان ذلك واجبا لأنه إذا لم تتغير
الاسطقسات بعضها الى بعض لم يكن هنالك موضوع واحد يقبل
__________________
الضدين سواء كانت
تلك المضادة من الاستحالة او كانت من الجوهر فإنه واجب ان يكون لكل تغير موضوع
سواء كان التغير في الجوهر او في الكم ، أعني النمو والنقص ، او في الكيف اعني الاستحالة. ولذلك
متى انزلنا موضوعا فهنالك ضرورة تغير ، ومتى انزلنا تغيرا فهنالك ضرورة موضوع ، وليس
لقائل ان يقول ان الموضوع
في الاستحالة هو غير الموضوع في الجوهر فكيف يلزم اذا رفعنا الموضوع في الجوهر ان
نرفع الموضوع في الاستحالة ، فإن الموضوع في الاستحالة انما صار موضوعا لها من جهة
الموضوع في الجوهر ، ولذلك يلزم
ارسطو في الاستحالة ما الزم من الجوهر فمن هذا يظهر ان ابن دقليس لا يقدر أن يقول
بالفرق بين الكون المطلق والاستحالة. وقد أظهر ارسطو ان قول هذا الرجل
مناقض لما يوجد عيانا ومناقض بعضه لبعض. أما
مناقضته للحس فمن قبل انه ليس يتكون عنده واحد من الاسطقسات / الأربعة عن آخر منها
، بل
__________________
كل شيء يكون من هذه ولا
تتكون هذه بعضها من بعض واما التناقض الذي يوجد في اقواله ، فانه لما كان يقول انه
ليس لشيء من الأشياء / طبيعة وانما هو اختلاط فقط او افتراق فقط وان الكون لأجزاء
العالم انما يكون من ذلك الشيء الواحد المختلط عند ما تتميز منه الأشياء وتفترق
بفصول تخصها وآثار ما حتى يكون الواحد منها نارا بانه حار يابس والآخر ارضا بانه
بارد يابس والآخر الشمس كما يقول هو بانها شيء حار ابيض / وذلك اذا غلبت العداوة
المحبة والفساد للعالم يكون ايضا بأن تجتمع ايضا اجزاؤه من هذا الافتراق فيصير
واحدا إذا غلبت المحبة فبيّن انه يلزم عن ذلك ان تكون الاسطقسات بعضها عن بعض لان
التكون والفساد له ليس شيئا اكثر من خلعها
الفصول (الموجودة
لها بعد الوجود ووجودها بعد العدم
، وذلك شيء لزم أن يعرض بالافتراق من ذلك الواحد ويفسد بالاجتماع لذلك الواحد ، فإن
الافتراق ليس هو شيئا غير حدوث فصولها والاجتماع
ليس شيئا اكثر من خلع تلك الفصول) . فلذلك
صار قوله ان هذه
________________
الاسطقسات لا تكون ولا
تتكون بعضها من بعض وقوله انها تعود شيئا واحدا وتتكون من شيء واحد متناقض ، وذلك
انه لا يمكن ان يقال في هذه انها تصير شيئا واحدا وتلك الفصول موجودة لها بالفعل.
فمن هذا يظهر ان اقاويل هذا الرجل من هذا الوجه متناقضة وايضا ما هو خفي من قوله
هل يعتقد ان هذه الاسطقسات هي اوائل لذلك الشيء الواحد ام ذلك الشيء الواحد هو أول
لهذه الاسطقسات؟ فإنه ان كان وجودها في ذلك الواحد الذي يجتمع اليه واحد بالقوة [اعني انها تتكون منه وهو لها فهي أولى (كذا) وموضوع ، فالواحد أولى ان يكون
مبدأ لها من ان تكون هي مبدأ له وان كان وجودها فيه بالفعل وهو واحد بالتركيب] فهي
احرى بأن تكون مبدأ له واحرى ان تكون متقدمة بالطبع. فقد تبين من هذا القول مذاهب
القدماء من الكون والاستحالة ومن لزم اصوله في الفرق بينهما ومن لم يلزمها.
___________________
الجملة الثالثة
وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول :
الفصل الأول يخبر فيه عن الأشياء التي
ينبغي ان تعلم من امر الكون المطلق / والفساد المطلق ومن الحركات الاخر مثل النمو والاستحالة
وسائر الأشياء المشتركة لهذه التغايير مثل الفعل والانفعال والمماسة والاختلاط ، ويعرّف
مقدار ما قاله القدماء في ذلك ، ومن قصّر فيما أعطى من فصول هذه الأشياء ، ومن
أعطى من ذلك شيئا فعلى اي جهة أعطاه.
الفصل الثاني : يحل فيه الشكوك التي يظن
بها ان الكون والفساد اجتماع وافتراق ، وان بهذا الوجه يخالف الاستحالة ، وهي
الحجج التي جرت العادة أن يستعملها القائلون بالجزء الذي لا يتجزأ ، ويعرف ان
اعتقاد وجود اشياء غير منقسمة وعدم اعتقاده ليس بيسير فيما يلزم من ذلك في هذه
الامور ، ويقايس بين راي من يعتقد ان الغير منقسمة هي السطوح وبين من يقول انها
اجسام.
الفصل الثالث : يفحص فيه عن الأشياء
التي يجب ان يفحص عنها في الكون المطلق أعني هل هو موجود وان كان موجودا فعلى اي
جهة وجوده.
الفصل الأول
٣ ـ قال :
وقد يجب ان نتكلم في امر التكون المطلق والفساد
المطلق. اما اولا فهل هما موجودان / ام ليسا بموجودين وان كانا موجودين فعلى اي
جهة وجودهما. وكذلك ينبغي ان نفحص عن هذين المعنيين في الحركات الأخر البسيطة مثل
النمو والاستحالة وذلك ان ما قاله القدماء في ذلك يوجد على احد وجهين إما [انهم] تكلموا
في هذه الأشياء في البعض ، وإما انهم تكلموا بكلام غير صواب ، وإما انهم جمعوا
الامرين مثال
ذلك افلاطون فانه لم يبحث عن كيفية كل تكون وانما تكلم في كيفيات تكوّن الاسطقسات
بعضها من بعض ، اعني البسائط ، لا في تكون المركبات عنها مثل تكون اللحم والعظم ، ولم
يتكلم ايضا لا في الاستحالة ولا في النمو بأي وجه يكونان في الامور ، وبالجملة
فانه لا يوجد احد من القدماء له في جميع هذه الأشياء قول اعني في الكون والفساد والاستحالة
والأشياء المشتركة لها التي هي الفعل والانفعال والاختلاط والمماسة الا ما يمكن أن
يعرفه الجمهور منها وما يمكن ان يعرف من ذلك في بادئ الامر مثل قولهم ان النمو
إنما يكون بان / يتصل الشبيه بشبيهه ما خلا
_________________
ديمقراطس ولوقيس
فانهم راموا ان يعطوا لهذه الأشياء فصولا تتميز بها بعضها عن بعض وذلك ان هذين
قالا ان مبدأ الأشياء هي الاجسام الغير منقسمة ، الغير متناهية من قبل العدد والشكل
، وان الكون والفساد يعرض باجتماع هذه وافتراقها ، واما الاستحالة فباختلافها
بالتركيب والوضع. قالوا وذلك انه يعرض للكيفيات أن تختلف من قبل هذين او أحدهما ومثل
ذلك الهجاء والمديح فانهما كيفيتان مختلفتان وهي تتركب من حروف واحدة وانما تختلف
بتركيبها. قالوا وهذا هو السبب في ان كان كل تخيل حقا وفي ان / كان يعرض ان يرى في
الشيء الواحد بعينه احوال متضادة وغير متناهية ، وهي كلها حق وذلك ان الوضع والترتيب
لمّا كان لا يتناهى في الشيء الواحد بعينه من قبل اختلافه في نفسه ومن قبل اختلاف
نظر الناظرين اليه امكن عندهم ان يرى انسان الشيء الواحد بعينه ابيض ويراه الآخر
اسود او متحركا ويراه الآخر ساكنا كل ذلك حق لان الطبيعة للكيفيات ليس شيئا اكثر
من تبديل الوضع والترتيب ، ولما كان هذان الشيئان يختلفان باختلاف الناظرين اليه
لاختلاف الجهات ، فقد يعرض ان يرى الشيء الواحد بعينه واحدا ساكنا ويراه الآخر
متحركا ، وكلا الرؤيتين حق وليس للون عندهم ولا لسائر الكيفيات طبيعة غير هذه ، وبالجملة
فانهم إنما احتاجوا لهذا الرأي في الاستحالة لما كانوا يعتقدون ان كل تخيل حق.
الفصل الثاني :
٤ ـ قال
:
ولما كان اكثر الناس يعتقدون ان التكون
شيء والاستحالة شيء غيره ، وان الأجسام تكون وتفسد على جهة الاجتماع والافتراق ، وتستحيل
من قبل انها تتغير في الاعراض اللاحقة لها فقد يجب ان نفحص عن الشكوك والاقاويل
التي تتضاد في ذلك. فانه ان وضع واضع ان التكون يكون بالاجتماع والافتراق ، لزم عن
ذلك وجود الاجزاء التي لا تتجزأ. وقد عددت المحالات التي تلزم عن وجود اجزاء لا
تتجزأ في السادسة من / السماع والثالثة من السماء والعالم. وان قلنا ان الكون والفساد
ليس هو اجتماعا وافتراقا ، عسر علينا ان / ناتي بالفرق بين الكون والاستحالة. ومبدأ
الفحص عن ذلك هو هل الموجودات الطبيعية تتكون وتستحيل وتنمو ويلحقها اضداد هذه من
جهة ان مبادئها اعظام غير منقسمة ام ليس يتغير شيء من قبل وجود عظم غير منقسم. وذلك
ان الفرق بين الاعتقادات اللازمة في هذه الأشياء عن هذين ليس بيسير. وايضا ان كانت
المبادي اعظاما غير منقسمة فهل هي اجسام على مذهب ديمقراطيس ولوقيس ، او سطوح على
ما قيل في طيماوس ، فان كلى الرأيين وان كان يلزمهما محالات كثيرة على ما سلف ، فان
اقنع القولين هو راى ديمقراطيس ولوقيس وذلك ان هؤلاء قد يمكنهم ان
يوفوا اسبابا
للاستحالة من قبل الاعظام التي لا تنقسم وذلك من جهة الوضع والترتيب كما قلنا. واما
من يعتقد ان هذه الاسطقسات هي سطوح فليس يمكنهم ان يقولوا في أمر الاستحالة شيئا وذلك
ان الذي يمكنهم ان يقولوا انه تولد عن السطوح انما الجسم فقط لا غير ذلك من
الاعراض الموجودة في الجسم التي فيها الاستحالة. والسبب في أن ديمقراطيس ومن قال
بقوله امكنه ان يأتي بفصول في هذه الأشياء بحسب مذهبه في المبادي ولم يمكن ذلك
افلاطون ، ان أولئك جعلوا نظرهم في الطبيعة من امور طبيعية ومناسبة وافلاطون جعل
نظره من امور غير مناسبة
بل من امور عرضية ، وذلك بيّن مما احتج به كل واحد لمذهبه. وذلك ان افلاطون كان
يحتج لانه يجب ان تكون هاهنا سطوح غير منقسمة بوجود المثلث وذلك أن السطوح كلها
تنقسم اليه ، وليس ينقسم هو الى سطح آخر وانما ينقسم الى مثلثات ، واذا كان كذلك
فهو اول السطوح وهو بيّن ان هذه مقدمات تعاليمية فانه ليس يجب ان يكون اول السطوح
هو أول الاجسام. واما ما احتج به القائلون بالاجزاء التي لا تتجزأ ففيه موضع شك وهي
ماخوذة من مقدمات طبيعية وذلك انهم قالوا ان كان الجسم يمكن ان ينقسم بكليته ، اي
كل نقطة فيه
من / النقط التي هي غير متناهية ، يمكن ان ينقسم عليه على حد سواء ولم تختص بذلك
نقطة دون نقطة. فاذا انزلنا انه قد انقسم معا
___________________
بالفعل على هذه
النقط كلها التي لا نهاية لها فليس يعرض عن ذلك محال ، فان هذا الانزال وان كان
كاذبا كان كاذبا ممكنا
(كاذب ممكن). والممكن لا يعرض عن وضعه موجودا بالفعل محال ، كما يعرض عن الكاذب
الممتنع ، مثال ذلك انه لو انزلنا ان الخردلة يمكن ان تنقسم الى الف الف الف جرما
ما لا يمكن احد او لا يقدر على ذلك مما يبطل طبيعة هذا الامكان ولا مما يوجب ان
يكون انزالها منقسمة الى هذه الآلاف كذب ممتنعا (كذا) واذا فرضنا ان الجسم منقسم
بكليته معا ، أي منقسم على اشياء غير متناهية معا ، فلا يخلو ان ينقسم الى اعظام
غير منقسمة او الى اعظام منقسمة او نقط او الى اعراض من اعراضه او ينقسم الى لا
شيء. وكونه منقسم / الى اعظام منقسمة مناقض لقولنا انه منقسم بكليته وانه منقسم
على كل نقطة ، لانه / يبقى فيه شيء منقسم وهو تلك الاعظام؛ ولو انزلنا تلك الاعظام
من الصغر بمنزلة النشارة التي ينقسم اليها الجسم المنشور وايضا فانه يلزم ان يوجد
في الشيء المتناهي اعظام منقسمة غير متناهية بالفعل وذلك كله محال؛ وان انزلنا انه
ينقسم الى نقط ويتركب عنها لم يحدث من ذلك عظم وذلك ان النقطة من شأنها ان ينطبق
بعضها على بعض حتى تكون نقطة واحدة؛ وايضا فمما يدل ان النقط لا تزيد في العظم ولا
تنقص منه انا متى قسمنا العظم بنقطتين او ثلاث تم ركبناه فليس يصير العظم اصغر مما
كان ولا أعظم ، واذا لم
___________________
يكن لها تاثير في
الصغر ولا في العظم فيجب عن ذلك ألا يحدث عظم؛ وايضا فإن النقط يجب ان تتحرك قبل
ان يتركب منها العظم حتى تتلاقى وتتماس ، والمتلاقي والمتماس منقسم على ما تبين في
السادسة من
السماع وان كان انما ينقسم الى غير شيء.
فالعظم يتركب من غير عظم ، وكذلك ان انقسم الى اعراض / موجودة مثل ان ينقسم الى
الانفصالات التي تحدثها النقط كان العظم ايضا مؤلفا من غير عظم وإذا بطلت هذه
الوجوه فواجب ان كان العظم منقسما بكليته معا ان يكون منقسما الى اجزاء لا تتجزأ.
فهذه هي الأشياء التي يحتج بها من يضع
ان عظما غير منقسم. والمحالات التي تلزم وجود اعظام غير منقسمة قد فرغ ايضا من
ذكرها. فينبغي ان يقال هاهنا في حل هذا الشك ومن أين دخلت عليهم الشبهة في هذا
الاستدلال. فنقول انا لسنا ندفع انقسام الجسم بكليته والى غير نهاية من جميع
الوجوه ، لكن هو عندنا ممكن من جهة وغير ممكن من جهة. اما الجهة التي هو عندنا بها
ممكن فهو الانقسام بالقوة لا الانقسام بالفعل الذي يكون على جميع النقط التي فيه
معا ، فانه لو كان ذلك كذلك للزم ضرورة ان ينحل الجسم الى النقط او الى لا شيء ، او
يسلمون ان الاعظام الغير منقسمة هي النقط ، وليس يلزم اذا كان منقسما بكليته
بالقوة ، أعني على كل نقطة ان يكون منقسما بالفعل كما توهموا. وذلك انه ليس يلزم
اذا كانت كل نقطة في الجسم فهي قابلة للانقسام على حد سواء معا. وان كان منقسما
على كل واحد منها
على حدّ سواء كما ان الانسان ليس يلزم من قولنا فيه انه قابل لجميع العلوم ان يكون
قابلا لها معا ، وذلك ان ما يصدق على الشيء منفردا فليس يصدق عليه مركبا على ما
قيل في كتاب
سوفسطيقي وهذه المغالطة هي من هذا الموضع وانما
كان يمكن ان ينقسم على كل النقط معا لو كانت نقطة تلقى نقطة. وقد تبين انه لا
تلاقي نقطة نقطة في السادسة
من السماع ، ولذلك ما نرى انه متى قسمنا العظم
على نقطة انه لا يمكن ان يقع الانقسام على النقطة ، التي تلي تلك النقطة وقد كان
ذلك ممكنا فيها قبل ان يقع الانقسام على هذه [كما كان ممكنا فيها قبل ان يقع
الانقسام على هذه] كما كان ممكنا في النقطة التي وقع عليها الانقسام. وكلما وقع / انقسام في الاولى تعدد امكان
الانقسام في التي تليها فمتى اخذنا
نقطة واحدة امكن ان ينقسم بها العظم من أي موضع شئنا. فاذا قسمنا بها العظم في
موضع ما لم يمكن ان نقسمه بنقطة ثانية في اي موضع ، اذ كان لا يمكن ان نقسم على
نقطة تالية لتلك النقطة. واذ / قد تبين من هذا القول بطلان ما استدلوا به على وجود
اعظام غير منقسمة ، وكان قد تبين فيما سلف بطلان هذا الراى نفسه ، فبيّن انه كان
هاهنا تفريق وجمع؛ فواجب ألا يكون تفريق الى ما لا ينقسم ولا جمع مما لا ينقسم. وان
توهم ذلك من قبل قسمة الجسم بكليته انما كان يصح لو كانت نقطة تلي نقطة. ونحن فلسنا
ندفع ان كونا ما يكون
__________________
بالاجتماع وفسادا ما
بالافتراق فأمّا الكون المطلق والفساد فلا يمكن ان يكون من قبل الاجتماع والافتراق
، من اجل انه لا يمكن ان يكون من قبل الكم المتصل تغير في الجوهر ولا تغير في
الكيف وهذا هو الذي وقع لهم الخطأ فيه أولا. بل انما التكون المطلق هو التغير
للشيء باسره من هذا المشار إليه الى هذا المشار إليه ، مثل ان يتغير هذا الماء
المشار اليه. هواء مشار اليه. وهؤلاء قد كانوا يظنون بمثل هذا انه استحالة ، وبين
هذا والاستحالة فرق ، وذلك ان الموضوع للاستحالة شيء ما موجود بالفعل ومشار / اليه
، والموضوع للكون ليس موجودا بالفعل ولا مشار اليه ولذلك كان التغير في الجوهر
كونا وفسادا وفي الاعراض التي تقال في موضوع استحالة فاما افتراق الشيء واجتماعه
فهو مما يصير به الشيء اسرع فسادا او أبطأ وذلك انه اذا انقسم الى اجزاء صغار سهل
فساده واذا كان مجتمعا غير منقسم عسر فساده وسيبين هذا فيما بعد أكثر.
الفصل الثالث
وهذا الفصل تبين فيه خمسة مطالب :
المطلب
الأول : يبين فيه مما ذا يكون التكون المطلق والى ما ذا يكون الفساد المطلق
ان كانا موجودين.
المطلب
الثاني : يذكر فيه شكّا يلزم / في وجود الشيء
الذي [٥
ظ : و]
___________________
بالقوة الذي منه
يكون الكون والفساد.
المطلب
الثالث : يبحث فيه عن سبب اتصال الكون في
الموجودات ويعرف [أن] بالوقوف على هذا السبب يوقف على حل ذلك الشك.
المطلب
الرابع : يبين فيه كيف جرت العادة عندهم ان يقال
في بعض الجواهر انها تكونت على الاطلاق وفسدت على الاطلاق ، ولا يقول ذلك في غيرها
بل يقال انها تكونت من غير موجود ما وفسدت الى غير موجود ما يحل بذلك الشك الذي
يعرض فيما اعطى من سبب اتصال الكون بان يكون الموجود ابدا يتكون عن موجود.
المطلب
الخامس : يبين فيه لم كانت الموجودات يقال فيها
انها تتكون [على الاطلاق وبعضها يقال فيها انها تتكون] شيئا ما لا على الاطلاق.
وهذان المطلبان الآخران راجعان الى
مطلوب واحد كما سيظهر
عند وصولنا اليه.
___________________
المطلب الأول
٥ ـ قال
:
واذ قد تبين انه لا يمكن الكون باطلاق
اجتماعا ولا الفساد تفرقا ، فينبغي ان ننظر هل هاهنا شيء يتكون ويفسد على الاطلاق
ام ليس هاهنا شيء يتكون ويفسد الا بطريق الاستحالة التي تعرض في شخص العرض الموجود
في موضوع مشار اليه مثل تكوّن الصحيح مريضا والمريض صحيحا. وذلك انه ان كان هاهنا
تكوّن [على] الإطلاق وفساد على الإطلاق فينبغي أن يكون لشخص الجوهر المشار إليه ، لا لشخص شىء من الأشياء التي تقال في
موضوع ، وان كان لشخص الجوهر المشار اليه تكوّن فينبغي ان يكون مما ليس هو شخص
الجوهر ، كما ان التكون للابيض انما يكون عما ليس هو [ابيض ولا اسود. وذلك انه كما
ان التكون الذي يقال فيه أنه تكون ما يكون من لا شيء] / ما ، لا عما هو ليس شيئا على الاطلاق
، كذلك ما يتكون باطلاق يلزم ان يكون عما ليس هو باطلاق وما ليس هو باطلاق يفهم
على أحد وجهين إما لأنه
ليس جوهرا مشارا إليه ، وهو واحد من
__________________
سائر المقولات ، إما
لانه ليس جوهرا
مشارا إليه ولا واحدا مما هو تحت المقولات العشر لاكم ولا كيف ولا غير ذلك. وكيف
ما فهمنا من «ليس المطلق» يلزم ان يكون المفهوم منه عدم المقولات العشر ، وذلك انه
ان اردنا بما هو ليس باطلاق أنه / عدم الجوهر فبيّن انه يلزم عنه عدم سائر المقولات
والا يكون شيء منها موجودا والا كانت الأعراض مفارقة للجوهر إذ كانت توجد فيما ليس
هو جوهرا. واذا كان ليس المطلق يدل على عدم المقولات فنحن بين احد أمرين ، إما ان
نضع ان العدم شيء ما ، او نعتقد ان شيئا يكون من العدم المطلق. وقد لخص حل هذا
الشك في المقالة الأولى من السماع الطبيعي وهو يضع ما قيل >هنالك<هاهنا
فيقول ان التكون المطلق يكون عن موجود بالقوة لا بالفعل وهو الذي يصدق عليه من جهة
انه موجود ومن جهة انه غير موجود ، وذلك انه غير موجود بالفعل موجود بالقوة.
المطلب الثاني
ولما صحّ حلّ ذلك الشك من هذه الجهة قال
انه يبقى في ذلك شك آخر حتى انه يعيد الشك الأول في وجود الكون المطلق من راس ، أعني
هل هاهنا كون مطلق ام لا ، والشك هو هذا : وذلك انه ان كان هاهنا تكوّن مطلق وكان
عما هو بالقوة [< موجودا
__________________
وليس هو بالفعل ، فهل
لهذا الشيء الموجود بالقوة >]
شيء من الأشياء الموجودة بالفعل / كأنك قلت واحد من مقولات العرض ، مثل ان يكون
بالفعل كمّا او كيفا او غير ذلك من المقولات العشر ، او ليس له واحد من المقولات
العشر بالفعل ، وانما هي له كلها بالقوة ، فإن كان له موجودا بالقوة جميع المقولات
وليس فيه شيء بالفعل منها ، لزم ان يطلب هل يمكن ان يفارق ما بالقوة ، وقد تبين
استحالة ذلك. وايضا فإنه يلزم عنه ان يكون موجودا من غير موجود بالفعل وهو الشيء
الذي كان القدماء يهربون من تسليمه. وان كان واحدا بالفعل من مقولات العرض لزم ان
توجد الاعراض مفارقة للجوهر.
المطلب الثالث
٦ ـ قال
:
وقد يجب ان نبحث عن هذا المعنى بعناية
بالغة. والوقوف عليه يكون إذا وقفنا على السبب الذي من أجله وجب ان يكون التكون
دائما المطلق وغير المطلق.
٦ ـ قال
: ولما كانت [الاسباب] التي في الكون سببين أحدهما السبب المحرك والآخر الهيولاني
، فانا اما نطلب الوقوف على هذه الأشياء هاهنا / من قبل السبب الهيولاني ، وذلك ان
____________________
السبب المحرك صنفان
: إما اول وعام ، وإما لا اول ولا عام فاما الأول العام لجميع المتحرك فقد تبين
وجوده في السماع؛ وذلك انه قد تبين هنالك ان هاهنا صنفين من المحركين احدهما غير
متحرك الدهر كله بل محرك فقط ، والثاني متحرك عنه الدهر كله. فاما تلخيص جوهر هذين
المحركين فمن شأن الفلسفة الأولى وأما المحركات غير الأول الجزئية الدائمة التحريك
التي من قبلها ايضا صار الكون دائما فسيلخص / فيما بعد. واذا كان هذا هكذا فالقصد
هاهنا انما هو إعطاء
السبب الهيولاني الذي من قبله كان الكون والفساد دائما الى ان نتكلم بعد في
الاسباب الجزئية الفاعلة لهذه الحال من الاتصال في الكون. وباعطاء هذا السبب الذي
من جهة الهيولى ينحلّ الشك الذي تقدم ، وهو كيف يكون ما بالقوة عريا مما بالفعل. وقد
ينبغي قبل ان ناتي بهذا السبب ان نذكر الشك الذي يلحق من قبل الموضوع في اتصال
الكون ، والشك هو هكذا : ان كان الفاسد انما يفسد ويصير ما ليس هو بموجود ولا
واحدا من المقولات العشر وكان المتكون يتكون من موجود متناه فقد يلزم ضرورة ان
يبيد الكل ويخرب العالم لانه ليس لقائل ان يقول انما دام التكون لان ما منه الكون
ليس ينفذ ولا يتم لانه غير متناه
بالفعل. فان وجود شيء غير متناه بالفعل قد تبين انه محال ، وان الممكن من وجود غير
المتناهي انما هو بالقوة ، مثل
_________________
القسمة التي توجد في
الاعظام ، وذلك إنها تنقسم ابدا دائما بنصفين. وهذا الشك ينحل والشك المتقدم بان
فساد الشيء الواحد بعينه هو تكوّن لغيره ، وذلك انه اذا كان الفساد كونا للكائن
وجب ضرورة الا ينقطع الكون وذلك بتعاقب الصور على الموضوع الذي هو الهيولى ووجب
ايضا الا يتعرى ذلك الشيء الذي منه الكون المطلق الموجود بالقوة عن الشيء الموجود
بالفعل وهو الصورة.
المطلب الرابع :
٧ ـ قال : ويعرض في هذا شك ، قد ينبغي
ان ننظر فيه ، وهو انه اذا كان كون الجوهر فسادا لجوهر فكيف يعرض ان يقال في بعض
الأشياء التي فيها الكون في الجوهر والفساد / في الجوهر انها تكونت لا باطلاق وفسدت
لا باطلاق؟
فنقول ان هاهنا جهة من الجهات يدلون بها على هذا المعنى وذلك انه يشبه ان يكون ما
يعرض من ذلك في كون الجوهر بعضها عن بعض شبيها بما يعرض من ذلك لكون الجوهر عند
مقايسته بكون الاعراض ، فكما [انه يقال في كون الجوهر انه كون على الاطلاق وكذلك
في فساده ، ولا نقول
_______________
ذلك من كون الاعراض وفسادها]
، بل نقول
كونا ما وفسادا ما لا كونا على الاطلاق ولا فسادا على الاطلاق ، كذلك يشبه ان يعرض
للجواهر بعضها مع بعض ، اذ كانت الجواهر التي تتغير بعضها الى بعض مختلفة من قبل
ان بعضها تدل على المشار اليه بالتقديم والتحقيق ، اعني الذي هو جوهر اول ومقصود
بذاته وبعضها لا يدل على مثل هذا المشار اليه بل انما يدل على مشار متأخر في الجوهرية.
مثال / ذلك ان النار لما كانت تدل على المشار إليه الموجود بالتحقيق عند برميندس
اكثر من الارض ، سمى النار موجودا والارض غير موجودة. فعلى هذا النحو وما أشبهه
يمكن ان يقال في مثل تكوّن النار من الارض انه كون مطلق وفي مثل تكوّن الارض من
النار انه كون ما ، لا كون بالاطلاق. وهذه احدى الجهات التي منها يصح ان يقال في
بعض الجواهر كائنة باطلاق وفي بعضها لا ، وذلك بحسب ما يعتقد فيها واحد واحد من
الناس. وانه لا يحل بصحة هذه الجهة من الاستعمال غلط من غلط في ذلك ، فاعتقد فيما
وجوده أكمل انه / أنقص او فيما وجوده انقص انه أكمل. وليس المقصود هاهنا تصحيح قول
برميندس ولا غيره. وانما المقصود تصحيح هذه الجهة من الاستعمال ، فهذا فرق واحد من
جهة الصورة. وفرق ثان من جهة الهيولى ، وذلك ان اشخاص الجواهر التي الغالب على
تركيبها من العناصر الاربع ما كانت فصوله الضدية اقرب الى
_________________
الوجود وادل على
المشار اليه فهو اكمل ايضا في الجوهرية من الاشخاص التي الغالب على تركيبها من
العناصر ما كان فصله اقرب الى العدم وأقل دلالة على المشار اليه مثال ذلك ان فصل
النار الذي هو الحرارة اقرب الى الوجود من فصل الماء الذي هو البرودة ، وذلك ان
البرودة بوجه ما هي عدم الحرارة. فالاشخاص التي الغالب على تركيب اجزائها النار هي
أتم وجودا من التي الغالب على تركيبها الارض والماء /. كذلك يمكن ان يقال في مثل
هذه الأشياء اذا تكوّن الانقص من الاكمل ، انه للاكمل فساد مطلق وللانقص كون ما ، وبالضد
اذا تكوّن الاكمل من الانقص. بل يمكن ان يقال في الاكمل [اذا تكون الاكمل من
الانقص بل يمكن ان يقال في الاكمل]
اذا فسد الى الانقص انه فسد الى غير موجود ، واذا تكوّن الأكمل من الأنقص انه تكون من غير
موجود ، على ما جرت عادة القدماء ان يستعملوه في مثل هذه الاكوان. وقد يسبق الى ظن
كثير من القدماء ان الكمال والنقصان في اشخاص الجوهر التي من قبلها يعرض لها هذا
العرض انما هو من قبل تفاضلها في الاحساس وعدمه ، فيقولون متى كان تغير الى شيء
محسوس من غير محسوس انه تكوّن من غير موجود ، ومتى تغير الى شيء غير محسوس قالوا
انه فسد الى غير موجود. وانما عرض ذلك لهم من قبل انهم
_________________
ظنوا انه لا سبار
هاهنا لمعرفة الأشياء الا الحس. واذا كان ذلك كذلك فواجب ان يكون المحسوس هو
الموجود والغير محسوس هو المعدوم ، كما ان المعلوم عندنا هو الموجود والغير معلوم
هو غير الموجود ، وذلك انهم لما اعتقدوا ان الموجود هو المدرك لنا ، وانه ليس
هاهنا موجود غير مدرك فاعتقدوا ان الادراك لنا الذي نحن به ما نحن انما هو بالحس ، اعتقدوا ان المحسوس هو
الموجود. وهم وان كانوا غالطين في ذلك ، كما يقول ارسطو ، فهم مقتفون في هذا
الاعتقاد أثار الحقّ ، كونهما [كذا] وهو قولهم ان الموجود هو المدرك والغير مدرك
بالطبع هو المعدوم لكن غلطهم انما هو في ان اجروا الحس مجرى العلم. ولذلك يعرض ان
يكون الامر في نفسه خلافه عند الحس. مثال ذلك الهواء والارض فان الهواء عند العقل
اكمل وجودا من الأرض ، والأرض أكمل وجودا عند الحس. ولذلك ليس يلزم أن يكون ما كان
اكثر محسوسا أن يكون اكمل لان الاكمل على الحقيقة انما هو الاكمل عند العقل.
فقد تبين من هذا القول السبب الذي من
أجله يمكن أن يقال في تغير بعض الجواهر الى بعض انه كون مطلق وكون من غير موجود وفساد
مطلق والى غير موجود ، وليس السبب الذي به قلنا في التغير الى بعض الجواهر أنه كون
مطلق وفي تغير بعضها كون ما هو / بعينه السبب الذي به نقول في التغير الى الجوهر
انه كون مطلق وفي التغير منه انه فساد مطلق ونقول في التغير الى سائر
____________________
المقولات ومنها انه
كون ما وفساد ما. وذلك ان السبب في هذا هو ما قيل في كتاب المقولات
ان الامور المشار اليها صنفان : فمنها ما يقال لا في موضوع ولا على موضوع ، وهو
شخص الجوهر؛ ومنها ما هو في موضوع وهو شخص العرض ، فما كان من هذا لا في موضوع قيل
في التغير اليه كون باطلاق وفي التغير منه انه فساد باطلاق ، وما كان من الاشخاص
التي تقال في موضوع قيل في التغير منها واليها انه كون شيء ما وفساد شيء ما. والسبب
في هذين الاستعمالين اعني الذي في الجواهر والذي في الاعراض والجواهر هو بجهة ما
سبب واحد ، وهو إن وجد فيها صنفان كامل وغير كامل فقيل في التغير من الكامل والى
الكامل من الصنفين جميعا كون مطلق وفساد مطلق ، وفي التغير الى الناقص ومن الناقص
إنه كون ما وفساد ما. مثال ذلك في الجواهر كون الارض ، من النار والنار من الأرض ،
وكون الإنسان ، وكون العلم للإنسان ، فإن التغير من النار والى النار يقال فيه كون
مطلق وفساد مطلق ، والتغير من الأرض وإلى الأرض يقال فيه كون ما وفساد ما ، إذ
النار اكمل وجودا من الأرض ، والتغير من الإنسان والى الإنسان يقال فيه أيضا كون
مطلق وفساد مطلق ، والتغير من العلم والى العلم يقال فيه انه كون ما وفساد ما. فقد
تبين من هذا القول الوجه الذي به نقول في التغير الى بعض الجواهر انها كون باطلاق وفساد
بإطلاق ، وفي بعضها لا نقول ذلك ، والوجه الذي به نقول ذلك والوجه الذي به نقول
ذلك في الجواهر والاعراض وانها على جهة شبيهة. وأنه ليس ينبغي أن يشككنا القول في
بعض هذه الجواهر انها تتكون من غير
موجود فيما قلنا من
أن السبب في اتصال الكون هو أن الهيولى الاولى ليس يمكن أن تتعرى من أحد الضدين
أبدا ، أعني أن الكون يكون من موجود والفساد إلى [غير] موجود ، فإن غير الموجود
إنما يدل به على اخس الضدين ، والموجود يدل به على اشرفها. وإذا كان ذلك كذلك
فبالواجب الا ينحل الكون لان فساد غير الموجود الذي هو الضد الاخس يكون ابدا كونا
للموجود الذي هو الضد الاشرف والمحسوس اكثر ، وفساد الضد الاشرف يكون كونا لغير
الموجود الذي هو الضد الاخس والغير محسوس والمحسوس / أقل ذلك.
وقد يتشكك في هذا ويقال هل قولنا
الموجود وغير الموجود ينطلق على الضدين اللذين احدهما اشرف من الآخر ، مثل ان يكون
الثقيل الذي هو الأرض هو غير موجود والخفيف الذي هو النار هو الموجود ، ام غير
الموجود يدل على هيولى الضد الاخس كانك قلت هيولى الأرض ، والموجود يدل على هيولى
الضد الاشرف كأنك قلت هيولى النار ، وهذا يوجب أن ننظر هل هذه الهيولى هل هي
بعينها واحدة لجميع هذه الاجسام الأربعة ام ليست هي واحدة بعينها فنقول :
إنها من وجه واحدة بعينها ولذلك امكن ان
تستحيل بعضها الى بعض ، ومن جهة كثير وبذلك امكن ان تقبل الصور المتضادة ، فهي
واحدة بالموضوع كثيرة بالقوة والاستعداد لقبول الصور المتضادة وهذه الاستعدادات
بعضها ايضا اشرف من بعض لكون كمالاتها أشرف.
فهذا مبلغ ما قاله في أمر التكون المطلق
والتكون الغير المطلق أعني في الجوهر.
الجملة الرابعة
٨ ـ قال :
ونحن مخبرون بالفرق الذي بين الكون والاستحالة
وذلك أن كل واحد من هذين هما التغير ، ولهما موضوع وضدان وشيء يلحق الموضوع. وهما
يفترقان بالموضوع والشيء الذي في الموضوع. فالاستحالة تكون متى كان الموضوع شيئا
بالفعل ومشارا إليه / وتغيّر في نوع من انواع مقولة الكيف متى كانت تلك الكيفيتان
متضادتين او كانت بين الضدين. مثال ذلك ان البدن الواحد بعينه يصحّ حينا ويمرض
حينا ، وهو واحد بعينه ، والنحاس المشار اليه يكون حينا مستديرا وحينا ذا زوايا وهو
واحد بعينه. واما التغير في الجوهر فيكون متى لم يبق من الشيء الذي منه التغير
شيئا مشارا اليه على أنه موضوع لذلك الشيء الحادث فيه بالذات لا بالعرض ، مثال ذلك
اذا تغير الدم وصار كله منيّا او تغير الهواء بجملته فصار ماء. وابين ما يكون ذلك
متى كان التغير من غير محسوس الى محسوس بحس اللمس او بسائر الحواس. مثال ذلك ان
يتكون من الهواء ماء ، فإن الهواء يكاد أن يكون غير محسوس لا بالبصر / ولا باللمس
، وإنما اشترطنا في المشار اليه الثابت للكيفية المتكونة ان تكون تلك الكيفية
موجودة له بالذات من قبل أنه قد يوجد في الأشياء المتكونة شيء يبقى بعينه محسوسا
مثل الجسمية الباقية في الماء والهواء عند / تكوّن احدهما من الآخر ، ومثل الشفيف والرطوبة
وغير ذلك من الاعراض التي يشتركان فيها. لكن هذه الأشياء التي تبقى بعينها في
المتكونات يظهر انها ليست موضوعة للشيء الحادث في امثال هذه المتغيرات بالجهة
التي هو المشار اليه
موضوعا في التغير الذي في الكيف. والسبب في ذلك أن الشيء الباقي في مثل تكون الماء
من الهواء هو شيء لا حق للموضوع القابل لذلك التغير ، لأنه الموضوع نفسه ، بل إنما
هو بالعرض أي من قبل انه في الموضوع ، ولذلك لو كان وجود الاستحالة في موضوعها
المشار اليه مثل هذا الوجود ، أعني بالعرض لكانت الاستحالة هي الكون. مثال ذلك ان
الرجل لو كان موضوعا لصناعة الموسيقى وعدمها ، على جهة ما الجسمية موضوعة لصورة
الماء والهواء أعني بالعرض ، لكان تغير الرجل من الجهل بالموسيقى الى المعرفة بها
كونا وفسادا في الجوهر ، لكن الرجل هو موضوع بالذات للمعرفة بالموسيقى فلذلك كان
استحالة لا كونا. والاستحالة في ثبات الموضوع لها بالذات يوافق سائر التغايير ، ويخالفها
في الشيء الذي وقع اليه التغير. فمتى كان التغير المضاد في الكم كان نموا واضمحلالا
، ومتى كان في المكان كان نقلة ، ومتى كان في الكيفية كان استحالة ويخالف التغير
في الجوهر جميع هذه التغايير بأن لا يوجد فيه شيء موضوعا بالذات للشيء الذي وقع
اليه التغير ، والهيولى على التحقيق هي الموضوعة لهذا التغير ، والموضوع لسائر
اصناف التغايير إنما يقال لها هيولى بأمر متأخر.
فقد تبين من هذا أن التكون موجود وعلى
اي جهة وجوده وتبين الفرق بينه وبين الاستحالة.
[قلت :
__________________
والأبيها في هذا
الفرق بين الموضوع للاستحالة والموضوع للكون والفساد مما يظن به أنه شيء واحد
بالعدد لجميع المتكونات في الجوهر مثل الجسمية ، أن الجسمية المشتركة لجميع ما
يتكون في الجوهر هي واحدة بالعدد ، بالقوة لا بالفعل ، والجسمية / الموضوعة
للاستحالة هي واحدة بالعدد بالفعل ، ولذلك لا يبدّل جوهرها تبدل الاعراض عليها ، وان
اشتركت في الجسمية وفيما يتبع الجسمية من الاعراض. فعلى هذا ينبغي أن تفهم مذهب
ارسطو في هذا. ولذلك الابعاد الثلاثة التي تفهم [وتقوم] طبيعة الجسم هي اول حال في
الهيولى ، وإن الهيولى لا تتعرى منها في كون من الاكوان لا على ان وجودها في
الهيولى بالفعل بل بنوع من انواع القوة غير القوة التي تقومت بها الهيولى وهي
القابلة لهذه الابعاد الثلاثة ، وكان وجودها متوسطا بين القوة الهيولانية وبين
الابعاد الثلاثة التي بالفعل التي هي الموضوع للاستحالة.]
الجملة الخامسة
ـ وهذه الجملة فيها فصول ثلاثة :
الفصل الأول : يخبر فيه بالفرق بين
النمو وسائر الحركات من قبل الصورة.
الفصل الثاني : يتشكك فيه على الشيء
الذي به يكون النمو من الاوائل الموجودة بالطبع واي وجود وجوده.
الفصل الثالث : يخبر فيه بالوجه الذي
يكون به النمو في الاوائل
الموجودة له بالطبع وكيف
تنحل الشكوك التي فيه من تلك الاوائل.
الفصل الأول
٩ ـ قال : وقد ينبغي أن نبحث هل الفرق
الذي بين / النمو وبين سائر التغايير إنما هو الفرق الذي يوجد لها من قبل الشيء
الذي فيه التغير وهو الذي يتنزل من هذه التغايير منزلة المادة ، مثل قولنا إن
التغير الذي يكون في شخص الجوهر المشار اليه هو كون وفساد ، والتغير الذي يكون في
العظم هو نمو واضمحلال ، والتغير الذي يكون في الكيف هو استحالة ، والتغير الذي
يكون في الأين هو نقلة ، وأنه يشمل جميعها أنه تغير ما بالقوة الى ما بالفعل ام
هاهنا فرق آخر بين النمو وبين هذا التغايير مأخوذ من قبل الصورة والفعل؟ وهو بيّن
أن هذا الفرق الذي من هذه الجهة موجود في النمو وذلك أن النامي والمضمحل يبدلان
المكان ، والمستحيل والمتكون ليس يبدلان المكان. وتبديل النامي / أيضا والمضمحل
المكان هو بخلاف تبدل المكان المنتقل وذلك ان المنتقل صنفان إما مستقيم وإما
مستدير ، فالنامي يخالف تبديل المنتقل على استقامة ، فإن المنتقل على استقامة يبدل
المكان بجملته والنامي والمضمحل يبدله باجزائه؛ ويخالف المنتقل الاستدارة وان كان
كلاهما متحركين بالاجزاء فان اجزاء المتحرك على استدارة تبدل المكان بان ينتقل منه
لا بأن يأخذ مكانا أعظم ولا أصغر واجزاء النامي تبدله بان تأخذ مكانا أعظم وأجزاء
المضمحل تبدله بان تأخذ مكانا أصغر.
فقد بان ان الفرق بين النمو وبين سائر
التغايير هو في الأمرين جميعا اعني في الشيء الذي في التغير ، وهو الذي يتنزل منها
منزلة الهيولى وفي صورة التغير نفسه.
الفصل الثاني
١٠ ـ قال :
وإذا كان النمو والاضمحلال إنما يكونان
في الجسم والعظم ، فقد ينبغي أن ينظر هل نمو الجسد يكون من شيء هو موجود بالفعل
جسما أو من شيء هو موجود بالقوة عظما وجسما؟ ولأن هذا القسم الثاني يقال أولا على
اثنين ، أحدهما
ان يكون الشيء الذي بالقوة عظما وجسما مفارقا للجسم المحسوس ، والثاني ان يكون من
جسم محسوس ، وهذا أيضا على ضربين : إما ان يكون في جسم محسوس بذاته مثل الشيء
الكامن في الشيء وإما ان يكون فيه بالعرض مثل ما نقول نحن في وجود الهيولى في
الأجسام ، فقد ينبغي أن ننظر في واحد واحد من اقسام الذي بالقوة ثم ننظر في القسم
الذي بالفعل فنقول : اما ان كان النمو والاضمحلال هيولى مفارقة للجسم المحسوس فقد
يلزم ضرورة أما الا يشغل مكانا فيكون إما نقطة وما يجري مجراها ممّا ليس في مكان ،
[وإما خلاء] وإما أن يكون جسما غير محسوس. فأما كون النقط مادة للجسم وكون الخلاء
موجودا فقد
__________________
تبين استحالة ذلك
فيما تقدم؛ وأما ان كانت جسما غير محسوس فإنه يجب أن يكون ذلك الجسم من جهة ما منه
كون العظم في مكان ، وذلك انّ كل ما يكون منه شيء فواجب ان يكون في مكان إما بذاته
وإما بطريق العرض ، كما نقول نحن في المادة الأولى ، وذلك انه لا فرق في الواجب
بين الذي يكون منه الجسم على الإطلاق وبين الذي منه ينمو الجسم ، إذ كان الكون هو
في الكل ، والنمو كون في الجزء. ولذلك هذا الفحص هو من جهة / مشترك لهما ، ومن جهة خاص بالنمو. وإذا كان الجسم المفارق في
مكان فهو محسوس وغير مفارق فهو داخل في الفحص عن القسم الأول وهو الذي أرجأ الفحص
عنه إلى تمام الفحص عن هذه الأقسام. وإذا لم يكن نمو العظم ولا تكونه من شيء هو
موجود بالقوة ومفارق ، فقد بقى القسم. الأخير وهو أن يكون شيء موجود بالفعل. ولأن
هذا على ضربين إما بذاته وإما بالعرض : فأما الذي بذاته فمثل ان نقول إن الماء إذا
تكون هواء فإنما يكون لا بأن يتغير الماء إلى هواء لكن بان يخرج من الماء هواء على
أنه كان كامنا فيه لا على أنه حدث؛ واما الذي بالعرض فمثل ما نقول في وجود الهيولى
الأولى في الأجسام. وكون مادة العظم والجسم في النمو أو في الكون موجودة بطريق
الكمون ممتنع ، فإنه يلزم عن ذلك ان يوجد في الأجسام المتناهية أجسام بالفعل لا
نهاية لها ، وذلك انه إذا جاز ان يوجد في الماء هواء أعظم منه أو مساو له جاز أن
يوجد فيه أجسام لا نهاية لها بالفعل إلى
________________
غير ذلك من الشناعات
التي عددت في غير هذا الموضوع. فالأولى إذن ان نضع ان مادة الجسم ونموه هي الهيولى
الأولى التي
قلنا أنها
واحدة بالعدد كثيرة بالقوة ، لا ان الهيولى جسم موجود بالفعل من جسم ، ولا أنها
أيضا نقط وخطوط وسطوح ، فان هذا يلزم عنه الاّ يكون في مكان لا بذاته ولا بالعرض ،
وما منه كون العظم قد يجب أن يكون في مكان كما قلنا إما بالذات وإما بالعرض ، بل
الهيولى هي الشيء الذي الخطوط والسطوح نهاية لها وحد. ولذلك ليس يوجد في حال من
الأحوال مفارقة للأعراض والصور ، إذ كانت النهايات لا يمكن فيها ان تفارق الذي هي
نهاية له. وقد نجد التغير في الكون يشبه التغير في النمو في السبب الفاعل والمادي؛
أما في السبب الفاعل فإنه كما ان المتكون إنما يتكون عن شيء موجود بالفعل ، إما من
نوع / المتكون وإما من جنسه القريب أو البعيد؛ أما من النوع فمثال الإنسان من
الإنسان والنار من النار ، وأما بالجنس البعيد فمثل تكون الصّلب من البارد ، كذلك
النامي إنما كان الفاعل فيه شيئا هو وصورة الأجزاء المتكونة واحدة بالنوع فان
الفاعل لأجزاء العظم الذي ينمو بها هو العظم ، وكذلك الأمر في سائر ما ينمو. واما
في السبب الهيولاني فإنه لمّا كان ليس هاهنا هيولى بالقوة للجسم العام ، على ما
تبين ، وإنما هي هيولى لجسم آخر مشار إليه ، وكان النمو إنما هو كون من أجزاء
الجسم المشار إليه ، فواجب ان تكون الهيولى لهما واحدة. إلاّ أن هذا الذي وقفنا
عليه من أمر مادة النمو ليس هو شيئا يخصه ، بل هو
_________________
شيء عام له وللكون.
فأما النمو فانه إذا نظرنا فيه بما يخصه وجب ان يكون مع / وجود مادة الكون فيه جسم
، موجود بالفعل ، وذلك ان النمو لما كان تكوّنا في الكمية ، والاضمحلال فسادا في
الكمية ، وكان العظم إنما يزيد من قبل زيادة عظم فيه بالفعل والاّ وجب أن يكون
الجسم مؤلفا من النقط وكذلك لا ينقص الا من قبل فساد عظم منه بالفعل ، فواجب أن
يكون النمو من شيء هو بالفعل جسم. وأما التكون فلانه في باب الكيفية ليس يلزم ذلك
فيه. إلا ان هذا
يتلقاه شك / كبير ، وهو ان يكون الجسم يداخل الجسم باسره والاّ كيف ينمو النامي في
جميع أجزائه حتى يكون جسمان في مكان واحد؟ وليس لقائل أن يقول أن التكون الذي في
النمو ، وان كان في باب الكمية ، فإنه ليس يلزم ان يكوّن بورود جسم على النامي
بالفعل ، وذلك أنّا نجد الهواء إذا تكون من الماء انتقل إلى كمية أعظم من غير أن
يرد هنالك جسم من خارج فإن هذا ليس هو نموّا وإنما الهيولى الأولى من شأنها أن
تقبل الزيادة والنقصان في العظم. وذلك يظهر ظهورا بيّنا إذا تحفظ بالأشياء
الموجودة بالذات للنامي وهي الأوائل التي منها ننظر فيه ، وهي ثلاثة : أحدها ان كل
نقطة منه وكل جزء محسوس فهو ينمو على مثال واحد وكذلك إذا اضمحل يضمحل في كل جزء
محسوس. والثاني أنه إنما ينمو بورود شيء من خارج عليه. والثالث ان يكون الشيء الذي
يتصف بالنمو والاضمحلال مشارا إليه وباقيا بعينه. وإذا كان ذلك كذلك فبيّن ان الكمية
/ التي
___________________
توجد في الهواء إذا
كان من الماء ليس نموّا لا للماء ولا للهواء لأن هذا التغير الذي يوجد لهما من النقصان إلى الزيادة ليس له موضوع واحد ، وقد قلنا انّ النمو له
موضوع واحد وقيل أنّ الجسم المشترك للماء والهواء هو الموضوع لهذا النمو انفسد
عليه ان يكون هذا نموا بالأصل الثاني وهو أن النمو إنما يكون بورود شيء من خارج.
فهذا مقدار الشكوك التي أتى بها فيما منه ينمو النامي وكيف ينمو.
وهنا أيضا شك آخر في النامي إذا سلمنا
أنه شيء بالفعل وهو هل النامي هو الشيء الواحد أم الشيء الذي يرد عليه ، مثال ذلك
ان الساق إذا نمت بالغذاء هل الغذاء هو النامي أم الساق أم كلاهما؟ وهذا الشك ينحل
بقرب ان الجوهر من احدهما يثبت ويبقى وهو الساق ، والآخر لا يثبت بل يستحيل وهو
الغذاء ، فإن النمو إنما ينسب للباقي<للنامي> لا للمستحيل. مثال ذلك ان
الشراب الذي في الدن إذا صب فيه ماء ولم يغير فعله قلنا فيه أنه ينمو ، وكذلك نقول
فيه دائما ما دام يفعل فعل الشراب ولا نقول ذلك في الماء الذي نصبه فيه لأنه
يستحيل. وكذلك متى استحال شيء عن شيء استحالة فابطل جوهره لم تنسب الاستحالة إلى
ذلك الشيء الذي بطل وجوده ، وإنما ينسب إلى الشيء الذي بقي موجودا ، مثال ذلك ان
الغذاء الحار إذا ورد البدن استحال منه إلى حرارة وبطل جوهر الغذاء. وبحق ما ينسب
إلى الاستحالة في مثل هذا ، والنمو إلى الشيء
_________________
الباقي بالفعل ، لأن
مبدأ التحريك إنما هو في المستحيل الثابت والنامي.
الفصل الثالث
١١ ـ قال :
وإذ قد بلغنا من التشكيك في أمر النمو
ممّا فيه كفاية فقد ينبغي أن نلتمس [حل ذلك]
بعدا أن نتحفظ بالأوائل الموجودة للنامي ، وهي كما قلنا ثلاثة : أحدها أنه ينمو وينقص
في كل نقطة ـ محسوسة منه. والثاني أنه ينمو من شيء خارج ويضمحل بما ينحل منه. والثالث
أن فيه شيئا ثابتا بالفعل لهذه الحركة. وان نتحفظ أيضا من أن نأتي من ذلك بامر من
الأمور المستحيلة مثال أن نجوز / في وجود الخلاء لضرورة النمو ، أو نجوّز وجود
جسمين في جسم واحد /. وأول ما ينبغي أن يعلم من أمر النمو أنه إنما يوجد أولا
للأجسام المتشابهة الأجزاء وانه إنما يوجد للآلية بتوسط المتشابهة ، وذلك أمر ظاهر
بنفسه فإن الآلية إنما نقول فيها انها نمت إذا نما اللحم منها والعظم وسائر
المتشابهة التي تركت منها.
١٢ ـ قال : ولأن كل واحد [منها] من
الاعضاء المتشابهة مركب
/ من مادة وصورة على ما عليه الأمر في جميع الأجسام الطبيعية ، وكان
__________________
يجب في الشيء النامي
أن يكون ثابتا ، إذ كان ذلك احد الاوائل الموجودة له ، وكانت المادة سائلة والصورة
ثابتة ، فقولنا ان الشيء ينمو في كل جزء منه إنما نذهب فيه إلى الشيء الذي يتنزل
منه منزلة الهيولى ، وذلك أن الهيولى غير ثابتة ، والنامي ينبغي أن يكون ثابتا. وإنما
يتصور حال الصورة في ذلك مع الهيولى ، أعني في ثبوت الصورة وتبدل الهيولى ، منزلة
المكيال مع الشيء الذي يكال به فإن المكيال هو واحد بعينه والشيء الذي يكال به ، بمنزلة
الحنطة والشعير هو شيء واحد بعد آخر ، ولو تصورت مكيالا يعظم حينا لما يدخل فيه ويصغر
حافظا لشكله ، لكانت قد تصورت حال الصورة في نموها مع الهيولى وتصور الامرين جميعا
إذا تصورت شعبا من جلد مرة يجري فيه ماء قليل فينقص ومرة يجري فيه ماء كثير فيعظم
، وهو في كلا الأمرين حافظ لشكله ، وعلى هذا ينبغي أن يتصور النمو في هيولى اللحم والعظم.
١٣ ـ قال :
وعلى هذا النحو لا يلزم أن تكون الزيادة
شائعة في جميع أجزاء المادة ، إذ كان بعضها يذهب وبعضها يدخل من خارج ، حتى يضطر
إلى القول بجواز مداخلة جسم جسما او القول بوجود الخلاء في الجسم النامي فلو كانت
المادة هي الثابتة لكان يلزم في النمو اما ان يداخل جسم جسما واما أن يوجد خلاء.
١٤ ـ قال :
والوقوف على أن النامي إنما ينمو في كل
جزء من أجزاء الصورة يكون أظهر في الاعضاء الآلية ، إذ كانت الصورة فيها أظهر.
مثال ذلك اليد فإنك إذا تأملتها تجدها قد نمت في جميع أجزائها حافظة
لشكلها الذي هي به
يد.
١٥ ـ قال :
ومن الدليل على أن / الصورة أظهر في
الأعضاء الآلية منها في المتشابهة أن الميت قد يقال أن له لحما وعظما أكثر مما
يقال أن له يدا ورجلا. وإذا كان هذا هكذا فيجب أن يكون أي جزء كان من اللحم من وجه
ناميا ومن وجه غير نام ، اما من قبل الصورة فنام ، واما من قبل الهيولى فغير نام. ولما
كان النامي إنما يصير أعظم بورود الغذاء عليه من خارج ، وكان الغذاء ليس هو بالفعل
الشيء الذي يرد عليه ، أعني ليس هو عظما بالفعل ولا لحما وإنما هو بالقوة ، فإذا
تغير صار عظما ولحما ، فقد يجب أن يكون الغذاء من جهة شبيها ومن جهة غير شبيه ، فهذا
معنى ما يقوله في حل هذا الشك اللازم في النمو واعطاء الجهة التي بها يكون النمو. والاسكندر
المفسر لهذا الكتاب يقول أن ما قيل من ذلك إنما قيل على جهة الاقناع وسكون النفس
إليه ، فإن المادة ليس تذهب كلها ولا تتحلل بأسرها في النامي ، بل فيها شيء يبقى
ثابتا والا كانت الصورة يمكن أن تفارق وإذا كانت المادة فيها جزء ثابت فذلك الجزء
نام ضرورة فأما كيف تنمو المادة فذلك يكون بجهة الاختلاط وذلك أن من / شأن الجسم
النامي إذا ذهب منه جزء ان ينقص في جميع أجزائه ، وكذلك يعرض فيه عند الزيادة
بمنزلة ما يعرض عند إخراج الدم من البدن أعني أنه ينقص الدم في جميع أجزائه بنقصان
جزء منه وكذلك يعرض فيه عند الزيادة. ولذلك يجب أن يكون في الاعضاء الناشئة رطوبة
مبثوثة يختلط بها الغذاء الوارد عليها إذا استحال إلى طبيعة تلك الرطوبة فينمو شكل
العضو بنمو تلك الرطوبة
من جميع أجزائه ، وينقص بنقصانها على أن الطبيعة هي
الحافظة لشكل ذلك العضو في وقت نموه عن تلك الرطوبة. هذا هو معنى ما قاله في هذا
المعنى وإن لم تكن الفاظه بعينها. وعلى هذا تتكون الجهة البرهانية التي ينحل بها
الشك المتقدم إنما هي جهة الاختلاط الذي يوجد لبعض الاجسام وهذا إن كان حقا في
نفسه فكيف يظن بمن هو المفيد لما قيل من الصواب في هذه الأشياء وما يقال الى غابر
الدهر إنه ذهب عليه هذا في هذا الموضع إن كان حقا في نفسه او كيف يظن به / أنه
اكتفى في هذا المعنى بأمر مقنع مع قصده تتميم / ما نقص للقدماء في هذه الأشياء.
فقد ينبغي أن ننظر نحن في ذلك فنقول :
إن قول القائل إن النمو إنما يكون في
الصورة [هو بيّن أنه ليس يعني به أن الصورة] تنمو بما هي صورة ، فإن النمو من باب
الكم والصورة من باب الكيف ، وإذا كان ذلك كذلك وكان النمو هو من باب الكم فإنما
اراد بذلك أن الشيء لا ينمو في الكم أي في جميع أجزائه من جهة ما هو كم بل من جهة
ما هو كم ذو صورة ، أي كم صورته صورة النامي لا صورة المنمي. وإذا كان ذلك كذلك
فالكم الذي يفعل النمو انما هو كم بالقوة. ولذلك ليس يلزم اذا كمل النمو ان يكون يداخل كمه كم النامي كما يلزم
ذلك اذا وضعنا كم المنمي كمّا بالفعل ، لان الكم الذي بالفعل انما يوجد
____________________
للشيء من جهة صورته
لا من جهة صورة غيره والغذاء انما يوجد له الزيادة في كمية المغتذي من جهة ما يوجد
له صورة المغتذي. واما الشك الذي هو التداخل فانما كان يلزم لو كانت كمية الغذاء
انما تزيد في كمية المغتذي من جهة ما صورته صورة المغتذي ، ولو كان هذا هكذا للزم
ان توجد الزيادة في النامي من قبل شيء هو ذو كم بالفعل فكان يلزم الشك المتقدم.
فهذا هو الفرق بين النمو الذي من قبل المادة بما هي مادة ، وبين النمو الذي لها من
جهة الصورة. وإذا كان نمو الشيء في جميع اجزائه لا من جهة ما هو كم بل من جهة ما
هو كم ذو صورة ، اعني اذا كان نمو الشيء في جميع اجزائه من جهة ما الجزء اداة صورة
فبيّن انه ليس يلزم عن نموه في جميع اجزائه من هذه الجهة ان يداخل جسم جسما لان
النمو يكون من قبل الصورة في الشيء النامي. وانما كان يلزم ذلك لو كان نموا في
اجزائه من قبل الهيولى فقط أي من جهة ما هي اجزاء لانه لو كان ذلك للزم احد امرين
إما أن يكون النمو تراكما وإما أن تتداخل الاجزاء الواردة الاجزاء القابلة. والأشياء
المختلطة انما عرض لها ان تتدافع اجزاؤها بالسواء عن الجزء الداخل عليها وان تتحد
بها من جهة ما اجزاؤها ذات كيفية محدودة وهي الرطوبة لا من جهة ما هي ذات كمية
فقط. ولو كان ذلك يوجد لها من جهة ما هي كمية لامكن ان تختلط جميع الأشياء.
فالزيادة / التي توجد للاشياء المختلطة في جميع الاجزاء انما هي من قبل الصورة.
فاما ان النمو هو للكمية بما هي ذات صورة فهو يستدل عليه بأن النامي
يجب أن يكون هو
الشيء الثابت ، والاجزاء لا تثبت الا من جهة ما هي ذات كيفية لا من جهة ما هي
أجزاء ، اذ يظهر من امرها من جهة ما هي اجزاء انها في تغير دائم. فعلى هذا ينبغي
ان يفهم قول الحكيم ، لا على ما فهمه منه
الاسكندر ، حين اراد ان يبيّن ان النمو في الصورة لا في المادة من اجل ان المادة
متحركة والصورة ثابتة فان هذا ينفسد كما قال بانه يوجد في الاعضاء مادة ثابتة فيجب
ان تكون نامية ، ولم يرد الحكيم ان النمو في الصورة دون المادة ولا في المادة دون
الصورة ، وانما اراد ان النمو في جميع اجزاء النامي من جهة الصورة لا من جهة
المادة ، وهي الجهة التي هو بها ذو اجزاء ، فان الجسم انما هو ذو اجزاء من قبل
المادة ، والاجزاء سيالة من جهة ما هي اجزاء ثابتة من جهة ما هي ذات صورة. ولما
كان النمو يوجد للنامي من جهة ما هو ثابت كان ذلك للاجزاء من جهة ما هي ذات صورة
لا من جهة ما هي ذات اجزاء. وانت ترى ان بين هذا الفهم والفهم الأول من اقاويل
الحكيم بونا بعيدا. ويشبه عندي ان يكون الذي يحل الشك بالجهة التي حله بها
الاسكندر ان يكون ناقلا للشك لا حالاّ له لانه قد يبقى ان يقال فكيف ينمو العظم
بتلك الرطوبة في جميع اجزائه وليس من شانه ان يختلط بها وكذلك في جميع الاعضاء
الجامدة فان المختلط هو السيّال. ولذلك هو أولى إما ان يكتفى في جواب هذا الشك بما
يجاوب به الحكيم. وإما ان يلتمس شيئا يجري من جوابه مجرى التتميم له. فانه يظهر ان
النمو
__________________
يحتاج الى الاختلاط
كما يقوله هو بعد هذا ، والا كان كونا لاجزاء اللحم والعظم على انفرادها عند ما
ينقلب الغذاء عظما ولحما من العظم واللحم. فهذا الاختلاط انما هو فيه ضروري من هذه
الجهة ، لا من جهة وجود النمو من جميع الاجزاء من غير تداخل ، فانه ان فرضنا ذلك
لزم الا تكون النامية الا المختلطة فكيف نقول في نمو الشكل. وبالجملة في نمو العضو
الآلي او / نقول ان العضو فيه قوة ممدّدة بالطبع الى جميع الاقطار فيعرض له عن ذلك
تخلخل ما فتتشذب تلك الرطوبة الغذائية في جميع اجزائه ، اعني في جميع الثقب الصغار
التي لا يمكن ان يوجد في اللحم ثقب اصغر منها عند ما تتمدد تلك الثقب ، فاذا
امتلات من تلك الرطوبة استحالت تلك الرطوبة اجزاء لحمية [تحدث بالاجزاء اللحمية] التي
بين تلك الثقب ، وهي الاجزاء [التي لا يمكن ان توجد اجزاء] لحمية اصغر منها وحدثت
ايضا في تلك الاجزاء اللحمية الحادثة ثقب لا يمكن ان يوجد اصغر منها. فإذا تمدد
العضو ايضا مرة ثانية تخلخلت جميع تلك الثقب فامتلأت بالرطوبة الغذائية وذلك
بالقوة الغاذية وتشذب العضو / بها واستنقع كما يستنقع الفتيل بالزيت واستفرغ الحر
بالماء. فاذا فعلت الحرارة فيها وعقدتها عادت لحما في اللحم وعظما في العظم تم
تخلخل مرة ثانية هكذا حتى يتم نمو العضو. فاذن النمو انما يكون للنامي من جهة هذه
القوة الذي هو بها ذو صورة وهذه القوة هي الصورة التي أراد أرسطو بقوله ان النامي
إنما ينمو بصورته لا بمادته أي من قبل صورته لا من قبل المادة ولو لا وجود
هذه القوة في النامي
لكان النمو في جميع الاجزاء المحسوسة غير ممكن الا لو امكن ان يداخل جسم جسما.
فاذن السبب الذي اعطاه ارسطو في ذلك هو عام في جميع الأشياء المختلطة [وغير
المختلطة] والسبب الذي أتى به الاسكندر في ذلك هو خاص بالمختلطة ، ولذلك كان حل
ذلك الشك ، من جهة ، حلا بامر عارض فلنرجع الى حيث كنا.
قال
: ومما يشك ان النمو لما كان من الشيء الذي هو بالقوة الشيء النامي وهو بالفعل شيء
آخر ، مثال ذلك ان الغذاء هو بالقوة لحم وهو بالفعل خبزا وغير ذلك ، كان واجبا فيه
الا يكون بالفعل جزء من النامي ، حتى تفسد الصورة الموجودة فيه بالفعل وتتكون فيه
صورة النامي ، مثل ان تفسد صورة البدن وتتكون صورة اللحم. ولما كان الامر هكذا في
النمو فقد يقال ان. كان هذا الجزء المتكون منفصلا من النامي ومميزا عنه عند ما
يتكون ، فهذا كون في / الجوهر لا تغير في النمو ، واذا لم / يكن النمو كونا فعلى
اي جهة يمكن ان يكون النمو؟ وهو يجيب عن هذا [بان] النمو انما يكون بالاختلاط الذي
ينقلب فيه الوارد على الشيء الى طبيعة الشيء الذي ورد عليه. وهذا هو الفرق بين هذا
الاختلاط والاختلاط الذي يكون عنه كون المركبات من الاسطقسات على ما سياتي بعد. ومثل
هذا الاختلاط اذا خلطت ماء بالتراب او برطوبة فقهر التراب طبيعة الماء فعاد الكل
ترابا او تزيد. وكذلك اذا ورد الغذاء على الرطوبة احالته الى طبيعتها مع
________________
انها تزيد به كميتها
فكون الغذاء لحما بالفعل بعد ان كان لحما بالقوة إنما يكون بعد الاختلاط وهذا
الفرق بينه وبين التكون. ومثال ذلك انك اذا أوقدت نارا على انفرادها كان ذلك تكونا
، واذا زدت نارا متكونة إضراما بان تضع عليها حطبا حتى يعظم ، فان ذلك شبيه
بالنمو. وينبغي ان تعلم أنه كما ان التكون المطلق ليس يوجد للجسم المطلق والا لزم
ان يكون التكون من غير موجود اصلا ، وانما يكون تكون جسم من جسم آخر غيره ، مثال
ذلك انه ليس يحدث حيوان على الاطلاق ليس هو انسانا ولا واحدا من الحيوانات
الجزئية؛ كذلك الامر في الكمية التي تحدث في النامي ليست كمية مطلقة فتكون من غير
كمية وانما تكون كمية ما حادثة عن كمية أخرى غيرها . ولذلك كان واجبا أن يكون الحادث في
النامي الذي هو لحم او عظم او عضو آلي مركب من هذه انما يحدث بان يكون الغذاء
الوارد عليه كمّا بالفعل لا كمّ لحم ولا عظم بالفعل بل بالقوة. والفرق بين النمو والاغتذاء
انما هو من جهة هذه الكمية الحادثة وذلك انه متى كان الحادث في الحس انما هو لحم
فقط ، قيل فيه انه اغتذاء ، ومتى كان الحادث لحما ذا كمية محسوسة قيل فيه انه نمو ولذلك
امكن في الشيء ان يغتذي الى آخر العمر مع انه في تنقص ولم يمكن فيه النمو في جميع
العمر. فالغذاء اذن والنمو أما في الموضوع فشيء واحد ، وأما بالجهة فمختلفان؛ وذلك
انه متى كان الغذاء الوارد عليه بالقوة لحما ذا كمية محسوسة فهو من هذه
___________________
الجهة نمو ، ومتى
كان انما هو بالقوة / لحم فقط غير محسوس الكمية كأنك قلت صورة مجردة فقط وان كان
لا بد هنالك من كمية لكنها غير محسوسة فانه
من هذه الجهة اغتذاء .
فمتى كان الغذاء الوارد
على النامي ليس بالقوة إلا صورة فقط غير ذات كمية بالفعل بل بالقوة لم تصر بذلك
صورة الشيء النامي أعظم ، ومتى كان بالقوة صورة ذات كمية كان نموا. فهذا هو الفرق
بين النمو والاغتذاء ، واما الاضمحلال فإنما يكون إذا لم تقو صورة النامي أن تقلب
جميع أجزاء / الغذاء إلى جوهره أو تحيله إلى ذاتها بل تحيل الأغذية الرطوبة
الطبيعية التي في الاعضاء الى جوهرها حتى تنقص بذلك كمية تلك الرطوبة الطبيعية
بعكس الامر في النمو ، اعني في إحالة تلك الرطوبة الاغذية وهذا الضعف يعرض لها
بالطبع شيئا شيئا وقليلا قليلا مع طول العمر ، اعني ان تضعف تلك الرطوبة عن احالة
جميع اجزاء الاغذية الواردة عليه حتى يحيل كثيرا من اجزائها الى اغذية فيقع
الاضمحلال في الكم والصورة باقية بعينها كما كان النمو والصورة باقية بعينها. ومثال
ذلك اذا خلطت ماء بشراب شيئا شيئا حتى تجعل الشراب مائيا / فإنه حينئذ يقع اضمحلال
كثير من اجزاء تلك الرطوبات التي في الابدان ، اعني اذا انقلبت الى طبيعة كثير من
اجزاء الاغذية وتخرج عن البدن كما ينقلب الشراب في هذا المثال الى طبيعة
___________________
الماء.
فقد تبين من هذا القول كيف يكون النمو وفي
ما ذا يكون وبما ذا يكون ، وانحلت كذلك جميع الشكوك الواردة عليه وما الفرق بين
الاغتذاء والنمو وكيف يقع الاضمحلال.
الجملة السادسة
وهذه الجملة فيها فصلان :
الفصل الأول : يخبر فيه بالضرورة
الداعية في هذا العلم الى التكلم في المماسة والفعل والانفعال والمخالطة قبل
التكلم في الكون.
الفصل الثاني : يتكلم فيه في المماسة.
الفصل الأول
١٦ ـ قال :
ولما كان القصد الأول في هذا الكتاب ان
نفحص عن الاجسام الأربعة التي تسمى اسطقسات هل / هي اسطقسات ام لا ، وان كانت
اسطقسات فهل هي غير متكونة بعضها من بعض حتى لا يكون لها اول اقدم منها ، ام هي
متكونة بعضها من بعض ، وإن كانت متكونة بعضها من بعض فهل فيها اول لا
يتكون من شيء ، ام
كل واحد منها متكون عن صاحبه ، كان واجبا ان نقدم قبل هذه المفاحص الأشياء التي
تقال على غير تحصيل من الامور المضطرة اليها عند جميع من قال بالكون والاستحالة ، وهي
المماسة والفعل والانفعال والمخالطة. فإن القدماء قد اضطرهم طبيعة الامر الى
التكلم في هذه المعاني وذلك انهم صنفان : إما قائل بان الاسطقسات اكثر من واحد ، وإما
قائل بأن الاسطقس واحد. فأما من قال ان الاسطقسات اكثر من واحد ، كانت هذه الاجسام
الأربعة هي التي منها تتولد الأشياء عندهم مثل ما يقول ابن دقليس ، او كانت هذه
الأربعة انما تتولد عن الاسطقسات عندهم مثل قول انكساغورش وديمقراطيس الذين يجعلون
هذه الأربعة مركبة من المتشابهة الاجزاء او من الاجزاء الغير منقسمة وقد يقولون
بالاجتماع والافتراق ، والاجتماع والافتراق هو بوجه ما مخالطة وان كان ما يقولون
من ذلك غير محصل ، ومن قال بالمخالطة لزمه القول بالفعل والانفعال والمماسة. واما
من قال بان الاسطقس واحد فإنه وإن لم يلزمه القول بالمخالطة فانه يلزمه القول
بالفعل والانفعال. ولذلك اصاب ديوجانيس اذ قال أنه لو لم يكن هاهنا موضوع واحد لما
امكن ان ينفعل شيء عن شيء ، وذلك انه ليس من طبيعة البارد ان ينقلب حارا ولا في
طبيعة الحار ان ينقلب باردا ، بل واجب ان يكون موضوعا يقبل الامرين فلأن كل من جعل
الاسطقس واحدا جعل مضادته [واحد قد يلزمه أن يكون الفعل
من قبل المضادة والانفعال
من قبل [...] ]
واحدا واذا كان هنالك فعل فهنالك مماسة. فلهذا يجب ان نلخص القول في هذه الثلاثة
قبل القول في صفة الكون ، ونبدأ اولا بالمتقدم منها بالطبع وهي التماس ثم الانفعال
ثم المخالطة ، لأن ما انفعل او فعل فقد مس وما خالط فقد انفعل وقد مس.
الفصل الثاني
١٧ ـ قال :
وكما أن كل واحد من سائر الاسماء يقال
على أنحاء فمنها اسماء مشتركة ، ومنها ما يقال بتقديم / وتأخير ، كذلك الامر في
اسم التماس. ولكن الذي يقال منه بغير استحالة
ولا بمجاز وبأمر عام إنما هو في كل ما كان له وضع ، والوضع انما يكون لما له مكان.
ولذلك قد يقال في الاعظام / التعاليمية بوجه ما إنها تماس بعضها بعضا وذلك ان
الاجسام ليس يمكن أن تتوهم مجردة من المكان على ما شأن صاحب علم التعاليم أن
يجردها من سائر الاعراض ، فإن الجسم انما هو في مكان بأبعاده لا بغير ذلك من
اعراضه ، فالمكان أمر لازم للاجسام التعاليمية ، سواء كانت مفارقة على ما يراه قوم
بالوجود والقول ، او كانت مفارقة بالقول فقط. وهذا التماس المقول في الاعظام هو
مقول بمعنى
___________________
متأخر عن التماس
الحقيقي الذي يوجد في الامور الطبيعية ، وذلك أنه قد قيل في السماع
في حدّ المتماسين أنهما الجسمان اللذان نهايتهما معا. ولما كان معا هو وضع للاجسام
التي هي معا ومن ضرورة الوضع المكان ، كان المتماسان ضرورة في مكان. ولما كانت
انواع المكان الأول هي الفوق والاسفل ، فالاشياء المتماسة هي ضرورة إما فوق وإما
اسفل. ولما كان ما هو اسفل او فوق ثقيلا او خفيفا ، فالاشياء المتماسة هي ضرورة ما
كان لها ثقل او خفة ، إما لكليهما واما لواحد منهما. وبيّن ان الاجسام التي بهذه
الصفة فاعلة بعضها في بعض ومنفعلة ، واذا كان هذا هكذا فالمتماسان بالحقيقة او
التي شانها التماس هي الاجسام التي نهاياتها معا وهي فاعلة بعضها في بعض ومنفعلة
بعضها عن بعض. والمحرّك قد يظن به أنه مساوي للفاعل والمتحرك للمنفعل قالوا وذلك
انه لما كان المحرك يوجد على صنفين صنف يحرك بان يتحرك وصنف يحرك بان لا يتحرك ، والفاعل
أيضا يوجد بهاتين الصفتين وجب أن يكون كل محرك فاعلا وكل فاعل محركا وليس الامر
كذلك بل المحرك اعم من الفاعل وذلك أن الفاعل هو ما فعل اثرا او كيفية / اعني
استحالة. وذلك واجب من قبل أن الفاعل مقابل للمنفعل ، والمنفعل انما هو من
الاستحالة ، واما كل محرك فليس يلزم فيه ان يفعل استحالة. وإذا كان التماس
بالحقيقة انما هو في الفاعلة المنفعلة فبعض المتحركات يماس وبعضها لا يماس. الا ان
التماس ايضا من الامور الطبيعية قد يقال بعموم وخصوص؛ فإذا قيل بعموم قيل
على الجسمين اللذين
نهاياتهما معا ، واحدهما شأنه التحريك والآخر شأنه التحرك اي نوع من التحريك كان؛ وإذا
قيل بخصوص قيل على ما شأن احدهما الفعل وشأن الآخر الانفعال. وهذه ايضا تقال بعموم
وبخصوص؛ فإذا قيلت بعموم قيلت على ما شأن احدهما ان يفعل والآخر أن ينفعل؛ وإذا
قيلت بخصوص قيلت على كل ما يفعل كل واحد منهما في صاحبه وينفعل عنه الآخر وهذا هو
التماس بالمعنى المتقدم على جميعها. وهو ظاهر في الأشياء التي لدينا ، ولذلك قد
يمكن ان يقال أن كل ما يماس من الاجسام الطبيعية فهذه حالها ، وليس كذلك. فإن
الجسم السماوي يماس ما لدينا بأن يفعل فيما لدينا ولا ينفعل. وإذا كان الامر هكذا
فإنما نقول في الجسم السماوي انه يماس بالمعنى الأول وهو ان يكون احدهما شأنه
الفعل والآخر شأنه / الانفعال لا الفعل. لكن لما كانت الأشياء المتجانسة اعني التي
موضوعها واحد لا يفعل الا بأن ينفعل ، ظن بجميع الأشياء أنها هكذا. فقد بان من هذا
القول أن التماس على الحقيقة انما هو في الأشياء التي ينفعل كل واحد منها عن صاحبه
، وانه ان كان هاهنا شيء فاعل وهو غير منفعل فالمنفعل ممسوس ، والفاعل لا يقال فيه
ماس الا بضرب من الاستعارة مثل قول القائل «قد مسني الضر» ، وذلك أن التماس لما
كان من الامور المضافة ، وجب أن يدل بالحقيقة على أن كل واحد منهما ماس وممسوس.
فهذا هو معنى المس في [الامور] الطبيعية.
الجملة السابعة
وهذه الجملة تنقسم قسمين :
الأول : / يخبر فيه ما هي الأشياء
الفاعلة والمنفعلة وفي اي جنس من الموجودات توجد.
والثاني : يخبر فيه كيف يكون الفعل والانفعال.
القسم الأول
١٨ ـ قال :
إن الذي اخذناه عن القدماء في تعريف
طبيعة الأشياء الفاعلة / والمنفعلة قولان متضادان. فأما القول الواحد وهو الذي قال
به اكثرهم فهو أن الأشياء الفاعلة والمنفعلة هي الأشياء المتضادة. المختلفة لا
الأشياء الشبيهة. قالوا لان الأشياء اما أن تكون متضادة او متشابهة ، فأما الأشياء
المتشابهة فإنه ليس يمكن أن يفعل بعضها في بعض ، ولا أن ينفعل بعضها عن بعض لانه
ليس احدهما اولى من ان يفعل في صاحبه من الآخر ولا احدهما اولى ان ينفعل من الآخر.
قالوا فإن اعترضنا معترض ، وقال انا نجد النار الكبيرة تطفئ الصغيرة وهما متشابهان
فقد فعل احدهما في الآخر ، قلنا له أن ذلك من قبل المضاد والموجود لها في الكم فإن
الكبير ضد الصغير. واما القول الثاني الذي هو نقيض هذا فقد قال به ديمقراطيس وحده وهو
أن الأشياء الفاعلة المنفعلة هي
شبيهة ، قال والدليل
على ذلك أنه لا يجوز في الأشياء المختلفة المتضادة أن ينفعل بعضها عن بعض فإن الضد
لا يقبل ضده ، مثال ذلك لا تقبل الحرارة البرودة ولا البرودة الحرارة. وإذا لم
تنفعل الاضداد بعضها عن بعض فالاشياء المنفعلة هي المتشابهة المتفقة.
١٩ ـ قال :
فهذا ما أخذناه عن القدماء من هذين
الرأيين المتناقضين والدليلين اللذين يتعللوا بهما. والسبب بهذا التناقض انه لم
يلحظوا الأمر من جميع جهاته بل لحظوا هؤلاء الامر من جهة وهؤلاء من جهة ، ولذلك
قول الواحد منهما صادق بالجزء وكاذب بالجزء. وذلك أنه إذا تؤمل الامر بالاقاويل
البرهانية وجد أن الشيء يلزم أن يفعل في الشيء من جهة ما هو ضد وأن ينفعل عنه
الشيء من جهة ما هو شبيه ، وذلك أنه ليس يمكن أن يفعل الشيء في احدهما في الشيء من
جهة ما هو شبيه فإنه كما قال القدماء / ليس احدهما أولى بان يفعل في صاحبه من
الآخر. ولو وجد الشبيه يفعل في شبيهه لكان الشيء يفعل في نفسه. ولو كان ذلك كذلك
لم يكن هاهنا شيء غير فاسد ولا متحرك لان كل شيء يحرك ذاته ويفسد ذاته. وإذا لم
يفعل الشيء بما هو شبيه فهو ضرورة يفعل بما هو مخالف ، وكذلك يظهر انه لا ينفعل
الشيء من جهة ما هو مخالف وأنه لو انفعلت الأشياء المختلفة بعضها من بعض لا نفعل
كل شيء [عن كل شيء] ، وهو ظاهر أنه لا ينفعل كل شيء عن كل شيء ، فإنه لا / يمكن أن
ينفعل البياض عن الخط ولا الخط
عن البياض الا
بالعرض ، مثل ان يتفق ان يكون الخط اسود ، وإذا كان ذلك كذلك فالشيء إنما ينفعل
بما هو شبيه. فقد تبين لنا من هذا أن الفاعل والمنفعل هو من جهة شبيه ومن جهة
مخالف ، وإذا تأملنا الأشياء الفاعلة والمنفعلة ظهر لنا أنها اضداد ، فإنه ليس
يخرج الشيء شيئا عن طبعه الا أن يكون [ذلك الشيء] له ضدا ، ولذلك لم يمكن اي شيء
اتفق أن ينفعل عن اي شيء اتفق. فإذا كانت الأشياء الفاعلة والمنفعلة هي أضداد ، وكانت
الاضداد متشابهة بالجنس اذ كانت واحدة ومختلفة بالنوع ، فواجب أن تكون الأشياء
الفاعلة والمنفعلة متشابهة بالجنس مختلفة بالنوع. فأما أن الفاعلة والمنفعلة هي
اضداد فذلك ظاهر بالقول كما تقدم ، وبالاستقراء ، وذلك أن الجسم إنما شأنه أن يقبل
التأثير من جسم مضاد له مثل تكوّن النار عن الهواء وكذلك الطعم عن طعم مضاد له ، واللون
عن لون أيضا مضاد له والسبب في القبول هو الجنس المشترك لهما ، وفي الفعل هو
الضدية. وليس الصدق موجودا في هذه القضية المأخوذة هاهنا اعني القائلة إن الأشياء
الفاعلة المنفعلة هي اضداد ، بل وعكسها يظهر ايضا انه صادق وذلك انه إذا وضعنا ان
الاضداد متفقة بالجنس مختلفة بالنوع [وان المتفقة بالجنس المختلفة بالنوع] فاعلة ومنفعلة
ينتج لنا من ذلك أن الاضداد وما بينها < يليها > هي الفاعلة والمنفعلة. وهذا
البيان وان كان لا يفيد بذاته تصديقا على الاطلاق اذ كان بيانا بالدور ، فقد يفيدنا كما
_________________
يقول الاسكندر
تصديقا ما. وكون الاضداد / فاعلة منفعلة يظهر من الضدية الموجودة في الأشياء هي
سبب كونها بالجملة وفسادها ، ولذلك كانت النار تسخن والثلج يبرد ، وبالجملة كلما
كان الفاعل والمنفعل ضدا من جهة وشبيها من جهة لزم ضرورة ان يكون هذا يفعل وهذا
ينفعل والا لم يكن هنالك كون ولا فساد. ولما لم يهتد القدماء لهذا المعنى بجملته
كان ما اهتدى اليه احد الفريقين شبيها / بما اهتدى اليه الفريق الآخر منه ، والذي
غلّطهم ان الناس قد ينسبون الفعل الى موضوع الضد لا الى ضد ، ولما كان الموضوع هو
الشبيه ظن هؤلاء من هذه الجهة أن الفاعل شبيه ، وكذلك قد ينسبون الانفعال [للضد ويقولون
أن الضد يسكن ومن هذه الجهة قالوا أن الانفعال] للاضداد.
٢٠ ـ قال :
وينبغي أن تعلم أن الفاعل ايضا ضربان
كما أن المحرك ضربان وذلك أن في كل واحد منهما اول واخير وكما ان المحرك الأول قد
يمكن أن يكون غير متحرك بل قد تبين < محرك > وجوب ذلك في الامور الطبيعية ، <
وهو >
المحرك الاخير لا بد أن يكون
متحركا ، كذلك الفاعل الأول قد يجب أن يكون غير منفعل أصلا سواء كان في صناعة او
طبيعة ، مثال ذلك ان
___________________
الابدان تنفعل عن
صناعة الطب من المرض إلى الصحة ، وليست تنفعل صناعة الطب بهذا الانفعال ، اذ كان
الطب هو فاعلا اولا واما الغذاء او الدواء الذي به يفعل الطب الصحة في البدن فهو
ينفعل ويفعل. والسبب في ذلك هو الهيولى ، فانه اي فاعل لم يكن هيولاه وهيولى
المنفعل واحدة بعينها ، فواجب الا يكون ينفعل بذلك النوع الذي به يفعل. والفاعل
فإن هيولاه وهيولى المنفعل واحدة بعينها ، فواجب فيه أن ينفعل عن الذي يفعل فيه. واعني
بالهيولى الواحدة التي هي قابلة للضدين على مثال واحد ، اعني الهيولى التي تقبل
الحار مثلما تقبل البارد ، فالصناعة لما كانت هيولاها غير هيولى الصحة لم تنفعل عن
المرض وذلك أن المرض هيولاه الاخلاط الأربعة / والطب هيولاه النفس. واذا كان
الفاعل الأول واجبا فيه الا ينفعل ، فواجب أن يكون في غير هيولى المنفعل ، وهذا
الامر في الفاعل الأول ، اعني الجرم السماوي ، فإنه في موضوع مغاير للموضوع الذي
فيه الامور المنفعلة وإن وجد هنا / فاعل هو في غير مادة اصلا فواجب فيه الا ينفعل ولا
شيء من ضروب الانفعال لا بالذات ولا بالعرض اذ قد ظهر ان الهيولى هي سبب الانفعال.
أما الانفعال المتشابه فسببه الهيولى الواحدة. فاما الانفعال المتغير فسببه تغاير
الهيولى. والسبب الفاعل يشبه بوجه ما السبب المحرك ويغايره بوجه ما على ما قلناه ،
واما السبب الفاعل فهو بما هو فاعل غير السبب الذي من أجله يفعل الفاعل وهو الصورة
ولذلك ان قيل اسم السبب عليهما فباشتراك الاسم. وذلك ان الفرق بين السبب
الفاعل والسبب
الصوري وإن كانا
واحدا بالنوع ، فإن السبب الفاعل إذا حصل وجدت الصورة وحدها في المنفعل ، والصورة
إذا وجدت ليس يحدث عنها في المنفعل شيء. وأما السبب الهيولاني فهو يخالف هذين بأنه
القابل للصورة مثل قبول المادة الاولى لنارية النار. فإن كانت هاهنا صورة مفارقة ،
كأنك قلت الحرارة مفارقة وإن كان ليس يمكن ذلك في الحرارة بما هي حرارة ، فواجب ان
تكون فاعلة غير منفعلة بضرب من ضروب الانفعال والا يكون لها سبب فاعل الا باشتراك
الاسم.
القسم الثاني
وهذا القسم فيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : يخبر فيه بمذاهب القدماء
في أسباب الفعل والانفعال وفيما يناسب ذلك ويقايس بين مذاهبهم في التغايير
الطبيعية بحسب أصولهم.
الفصل الثاني : يرد فيه على القائلين بالاجزاء التي لا تتجزأ
بحسب ما يحتاج اليه في هذا القول.
__________________
الفصل الثالث : يخبر فيه بالسبب الذي من
جهته كان الفعل والانفعال يوجد للامور الطبيعية.
الفصل الأول
٢١ ـ قال :
إن بعض القدماء قالوا إن الانفعال إنما
يكون في الأشياء الموجودة من جهة ان فيها ثقبا ينفذ فيها الفاعل الاخير. قالوا وبهذا
الوجه كان انفعال سائر الحواس ، وذلك انا انما نبصر بأن ينفذ البصر في الهواء وفي
الماء وفي الاجرام المشفة / وذلك في الثقب الموجودة فيها. وهذه الثقب لا ترى
لصغرها ، وهي متراصة منظومة معتدلة ، وهي أكثر فيما كان من الاجسام اكثر شفافة.
فقوم ذهبوا هذا المذهب في اعطاء سبب [بعض] الأشياء التي تظهر في الامور الطبيعية /
، وذلك ان الثقب عندهم هي سبب الانفعال وسبب المخالطة ، وسبب النمو. وممن ذهب هذا
المذهب ابن دقليس وهؤلاء لم يسلكوا سبيلا واحدا في اعطاء اسباب جميع ما يظهر في
الموجودات الطبيعية من سائر التغايير مثل الكون والفساد والاستحالة ، وإن الثقب
ليس يمكن أن تكون سببا لهذين التغيرين أعني الكون والاستحالة. وأما الذين سلكوا في
ذلك سبيلا واحدا وراموا اعطاء ذلك من جهة واحدة فهم آل لوقيس وآل ديمقراطيس
القائلون بالاجزاء التي لا تتجزأ فإن هؤلاء جعلوا نظرهم من الامور المحسوسة وهي
المبادي
التي هي على المجرى
الطبيعي للناظرين وراموا ان يعطوا اسباب ما يظهر فيها من قبل اعتقادهم في
الاسطقسات انها اجسام غير منقسمة. واطرد لهم / ذلك في جميع الأشياء لو كان الامر
على ما ظنوا في الاسطقسات. وأما قوم أخر وهم آل برميندس وآل ما ليس فجحدوا الامور
المحسوسة وجعلوا المبادي مما خيل لهم. فقالوا ان الموجود كله واحد وانه غير متحرك.
والقول الذي حركهم الى هذا الاعتقاد هو هكذا : قالوا ان كان الموجود متحركا او
كثيرا فهنا ضرورة خلاء [موجود وذلك ان المتحرك ليس يمكن فيه [...] لم يكن له خلاء يتغير فيه وكذلك أيضا
[...] لا يمكن أن تكون موضوعا] موجودا ما لم يكن خلاء. قالوا وسواء كانت الأشياء
الكثيرة منفصلة بعضها من بعض او متماسة او كثيرة بقبول الانقسام فإن كل واحد من
هذه يلزم وجود الخلاء ، وذلك أن المنفصلة إنما انفصلت بالخلاء الذي بينهما. وكذلك
المماسة إنما لم تتصل لوضع الخلاء الذي بينهما. قالوا واما المتصل فليس يمكن أن
ينقسم حتى يكون كثيرا ما لم يكن كله خلاء ، وذلك ان المتصل ان كان منقسما فهو
منقسم بكليته ، وذلك ان القول بأنه منقسم في البعض وغير منقسم في البعض خارج عن
القياس ، فإنه لا سبيل ان يقال اي جزء هو منقسم [وأي جزء هو غير منقسم] ، ولا ان
يقال انما صار هذا منقسما بأنه / خلاء وهذا غير منقسم ، بأنه ملاء ، وإن كان
منقسما بكليته لم يبق منه شيء غير منقسم ، فوجب ان يكون كله
__________________
خلاء وألا يكون
هنالك كثرة لانه إذا لم يكن هنالك آحاد منقض إليها لم تكن هنالك كثرة. لكن الخلاء
غير موجود فالكثرة والحركة غير موجودة. فهؤلاء قد تركوا ما يوجد حسا لامثال هذه الحجج
لانهم رأوا أن القياس أولى بأن يتّبع من الحس. ولذلك قال بعضهم أن الكل غير متناه
لانه لو تناهى الكل لكان هنالك خلاء يتناهى اليه. وترك ما يوجد حسا لأمثال هذه
الأقاويل أشبه بالجنون ، بل نقول أن المجنون لا يبلغ من جنونه ان يرى ان النار والجمر
واحد ، بل مقدار ما يعتري المجنون من ذلك ان يظن بالأشياء التي هي قبيحة بحسب
العادة انها ليست بقبيحة ، وبما هو جميل ، انه ليس بجميل وانه ليس بين امثال هذه
فرقا للخفاء الذي في هذا الجنس ، لا ان يظن ذلك في المحسوسات انفسها. واما لوقيس
فإنه وافقه على صحة اتصال المتقدم بالتالي في قياسهم ، وهو أنه إن كانت الحركة والكثرة
موجودة فالخلأ موجود ، وخالفهم في المستثنى ، وذلك أن القائلين بأن الموجود واحد
استثنوا مقابل التالي ، وهو أن الخلاء غير موجود فانتج لهم مقابل المقدم.
٢٢ ـ قال :
وأما لوقيبس فإنه استثنى ما هو ظاهر
للحس وهو المقدم فانتج ان الخلاء موجود. ولذلك ظن أن عنده أقاويل في إعطاء أسباب
هذه الأشياء لا يبطل معها لا الكون ولا الفساد ولا الحد فهو [كذا] لا الكثرة ولا
شيء من الامور المحسوسة. ولما وافقهم
بعض الموافقة في
الأشياء التي انتجوا منها أن الخلاء غير موجود وهو قولهم الخلاء ليس هو شيئا
موجودا ، وليس شيء من الموجودات انه يقال فيه أنه ليس هو شيئا [موجودا] قال ان
الواحد بالتحقيق هو ما لا يكون فيه خلاء وكان ملاء كله وهي الأجرام الغير منقسمة.
قال وذلك انه لا يمكن ان يكون من الواحد
بالحقيقة كثرة وليس يمكن ايضا ان يكون من الكثرة واحد بالحقيقة. ولذلك / الموجود
عنده ليس بواحد بالحقيقة ، بل فيه أجزاء غير متناهية جائلة في الخلاء ، الا أنها
تخفى لصغرها فمن هذه الجهة فقط وافق لوقيبس / من
يقول بأن الموجود واحد ، واما في غير ذلك فهو في عين المخالفة. واما سبب الكون والفساد
والفعل والانفعال والنمو والاستحالة فلو قيس يواجبه من قبل وجود الاجرام الغير
منقسمة جائلة / ومتحركة في الخلاء فيقول ان هذه الاجزاء إذا اجتمعت وتشبكت فعلت
الكون ، واذا تشتتت فعلت الفساد ، واذا تماست وتلاقت من شيئين كان الفعل والانفعال
، وإذا تبدل ترتيبها ووضعها فعلت الاستحالة ، وإذا تداخلت فعلت النمو. ووجود
الخلاء عنده واجب بين هذه الاجزاء متلاقية كانت او مشتتة. ولذلك ليس الواحد عنده
على الحقيقة الا الجرم الغير المنقسم. وبالجملة كما أن أولئك يعطون اسباب الفعل والانفعال
والنمو من جهة الثقب كذلك يعطيها هذا من قبل
__________________
الاجزاء الغير
منقسمة ووجود الخلاء. والقائلون بالثقب يكاد أن يلزمهم القول بالاجرام التي لا
تنقسم لأنه إذا لم تكن الثقب في الجسم كله لانه حينئذ كان يكون كله خلاء فواجب ان
تكون الاجرام التي بين الثقب المتلاقية غير منقسمة ، فإنه لا فرق فيما بين
المذهبين الا ان الذي بين هذه الاجرام هو عند لوقيس خلاء وعند هؤلاء ثقب مملوءة من
اجسام الطف. فيكاد ان يكون مذهب الفريقين من الفعل والانفعال متقاربا. الا ان
لوقيس اقدر على ان يأتي باسباب جميع التغايير من اصوله التي بنى عليها مذهبه. واما
غيرهم فدونهم في ذلك وذلك انه ليس يبين من قول ابن دقليس بحسب اصوله الجهة التي
بها يكون الكون والفساد والاستحالة لجميع الموجودات الطبيعية ، وذلك ان أولئك
يجعلون ان كون الاجسام الأربعة المسماة اسطقسات من الاجرام الغير منقسمة ويجعلون
السبب في اختلاف هذه الاجسام هو اختلاف الاجرام الغير منقسمة التي منها تركبت في
الشكل. واما ابن دقليس فانه يقدر ان يوفي سبب الكون والفساد في غير هذه الاجسام
الأربعة بأن يقول انها تنحل الى هذه الاجسام ، فاما كون هذه الاجسام وفسادها فليس
يمكنه [ان يأتي فيها] بشيء ، ولذلك جحد كيفها اذ ليس يقول ان هاهنا اسطقسا اقدم
منها / لا من النار ولا من غيرها كما يقدر ان يقول بذلك من جعل اسطقسا اقدم منها
مثل لوقيس وافلاطون. الا ان الفرق بين مذهب افلاطون ولوقيس يوجد في ثلاثة أشياء
احدها ان الغير منقسم عند افلاطون هي السطوح ، والغير منقسم عند لوقيس الاجسام؛
والثاني ان اشكال
غير المنقسمة عند افلاطون متناهية ، وعند لوقيس غير متناهية؛ والثالث ان افلاطون
ليس يدخل الخلاء ، ولوقيس يدخله؛ وكلاهما يقول بالتماس الا انه ليس الخلاء من
ضرورة التماس عند افلاطون.
الفصل الثاني
فاما ان السطوح الغير منقسمة ليست
اسطقسات للاجسام الطبيعية فقد تكلمنا في ذلك في غير هذا الموضع ، يعني في الثالثة
من [السماء] والعالم
واما انه ليس هاهنا اجسام غير منقسمة فإنّا ندع الإمعان في النظر في ذلك في هذا
الموضع وانما نتكلم فيها بيسير من القول وبحسب ما تدعو اليه الجهة التي منها يقولون
انها سبب الفعل والانفعال فنقول :
إنه قد يلزمهم ضرورة ان يقولوا في كل
واحد من الاجرام الغير منقسمة انها غير قابلة اثرا اصلا ، ولا فعلا ولا انفعالا ، وذلك
انه لما كان سبب الانفعال والفعل عندهم انما هو الخلاء المبثوث في الاجرام المركبة
من هذه ، وكانت هذه الاجرام ملاء غير خلاء ، فواجب / بحسب هذا الاّ تفعل فعلا ولا
انفعالا من الانفعالات الموجودة في الاجسام المركبة منها حتى لا يمكن ان يكون منها
شيء بارد ولا صلب ولا ذي كيفية من الكيفيات. لكن ان كان ذلك كذلك ، وكانت هي
بذاتها ومفردها لا تقبل الانفعال ولا الفعل ، ولا الخلاء ايضا فيه انفعال ، فإذن
ليت شعري ما يكون سبب الانفعال؟ فهذا هو احد الشناعات التي
تلزمهم إن وضعناها
غير قابلة للتأثير. / وايضا قد يلزم عن اقاويلهم شناعة اخرى ، وهي ان تكون قابلة
للانفعال فإنهم يجعلون ان الكرية منها احرى ، فيلزمهم ان كانت الحرارة تخص الشكل
الكري أن تكون البرودة تخص شكلا آخر إذ كانت ضد الحرارة ، / فإنه إذا وجد الضد في
جنس ما لزم ان يوجد فيه هذه ، وإذا وجدت الحرارة والبرودة فيها وجب وجود الثقل والخفة
والصلابة واللين إذ كانت هذه الكيفية يظهر من امرها انها اشد تقدما في وجود
الاجسام من تلك اذا وجد الثقل وجد الحار ، وإذا وجد الأحرّ وجد الفعل والانفعال ، فإن
الأكثر حرارة يجب ضرورة ان يفعل في الاقل حرارة ، وايضا ان كان هاهنا صلب فهنا
لين. وإنما يقال في الشيء انه لين اذا كان يتطامن [كذا]. فيلزمهم على هذا اذن أن
يقبل الانفعال عن غيره وذلك خلاف ما يرون ، فكيف ما وضعوا الامر فيها لزمهم المحال
المتقدم ، وذلك انهم ان وضعوها غير قابلة للانفعال ، لزم الا تكون سببا للانفعال ،
وإن وضعوها قابلة للانفعال ، لزم أن تكون سببا للانفعال ، ويلزمهم من نفس وضعهم ان
تكون قابلة غير قابلة كما قلنا ، وذلك ان من وضعهم ان فيها شكلا وحرارة يلزمهم أن
تكون قابلة للانفعال ، ومن وضعهم أنها غير منقسمة يلزمهم الا تكون قابلة لانفعال
واحد ولا لاكثر من واحد ، وذلك انه ان قبلت الانفعال فإما ان تقبل واحد واحد منها
انفعالا يخصه كانك قلت لهذا صلبة ولهذا حرارة ، وإما ان يقبل الواحد منها اكثر من
انفعال واحد؛ فإن قبل واحد واحد منها انفعالا لزم الا يكون طبائعها
واحدة ، وإذا اختلفت
طبائعها فهنالك شيء به تختلف وتتفق فهي منقسمة ، وإن قبلت منها أكثر من واحد لزم
أن تكون منقسمة ، لان الانفعالات عندهم إنما تختلف من جهة وضع الاجزاء وترتيبها وهذا
شيء لازم لمن قال بسطوح غير منقسمة وأجرام غير منقسمة أعني الا تقبل تخلخلا ولا
تكاثفا ولا غير ذلك من الكيفيات ما لم يكن فيها خلاء ، وكلا الفريقين ليس يضعون
فيها خلاء ، فأما أصحاب السطوح فينفون وجوده جملة ، وأما أصحاب الاجزاء فينفونه عن
الأجزاء. فكلا الوضعين يلزمهم من أقاويلهم نقيضه ، أعني أنهم إن وضعوها غير قابلة
الآثار لزمهم أن تكون قابلة من قوله ، وإن وضعوها قابلة / لزمهم أيضا من قولهم أن
تكون غير قابلة ، وإذا لم يمكن أن تكون لا قابلة ولا غير قابلة فوجودها محال. وأيضا
فمن الفضل اشتراطهم الصغر فيها إذا كانت بطبيعتها غير منقسمة.
فأما نحن ، إذ نعتقد أن الانقسام موجود
للجسم فقد يكون الصغر عندنا سببا لعسر الانقسام ، لكن بالعرض ، والكبر سببا لسهولة
الانقسام إذ كان الكبير يلقى من الفعل أكثر مما يلقى الصغير. وبالجملة فهم لا
يقدرون / أن يقولوا لم صارت الصغار اولى بعدم الانقسام من الكبار وايضا فقد نسالهم
هل تلك الاجزاء المصمتة طبيعتها كلها واحدة ام تفترق بفصول محسوسة ، كأنك قلت
بعضها أرضية وبعضها نارية ، فإن كانت طبيعتها كلها واحدة فما بالها إذا تلاقت الا
تصير واحدة مثلما يعرض في جميع الاجسام المتشابهة الاجزاء مثل الماء إذا لقى< من
> ماء ، والنار إذا لقيت نارا؛ وإن كانت تختلف بفصول فكم هي تلك الفصول وما هي
، فإن هذه الفصول إن كانت واحدة [موجودة] فهي أحق أن تكون مبدأ واسطقسا لما يحدث
من الأشكال ؛ وايضا
إن كانت مختلفة بهذه الفصول فقد يلزم أن يفعل بعضها في بعض وينفعل بعضها عن بعض؛ وأيضا
إن كانت متغيرة في المكان كما يرون ذلك أو أي صنف اتفق لها من أصناف التغير فلها
ضرورة مغير ، فإن كان كل واحد منها يغير نفسه فإما أن يكون منقسما حتى يكون المغير
فيه غير المتغير وإما أن يكون غير منقسم فيكون المغير نفسه هو المتغير / فيجتمع
الضدان في شيء واحد بعينه ويكون القابل لهما واحدا بالعدد والقوة ، وذلك أن السبب
في أن الضدين طبيعتان متباينتان هو أن الموضوع لهما اثنان بالقوة ، وإنما هو اثنان
بالقوة من جهة ما هو مركب ، فلو كان بسيطا لكان واحدا بالعدد والقوة ، ولو كان
الموضوع لهما واحدا بالقوة لكان الضدين طبيعة واحدة بعينه فكان يجب اجتماعهما.
فهذه جملة ما يعاند به في هذا الموضوع القائلين بالاجرام الغير منقسمة.
وأما القائلون بالثقب فإنه عاندهم هكذا
: وذلك أن الجسم إن كان / ينفعل من قبل الثقب ، أعني من قِبَل أن الجسم الفاعل ـ كما
يضعون ـ يدخل في الثقب ، فلا يخلو ذلك من أحد قسمين إما أن يكون ذلك والثقب مملوءة
، وإما أن يكون والثقب فارغة. فإن كان ينفعل والثقب مملوءة من جسم فلا معنى للثقب
، لانه لو كان الجسم الذي بهذه الصفة بغير ثقب لقبل الانفعال كما يقبله بالثقب فإن
الحال في الجسم الذي في الثقب واحد من جهة قبول الانفعال فإن كان الذي في الثقب
يقبل الانفعال فالذي يوجد فيه الثقب أيضا يقبل كذلك؛ فعلى هذا الا يمكن نفوذ البصر
في الأجسام المشفة من جهة الثقب إذ كان واحدا منها ملآن لانه بمنزلة ان لو لم يكن
فيها ثقب ، واما ان كانت الثقب خارجة فيجب أن يكون فيها اجسام وذلك أن الخلاء
والفراغ ليس شيئا إن
كان موجودا إلا أنه موضع للجسم ، وإذا كان كل موضع فله [جسم مساو وكل جسم فله موضع]
مساو وكل خلاء فله جسم مساو له ، كذلك الثقب اجسام مساوية. فإن قالوا أنها من
الصغر بحيث لا يمكن أن تقبل جسما كان هذا مما يضحك منه وهو أن يكون من لا يجوز
وجود خلاء مفارق كبيرا أن يجوز وجوده صغيرا. وبالجملة فالقول بالثقب لا معنى له
لانه إن كان لا يهب الجسم الانفعال فلا معنى للثقب ، وإن قبلها فالثقب لا معنى
لها. فقد تبين من هذا ان القول بالثقب اما أن يكون كاذبا وإما الا يكون سببا
للانفعال بالذات ، وذلك أنه لمّا كان الانفعال إنما يكون عندهم بالانقسام [فإن
كانت تقبل الانقسام] بكليتها فلا معنى للثقب وإن لم يكن يقبل الانقسام فالثقب أيضا
عبث.
الفصل الثالث
٢٣ ـ قال :
وإذ قد تبين بطلان ما قالوه في الفعل والانفعال فنحن مخبرون بالوجه
الذي / يجري عليه الامر في ذلك وواضعين له المبدأ الذي قد وضعناه مرارا كثيرة ، وهو
أن الأشياء لما كانت مركبة من هيولى وصورة ، كان بعضها بالقوة شيئا ما وهو المنفعل
، وبعضها بالفعل ذلك [الشيء بعينه ، وهو الفاعل وإذا كان ذلك] كذلك ، فليس سبب
الانفعال شيئا الا كون المنفعل قابلا للشيء الفاعل. وليس يمكن أن يكون المنفعل من
جهة ما هو / منفعل بالقوة قابلا بجزء غير قابل
_________________
بجزء ، بل إن الذي
يمكن أن يكون قبوله ببعض الاجزاء اكثر وأقل. ومن هذا الوجه لقائل أن يقول بالثقب
مثلما يوجد في المعادن عروق ممتدة قابلة لصورة المعدن المتكون اكثر من سائر أجزاء
تلك الارض. فالانفعال والفعل يحدث بين الأشياء متى كان الفاعل والمنفعل غير متحد ،
بل كانا شيئين اثنين أحدهما مماس للآخر. واما متى كانا غير متماسين فليس ينفعل
أحدهما عن الآخر الا أن يكون ذلك بوساطة جسم آخر بينهما قابلا للانفعال. مثال ذلك
أن النار مثلا قد تسخن الشيء بملاقاتها إياه ومباشرتها ، وقد تسخنه وهي منه على
بعد بوساطة تسخينها للهواء. فأما أن الشيء ليس يمكن أن يكون منفعلا ببعضه ، وببعض
غير منفعل ، فذلك يظهر من هذا القول وذلك أنه إن كان الجسم ليس هو منقسم بكليته بل
ينقسم إلى أشياء غير منقسمة إما أجرام وإما سطوح ، فواجب الا يكون منفعلا بجميع
أجزائه وإن كان وجود أشياء في الجسم غير منقسمة محال؛ على ما تبين ، فواجب أن تكون
طبيعة الجسم كلها واحدة وأن تقبل الانفعال في جميع أجزائها على مثال واحد سواء كان
الانفعال من طريق التقسيم وشيئا في باب الكمية ، كما يقول به ديمقراطيس ، او كان
شيئا في باب الكيفية ، إلا إن انزالنا اياه شيئا / في باب الكمية محال وشنيع ، وذلك
أن هذا القول يبطل الاستحالة ، وذلك أنا نرى الجسم الواحد بعينه يعود مرة رطبا ومرة
سيالا وهو ثابت بعينه من غير أن يكون لحقه تقسيم ولا تركيب ولا اختلاف وضع في
أجزائه ولا إختلاف ترتيب كما يقول ديمقراطيس ، وذلك إنه لم يبدل طبعه عند ما جمد
بأن يتركب ولا بأن ينقسم عند ما سال ، بل هو بعينه مرة سيالا ومرة جامدا صلبا. وايضا
فكما أنه لا يمكن أن يكون على هذا
الرأي استحالة كذلك
لا يمكن أن يكون نموا إذ كان النمو [...]
تعرض في جميع أجزاء النامي على مثال واحد. فمتى لم يفرض أن النمو يكون بأن تتغير
جميع أجزاء الكل إما بأن شيئا يخالطها فيغيرها ، وإما بأن الشيء تغير في نفسه عما
خالطه ، لم / يقدر أن يقول شيئا في سبب النمو. فقد تبين من هذا القول ما الأشياء
الفاعلة والمنفعلة ، وتبين كيف يكون الفعل والانفعال وكيف لا يكون.
الجملة الثامنة
٢٤ ـ قال :
وقد ينبغي أن ننظر في أمر المخالطة
فإنها المعنى الثالث من المعاني التي قصدنا التكلم فيها وذلك بأن نخبر ما هي
المخالطة وما المختلط وفي أي الامور يمكن أن توجد المخالطة. وقبل ذلك فينبغي أن
نحل الشك الواقع في وجودها فإن هاهنا قوما يرفعون وجودها وذلك أنهم قالوا أن
الأشياء التي يقال فيها أنها مختلطة لا تخلو من ثلاثة احوال : إما أن تكون ثابتة
بأنفسها لم تتغير عما كانت عليه ولا فسدت؛ وإما أن يكون المختلطان فسد كل واحد / منهما؛
وإما أن يكون فسد واحد منهما. فإن كان المختلطان قائمين لم يفسد واحد منهما فلم
يحدث فيهما معنى يجب من أجله أن يقال فيها في وقت ما أنهما مختلطان وفي وقت ما
أنهما ليسا مختلطين؛ وإن كان فسد أحدهما وبقي الآخر فهذا لا يسمى اختلاطا ، لأن
المخالطة تقتضي أن يكون ما يعرض لاحد المختلطين يعرض للثاني على مثال واحد ؛
__________________
وإما أن فسدا جميعا
فليسا بموجودين
فضلا عن أن يكونا مختلطين ، وإذا كان الأمر هكذا ، فليس هاهنا مخالطة.
وهذا الشك يستدعي معرفة الفرق بين
المخالطة والكون والفساد وبين الأشياء المختلطة والأشياء الثابتة الغير المختلطة. وأما
الفرق بين الاختلاط والكون والفساد فبيّن بنفسه فإنا نقول في الخشبة إذا تغيرت وانقلبت
إلى النار إنها تكونت نارا ، ولا نقول إنها اختلطت بالنار ولا النار بالخشبة بل
نقول إن الخشبة فسدت وإن النار تكونت. وكذلك يبين الفرق أيضا بين الاختلاط والنمو
، وذلك انا لسنا نقول أن الغذاء اختلط بالبدن ولا البدن بالغذاء ، إذ كان الغذاء
يفسد والبدن باق على حاله كما قيل في أحد أقسام الشك. وكذلك أيضا الفرق بين
الاختلاط وبين الاستحالة بيّن ، فإنا نقول ان الجسم استحال أبيض بعد أن كان أسود ولا
نقول أن البياض اختلط بالجسم / ولا الجسم بالبياض. وبالجملة فليس يمكن أن تختلط
الصور والكيفيات بالأجسام الحاملة لها ولا يمكن أيضا [أن] تختلط الصور والكيفيات أنفسها
بعضها ببعض ، كأنك قلت البياض بالمعرفة .
ولذلك نقول أن أنكساغورش قد اخطأ في قوله إن جميع الأشياء المحسوسة هي كلها معا ومختلطة
، إذ كان ليس يمكن أن يختلط كل شيء بكل شيء. وإذا كان المختلطان ليس أحدهما فاسدا ولا
كلاهما فاسدان ولا هما في حال الاختلاط شيئان ثابتان كما كانا قبل الاختلاط ، فواجب
أن يكون المختلطان من جهة موجودين ومن جهة غير
__________________
موجودين ولما كنا
نقول أن بعض الموجودات بالقوة وبعضها بالفعل فقد نرى أن المختلطين في حال الاختلاط
هما : إما بالفعل ، فإن المتولد منها هو غير المختلطين قبل أن يختلط ، وإما بالقوة
فكل واحد منهما موجود كما كان قبل أن يختلطا ولذلك ما نقول انهما لم يفسدا على / التمام ولا بقيا على أحوالهما
قبل الاختلاط. وبهذا ينحل الشك المتقدم ، فإن هذه الجهة [هي] التي أغفلوها في
التقسيم ، والدليل على ذلك أنا نجد المختلطين إنما يختلطان من شيئين كانا قبل
الاختلاط مفترقين ثم إنهما بعد الاختلاط قد يمكن أن يعودا مفترقين. فليس نقدر أن
نقول إنهما بعد الاختلاط باقيان بحالهما قبل الاختلاط وإلاّ كان اسم الاختلاط صفرا
لا معنى له. ولا نقدر أيضا أن نقول إنهما فسدا إلى النهاية ولا واحد منهما ، إذ
كانا نجدهما يفترقان ، فقد لزم أن الاختلاط معنى موجود ضرورة. وقد ينبغي أن نقول
ما هو ونبدأ بالشكوك التي تعرض في معرفة ما هو الاختلاط الحقيقي فنقول :
إن الاختلاط لا يخلو أن يكون إما شيئا
عرض من باب الكيفية والصورة أو شيئا عرض من باب الكمية؛ ثم إن كان شيئا عرض من باب
الكمية ، فلا يخلو ذلك أيضا من وجهين أحدهما أن يكون الاختلاط هو أن ينقسم كل واحد
من المختلطين إلى أجزاء صغار كل واحد منهما حافظ لطبيعة الشيء الذي هو جزء منه ثم
تتداخل هذه الأجزاء بعضها على بعض ويقع بعضها / إلى جانب بعض أي جزء اتفق إلى جانب
أي جزء اتفق حتى يعسر لذلك على الحس التفريق
_________________
بينهما لصغرها فيكون
الاختلاط على هذا شيئا / يعرض عند الحس لأن طبيعة كل واحد من المختلطين قائمة في
تلك الأجزاء بأنفسها إذ كان انقسام كل واحد من المختلطين إلى أجزاء صغار ولا تداخل
بعضها على بعض حتى يعرض لها الاّ تتميز عند الحس ليس ممّا يوجب تغير طبائع
المختلطين. ومثال ذلك إن خلطنا حنطة بشعير فإنه يعرض لكل حبة من حبوب الحنطة ان
تقع إلى جانب أي حبة اتفقت من حبوب الشعير [...] أن تتغير الشعير] عن طبيعتها ولا حبوب
الحنطة. والوجه الثاني أن يكون معنى الاختلاط هو انحلال كل واحد من المختلطين وتغير
طبائعهما بانقسام كل واحد منهما إلى أجزاء منقسمة بطبعها ثم تتداخل هذه الأجسام
الغير منقسمة بعضها على بعض حتى يكون المختلط شيئا حادثا هو بالفعل غير كل واحد من
المختلطين قبل ان يختلطا. فيكون الاختلاط على هذا ليس شيئا عرض عند الحس ، ولكنه
أيضا في باب الكمية. ويفارق هذا الاختلاط ذلك المعنى الأول بأن طبيعة كل واحد من
المختلطين قد فسدت بانقسامها إلى أجرام غير منقسمة ، واما ذلك الانقسام فطبيعة
الأجزاء هي من طبيعة المختلطين وتفارقه أيضا بأن جميع أجزاء أحد المختلطين موضوعا
إلى جانب أجزاء المختلط الثاني أي جزء اتفق إلى جانب أي جزء اتفق؛ واما في
الاختلاط بالمعنى الأول فليس هو جميع الأجزاء إذ كأنه الأجزاء الخفية عن الحس يمكن أن تنقسم أيضا إلى أصغر
منها فاذن إنما وضع في هذا الاختلاط بعض أجزاء
_________________
أحد المختلطين إلى
بعض أجزاء المختلط الثاني وفي ذلك كل الأجزاء. وإذا قلنا أن الاختلاط الذي يعرض من
باب الكمية إن كان موجودا فإنما يكون في هذين القسمين ، فنقول انه إن لم يكن
الاختلاط تركيبا ولا كان الانقسام في الأجسام ينتهي إلى أجزاء لا تتجزأ ، فواجب
الاّ يكون الاختلاط ولا في واحد من هذين القسمين. وإنما كان ذلك واجبا لأن
الاختلاط إن كان على الوجه / الأول وهو الذي يخفى عن الحس كان الاختلاط تركيبا. ومعلوم
أنه ليس الاختلاط تركيبا ، فإن الأشياء المختلطة حد الكل والجزء منها واحد ، إذ
كانت أجساما متشابهة ، أعني أنه يكون منها فعل الكل والجزء واحدا وليس كذلك حال
الأشياء المركبة. فإذا كان الأمر هكذا فليس يكون هنالك مخالطة بالحقيقة ، بل عند
الحس ، ويكون المختلط عند زيد غير المختلط عند عمرو ولا يكون هاهنا بالحقيقة شيء
مختلط عند الرجل المضروب به المثل في حدة البصر ، فيكون اسم / المخالطة والمزاج
أخفى من التركيب وذلك شنيع. وإن كان على الوجه الثاني كان انقسام الجسم متناهيا ، وقد
تبين انقسام الأجسام إلى غير نهاية فواجب الاّ يكون الاختلاط ولا على معنى واحد من
هذين المعنيين. وإذا كان ذلك كذلك فإما أن يكون الاختلاط غير موجود وإما أن يكون
في باب الكيفية فقد ينبغي أن نقول أي الأشياء هي القابلة له وفي أي باب من أبواب
الكيفية هي وكيف يعرض فنقول :
أما الموجودات التي يعرض لها الاختلاط
فهي الموجودات التي قلنا إنه يقع في كل واحد / منها من صاحبه الفعل والانفعال. وقد
قلنا أن هذه الأشياء هي التي هيولاها واحدة ، وأما الأشياء التي ليس
هيولاها واحدة فليس
يقع فيها مخالطة إذ ليس يقع من كل واحد منها انفعال من صاحبه ، مثل صناعة الطب
فإنها في الأبدان كما قيل وليس تفعل فيها الأبدان. ولما كانت الأشياء التي هيولاها
واحدة هي متضادة على ما تقدم ، فالكيفية التي تكون للمختلط بما هو مختلط هي كيفية
متوسطة بين الضدين الموجودين في المختلطين. وأيضا فإنه تختص الأشياء المختلطة بصفة
ثانية وهي أن تكون سهلة التقسيم مستوعية في كل واحد من المختلطين ، فإنه إذا انقسم
أحد المختلطين إلى أجزاء كبار والثاني إلى صغار لم تكن مخالطة ، لأن الكبار تغلب
الصغار فيكون ذلك فسادا للصغار وزيادة في حجم المختلط الثابت ، مثل رطل من الخمر
إذا خالط ارطالا من الماء فإنه يعود ماء. وسهولة التقسيم تعرض للأشياء المختلطة من
قبل / الرطوبة كما أن عسره يعرض من قبل اليبوسة فلذلك أحق الأشياء في الاختلاط هي
الأشياء الرطبة ما لم تكن لزجة. وأما الاختلاط فإنما يعرض إذا فعل كل واحد من
الضدين في صاحبه فعلا قريبا من السواء حتى يعرض للمختلطين كيفية واحدة متوسطة بين
ذينك الضدين ويكون الموضوع لتلك الكيفية كمية المختلطين معا ضرورة وذلك إذا كان
المختلطان عند ما يغير كل واحد منهما صاحبه يستفيد كيفية سواء ، حتى إذا صار إلى
الكيفية الوسط ، التي هي بالطبع كيفية واحدة لموضوع واحد ، كان الموضوع لها
الكميتان جميعا واما إذا لم يكن استفاد الكيفية كل واحد منهما على شرع سواء لعسر
قبول أحدهما كانت كمية المختلط أقل من كمية المختلطين لأن الأجزاء القابلة لتلك
الكيفية المتوسطة من المختلط العسير القبول تكون قليلة ولذلك ربما لم يستفد أحد
المختلطين من الآخر إلاّ كيفية فقط وذلك لعسر القبول
الذي فيه ، أو ان
استفاد كمية يسيرة مثل ما يعرض عن مخالطة الرصاص النحاس ، [والنحاس] إنما يقبل عن
الرصاص لونه فقط وذلك أن هاهنا أشياء كما يقول أرسطو يوجد لها من حال الاختلاط واختلافه
في الكثرة والقلة شبيه بما يوجد لحروف التمتام من الاختلاط بعضها ببعض وميل بعضها
إلى مخارج بعض وربما لم يكن الاّ أن أحدهما بمنزلة القابل والآخر بمنزلة الصورة.
فقد ظهر من هذا القول ما هي المخالطة وفي
أي الأشياء وأنها ليست كونا ولا فسادا ولا استحالة ولا تركيبا ولا اختلاطا عند الحس
، وأن المخالطة إنما تكون للأشياء السهلة الانحصار القابلة الانفعال ، المتشابهة ،
وانها ليست شيئا إلاّ اتحاد المختلطين ورجوعهما واحدا بالاستحالة.
المقالة
الثانية
وهذه المقالة فيها جمل أربعة :
الجملة الأولى يفحص فيها عن الأجسام
المسماة أسطقسات هل هي أسطقس أم لا وإن كانت فهل كلها أو بعضها. /
والثانية يعرف فيها جهة كون هذه الأجسام
الأربعة بعضها عن بعض ويعاند آراء القدماء في ذلك.
الثالثة يخبر فيها عن جهة كون المركبات
عن هذه الأجسام الأربعة ويبين فيها أنّ جميعها تتركب من هذه الأربعة.
والرابعة يفحص فيها عن جميع أنواع أسباب
الكون والفساد العامة ويعرف الوجه الذي به يمكن اتصال الكون في الموجودات الكائنة
الفاسدة.
الجملة الأولى
وهذه الجملة فيها فصلان
الفصل الأول يذكر فيه بما سلف في
المقالة الأولى ويخبر فيه بالشيء الذي بقي عليه من هذا العلم ويفحص هل هاهنا
أسطقسات أقدم من هذه الأربعة أم لا.
الفصل الثاني يبرهن فيه أن هذه الأجسام
الأربعة هي أسطقسات المركبات.
الفصل الأول
٢٥ ـ قال :
لما كنا قد قلنا كل ما كان ينبغي في
المخالطة وفي المماسة وفي الفعل والانفعال الموجود في الأشياء الطبيعية ، وقولنا
مع ذلك في الكون والفساد المطلق العام للبسائط والمركبات ، أعني الذي يكون من واحد
[وإلى واحد] وأي شيء يوجد وكيف يوجد وعما ذا يوجد ، وقلنا مع ذلك في الاستحالة ما
هي وما الفرق بينها وبين الكون ، فقد بقي علينا أن ننظر في الأجسام التي تدعى
أسطقسات الأجسام وذلك أنه إن كانت جميع المركبات محسوسة فواجب أن تكون أسطقساتها
القريبة أمورا محسوسة وهو ينظر من هذه الأجسام في هذا الكتاب في خمسة أشياء أولها
هل هنا شيء أقدم أم لا؟ والثانية
ما هي فصول الأسطقسات وكم عددها؟
الثالثة هل تكون بعضها من بعض وإن كان فكيف
يكون؟ الرابعة
هل يكون منها جميع ما يكون؟
الخامسة إن جميع المتشابهة مركبة من كلها أعني
من الأربعة. وهو يبتدئ بالمعنى الأول فنقول :
إن قوما قالوا إن لهذه الأجسام الأربعة
موضوعا وهيولى لها موجودة بالفعل / ؛ فبعضهم جعلها واحدا منها إما هواء وإما نارا وبعضهم
جعل هذه الهيولى شيئا وسطا بين هذه الأجسام إلاّ أنها مع هذا شيء موجود بالفعل. وقوم
قالوا إنه ليس لها موضوع أقدم منها. واختلافهم في هذا مثل اختلافهم في عددها؛ فإن
قوما قالوا إن الأسطقسات من هذه اثنين فقط بمنزلة من قال إنها نار وأرض فقط؛
وقوم قالوا إنها
ثلاثة بمنزلة من قال إنها النار والأرض والهواء؛ وقوم قالوا إنها الأربعة بعينها
بمنزلة ابن دقليس فإنه يرى أن الأسطقسات هي هذه الأربعة ، وان الكون والفساد يعرض
للأمور من اجتماعها وافتراقها لا باستحالتها.
٢٦ ـ قال :
فأما القول بأن الأوائل التي عنها يلحق
الكون والفساد جميع الموجودات كيف ما كان ، أعني كان اجتماعا أو افتراقا أو على
وجه آخر غير ذلك واجب أن يسمى أسطقسات ومبادئ ، فذلك أمر متفق عليه. فأما كم عدد
هذه المبادئ وكيف ترتيبها في التقدم والتأخر فأمر غير بيّن بنفسه فأما من جعل لهذه
الأربعة الأجسام مادة أقدم منها وجعلها جسمانية وبالفعل فهو مخطئ. وذلك أن كل جسم
موجود بالفعل فليس يكون خلوا من وجود المتضادة فيه وإذا لم يكن لهذا الجسم الخامس
فصلا إلا أحد الفصول الموجودة لهذه الأربعة ، فهو واحد منها ضرورة وسواء فرض هذا
الجسم متناهيا أو غير متناه كما يقول به قوم ، وذلك أنه يجب ضرورة أن يكون هذا
الجسم الخامس إما ثقيلا وإما خفيفا وإما باردا وإما حارا.
وأما أفلاطون في كتاب طيماوس
فإنه وضع لهذه الأجسام الأربعة هيولى أقدم منها ، إلاّ أنه لم يصرح في أمر هذه
الهيولى هل هي موجودة بالفعل أم لا ، ولا قال في ذلك قولا بيّنا أكثر مما قال فيه
إنه قابل للكل ولا استعمله في سائر الموجودات ولا أعطى سببا يظهر فيها وإنما قال
إن هاهنا موضوعا متقدما على الأجسام التي تسمى الأسطقسات كما أن الذهب متقدم على
الحلى الذي يصاغ من
الذهب. ويقول إن
الكائن منها إن سمي باسم الشيء الذي كان منه كان قولا في غاية الصدق / كما أنه إن سمى
السوار ذهبا كان ذلك حقا. وهذا الذي قال ليس يصح في الأشياء التي تتكون وإنما يصح
في الأشياء التي تستحيل. وقال أيضا إن الأسطقسات تنحل إلى سطوح. وهذا منه متناقض
فإنه ليس يمكن أن يكون الهيولى الأولى ، التي يسميها الموضوع ، سطوحا.
وأما نحن فإنا قد بيّنا أن لجميع هذه
الأجسام المحسوسة هيولى موجودة بالقوة غير متعرية من أحد الأضداد وأن هذه الأجسام
الأربعة مركبة منها ومن التضاد الموجود فيها ، ولذلك ما ينبغي أن نضع ما تبين من
ذلك هاهنا فنقول.
إن المبدأ الأول لجميع الأشياء هو
الهيولى الغير مفارقة الموضوعة للتضاد ، لأن الحرارة ليس يمكن فيها ان تكون موضوعا
للبرد حتى تنقلب طبيعة الحر إلى طبيعة البرد ، بل ان انقلبت الحرارة برودة فواجب
ان يكون هاهنا موضوع يقبلهما جميعا تارة هذا وتارة هذا. وهذا لازم في الجوهر مثل
لزومه في التأثيرات. ولذلك صار المبدأ الأول ما هو بالقوة جسم محسوس ، وأما المبدأ
الثاني فهو المتضادات الأول التي لا يتعرى منها الموضوع الأول ، والثالث بعده
الماء والنار وما اشبههما من الأجسام المركبة من المتضادة الأولى والهيولى الأولى
، وإنما كانت هذه في المرتبة الثالثة لأنها متغيرة بعضها إلى بعض فلهذا وجب أن
يكون لها أسطقسات متقدمة عليها. فاما الأسطقس المقول بالتقدم فينبغي أن يكون غير
متغير أصلا.
_________________
وليست هذه الأجسام
المسماة أسطقسات كما يقول ابن دقليس غير متغيرة بعضها إلى بعض ، ولو كان الأمر كما
زعم لما كان يوجد فيها استحالة ، أعني في فصولها التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة ، فإذا كان هنالك استحالة فهنالك موضوع كما قيل فيما تقدم ، وإذا كان
موضوع فثم كون وفساد. وإنما كان واجبا أن يكون هنالك موضوع لأن الأضداد لا تتغير
بعضها إلى بعض.
الفصل الثاني
وقد ينبغي أن نخبر عن اسطقسات الأجسام
المركبة المحسوسة من / جهة ما هي أجسام مركبة أي الأجسام هي وكم هي ويكون إخبارنا
عن ذلك بطريق برهاني على ما جرت عليه عادتنا في الأشياء التي نخبر عنها ، لا
بمنزلة من يضعها وضعا ويستعملها في إعطاء اسباب المركبات من غير ان يأتي ببرهان
على ان فصولها هي هذه الفصول وان عددها هو هذا العدد فنقول :
إنه لما كنا نطلب أسطقسات الأجسام
الملموسة من جهة ما هي ملموسة إذ كان هذا النوع من المحسوس هو الذي تشترك فيه جميع
الأجسام المركبة ونحن إنما نطلب المبادي والأسطقسات المشتركة لجميع الأجسام
المحسوسة فواجب أن تكون فصول الأجسام [المركبة المحسوسة] المتضادة التي هي أسطقسات
لجميع الأجسام الملموسة من جهة ما هي ملموسة موجودة في هذا الجنس ، أعني في جنس
الملموسات دون غيرها من المتضادات التي في غير هذه الحاسة
أعني حاسة اللمس. ولذلك
ما يجب الا يكون الأسطقسات فصولها البياض والسواد أو الحلاوة والمرارة إذ كانت هذه
المتضادة ليست مشتركة لجميع الأجسام. وليس لقائل أن يقول أن المضادة الموجودة في
البصر أشد تقدما من مضادة اللمس إذ كان البصر أشد تقدما من اللمس ، فإنا لسنا نطلب
في هذا الموضع التقدم على جهة الموضوع والعنصر وهو التقدم بالطبع.
وإذا تقرر أن المضادة التي تركبت منها
الاسطقسات الأول هي من الملموسات انفسها فلنلخص اصناف المتضادات الأول التي في
اللمس وننظر أي منها يليق به ان يكون فصول الاسطقسات الأول. والمتضادات الأول في
اللمس فهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والثقل والخفة والصلابة واللين واللزوجة
والقحل والخشونة والملامسة والغلظ والرقة. فأما الثقل والخفة فلما كانا ليسا
بفاعلين ولا منفعلين ، وأعني بذلك أنه لا الثقل يفعل ثقلا ولا الخفة تفعل خفة ويدل
ذلك على>على ذلك<أن اسميهما ليس يدلان عليهما إلاّ من حيث الحركة فقط لا من
حيث الفعل والانفعال ، وكان واجبا أن تكون / المضادة الأول التي في الاسطقسات
فاعلة بعضها في بعض ومنفعلة وإلاّ لم يحدث عنها شيء ، فواجب الاّ تعد هذه المضادة
في فصول الاسطقسات بما هي أسطقسات. فاما الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فإن
اسماءها الدالة عليها إنما هي عندهم من حيث الاثنان منهما فاعلتان وهما الحرارة والبرودة ، والاثنتان منفعلتان
وهما الرطوبة واليبوسة وذلك ظاهر من رسومهما لأن الحرارة هي
___________________
الجامعة للأشياء
المتجانسة وذلك أن النار وإن ظهر أنها تفرق وتميز شيئا من شيء فإنما فعلها ذلك من
جهة الجمع المتجانس فكأنه ليس ذلك على القصد الأول وذلك أنه يلحق جميع المتجانس
تفريق الغريب واما البرودة فإنها الجامعة الحاصرة التي هي من جنس واحد ومن غير جنس
واحد. وأما الرطوبة فهي ما ليس له في نفسه حد يحصره لكنها سهلة الانحصار من غيرها.
وأما اليبوسة فهي ماله في نفسه حد يحصره وحصره من قبل غيره عسير . وهذه الرسوم للحار والبارد واليابس والرطب
وإن كانت ليست مما يدل عليه أسماؤها عندنا ولا هي رسوم تتنزل منزلة الأقاويل
الشارحة للاسم ولا يشهد لها التسمية كما كانت عندهم في ما احسب ، فهي أمور بينة
الوجود في نفسها لهذه الكيفيات ، أعني هذه الأفعال التي رسمت بها ، وهي رسوم
مأخوذة من فصولها بواسطة ، ولكن اتفق لها في ذلك اللسان أن كانت أمورا مشهورة ومعقولة
لشهادة التسمية لها وهي عندنا معقولة لا مشهورة فهذا أحد ما يوجب ان تكون هذه
المضادة فصول الأسطقسات.
والشيء الثاني أنّا نجد جميع هذه
المضادة التي هي تحت حس اللمس الفاعلة مثل الرقة والغلظ واللزوجة والقحل والصلابة واللين
وما اشبهها متولدة عن هذه وراجعة إليها أما الأشياء الرقيقة اللطيفة فلما كان من
شأنها ان تملأ فراغ الأشياء وأن تتشكل بسهولة بشكل الحاوي فإن بينّا من أمرها أنها سهلة الانحصار
من غيرها ، وهذا
____________________
هو حد الرطوبة
المتقدم. فإذن كل رقيق رطب ، وليس كل رطب رقيقا ، / فالرقيقة من الرطوبة ، إذ كانت
الرطوبة متقدمة عليها بالطبع. وإذا تبين أن اللطافة والرقة من الرطوبة فظاهر أن
مقابلها الذي هو الغلظ من اليبس. واما اللزج فإنه ظاهر أيضا أنه من الرطوبة وذلك
أن اللزوجة هي رطوبة [...] ما اوجب لها عسر تقسم وانفعال. فكل لزجة رطبة ، وليس كل
رطبة لزجة. وإذا كانت اللزوجة من الرطوبة فظاهر أن مقابلها من اليبس وهو القحل. وذلك
ايضا ظاهر من ان القحل هو ما صار من اليبس إلى غايته حتى انعقد لعدم الرطوبة. وكذلك
اللين هو من رطوبة ، وذلك أن اللين هو ما كان مواتيه ، إلا أنه ليس يزول كما يزول
الرطب. فكل لين رطب وليس كل رطب لينا. ولذلك كان اللين من الرطوبة لا الرطوبة من
اللين ، والصلابة أيضا من اليبس إذ كان الصلب منعقدا والمنعقد يابس.
والرطب واليابس يقال كل واحد منهما على
أنحاء شتى وكلها ترتقي إلى اليبوسة الأولى والرطوبة الاولى التي حددناها فاما
انهما يقالان على أنحاء شتى فيدل على ذلك ان لكل واحد منهما أكثر من مقابل واحد ، وذلك
أن اليابس قد يقابله الرطب ويقابله الندي. فإذن اليابس على عدد الأشياء المقابلة
له وكذلك الرطب يقابله اليابس والمنعقد. وأما أن جميع هذه المتقابلات ترتقي [إلى] الأوّل
منها فهو بين من أنه لما كان الندي يقابله يابس ما وكذلك المبتل ، وكان الندي هو ما
في ظاهره رطوبة عرضية والمبتل ما غارت الرطوبة في عروقه ، فبيّن أن الندي ، والمبتل
، من الرطوبة الأولى. وإذا كان ذلك كذلك فاليابس الذي يقابلها من اليبوسة الأولى. وكذلك
أيضا إذا كانت الرطوبة تقال على ما له في عمقه رطوبة طبيعية؛ وتقال على
ما له في عمقه رطوبة
غريبة ، وهو المبلول ، وكان المنعقد هو ما عدم هذين النوعين من الرطوبة ، فواجب
إذا كان المنعقد داخلا في اليبوسة الأولى أن يكون المبتلة والرطبة داخلا في
الرطوبة الأولى. فقد تبين من هذا أن جميع ما يقال عليه يابس ورطب راجع الى اليابس
الأول والرطب الأول ، وأن سائر المتضادات الفاعلة / والمنفعلة في حس اللمس راجعة
إلى تلك المضادات الأربع.
والاسكندر يقول انه إنما سكت عن التكاثف
والتخلخل إما لانهما تحت الثقيل والخفيف وإما لانهما تحت الصلب واللين وسكت عن
الخشونة والملاسة لان الخشونة تحت اليبس والملاسة تحت الرطوبة. وهذا ليس ببيان.
فإن الزجاج متخلخل وصلب ، والرخام أملس وليس برطب وكذلك أيضا الزجاج متخلخل ثقيل ،
والسحاب متكاثف خفيف ويشبه أن يكون إنما سكت عن التكاثف والتخلخل من قبل انهما
كيفيتان غير فاعلتين وأنهما تابعتان أيضا للحرارة والبرودة ، وسكت عن الخشونة لأن
الخشونة تقال بالجملة على يبوسة مفرطة في سطح الشيء الخشن والملاسة على رطوبة ما
في سطحه ولذلك كانت التي تتولد في الماء يابسة ولكن ملساء. ويشبه أن يكون هذا هو
الذي عناه الاسكندر. فلما كنا نجد المتضادات التي في هذا الجنس إما فاعلة ومنفعلة وإما
غير فاعلة ولا منفعلة ، وكانت غير المنفعلة والفاعلة ليست يمكن أن تكون فصولا
للأسطقسات ، وكانت الفاعلة والمنفعلة نجدها ترجع إلى تلك الأربع ، التي هي الحرارة
واليبوسة والرطوبة والبرودة ، وكان يظهر من أمر هذه أنها ليس ترجع بعضها بعضا ، فمن
البينّ أنه ينبغي أن تكون هذه الكيفيات الأربع هي فصول الأجسام الأول. وإذا كانت
هذه الأربع ليس يوجد
بعضها مفردا عن بعض وإنما
توجد مركبة ، فبيّن أنه ينبغي أن يكون عدد الاجسام التي هذه صور لها على عدد
التراكيب الممكنة لهذه الكيفيات الأول ولما كانت التراكيب المتولدة عنها ستة ، اثنان
غير ممكنتين وهما الحار البارد واليابس الرطب ، وأربعة ممكنة وهي الحار اليابس والحار
الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب ، فبيّن أنه يجب أن يكون عدد الاسطقسات هذا
العدد ، فتكون الاسطقسات أربعة : احدها حار يابس والآخر حار رطب والثالث بارد رطب والرابع
بارد يابس. وهذا الذي أدّى إليه القول موافق لما يوجد بالحس في هذه الأجسام
الأربعة أعني الماء والنار والهواء والأرض ، وذلك أن النار / حارة يابسة والهواء
حار رطب لانه بمنزلة البخار ، والماء بارد رطب ، والأرض باردة يابسة. وإذا كان ذلك
كذلك فيلزم عن ذلك أن تكون هذه الأجسام الأربعة أسطقسات ، لا بعضها دون كلها ، كما
فعل ذلك كثير من القدماء. فإن الذين جعلوا هذه الأجسام الأول الاسطقسات ، اختلفوا
في عددها؛ فبعضهم جعلها واحدة من هذه؛ وبعضهم اثنين؛ وبعضهم ثلاثة؛ وبعضهم الأربعة
بأسرها ، وكلهم اجمع على أنه لا يوجد أكثر من هذه. فأما الذين جعلوا الاسطقسات
واحدة من هذه ثم جعلوا تولد سائر الأشياء من ذلك الواحد بالتخلخل والتكاثف فقد
يلزمهم ضرورة أن يقولوا بأسطقسين لانهم إذا قالوا بالتكاثف والتخلخل فقد قالوا
بالحرارة والبرودة وإذا كان هناك ضدان فاعلان فهنالك منفعل وموضوع بالقوة. وأما
الذين جعلوها اثنين ، كما فعل برمنيدس ، النار والارض ، فانهم جعلوا المتوسط بين
هذين اثنين وجعلوهما مختلطين من الطرفين ، أعني الهواء والماء. وكذلك أيضا الذين
جعلوها ثلاثة
فإنهم جعلوا الوسط
مختلطا من الطرفين وهم الذين زادوا مع النار والأرض الهواء. وجعلهم إياها ثلاثة
يشبه جعل أفلاطون المبادي الثلاثة ، الصغير والكبير والواحد ، ومن جعلها اثنين
متفقين في جعلهم فيها طرفين ووسطا ، إلا [أن] من جعلها اثنين تكون المتوسطة عنده
اثنين ، ومن جعلها ثلاثة تكون المتوسطة عنده واحدة ، وكلهم يضعون متضادة واحدة وموضوعا
لها. وأما الذين جعلوها أربعة بمنزلة ابن دقليس فإنه يردها إلى مضادة واحدة أعني
إلى ضدين اثنين وذلك أنه يجعل الضد الواحد النار والثاني الباقية كلها. فكلهم لم
يتجاوزوا عدد الأربعة ، وجعلوا فصولها المتضادة الملموسة ، ولذلك كانت هذه الاجسام
ليست أسطقسات أولى وإنما هي مركبة لا بسيطة. والاسطقسات البسيطة هي التي منها
تركبت هذه ، وهي أشياء تشبه هذه في الكيفية لا أن هذه هي تلك بعينها. مثال ذلك أن
الشيء البسيط في النار إن كان يشبه النار فعلى انه شيء ناري لا نار والشيء البسيط
في الهواء إن كان يشبه الهواء فعلى أنه هوائي لا هواء / وكذلك الامر في سائرها.
٢٧ ـ قال :
ولما كانت النار هي الغاية في الحرارة والجليد
هو الغاية في البرودة ، إذ كان الغليان للنار والجمود للجليد ، والغليان والجمود
نهايتان في البعد ، فواجب أن يكون الجليد هو ضد النار. فإذا كان الجليد جمود رطب
بارد فواجب أن تكون النار غليان حار يابس. ولكون هذين في الغاية لم يتولد عن واحد
منهما شيء أصلا أعني الجليد والنار والاسكندر
يقول إن هذا إنما يوجد للنار التي هاهنا ، وأما النار التي في نهاية المحيط فليست
تلك في غاية الحرارة والغليان تلخيص الكون
ولذلك كانت النار
أكثر الاسطقسات سببا للتوليد وفي هذا نظر وسنفحص عنه .
١٢٨ ـ قال : ولما كانت الأجسام البسيطة
أربعة فإن اثنين منها من طبيعة الخفيف وهما الهواء والنار ، واثنين منها من طبيعة
الثقيل وهما الماء [والأرض. فالخفيف الذي في الغاية هو النار ، والثقيل الذي في
الغاية هو الأرض ، والماء] والهواء اللذان بينهما في طبيعة المتوسط. وكان أيضا
واحد واحد من الخفيفين ضد واحد واحد من الثقيلين ، فضد النار الماء وضد الهواء
الأرض ، وذلك أن كل واحد من هذين يتضادان بالكيفيتين اللتين بهما يتقومان ، والغير
متضاد بكيفية واحدة ، ويخص كل واحد من هذه الأربعة أنه ينسب إليه أحد هذه الكيفيات
الأربعة على الإطلاق ، وتوجد فيه في الغاية ، فالأرض هي في اليبوسة أولى منها
بالرطوبة ، والماء بالبرد أولى منه بالرطوبة ، والهواء أولى بالرطوبة منه بالحرارة
، والنار أولى بالحرارة منها باليبوسة ، ولهذا السبب صارت الأجسام الأولى أربعة.
الجملة الثانية
وهذه الجملة فيها فصول أربعة :
الفصل الأول يبين فيه أصناف تكوّن هذه
الأسطقسات الأربعة
___________________
بعضها من بعض ، إذ
قد تبين أنها متكونة بعضها من بعض.
الفصل الثاني يبين فيه أنه ليس لها
موضوع بالفعل لا منها ولا خارجا اقدم منها وهو الرأي الذي حكاه أولا عن القدماء.
الفصل الثالث يبين فيه أنه ليس يمكن أن
يكون منها واحدا أو اكثر من واحد بمنزلة المبدأ لسائرها في الكون ، أعني أن يكون
منه سائر الباقية ولا يكون هو من شيء منها / بل الكون فيها دائر.
الفصل الرابع يعاند فيه الذين يقولون
إنها ليس تتغير بعضها إلى بعض وهم أشهر ذلك آل ابن دقليس ، ولذلك يجعل قوله مقابل
قولهم ويعدد المحالات التي تلزمهم في هذا القول في جميع الأمور العرضية.
الفصل الأول
٢٩ ـ قال :
ولما كان قد تبين في الثالثة من السماء والعالم
أن هذه الأجسام البسيطة يتكون بعضها من بعض ، وإلاّ لما كان يوجد لا كون < ولا >
فساد ، ومع ذلك فتكونها وفسادها ظاهر للحس ، وذلك ان تكونها وفسادها إنما هو في
الفصول المدركة لحس اللمس فقد ينبغي أن نخبر عن جهات تكوّن بعضها عن بعض. وأولا هل
كل واحد منها يتكون عن كل واحد أم بعضها يمكن ذلك فيه وبعضها لا يمكن فيه وهو ظاهر
أنه يجب أن يكون كل واحد منها يتكون من كل واحد ، وذلك أنه يجب في الأضداد ان
يتكون بعضها من بعض وأن يتغير
بعضها إلى بعض على
ما تبين من أمر الأشياء الفاعلة والمنفعلة ولما كان كل واحد منها يوجد لها تضاد
عند كل واحد منها إذ كانت فصولها إنما هي في التضاد؛ فمنها ما يضاد بعضها بعضا
بالفصلين اللذين بهما تقومت ، مثل النار والماء فإنهما يتضادان بالرطوبة واليبوسة والحرارة
والبرودة ، ومثل الهواء والأرض يتضادان بالرطوبة واليبوسة والبرودة والحرارة؛ ومنها
ما يتضاد بأحد فصليهما اللذين يقومانها مثل الهواء والنار فإنهما يتضادان باليبوسة
والرطوبة فقط مثل النار والأرض فإنهما يتضادان بالبرودة والحرارة فقط وكذلك الماء والأرض
يتضادان بالرطوبة واليبوسة فقط. وإذا كان كل واحد منها يضاد كل واحد ، فواجب أن
يتكون كل واحد منها من كل واحد وإذ قد تبين أن كل واحد منها يتكون عن كل واحد ، فقد
يوقف بسهولة على جهات تكوّن بعضها من بعض ، فنقول إن هذه الاسطقسات الأربع لما كان
منها ما تشترك في فصل وتتضاد في فصل ، وهذه هي المتتالية؛ ومنها ما يتضاد في فصلين
وهذه هي الغير / متتالية مثل النار والماء والهواء والأرض ، فواجب أن يكون الكون والفساد فيها على نوعين
: اما بين التي تتضاد بفصل واحد فبفساد مضادة واحدة ، مثال ذلك ان النار إنما
تتكون هواء بأن يفسد منها اليبوسة فقط وتبقى الحرارة ، وهذا أسهلها تكونا إذ كان
الفساد فيها في مضادة واحدة؛ واما التي تتضاد بفصلين فبفساد ذينك الفصلين ، مثال
ذلك أن النار إنما تتكون ماء بفساد الحرارة إلى البرودة واليبوسة إلى الرطوبة ، وهذا
هو أعسر الكونين فسادا إذ كان في فصلين متضادين. ولما كان
___________________
أيضا كل واحد منهما
يتقوم من فصلين أحدهما كيفية فاعلة والآخر منفعلة ، كانت تلك الكيفيتان ربما عرض
لهما أن يكون أحدهما في اسطقس والاخرى في اسطقس آخر أمكن أيضا أن يكون هاهنا ضرب
ثالث من الكون ، وهو أن يتكون واحد منهما من اثنين إذ أفسد كل واحد منهما الكيفية
المضادة لذلك الاسطقس ، وبقيت الكيفية الخاصة ، مثال ذلك إذا فسد من النار اليبوسة ومن
الماء البرودة تكوّن الهواء ، لأنه يبقى من النار الحرارة ومن الماء الرطوبة وهما
فصلا الهواء. وهذا ليس يتفق في كلها وإنما يتفق أن يتكون واحد من اثنين إذا كان
ثالث الاثنين يتضادان بفصليهما فيتكون من النار والماء أرض وهواء ، ويتكون من
الهواء والأرض ماء ونار ، وتتكوّن النار منهما موجود حسي فإن اللهيب إنما هو دخان
مشتعل والدخان هو هواء وأرض. وأما التي تتضاد بفصل واحد وهي المتتالية فليس يمكن
أن تتكون من اثنين منها واحد ، والسبب في ذلك أنه إذا فسد من هذا فصل ومن هذا فصل
فإنه يبقى فصل واحد وإن فسد منها كلاهما فصل واحد بقي فصلان متضادان. وليس يمكن أن
يكون جسم من هذه من فصل واحد ولا من فصلين متقابلين ، مثال ذلك أنه إذا فسد من
النار اليبس ومن الهواء الرطوبة بقيت الحرارة مفردة فلم يمكن أن يحدث عنها شيء وإن
فسد منهما جميعا الحرارة بقيت الرطوبة واليبوسة وذلك تركيب لا يكون منه شيء وهذا
الكون هو أعسر من الأول وأسهل من الثاني ، أما أنه أعسر من الأول فلأنه في كيفيتين
،
__________________
وأما / انه أسهل من
الثاني فلأن الكيفيتين المتغايرتين فيه من شيئين وفي الثاني من واحد. ولذلك أما في
الثاني فهو فساد لفصلين وكون لفصلين وأما في الثالث فهو فساد لفصلين وليس كونا
لفصلين بل إنما هو تغير لأحدهما وتنقص للثاني ، ومثال ذلك انه إذا تكون من الماء والنار
أرض فقد فسدت الحرارة التي في النار وبقيت البرودة للماء وفسدت رطوبة الماء وبقي
يبس النار. فقد تبين من هذا على كم وجه يمكن أن يتكون كل من كل وعلى أي وجه ليس
يمكن أن يتكون واحد من ثلاثة ولا واحد من اثنين متوالية بل من اثنين غير متوالية.
الفصل الثاني
٣٠ ـ قال :
وليس يقتصر على هذا النظر فيها فقط بل
ننظر فيها
من وجوه أخر فنقول : إن كان شيء من الأجسام الطبيعية موضوعا لهذه ، فواجب أن يكون
إما ليس واحد من هذه وإما واحد من هذه الأربعة كما ظن قوم في الماء والهواء وما
أشبههما. فإن كان منها فقد يجب أن تكون إما واحدا منها وإما أكثر من واحد ، فإن
كان واحدا كأنك قلت نارا او هواء او ماء او أرضا فإما أن يبقى ذلك الواحد عند ما
يتغير إليه وإما أن لا يبقى ولا يثبت فإن لم يثبت وتنحى فليس بأسطقس ، وذلك أن
الاسطقس من شأنه [أن] يثبت إذ كان جزء من الشيء الذي هو له أسطقس. وإن كان يثبت
فقد يلزم عن ذلك أن يكون سائرها
____________________
بالفعل ذلك الشيء
الموضوع ، فإن كان هواء كانت كلها هواء وإن كان ماء كانت كلها ماء. وإذا كانت كلها
تتغير وكان التغير إلى الضد والموضوع إلى تلك الأضداد ثابت وموجود بالفعل ، فواجب
أن يكون تغيرها إنما هو استحالة لا تكوّن ، وذلك شنيع. وأيضا فإنه إذا كانت مثلا
النار نارا وهواء معا ، والماء ماء وهواء معا إذا قلنا مثلا أن الهواء هو الموضوع
لجميعها لزم أن يوجد المتضادان في موضوع واحد ، وذلك أنه لما كان كل واحد منهما
يتغير إلى ذلك الواحد الذي هو الهواء مثلا ومن ذلك الواحد ، وكان كل تغير إنما / يكون
بمضادة إحداهما في المتغير
منه والثانية في المتغير إليه ، ولنضع أن الهواء هو ذلك الواحد الموضوع ، ولنضع أن
المضادة التي بين الهواء والنار التي أحدهما في النار والثانية في الهواء هي حرارة
في النار وبرودة في الهواء ويبوسة في النار ورطوبة في الهواء على ما هو موجود من
أمرهما فإذا تغيرت النار إلى الهواء فإنما يكون ذلك بأن تتغير اليبوسة إلى تلك
الرطوبة إذا كان الهواء شيئا رطبا والنار يابسة. وإذا كان ذلك كذلك فليس يمكن إذا
تغير الهواء نارا ان تكون النار نارا وهواء معا ، لأنه يلزم أن يكون الشيء يابسا
رطبا معا وذلك محال. وإذا كان ذلك كذلك فالشيء الموضوع لهما هو ضرورة شيء غير
موجود بالفعل وهو الهيولى المشتركة. وهذا بعينه يلزم إن كان الموضوع لها أكثر من
واحد منها وكذلك لا يمكن أيضا أن يكون هاهنا جسم آخر غيرها منه كونها ، كأنك قلت
جسم متوسط بين الهواء والماء وبين الهواء والنار أغلظ من الهواء وأرق من الماء أو
أرق
__________________
من الهواء وأغلظ من
النار لأنه يكون ذلك الجسم هواء ونارا معا وهواء وماء معا فيوجد فيه المتضادان معا
على ما تبين إذا كان الموضوع واحدا منها ويلزم أن يكون الشيء موجودا معدوما معا إذ
كان أحد المتضادين الموجود بين اثنين من هذه هو عدم ، وذلك أن البرودة عدم الحرارة
واليبوسة عدم الرطوبة. وإنما لزم ذلك لأنه إذا وضع متوسط ما بين طرفين متضادين ، ووضع
المتوسط إنما يخالف بالأقل والأكثر لا أن له طبيعة غير طبيعتها فما وضع في هذا
الرأي أنه إنما يخالفها باللطافة والغلظ ، فواجب أن يكون المتوسط من طبيعة الطرفين
فيوجد فيه المتضادان معا وذلك محال. وهذا معنى قوله إنه إن كان هاهنا موضوع بين الهواء والنار إنه يلزم أن يكون
هواء ونارا معا وذلك إنه إن كان إنما يخالف النار بأنه أغلظ من النار هو نار غليظة
وإن كان إنما يخالف الهواء بأنه الطف منه فهو هواء لطيف وقد كان نارا غليظة فهو
نار غليظة وهواء لطيف وذلك مستحيل. وأيضا فإنه لا يمكن في هذا / الجسم المتوسط أن يكون في وقت
من الاوقات قائما منفردا بنفسه كما يقول ذلك فيها قوم إنه قائم بنفسه وانه غير
متناه وحاصر ومحيط. فنحن بين أحد أمرين إما أن نضع واحدا منها أي واحد اتفق عنصرا
لكلها وتلزمنا هذه المحالات كلها ، وإما أن نضع أنه ولا واحد منها يمكن أن يكون
بهذه الصفة وإن كان قد تبين أنه ليس جسم محسوس أقدم من هذه فواجب أن تكون كلها أول
الأجسام المحسوسة.
___________________
الفصل الثالث
وبالجملة فقد يجب أن يكون في هذه
الأسطقسات إما أن لا يكون فيها تغير أصلا إلى واحد ، وإما أن يكون فيها تغير. فإن
كان فيها تغير فإما أن يكون من بعضها إلى بعض كما قال أفلاطون إن الثلاثة لا تتغير
إلى الأرض والأرض إليها من قبل المثلثات التي تبقى ، فضلا على ما قيل في السماء والعالم
، وإما أن يكون من كل واحد إلى كل واحد. لكن قد تبين فيما سلف أنه واجب أن يتغير
كل واحد إلى كل واحد ضرورة وتبين مع ذلك على كم وجه يتخيل أنه ليس تغير بعضها إلى
بعض في السهولة والسرعة سواء وإن التي تتضاد في كيفيتين أعسر من التي تتضاد في
واحدة وتتفق في واحدة. والذي بقي هو أن يبين أنه ليس تغير كل واحد منها إلى كل
واحد على أن يكون فيها ما هو اسطقس ومبدأ لكون الباقية حتى يكون تغير تلك الباقية
عنه تركيبا وتغيره عنها انحلالا على جهة ما يوجد الأمر في المركبات مع الأسطقس. وذلك
أنه قد تبين انه ليس تغير بعضها إلى بعض هو على أنّ واحدا منها موضوع لسائرها
فالذي بقي أن يبين انه أيضا ولا واحد منها أسطقس للباقية ، أعني أنه ليس فيها مبدأ
للتغير ونهاية بل تغير بعضها إلى بعض هو على وتيرة واحدة والموضوع لها هو شيء
بالقوة. وإنما فحص هنا عن هذا الفحص لأن هذا قد قال به كثير من القدماء. والذين
قالوا بذلك فرقتان : فرقة رأت أن الاسطقس هو لها واحد من الأسطقسات التي في الطرفين
إما نار وإما أرض ، وفرقة رأت / أنه واحد من التي في الوسط إما ماء وإما هواء.
فنقول ان القول بان الاسطقس لها هو إما نار او أرض شبيه بقول من قال انها
كلها تكون من النار
او من الأرض ، على أن النار او الأرض موضوعة لهما [بالفعل] وذلك أنه في كلى
القولين يلزم أن تكون كلها نارا او أرضا. إلا أن في ذلك القول تكون كلها نارا
بالفعل او أرضا بالفعل ، وفي هذا القول تكون كلها نارا متغيرة او أرضا متغيرة. وكذلك
يلزم هذه الشناعة من قال أن الأسطقس لها هو أحد المتوسطات ، فإما أن يكون فيها
متوسط يتغير إلى الطرفين ولا تتغير الأطراف بعضها إلى بعض على ما يراه قوم من أن
الهواء يتغير إلى الماء وإلى النار ولا تتغير النار إلى ماء ، كذلك يظهر أنه غير
ممكن على هذه الجهة وذلك ان الهواء إذا تغير إلى النار فبينهما ضرورة مضادة
إحداهما في النار والأخرى في الهواء ولتكون المضادة التي في النار يبوسة والتي في
الهواء رطوبة وكذلك أيضا إذا فرضناه يتغير إلى الماء فبينهما أيضا مضادة وهذه
المضادة يلزم أن تكون غير المضادة التي بينه وبين النار وإلا كان الماء هو النار
بعينه فلتكن هذه المضادة اما في الهواء فحرارة واما في الماء فبرودة. وإذا كان ذلك
كذلك فيكون الهواء حارا رطبا. إلا أنه لما كان يضاد النار باليبس وجب أن يوافقها
بما ضادّ به الماء وهي الحرارة ، فتكون النار حارة يابسة ضرورة وكذلك يلزم أن تكون
الرطوبة التي ضاد به النار أن يوافق بها الماء إذا تغير إليه فيكون ثابتا في
التغير ومشتركة لهما. ويوجد في النار مضادتان وهما الرطوبة والبرودة ، وقد كانت في
النار الحرارة مقابلتها واليبوسة ، فواجب أن تكون النار تتغير إلى الماء لأن
الأشياء التي بينها مضادة فواجب أن يتغير بعضها لبعض. ولما كان أيضا الهواء على
هذا الرأي أسطقسا لجميعها وجب أيضا أن يتغير إلى الأرض فيكون بينه وبين الأرض
مضادة أخرى. ولما كان الهواء حارا رطبا وكان يضاد الماء
بالحرارة والنار
بالرطوبة فواجب أن يضاد الأرض بالكيفيتين جميعا / وهي الرطوبة والحرارة فتكون
الأرض باردة يابسة لانه إن ضادها بأحد الكيفيتين كانت الأرض إما نارا او ماء فإن
كانت الأجسام أكثر من أربعة وجب أن تكون المضادة أكثر من اثنين وذلك أنه واجب أن
يكون للمضادة الواحدة جسمان ، وللإثنين أربع. وكلما زاد جسم زادت مضادة ووجد في كل
واحد منهما مضادة واحدة فلنضع ان جسما خامسا يضاد الأرض بالسواد والبياض على أن
يكون السواد في الأرض والبياض في ذلك الجسم وإذا كان ذلك كذلك فذلك الجسم يوافق
الأرض في البرودة واليبوسة فهو أبيض بارد يابس والأرض سوداء باردة يابسة ولان
الأرض توافق كل واحدة من الثلاثة بما ضادت به ذلك الجسم الخامس فكلها موجود فيها
السواد فيكون النار يضاد ذلك الجسم الخامس بالسواد والبياض. فمن هنا يظن أنه إن
كانت الأطراف متناهية ومحدودة انه ليس يمكن الا تتغير الأطراف بعضها إلى بعض. وسواء
كان المبدأ هو أحد المتوسطات أو أحد الأطراف فيلزم ضرورة أن يكون بعضها من بعض
دورا. فإن قال قائل انه قد يمكن ان يكون التغير من بعضها إلى بعض على استقامة ولا يعود التكون دورا ، مثل أن تتغير
الأرض إلى الهواء والهواء إلى الماء والماء إلى النار والنار إلى جسم خامس والخامس
إلى سادس وكذلك إلى غير نهاية من غير أن ينعطف ويعود دورا ، فقد يلزمه أن يكون ذلك
الجسم الخامس وذلك السادس أو أي جسم أشرنا إليه يعود فيتغير من الذي قبله بالبرهان
المقدم. لكن لننزل انه لم يتبين
__________________
ذلك ، ولنسلم انها
لا تعود فتتغير دورا وإن كان قد تبين ، ولنبين أنه لا يمكن أن يمر التغير فيها على
استقامة فإنه إذا بان امتناع ذلك وجب أن يعود دورا لأن التغير الدائم إن لم يكن
مستقيما فهو ضرورة دورا. فأقول أنه إن كانت النار تتغير إلى جسم خامس والخامس إلى
سادس ولا يعود التغير ، فقد يجب أن يكون بين النار وذلك الجسم مضادة ثالثة احدى
فصليها في النار فيكون في النار ثلاثة فصول وكذلك في كل واحدة مما قبل النار. ولنزل
ان الفصل الثاني منهما هو الذي في الجسم / الخامس غير موجود في واحد مما قبل النار
، إذ قد سلمنا لهم أن الجسم المتأخر لا يتغير إلى ما قبله ، وإن فرضنا جسما سادسا
لزم أن يكون بينه وبين الخامس مضادة رابعة تكون إحدى فصليها في الخامس وفي كل ما
قبله فيكون في كل واحد من الخمسة أربعة فصول. وكذلك كل ما زدنا جسما زادت الفصول
فيما قبله فإذا كانت الأجسام غير متناهية [لزم أن توجد في كل واحد منها فصول غير
متناهية]. وإذا كان ذلك كذلك فليس يمكن كون واحد منهما ولا فساده لأن كونه لا
ينقضي إلا بانقضاء ما لا نهاية له ، وما لا نهاية له غير منقض ، فكونه وفساده غير
منقض فيلزم عن ذلك الا يكون فيها تغير أصلا من هذه الجهة. ومن جهة اخرى ، وذلك
أنها لما كانت غير متناهية من الطرفين وجب ألا يتغير واحد منهما حتى يتغير قبلها
أشياء لا نهاية لها وذلك غير منقض أيضا إذا كانت المضادات قبل الاسطقس الواحد
الغير متناهية غير مضادة للمضادة الذي بعده الغير متناهية أيضا وجب أن تكون متفقة
فتكون فصول الاجسام التي قبله هي بعينها [فصول] الأجسام التي بعده فتكون تلك
الأجسام واحدة بالنوع. وإنما يلزم ذلك لانه إذا كان الطرفان يضادان
الوسط ولا يتضادان
فهما يضادان بمضادة واحدة والشيئان اللذان يضادان شيئا واحدا بمضادة واحدة هما من
نوع واحد.
الفصل الرابع
ولما فرغ من معاندة الآراء التي يمكن أن
يقال فيها أن بعض الاسطقسات لا تتغير إلى بعض عاد إلى معاندة من يقول أنه ولا واحد
منها يتغير إلى الآخر ، فجعل قوله قائله ١ [كذا] ابن دقليس إذ كان هو أشهر من يقول
بهذا فقال :
وإنا لا نوجب من قول من يقول أن
الاسطقسات كثيرة ويقول مع هذا إنها غير متغيرة بعضها إلى بعض لانها متعادلة ومتساوية
في القوة ، وذلك أن الأشياء المتعادلة والمتساوية إما أن تكون متساوية في الكمية
او في الكيفية المتضادة على طريق النسبة مثل أن هذا الشيء يسكن كما هذا يبرد / إلا
ان هذا التساوي الذي يوجد على طريق النسبة إنما يقال له تشابه لا تساوي ، ولذلك
ليس نرى أن ابن دقليس عنى هذا النوع من التساوي ، وهو يعدله على أنه لم يستعمل هذا
النوع من التساوي وذلك أن بهذا النوع فقط من التساوي يمكن أن يدعي مدع أنها تبقى
غير متغيرة. فاما بالنوعين الاولين فلا يمكن أن تنحفظ ، وذلك ان التعادل الذي يوجد
لها من قبل الكمية او من قبل الكيفية إنما يوجد لها من جهة ما هي من جنس واحد
مشتركة في مادة واحدة. وإذا كان التغير لها إنما هو من جهة ما هي مختلفة لا من جهة
ما هي متفقة فلا معنى لذلك التعادل إذ كان إنما هو من باب الاتفاق
_______________
وذلك أنه إن قلنا ان
أوقية واحدة من الماء تساوي في الكمية عشرة اوقية من الهواء فذلك لا يكون إلا بأن
يتصور هاهنا شيء موضوعا لها مشتركا ، كانك قلت إذا امتد وتخلخل صار هواء وإذا
تكاثف وانقبض صار ماء. ومثل هذا التعادل لا يفيد شيئا فتكون المختلفة غير متغايرة
، لان هذا التعادل إنما هو من جهة الاتفاق لا من جهة الاختلاف. وإن قلنا انها
متعادلة من جهة الكيفية المشتركة كما يظهر في قول ابن دقليس انه يريد بهذا المعنى
مثل ان يقول ان الحرارة التي في جزء من النار مساوية للحرارة التي في عشرة أجزاء
من الهواء ، فمن البين ان هذا النوع من التساوي إنما يوجد من جهة ما هي مشتركة في
هيولى واحدة من جنس واحد فإن الأقل والأكثر والمتساوي هي من جنس واحد. وإذا كان
ذلك [كذلك] فليس هذا النوع من التعادل والتساوي مغنيا في ثباتها لان تغير النار
إلى الهواء إنما هو بأن هذه يابسة وهذا رطب. فمن هذه الجهة قد كان ينبغي لمن يقول
انها غير متغيرة ان يروم إعطاء التعادل بينها ، وهذا التعادل إنما يوجد لها في
الكل لا في الأجزاء. ولذلك نقول نحن إنها غير متغيرة بالكلية متغيرة بالأجزاء.
٣١ ـ قال :
وقد يلزم ابن دقليس شناعات كثيرة في
مذهبه مما يرى وفي غير ذلك. أما اولا فإنه لا يكون النمو على رأيه إلا زيادة على
النامي وتراكما فقط وذلك / انه يقول ان النار إنما تنمو بالنار والأرض بالارض والاثير
بالاثير. وهذا إنما هو زيادة لا نمو ، فإن النمو إنما يكون بطريق الاستحالة على ما
تبين. وأصعب من هذا عليه واشنع أن يقول لم كانت الأشياء المتكونة بالطبع يوجد لها
التكون إما دائما وإما
على الأكثر ، وذلك
ان ما يكون من تلقاء نفسه ومن الاتفاق الذي يجعله هو سببا قريبا لحدوث الأشياء
فإنه إنما يكون سببا لما يحدث على الأقل. فما السبب عنده يا ليت شعري في أن يكون
من الإنسان أبدا إنسان دائما ومن الحنطة حنطة لا زيتونة وما السبب في ان صارت
أعظام المتكونات من الاسطقسات محدودة في نوع نوع وجنس جنس. وذلك ان الاجتماع الذي
يكون على طريق الجزاف كما يقول ليس يكون سببا لحدوث هذه الأشياء الذي يخص كل واحد
منها ضربا من التركيب والنسبة توجد دائما في واحد واحد منها ومحفوظا. ولا يمكنه
أيضا أن يقول أن سبب هذا التركيب الخاص بموجود موجود هو الاسطقسات ولا المحبة ولا
العداوة وذلك ان المحبة إنما هي عنده سبب الاجتماع والعداوة سبب الافتراق فاما
الأسطقسات فهي المجتمعة والمفترقة ، فلم يقل إذن شيئا في أمر طبيعة الأشياء [...] فإن وجود هذه
الأشياء إنما هو على جهة الأفضل والأولى لا على جهة الاختلاط والجزاف الذي يحمده
هو. ومن الشنيع أيضا أن تكون الأسطقسات والمحبة عنده أقدم من الآلهة. وذلك أن
الآلهة عنده هي الكرة السماوية ، وهي مركبة عنده من الاسطقسات واجتماعها عن المحبة
ولذلك يذم العداوة إذ كانت عنده مفسدة للآلهة ومفرقة لها. وقد يلزم أن تكون المحبة
مفرقة وذلك أنها إذا كانت سبب اختلاط الأسطقسات فهي السبب في زوال فصولها وذلك
تفريق لا جمع. وكذلك أيضا لم يأت في أمر الحركة بشيء ولا قال في طبيعتها قولا فإنه
ليس يكفي معرفة طبيعتها أن يقال ان
_________________
العداوة والمحبة
يحركان حتى يقال ما الحركة التي تحركها العداوة وما الحركة التي تحركها المحبة.
فقد كان يجب أن يقال في ذلك إما قولا مستقصى / وإما قولا مقنعا. وأيضا فلما كنا
نجد لكل واحد من الأسطقسات حركة قسرية فيوجد لكل واحد منها ضدها وهي الحركة
الطبيعية وذلك ان الحركة الطبيعية هي أقدم. وإذا كان ذلك كذلك ، وكنا نجد النار والأرض
إنما يجتمعان عند ما تتحرك الأرض إلى فوق وتهبط النار إلى أسفل ، ويفترقان عند ما
تصعد النار وتهبط الأرض ، والصعود للأرض والهبوط للنار قسري. فإن كانت العداوة هي
سبب الافتراق في الأشياء على ما يقوله هذا الرجل والمحبة سبب للاجتماع ، فالمحبة
التي يمدحها ويقدمها هي سبب الحركة القسرية المتأخرة والعداوة سبب الحركة الطبيعية
المتقدمة. فالعداوة إذن أولى بأن تكون سببا في المحبة ، وذلك شنيع عنده ، فان لم
تكن المحبة ولا العداوة سببا لهاتين الحركتين ، فليسا سببا لحركة اصلا. وإذا لم
يكونا سببا للحركة فليس هنالك حركة أصلا. وأيضا فإنا نقول إن العالم لما كان قد
تبين أنه يتحرك في هذا الوقت عن وجود حركة العداوة عنده ، وفي القديم عن وجود حركة
المحبة عنده بحركة واحدة وعلى مثال واحد ، فليس يمكن أن تكون العداوة ولا المحبة
سببا لهذه الحركة لأن هاتين الحركتين اللتين سببهما العداوة والمحبة هما حركتان
متغايرتان لا يجتمعان معا في موضوع واحد في وقت واحد بل توجد هذه حينا ، وهذه
حينا. فإذن المحرك للحركة الواحدة في زمان تحريك العداوة وزمان تحريك المحبة ليس
هو المحبة ولا العداوة ومن الشنيع قوله إن النفس يكون من الاسطقسات ، وذلك أنه لا
سبيل إلى أن يوفي أسباب افعال النفس وانفعالاتها من الاسطقسات
لا من واحد منها ولا
أكثر من واحد ، مثل العلم والجهل والذكر والنسيان وغير ذلك من أفعال النفس. وأيضا
إن كانت النفس كما يقول قوم نارا او خلطا من النار ومن سائر الاسطقسات ، فواجب أن
يوجد فيها إما عوارض النار ولواحقها وإما لواحق الجسمين ، إلا أنه ليس شيء من
انفعالاتها / منسوبا إلى انفعالات الأجسام. لكن النظر في هذه الأشياء ليس من هذا
الكتاب. فلنرجع إلى حيث كنا فيه من الاسطقسات وننظر كيف تتولد منها سائر الأشياء.
الجملة الثالثة
وهذه الجملة فيها فصلان.
الفصل الأول : يخبر فيه عن جهة حدوث
المركبات عن الاسطقسات.
الفصل الثاني : يبرهن فيه أن جميع
المركبات هي من الاسطقسات الأربع.
الفصل الأول
٣٢ ـ قال :
اما من ظن [أن] للأسطقسات التي منها
قوام الأشياء وتركيبها هيولى مشتركة ، وإنها تتغير بعضها إلى بعض ، فقد يجب عليه متى
اعترف بالهيولى المشتركة أن يعترف بتغير بعضها إلى بعض ، ومتى اعترف بالتغير أن
يعترف بالهيولى. وأما من لم يعترف بتكون بعضها من بعض وجعل تولد سائر المركبات
منها فإنهم ليس يمكنهم أن يأتوا
بجهة صحيحة في كيفية
تولد المركبات من هذه البسائط ، مثل تولد اللحم والعظم ، وتولد البسائط عن
المركبات على جهة الانحلال. إذ كان ليس يمكنهم أن يقولوا في ذلك إلا جهة واحدة وهي
جهة تركيب الحائط من اللبن والحجارة وانتزاع اللبن والحجارة من الحائط. وهذا الوجه
يلزمه شناعات كثيرة إحداها ما تقدم وهو أن يكون الاختلاط تركيبا لأجزاء صغار إلا
انها غير محسوسة فيكون ما هو اختلاط عند إنسان ليس هو اختلاط عند من هو أحدّ بصرا
منه؛ والثانية انه يلزمهم ألا يكون كل جزء من اللحم يتولد منه ماء ونار وهواء وسائر
الباقية كما هو المحسوس من أمرها وذلك أنه ليس كل جزء من أجزاء الحائط يخرج منه
لبن وحجارة بل اللبن يخرج من موضع منه والحجارة من موضع آخر. فإن كان تولد
المتولدات عنها تركيبا فإما الا يتولد عن كل جزء من أجزاء اللحم ماء وأرض وإما أن
يتولد فيجوز أن يداخل جسم جسما ولو كان انحلال المركبات إلى الاسطقسات بهذه الجهة
لم يكن ضرورة الكون استحالة / ولا كان بالجملة يوجد شيء في باب الكيف بل كل جزء
كما يقول أرسطو من لحم يمكن أن يتولد منه نار وسائر الباقية مثلما أن الجزء من
الشمع ممكن فيه على السواء أن يقبل شكلا مخروطا وشكلا مستديرا وشكلا مستقيم
الأضلاع ، وإن كان هذا إمكانا على جهة القبول وذلك إمكان على جهة الانحلال. وأما
من يقول بتغير الاسطقسات بعضها إلى بعض فقد يظن انه أيضا يدخل عليه شك أكثر من هذا
الشك ، اما أولا فإن أولئك قد يمكنهم بجهة ما أن يقولوا كيف تتولد المركبات منها وأما
هؤلاء فلما كانوا يضعون تكوّن هذه الاسطقسات بعضها إلى بعض إنما هو من قبل الهيولى
المشتركة فقد يعسر عليهم
أن يأتوا بضرب آخر
من التكون للحم والعظم فإنه إن كان اللحم منها جميعا أو من أكثر من واحد منها ، كأنك
قلت من الماء والنار فلا يخلو أن يكون الماء والنار موجودين في اللحم بالفعل فيكون
تركيبا كما قال أهل المذهب الأول ، واما أن يكون حدوثه بفساد كل واحد منهما فيكون
الحاصل الباقي منهما إنما هو الشيء المشترك بينهما وهو المادة الاولى الموجودة
بالقوة وذلك مستحيل. وهذا الشك إنما كان يلزم من قال ان حدوث الأجسام المركبة من
الاسطقسات يكون على جهة التغير لو كانت فصول الاسطقسات الأول ، مثل الحرارة والبرودة
لا يقبلان الأقل والأنقص ، فإنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون كل تغير يوجد لهما
لا يحصل عنه الا أحدهما او هيولى لو أمكنت فيها المفارقة. وأما إذا قلنا أن الحار والبارد
قد يكونان
بإطلاق ويكونان أزيد وأنقص فنحن نقول إن الذي يحدث ليس هو باردا على الإطلاق ولا
حارا على الإطلاق ولا شيئا هو أيضا بالقوة حار ولا بارد بل نقول أنه حار وبارد معا
على جهة ما نقول ذلك في المتوسطات حار بالاضافة إلى البارد المطلق الذي في الغاية وبارد
بالاضافة / إلى الحار الذي في الغاية. فاما على أي جهة يكون ذلك ، فهي الجهة التي
تبين وجودها وهي جهة الاختلاط ، فإن الاختلاط ليس كونا مطلقا ولا هو أيضا استحالة.
وعلى هذه الجهة ليس هو تغير أحد الضدين إلى الثاني ولا تغيرهما إلى الهيولى بل
يكون حدوث المركبات عن الأسطقسات على جهة الاختلاط وحدوث الأسطقسات من المركبات
على جهة الانحلال وإنها بالقوة
_________________
تلك. ولكن ليس معنى
بالقوة هاهنا هي الهيولى الاولى ، إذ كانت المركبات التي هي بالقوة ماء ونارا وأرضا
وهواء مثل اللحم والعظم شيئا موجودا بالفعل ولا أيضا على جهة وجودها بالقوة في
الاسطقسات ، بل على جهة مقابلة>ليس وجود الأسطقسات بعضها في بعض بالقوة بل على
جهة متوسطة<تشبه وجود الأجزاء في المتصل ، أعني كونها أجزاء بالقوة حتى إذا
انقسم المتصل صارت أجزاء بالفعل. إلا أن الفرق بينهما أن هذه أجزاء من باب الكمية وتلك
أجزاء من باب الكيفية. وأما الوجه الذي به يكون الاختلاط وما الأشياء المختلطة فقد
قيل فيما تقدم. واما كيف يكون الاختلاط للأشياء المتضادة فإنه يكون كما قيل إذا لم
يكن احدهما غالبا للآخر ولا كانت قوة كل واحد منهما مساوية للآخر. فإنه إن كانت
قوة أحدهما غالبة على الإطلاق للآخر كان ذلك فسادا للمغلوب وكونا للغالب ، ومتى
كانت قوة كل واحد منهما مساوية لصاحبه لم يحدث هنالك صورة واحدة على ما تبين في
الرابعة من الآثار ، وكان فسادا لكليهما فقط ، ومتى كانت قوة أحدهما ليست غالبة
على الإطلاق بل غالبة مغلوبة تولد بينهما شيء وسط إلا أنه يكون ضرورة أميل إلى
طبيعة الغالب مثل أن يكون في حرارته أزيد من برده او في برده أزيد من حرارته. ولذلك
كان هذا الوسط مع انه أميل إلى أحد الطرفين له عرض ما قابل للاقل والأكثر. ومن هنا
يظهر لك امتناع وجود المزاج المعتدل الذي وضعه جالينوس ، اعني الاعتدال الذي بحسب
الاطراف التي في الغاية لا الاعتدال الذي بحسب أطراف / مزاج النوع فإن هذا هو الذي
ينظر فيه صاحب [صناعة] الطب.
الفصل الثاني
٣٣ ـ قال :
ولما كانت جميع الأجسام المتولدة من
الأسطقسات في المكان الأوسط الذي هو مكان الأرض ، فواجب أن يكون الأرض جزء منها ، لأن
الأشياء التي هي بالطبع في موضع ما هي ضرورة اما ذلك الجسم الموجود في ذلك الموضع
او شيء غالب عليه ذلك الجسم. ولذلك وجب أن تكون الأجسام الموجودة في المكان الوسط
إما أرضا وإما أرضية. ولما كانت الأرض ليس يمكن لموضع بينها أن تقبل الشكل والانحصار
من غيرها وكان الماء هو الذي يمكن فيه ذلك ، كان واجبا أن يكون الماء أيضا جزء من
الأشياء المتكونة. وأيضا فإن المتكون لما كان بالاختلاط ، والاختلاط إنما يكون
بالرطوبة وجب أيضا لذلك أن يكون الماء جزء من الأشياء المتولدة على جهة الاختلاط. وإذا
وجد في جميع المركبات هذان الأسطقسان ، فواجب أن يوجد الاسطقسان الآخران فيها أيضا
اللذان هما أضداد لهذين وهما النار والهواء ، والا لم يوجد>في<هذين في
المركبين بحال الانقص. مثال ذلك أنه إن لم يكن في المركب شيء حار فلن يوجد فيه
بارد الا في الغاية فلذلك ما يجب إذا وجد الماء والأرض في المركبات لا على
كيفياتها التي هي في الغاية بل انقص ان يوجد فيها الضدان الآخران اللذان منها
انكسرت كيفياتها الأول في المركبات ، أعني الهواء والنار فالأسطقسات الأربعة ضرورة
موجودة في كل مركب.
٣٤ ـ قال :
ومما يدل على ذلك الغذاء الذي يغتذى به
النبات. فإنه يظهر ان النبات إنما يتغذى بالماء والأرض ، ولذلك صار الأبارون
يخلطونهما عند الزراعة. وإذا كان فيه الماء والأرض ففيه الاسطقسان الباقيان. وإذا
كان الحيوان مغتذ بالنبات ففيه أيضا الاسطقسات كلها والمغتذي أيضا ظاهر من انه
إنما يتم له الاغتذاء بالحرارة الفاعلة التي فيه من المادة الواردة عليه ، فإن
الحرارة تتنزل من الغذاء الوارد عليها / منزلة الصورة من الهيولى. ولهذا وجب للنار
من بين سائر الاسطقسات أن يظن بها أنها تغتذي من غيرها من الأسطقسات مع ان كل واحد
منها يستحيل إلى ضده ، أعني من جهة ان نسبتها من سائر الاسطقسات نسبة الصورة من
الهيولى إذ كانت حاوية لجميع الاسطقسات على ما قيل في السماء والعالم ، وذلك انها
حاوية من قبل أنها تتحرك إلى الموضع الحاوي ، وهو مقعر فلك القمر. والحاوي يتنزل
منزلة الصورة من قبل انه الذي اليه تنتهي الحركة وهذه هي حال الصورة.
فقد تبين من هذا أن جميع الأجسام مركبة
من جميع هذه الأربعة الاجسام المسماة أسطقسات.
الجملة الرابعة
وهذه الجملة فيها فصلان :
الفصل الأول : يبين فيه جميع الأسباب
العامة لما يكون ويفسد. الفصل الثاني : يبين فيه على أي جهة يوجد ضرورة الاتصال في
الكون.
الفصل الأول
٣٥ ـ قال أرسطو :
ولما كانت هاهنا امور كائنة فاسدة وذلك
فيما دون فلك القمر ، فقد ينبغي أن نبين كم عدد المبادي المشتركة العامة لجميع ما
يكون ويفسد ، وما هي ، فإن بوقوفنا على ذلك يكون وقوفنا على أسباب واحد واحد من
الجزئيات التي تكون وتفسد أسهل إذ كان المسير من العامة إلى الخاصة هو الطريق
الأعرف بالطبع عندنا على ما قيل في غير هذا الموضع فنقول :
إن المبادي في الاجسام الغير متكونة والاجسام
الكائنة واحدة بالعدد متفقة بالجنس ، وإن كانت مقولة بتقديم وتأخير. وهي بالجملة
ثلاثة المادة والصورة والفاعل وذلك أن هذين السببين لا يكفيان في الامور الكائنة
الفاسدة دون السبب الفاعل المحرك كما لا يكفيان في الاجسام الأزلية إلا أن هذه هي
في الاجسام الأزلية والأجسام الكائنة الفاسدة كما قلنا غير متفقة إلا بالجنس
المقول / بتقديم وتأخير فإنها لو كانت مقولة بالجنس المتواطئ للزم في جميعها أن تكون كائنة فاسدة والسبب
الذي يجري مجرى الهيولى للأجسام الكائنة الفاسدة هو الشيء الذي فيه إمكان أن يوجد
الشيء
_______________
والا يوجد والأشياء
التي يمكن فيها
أن توجد وألا توجد هي الأمور الكائنة الفاسدة لان الأشياء [توجد] على ثلاثة اضرب
بعضها موجود دائما وبعضها معدوم دائما وبعضها موجود في وقت معدوم في آخر وهذه غير
كل واحدة من ذينك. وذلك أن ما كان موجودا دائما فليس يمكن فيه أن يعدم في وقت من
الاوقات وما كان معدوما دائما فليس يمكن فيه أيضا أن يوجد في وقت من الأوقات. وإذا
كانت الأشياء الكائنة الفاسدة بهذه الحالة ، فالاشياء التي بهذه الحال هو الموجود
لها الأمران ، فالاشياء الكائنة الفاسدة احد اسبابها ضرورة هو الشيء القابل
للإمكان ولما كان الشيء القابل للإمكان هو السبب الهيولاني فأحد أسباب الكائنة
الفاسدة هو السبب الهيولاني ضرورة. وأما السبب الذي يجري مجرى الخلقة والصورة وهو
الغاية في الكون فينبغي أيضا أن يكون سببا ثانيا لهذا السبب وكذلك أيضا السبب
الثالث ينبغي أن يضاف اليها ، وهو السبب الفاعل الذي اغفل القدماء ذكره. فإن منهم
من اكتفى بالسبب الذي على طريق الصورة عن هذا السبب قالوا إن للأشياء صورة وماهيات
مفارقة وإن كون هذه الأمور المحسوسة هو عن المادة القابلة وعن هذه الصورة الفاعلة
المفارقة وأنها هي التي تحرك
صور هذه الأشياء المحسوسة في المواد بمنزلة أفلاطون؛ ومنهم من اكتفى بالسبب
الهيولاني فقط وهو الحار والبارد والرطب واليابس فقال إن صور هذه الأشياء إنما
تحدث عن اختلاط هذه وامتزاجها من قبل ذاتها فقط لا من قبل محرك لها من خارج قالوا
___________________
وذلك أن الكون إنما
هو تغير ومبدأ التغير إنما هو الهيولى. وهو يعتب>يعيب< كلا الفريقين ولكن
يقول إن من اكتفى بالسبب الهيولاني فقط فنظره أشد مناسبة / إذ كان قد أعطى مبدأ
للتغير من جهة ما هو مبدأ تغير. وأما أولئك فإنهم أعطوا في التغير مبدأ غير مناسب
للتغير وذلك أن الصورة هي التي إذا وجدت كف التغير لا أنها سبب التغير وهو. يعاند
القائلين بأن الصور هي الأسباب الفاعلة القريبة. بأنه لو كان الأمر كما يعتقدون من
غير أن يكون هاهنا حاجة لإدخال سبب ثالث للزم أن يكون التكون دائما متصلا ولا ينحل
في نوع من الأنواع ، لأنه إذا كانت الصورة موجودة فما بال الشيء يحدث في وقت دون
وقت ولذلك ما يجب إن كانت هاهنا صورة حادثة أن يكون سبب فاعل أقدم منها بالطبع. وأيضا
فقد نجد هاهنا أشياء الفاعل فيها غير القابل وغير الصورة ، مثال ذلك الصحة
المتكونة عن صناعة الطب في بدن الإنسان فإن الطبيب الذي يفعلها هو غير الصحة وغير
القابل لها فإن الصحة غير الصناعة والقابل أمر ثالث. وكذلك الأمر في جميع الصنائع
الفاعلة وهو ليس يعذل هنا أفلاطون على أن الصورة سبب فاعل على الإطلاق بل إنما
يعذله على أنها أسباب قريبة وبالذات أو مكتفية بنفسها في جميع ما يحدث فإنه يضع
أيضا أن هاهنا صورة فاعلة وإن كان وجودها عنده على غير الجهة التي هي عند أفلاطون
فهو إنما يخالف أفلاطون من جهة وجود الصور وفي جهة فعلها فقط لا في وجودها على
الإطلاق. ولا في فعلها على الإطلاق. وأما الذين يكتفون بالهيولى فقط في جميع ما
يكون فإنه وإن كان نظرهم أشد مناسبة فهم مخطئون أيضا وذلك أنهم يجعلون مبدأ القبول
والانفعال بعضه مبدأ الفعل والتحريك وهو من
الظاهر تغاير
المبدأين فيما يحدث بالصناعة وفيما يحدث بالطبيعة ، فإن الماء لا يكون منه حي
بذاته ولا الخشبة يكون منها سرير من غير الصناعة ، وبالجملة فيجب أن يكون الأمر
فيما يحدث بالصناعة والطبيعة واحدا. وأيضا فإنهم إذا رفعوا السبب الفاعل فقد رفعوا
السبب الصوري لأن الصورة إذا كان حدوثها عن نوع من الانفعال عرض للهيولى فحدوثها
يكون أقليا وبالعرض. وهم بالجملة إن جعلوا هاهنا مبدأ فاعلا فإنما يجعلون الفاعل
الذي هو من جنس الآلة لا الفاعل الذي هو من / جنس الفاعل بالحقيقة ، إذ يرفعون الفاعل
الأول من الموجودات وذلك أنهم يقولون إنه لما كان من شأن الحار أن يفرق ويميز ومن
شأن البارد أن يجمع ويخلط وكذلك كل واحد من الأشياء المحسوسة شأنه أن يفعل في غيره
وأن ينفعل منه ، فقد يكتفى في كون الأشياء وفسادها بفعل بعضها في بعض وانفعال
بعضها عن بعض. إلا أنه لما كنا نرى النار ، التي يظهر من أمرها أنها فاعلة جدا
أكثر من سائر العناصر ، إذا فعلت بطبعها فهي أحرى أن تفسد الأشياء من أن تكونها ، فقد
يجب ضرورة إذا كانت مكونة للأشياء أن يكون هنالك فاعل هو الذي صيرها بالتعديل والتكثير
صالحة لأن تكوّن شيئا من الأشياء. فمن نسب التكوين إلى النار وغيرها من العناصر
فهو أشبه شيء بمن نسب النشر إلى المنشار دون الصانع ، والخزانة إلى القدوم بل لم
يشعر هؤلاء أن تحريك النار [أخص من تحريك الآلة وذلك أن الآلة لا تحرك دون الصانع وإذا حركت مع الصانع حركت إلى
الكون ، وأما النار] فإذا لم تحرك بالمحرك الأول حركت إلى الفساد.
_________________
٣٦ ـ قال :
فأما نحن فقد لخصنا فيما سلف السبب
العام الهيولاني ولخصنا أيضا الصورة ونحن نلخص السبب الثالث للكون والفساد وهو الفاعل
فنقول :
أنه لما كان قد تبين أن حركة النقلة
أزلية دائما متصلة ، فقد يجب لذلك أن يكون الكون متصلا دائما ، وذلك أن النقلة
تفعل الكون بأن تدني الكائن من المكون والمكون من الكائن. وذلك أيضا واجب لها من
طريق أنها أقدم التغيرات على ما تبين قبل. وذلك ظاهر أيضا من قبل أن المتحرك بهذه
الحركة موجود والمتكون قبل تكونه غير موجود ، والموجود أحرى وأولى بأن يكون سببا
لغير الموجود في وجوده من أن يكون غير الموجود سببا للموجود أو أن يكون الموجود لا
دائما سببا للموجود دائما. فمن هاهنا يظهر أن النقلة أقدم الحركات ، التقدم الذي
بالطبع. لكن لما كنا قد بينا فيما سلف أنه يلحق الأمور دائما الكون والفساد ، وأن
كون الكائن هو ضرورة فساد للمتكون منه ، فمتى قلنا أن سبب التكون هو النقلة. فمن
البين أنه ليس يمكن أن تكون النقلة وهي واحدة تفعل هذين الفعلين المتضادين أعني
الفساد والكون. وذلك أن الشيء الواحد بعينه الواحد بحاله فإنما شأنه أبدا أن يفعل
شيئا / واحدا بعينه لا شيئين متضادين ، فيجب أيضا على هذا أن قولنا ان النقلة لها فعل في ذلك أن تكون تفعل
أحدهما إما كونا دائما وإما فسادا دائما ، أو نقول أن هاهنا نقلتين متضادتين وحركتين
متغايرتين تفعل إحداهما الكون والأخرى
_________________
الفساد ، او نقول أن
هاهنا نقلة واحدة ولكن توجد في الأشياء المتغايرة>با<أو المتضادة حتى يكون
إذا قربت من المتغاير فعلت فعلا ما وإذا بعدت منه فعلت ضده. لكن لما كان ليس يمكن
أن تضاد نقلة نقلة حتى تكون نقلة ما هي بذاتها فاعلة الفساد كما يعتقد المنجمون ونقلة
هي بذاتها فاعلة الكون على ما تبين في الاولى من السماء والعالم ، فمن البين أنه
يجب إن كان هاهنا كون وفساد دائمين أن تكون هاهنا نقلة توجد من الكائنات الفاسدات
بحالتين متضادتين وإذا كان ذلك كذلك فبيّن أن هذه النقلة ليست هي النقلة الأولى وان
النقلة التي بهذه الصفة هي النقلة التي تكون للشمس في الفلك المائل فإن هذا الفلك
كما يقول أرسطو قد جمع إلى اتصال الحركة ودوامها أن فيه حركتين حركة قرب وحركة
بعد. وذلك انه واجب [إن كان] الكون والفساد دائمين متصلين أن يكون هاهنا شيء يتحرك
دائما كي لا يخل الكون والفساد وأن يكون مع هذا له حركتان مختلفتان لئلا يكون الذي
يلزم عن فعل واحد. فسبب الدوام في الوجود الدائم هاهنا الغير متغير هي النقلة
الأولى ، اذ كانت هذه النقلة هي من الموجودات بحال واحدة وسبب الكون والفساد ودوامها
هو المتحرك في هذا الفلك ، اذ كان ليس من الموجودات بحال واحدة كما قيل ، بل مرة
يقرب من الشيء ومرة يبعد. واذا اختلف البعد والقرب اختلف تحريكه للشيء الذي يقرب
منه مرة ويبعد اخرى. فان كان ذلك الشيء بعينه إذا دنا وقرب كون وإنشاء ، فان ذلك
الشيء بعينه اذا بعد ونأى اهرم وأفسد. فان كان بدنوه مرة [بعد مرة] كون وإنشاء ، فواجب
ان يكون ببعده مرة بعد مرة يهرم ويفسد. وذلك إن أسباب الأضداد أضداد ولذلك ما نقول
أنه واجب / أن يكون عدد الدورات
التي يتكون فيها
موجود موجود ويتمم نشأته مساوية لعدد الدورات التي فيها يكون هرمه وفساده ، هذا
إذا كان الكون على المجرى الطبيعي وإذا كان زمان الشباب مساويا لزمان الهرم في
موجود موجود وكان هذان الزمانان محدودين بهذين الأدوار [كذا] التي للفلك المائل.
فلكل موجود كما يقول أرسطو عمر محدود من قبل المتحرك دورا ، وأجل معدود؛ فبعضها
يحيط بعمره أدوار قليلة وبعضها أدوار كثيرة وبعضها دورة واحدة وبعضها أقل من دورة وبعضها
أكثر. وهذا الذي يقول أرسطو في فلك الشمس ينبغي أن تفهمه في سائر أفلاك الكواكب
المائلة. وقد نجد الحس موافقا لما أدى إليه البرهان ، وذلك [أنا] نرى أن الشمس إذا
قربت منا في فلكها المائل فعلت الكون في أكثر الموجودات ، وإذا بعدت فعلت الفساد
في أكثر الموجودات. وينبغي أن تعلم أنه ربما كان الأمر بالعكس في الأقل مثل وجود
النبات الشتوي .
وإنما يعرض كما قلنا أن يكون زمان التكون والنشء مساويا لزمان الهرم والفساد في
الكون والفساد الطبيعي وهو الأكثر ، وأما الفساد الغير الطبيعي فقد يعرض كثيرا في
زمان أقل من زمان النشء وذلك إما من قبل طبيعة المزاج التابع لطبيعة الهيولى ، فإن
الأمزجة الموجودة في أشخاص النوع الواحد لما كانت تختلف بالأقل والأكثر ولم تكن
واحدة ، وجب ضرورة أن تختلف أزمنة الكون والفساد من أشخاص النوع الواحد حتى يكون
بعضها أطول وبعضها أقصر فيكون فساد ما يفسد من ذلك في غير الوقت ، إذ كل فساد فهو
كون شيء آخر ، وكل كون فهو فساد لشيء
__________________
آخر؛ وإما من قبل
اختلاف أحوال السبب الفاعل القريب؛ وإما بسبب اختلاف الفاعل الأقصى مثل إختلاف فعل
الشمس لمكان ما يجتمع معها من الكواكب ويفترق؛ وإما بسبب اختلاف الفاعل الأقرب مثل
مخالفة طبيعة الأب لطبيعة الشمس في وقت التوليد ومخالفة الشهوة في استعمال الأغذية
للمزاج. ويعم هذه كلها افتراق الأسباب وقلة موافقة بعضها لبعض. هذا اللفظ يوجد في
بعض النسخ عوض الامتزاج. وينبغي أن تعلم أنه إذا وضعنا هذا الرأى الذي قاله أرسطو
من أن زمان النشء مساو لزمان الهرم ، ووضعنا أيضا ما يقوله الأطباء من أن سن
الشباب للإنسان إلى خمس وثلاثين سنة ، فالعمر الطبيعي له هو سبعون سنة فما فوقه
يسير أو دونه يسير. ولذلك قال صاحب الشرع أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين.
٣٧ ـ قال :
وما قلناه من أن التكون والفساد متصلان
ابدا لا يخلان ليس هو واجبا من قبل السبب المادي والفاعل كما تبين قبل ، بل ونبين
أنه واجب أيضا من قبل السبب الغائي. وذلك أنه لما كنا نرى أن الطبيعة أبدا إنما
تتحرك وتشتاق الأمر الأفضل بحسب ما يمكنها في موجود موجود ، وأقصى ما في طباعه أن
يقبله ذلك الموجود ، وكان الوجود أفضل من العدم ، وكان قد تبين في مواضع أخر على
كم وجه يقال الموجود وأن منه ضروري وغير ضروري وأن الضروري أفضل من غير الضروري ، والضروري
بالشخص أفضل من غير الضروري بالشخص وهو الضروري بالنوع ، وكان ليس يمكن وجود
الموجود الأفضل بإطلاق في هذه الأشياء التي قربت منا لكونها من المبادي الأول في
غاية البعد ، فإن الإله ذا الجود والفضل تمم النقص الذي
لحق هذه الأشياء
بالوجه الذي كان يعني
أن يتلافى به هذا النقص الحادث من قبله ، وهو أن جعل أن تكون سرمدية. فإن هذا هو
الوجه الذي يمكن خاصة أن يتصل الوجود لهذه الأشياء إذ كان اتصال الكون من أقرب شيء
إلى اتصال الوجود للأشياء الدائمة الوجود. وسبب هذا الاتصال الذي يتمم الله سبحانه
به هذا النقص هو النقلة دورا. ولذلك صار الاتصال لهذه الأشياء على جهة الدور مثل
ما نرى الهواء يتكون من الماء والماء من الهواء دائما ودورا ، حتى إن النقلة على
الاستقامة إنما يوجد لها الدوام والاتصال من جهة تشبهها بالنقلة دورا مثل صعود
الهواء مرة وهبوط الماء أخرى.
ومن هنا ينحل الشك الذي يعتري بعض الناس
وهو لم لا تفترق هذه الأجسام البسيطة وتتميز بعضها من في هذا الدهر الطويل حتى لا
يكون لها اختلاط ولا امتزاج ، إذ كانت أضدادا وكان من شأن كل واحد أن يلحق بموضعه
/ الذي يخصه ، فإنه ليس السبب في نقلتها الى أماكن بعض واختلاط بعضها ببعض شيئا
إلا النقلة. ولو لا النقلة دورا لكان واجبا أن تفترق في هذا الدهر الطويل. لكنها
تنتقل بعضها إلى بعض من قبل النقلة التي هي مضاعفة أي متناه ومختلفة مثل حركة
الفلك المائل نفسه ، والحركة الشرقية مع الغربية. فقد تبين من هذا القول ما الأسباب
القصوى لاتصال الكون والفساد وأنه واجب أن يكون عنها كون وفساد على الاتصال.
___________________
٣٨ ـ قال :
ولما كنا قد بينا في غير هذا الموضع أنه
إن كانت حركة فواجب أن يكون محرك
، فقد يجب إن كانت حركة دائمة أن يكون هاهنا محرك دائم. لكن قد تبين أن هاهنا حركة
دائمة فواجب أن يكون هنا [لك] متحرك [محرك] دائم. وواجب أيضا إن كانت هذه الحركة
متصلة ان يكون هذا المحرك غير متحرك ، ولا بالجملة متغير ، وذلك ان الحركة المتصلة
هي المستوية التي لا تخل. وذلك واجب ضرورة أن يكون المحرك والمتحرك غير متغير
أصلا. وإن كانت هذه الحركات الدائمة التي بهذه الصفة أكثر من حركة واحدة فواجب ان
يكون المحرك الذي بهذه الصفة اكثر من محرك واحد لكن الحركات التي بهذه الصفة أكثر
من حركة واحدة ، فواجب أن يكون المحرك الذي بهذه الصفة أكثر من محرك واحد لكن لما
كنا نجد هذه المتحركات كلها تتحرك بجهة ما بحركة واحدة ، وهي الحركة اليومية ، فواجب
أن تكون هذه المحركات كلها يشتمل عليها محرك أول.
٣٩ ـ قال :
وإذا كان يظهر من طبيعة الزمان أنه متصل
دائم ، وكان قد تبين أنه عدد الحركة ، فواجب أن يكون هاهنا حركة متصلة ، فالزمان
إذن هو عدد حركة متصلة والمتصلة هي الدائرة. فالزمان هو إذن عدد حركة الدائرة. وهذا
كله قد تبين فيما قد سلف. وإنما نذكر به هاهنا
________________
إذكاراً.
٤٠
ـ قال :
وقد ينبغي أن ننظر في اتصال الحركة هل
ذلك من قبل أن المتحرك نفسه متصل دائم أو من قبل الشيء الذي به يتحرك أو فيه يتحرك
عرض لها الاتصال وأعني بالشيء الذي فيه يتحرك المكان وبالشيء الذي به / يتحرك
الحال وهو بين أن الاتصال إنما يوجد أولا للعظم. ولما كان المتحرك أولا هو ذا عظم
، وجب أن يكون الاتصال إنما هو من قبل المتحرك. فإن الحال إنما توصف بالاتصال من
قبل أنها من متصل. وقد يجوز أن يوصف بالاتصال من قبل المكان فإن المكان أيضا عظم والعظم
المتصل الأول الذي لا يمكن فيه زيادة ولا نقصان إنما هو المستدير وحده. وإذا كان
ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الذي يفعل الحركة الواحدة المتصلة الجسم الذي ينتقل دورا
وأن تكون هذه الحركة هي التي تفعل الزمان.
الفصل الثاني
٤١
ـ قال :
ولما كنا نجد التغير في الأشياء التي
تتغير بالكون أو بالاستحالة أو بأي ضرب كان من ضروب التغير متشافعة أو متتابعة من
غير أن يخل ، بل يحدث شيئا بعد شيء ، فقد ينبغي أن ننظر في الجهة التي منها يصح
الدوام للكائنات. ومبدأ النظر في ذلك أن نفحص هل هاهنا شيء يتكون من الضرورة أم
ليس هاهنا شيء يتكون من الضرورة لكن كل شيء يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون فنقول :
أنه من البين بنفسه أن بعض الأشياء يمكن
فيها أن تتكون وألا تتكون فإنه إنما صار قولنا في الشيء ممكن أن يكون غير قولنا
فيه إنه كائن وموجود من جهة أن الممكن الوجود غير الضروري الوجود وذلك أن ما كان
كونه في المستقبل واجبا فسيصدق عليه القول بأنه موجود في وقت من الأوقات ضرورة مثل
وجود الاعتدال بين الانقلابين. وأما ما ليس يصدق فيه القول بأنه موجود الا في
الزمان الحاضر فليس هو مستحيلا ألا يوجد ، مثال ذلك أنه إن كان المشي ممكنا لزيد
فقد لا يمشي وإذا تبين أن بعض الموجودات ليس يجب كونها ، فهل هي كلها هكذا أم فيها
ما يجب كونه ضرورة فنقول : إنه كما أن في الأشياء الموجودة أشياء لا يمكن أن تعدم وألا
توجد مثل الامور الضرورية الوجود ، وأشياء موجودة يمكن ألا توجد وأن تعدم كذلك
الأمر في الأشياء الكائنة منها ما يمكن ألا
يكون ومنها ما هو واجب أن يكون مثل حلول الشمس في نقطتي الانقلابين ونقطتي
الاعتدالين ، فإنه واجب أن يحدث ولا يمكن له أن لا يحدث وإذا تقرر هذا فعلى أي جهة
ليت شعري يمكن وجود التتابع الضروري والتتالي في المادة الممكنة. فإنه لا يخلو أن
توجد تلك الأشياء من قبل أنها متناهية ذوات أوائل وأواخر أو من قبل أنها غير
متناهية. وغير المتناهية صنفان إما غير متناهية من جهة الدور وإما غير متناهية من
جهة الاستقامة. فأما المتناهية فيظهر أن كون المتقدم فيها واجب ضرورة متى وجد
المتأخر ومثال ذلك أن كون الاساس
________________
واجب إذا وجد البيت وكون
الحجارة والطين متى كان الأساس فلو كانت هذه متى وجد المتقدم فيها لزم وجود المتأخر
أعني لو كان يلزم متى وجد الأساس أن يوجد البيت لقد كان يجب أن يكون التتابع والتشافع
لكون هذه ضرورة متصلة. لكن معلوم أنه لا يجب أن يكون الأساس إلا متى وجد البيت
لأنه قد وضع لزوم وجود الأساس عن البيت. فمتى كان وجود البيت الآخر ضرورة ، غير
أنه معلوم أنه ليس يوجد المتأخر هاهنا ضرورة ، إذ كان قد يمكن أن يوجد والا يوجد ،
وإنما يجب ضرورة أن يوجد من جهة فرضنا ذلك ووضعنا إياه لا من جهة الأمر في نفسه.
فلو كان وجود البيت الذي هو الاخير ضروريا للزم أن يكون موجودا دائما ، وقد يمكن
الا يكون موجودا ، وذلك أن الحال في الوجود هي الحال في التكون بعينه ، واللازم
فيهما واحد. وإذا كان لا يمكن باضطرار اتصال في الكون في الأشياء التي لها أوائل وأواخر
، فمن ذلك يظهر أيضا أنه لا يمكن ذلك في الأشياء التي تمر على الاستقامة إلى غير
نهاية في الطرفين. وذلك أن هذه الأشياء ليس لها أول يجب من قبله أن يكون لها أخير ولا
لها أخير يجب من قبله أن يكون لها أول فاللزوم فيها أعدم فيها من المتناهية وإذا
كان ذلك كذلك فلم يبق إلا أن تكون ضرورة الكون لها على جهة الدور. وذلك واجب من
قبل أن التكوين الدائم هو ضروري والضروري أزلي ، والأزلي يحرك دورا. وذلك أن الكون
الأزلي قد وجب أن يكون له مبدأ ، وإذا كان له مبدأ فلا بد أن يكون وجوده من جهة ما
له مبدأ إما على جهة الاستقامة وإما على جهة الدور. لكن وجوده على جهة الاستقامة
يوجب أحد أمرين إما أن لا يكون أزلي وإما أن لا يكون له مبدأ. وذلك أن المستقيم
إذا كان له مبدأ وأخير ،
كان ضرورة متناهيا
أو غير دائم ، ومتى فرضناه غير متناه من الطرفين لم يكن له مبدأ. وذلك أن الأشياء
التي لا نهاية لها ليس لها أول ولا أخير. ولذلك يجب ضرورة إذا وضعنا أنه أزلي وأنه
ذو مبدأ أن يكون يجري دورا. وأن يكون الأمر في الأشياء المتكونة على طريق الدور
متى وجد الأول وجد الأخير ومتى وجد الأخير وجد الأول لأنه لا فرق بين أن يكون هذا
التلازم بين اثنين أو أكثر من ذلك فالضروري الدائم إنما هو في الحركة دورا والتكوين
دورا. فإن كل شيء من الأشياء التي تجري دورا فالمتقدم منها والمتأخر وما قد كان وما)
يكون واجب ضرورة. وعكس هذا أيضا صادق وهو أن ما كان المتقدم منها والمتأخر ضروري
الوجود فهو يتحرك دورا.
وينبغي أن تعلم أن هذا القول يجري مجرى التتميم لما تبين في أول الثامنة من السماع
في أن الحركة شافعة ومتشافعة / لا تخل في وقت من الأوقات وإن هذا إذا أضيف إلى ما
سلف ظهر منه وجود حركة أزلية ضرورة.
٤٢
ـ قال :
ولما كان قد تبين في غير هذا الموضع وبغير
هذا الوجه أن الحركة الدائرة الأزلية هي حركة السماء ، فمن البين أن هذه الحركات
التي للامور الكائنة الفاسدة على هذه الجهة هي من قبلها وعنها. وذلك أنه إذا كان
المحرك دورا يحرك دائما ، فواجب أن تكون حركة الأشياء المتغيرة يجري دورا. ومثال
ذلك أنه لما كانت الحركة العلوية الأولى موجودة دورا ، كانت الشمس تتحرك دورا ، ولما
كانت هذه
__________________
الأوقات تجري على
هذه صار ما يحدث / عنها يجري أيضا على نحو ما يجري ، أعني دورا. وقد يعرض في هذا
شك ما وهو أنه إذا كان التكون العارض من قبل هذه دورا فما بال بعض الأشياء يوجد
كذلك أعني أنه إذا وجد المتأخر وجد المتقدم وإذا وجد المتقدم وجد المتأخر مثال ذلك
أنه إذا كان غيم فمطر وإذا كان مطر فغيم. ولسنا نجد الناس ولا الحيوانات يتحركون
دورا باعيانهم حتى يعود الشخص منهم بعينه نفسه وليس يلزم عن وجود المتقدم وجود
المتأخر ، فإنه ليس واجبا إن كان أبوك موجودا ان توجد عنه بل إن كنت أنت فواجب أن
يكون أبوك لكن ليس يمر الأمر في هذا الى غير نهاية بالذات والا لم توجد أنت الا
بعد وجود اشخاص لا نهاية لهم وإذا كان هذا هكذا ، فلا المتقدم البعيد يلزم عن وجود
المتأخر إلا بالعرض ولا المتأخر يلزم عن وجود المتقدم أصلا. وإنما يشبه أن يكون
عرض هذا لهذه الأشياء لان التكون فيها جار على استقامة. ومبدأ النظر في هذا الفحص
هل هاهنا شيء يعود دورا على مثال واحد ام بعضها يعود دورا بالشخص وبعضها يعود دورا
بالنوع. فإن الذي تبين أنه واجب في هذه الأشياء أن يعود دورا إنما هو الواحد
بالنوع لا الواحد بالشخص فنقول :
إن كل ما كان من أشخاص الجواهر متحركا
إلا أنه غير ممكن فيه أن يفسد فإنه يعود بالشخص ، وذلك أن الحركة إنما هي موجودة
في المتحرك مثل الشمس والقمر؛ وأما ما كان من أشخاص الجواهر قابلا للفساد فلا يمكن
فيه أن يعود بالشخص وإنما يمكن فيه أن يعود بالنوع ، مثل تكون الهواء عن الماء والماء
عن الهواء لا ان شخص ذلك الماء الفاسد بعينه يعود دورا. ولو قدرنا المادة واحدة والفاعل
واحد فإنه من
المعلومات الأول أن الصانع الواحد بعينه إذا صنع من مادة ما لبنة ثم افسدها وصنع
اخرى انها غير تلك اللبنة الاولى بالشخص ، لانها غيرها بالصورة ، وأنهما اثنين
بالعدد واحد بالنوع. فإنه ليس الأشياء التي هي واحدة بالاسباب هي واحدة بالعدد والشخص.
وهنا انقضى هذا التلخيص والحمد لله على
ذلك كثيرا.
وكان الفراغ منه يوم الخميس عقب شهر
جمادى الأخيرة الذي من سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة.






فهرس الأعلام
ابن دقليس (آل ابن دقليس ، هذا الرجل) :
٩ ـ ١٤ ، ٥٥ ، ٦٩
، ٨٨ ، ٩٤
، ٩٦
، ١٠٦ ـ ١٠٧.
ارسطو (الحكيم ، وهو) : ١٢ ، ٢٦ ، ٣٢ ، ٣٧ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥١ ، ١١١ ، ١١٦ ، ١٢١ ـ ١٢٣.
الإسكندر : ٤٦ ، ٤٩ ، ٥١ ، ٦٢ ، ٩٢ ، ٩٤. أفلاطون : ١٦ ، ١٩ ، ٦٩ ، ٨٦ ، ٩٤ ، ١١٧ ، ١١٨.
أناكساغورش (آل اناكساغورش) : ٩ ، ١٠ ،
١١ ، ٥٥
، ٧٧.
برميندس (آل برميندس) : ٣٠ ، ٦٦.
ديمقراطيس (آل ديمقراطيس) : ٩ ، ١٠ ، ١٧
، ١٨ ، ١٩ ، ٥٥ ، ٦٠
، ٦٥
، ٧٥.
ديوجانيس : ٥٥.
صاحب الشرع : ١٢٣.
القدماء (القوم) : ١٤ ، ١٦ ، ٣١ ، ٤٧ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٩٩ ، ١٠٢.
لوقيس (آل لوقيس) : ٩ ، ١٠ ، ١٧ ، ١٨ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ٦٨ ، ٦٩.
ماليسيس (آل ماليسيس) : ٦٦.
فهرس الكتب
الآثار العلوية : ١١٣.
السماء والعالم : ١٨ ، ٧٠ ، ٩٦ ، ١٠٢ ، ١١٥ ، ١٢١.
السماع الطبيعي : ١٨ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٦ ، ٢٨ ، ٥٧ ، ١٢٩.
طيماوس : ١٨ ، ٨٦ ، ٨٧.
كتاب سوفسطيقا : ٢٢.
كتاب المقولات : ٣٣.
الكون والفساد (هذا الكتاب) : ٤٦ ، ١١٠.
فهرس
المقالة الأولى.................................................................. ١١
الجملة الاولى :
في عرض الكتاب وذكر الأشياء التي يتضمن الفحص عنها......... ١٢
الجملة الثانية
: في تعريف مذاهب القدماء في الكون والفساد والاستحالة........... ١٢
الجملة الثالثة :
في الفحص عن وجود الكون والفساد في الجوهر.................. ١٩
الفصل الأول :
عن الكون المطلق والفساد المطلق والنمو والاستحالة............. ٢٠
الفصل الثاني : حل
شكوك مذهب الاجتماع والافتراق المتعلقة بالكون والفساد.. ٢٢
الفصل الثالث :
هل الكون المطلق موجود وعلى أي جهة وجوده............... ٢٧
المطلب الأول :
عناصر التكون المطلق والفساد المطلق.......................... ٢٩
المطلب الثاني :
شك في وجود الشيء الذي بالقوة الذي يكون منه الكون والفساد ٣٠
المطلب الثالث :
سبب اتصال الكون في الموجودات وحل الشك السابق......... ٣١
المطلب الرابع :
شك حول تكون بعض الجواهر وفسادها على الإطلاق......... ٣٣
المطلب الخامس : الموجودات
التي تتكون على الإطلاق والتي تتكون على جهة ما. ٣٦
الجملة الرابعة :
في الفرق بين الكون والاستحالة................................ ٣٩
الجملة الخامسة : في تعريف حركة النمو وكيف ينمو النامي وبما ذا
ينمو.......... ٤١
الفصل الأول : الفرق
بين النمو وسائر الحركات............................. ٤٢
الفصل الثاني : تشك
في النمو في الأوائل الموجودة بالطبع...................... ٤٣
الفصل الثالث : الوجه
الذي يكون به النمو في الأوائل الموجودة بالطبع.......... ٤٨
الجملة السادسة : تعريف
المماسة والأشياء المتماسة.............................. ٥٨
الفصل الأول :
ضرورة الكلام في المماسة والفعل والانفعال والمخالطة........... ٥٨
الفصل الثاني :
المماسة..................................................... ٦٠
الجملة السابعة :
في طبيعة الانفعال والفعل وطبيعة الأشياء الفاعلة والمنفعلة.......... ٦٣
القسم الأول :
الأشياء الفاعلة والمنفعلة وجنس وجودها.......................... ٦٣
القسم الثاني :
كيف يكون الفعل والانفعال..................................... ٦٨
الفصل الأول :
مذاهب القدماء في الفعل والانفعال........................... ٦٩
الفصل الثاني :
الرد على القائلين بالأجزاء التي لا تتجزأ....................... ٧٤
الفصل الثالث :
سبب وجود الفعل والانفعال للأمور الطبيعية.................. ٧٨
الجملة الثامنة :
في معرفة الاختلاط والأشياء المختلفة............................. ٨٠
المقالة الثانية................................................................... ٨٧
الجملة الأولى : الاسطقسات
الأربعة........................................... ٨٧
الفصل الأول :
تذكير بما سلف في المقالة الأولى والأخبار بما بقي عليه من هذا العلم ٨٨
الفصل الثاني :
البرهنة على أن الأجسام الأربعة هي أسطقسات المركبات....... ٩١
الجملة الثانية :
كون الأسطقسات الأربعة بعضها عن بعض....................... ٩٨
الفصل الأول :
أصناف تكون الأسطقسات الأربعة بعضها عن بعض........... ٩٩
الفصل الثالث :
ليس واحد من الأسطقسات مبدأ لسائرها في الكون.......... ١٠٥
الفصل الرابع :
معاندة القائلين إنها ليس تتغير بعضها إلى بعض................ ١٠٩
الجملة الثالثة
: كون المركبات عن الاسطقسات الأربعة........................ ١١٣
الفصل الأول :
جهة حدوث المركبات عن الاسطقسات..................... ١١٣
الفصل الثاني :
البرهنة على ان جميع المركبات من الاسطقسات الأربعة........ ١١٧
الجملة الرابعة : أنواع
الأسباب العامة للكون والفساد ووجه اتصال الكون....... ١١٨
الفصل الأول :
الأسباب العامة للكون والفساد............................. ١١٩
الفصل الثاني :
جهة الاتصال في الكون.................................... ١٢٩
فهرس الأعلام.......................................................... ١٤٧
فهرس الكتب........................................................... ١٤٨
الفهرس................................................................ ١٤٩
|