بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين لقد نوهنا ـ عدة مرات في عامة منشورات (مكتبتنا العامة) عن الأهداف الباعثة على تأسيسها : من نشر الثقافة العامة في المجتمع ، وتشجيع المؤلفين والكتاب ، وتحقيق وتأليف الكتب الاسلامية ـ على اختلاف بحوثها ـ وتركيز النوعية الفكرية باعطاء الكتاب الاسلامي مكانته اللائقة به من حيث أناقة الاخراج وروعة التبويب ودقة التحقيق والتعليق ، وإيصاله إلى أبعد الحدود من أنحاء العالم المتحضر بالتوزيع والاهداء ، حتى لقد ناهز سجل إهداء (المكتبة) ـ إلى حين التاريخ ـ (العشرة آلاف كتاب) من منشوراتها وغير منشوراتها ـ.

وواصلت (مكتبتنا) سيرها الفكري الاسلامي ـ قدما ـ منذ تاريخ تأسيسها حتى الآن ـ : ففي سنة (١٣٨٣ أي في سنة تأسيسها) كانت باكورة مطبوعاتها : كتاب (تلخيص الشافي ـ في الإمامة) تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ـ قدس سره تقديم وتعليق سماحة العلامة الجليل السيد حسين بحر العلوم ، تم طبعه في أربعة مجلدات.

وفي سنة (١٣٨٥) ظهر المجهود الثاني للمكتبة ، وهو كتاب (رجال السيد بحر العلوم ـ المعروف بالفوائد الرجالية) الموسوعة الضخمة في علم الرجال والحديث والدراية والتراجم ، تأليف سيد الطائفة وصاحب الكرامات الباهرة السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس سره ـ أشرف على إخراجه والتعليق عليه كل من العلمين : الحجة الثبت السيد محمد صادق بحر العلوم ، والعلامة المفضال السيد حسين بحر العلوم ، فتم طبعه ـ بأروع إخراج ـ في أربعة مجلدات ضخام ، مفعما بالشروح والتعليقات القيمة.


وفي مطلع هذا العام المبارك ـ ١٣٨٨ ه‍ ـ : نقدم إلى رواد الفقه. وعلماء القانون والتشريع الاسلامي : الكتاب القيم والمجموع الضخم من الرسائل والبحوث الفقهية التي عالجت مهمات أبواب الفقه التي قل أن يتطرق إليها الفقهاء في موسوعاتهم الفقهية. وهو كتاب (بلغة الفقيه) تصنيف الحجة المحقق والعالم المدقق السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن السيد بحر العلوم ـ تغمدهم الله برضوانه ـ وشرح وتعليق آية الله الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم ـ دام ظله ـ

ولنقف وقفة بسيطة بين يدي الكتاب ، ومصنفه ، وشارحه :

(كتاب بلغة الفقيه) : عرض وتحقيق وغور في مجموعة رسائل فقهية وبحوث علمية دقيقة ، كان يلقيها بشكل أمالي يومية على تلامذته ، فجمعها في حياته ـ بعد أن كف بصره ـ فكانت هذا المجموع القيم والتراث النادر.

ومجموعة الرسائل التي احتواها الكتاب هي : الفرق بين الحق والحكم وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، والقبض وحقيقته ، وقاعدة تلف المبيع قبل قبضه ، والأراضي الخراجية ، وأخذ الأجرة على الواجبات وبيع المعاطاة ، وبيع الفضولي ومسألة الضمان ، ومنجزات المريض ، وحرمان الزوجة من بعض الميراث ، والرضاع ، والولايات ، وقاعدة اليد وفروعها وبعض أحكام الدعاوى ، والقرض ، والوصية ، والمواريث ...

طبع الكتاب ـ أولا ـ في تبريز سنة ١٣٢٥ في حياة مصنفه ، طبعة غير خالية من الأغلاط بالقطع الصغير.

وطبع ـ ثانيا ـ سنة ١٣٢٩ بعد وفاته في طهران ـ بالقطع الحجري المتوسط في مجلد ضخم تقارب صفحاته (٥٠٠ صفحة). ولا تخلوا من الأغلاط أيضا ـ.

وحين رأينا ندرة وجوده وكثرة الطلب عليه ، وضرورة ابراز الكتاب على واقعه الدقيق المصحح ، وبحلة قشيبة من حيث الاخراج والتبويب


والتعليق ـ كما يقتضيه عرف اليوم ـ.

صممنا ـ بعون الله ـ على إعادة طبعه ، فلم نألو جهدا في تصحيحه وعرضه على عامة نسخه المخطوطة والمطبوعة ـ الموجودة تحت أيدينا ـ. وأكثر اعتمادنا في تصحيحه ومقابلته على النسخة المصححة على نسخة المصنف وعليها تعليقات المصنف ـ نفسه ـ أدرجناها تحت الهامش بعلامة هكذا (*)

وتوجد النسخة في مكتبة الحجة الثبت المحقق السيد محمد صادق بحر العلوم ـ دام تأييده ـ وتكملة للفائدة وتوسعة في الأفق العلمي ، عرضنا ملازم الكتاب ـ قبل إرسالها إلى المطبعة ـ على سماحة آية الله الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم ـ دام ظله ـ فكان يقف عند كل رسالة رسالة وقفة المتأمل فيعلق على ما يحتاج إلى التعليق ، ويترك الآخر ، حتى إذا جهز ما يكفي إلى الجزء الأول قدمناه إلى المطبعة ، مستعينين بالله تعالى ـ في إكمال الأجزاء الأخر.

مصنف الكتاب ـ باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم ـ : هو السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس الله أسرارهم ـ وينتهي نسبه الشريف ـ بثلاثين واسطة ـ إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ـ حسبما تستعرضه الشجرة المباركة لأسرة آل بحر العلوم المثبتة بخط زعيم الأسرة وسيد الطائفة السيد بحر العلوم ـ قدس سره ـ

ولد ـ رحمه الله ـ في النجف الأشرف ليلة الأحد ٢٤ محرم الحرام سنة ١٢٦١ ه‍ ، ونشأ على أبيه (التقي) نشأة علم وشرف وكرامة ، وكان أية في الذكاء ، ووقدة في الذهنية.

تلمذ ـ في ريعان شبابه ـ في الفقه والأصول على الحجج الأعلام من


أقطاب عصره ، أمثال : عمه السيد علي ـ صاحب البرهان ـ والفقيه الشيخ راضي ، والسيد حسين الترك ، واختص في الأصول ـ أكثر ـ بالميرزا عبد الرحيم النهاوندي. وفي العلوم العقلية بالحكيم الإلهي الميرزا محمد باقر النجفي.

وتلمذ عليه جم غفير من جهابذة العلم وعيون الأدب ، لا يسع المجال لاستعراضهم.

وما إن ناهز الثلاثين من عمره ، حتى أصبح من أقطاب العلم والفضيلة ومن أساتذة المنبر العلمي المشار إليهم بالبنان. وتولى ـ بعد وفاة عمه السيد علي صاحب البرهان ـ أي سنة ١٢٩٨ ـ زعامة الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، وأنيط به أمر التدريس والبحث العلمي وشؤون المرجعية والتقليد إلى أن نقله الله إلى حظيرة قدسه.

كان مثابرا على التدريس والبحث والكتابة والمطالعة ، ليل نهار ، وكثيرا ما كان يقطع الليل كله في المطالعة والكتابة حتى كف بصره ـ في أخريات أيامه ـ

وكان مطلعا على عامة العلوم العقلية والنقلية ، قال عنه سيدنا الأمين في (أعيان الشيعة) : (.. سمعته ـ مرة ـ يقول : نظرت في أكثر العلوم حتى الطب ، ثم تركت النظر فيه ، لأنه ، ليس لي فرصة للتعمق فيه).

وكان ـ بالإضافة إلى مقامه العلمي ـ مثال الورع ، أريحى الطبع مرن السلوك ، بهي المنظر ، ترف اللباس ، دمث الأخلاق ، يملأ المجلس بالهيبة والوقار.

وكانت عنده مكتبة ضخمة من أعظم مكتبات العراق من حيث احتوائها على صنوف الكتب ، وأنواع المخطوطات. ولقد أعجب بها وكتب عنها جرجي زيدان في (آداب اللغة العربية) ، وقال عنها السيد الأمين


في (أعيانه) : (ولم يكن في العراق أجمع منها لكتب الفقه والأصول والحديث). ومن المؤسف أنها تبعثرت ـ بعد وفاته ـ بالبيع والاهمال.

كتب وألف وصنف ـ كثيرا ـ إلا أن عامة كتاباته كانت مسودات تلفت ـ بعد وفاته ـ ولم يحتفظ لنا الزمن إلا بهذه المجموعة القيمة من الفقه الاسلامي التي أسماها ب‍ (بلغة الفقيه) حيث كانت عنايته بها أكثر حتى طبعت في حياته.

توفي ـ رحمه الله ـ ليلة الخميس ٢٢ شهر رجب سنة ١٣٢٦ بموت الفجأة ، فكان لفقده المصاب الجلل والوقع الممض في عامة أنحاء العراق وإيران ، وعطلت لوفاته الدروس العلمية ـ عدة أيام ـ وأقيمت على روحه الطاهر عشرات الفواتح ، ورثاه جم غفير من شعراء عصره : أمثال الشيخ يعقوب النجفي ، والشيخ محمد حسن سميسم والشيخ عبد الحسين الحويزي والشيخ حسن الحلي ، والسيد رضا الهندي ، وغيرهم كثير.

واستقر في مثواه الأخير في (مقبرة آل بحر العلوم) في النجف الأشرف تغمده الله برضوانه.

خلف ـ من الذكور ـ خمسة ، وهم : السيد مهدي ، والسيد مير علي ، والسيد جعفر ـ والد الحجة السيد موسى آل بحر العلوم ـ والسيد عباس ، والسيد حسن.

وأما صاحب التعليق : ـ باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم ـ : فهو السيد محمد تقي ابن السيد حسن ابن السيد إبراهيم ابن السيد حسين ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس الله أسرارهم ـ ويتصل نسبه الوضاح باثنين وثلاثين واسطة ـ بالإمام الزكي الحسن بن علي (عليه السلام).

ولد ـ دام ظله ـ في النجف الأشرف ، سنة ١٣١٨ ه‍ ونشأ في بيت والده نشأة علم وشرف.


درس علوم العربية والبلاغة والتفسير وقسما من الرياضيات وسطوح الفقه والأصول على العلماء المتخصصين لتلك العلوم ـ يومئذ ـ.

وما إن بلغ عمره (الثلاثين عاما) حتى امتطى صهوة (البحث الخارج) فحضر الأصول والفقه على أستاذ العلماء المحقق النائيني ـ قدس سره ـ أكثر من عشر سنين ، وحضر الأصول أيضا على المحققين الآيتين : الشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني.

ولازم ـ أخيرا في الفقه ـ أستاذيه الجليلين الآيتين الورعين : الشيخ محمد رضا آل يسين ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ـ تغمدهما الله برضوانه ـ

وحضر عليه ـ ولا يزال ـ جم غفير من رواد العلم وأرباب الفضل من العرب والفرس بحيث لا يسع المجال لاستعراضهم ، فقل أن تجد من فضلاء العصر ـ اليوم ـ إلا وقد حضر عليه قسما من دروسه الفقهية أو الأصولية

ولقد أصبح ـ اليوم من مراجع الشيعة وفقهاء الأمة ، يعترف بمكانته العلمية الخاص والعام. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به (سيدنا التقي) من خلق وورع نادرين. ويقيم إمامة الجماعة ـ صباحا ومغربا ـ في جامع الشيخ الطوسي ـ قدس سره ـ وظهرا في جامع الشيخ الأنصاري ـ رحمه الله ـ

كتب وألف في الفقه والأصول وغيرهما من العلوم الدينية كثيرا ، من ذلك : تقريرات أساتذته العظام في الفقه والأصول ، وتعليقة على مكاسب الشيخ الأنصاري ، وتعليقة على رسالة المغفور له آية الله أستاذه الشيرازي ، وكتاب واقعة الطف ، ورسالة عملية.

وأخيرا طلبنا من سماحته أن يقوم بدور الملاحظة والتعليق على هذا السفر القيم (بلغة الفقيه) فكان هذا المجهود الثمين نقدمه إلى المطبعة مستعينين بالله تعالى على اكماله والله ولي التوفيق.

إدارة مكتبة العلمين العامة

في النجف الأشرف


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله جاعل العلم حياة القلوب من الردى ، ونور الأبصار من العمى ، ورافع قدر العلماء بتفضيل مدادهم على دماء الشهداء (١).

والشكر له على انتظامنا في عدادهم ، أو مكثري سوادهم. وأفضل صلواته وأكمل تحياته على أهل علمه المخزون ، وسره المكنون ، حملة علم الكتاب : محمد وآله الأطهار الأطياب.

وبعد فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الطباطبائي : إني ـ وان كنت أول الأمر عند استقبال العمر لم أقصر في طلب العلوم حسب إمكاني ، ولم يضع في غيره إلا القليل من زماني ، فكم سهرت لتحصيلها طوال الليالي ، واستخرجت بغوص الفكر في بحارها غوالي اللئالي ، أجيل في مضاميرها سوابق أفكاري ، وأصيب غوامضها بصوائب سهام انظاري ـ لكني لم أحفظ بالتحرير ما استحصلته من

__________________

(١) هذا مضمون أحاديث نبوية كثيرة متقاربة اللفظ ، منها ما «عن الإمام الصادق عليه السّلام عن آبائه عن علي ـ عليه السلام ـ قال قال رسول الله (ص) إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء».

راجع ـ عن فضل العلم والعلماء ـ كتاب العلم من (بحار الأنوار ج ١ ـ ٢) من الطبعة الجديدة. فقد جمع فأوعى كل الآيات والأحاديث الواردة في ذلك الموضوع :

وذكر العجلوني في (كشف الخفاء ج ٢ برقم ٢٢٧٦) الحديث بلفظ «مداد العلماء أفضل من دم الشهداء» واستعرض ألفاظ الحديث المختلفة ، فراجع.


الضياع ، إذ كل علم ليس في القرطاس ضاع.

حتى إذا تألب (١) عليّ صروف الزمان ، واختلف باختلاف أغراضي الجديدان (٢) وولى من العمر أفضله ، وأدبر مستقبلة ، وذهب بصري ، فخفت أن يذهب ـ كذهاب عيني ـ أثري.

فهممت بتحرير بعض المسائل المهمة ـ لو ينفع بالشيخ الهمّ بذل الهمة ـ أخذا بقولهم ـ سلام الله عليهم ـ : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» (٣) والميسور لا يسقط بالمعسور (٤).

قصرت أملي على من حضرني ـ على اختلاف معرفتهم واختلاف شئونهم في تشتيت البال وكثرة المعوقات من الاشتغال.

فحيثما عثرت على تعقيد في التعبير ، أو سماجة (٥) في التحرير فقد عرفت أمره وأسلفنا لك عذره.

وقد سميتها (بلغة الفقيه لما يرتجيه) رجاء أن يبلغنا الله تعالى بها مبالغ رضاه ، ويجعلها من أحسن الوسائل يوم نلقاه.

فنقول :

__________________

(١) تآلب : تجمّع وتحشّد.

(٢) الجديدان والأجدان : الليل والنهار ، لأنهما لا يبليان أبدا ، وهما لا يفردان فلا يقال : للواحد منهما : الجديد أو الأجد.

(٣) حديث نبوي شريف ، ذكره العجلوني في (كشف الخفاء ج ٢ رقم ٢٢٥٨).

وذكر ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه (غوالي اللئالي) : أنه علوي.

(٤) حديث علوي ـ كما ذكره في كتاب (غوالي اللئالي) ـ راجع الحديثين أيضا في (حاشية الاشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري ص ١٨٩) طبع إيران.

(٥) سمج ـ بالضم ـ سماجة وسموجة : قبح.


رسالة

في الفرق بين الحقّ والحكم



مسألة

لما خفي الفرق على كثير بين الحق والحكم ، والتبس الأمر بينهما ، مع ابتناء كثير من الفروع الفقهية عليهما ، والفرق في الحقوق بين ما يقبل النقل والاسقاط ، وبين ما لا يقبلهما أو يقبل أحدهما دون الآخر.

أحببت أن أشير إلى الفرق بينهما بحسب المفهوم والحقيقة ، وتحصيل ما هو الميزان الفارق بينهما والثمرات المترتبة عليهما ، وميزان الفرق في الحقوق بين ما يسقط بالإسقاط وما لا يسقط به ، وما تصح المعاملة عليه ـ مجانا ـ أو بعوض ، وما لا تصح بهما أو بأحدهما ، ومعرفة مصاديق الحكم أو الحق مما وقع الخلاف فيه ، ومصاديق الحقوق القابلة للإسقاط والنقل وغير القابلة لهما أو لأحدهما ، وحكم صورة الشك في كل من الأمرين بحسب ما تقتضيه الأصول والقواعد. فنقول ـ وبالله المستعان ـ :

اما الحكم : فهو جعل بالتكليف أو بالوضع ، متعلق بفعل الإنسان من حيث المنع عنه والرخصة فيه ، أو ترتب الأثر عليه. فجعل الرخصة ـ مثلا ـ حكم ، والشخص مورده ومحله ، وفعله موضوعه. وهو لا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل ـ بالبديهة ـ لأن أمر الحكم بيد الحاكم لا بيد المحكوم عليه. نعم ، لو كان معلقا على موضوع ، وكان داخلا فيه ، كان له الخروج عنه ، فيسقط به ـ حينئذ ـ لا بالإسقاط.

وأما الحق فهو يطلق ـ مرة ـ في مقابل الملك ، وأخرى ـ ما يرادفه.

وهو ـ بمعنييه ـ : سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره ولو بالاعتبار : من مال أو شخص أو هما معا ، كالعين المستأجرة ، فإن للمستأجر سلطنة على المؤجر في ماله الخاص.


وهو أضعف من مرتبة الملك ، أو أول مرتبة من مراتبه المختلفة في الشدة والضعف.

وله طرفان : أحدهما ـ طرف النسبة والإضافة ، ويعبر عن المنسوب اليه بصاحب السلطنة ، وذي السلطان ، والآخر ـ طرف التعلق ، ويعبر عن متعلقة بالمسلط عليه.

وهو : قد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير ، وقد لا يكون مستقلا بنفسه ، بل متقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني ، وحق القصاص ، فهو كالملك الذي قد يكون متعلقة مستقلا ، وقد لا يكون كالكلي في الذمة وقد يتحدان في المورد ، وإنما يختلفان بالاعتبار كسلطنة الإنسان على نفسه ولذا قيل : «الإنسان أملك بنفسه من غيره». ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن كليمه ـ (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي) (١) فما به التعلق عين ما إليه الإضافة ، وانما يختلف بالاعتبار.

ومن فروع هذه السلطنة : تملكه للمباح الأصلي والعرضي بالحيازة ، الذي مرجعه الى حصول الربط بها بين الحائز والمحوز ، وإرجاع أمر المال الى نفسه ، وجعل نفسه في وثاق المال وبعهدته ، بحيث لو كان مما يجب عليه الإنفاق وكسوته وحفظه لاحترامه ، كان أولى به ، فتعلق المال بالمالك معنى له طرفان : الغنم ، والغرم ، وأولويته به ليس في خصوص النفع وكل ذلك من فعل نفسه بنفسه ، وليس إلا لسلطنته عليها ، ومنه يظهر للوجه في توقف نفوذ التمليكات المجانية كالهبة والوصية على قبول المتهب والموصى له ، لأن المالك لا سلطنة له على غيره حتى يدخل المال في ملكه قهرا عليه ، وإلّا لكان من الإيقاعات لا من العقود. نعم ، له التمليك

__________________

(١) وتمام الآية (قالَ : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) سورة المائدة : آية ٢٥.


لأنه من آثار سلطنته على ماله.

وأما التملك ، فمن آثار سلطنة المتملك على نفسه. فالسلطنة المجعولة حق ، وصاحبها مالك ، وذو سلطان ، وان كان جعلها له حكما.

وكذا الآثار العارضة لها والمتعلقة بنفسها بحيث تكون نسبتها إليها نسبة العارض الى المعروض ، فيكون الحق موضوعا لذلك الحكم ، دون ما كان منتزعا منها ، بحيث تعد من شعبها وتطوراتها ، فإنها من الحقوق أيضا.

وهنا كثيرا ما يقع الاشتباه بين القسمين من الآثار في المصداق وأنه من العوارض على السلطنة أو من شعبها.

ثم الإسقاط الذي مرجعه الى العفو : عبارة عن قطع طرف التعلق عن متعلقة ، ومورده الإنسان ، ويشبهه في الأعيان الأعراض ، بناء على خروج المعرض عنه عن الملك وعوده إلى الإباحة الأصلية ، وإلّا ـ كما هو المقرر في محله من عدم الخروج به عنه كما هو المشهور ـ انحصر مورده بالحقوق المتعلقة بالإنسان ، ولو في ماله ، بناء على ما هو الحق : من أن أولوية السبق في المساجد والمدارس والخانات والرباطات والقناطر والطرق النافذة ، ونحو ذلك من الأحكام التي تنتفي بانتفاء موضوعها بالإعراض عن المحل ، وهو التزاحم الذي هو موضوع المنع والحرمة ، لا من الحقوق التي تسقط بالاعراض.

ولعلك تقف على توضيح ذلك في بيان المصاديق المشتبهة بينهما.

والنقل : هو تحويل طرف الإضافة منه الى غيره : بعوض ، أو مجانا فكل من النقل والاسقاط من عوارض السلطنة وأحكامها.

ثم الحق قد يضاف اليه تعالى ، فيكون متعلقة ما سواه من الممكن ، وسلطنته عليه من أتم مراتب السلطنة وأكملها ، لأنه سلطنة عليه بالإيجاد والربوبية ، ضرورة افتقار الممكن في تحققه الى الواجب ، لعدم الاستقلالية


له في الوجود.

ومن فروع هذه السلطنة وحقه على الممكن أن يعبد ويوحّد.

ومن رشحاتها : ولاية النبي (ص) على المؤمنين (١) وهي ـ وان لم تكن من سنخ سلطنة الله تعالى ـ إلا أنها سلطنة عنه تعالى بالاستخلاف. وولاية خلفائه الطاهرين ، ونوابهم المجتهدين.

فهي في طول سلطنة الله على خلقه. ولذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ خليفته في أرضه والأئمة خلفاءه في أمته ، والعلماء نوابهم في شيعتهم.

وهي أقوى وأشد وأولى وأكمل من سلطنة الإنسان على نفسه مع كونها في غاية الشدة والكمال ، لأن منشأ انتزاعها هو كون الشي‌ء نفسه.

والى السلطنتين واكملية الأولى من الثانية أشار (ص) في قوله بغدير خم : «ألست (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)» ثم جعلها بعد الاعتراف منهم توطئة لبيان ولاية علي عليه السلام ، فقال : ـ بعده ـ : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (٢) فولايته على الأمة التي هي بمعنى الأولوية بالتصرف : مشتقة من أولوية النبي (ص) المشتقة من سلطنته تعالى على خلقه.

ثم إن الحق ـ بما هو حق ـ يختلف بحسب اختلافه في سقوطه بالإسقاط ، وعدمه ، ونقله الى غيره مجانا أو بعوض ، وعدمه ، وانتقاله قهرا بالإرث ، وعدمه ـ إلى أنحاء شتى :

__________________

(١) قال الله تعالى في كتابه المجيد ـ سورة الأحزاب ـ ٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

(٢) راجع ـ في هذا الموضوع سندا ودلالة ـ : الجزء الأول من كتاب الغدير للحجة الأميني حفظه الله.


منها ـ ما لا يجوز عليه شي‌ء من ذلك ، فلا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل ، ولا ينتقل بالإرث ونحوه : كحق الأبوة ، وولاية الحاكم وحق الاستمتاع بالزوجة للزوج ، وحق الجار على جاره ، والمؤمن على أخيه. ئفإنها حقوق لأربابها لا تسقط ، ولا تنتقل الى غيرهم بوجه من الوجوه.

ومنها ـ ما يجوز فيه كل ذلك ، كحق الخيار ، وحق القصاص ، وحق الرهانة ، وحق التحجير ، وحق الشرط المطلق.

ومنها ـ ما يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل ولا ينتقل ، كحق الغيبة ، والإيذاء بضرب أو شتم أو إهانة أو نحو ذلك ـ بناء على كونه حقا ـ ولذا يجب الاستحلال منه ، ولا يكتفى بالتوبة في التخلص عنه (١).

ومنها ـ ما يسقط بالإسقاط ، وينتقل بالإرث ـ على قول ـ ولا ينقل بالنواقل كحق الشفعة للشريك المسبب عن بيع شريكه.

ومنها ـ ما ينقل ـ مجانا لا بعوض ـ كحق القسم بين الزوجات بناء على عدم مقابلته بالأعواض.

ومنها ـ المصاديق المشتبهة بين كونها حكما أو حقا.

وان وقع الخلاف في ذلك في بعض ما تقدم ـ أيضا ـ كحق الرجوع في المطلقة الرجعية وحق السبق في المسجد ، والأوقاف العامة ، والطرق النافذة.

ومنشأ هذا الاختلاف : هو ان الموجب للحق : إما أن يكون علة تامة ، فيستحيل انفكاكه عنه بسقوط أو انتقال ، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة ، كولاية الآباء والأقارب ، والحاكم ، ومنصوبة. والعزال

__________________

(١) وربما قيل : إنها محض الحكم بالإثم ، ويكفي بالتخلص عنه بمحض التوبة شأن كل إثم بين العبد وربه.


المنصوب بالعزل إخراج له عن الموضوع ، لا إسقاط للحق مع بقاء منشأ انتزاعه.

وإما أن يكون من قبيل المقتضي فيمكن فيه التخلف بحسب ما يوجبه من السقوط أو النقل أو الانتقال ، إلا إذا كان المنع عنه من جهة قصور في كيفيته بحسب الجعل ، كأن يكون الحق متقوما بشخص خاص أو عنوان خاص ، كحق التولية في الوقف إلى المتولي الخاص أو الحاكم ، فلا يجوز العدول الى غير المجعول له بجعل الواقف من الشخص أو أفراد عنوان آخر وكذا حق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص من حيث هو هو ، أو كان مختصا له بالشرط ، كحق الخيار المجعول لصاحبه بشرط مباشرته للفسخ بنفسه. فإن أمثال هذه الحقوق إنما هي متقومة بذوات مخصوصة أو عناوين خاصة ، فلا تنتقل الى غيرها لعدم التقوم إلا بها ، وان جاز إسقاطها لعدم كون الموجب لها من العلة التامة.

فتلخص مما ذكرنا : أن الحق : إن كان موجبه علة تامة له ، امتنع انفكاكه عنه مطلقا من غير فرق بين السقوط بالإسقاط ، والنقل بالنواقل والانتقال القهري بالإرث.

وان كان من قبيل المقتضى له ، وكان مختصا ومتقوما بشخص خاص ، فهو ، وان جاز سقوطه بالإسقاط لكونه مالكا ، وليس الموجب علة تامة حتى يلزم التخلف المستحيل ، إلا أنه لا يجوز نقله لمنافاته الاختصاص المجعول بالأصل أو بالعارض بشرط ونحوه.

وان لم يكن كذلك بأن لم يكن الموجب علة تامة ، ولا الحق مختصا ومتقوما بشخص خاص ، جاز إسقاطه ونقله وانتقاله ، لوجود المقتضي ، وهو كونه مالكا للحق ، وعدم المانع من علية الموجب له أو الاختصاص بما يوجب الخصوصية ، كحق الخيار المطلق الذي يجوز إسقاطه ونقله وانتقاله.


هذا ، واستفادة ما يتميز به الحكم من الحق وكيفية الحق من بين سائر الحقوق من الموازين المتقدمة ، إنما هي من الأدلة بحسب ما يستفيده الفقيه منها ، لا ما قيل في إثبات ذلك بالرجوع الى ثبوت الآثار وعدمه من النقل والسقوط ، لأن ذلك ـ مع كونه مستلزما للدور ـ غير مطرد ، ضرورة أن الحكم مما لا يسقط ولا ينقل ، لا كل ما لا يسقط ولا ينقل كان حكما ، فان الحقوق بعضها كالأحكام لا يسقط بالإسقاط ولا ينقل بالنواقل ـ كما عرفت.

نعم ، لو دل الدليل على السقوط أو الانتقال أفاد كونه حقا ، لأن الأحكام بأسرها لا تقبل شيئا من ذلك. وحيثما شك في شي‌ء من ذلك كان المرجع فيه الى ما تقتضيه الأصول والقواعد. فلو شك في شي‌ء بين كونه حكما أو حقا نفي كل أثر وجودي مترتب على كل منهما بالأصل ، فلا يبنى على السقوط بالإسقاط ، ولا على الانتقال بالنواقل ، لابتناء ذلك على إحراز كونه حقا ، ويكفى الشك فيه ، فضلا عن كون مقتضى الأصل عدمه ، وإن لم يثبت بذلك كونه حكما ، لأنه من الأصل المثبت. وكذا لو شك في قابلية إسقاط الحق ونقله بعد إحراز كونه حقا ، للشك في علية الموجب وعدمها ، أو في اعتبار ما يوجب الاختصاص وعدمه ، وان أحرز كون الموجب مقتضيا ، فإنه لا يترتب عليه شي‌ء مما يتوقف ترتبه على إحراز القابلية ـ أولا ـ نعم ، يجوز التمسك بالعمومات بعد إحراز الصدق العرفي والقابلية العرفية عند الشك في القابلية الشرعية المنبعث عن الشك في تخطئة الشارع لما هو عند العرف ، أو تصرّف منه فيه باعتبار شي‌ء فيه ، أو مانعية شي‌ء عنه. فيدفع بالعمومات المتوجهة نحوهم الدالة على إمضاء ما هو المتعارف عندهم. إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لمعلومية اختلاف الحقوق شرعا في جواز الاسقاط وعدمه ، وجواز النقل وعدمه. وانما الشك في اندراج المشكوك في أي قسم منهما مصداقا ، وبالعموم لا يتميز المصداق ـ قطعا.


إذا عرفت ذلك ، فلنذكر المصاديق المشتبهة بين كونها حقا أو حكما والحق من بين سائر الحقوق :

فمنها ـ جواز الرجوع في المطلقة الرجعية.

فقد ذهب المحقق القمي ـ قدس سره ـ وتبعه بعض من تأخر عنه ـ إلى كونه حقا يجوز الصلح عليه ، مستدلا بعمومات أدلة الصلح التي منها : «الصلح جائز بين المسلمين» (١) أي : نافذ ، من : جاز السهم : إذا نفذ :

وأنت خبير بما فيه ، لأن الشك فيه : إن كان للشك في كونه حكما أو حقا ، فهو من الشبهات المصداقية التي لا يجوز فيها التمسك بالعمومات ـ قطعا ـ وإن كان للشك في كونه من الحقوق التي تنقل بالصلح أو لا تنقل بعد البناء على كونه حقا ـ فمرجع الشك فيه إلى الشك في القابلية التي لا يتمسك لإثباتها بالعمومات ـ أيضا ـ اللهم إلا أن يجاب عن تمسكه بها ـ بعد البناء منه على كونه حقا كما هو صريح عبارته في كتاب (أجوبة

__________________

(١) وهو حديث نبوي ـ من طريق الخاصة. وتتمة الحديث «إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» راجع : شرح اللمعة للشهيد الثاني ووسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الصلح. وفي الوسائل : عن أبي عبد الله (ع) : «الصلح جائز بين الناس»

والمراد بالمحقق القمي هو الميرزا أبو القاسم القمي. قال في كتابه المشار إليه في المتن بأجوبة المسائل ، المسمى بـ (جامع الشتات) كتاب الطلاق ، باب جواز الصلح على الطلاق : ص ٥٣٥ طبع حجري إيران : «واما اندراجه في الصلح فبأن يجعله عوضا للصلح ، فتقول المرأة : صالحتك هذه الفدية بأن تطلقني ، وطلقها في عوضه ، ويشمله عمومات أدلة الصلح ، وأنه جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا».


المسائل) (١) بإرادة جواز وقوع الصلح عليه ، بمعنى سقوط حق الرجوع الثابت للزوج بالصلح عليه ، لا نقله به منه الى غيره ، حتى يقال فيه : من المحتمل أنه من الحقوق المتقومة بالزوج ومختص به ، فلا ينتقل الى غيره ، بل هو من الصلح الواقع في مورد الاسقاط والإبراء ، مع منع كون الموجب له علة تامة ، حتى يمنع عن ذلك أيضا ، فيكون الشك في نفوذ الصلح المتضمن للسقوط وعدمه من الشك في التخصيص الذي يرجع فيه الى العموم ، دون الشك في التخصص.

نعم ، تبقى المناقشة معه في كونه حقا ، بل الظاهر أنه من الأحكام لا من الحقوق.

توضيح ذلك : أن المطلقة إن كانت زوجة ـ بعد ـ كما يعطيه صدق «وَبُعُولَتُهُنَّ» الظاهر في الاتصاف الفعلي ، وترتب أحكام الزوجية الظاهر في كونها زوجة حقيقة ، فمرجعه الى ضعف سبب الفرقة وهو الطلاق وأنه لم يؤثر قطع علقة الزوجية بالكلية ، فالقدرة على الرجوع من آثار بقاء علقة الزوجية التي مرجعها إلى إبقاء تلك العلقة وإرجاعها كما كانت ، وكما أن قطع العلقة بمعنى فكها عن الزوجية بيده ، كالعتق في فك الملك بيد المالك فكذلك إبقاؤها على الزوجية. فكل من الإمساك والتسريح بيد الزوج ومن أحكام سلطنته على الزوجة ، لأنّها من عوارضها المتعلقة بها ، فيكون الرجوع في العدة للزوج من قبيل جواز الرجوع في العقود الجائزة الذي هو من الأحكام ، لكونه من آثار علقة الملكية السابقة ، بناء على ضعف سببية العقد الجائز في قطع علاقة الملكية.

وان قلنا بخروجها عن الزوجية بالطلاق ، وان ترتب عليها حكم

__________________

(١) راجع : جامع الشتات للمحقق القمي المعروف بـ (أجوبة المسائل) كما في المتن : كتاب الطلاق باب جواز الصلح على الطلاق.


الزوجة ـ تعبدا ـ كما يشعر به قوله تعالى : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) (١) لظهور الرد في الرجوع بعد الخروج. غير أنه تحدث للزوج سلطنة جديدة على إرجاعها وإبطال سببية الطلاق للفرقة. كما تحدث لذي الخيار سلطنة على فسخ العقد اللازم ، وأن زمان العدة ـ نظير ثلاثة أيام الخيار الحيوان ـ كان حقا ، لا حكما ، كحق الخيار في العقود اللازمة. وحيث أن المستفاد من الأخبار ، وكلمات علمائنا الأخيار : أنها زوجة ـ حقيقة ـ لا حكما تعبديا ، وان علقة الزوجية باقية ، لا جرم اتجه كونه حكما ، لاحقا ، فلا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل.

هذا ، وقد حكى المحقق المتقدم عن بعض معاصريه : أن اثر الصلح مع الزوج على حق الرجوع ليس إلا الحرمة التكليفية ، وإلا فلو رجع بعده نفذ رجوعه في إبطال الطلاق. وتعجب من ذلك غاية العجب.

قلت : وتعجبه في محله ان أراد تأثير الرجوع بعد سقوط حقه بالصلح عليه ، إذ لا حق بالفرض حتى يرجع به. ولكن من المحتمل ـ قويا ـ أن يريد بوقوع الصلح كون المصالح عليه ترك الرجوع ونفس عدم الفعل الذي مرجعه الى مجرد الالتزام بعدم استيفاء حقه ، لا سقوط الحقية من أصله.

وعليه ، فله وجه وجيه يتمسك على صحته بعموم أدلة الصلح بناء على الأقوى من كونه عقدا مستقلا إن كان المصالح عليه نفس الترك ومجرد عدم الرجوع ، لا نفس جوازه الذي هو حكم الحق وأثر من آثاره ، لما عرفت من أن الحكم لا يسقط ولا ينقل لأن أمره بيد الحاكم ، بل ويجوز

__________________

(١) تمام الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) : البقرة ـ ٢٢٨.


الصلح على هذه الكيفية ، حتى لو قلنا بأن حق الرجوع في العدة من الأحكام لا من الحقوق ، لأن المصالح عليه بالفرض نفس الترك وعدم الرجوع ، لا الحكم بجوازه.

فلا فرق في جواز الصلح على هذا التقرير بين كونه مصداقا للحق أو للحكم ، غير أنه على التقديرين ينفذ رجوعه لو رجع بها ، وإن أثم به ، إلا أن الغالب وقوع الصلح في أمثال المقام لئلا يتمكن من الرجوع بحيث لا ينفذ رجوعه لو رجع ، وهو لا يتم إلا بالصلح على الحق ، لا مجرد عدم الرجوع مع بقاء الحق ، فافهم.

ومنها ـ الخيارات ، فإنها من الحقوق ـ قطعا ـ لكونها سلطنة مجعولة بأحد أسبابها للمتعاقدين أو الأجنبي على إبطال العقد اللازم وحله ، وموردها العقود اللازمة ، وإلا فالعقد الجائز لا خيار فيه ما دام جائزا ، إلا إذا عرض عليه اللزوم بسبب ، فيؤثر ـ حينئذ ـ سبب الخيار فيه خيارا.

وكيف كان ، فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله ، فضلا عن سقوطه لعمومات أدلة المعاوضة ، مضافا الى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) بعد إحراز القابلية بما دل على سقوطه بالإسقاط وانتقاله بالإرث الكاشفين عن عدم كون الموجب له علة تامة ، وعدم كون الحق متقوما بذاته من حيث هو ذاته ، وإلا لم يكن لينتقل عنه بالإرث.

ومنها ـ الأولوية بالسبق في المساجد والمدارس والقناطر والرباطات والطرق النافذة ، ونحو ذلك من الحقوق الراجعة إلى عموم الناس أو المتلبس بعنوان منهم.

فالذي يظهر من كثير منهم أنه من الحقوق ، ولعله نظرا إلى إطلاق الحق عليه في حديث : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد كان

__________________

(١) تمام الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة ـ ١


أحق به» وفي آخر : «كان له» بدل قوله «أحق به» (١) بناء على ظهور اللام فيه.

ويحتمل ـ قويا ، بل لعله الأقوى ـ كونها من الأحكام ، بمعنى تحريم مزاحمة السابق فيما سبق اليه مما له فيه حق بجعل الواقف الذي هو وغيره فيه شرع ـ سواء بذلك الجعل ، ضرورة أن الواقف لم يجعله وقفا على السابق منهم حتى يختص به هو دون غيره ، ولا أحدث السابق حقا جديدا له وراء ما جعل له الواقف حتى يكون له حقان : استحق أحدهما بالوقف كغيره ، والآخر استحقه بالسبق دون غيره ، فيسقط هو بالإعراض عنه دون المجعول بالوقف ، بل السبق سبب لحرمة مزاحمته فيه ومدافعته عنه مطلقا. ولو كان المزاحم من مصاديق عنوان الموقوف عليه ، فتقديم السابق في تزاحم الحقوق كتقديم الأهم في تزاحم الواجبات في كونه من الأحكام. فبالاعراض عن المحل يرتفع التزاحم الذي هو موضوع الحكم بالتحريم ، بل لعله يشعر به التعبير بالأحق في الحديث ، والزيادة لاختصاص الاستيفاء ، واللام لمطلق الاختصاص.

وان أبيت إلا عن كونه حقا ، كما لعله المشهور أو الأشهر بتقريب أن السبق يوجب تعيين العنوان الكلي في المصداق الخاص ما دام سابقا وشاغلا للمحل أو غير معرض عنه كتعيين مصداق المالك بالقبض في الخمس والزكاة من السادة والفقراء ، فليس ـ هناك ـ للسابق إلا الحق المجعول بالوقف للعنوان أو الجهة المتعين له بالسبق ، فيكون ـ حينئذ ـ من الحقوق ، لا من الأحكام ، فتظهر الثمرة.

مع انه على القولين ـ يسقط بالاعراض ، ولا ينقل ولا يورث فيما

__________________

(١) في (الجامع الصغير للسيوطي) و (كنوز الحقائق للمناوي ـ بمادة من ـ الحديث هكذا «من سبق الى ما لم يسبقه اليه مسلم فهو له».


لو زوحم ودفع عن المحل كان المزاحم غاصبا ، وصحة الصلاة فيه مبنية على مسألة اجتماع الأمر والنهي (١) بناء على كونه حقا ، وأما على كونه حكما ، فيصح تصرفه فيه ، لأنه من التصرف في حقه بجعل الواقف ، وان فعل محرما بدفع السابق عنه ، بل لعله ينعكس الأمر بعده ، فيحرم على المدفوع مزاحمة الدافع. ولو تنزلنا وقلنا ببقاء الحرمة ما لم يعرض المدفوع عنه ، فصحة الصلاة فيه ـ حينئذ ـ مبنية على مسألة الضد (٢) لا مسألة اجتماع الأمر والنهي. فافهم.

ومنها ـ جواز الصلح على حق الدعوى ونفوذه قال في (القواعد): «لو صالح الأجنبي المدعي لنفسه ليكون المطالبة له ، صح ـ دينا كانت الدعوى أو عينا» (٣).

__________________

(١) في شخص واحد ومصداق معين ، لكن مع تعدد الجهة والحيثية كالمثال في المتن ، فان شخص الصلاة مأمور بها من حيث كونها صلاة وعبادة ، ومنهي عنها من حيث كونها تعديا وغصبا والمسألة خلافية ، وان كان المشهور امتناع ذلك ، يقول الشيخ حسن صاحب المعالم في (معالمه) : «الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى شي‌ء واحد ، ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا ووافقنا عليه كثير ممن خالفنا.» راجع في تفصيل ذلك عامة كتب الأصول : باب مباحث الألفاظ.

(٢) المشهور ان الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن الضد العام بمعنى الترك ، لا الضد الخاص ، ولا عن أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. وان زعم البعض اقتضاء الأمر النهي عن مطلق الأمر النهي عن مطلق الأضداد : العامة والخاصة ، والمثال في المتن يمكن تصويره من باب الضد الخاص فان الدافع مأمور بإتيان الصلاة ، وذلك الأمر يقتضي نهي المدفوع عن إيجادها في الخارج. راجع عن تفصيل هذه المسألة ـ مباحث الألفاظ من كتب الأصول.

(٣) راجع : قواعد العلامة الحلي : كتاب الصلح ، الفصل الثالث في التنازع.


قلت : الصلح مع المدعي : اما أن يكون من الأجنبي لنفسه «أو من المدعى عليه. وعلى التقديرين ، فاما أن يكون الصلح على المدعى به ، أو على مجرد حق الدعوى لأنه من الحقوق لا من الأحكام ، فان كان على المدعى به ـ وكان من الأجنبي ـ انتقل اليه حق الدعوى ، تبعا لما انتقل اليه بالصلح من المدعى به ـ عينا كان أو دينا ـ وان كان من المدعى عليه ، سقط الحق عنه ، لأنه لا يملك على نفسه ، وينتقل إليه المدعى به إن كان عينا ولم يكن له في الواقع مع فرض صحة الصلح منه. وان كان على حق الدعوى مجردا عن المدعى به ، فالظاهر بطلان الصلح وعدم نفوذه لعدم استقلالية هذا الحق لنفسه حتى يصح الصلح عليه ، ضرورة كونه منتزعا من الحق المدعى به ومسببا عنه ، دائرا مداره وجودا وعدما ، فلا استقلالية له في الوجود : بل وجوده وجود عرضي يتحقق بوجود معروضة. كيف ، وما كان كذلك يستحيل تفكيكه عنه ونقله بالصلح ، لأنه من تخلف المعلول عن علته التامة ، وهو الوجه في عدم جواز الصلح عليه مجردا ، إلا ما قيل : من أنه لو صالح عليه وأثبت المدعي به ليس له أخذه ، لأنه لم يصالح عليه حتى يجاب عنه ـ كما في جامع الكركي ـ بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعي به بعد إثباته (١).

__________________

(١) راجع : جامع المقاصد في شرح قواعد العلامة : ج ١ كتاب الصلح : الفصل الثالث في التنازع ، فإنه علق على نفس عبارة العلامة الآنفة بعبارة طويلة آخرها قوله : «وكذا لقائل أن يقول : لم لا يجوز الصلح على استحقاق الدعوى فقط ، فان ذلك حق ويجوز الصلح على كل حق ، لكن يرد عليه ـ حينئذ ـ أنه لو ثبت الحق امتنع أخذه لعدم جريان الصلح عليه. ويجاب بان الصلح لو جرى على أصل الاستحقاق ، فان ثبت الحق أخذه والا كان له استحقاق الدعوى وطلب اليمين. وبالجملة : فيقوم مقام المدعى».


هذا ، ولكن الأظهر بطلان الصلح على المدعى به قبل إثباته لأنه محكوم ظاهرا بملكيته للمدعي عليه ، وهو مستلزم لبطلان الصلح عليه ظاهرا لأنه من الصلح على مال الغير شرعا ، وهو باطل. فمرجع الصلح ـ حينئذ ـ ليس إلا الصلح عن حق الدعوى الذي يكفي في ثبوته احتمال صحته ، وانتقاله اليه بهذا المعنى مستلزم لانتقال متعلقة في الواقع إن كان له ليقوم الاحتمال في حقه أيضا ، تصحيحا للمعاملة ، وان لم يكن له فالمصالح عليه هو نفس هذا الحق المنتزع من احتمال كون متعلقة له.

ولعله مراد (الكركي) في الجواب ، بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعي به بعد إثباته ، وإلا فكيف يستحق المدعى به بعد الإثبات مع انه لم يجر الصلح عليه؟.

وكيف كان ، فالصلح يبطل ان وقع عن المدعى به ـ فقط ـ وكذا إن وقع عن حق الدعوى بشرط التجرد عنه ، وإنما يصح لو جرى على حق الدعوى ـ لا بشرط ـ هذا ، ولو جرى الصلح على نفس ترك الدعوى دون حقها لم يسقط حقه وكانت دعواه مسموعة ، وإن وجب عليه الترك ، ولكن ، هل يجوز له أن ينقله الى غيره ، فيطالب الغير به؟ الأقرب ذلك ، لعدم منافاته لما التزم به بالصلح من عدم المطالبة ـ بنفسه أو بوكيله. ولو مات انتقل الحق إلى وارثه فله المطالبة به لعدم التزامه بما التزم به مورثه ، ولو مات من كان عليه الدعوى ـ في الفرض ـ فله المطالبة من وارثه لأنه غير من التزم له بتركها إن وقع الصلح على ترك مطالبته ، وان وقع على ترك الدعوى على العين استمر المنع الى ما بعد الموت ـ أيضا ـ لأن الملتزم به ترك الدعوى على العين لا على من كانت بيده ، بخلاف الأول ، ومثله يجري التفصيل بين الإطلاق والتقييد فيما لو نقل العين الى غيره ، فافهم.

ومنها ـ حق اليمين فإنه من الحقوق التي يصح الصلح عليها حيث


ما يستحق الإحلاف فيكون مفاد الصلح عليه هو الاسقاط.

ومنها ـ حق الغيبة ، وسائر أنواع الإهانة لأخيه المؤمن مما يوجب إدخال النقص عليه فإنها تسقط بالاستحلال لو أسقط ، ولا ينقل ولا يورث. فالذي يتراءى ـ في بادئ النظر أن هذه الأفعال من الغيبة والشتم والإيذاء ونحو ذلك ، أسباب توجب حدوث حق جديد للمغتاب ونحوه.

ولكن في الحقيقة ليس الأمر كذلك ، بل هي متلفات للحق الثابت له بأصل الشرع ، فهي من تضييع الحق وإتلافه ، وليس عليه إلا ما ضيعه من الحق التالف.

توضيح ذلك : إن للمؤمن ـ أو المسلم ـ حقوقا على أخيه ، منها واجبة ومنها مندوبة. ومن الأول احترام عرضه ، فإنه حق له مستمر على أخيه المسلم واحترام ماله من احترام نفسه. ولذا من لا حرمة له في نفسه لا حرمة لماله ، كالحربي الذي يملك ماله ، ولذا كان مكلفا بالعبادات المالية كالخمس والزكاة ، وان لم يصح منه إلا بالإسلام ، غير أنه يجوز لنا مزاحمته في ماله ، لعدم احترامه. والمسلم ، وان كان ماله محترما ، إلا أن زمام احترام ماله بيده ، فله إسقاطه لعدم منافاته لاحترام نفسه ، ولا كذلك احترام عرضه ، فليس بيده زمامه حتى يسقط بإسقاطه. ولذا لا تحل غيبة من جعل الناس في حل من غيبته ، وحرمة عرضه مستلزمة لتحريم كل ما يلزم منه عدمها ، لأنها موجب لإتلاف حقه وتضييعه وعليه بدل التالف لاحق جديد ، ووجوب الاستحلال مع عدم المحذور ـ لو قلنا به ـ فإنما هو للتخلص عن ضمان البدل الأخروي من تحمل ذنوبه أو تحويل حسناته اليه ، كما ورد في بعض الأخبار ، وهو أمر آخر ، مع أنه يحتمل أن يكون ذلك كله أصلا وفرعا من الأحكام ، وان أطلق عليها لفظ الحق فتأمل.

ومنها ـ حق الشفعة الذي دل الإجماع ـ بقسميه ـ والسنة المستفيضة


بل المتواترة معنى ـ على ثبوته للشريك ببيع شريكه حصته ، فله سلطنة انتزاع المبيع ـ قهرا ـ من المشتري بنفسه ، وهو يسقط بالإسقاط ، إجماعا من المسلمين لكونه رخصة ، لا عزيمة ، شرع إرفاقا للشفيع بدفع ضرر الشركة عن نفسه ، ولعدم كون الموجب له علة تامة ، وينتقل بالإرث على الأشهر ـ بل المشهور ـ للإجماع المحكي نصا وظاهرا ، المعتضد بالشهرة العظيمة ، وللنبوي المنجبر : «ما ترك الميت من حق فلوارثه» (١) المؤيد بعمومات أدلة الإرث ، كتابا وسنة.

وأما نقله بمعنى تحويله منه الى غيره ، فلم أعثر على من جوزه ، بل الظاهر ، اتفاقهم على عدمه ، من غير فرق بين نقله مستقلا أو منضما الى حصته.

وفي سقوطه ببيع حصته ، فللمشتري الشفعة فيه أو بقاؤه للأصل مع كون الشركة علة الحدوث دون البقاء ـ وجهان : ولعل الأول هو الأقوى.

نعم يصح الصلح المتضمن للإسقاط عليه مطلقا ، ولو من الأجنبي فيسقط بمجرده من دون حاجة الى إنشاء الإسقاط ، إلا إذا صالحه على نفس الاسقاط فيجب عليه فعله ، ولا يسقط بدونه ، ولكن ، لو تركه وأخذ بحقه ، ملكه ، وإن أثم بالترك. ومثله ما لو وقع الصلح على مجرد ترك استيفاء الحق دون نفس الحق ، فله استيفاؤه لبقاء الحق بالفرض ، وان أثم به.

اللهم إلا أن أن تدعى الملازمة بين السقوط والالتزام بعدم الاستيفاء ولكنه على عهدة مدعيها.

نعم يبقى هنا سؤال الفرق بين الانتقال القهري بالإرث والنقل الاختياري إلى الأجنبي بأحد النوافل منضما معه حصته ـ أيضا ـ كي ينتقل

__________________

(١) راجع : كتاب الرياض للسيد الطباطبائي : ج ١ فصل ٣ الخيار ، باب أن الخيار يورث.


في الأول ، ولا ينتقل في الثاني مع اتحادهما في تحقيق الشركة وتجددها ، ولعله لكون الإرث مرجعه الى قيام الوارث مقام المورث ، وتنزيله منزلته. ولذا كان له ما ترك من حق ، ولا كذلك النقل بالنواقل ، فإنه من تحويل الملك من المالك الى غيره ، لا من قيام الغير مقام المالك.

وان أبيت عن ذلك ، فنقول : الفارق بينهما هو قيام الدليل على ثبوت هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد في الانتقال القهري من الإجماع وغيره وعدم قيامه في غيره مع منع عموم يقضي بصحة النقل في كل حق إلا ما خرج ، مع أنه قد يقال : إن مرجع الشك ـ هنا ـ الى الشك في القابلية التي لا يمكن إجراؤها بالعموم ، لو فرض وجوده ـ فتأمل.

ومنها ـ النفقات. والأقرب : أن بعضها حقوق ، وبعضها أحكام.

أما نفقة الزوجة ، فهي من الحقوق ـ قطعا ـ لإطلاق الحق عليها في بعض النصوص. ولذا تقضى لو أخل بها الزوج مع تمكينه من نفسها ـ إجماعا ـ بقسميه ، ومنقوله فوق الاستفاضة ، معتضدا بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه ، فيسقط بالإسقاط وينقل بالنواقل وينتقل بالإرث كغيره من الديون.

وأما نفقة الأقارب من الأبوين ـ مطلقا ـ أو الأدنين منهما والأولاد ، فالأقرب إنها من الأحكام ، إذ غاية ما يستفاد من أدلتها وجوب البذل للمواساة وسد الخلة ، ولذا لا يقضيها من وجب عليه البذل لو أخل به ، وإن أثم ـ بلا خلاف ـ كما عن جماعة بل إجماعا كما عن غير واحد (١)

__________________

(١) قال المحقق في (الشرائع آخر كتاب النكاح باب القول في نفقة الأقارب «ولا تقضي نفقة الأقارب لأنها مواساة لسد الخلة فلا تستقر في الذمة». وقال سيدنا في (الرياض ـ في هذا الكتاب والباب) «وتقضى نفقتها (اي الزوجة) دون نفقتهم (أي الأقارب) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ، بل حكى جماعة الإجماع =


وليس إلا لما ذكرناه من كونه حكما لا حقا ، والا فالأصل في الحقوق المالية أن تقضى ، ودعوى الخروج عنه في المقام بالإجماع وأنه من الإجماع على خلاف القاعدة ـ كما صرح به شيخنا في (الجواهر) (١) ممنوعة جدا ، إذ لا موجب للالتزام بكونه حقا ، حتى نلتزم بالخروج عن القاعدة للإجماع. وحينئذ ، فلا تسقط بالإسقاط ولا تنقل بالنواقل. ومثلها نفقة المملوك ، فإنها تجب على المالك للمواساة وسد الخلة ـ أيضا ـ مضافا الى عدم إمكان فرض حق له عليه.

ومنها ـ الوصية التي هي عبارة عن إعطاء ولاية التصرف للوصي من الموصي في ثلث ماله بعد الموت. فهي من الحقوق ، لأنها منتزعة من سلطنة المالك في ملكه ، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة الموصي بأدلة الوصية ، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف إليه ، فهي لا تسقط ولا تنقل بوجه من الوجوه.

__________________

عليه وهو الحجة فيه مع النص الآتي في الأول مع تأمل يظهر وجهه. وعللوا الثاني بأن وجوب النفقة فيه على وجه المعاوضة في مقابلة الاستمتاع بخلاف نفقة القريب فإنها انما وجبت للمواساة ورفع الخلة. فلا تستقر في الذمة ولا يجب قضاؤها» وبمثل هذا الحكم والتعليل في اللمعة وشرحها للشهيدين والجواهر ـ في نفس الكتاب والباب.

(١) قال شيخنا في (الجواهر ـ كتاب النكاح ، باب نفقة الأقارب) في شرح قول المحقق (ولا تقضى نفقة الأقارب) «نعم قد يشكل أصل عدم وجوب القضاء بأن الأصل القضاء في كل حق مالي لآدمي ، ودعوى كون الحق هنا خصوص السد الذي لا يمكن تداركه ، واضحة المنع بعد إطلاق الأدلة المزبورة وحرمة للعلة المستنبطة عندنا. فالعمدة حكم الإجماع فهو مع فرض تماميته في غير المفروض».


ولعل مثلها الوكالة على بيع الرهن في ضمن عقد الرهانة ، فإنه من التولية عليه دون التوكيل ، ولذا لا يملك عزله ـ على الأقوى ـ بخلاف غيره من العقود اللازمة لو اندرجت وكالة فيه ، فإنه يملك عزله وينعزل به ، وإن أثم فيه ـ على رأي قوي ـ بل ولو شرط عدم نفوذ العزل كان من الشرط الفاسد الموجب للخيار ، ضرورة منافاته لماهية الوكالة وحقيقتها التي هي عبارة عن مجرد الاذن الخاص في التصرف ومحض الرخصة فيه ولذا كان جواز التصرف فيها من الأحكام لا من الحقوق. ولتفصيل الكلام فيه محل آخر. وبالجملة ، غير بعيد دعوى الفرق بين جعله وكيلا على بيع الرهن في عقد الرهانة ليحصل الوثوق التام بالاستيفاء والوكالة على غيره في سائر العقود اللازمة بجعل الأول من التولية التي لا بأس بها لو قلنا بأنه لا يملك عزله ، والثاني من الوكالة التي ينافيها عدم نفوذ العزل فيه.

ومنها ـ إجازة المالك في بيع الفضولي ، فإنها من الأحكام لأن معناها إمضاء البيع الواقع في ملكه ، فهو كما لو باعه بنفسه من الآثار المتعلقة بنفس السلطنة التي هي له ، ومثلها الرد الذي مرجعه إلى إبقاء ملكه على ما كان ، وكل من النقل والبقاء من الأحكام ، لا من الحقوق.

هذا ما وسعني من الكلام في هذا المقام على تشتت البال وضيق المجال وهو الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد.


التعليق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

قال سيدنا الحجة خالنا المرحوم السيد محمد آل بحر العلوم ـ تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته ـ في رسالته في (تحقيق الفرق بين الحق والحكم): «أما الحكم فهو جعل بالتكليف أو الوضع» الى أن يقول ـ قدس سره ـ : «وأما الحق فهو يطلق مرة ـ في مقابل ، الملك وأخرى ما يرادفه.» الى آخر كلامه ـ رحمه الله.

أقول : قد يطلق الحق على عنوان عام شامل لكل ما جعله الشارع المقدس بالجعل التأسيسي ، والإمضائي. وهو بهذا الإطلاق عبارة عن التحقق والثبوت. ويشمل الحكم الشرعي تكليفا وإمضاء.

وله إطلاق آخر أخص من هذا العنوان العام في اصطلاح الفقهاء ، خصوصا المتأخرين منهم ، وهو عبارة عن مرتبة ضعيفة من الملك ، وإضافة ناقصة مجعولة من المالك الحقيقي ـ تبارك وتعالى ـ لذي الحق ، أعم من وجود من عليه الحق أو عدمه.

وعبر عنها بعض المعاصرين بالملكية غير الناضجة ، وهو تعبير حسن فان المرتهن للعين المجعولة من الراهن وثيقة لدينه الذي له عليه ـ وان كان ذا إضافة وسلطنة عليها ـ ومن هنا يمنع الراهن من التصرف فيما ملكه من العين المرهونة ـ مطلقا ـ أو خصوص التصرف المنافي لحق المرتهن ـ على


الخلاف ـ ولكن ليس للمرتهن بالنسبة إلى الرهن من التصرف فيه ، سوى استيفاء دينه منه ببيعه وأخذ مقدار حقه من ثمنه عند امتناع تحصيله من المديون. وكذا من له الخيار في عقد البيع ـ مثلا ـ فإنه ـ وان كان ذا حق متعلق بالعقد وسلطنة عليه من حيث القدرة على فسخه وإقراره أو متعلق بالعين التي خرجت عن ملكه الى ملك طرفه بالتسلط على إعادتها إلى ملكه بفسخ العقد ، ومن هنا يمنع طرفه من التصرفات المنافية لحقه فيما انتقل اليه وملكه بالعقد ـ لكن حقه المجعول له لا يتجاوز التسلط على فسخ العقد أو إقراره ، أو التسلط على استرجاع العين التي نقلها الى طرفه اليه ـ بناء على تعلق حقه بنفس العين المنقولة إلى طرفه ـ

وهكذا كل من له حق بالمعنى الأخص ، فإن له شأنا من شئون الملك. فان من له حق الشفعة فيما باعه شريكه في شركته ، له أخذ الشقص (١) وتملكه من مشتريه بما اشتراه من الثمن ـ قهرا عليه ـ ومن حجر على موات من الأرض ، أو سبق الى وقف على عنوان يشمله ، فأشغله بنفسه أو بمتاعه ، فما له من الحق هو اختصاصه به وعدم الحق لآخر في مزاحمته عليه ، وان كان ممن يشمله عنوان الموقوف عليه ـ بناء على ما هو المشهور من كون ذلك من قبيل الحقوق ـ وان احتمل سيدنا المصنف بل قوى كون ذلك من قبيل الأحكام ـ على ما سبق من رسالته ـ فراجع.

ومثله حق الاختصاص فيما لم يكن متمولا من الأشياء كالخمرة القابلة للتخليل ، ونحو ذلك.

والحاصل : إن العلقة والإضافة الحاصلة بين المضاف والمضاف إليه إذا كانت تامة صالحة لأنحاء التقلبات تسمى ملكا. وإذا كانت ناقصة

__________________

(١) الشقص ـ بالكسر ـ السهم والنصيب ، مأخوذ من قولهم : شقص الذبيحة أي قطعها سهاما معتدلة بين الشركاء.


لا تصلح إلا لنحو من التقلب لقصور في نفسها أو متعلقها ـ تسمى حقا ، كالإضافة الحاصلة للمرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة والحاصلة للشفيع بالنسبة إلى حصة شريكه المبيعة في شركته ، فان المرتهن ليس له سوى استيفاء دينه من الرهن إذا لم يفه المديون. والشفيع ليس له من السلطنة إلا تملك ما اشتراه المشتري من الحصة بالثمن الذي اشتراه به. وكذا الإضافة الحاصلة لذي الخيار ، فإنه ـ بناء على تعلق حقه بما خرج عن ملكه الى ملك طرفه ـ ليس له الا التسلط على إعادته إلى ملكه بفسخ العقد.

وأما بناء على تعلق حقه بالعقد وتسلطه على فسخه وإقراره ، فالقصور في متعلق الإضافة.

ونظيره من هذه الجهة : حق التحجير على موات من الأرض وحق السبق الى مكان مباح أو وقف عام ، فان الموات لا يملك بالتحجير عليه ، والمباح والوقف لا يملكان بالسبق إليهما. وغاية ما يحصل لمن حجر أو سبق حق اختصاص فيما حجر عليه أو سبق اليه لا يجوز غصبه منه ومزاحمته عليه.

ثم ان المائز بين الحكم والحق : هو ان الحكم لا يسقط بالإسقاط إذ هو مجعول من الشارع المقدس على موضوعه ، فزمامه بيده ، وأمر وضعه ورفعه اليه بخلاف الحق ، فإن قوامه قابليته للإسقاط والعفو ممن جعل له وهو ـ وان كان كالحكم من حيث الجعل من الشارع الأقدس ـ إلا أن نحو الجعل مختلف ، فان الحق جعل لصاحبه بنحو يكون زمامه بيده ، فله الأخذ به ، وله العفو والإسقاط ، بخلاف الحكم فإنه مجعول من الشارع المقدس على موضوعه بنحو يكون رفعه بيد جاعله كوضعه.

وبالجملة : فان الحق سلطنة مجعول زمامها بيد ذي الحق فله القدرة على الإعمال والاسقاط.


فما ذكره سيدنا الخال ـ قدس سره ـ حيث يقول : «منها ـ أي من الحقوق ـ : ما لا يجوز عليه شي‌ء من ذلك فلا يسقط بالإسقاط ولا ينقل بالنواقل ولا ينتقل بالإرث كحق الأبوة وولاية الحاكم ، وحق الاستمتاع بالزوجة وحق الجار على جاره والمؤمن على أخيه فإنها حقوق لأربابها لا تسقط ولا تنتقل بوجه من الوجوه» انتهى.

قابل للمناقشة ، إذ الحق الذي هو سلطنة ضعيفة على الشي‌ء ومرتبة ناقصة من الملك بجميع اقسامه وأنحائه ، قابل وصالح للإسقاط بمقتضى طبعه ـ كما حكي ذلك عن شيخنا الشهيد ـ قدس سره ـ وجعل ذلك هو الضابط في الفرق بين الحكم والحق.

وما افاده سيدنا : من تنظير ما لا يسقط بالإسقاط بحق الأبوة وولاية الحاكم. الى آخر ما ذكره من الأمثلة.

غير واضح ، فإن جملة ما ذكر من الأمثلة ليس من الحق بالمعنى المصطلح الذي هو مرتبة ناقصة من مراتب الملك وانما هي من قبيل الأحكام.

فان ما مثل به من (حق الأبوة) إن كان مراده بحق الأبوة وجوب إطاعة الولد للأب وحرمة معصيته مما كان مستلزما لعقوقه وسخطه ، فإنه ليس من قبيل ما نحن فيه من الحق الذي هو بمعنى الملكية الضعيفة ، وانما هو حكم شرعي إلزامي على الولد بالنسبة إلى والديه ثبت بدليله الخاص ـ احتراما لهما وجزاء على إحسانهما اليه ، كما أنه لو كان المراد سلطنته على التصرف في مال ولده الصغير بما يحصل به حفظه عن التلف وما يرجع الى مصلحته من البيع أو الشراء له بما له ، ونحو ذلك ، فإنه ـ أيضا ـ من الحكم الشرعي الثابت بدليله للأب فيما يرجع الى مال الولد والترخيص في تصرفه فيه ونفوذه عليه ، وليس من الحق الاصطلاحي المذكور لمن له الحق مما يعود فيه نفع لذي الحق.


نعم ، ثبت للأب عند مسيس الحاجة ـ جواز أخذ مال الولد وصرفه على نفسه وعلى من يعول به ، ما لم يكن مجحفا ومسرفا في ذلك.

فعن الشيخ ـ قدس سره ـ بإسناده «عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ـ صلوات الله عليه ـ قال : سألته عن الرجل يحتاج الى مال ابنه قال عليه السلام يأكل منه ما شاء من غير سرف» قال وقال ـ ع ـ وفي كتاب علي (ع) : إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء. الى قوله : وذكر أن رسول الله (ص) قال لرجل : أنت ومالك لأبيك».

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام : «أن رسول الله (ص) قال لرجل : أنت ومالك لأبيك ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام : ما أحب أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج اليه مما لا بد منه ، إن الله (لا يُحِبُّ الْفَسادَ)» (١).

ولعل سيدنا ـ قدس سره ـ يريد من حق الأبوة ما ذكرناه ـ أخيرا ـ وعلى كلّ ، فالظاهر كون ذلك ـ أيضا ـ ليس من الملك الضعيف الذي هو حق اصطلاحا ، وانما هو حكم من الشارع وترخيص منه بأخذه ما يحتاج اليه من مال ابنه عند الحاجة الماسة اليه ، ولا معنى لسقوطه بالإسقاط ولا نقله بالنواقل ، ولا انتقاله بالإرث.

وأما ولاية الحاكم ، فما لا إشكال فيه كون الفقيه الجامع للشرائط له ولاية التصرف في مال الطفل والغائب ـ في الجملة ـ لمصلحتهما ـ وسيأتي

__________________

(١) راجع هذين الحديثين في كتاب التهذيب ـ المكاسب ـ ج ٦ ص ٣٤٣ طبع النجف الأشرف.

وحديث «أنت ومالك لأبيك» تذكره عامة الصحاح عن النبي (ص) راجع كشف الخفاء للعجلوني : ج ١ ص ٢٠٧ حديث (٦٢٨)


بيانه في مبحث الولاية. وهي بالمعنى المذكور ليست من الحق الاصطلاحي أيضا ، وانما ذلك حكم من الشارع وترخيص منه للحاكم في التصدي لذلك رعاية لمصلحة المولى عليه ، ولا يعود منه نفع للحاكم غير الأجر والثواب.

وأما حق الاستمتاع للزوج بالنسبة إلى زوجته ، فعدم كونه من الحق ـ بمعنى الملك ـ واضح ، فان مرجعه الى حكم من الشارع على الزوجة بعدم جواز امتناعها وترفعها عن ذلك عند ارادة الزوج له فيما لو كان ملتزما بحقوقها الواجبة عليه ، ولا مناسبة بينه بالمعنى المذكور ـ وبين الحق بمعنى الملك.

كما أن مرجع حق الجار على جاره أو الأخ المؤمن على أخيه : المحافظة على مقام الاخوة والجوار وعدم التصدي الى ما ينافيه.

وبالجملة ، هذه الحقوق ونظائرها ، وما ذكره سيدنا بعد ذلك من حق الغيبة والإيذاء بضرب وشتم أو إهانة أو نحو ذلك : الظاهر أنها من الأحكام ، وليست من الحقوق بمعنى الملك ، ووجوب الاستحلال من المستغاب أو المتاذي أو المهان ـ على فرضه ـ انما هو من جهة ظلمه بهتك عرضه أو إيذائه ونحوه ، لا لثبوت حق مملوك له عليه.

كما أن حق التولية المجعول من الواقف للمتولي على الوقف وحق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص على أطفاله أو على التصرف في ثلث ماله ، ونحو ذلك مما يكون من شئون ولايته على الأطفال وسلطنته على نفسه أو على ماله ، كل ذلك ـ على الظاهر ـ أنها من قبيل الحكم لا الحق بالمعنى المصطلح.

وما ثبت بالدليل أن الموصى إليه له رد الوصية في حياة الموصي فتبطل وصايته بشرط بلوغ الرد للموصى ، وإمكان نصبه غيره على وجه موافق للاحتياط


ليس ذلك من حيث كون الوصاية حقا للوصي والرد إسقاطا له وإلا لجاز له ذلك وصلح ـ مطلقا ـ بلا شرط.

وبالجملة ، فالظاهر أن الولايات على إطلاقها وشعبها المجعولة ممن له الجعل والنصب لأشخاص أو أنواع من حيث الترخيص في تصرفاتهم في مال الغير أو نفسه وصحتها ونفوذها ـ ومنها باب الوصاية ـ من قبيل الأحكام الثابتة لموضوعاتها في مواردها ـ ترخيصا أو إمضاء ـ ومن هنا لا تقبل الإسقاط ، فهي من قسم الحق بالمعنى العام ، لا من الحق بالمعنى الأخص الذي هو من مراتب الملك القابل للإسقاط بمقتضى طبعه.

فما ذكره سيدنا ـ قدس سره ـ : «من أن الوصية من الحقوق ، لأنها منتزعة من سلطنة المالك في ملكه ، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة الموصي بأدلة الوصية ، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف فهي لا تسقط ولا تنتقل بوجه من الوجوه.»

غير واضح ، فإن أصل سلطنة الشخص على ماله من قبيل الحكم المجعول من الشارع بقوله : «الناس مسلطون على أموالهم» لا من الحق بمعنى الملك الضعيف ، ولذلك لا يسقط بالإسقاط فكيف ما ينتزع منها ويتفرع عليها؟.

نعم ربما يكون بعض ما هو حق بالمعنى الأخص غير قابل للإسقاط عمن هو عليه ، فيكون ـ من هذه الجهة ـ بمنزلة الحكم في عدم قبوله للإسقاط. وذلك كحق الخمس والزكاة المتعلق بمال الغير لأربابه ومستحقيه ـ بناء على كونهما من الحق ـ بالمعنى الأخص كما هو الأقوى ـ

وقبل بيان وجه عدم قابلية هذا النوع من الحق للإسقاط ـ مع أنا ذكرنا أن قوام الحق قبوله للإسقاط ـ : لا بد من توضيح نحو هذا النوع من الحق وكيفية تعلقه بموضوعه ، فنقول :

لا إشكال ـ بل لا خلاف ـ في عدم كون الحق المذكور من قبيل


التكليف الصرف ومحض الوجوب على المالك نظير وجوب نفقة الأقارب وانما هو من قبيل الوضع.

وعليه ، فهل الحق المذكور إنما يتعلق بذمة المالك والعين الزكوية ، مثلا ليست محقوقة به؟ ربما يحكى عن بعض الأصحاب ذلك ، وينسب الى بعض العامة وهو خلاف ظاهر آية الزكاة ، وآية الخمس. بل خلاف صريح بعض الأخبار ، وكلمات الأصحاب ، والفروع المتسالم عليها عندهم فإنها صريحة بتعلق الفريضة بنفس العين.

وعليه ، فهل الحق المذكور المجعول لأربابه من قبيل الملك في العين وأن الفقراء ـ مثلا ـ يملكون قسطا من مال المالك بنحو الشركة الحقيقية والكسر المشاع ـ كما نسب الى ظاهر المشهور ـ أو من قبيل الكلي في المعين كما يظهر من بعض آخر ـ ولعل ذلك لما يظهر ـ من بعض الاخبار من قوله ـ عليه السلام ـ «. فيما سقت السماء العشر» (١) و «في كل عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال» (٢) وقوله عليه السلام : «إن الله تعالى شرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال» وقول علي عليه الصلاة والسلام ـ كما في نهج البلاغة فيما كان يكتبه لمن يستعمله على الصدقات ـ : «فان كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإن أكثرها له» (٣)

__________________

(١) بهذه الألفاظ وبقريب منها يذكر الحديث عن النبي (ص) في عامة كتب الصحاح ، وكتب الأخبار في كتاب الزكاة باب زكاة الغلاة.

(٢) بهذا اللفظ وبهذا المضمون ذكره (الكافي في كتاب الزكاة ، باب زكاة الذهب والفضة).

(٣) راجع : شرح ابن أبي الحديد (ج ١٥ ص ١٥١) طبع دار احياء الكتب العربية.


حيث أن الظاهر منه : ان بعضها ـ وهو ما عد الأكثر ـ للمستحق ، جعله الله له.

الى غير ذلك من أخبار الزكاة وأدلة الخمس ، كالآية الشريفة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ). (١)

وما عن الشيخ والكليني ـ قدس سرهما ـ في الصحيح : «عن محمد ابن مسلم ـ رضي الله عنه ـ عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن معادن الفضة والصفر والحديد والرصاص؟ فقال ـ عليه السلام ـ عليها الخمس جميعا» (٢).

وأظهر منها صحيح الحلبي ـ رض ـ في حديث قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الكنز : كم فيه؟ قال عليه السلام الخمس ، وعن المعادن : كم فيها؟ قال عليه السلام الخمس ، وعن الرصاص والصفر والحديد وما كان من المعادن كم فيها؟ قال : (ع) : يؤخذ منه كما يؤخذ من معادن الذهب والفضة» (٣).

الى غير ذلك مما هو ظاهر في الشركة في المال بنحو الكسر المشاع.

هذا ، ولكن الالتزام بذلك والأخذ بهذا الظهور لا يجتمع مع بعض التصريحات والأمارات في غير واحد من الاخبار ، وكلمات الأصحاب والفروع المسلمة عندهم على الظاهر ، بل لا يتناسب مع آية الزكاة من قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) إلخ فإن ظاهرها ومفادها : أن

__________________

(١) سورة الأنفال ـ ٤١ (٢) راجع : التهذيب للشيخ الطوسي (ج ٤ ، كتاب الزكاة ، باب الخمس والغنائم) حديث (٣٤٥) طبع النجف الأشرف.

(٣) راجع : التهذيب للشيخ الطوسي (ج ٤ ص ١٢١ باب الخمس والغنائم) طبع النجف الأشرف.


ما فرضه الله تعالى في أموال الأغنياء للفقراء هو صدقة يجب على الغني دفعها من ماله تقربا الى الله تعالى ، ولا محصل للتصدق على شخص بما يملكه فعلا.

هذا مضافا الى أن الظاهر ان استحقاق الفقير في الأموال التي يستحب أداء زكاتها كمال التجارة والخيل والإناث وما يكال أو يوزن من الحبوب عدا الغلاة الأربع وغير ذلك مما يستحب أداؤه ، مساو لما فرض فيه الزكاة كالغلاة الأربعة والأنعام الثلاثة والنقدين ـ كما يشهد بذلك اشتمال بعض الروايات الواردة في بيان ما ثبت فيه الزكاة على الواجب والمستحب (١) فان الظاهر من سياقها اتحاد نحو الاستحقاق غير أن بعضه فرض والآخر ندب وهو ما سوى الأعيان التسعة.

ومن المعلوم عدم إمكان الشركة الحقيقية والملكية الفعلية في المستحب أداؤه ، على ان المال المشترك بين مالكين بنحو الإشاعة ليس لأحدهما التصرف فيه إلا بإذن الشريك.

ولا إشكال بل الظاهر عدم الخلاف في جواز تصرف المالك فيما عدا مقدار الزكاة من النصاب مع العزم على الأداء من الباقي.

بل الذي يظهر من صحيحة عبد الرحمن ، صحة بيع جميع النصاب ولزومه لو أدى البائع مقدار الزكاة من ماله للآخر ـ وأن ما يؤديه هو عين الزكاة لا بد لها : قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل لم يزك إبله أو شاته عامين ، فباعها على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال (ع) : نعم يؤخذ زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع» (٢)

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي أوائل كتاب الزكاة بأبواب متفرقة.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٦ كتاب الزكاة ، باب لو باع النصاب قبل أداء الزكاة طبع جديد طهران.


ومن الواضح أن مؤدى هذه الصحيحة لا يجتمع مع الشركة الحقيقية بل ولا مع الملكية الفعلية ، ولو كانت بنحو الكلي في المعين فان مقتضى ذلك كون البيع المذكور بالنسبة إلى مقدار الفريضة فضوليا يتوقف نفوذه على اجازة من له الولاية على الزكاة ، فيأخذ من الثمن للمستحق مقدار حصته ، ولا يجدي في نفوذه أداء البائع مقدار الزكاة من ماله الآخر كما هو مفاد الصحيحة المذكورة.

ثم ان ظاهرها من حيث سكوتها عن نماء حصة المستحق في المدة المذكورة في السؤال : أنه ليس على المالك أداء الموجود منه ، ولا ضمان ما استوفاه أو فات وتلف تحت يده ، وأنه ليس عليه إلا أداء الزكاة فقط ، وهو خلاف ما تقتضيه قاعدة تبعية النماء للملك.

وبالجملة : فالذي يستفاد من الآية الشريفة ، ومجموع الأخبار والفروع المتسالم عليها من الأصحاب : أن فريضة الزكاة متعلقة بالعين لا بالذمة ، وان تعلقها لم يكن بنحو الملك الفعلي في العين ـ لا بنحو الشركة الحقيقية ولا بنحو الكلي في المعين ـ وانما هو حق معين فرضه الله تعالى على المالك متعلق بماله المعين. وعلى ما استظهره الأستاذ النائيني ـ قدس سره ـ في تعليقته على العروة الوثقى : كونه حقا متعلقا بمالية النصاب ، لا ملكا في العين بشي‌ء من الوجهين (١) وعليه فيلزم المالك أداؤه من نفس العين أو من ماله الآخر ، فهو ملك للمستحق شأنا لا فعلا.

وباصطلاح الفقهاء : حق ، لا ملك. وعلى ما عبر به البعض : ملك غير ناضج.

ثم ان الظاهر عدم كونه من قبيل حق الرهانة حيث أن مرجع كونه من قبيله : أن فريضة الزكاة في ذمة المالك ، والعين الزكوية وثيقة عليها

__________________

(١) أي الآنفي الذكر ، وهما : الشركة الحقيقية ، والكلي في المعين.


كما أن الرهن وثيقة على الدين الذي هو في ذمة الراهن ، ومن آثاره كون المالك ممنوعا من التصرف في شي‌ء من النصاب ما دام لم يؤد الفريضة ، كما أن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن قبل فكه من الرهانة ، كما أن مقتضاه كون تلف النصاب بلا تفريط كلا أو بعضها إنما يكون من المالك ، ولا يرد شي‌ء منه على المستحق ، كما أن تلف الرهن بلا تفريط انما هو من الراهن ، ولا ينقص شي‌ء بسببه من دين المرتهن.

وكل ذلك خلاف ما هو المتسالم عليه في باب الزكاة.

أما كون فريضة الزكاة متعلقة بذمة المالك فلم ينقل عن أحد معين من أصحابنا ، نعم عن ابن حمزة نسبته الى بعض غير معين. بل المتسالم عليه بينهم أنها متعلقة بالعين ـ على اختلاف مشاربهم في نحو التعلق.

وأما منع المالك من التصرف في النصاب قبل أداء الفريضة فإنه لا إشكال في جوازه فيما سوى مقدار الفريضة ، مع العزم على الأداء من الباقي : ولعله مما لا خلاف فيه.

نعم مقتضى القول بالشركة الحقيقية توقفه على اذن الحاكم الشرعي.

وأما ورود التلف ـ كلا أو بعضا ـ على المالك فقط فهو مبني على تعلق الحق بالذمة لا بالعين. وأما بناء على تعلقه بالعين ، فظاهر النص والفتوى : أن ما يتلف من النصاب بلا تفريط من المالك يرد على المستحق منه بنسبة حصته من النصاب. نعم مع التفريط ـ ومنه تأخير دفعها وإيصالها إلى المستحق مع التمكن من ذلك ـ يضمن المالك حصة المستحق.

وبالجملة فالظاهر عدم كون حق الزكاة من قبيل حق الرهانة ، كما انه ليس من قبيل حق الفقير بالمال المنذور التصدق به عليه ، إذ لا إشكال في أن المال المنذور التصدق به لا يجوز التصرف فيه بما ينافي الصدقة ، ويتعين على الناذر التصدق به. ولا يجدي إبداله بمال آخر. ولا إشكال ولا


إشكال ولا خلاف ـ على الظاهر ـ في جواز دفع معادل فريضة الزكاة من مال آخر.

هذا ، وليس تعلقها بالعين من قبيل تعلق حق غرماء الميت بتركته فان حق الغرماء غير المستوعب للتركة يتعلق بمجموع التركة بحيث لو تلف منها شي‌ء وكان الباقي بمقدار دينهم على الميت ، كان لهم استيفاء الدين بكماله من الباقي ولا يرد عليهم النقص بسبب التلف ـ على الظاهر ـ وهذا بخلاف حق المستحق المتعلق بالنصاب ، فان تعلقه بنحو البسط والسريان في جميع النصاب بحيث لو تلف منه شي‌ء بلا تفريط من المالك يسقط عن المالك جزء من الفريضة نسبته إليها كنسبة التالف الى مجموع النصاب.

وبعبارة أخصر : ان التلف ـ هناك ـ يختص به الوارث ، وهنا يتوزع على المالك والمستحق بالنسبة. ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف سنخ الحق في الموردين بحسب ما يستفاد من الأدلة ، فإن الغرماء لهم دين معين على الميت اشتغلت به ذمته حال الحياة وقد جعل الله تعالى لهم حق استيفاء دينهم بتمامه من تركته ـ مهما بلغت قليلة كانت أم كثيرة ـ بقيت أم تلف بعضها ـ ما دامت التركة وافية بذلك الدين.

وما هو للوارث من تلك التركة ـ حسب المستفاد من الأدلة كتابا وسنة ـ متأخر عن حق الغرماء ، وفي طوله. ومقتضى ذلك ورود التلف على ما يخص الوارث من المال المتروك وسلامة حق الغرماء ، ولا فرق في ذلك بين القول بأن التركة باقية على حكم مال الميت ما دام الدين باقيا ـ وبين القول بأنها تنتقل الى الوارث محقوقة للغرماء.

وأما فريضة الزكاة ، فإنها متعلقة بنفس النصاب لا بذمة المالك ـ كما ذكرنا ـ ولا فرق بين ما يملكه المالك من النصاب وما يستحقه الفقير ـ مثلا ـ منه سوى أن ملكية المالك تامة فعلية ، وملكية المستحق ناقصة


شأنية معبر عنها بالحق ـ اصطلاحا ـ وعلى كل هما في عرض واحد والتلف الوارد على العين كما يرد على ملك المالك كذلك هو وارد على متعلق حق الفقير ـ مثلا ـ فاختصاص ما يتلف من العين بالمالك بلا وجه. نعم لو كان التلف بتفريط المالك ـ ومنه تأخير دفعها وإيصالها إلى المستحق عند التمكن من الدفع والإهمال في الأداء ـ فقد ذكرنا أن المالك ضامن لحصة المستحق.

ففي صحيحة محمد بن مسلم ـ أو حسنته ـ : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل بعث بزكاة ماله لتقسم ، فضاعت هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال عليه السلام : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن حتى يدفعها وان لم يجد لها من يدفعها اليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان لأنها خرجت من يده وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه اليه ، وان لم يجد فليس عليه ضمان» (١).

وصحيحة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل بعث إليه أخ له زكاته ليقسمها فضاعت ، فقال : ليس على الرسول ولا على المؤدي ضمان قلت : فإنه لم يجد لها أهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال : لا ولكن إذا عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها» (٢).

هذا وليس تعلق حق الزكاة بالعين نظير تعلق أرش الجناية برقبة العبد الجاني خطأ ، وان كان يشبهه في الجملة من حيث ان مالك العبد يخير بين دفعه للمجني عليه أو وليه ليتملكه أو يتملك ما قابل الجناية فيما لو كان أرشها أقل من قيمته ، وبين أن يفديه بأرش الجناية أو بأقل الأمرين من الأرش وقيمته ـ على الخلاف ما بين الشيخ قدس سره والمشهور

__________________

(١) الكافي للكليني : كتاب الزكاة ، باب (الزكاة تبعث من بلد الى بلد فتضيع) حديث ١.

(٢) الكافي للكليني : كتاب الزكاة ، باب (الزكاة تبعث من بلد الى بلد فتضيع) حديث ٤.


وعلى كل يتخير المالك بين دفعه وبين فدائه ، كما ان المالك ـ في باب الزكاة ـ يتخير بين دفع الفريضة من العين وبين القيمة ـ كما ان العبد الجاني يجوز بيعه ، ولكن نفوذه يتوقف على فك رقبته بأداء فدائه ، وإلا كان للمجني عليه أو وليه تملكه ، فيبطل البيع ، وكذلك العين المتعلقة لحق الزكاة لا مانع من بيعها ، وينفذ البيع لو أدى المالك الزكاة من ماله الآخر ، وإلا كان لمن له الولاية على الزكاة أخذها من العين فيبطل البيع بالنسبة إلى مقدار الزكاة.

ولكن فرق حق الجناية عن الزكاة : أن حق الجناية ليس امرا مفروضا على مالك العبد يلزمه أداؤه لمستحقه ، وإنما هو كسائر الحقوق موكول لمن له الحق إن شاء أخذ به ـ وحكمه ما ذكرنا ـ وان شاء عفا فيسقط بخلاف حق الزكاة فإنه فرض من الله تعالى على مالك النصاب ، يلزمه أداؤه ـ من العين أو بدلها ـ لمستحقه ، وليس لأحد إسقاطه والعفو عنه من غير فرق بين من له الحق ، وبين من له الولاية عليه كالحاكم الشرعي.

ولعل السر في ذلك : أن من له الحق لم يكن شخصا معينا جعل زمام الحق بيده كسائر الحقوق المجعولة لأشخاص معينين لهم الأخذ بالحق وإسقاطه ، وانما جعل هذا الحق لطوائف وأصناف.

وببيان آخر : الحق المذكور مجعول للكلي ، لا لفرد أو أفراد ، وإنما يملك الفرد ما وصل اليه من الحق ملكية فعلية تامة ، فمن جعل له الحق ـ وهو الصنف بنحو الكلي ـ لا معنى لإسقاطه ، والفرد أو الأفراد لا أثر لإسقاطهم ، إذ لم يجعل الحق لهم.

ومن هنا : ليس لهم أخذ الحق من المالك جبرا ، أو استيفاء بنحو من أنحاء الاستيفاءات ، كما يجوز ذلك للمغصوب حقه من الغاصب إلا بإذن من الحاكم الشرعي ، وتوكيل خاص له بأخذ الحق من المالك الممتنع.


وأما من له الولاية ـ على هذا الحق ـ وهو الحاكم الشرعي ـ فولايته مقصورة على أخذ الحق ممن هو عليه ، وإيصاله لأربابه وصرفه في مصارفه ، ولا تتعدى ولايته إلى جهة إسقاط الحق الذي هو خلاف مصلحة الأصناف وحكمة جعل ذلك الحق لهم.

ومن هنا : ليس له بخس حق المستحق بالمصالحة مع من عليه الحق على شي‌ء يسير لا يعادل الحق المجعول للمستحق.

والحاصل : إن هذا الحق من هذه الجهة كالحكم الشرعي على موضوعه غير قابل للإسقاط ، كما أنه غير قابل للانتقال الى الغير ـ لا بإرث ولا بغيره ـ كما لا يخفى.

هذا وقد ظهر لك مما ذكرنا الوجه في عدم قابلية حق الزكاة للإسقاط والانتقال ، كما أنه ظهر أن فريضة الزكاة من سنخ الحقوق ، وليست ملكا في العين لا بنحو الإشاعة ولا بنحو الكلي في المعين.

وظهر أيضا أنه ليس من قبيل ما ذكرناه من الحقوق وان كان ربما يشبه بعضها من بعض الجهات ، بل هو حق مستقل متعلق بمالية العين لا بخصوصيتها ، فهو من هذه الجهة يشبه إرث الزوجة مما سوى الأرض كالأبنية والنخيل والأشجار فإنه حق متعلق بماليتها غير أنه من قبيل الملك الفعلي للزوجة ، وليس من سنخ الحقوق اصطلاحا مما هو ملك شأنا ، إذ لا شبهة في اتحاد كيفية إرث الزوجة من الأموال المنقولة وغير المنقولة سوى أن إرثها من الأول يتعلق بالعين ، ومن الثاني يتعلق بماليتها وقيمتها ولا إشكال في أن إرثها من المنقول بنحو الملك الفعلي ، فليكن إرثها من غير المنقول كذلك ومقتضاه جواز المصالحة على حقها مع الوارث أو الأجنبي فينتقل ما تستحق من القيمة اليه.

ولا أظن أن فقيها يلتزم بجواز المصالحة على الزكاة قبل أخذها ممن


هي عليه : لما ذكرنا من أن الحق المذكور غير صالح للنقل مطلقا ـ لا الى من هو عليه ولا الى غيره.

وفرق آخر بين إرث الزوجة من غير المنقول وبين حق الزكاة ، وهو أنه لا إشكال ولا خلاف في أن الخيار في الزكاة للمالك بين دفعها من العين المتعلقة للحق وبين دفعها من مال آخر للمالك وليس للمستحق ولا للحاكم الشرعي المشاحة مع المالك بخلاف إرث الزوجة من غير المنقول فان الوارث لو اختار دفع حقها من نفس العين دون القيمة ، في إجبار الزوجة على القبول إشكال وخلاف.

ولعل منشأ الفرق بين الحقين ـ مع ان كلا منهما متعلق بالمالية ـ : هو أن ظاهر أدلة باب الزكاة أنها في العين ، ولكن ثبت أيضا ـ نصا وإجماعا ـ جواز دفع المالك القيمة إرفاقا به ، بخلاف إرث الزوجة ، فان ظاهر الأدلة تعلقه بنفس القيمة ، وإن ظهر من بعضها : أن علة حرمانها من العين الإرفاق بالوارث لكن لا يبعد كون ذلك من قبيل حكمة الجعل والحرمان من العين.

وبالجملة ، لا دليل على جواز إجبارها على أخذ العين بدلا عما تستحقه من القيمة ولم يثبت ذلك بنص أو إجماع ، كما ثبت في باب الزكاة جواز دفع القيمة بدلا عن العين ، فاجبارها على أخذ استحقاقها من العين في غاية الإشكال ، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة معها على ذلك.

ثم ان الكلام في الخمس هو الكلام في الزكاة والمختار فيه هو المختار فيها ، إذ الظاهر أنه حق فرضه الله تعالى لأربابه ـ وهم بنو هاشم ـ في أموال خاصة عوضا عما فرضه لغيرهم من الصدقات التي حرمها عليهم من غيرهم تكريما لهم وإعلاء لشأنهم.

وبالجملة ، فالظاهر اتحاد نحو الحقين ، والله تعالى هو العالم.


ثم إن مقتضى ما ذكرنا من أن الحق نحو من الملك ومرتبة من مراتبه : كونه بحسب طبعه قابلاً للانتقال بالإرث ، ويشمله النبوي المشهور : «ما ترك الميت من حق فهو لوارثه» (١) وغيره ، ما لم يستفد من دليله ـ أو من الخارج ـ أنه متقوم بخصوص ذي الحق ، وليس له قابلية الانتقال بالإرث فمثل حق القسم الذي هو للزوجة على الزوج ـ وان كان قابلاً للنقل إلى ضرتها (٢) بالصلح عليه مجانا فقط ـ كما عن جماعة من أصحابنا ـ قدس سرهم ـ أو حتى إذا كان بالمعاوضة عليه ـ كما هو مقتضى القاعدة ما لم يقم إجماع على خصوص المجانية ـ ولكنه غير قابل للانتقال بالإرث ، حتى إلى الضرة ، كما لو تزوج شخص بامرأة ، ثم تزوج بعمتها أو خالتها ، ثم ماتت إحداهما وكان الوارث لها ضرتها ، فإنها لا ترث حق القسم منها

ولعل الفرق بين النقل والانتقال بالإرث : أن الحق المذكور انما هو للزوجة ما دام الحياة بمعنى أن قوامه الحياة فلها نقله وتفويضه الى مثلها ، وبموت الزوجة ينعدم موضوع الحق وينتهي أمده ، فلا متروك حتى يورث.

وبالجملة ، فظاهرهم التسالم على عدم انتقال الحق المذكور الى الوارث مطلقا.

ومن الحقوق ـ غير القابلة للنقل بل ولا الانتقال على الظاهر : ـ ما كان من قبيل حق الغيبة والشتم والضرب والإيذاء ـ بناء على كونها من الحقوق وعدم كفاية التوبة فيها بل لا بد من إرضاء ذي الحق وإبرائه

__________________

(١) راجع : كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري ، باب الخيارات ، الكلام في أحكام الخيار.

(٢) الضرة ـ بالفتح والتضعيف ـ : تطلق على كل من زوجتي الرجل أو زوجاته ، فهما ضرتان ، وهن ضرائر.


والأظهر : أنها ليست من الحقوق بالمعنى الذي ذكرناه من الحق وان قلنا بعدم كفاية التوبة فيها ، فإنها لم تكن من مقولة الملك ومن مراتبه ووجوب استحلال الإنسان ممن استغابه أو آذاه بالضرب أو الشتم ـ على فرضه ـ إنما هو من حيث ظلمه له بهتك عرضه أو إيذائه ، لا لثبوت حق له عليه بمعنى الملك.

ثم إنه لا ملازمة بين قبول الحق للنقل وبين قبوله للانتقال بالإرث ، فقد يكون الحق قابلاً للنقل ولا يقبل الانتقال ، كما ذكرنا من حق القسم وقد يقبل الانتقال بالإرث ولا يقبل النقل كحق الرهانة وحق الشفعة وحق الخيار ـ على الأظهر ـ من عدم قبوله للنقل ، وقد لا يقبلهما بل ولا الإسقاط كما ذكرنا من حق الخمس والزكاة ، وقد يقبلها جميعا كحق التحجير على موات من الأرض ـ مثلا ـ

ثم إن ما يقبل النقل قد يكون قابلاً للنقل الى كل أحد كحق التحجير فإنه قابل للنقل الى كل أحد بالمصالحة عليه مع العوض وبدونه ، بخلاف حق القسم للزوجة ، فإنه إنما يقبل النقل إلى الضرة ـ فقط.

فان قلت : إذا كان حق الرهانة وحق الشفعة وحق الخيار قابلاً للانتقال الى الوارث ، ولم يكن متقوما بذي الحق ، فلم لا يكون قابلاً للنقل الى الغير بالمصالحة عليه.؟

قلت : وجه الفرق بين انتقال الحقوق المذكورة بالإرث وبين نقلها بالمصالحة متوقف على بيان حقيقتها فنقول :

إن حق الرهانة مرجعه إلى سلطنة للمرتهن حاصلة له بعقدها على استيفاء دينه الذي هو على الراهن من العين المرهونة ببيعها وأخذ مقدار دينه من ثمنها عند حلول الدين بالشروط المذكورة في باب الرهن ، وهذه السلطنة لا يعقل نقلها الى الراهن ـ كما لا يخفى ـ وأما نقلها الى ثالث له دين


أيضا على الراهن ، وان كان غير ممتنع عقلا ولكنه يتوقف على أن يكون العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مقتضاه كون الرهن وثيقة على ما يعم دينه ودين غيره على البدل ، ليصح للمرتهن تحويل ماله من الحق في العين المرهونة إلى غيره ممن له دين على الراهن ، ومن الواضح أن عقد الرهانة الواقع بين الراهن والمرتهن إنما يقتضي كون الرهن وثيقة على خصوص دينه الذي هو على الراهن ، لا الأعم من دينه ودين غيره ، فالسلطنة الحاصلة للمرتهن محدودة غير صالحة للتعدية والتحويل الى الغير.

وبالجملة فكما لا يمكن نقل الحق المذكور وتحويله الى من هو عليه كذلك لا يمكن تحويله ونقله الى ثالث وان كان ذا دين أيضا على الراهن بل الحق خاص بالمرتهن إن شاء أخذ به ، وان شاء أسقطه.

نعم لو نقل المرتهن الدين الذي له على الراهن الى ثالث بالبيع ونحوه فالظاهر أن الرهن يتبعه في الانتقال الى المنقول اليه ، فيكون ذا الحق في العين المرهونة فإن العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مفاده ومقتضاه كون الرهن وثيقة على شخص الدين الذي كان للمرتهن على الراهن ، وبانتقال الدين الى مشتريه ـ مثلا ـ لم يكن المنقول الا نفس ما كان الرهن وثيقة عليه. لا غيره. غاية الأمر اختلف مالك الدين ، وهو غير ضائر.

وبالجملة ليس هذا كنقل الحق إلى ثالث له دين آخر على الراهن الذي منعنا منه ـ كما لا يخفى.

وأما حق الشفعة الذي هو عبارة عن ملكية الشريك وسلطنته على المشتري لحصة شريكه المبيعة حال شركته لتملك تلك الحصة وأخذها منه قهرا بالثمن الذي اشتراها به من شريكه ، فهذا المعنى غير قابل للنقل الى من عليه الحق ، وهو المشتري ، إذ هو مالك لتلك الحصة بالاشتراء ، فلا معنى لنقل حق التملك منه اليه. وكذا لا يقبل النقل الى ثالث ، إذ لو كان


النقل اليه بمعنى تسليطه على أخذ الحصة من المشتري الى ذي الحق ، وهو الشريك نفسه ، فهذا ليس من نقل الحق اليه ، وإنما هو توكيل واستنابة في الأخذ بحق الشفعة لذي الحق وهو الشريك.

وان كان المراد تسليط الغير على أخذ الحصة من المشتري وتملكها لنفسه ، فهذا التسليط لم يجعل للشريك ، فان الحق المجعول له من الشارع إرفاقا به هو السلطنة على تملك الحصة المبيعة في شركته من مشتريها بالثمن الذي اشتراها به وإضافتها إلى حصته ، ومن هنا سمي الحق المذكور بحق الشفعة ، إذ الشفيع بأخذه به وإعماله يشفع حصته ويجعلها شفعا وزوجا بنصيب شريكه الذي ابتاعه المشتري منه.

وبالجملة ، فليس الذي هو للشريك من الحق مجرد تملك الحصة من مشتريها قهرا عليه ليمكن نقل ذلك الى الغير ، بل الذي له من الحق تملكها بما أنها شفعة ، وأنه شفيع وجاعلها منضمة إلى حصته وشفعا بها ، والحق بهذا المعنى لا يمكن نقله الى الغير. نعم إذا أخذ بشفعته وتملكها وصارت له فلينقلها الى من شاء ، فان الناس مسلطون على أموالهم ، وأما قبل التملك فليس له نقل الحق المذكور وتحويله الى غيره.

هذا ، وأما نقل حق الخيار الى غير من جعل الحق له ، وتحويله إليه ، ففي إمكان ذلك وعدمه خلاف ، فصريح شيخنا الأنصاري ـ قدس سره ـ في أول كتاب البيع من (مكاسبه) عدم قابليته للنقل (١) وصريح سيدنا ـ قدس سره ـ فيما سبق من كلامه : قابليته للنقل حيث يقول : «فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله ...»

__________________

(١) قال : «وأما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة والولاية فلا إشكال ، وكذا لو لم يقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار».


وقبل بيان ما هو المختار من الرأيين وتحقيق ذلك نقول :

المتبايعان ـ تارة ـ ينشآن البيع بينهما بالتعاطي فيعطي كل منهما ماله للآخر قاصدا تمليكه إياه بعوض ما يأخذه منه. وأخرى ـ ينشآن البيع بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول كبعت واشتريت. أما في صورة إنشاء البيع بالتعاطي فان فعلهما الخارجي ، وان كان على ما هو المختار ، مصداقا للبيع حيث أن مفهومه تمليك عين بعوض أو تبديل طرف إضافة مالكية بطرف اضافة مثلها لآخر كما هو المختار أو مبادلة مال بمال مع كون المعوض عينا ، كيف ما كان ، فالمفاهيم المذكورة تنطبق على فعلهما الخارجي وتشمله آية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) وآية التجارة (عَنْ تَراضٍ) (٢) ويصح بذلك ويحصل الملك لكل منهما فيما أخذه من صاحبه ، ولكنه ملك جائز ليس فيه اقتضاء اللزوم ، فإن غاية ما يستفاد من تعاطيهما بقصد الملك ملكية كل منهما ما أخذه من الآخر. وأما التعهد والالتزام من كل منهما بالثبات والبقاء على ما ملكه للآخر ، فلا دلالة لفعلهما عليه ، والآيتان إمضاء وتصحيح لما يستفاد من فعلهما ، وهو أصل الملكية ليس إلا كما أن السيرة التي استدل بها على حصول الملك بالمعاطاة غاية ما يستفاد منها معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك وترتيب آثاره عليه ، وأما لزوم الملك وعدم جواز الرجوع فيه ، فلا دلالة لها عليه ، ولعل منشأ تسالم الأصحاب ممن قال بإفادتها الملك أو الإباحة على عدم اللزوم : هو القصور في المقتضي لا لوجود دليل على عدمه ـ من إجماع ونحوه.

هذا إذا كان إنشاء البيع بالفعل. وأما في صورة إنشائه بين المتبايعين

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) النساء : ٢٩.


بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول ، فهيأة الماضي ـ مثلا ـ الواردة على مادة البيع والشراء ، وان دلت على تمليك العين بالعوض وتملكها به ، كالتعاطي بقصد الملك إلا أن إنشاء التمليك والتملك بالقول كما يدل على ما دل عليه الإنشاء بالفعل بالمطابقة وهو تمليك العين وتملكها بالعوض ، كذلك يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على التعهد والالتزام من كل من المتعاقدين بهذا المدلول المطابقي ، والثبات عليه ما لم يكن في البين خيار مجعول له ، ومن هنا أطلق العقد على الإنشاء بالقول فإنه : العهد الموثق المحكم ، لما فيه من الأحكام.

ويشهد لذلك : أن المعاملات الخطيرة ذات الشأن إنما تنشأ ـ نوعا ـ بالعقود دون المعاطاة من جهة فقدان المعاطاة لما كان العقد واجدا له من الالتزام والإحكام. وآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).(١) إنما تمضي وتلزم بالوفاء بالعقود باعتبار وجود المدلول الالتزامي فيها ، وهو التزام كل من المتعاقدين لصاحبه بالثبات والبقاء على ما يقتضيه العقد من التمليك والتملك بالعوض.

ودليل الخيار المجعول بأسبابه وموارده ـ ومنها اشتراط ذلك في ضمن العقد ـ يكون مخصصا لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وحقيقة الخيار نظرة ومهلة لمن هو له فيما التزمه لطرفه بإنشاء العقد من الثبات عليه والالتزام بمقتضاه ، وسلطنة له على نقضه وحله أو إقراره وإبرامه ، وهو ـ بهذا المعنى ـ حق بالمعنى الأخص لمن هو له.

وهل هو متعلق بالعقد من حيث أنه يملك فسخه وإقراره ، أو أن متعلقة العين الخارجة من ملكه الى طرفه من حيث أن ذا الخيار يملك إعادتها إلى نفسه بفسخ العقد؟ وجهان : ـ بل قولان ـ وعليهما يبتني جواز تصرف من

__________________

(١) سورة المائدة : ١.


عليه الخيار في العين المنقولة إليه ممن له الخيار تصرفا منافيا لحق ذي الخيار وعدم جوازه ، كما هو مذكور في فصل أحكام الخيار.

فان قلنا : إن متعلق حق الخيار لمن جعل له ، هو العين الخارجة عن ملكه الى ملك طرفه وانه يملك إرجاعها إليه بفسخ العقد ، فلا يجوز لطرفه التصرف المنافي لحقه فيما انتقل منه إليه ، إذ هو تصرف في متعلق حقه مناف له فإنه لو اختار فسخ العقد لا يقدر على إرجاع العين اليه فيما لو كان تصرف من عليه الخيار فيها بالبيع ـ مثلا ـ أو العتق أو الإتلاف.

نعم لو قلنا بأن متعلق حق ذي الخيار نفس العقد من حيث قدرته على فسخه وإقراره ، فإن التصرف بالبيع والعتق ونحوه ممن عليه الخيار لا ينافي حق ذي الخيار من حيث الاقتدار على فسخ العقد لو كان هو المختار. غاية الأمر ان المتصرف يضمن له عند فسخه مثل ما تصرف فيه أو قيمته.

وهل الخلاف بين سيدنا الخال المصنف ، والشيخ الأنصاري ـ قدس سرهما ـ في جواز نقل الخيار وتحويله الى غير من هو له وعدم جوازه مبنيّ على الخلاف في متعلقة؟ الظاهر عدم الابتناء عليه ، فان الشيخ ـ قدس سره ـ في فصل أحكام الخيار ـ يختار ـ أو يقرب ـ تعلقه بالعقد ، حيث أنه بعد أن يذكر حجة القول بمنع التصرف وان الخيار حق يتعلق بالعقد المتعلق بالعوضين من حيث إرجاعهما بحل العقد الى ملكهما السابق ، فالحق ـ بالآخرة ـ متعلق بالعين التي انتقلت منه الى صاحبه فلا يجوز أن يتصرف فيها بما يبطل ذلك الحق بإتلافها أو نقلها الى شخص آخر ـ يقول : «هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه المنع ، لكنه لا يخلو عن نظر ، فان الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حال تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد المتمكن في حالتي وجود العين وفقدها


فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف جوازا ومنعا ، فالمرجع فيه سلطنة الناس على أموالهم ـ الى أن يقول ـ : فالجواز لا يخلو عن قوة في الخيارات الأصلية».

وهنا يجزم بعدم قابليته للنقل ، حيث يقول ـ في أول كتاب البيع ـ : «وأما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة والولاية ، فلا إشكال وكذا لو لم تقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار».

وعلى كل ، فالظاهر عدم قابلية نقل حق الخيار وتحويله الى غير من جعل له ـ مطلقا ـ سواء قلنا إنه متعلق بالعين المنقولة منه الى صاحبه أم إنه متعلق بالعقد.

أما على القول بتعلقه بالعين ، بمعنى أن ذا الخيار فيما إذا كان هو البائع ـ مثلا ـ يملك إرجاع المبيع الى ملكه قهرا على المشتري بفسخ العقد فعدم صلاحية نقل الحق المذكور بهذا المعنى إلى المشتري من الوضوح بمكان ، فإنه إذا صار ذا خيار ـ فرضا ـ بنقل البائع خياره اليه ، فمرجع ذلك الى أنه يملك إعادة الثمن اليه قهرا على البائع بفسخ العقد ، وهذا غير ما كان للبائع من الحق ، وإنما هو حق جديد له إذ العلقة والإضافة الضعيفة المعبر عنها بالحق كانت بين البائع وبين ما نقله بالبيع إلى المشتري ، وهو المبيع والحادثة اضافة ناقصة بين المشتري وبين الثمن ، وهي غير الإضافة التي كانت للبائع. ومن الواضح ان ذا الحق إنما يتسلط على نقل حقه الى الغير فيما إذا كان قابلاً للنقل والتحويل ، وليس له جعل حق للغير لم يكن هو المجعول له إذ جعل الحقوق لأربابها من وضائف الشارع المقدس.

هذا إذا قلنا : إن متعلق حق البائع هو العين المبيعة. وأما إذا قلنا إن متعلق الحق هو العقد الواقع بينهما ، فعدم جواز نقله وتحويله الى الغير


وان لم يكن بذلك الوضوح ، فإنه يمكن أن يقال : إن العقد الواقع بين البائع والمشتري كان متعلق حق البائع فيما لو كان الخيار له ، فزمامه بيده فله حله ونقضه ، وله إقراره ، وإحكامه.

وهذا الحق الذي كان للبائع بالمعنى المذكور ، أعني السلطنة على فسخ العقد وإقراره يمكن نقله وتحويله إلى المشتري بالمصالحة عليه بعوض أو بدونه ، وعمومات الصلح تشمله ، فيكون المشتري ذا الخيار بعد الصلح ، وتسليم زمام الحق إليه.

هذا ولكن لقائل أن يقول : إنا ذكرنا فيما سبق أن إنشاء البيع الذي حقيقته تبديل طرف إضافة مالك المثمن بطرف إضافة مالك الثمن إذا كان بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول فإنه كما يدل بالمطابقة على تبديل كل من المتعاقدين المثمن بالثمن في عالم الاعتبار والإنشاء ، كذلك يدل بالدلالة الالتزامية على التزام كل منهما لصاحبه بالثبات والبقاء على هذا التبديل وبمقتضى إمضاء الشارع وحكمه بلزوم ما التزمه كل منهما لطرفه بإنشائه بقوله تبارك وتعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يملك كل منهما على صاحبه ـ مضافا الى المال الذي ملكه إياه ـ ثباته والتزامه بعدم التعدي عن حدود التبديل المنشأ بالعقد. ومن هنا سمي اللزوم المذكور «لزوما حقيا» فان كلا منهما له على طرفه حق الالتزام بما تعهده له من الثبات والبقاء على ما أنشأه من التبديل.

هذا إذا لم يكن لأحد المتعاقدين خيار مجعول من الشارع المقدس أو من المتعاقدين بالشرط في ضمن العقد.

وأما لو كان لأحدهما خيار مجعول من الشارع أو من المتعاقدين فمن له الخيار منهما كما يملك ما التزم به صاحبه له ، كذلك يملك ما التزمه هو لصاحبه ، فمن حيث ملكيته لما التزمه صاحبه له يكون العقد بالنسبة الى صاحبه لازما لا ينفسخ بفسخه ، ومن حيث ملكيته لما التزمه لصاحبه يكون


العقد بالنسبة إليه جائزا.

وبالجملة ، فغاية ما يمكن أن يستفاد من جعل الخيار أن يكون للمجعول له من الحق مهلة النظر في مدة الخيار في التزامه الذي التزمه لصاحبه بأن يحكمه ويبرمه أو ينقضه ويحله ، وأما نقل هذا الحق وتحويله الى صاحبه الذي هو ملزم بالتزامه والعقد لازم بالنسبة إليه ليكون هو صاحب الحق عليه ، بعد أن كان الحق له عليه ، فاستفادة السلطنة على هذا التحويل من جعل الخيار لشخص من الشارع أو من المتعاقدين بالشرط مشكل غايته.

هذا ، وأما نقل الخيار الى ثالث ، فتارة يجعله من له الخيار كوكيل عنه في إنشاء الفسخ والإقرار مع رعاية مصلحة ذي الخيار فيما يختاره من الفسخ أو الإقرار ، فالظاهر عدم الإشكال في ذلك ، فإنه ليس من نقل حق الخيار وتحويله الى الغير ، بل هو كتوكيل منه على اعمال خياره واعتماد منه على حسن اختياره.

وأما نقله الى الغير على نحو ما ذكرنا من التحويل الى طرفه بمعنى تسليم زمام الحق إليه بأن يكون هو ذا الخيار بعد التسليم ومن كان له الخيار مسلوب الاختيار في أمر العقد ، فهو ما ذكرنا أنه مشكل غاية الإشكال ، بل الظاهر عدم قابلية حقه المجعول له لنقله الى الغير بالمعنى المذكور.

فان قلت : أليس للبائع ـ مثلا ـ حين إنشاء البيع جعل الخيار للغير بالشرط في ضمن العقد بنحو يكون المجعول له هو صاحب الحق ، والجاعل لا خيار له ، ولا اختيار في أمر عقده ، بل تكون سلطنة الفسخ والإقرار لذلك الغير ، فاذا صح له جعل السلطنة المعبر عنها بالحق عند العقد للغير فلم لا يصح نقلها الى الغير بعد أن جعلت له عند العقد.

قلت : الفرق بين جعل العاقد الخيار للأجنبي عند العقد ، وبين نقله الخيار المجعول له اليه بعد العقد واضح ، فإنه عند العقد له السلطنة


التامة على ماله ، ومقتضى عموم سلطنته عليه جواز نقله الى الغير بالبيع اللازم أو البيع غير اللازم أي المجعول فيه الخيار له أو لغيره بالشرط في ضمن العقد ، فجواز جعل الخيار للغير حال العقد من مقتضيات سلطنته على ماله. أما نقل حق الخيار المجعول له حال العقد وتحويله الى الغير بعد العقد ، فليس من مقتضيات سلطنته على ماله ، فإنه حال نقل الخيار لم يكن المال له ، بل للمشتري ، والخيار المجعول له حال العقد من الشارع أو بسبب الشرط في ضمن العقد مقتضاه سلطنته على إقرار العقد أو حله ونقضه ، لا الأعم من ذلك ومن توليته الغير على البدل.

وبالجملة ، لم يتضح قابلية نقل حق الخيار الى الغير كما اختاره سيدنا المصنف ـ قدس سره.

ومع الشك ، فالأصل عدم الانتقال بنقله.

هذا ما كان من أمر نقل الحقوق الثلاثة إلى الغير ، وأما قابلية انتقالها الى الوارث ، فيمكن أن يقال في وجهه بأن الوارث يقوم مقام المورث فيما كان له من مالكية وواجدية اعتبارية ، فيكون له ما كان لمورثه من ملك وحق بانتقال ذلك منه اليه ، ففيما نحن فيه من حق الشفعة ، كما تنتقل إليه بالإرث ملكية الشقص الذي كان مملوكا لمورثه عند الموت ، فكذا ينتقل إليه بالإرث حق الشفعة الذي كان لمورثه في الشقص المبيع في شركته.

وعليه ، فله الأخذ بحق الشفعة الذي كان لمورثه وورثه منه الذي مرجعه السلطنة على تملك حصة شريكه المبيعة في شركته من مشتريها بالثمن الذي اشتراها به ، قهرا عليه ـ فيقوم الوارث مقام المورث ويكون له ما كان لمورثه من حق تملك الشقص من مشتريه بذلك الثمن.

وكذا حق الرهانة الذي مرجعه سلطنة المرتهن على استيفاء دينه الذي


له على الراهن من الرهن ببيعه واستيفاء مقدار الدين من ثمنه ، فيرث الوارث ذلك الحق من مورثه ، ويستوفي الدين الذي ورثه منه من الرهن على النحو الذي كان لمورثه.

وهكذا حق الخيار الذي مرجعه سلطنة ذي الحق على إقرار العقد وحله ، فالوارث للبائع ـ مثلا ـ يرث حقه ، فيتسلط على ما كان مورثه مسلطا عليه من إقرار العقد وحله ، فان أقره ورث ما ملكه مورثه من ثمن المبيع ، وإن حله بفسخه رجع المبيع الى ملك مورثه ملكية آنية استطراقية الى ملك وارثه ، نظير ملكية الميت لديه نفسه ، فإنها عوض نفسه التي أزهقت بالقتل ، فيملكها ثم يرثها الوارث منه.

وبالجملة ، فلا ملازمة بين قبول الحق للانتقال بالإرث وبين قبوله للنقل بالمصالحة عليه فقد يكون الحق قابلاً لأحدهما دون الآخر.

هذا ، ولو شك في شي‌ء مجعول من الشارع أنه من سنخ الأحكام أو من سنخ الحقوق ، فان دل الدليل على قابليته للانتقال أو الإسقاط يستكشف من ذلك أنه حق ، إذ الحكم غير قابل لكل منهما ، وإلا فالأصل يقتضي عدم سقوطه بالإسقاط وعدم انتقاله بالإرث ، ولا بالنقل ، كما انه لو علم كونه حقا وشك في قابليته للنقل أو الانتقال كان الأصل عدمهما.

بقي شي‌ء ينبغي التنبيه عليه : وهو أنه لو أحرز كون المجعول حقا قابلاً للنقل والاسقاط كحق التحجير مثلا ـ فهل يصح جعله ثمنا في البيع ربما يقال بصحة ذلك بدعوى أن حقيقة البيع تمليك عين بعوض في قبال الهبة التي هي تمليك مجاني ، ويكفي في العوضية جعل البائع على المشتري شيئا يحصل منه نفع يعود إليه في قبال العين الخارجة من ملكه إلى المشتري فلو جعل عليه إسقاط حق تحجيره ـ مثلا ـ على الأرض المباحة عوض ما ملكه من العين ليسبق إليها البائع فيحجرها له ، كان مصداق تمليك العين


بالعوض ، وأولى بذلك ما لو جعل العوض نفس الحق لينتقل منه إليه في قبال ما انتقل منه اليه من العين.

هذا ، ولكنا نقول : إن حقيقة البيع ليس مطلق تمليك العين بعوض من المشتري ، ولو كان من قبيل إسقاط حق ينتفع به البائع ، بل ولا تبديل إضافة بإضافة أخرى ولو لم تكن من سنخ إضافة البائع ، بل حقيقته ـ لغة ـ والمتبادر منه عرفا ـ : إنشاء تبديل عين هي طرف لإضافة مالكية بطرف إضافة مثلها لآخر في ظرف قبوله ذلك.

توضيح ذلك : إن الملكية التي هي جدة اعتبارية وعلقة واضافة بين المالك والمملوك لها طرفان : طرف يرتبط ويتعلق بالمالك ، وآخر بالمملوك فحقيقة الإرث انحلال الإضافة والعلقة من طرفها المتعلق بالمالك وارتباطها بالوارث مع بقاء التعلق من طرفها الآخر المتعلق بالمملوك على ما كان عليه ، فان الوارث يقوم مقام المورث ويأخذ بزمام ما كان المورث آخذا به.

وأما البيع ، فحقيقته : حل طرف علقة المالك للمثمن وإضافته من جانب مملوكه وربطها بطرف إضافة المشتري ، وحل إضافة مالك الثمن من ذلك الجانب أيضا ، وربطها بمكان علقة المالك للمثمن المحلولة.

وأما الإضافتان ـ من حيث اتصاف كل منهما بكونها مالكية ـ فلم يطرأ عليهما تغيير وتبديل ، وانما التغيير والتبديل في المملوكية ، فالبايع إذا كان أصيلا قبل البيع ، كان مملوكه المثمن ، وبعد البيع يملك الثمن ، والمشتري بالعكس. وفيما إذا كان وكيلا أو وليا ، فموكله ـ أو المولى عليه ـ يكون كذلك.

ومن هنا نقول ـ على ما هو التحقيق ـ : لا بد في إنشاء البيع أن يكون البائع ـ أصيلا كان أم وكيلا أم وليا أم فضوليا ـ قاصدا دخول


المثمن في ملك مالك الثمن عوضا عما يخرج من ملك مالك الثمن الى ملك مالك المثمن ، وكذا المشتري بالنسبة إلى الثمن ، فيقصد دخوله في ملك مالك المثمن عوضا عما يخرج من ملك مالك المثمن الى مالك الثمن ، فبيع الغاصب العين لنفسه إذا لم يسبق منه بناء وادعاء لملكية العين المغصوبة ، وأنها كسائر أملاكه ـ باطل غير صالح للتصحيح بإجازة المالك أصلا ـ لا له ولا للغاصب ، كما نبهنا عليه في بيع الفضولي.

إذا عرفت ذلك ، تبين لك عدم صحة جعل الحق بالمعنى الأخص ثمنا في باب البيع ، لا بمعنى جعل الثمن إسقاطه ، إذ هو غير قابل للانتقال الى الغير ، لأنه فعل ذي الحق ، وهو المشتري ، ولا بمعنى جعل أصل الحق ثمنا ، فإنه ، وان كان قابلاً للنقل الى الغير حسب الفرض ، ولكنه يتوقف ذلك على أن يكون حقيقة البيع تبديل إضافة بإضافة أخرى ، وقد ذكرنا أن حقيقة البيع تبديل طرف إضافة مالكية بطرف إضافة مثلها لآخر فان المتبادر ـ عرفا ـ من لفظ البيع والمرتكز في أذهانهم أنه تبديل الأموال بعضها ببعض في عالم الإنشاء والاعتبار.

ويشهد لذلك تعريف (صاحب المصباح) البيع بأنه : مبادلة مال بمال (١).

وبالجملة ، فجعل ثمن المبيع من سنخ الحقوق مشكل غاية الإشكال فإنه من قبيل تبديل المملوك بالملك ، إذ الحق ملك ناقص ، لا من قبيل تبديل المملوك بالمملوك الذي هو معنى البيع ـ كما ذكرنا.

نعم : يمكن نقل الحق المذكور الى الغير بالمصالحة معه بعوض ـ

__________________

(١) ونص عبارته ـ كما في مادة بيع ـ : «والأصل في البيع : مبادلة مال بمال».


عينا كان أم منفعة أم حقا مثله قابلاً للنقل وذلك آمر آخر ، فإنه من الصلح لا من البيع ، ولا كلام لنا فيه. كما أن جعل الأجرة في باب الإجارة حقا مشكل كذلك ، فإنها كالبيع معاوضة بين مالين غير أن المعوض فيها المنافع أو الأعمال ، وفي البيع : الأعيان. والله تعالى هو العالم.

هذا آخر ما علقناه على (رسالة الفرق بين الحق والحكم) لسيدنا الخال المصنف ـ قدس سره ـ والحمد لله رب العالمين.


رسالة

في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده



بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة : اشتهر بين الفقهاء ـ سيّما المتأخرين منهم ـ : أن كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، حتى أسسوها قاعدة كلية وأرسلوها إرسال المسلمات ، بل صرح بعضهم بكليتها ، طردا وعكسا ، وهي : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده (١).

__________________

(١) أقول : هذه قاعدة ذكرها الفقهاء ـ قدس الله أسرارهم ـ في مقام بيان الضابط لتمييز ما يضمن فيه مورد العقد الفاسد ومصبه مما لا يضمن فيه مورده.

وليست هي لبيان سائر موارد الضمان.

بل هي خاصة بموارد العقود الفاسدة ، وما كان منها أقرب الى كونه إيقاعا من كونه عقدا ، كالخلع والجعالة.

ومفادها : أن كل ما صدر من العقود وما يلحق بها على جهة المعاوضة فالفاسد منه كالصحيح مقتض للضمان ، وما صدر منها لا على جهة المعاوضة ، بل على وجه المجان ، ففاسده كصحيحه لا يقتضي الضمان.

مثلا : لو بذلت الزوجة مالا للزوج ليخلعها ويخلصها عن ربقة الزوجية ، فخلعها على ما بذلت ، وكان الخلع فاسدا لعدم اجتماع شروط صحته ، يضمن لها ما بذلته له لكونها لم تبذله مجانا ، بل عوضا عن خلاص نفسها عن تلك الربقة وكذا الكلام في الجعالة في صورة فسادها ، حيث أن العامل لم يبذل عمله تبرعا ، وانما بذله بإزاء الجعل ، فيضمن الجاعل له ما استوفاه من عمله بأجرة مثله.

ثم إن من عبر عن القاعدة بقوله : «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ومن عبر عنها بقوله : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فالمفاد والمقصود فيهما واحد.

ولعل المعبر بالعبارة الثانية قصد تعميم القاعدة للإيقاعات المشتملة على التعهد والضمان ـ كما ذكرنا ـ


ثم إن ما ذكرناه أخص مما أطلق بعض في تعداد أسباب الضمان : القبض بالعقد الفاسد ، فإنه يشمل ما لم يكن مضمونا بصحيحه كالعارية. بل وسائر التمليكات المجانية ، فلا بد من حيث تخصيص القاعدة أو تعميمها من النظر الى مدركها ، فان كان هناك ما يستفاد منه عموم القاعدة كحديث : «على اليد» (١) وجب تخصيصها بالكلية الثانية ـ بعد تسليمها ـ لورودها عليه.

وكيف كان ، فهنا قاعدتان : إحداهما إيجابية ، وهي «كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» والأخرى سلبية وهي : «كل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

والكلام في الكلية الإيجابية يقع ـ مرة ـ في معناها ، وأخرى ـ في مدركها :

أما معناها ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : أما كلمة (ما) فيحتمل أن تكون كناية عن المقبوض باعتبار القبض أو ما بحكمه من الاستيفاء للعمل لأنه الموجب للضمان والسبب له بلا واسطة ، أو عن العقد ـ كما وقع التعبير به في بعض العبارات ، لأنه سبب لما يترتب عليه من القبض ، وموجب له بواسطته ، وبشرط تحققه.

ويبعده ـ مع كونه مرجوحا ـ بالنسبة إلى الأول ، لما عرفت من لزوم الواسطة في النسبة ـ : انه انما يتم في العقد الصحيح ، وأما الفاسد فلا

__________________

(١) ونص الحديث هكذا : «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ذكره العجلوني في (كشف الخفاء : ج ٢ حديث ١٧٦٨) عن عامة كتب الصحاح ، ونقل عن الترمذي وأبي داود بلفظ (تؤدي). وورد ذكره بصيغتيه ـ أيضا ـ في عامة كتب الفقه والحديث ـ من الفريقين.


مدخلية له بنفسه في التأثير ـ بالمرة ـ (١).

__________________

(١) أقول : إن ما ذكره ـ قدس سره ـ وان كان له وجه ـ ولكن يمكن أن يقال إن الأنسب أن تكون كلمة الموصول في كلام من عبر بها بقوله : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كناية عن العقد أو ما يشبهه من الإيقاع ، فإنه ـ مضافا الى ما ذكرناه من أن كل من ذكر هذه القاعدة بأي تعبير كان ـ غرضه بيان الضابط لتمييز الموارد التي يضمن فيها مصب العقد الفاسد مما لا يضمن فيه ذلك. وعليه ، فالأظهر لمن عبر بالموصول : أن يريد به الكناية عن العقد ، لا المقبوض باعتبار القبض ـ :

ان الموصول في (ما يضمن بصحيحه) إلخ مبهم ، تفسره صلته. والأنسب فيما يتصف بالصحة والفساد هو العقد ، لا المقبوض باعتبار القبض.

وأما قوله «وأما الفاسد فلا مدخلية له بنفسه في التأثير بالمرة».

فهو مبني على ان الباء في قولهم «بصحيحه» و «بفاسده» للسببية التامة.

فلم لا تكون لمطلق السببية ، ولو كانت ناقصة.

فإن الموجب للضمان في الفاسد ، وان كان هو قبض العين ولكن المنشأ له هو العقد.

أو تكون الباء للظرفية ، نحو قوله تعالى (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (١) وقوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) (٢) فيكون المراد بقولهم (رحمهم الله) «ما يضمن بصحيحه» العقد المضمون مورده ومصبه في صحيحه مضمون ذلك في فاسده ، فيكون اسناد المضمونية إلى العقد ووصفه بها من قبيل الإسناد الى غير ما هو له والوصف بحال المتعلق.

__________________

(١) سورة القمر : ٣٤.

(٢) سورة آل عمران : ١٢٣.


__________________

وعلى كل ، فالظاهر اتحاد المفاد في التعبيرين وان الموضوع في كل منهما هو العقد.

ثم إن القاعدة المذكورة ـ أصلا وعكسا ـ لم تكن مورد نص ـ بالخصوص ـ ولا إجماع معتبر. وانما استفيد أصلها من أدلة احترام مال المسلم وعمله. ومن جملتها حديث «على اليد.» المشتهر بين الفريقين. ولما كان دليل الاحترام مورده ما إذا لم يسقط المالك احترام ماله وعمله ببذله ـ مجانا ـ وتبرعه به ، كما أن عموم «على اليد» مخصص بأدلة التسليطات المجانية ، وأيدي الأمانة ، استفيد من ذلك عكسها. وبما أن مدركها منحصر بأدلة الاحترام الساقط بالاقدام على المجان ، وعموم «على اليد.» المخصص بأيدي الأمانة ، فلا بد أن يختار لها معنى يوافق مدركها.

وعليه فلو فرض أن ظاهرها أن العقد الذي كان له ـ بالفعل ـ فردان صحيح ، وفاسد ، وكان الصحيح منهما موجبا للضمان ، فالفاسد ـ أيضا ـ مقتض للضمان ، فالبيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة ـ بناء على كونهما بيعا فاسدا واجارة فاسدة ـ مقتضيان للضمان ، إذ البيع الصحيح موجب له. وكذا الإجارة الصحيحة ، ففاسدهما كذلك.

هذا ، ولكن لما كان الضمان فيهما لا يوافق المدرك حيث أن التسليط فيهما مجاني ، ومقتضاه عدم الضمان فيهما ، فلا بد من رفع اليد عن هذا الظهور المفروض واختيار معنى للقاعدة يطابق المدرك بأن يقال : معناها إن كل شخص من العقود لو فرض كونه صحيحا ، وكان ـ على الفرض موجبا للضمان ـ فهو مقتض للضمان في فرض الفساد. أما لو لم يكن ـ على فرض صحته ـ موجبا للضمان ، فلا ضمان فيه مع فرض فساده. وهذا ما اختاره البعض في معنى القاعدة ، وان استضعفه الشيخ المحقق الأنصاري ـ قدس سره ـ حيث قال : ـ في مكاسبه أوائل كتاب البيع ـ : «وربما يحتمل في


__________________

العبارة أن يكون معناها أن كل شخص من العقود يضمن به لو كان صحيحا يضمن به مع الفساد ، ورتب عليه عدم الضمان فيما لو استؤجر بشرط أن لا أجرة ـ كما اختاره الشهيدان ـ قدس سرهما ـ أو باع بلا ثمن ـ كما هو أحد وجهي العلامة في (القواعد). ويضعف بأن الموضوع هو العقد الذي وجد له ـ بالفعل ـ صحيح وفاسد ، لا ما يفرض تارة صحيحا واخرى فاسدا ـ فالمتعين بمقتضى هذه القاعدة : الضمان في مسألة البيع ، لأن البيع الصحيح يضمن به ـ نعم ، ما ذكره بعض من التعليل لهذه القاعدة بأنه أقدم على العين مضمونة عليه ، لا يجري في هذا النوع ، لكن الكلام في معنى القاعدة ، لا في مدركها» انتهى.

أقول : بعد ما ذكرنا : من ان هذه القاعدة المذكورة لم ترد في نص ولا إجماع معتبر ، وإنما هي مخرجة ومستفادة من أدلة : احترام مال المسلم وعمله ، المختص بصورة عدم إقدام مالكه على إسقاطه والتبرع به ، ومن عموم «على اليد» المخصص بأدلة التسليطات المجانية وأيدي الأمانة. فالمناط والمتبع شمول المدرك للمورد وعدم شموله له ، ولا اعتبار ـ بعد ذلك ـ بظاهر لفظ القاعدة إذا كان المدرك خاصا بصورة الإقدام على الضمان ، ولا يشمل التبرع والمجان فلا بد من التصرف في الظهور ـ لو كان ـ

مضافا الى ما قد يقال : بأن قضية كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، شأنها شأن جميع القضايا الحقيقية في كونها منحلة إلى شرطية شرطها عقد وضعها ، وجزاؤها عقد حملها. فمعنى «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هو انه لو وجد عقد ـ وكان على تقدير وجوده وصحته مما فيه الضمان ـ فهو على تقدير فساده أيضا فيه الضمان.

هذا أصلها ، وأما عكسها ، فهو أنه لو وجد عقد ، وكان على تقدير


ثم الظاهر إرادة التدارك من الضمان (١) وهو الظاهر من كون الشي‌ء

__________________

وجوده وصحته مما ليس فيه الضمان ، فهو على تقدير فساده ليس فيه الضمان وهذا المعنى الظاهر من القضية الحقيقية ظاهر الانطباق على ما احتمله ذلك البعض ـ كما لا يخفى ـ فان البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة لو فرض كونهما صحيحين لا ضمان فيهما. فهكذا مع فرض فسادهما.

ثم ان هذا بناء على ان إنشاء البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أجرة مصداقان للفاسد منهما ، وأما بناء على كونهما مصداقين للهبة والعارية الصحيحتين بناء على صحة إنشاء عقد بلفظ آخر مع نصب قرينة على المراد ، أو انهما مصداقان للفاسد منهما بناء على عدم صحة ذلك ، فعدم الضمان فيهما واضح ، حيث أنه لا ضمان في الهبة والعارية مطلقا.

__________________

(١) الضمان : مصدر : ضمن الشي‌ء ـ إذا تعهد به ، وهو مأخوذ من دخول شي‌ء في شي‌ء. مثلا : الدلالة التضمنية تقال لمكان دخول المدلول التضمني في المدلول المطابقي ، وكون الدلالة عليه في ضمن الدلالة المطابقية ، والمراد به ـ هنا ـ تعهد الإنسان بمال شخص آخر. وإنما سمي (ضمانا) لدخول المال المضمون في عهدة الضامن وذمته ، وهو ملزوم لكون درك المضمون عليه ، وخسارته من ماله ، فليس كون الدرك والخسارة من مال الضامن نفس الضمان ، وإنما هو لازم له.

ثم إن إطلاق الضمان واستعماله في التعهد قد يكون بلحاظ معناه المصدري ، أعني : نفس التعهد بالمال وجعله في العهدة بما هو فعل الضامن ببذل العوض في مقابله ، وقد يكون بلحاظ معناه الاسم المصدري المتأخر عن اللحاظ الأول رتبة اعني كون المال في العهدة ، ودخوله فيها الذي هو نتيجة الجعل ، بل ولو لم يكن بجعل منه ، بل كان بسبب غير اختياري للضمان ، كما في ضمان المقبوض بالسوم ، وكضمان المتلف لمال الغير حال النوم ـ مثلا.

وبلحاظ المعنى المصدري استعمل الضمان في النبوي المعروف : «الخراج


__________________

بالضمان» (١) على خلاف ما استفاده أبو حنيفة ، فإنه فهم منه المعنى الاسم المصدري ، في مورد صحيحة أبي ولاد ـ عند اكترائه بغلا من الكوفة إلى قصر بني هبيرة في طلب غريم له ، فخالف وركبه الى النيل ، ثم الى بغداد ، وأرجعه الى صاحبه بعد خمسة عشر يوما ـ وتراضيا بأبي حنيفة حكما فقال لصاحب البغل : ما تريد من الرجل؟ قال : أريد كراء بغلي ، فإنه حبسه علي خمسة عشر يوما ، فقال أبو حنيفة : إنى ما أرى لك حقا ، لأنه اكتراه الى قصر بني هبيرة ، فخالف فركبه الى النيل والى بغداد فضمن قيمة البغل ، وسقط الكراء. فلما رد البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكراء. فخرج صاحب البغل يسترجع ، فرحمه أبو ولاد مما افتى به أبو حنيفة وأعطاه شيئا وتحلل منه.

وحج في تلك السنة ، واجتمع بأبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ وأخبره بفتوى أبي حنيفة ، فقال ـ عليه السلام ـ : «في مثل هذا القضاء تحبس السماء ماءها والأرض بركاتها» فقال له أبو ولاد : فما ترى أنت جعلت فداك؟ قال ـ عليه السلام ـ : أرى له عليك مثل كراء البغل : ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، وذاهبا من النيل الى بغداد ، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة توفيه إياه.» (٢) الخبر.

وبالجملة ، مستند فتوى أبي حنيفة ما فهمه من قوله (ص) «الخراج بالضمان» من أن مطلق دخول الشي‌ء في العهدة مقتض لاستحقاق منافعه ، ولو كان بغير

__________________

(١) ذكره العجلوني بهذا اللفظ في (كشف الخفاء : ج ١ حديث ١٢٠٥) عن عامة الصحاح.

(٢) مضمون خبر مفصل يذكره الحر العاملي ـ قدس سره ـ في (الوسائل ج ٣ ، أحكام الإجارة ، باب إن من استأجر دابة إلى مسافة فتجاوزها.) حديث (١) طبع طهران إسلامية.


__________________

اختياره ، كالضمان باليد ، فان الخراج ما يخرج من الشي‌ء ، ويتحصل منه من المنافع والنماء ، والباء في قوله «بالضمان» للعوضية والبدلية أو السببية ، فيكون مفاد النبوي المذكور ـ على هذا ـ : إن ما يحصل من العين من النماء والمنفعة بدل ضمان العين ، أو بسببه ، ولو كان الضمان بغير اختيار وإقدام ، بل بحكم من الشارع بمقتضى شمول حديث «على اليد».

هذا ، ولكن المتعين : أن المراد بالضمان في النبوي المذكور ، هو التعهد الاختياري المعاوضي الذي هو فعل الضامن ، وهو ما ذكرنا انه الضمان بالمعنى المصدري ، فإن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي جعل ملكية المنافع والنماء بدلا أو مسببا عن أقدام الشخص على التعهد والضمان المعاوضي ببذل العوض فان الغرض المهم للمتعهد بذلك كون المنافع والنماء له مجانا ، ولا مناسبة في جعل ملكية المنافع ونظيرها بدلا أو مسببا عن الضمان بمعناه الاسم المصدري ، ومجرد كون العين في العهدة ولو لم يكن ذلك بجعل واختيار من الضامن بل بحكم من الشارع بمقتضى عموم «على اليد» وقاعدة الاحترام ، بل بمقتضى ما فهمه أبو حنيفة أن الغاصب لا يضمن المنافع المستوفاة له مما غصبه بعد إرجاع العين له.

ومضافا الى المناسبة المذكورة ، يدل على ما ذكرناه رد الصادق ـ عليه السلام ـ على فتوى أبي حنيفة بذلك اللسان الشديد حيث افتى بعدم ضمان منافع البغل عند المخالفة ، فلو كان الضمان في النبوي بمعناه الاسم المصدري كانت تلك الفتوى هي المتعينة.

فمن رده عليه السلام لها يستكشف تعين إرادة المعنى المصدري الذي ذكرناه ، ولا شبهة في أن الصادق ـ عليه السلام ـ اعرف بمفاد كلام جده (ص) من أبي حنيفة «فإن أهل البيت أدرى بما فيه».


__________________

لا يقال : ان مقتضى ما ذكرت من ان مفاد النبوي : أن الاقدام المعاوضي على الضمان اختيارا موجب لملكية المنافع ـ كون المنافع للعين المقبوضة بالعقد الفاسد غير مضمونة لمالك العين ، لوجود الاقدام المعاوضي بالنسبة إلى العين ، مع أنه لا إشكال في ضمان المنافع المستوفاة ، بل الفائنة تحت يد القابض ـ على المشهور.

لأنا نقول : الاقدام بالعقد الفاسد الذي هو كالعدم لا يكون منشأ لملكية المنافع ، وانما الموجب لملكيتها هو الاقدام بالعقد الصحيح الممضى شرعا.

هذا ، ولكن الغالب الشائع في إطلاق لفظ الضمان في النصوص والفتاوى إرادة التعهد بالمعنى الاسم المصدري أعني كون المضمون في ذمة الضامن وعهدته ، كباب الغصب والمقبوض بالعقد الفاسد وبالسوم ، وباب إتلاف مال الغير ، الى غير ذلك من سائر إطلاقات لفظه ، ومنها إطلاقه في قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» إذ المستفاد منها أن كل عقد أو إيقاع يكون مورده ومتعلقة في عهدة عاقده وموقعه ، يكون في فاسده كذلك ، وما لم يكن في الصحيح في عهدته لم يكن في الفاسد فيها ـ أيضا.

ثم إن ما يستفاد من القاعدة المذكورة كون الفاسد مساويا للصحيح في أصل تحقق الضمان ، وان اختلفا في المضمون وما هو في العهدة ، فإنه في الصحيح : هو المسمى في العقد ، وفي الفاسد المثل أو القيمة ، وأجرة المثل في الإجارة ونحوها.

وهذا الاختلاف مما يقتضيه الصحة والفساد ، وإمضاء الشارع للمعاملة وعدم إمضائه ، وهو اختلاف في لازم الضمان ، لا فيه نفسه ـ كما لا يخفى ـ بل قد يقال : بأن الضمان في الصحيح والفاسد لا يختلف ، إذ هو بالمثل


__________________

أو القيمة في كليهما فإنه إنما يكون بالمسمى في الصحيح قبل القبض وأما بعده فهو بالمثل أو القيمة ، والقاعدة تأسست لموارد ضمان اليد المتحقق بالقبض.

توضيح ذلك : أن عقد البيع ـ مثلا ـ بما أنه موجب لنقل كل من العوضين من ملك مالكه الى ملك طرفه فكل من المتبايعين قبل التقابض يضمن ما انتقل عنه الى صاحبه بعوضه المسمى في العقد المنتقل من صاحبه اليه ، فلو تلف كل من العوضين قبل قبضه من الآخر ينفسخ البيع ويعود كل عوض الى ملك مالكه السابق بمقتضى قوله (ص) «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه» (١) على ما تقرر من حكم التلف قبل القبض في محله.

ثم إنه بالقبض ينتقل الضمان من كل من المتبايعين الى الآخر ، فالبايع قبل القبض كان ضامنا للمبيع بعوضه المسمى ـ كما ذكرنا ـ وبعد القبض يصير المشتري ضامنا له ، ولكن بعوضه الواقعي من المثل أو القيمة ، وكذا المشتري ، فإنه قبل القبض كان ضامنا للثمن بعوضه المسمى في العقد وهو المثمن ، وبعد قبض البائع له يصير ضامنا له بالمثل أو القيمة ، ومعنى ضمان القابض ـ مع كون المقبوض ملكه ـ أنه لو تلف ثم طرأ فسخ للعقد بخيار أو انفساخ بتقايل ، يلزمه رد المثل أو القيمة. وعليه ، فالمثل أو القيمة هو المضمون في الصحيح والفاسد.

والحاصل ، كما أن أصل الضمان ينتقل بالقبض من المالك الأصلي الى

__________________

(١) راجع : كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري وعامة الموسوعات الفقهية في كتاب البيع باب أحكام القبض.


مضمونا عليه بمعنى لزوم الغرامة عليه بالتلف ، والتدارك له بالبدل عنه بحيث يعود الخسران والنقصان في ماله الأصلي ، لا ما قيل في معناه : من محض كون التالف في ملكه وفائتا من ماله ، كما لعله يعطيه قولهم : لو تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال البائع ومضمون عليه ، إذ لا معنى لكون الإنسان ضامنا لمال نفسه.

فعلى الأول ـ يختص العقد في الكلية الإيجابية بعقود المعاوضات ، ودخل غيرها من التمليكات كالوقوف والصدقات والهبات المجانية وغيرها كالعارية ونحوها في الكلية السلبية ، فتطرد الكليتان حينئذ ـ أصلا وعكسا ، كما يظهر من استدلالهم بعدم الضمان في فاسد العقود المجانية بالكلية السلبية ، وهو يدل ـ أيضا ـ على إرادة ما ذكرناه من معنى الضمان في القاعدة.

وعلى الثاني ـ يعم سائر العقود التمليكية من المعاوضات والمجانيات ، واختص في السلبية بغير العقود التمليكية كالعارية والإجارة بالنسبة إلى العين دون المنفعة والوديعة وسائر الأمانات مما لا يكون العقد فيه مملكا.

__________________

المالك الفعلي ، كذلك ينتقل به المضمون من العوض الجعلي ـ اعني المسمى ـ إلى الواقعي ، وهو المثل أو القيمة ، فلا فرق بعد القبض بين المقبوض بالعقد الصحيح ، والمقبوض بالعقد الفاسد.

ثم إنه ، لما كان المناط في الضمان في فاسد ما لو كان صحيحا ، وعدم الضمان ، هو الاقدام عليه وعدم الاقدام ، فلا فرق بين كون الضمان أو عدمه باقتضاء نفس العقد أو بواسطة ما اشتمل عليه من الشرط ، فمثل البيع بلا ثمن والإجارة بلا أجرة ـ بناء على كونهما من البيع والإجارة الفاسدتين ـ يدخل في عكس القاعدة ، لكون التسليط فيهما مجانيا.

ومثل الهبة المشروط فيها العوض والعارية المشروط فيها الضمان الفاسدتين يدخل في أصل القاعدة لكون الاقدام فيهما على الضمان.


ثم المراد من العوض المدلول عليه بالضمان هو العوض الواقعي مثلا في المثليات ، وقيمة في القيميات ، لأنه البدل عنه ، ويحصل به تأديته بعد التلف ، لأن تأدية الشي‌ء بعد تلفه يصدق ـ عرفا ـ بتأدية بدله الواقعي من المثل أو القيمة ، فيكون مندرجا بعد التدارك بذلك في الغاية في حديث «على اليد» وإلا لاختص الضمان فيه بحال بقاء العين في اليد ، والمسمى إنما يكون بدلا وعوضا بشرط إمضاء الشارع لما تقارر عليه المتعاقدان ، ومع عدمه فالبدل هو البدل الواقعي. وحينئذ ، فالعين المضمونة بصحيح العقد أو القبض مضمونة بفاسده أيضا ، من غير اختلاف في أصل معنى الضمان فيهما. وان اختلفا في الكيفية بالمسمى في الأول ، والمثل أو القيمة في الثاني.

ثم ان المقيس والمقيس عليه من عقدي الصحيح والفاسد يشترط أن يكونا متحدين ـ صنفا ـ بمعنى أن يكون صنف واحد ، له فردان صحيح وفاسد ، يقاس فاسدهما بصحيحه في الضمان وعدمه ، كعارية الذهب والفضة أو المشروطة يقاس فاسدهما بصحيحه في الضمان ، لا بغيرهما من صنوف العواري غير المضمونة.

هذا ، والذي يظهر من إطلاق كلماتهم ، عدم الفرق في الفاسد بين كون الفساد من جهة نفس العقد أو فوات ما يعتبر في المتعاقدين منهما أو من أحدهما أو في العوضين ، كذلك ، أو فوات نفس العوض ـ على اشكال فيه ـ وسواء كان المتعاقدان عالمين بالفساد أو جاهلين به ، أو أحدهما عالما والآخر جاهلا.

هذا كله في بيان معنى القاعدة. وأما مدركها.

فعمدة ما يعول عليه ـ بعد الإجماع المستفيض ، وإن أمكن أن يقال فيه : إنه من الإجماع على القاعدة ـ قاعدة الاحترام ، فان المسلم محترم في


نفسه وعرضه وماله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، وعمله محترم أيضا ، وهو من ضروريات الدين ومدلول عليه بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ومعنى احترام ماله حرمة مزاحمته فيه والأخذ منه بالقهر عليه ، بخلاف غيره ممن لم يدخل في ذمة الإسلام من الكفار ، فإنهم ، وان ملكوا أموالهم ، ولذا كلفوا بالفروع من العبادات المالية ـ أيضا ـ المتوقفة على تملكهم لها ، إلا أنه يجوز لنا مزاحمتهم عليها والأخذ منهم بالغيلة أو الغلبة. ولا منافاة بين الملكية وعدم الاحترام ، فان عدم الاحترام أعم من عدم الملكية.

لا يقال : إن غاية ما دل عليه الاحترام حرمة مزاحمة المسلم في ماله وعدم جواز أخذه منه قهرا ، وأين ذلك من الضمان على تقدير المزاحمة بعد التلف ، وإن أثم بها ، وبعبارة أخرى : غاية ما يستفاد منه الحكم التكليفي ، وهو حرمة المزاحمة ، وأما الحكم الوضعي ، وهو الضمان بعد التلف فهو أول الكلام.

لأنا نقول : ان المزاحمة كما يحرم حدوثها يحرم دوامها ، فيجب رفعها بعد حدوثها ، وكما يحصل رفعها بدفع العين المأخوذة مع بقائها ، يحصل ـ عرفا ـ بدفع المثل أو القيمة بعد التلف فيما يقع الضمان بالتأدية الحاصلة برد العين مع بقائها ورد عوضها الواقعي مع التلف كما هو مفاد «حتى تؤدي» في حديث «على اليد».

ودعوى عدم المزاحمة بعد التلف لعدم وجود المال حتى تصدق المزاحمة.

مردودة بما وقع منها الذي لم يزل إلا بالتدارك ، فان عدم الرفع به بعده مع القدرة عليه نوع بقاء للمزاحمة ودوام لها ، فافهم.

وحيث أن نظام العالم في نقل الناس الأموال وبذل الأعمال فيما بينهم لحصول الأغراض الدينية أو الدنيوية ، لا جرم ألقى الشارع زمام ذلك بيد المالك في ماله بحيث له تمليكه لغيره ـ مجانا ـ أو بعوض ـ عينا أو منفعة ـ


أو تسليطه للغير على الانتفاع بماله مع بقائه في ملكه أو تنزيله منزلة نفسه في أعماله وما يتولاه في حاله وان اعتبر في حصول ذلك أمورا ، وجعل لها أسبابا خاصة كالعقود وما يعتبر فيها ، فان ذلك غير مناف للسلطنة المجعولة للمالك بحكم «الناس مسلطون على أموالهم» ولا للاحترام المجعول لمال المسلم.

وإن أبيت إلا دعوى عدم الاحترام في التمليكات المجانية ونحوها مما لا يكون بعوض ، فلا بأس بدعوى جعل الشارع إسقاط الاحترام بيد المالك فله أن يسقط احترام مال نفسه ، فعدم الضمان في فاسد العقود المضمونة بالعوض بصحيحه مناف للاحترام المجعول في مال المسلم بعد أن كان التواطى‌ء بين المتعاقدين على تبديل مال بمال مخصوص ، إذ غاية ما أوجب فساد العقد عدم سلامة المسمى له لا سقوط احترام ماله ، ولا كذلك في غير المعاوضات من العقود مما كان القبض فيه مجانا من التمليكات والأمانات فإن عدم الضمان فيه ـ كما عرفت ـ لا ينافي الاحترام بعد أن كان الاقدام منه على المجانية ، أو لسقوط الاحترام المجعول له إسقاطه ، فظهر ان كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، وبالعكس.

ودعوى أن مرجع التمسك بالاحترام الى التمسك بحديث «على اليد» لأنه المستفاد منه.

فيها ـ مع أن حديث «على اليد» من جملة ما دل على الاحترام في بعض الموارد ، لا الاستدلال بالاحترام استدلال بحديث اليد ـ : أن الحديث لظهور اختصاصه بالأعيان أخص من قاعدة الاحترام الأعم من الأموال والأعمال ، ولذا كان عمل الأجير بالإجارة الفاسدة مضمونا على المستأجر بأجرة المثل ـ كما هو مضمون بالمسمى في الإجارة الصحيحة ، فلا يتم الاستدلال ـ كما عن جماعة ـ بحديث «على اليد» على تمام المدعى من


كلية قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». كما لا يتم الاستدلال عليها بقاعدة الإقدام ـ كما عن بعض ـ منهم الشهيد الثاني في (المسالك) في باب الرهن المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل ، حيث علل الضمان بعد الأجل بأنه دخل القابض على الضمان ، ودفع المالك عليه وان أضاف إليه حديث «على اليد» (١) وكأنه تبع في التعليل بذلك الشيخ فيما حكي عن (مبسوطة) في مواضع ، حيث علل الضمان في موارد كثيرة من البيع والإجارة الفاسدين ، بدخوله على ان يكون المال مضمونا عليه بالمسمى فاذا لم يسلم له المسمى رجع الى المثل أو القيمة ، لأن الاقدام ـ مع أنه لا دليل على كونه موجبا للضمان ومن أسبابه ، وأن إقدام المتعاقدين عليه انما هو على تقدير الصحة لا مطلقا ـ فيه أن ما أقدما عليه بالعقد الفاسد من الضمان بالمسمى لم يثبت لهما وما هو ثابت من العوض بالمثل أو القيمة لم يقدما عليه. وبعبارة اخرى ـ إنما أقدما على الضمان الخاص ، لا مطلق الضمان ، ومع انتفاء الخصوصية لا يبقى المطلق حتى يتقوم بخصوصية أخرى ، وليست من قبيل الدالين والمدلولين بمعنى الإقدام على الضمان وكونه بالمسمى ، حتى لا ينافي انتفاء أحدهما بقاء الآخر.

هذا مضافا الى ما قيل من أن الاقدام أعم من الضمان من وجه ، فقد يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كالتالف بعد البيع قبل القبض ، فإنه لا ضمان على المشتري ، مع تحقق الاقدام منه عليه ، وقد يتحقق الضمان بالعقد الفاسد مع عدم الاقدام عليه ، كالبيع بلا عوض ، والإجارة بلا

__________________

(١) قال ـ في كتاب الرهن ، شرح قول المحقق : ولو شرط : إن لم يؤد أن يكون الرهن مبيعا لم يصح. : «والسر في ذلك أنهما تراضيا على لوازم العقد فحيث كان مضمونا فقد دخل القابض على الضمان ودفع المالك عليه ، مضافا الى قوله (ص) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».


أجرة ، ومع ذلك كيف يكون الاقدام دليلا على الضمان.

اللهم إلا أن يجاب عن الأول بأن الإقدام إنما هو على كون المقبوض مضمونا عليه أو العقد المضمون بشرط القبض ـ كما تقدم ـ

وعن الثاني بأن البيع بلا عوض والإجارة بلا اجرة إن أريد التمليك البيعي أو الاجارتي منهما ، فلا نسلم الاقدام على عدم الضمان الا على تقدير حصول التمليك البيعي أو الاجارتي ، لا مطلقا ، وان أريد التمليك المجاني ـ وان عبر عنه بالبيع أو الإجارة من عقود المعاوضات ـ فلا نسلم الضمان حينئذ ، لسقوطه بالاقدام على عدمه ، فيدخل في عقود التمليكات المجانية التي لا ضمان في صحيحها وفاسدها ـ كما عرفت ـ ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح ان شاء الله تعالى.

فظهر مما ذكرنا أن قاعدة الاقدام لا تصلح أن تكون دليلا ، ولا يبعد حمل كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ ومن تبعه مما ظاهره الاستدلال على الضمان عليه ، على إرادة عدم وجود المانع عن الضمان من الاقدام على المجانية ، لأنه دخل على أن يكون مضمونا عليه ، لا إثبات المقتضي للضمان بالاقدام فينحل كلامهم الى ثبوت الضمان لوجود المقتضي : من اليد ، والاحترام ، وعدم المانع من الاقدام على المجانية ، لأنه دخل على أن يكون مضمونا عليه ، وان كان يكفي في عدم المانع عدم الاقدام على المجانية ، لا الاقدام على عدمها ، إلا أنه لما كان في الواقع كذلك ، وكان أكد في بيان عدم المانع وقع التعبير به في كلامهم.

فالعمدة في الاستدلال على الكليتين ـ : الإيجابية والسلبية ـ : هو ما ذكرنا من الإجماع المستفيض وقاعدة الاحترام ، وبهما تتم كلية القاعدة طردا وعكسا.

ثم ها هنا نقوض وإشكالان :


أما النقوض فمنها ـ النقض على الكلية السلبية باستعارة المحرم الصيد من المحل ، فإنهم حكموا بوجوب الإرسال مع غرامة القيمة للمالك ، فهي عارية فاسدة مضمونة ، مع أن صحيحها غير مضمون.

وفيه ـ مع أنه مبني على وجوب الإرسال ، والغرامة للمالك كما هو أحد القولين في المسألة ، والآخر ـ وجوب رده الى المالك والفداء لله تعالى ، تقديما لحق المالك وجمعا بين الحقين ، وعليه فلا يتم النقض.

مبني أيضا على الضمان مطلقا ، ولو بالتلف قبل الإرسال ، وهو في حيز المنع وحكمهم بالضمان هنا للإتلاف المنبعث عن وجوب الإرسال ، وهو من أسباب الضمان مطلقا في صحيح العارية وفاسدها ، فالكلام منهم مسوق لبيان حكم الإتلاف بالإرسال دون التلف ، دفعا لما لعله يتوهم من عدم الضمان مطلقا ، ولو بالإتلاف ، لأن المالك أقدم بهذه العارية الواجب على المستعير إتلافها على كونه تالفة عليه.

وبالجملة ، فالصواب أن يقال بعدم الضمان على المحرم مع التلف في يده لكونها عارية فاسدة ، وصحيحها غير مضمون ، ففاسدها كذلك والضمان مع الإتلاف بالإرسال لان صحيحها مضمون بالإتلاف ففاسدها مضمون به أيضا.

وربما يقال ـ بل قيل ـ في توجيه الضمان ـ مطلقا ـ بدعوى انتقال القيمة إلى ذمة المحرم بمجرد أخذه له من المحل ، وان كان عارية لوجوب الإتلاف عليه ، إما بخروجه عن ملك المالك بذلك ، فتكون القيمة حينئذ بدلا عن العين ، وان لم يملكها المحرم ، أو بدلا عن الحيلولة مع بقائها على المملوكية مطلقا ، أو الى الإرسال ، لأن الممتنع شرعا كالممتنع عادة وان جاز للمحل صيده بعد الإرسال ـ على التقديرين ـ وعليك باستخراج الثمرة بينهما ، أو بدعوى كونها مضمونة عليه مطلقا ، ولو بالتلف من دون


انتقال القيمة بمعنى كونه في عهدته لكونه من الاقدام على الإتلاف ، والعرضة له ، فيكون القبض قبض ضمان مطلقا بالتلف أو بالإتلاف إلا أن ذلك كله على عهدة المدعي (١)

__________________

(١) ينبغي ذكر حكم الصيد الذي استعاره المحرم من المحل. ثم نعقبه ببيان صحة النقض وعدمه ، فنقول : ينسب الى المشهور : أن الصيد المذكور يخرج عن ملك مالكه باستعارته ويجب على المستعير إرساله ، فلو أرسله على الفور لا يلزمه الا قيمته للمالك ، ولو أبقاه عنده مقدارا فتلف وجب عليه القيمة لحق المالك والفداء لحق الخالق ، وأما رده الى المالك فسيأتي بيان حكمه.

أما خروجه عن الملك باستعارته ، فيمكن استفادته مما تسالم عليه الأصحاب ـ أو اشتهر بينهم ـ أن من أحرم ومعه صيد كان قد اصطاده أو ملكه قبل إحرامه فإنه يخرج عن ملكه ويلزمه إرساله فورا فان لم يفعل ومات يجب عليه الفداء.

واستدل لهم على ذلك بخبر عبد الأعلى ـ أو صحيحه ـ المسؤل فيه «عن رجل أصاب صيدا في الحل فمشى برباطه حتى دخل الحرم فاجتره بحبله حتى أخرجه من الحرم والرجل في الحل قال عليه السلام : ثمنه ولحمه حرام مثل الميتة» فإن تحريم الثمن وجعله كالميتة ظاهران في عدم مملوكيته.

ثم ان خروج ما هو معه من الصيد عن ملكه بالإحرام ـ وان لم يلازم خروج ملك غيره من الصيد المستعار منه مع إحرام المستعير فيمكن بقاء ملكية الغير له وان وجب على المستعير إرساله فورا فان المسئلتين مختلفتان موضوعا ، فجاز اختلافهما حكما وان اتفقتا في وجوب الإرسال ـ الا انه يمكن ان يستكشف من الحكم بخروج الصيد عن ملكية الإنسان بإحرامه ـ وهو تحت يده ـ أن وجوب الإرسال ليس لمحض التكليف بل لخروج الصيد عن ملك المعير وصيرورته من المباحات باستعارة المحرم له فإبقاؤه


__________________

تحت يده ـ وهو محرم ـ بمنزلة اصطياد جديد له حال الإحرام كما هو كذلك فيمن أحرم ـ ومعه صيد ملكه قبل الإحرام ـ وليس ذلك ببعيد بل هو قريب.

نعم قد يقال : ان المستفاد من رواية عبد الأعلى : ان خروج الصيد عن الملك وصيرورته من المباحات إنما هو بدخوله الحرم فيجوز كون ذلك انما هو من خصوصيات الحرم لا مجرد إحرام من هو بيده ، بل قد يستظهر ذلك وعليه فمجرد إحرام المستعير ما لم يدخل به الحرم لا يخرجه عن الملك إلى الإباحة. وعلى كل فالمسئلتان متحدتان حكما وان اختلفتا موضوعا.

ثم انه ـ بناء على ما قربناه من خروج الصيد عن ملك المعير وصيرورته من المباحات باستعارة المحرم له أو مع الدخول به في الحرم ـ لا إشكال في ضمان المستعير لقيمته للمعير فيما إذا كان جاهلا بإحرامه أو بكون يده على الصيد موجبة لخروجه عن الملك.

واما مع العلم بالموضوع والحكم فربما يقال ـ بل قيل ـ بانتفاء الضمان من حيث أن المالك هو المقدم على إتلاف ماله بدفعه لمن يجب عليه إرساله.

وفيه انه لو فرض عدم توسط فعل فاعل مختار بين السبب ـ وهو هنا دفع المعير ـ وبين الأثر المترتب عليه ـ وهو خروجه عن الملك وصيرورته من المباحات ـ لكان الأمر كما ذكر ، إذ الأثر حينئذ ينسب الى السبب ولكن فيما نحن فيه يسند الى المباشر وهو المستعير ، فإنه لو لم يترتب أخذه للصيد الذي هو باختياره على دفع المعير له لا يكون موجبا للتلف بنفسه.

ثم إن المستعير لو عصى ولم يرسله بل دفعه الى المعير ، فالظاهر عدم خروجه عن الضمان ، فيلزمه قيمته للمالك لإتلافه وإخراجه عن ماليته باستعارته وأخذه ، كما يجب عليه الفداء بلا اشكال ، لما ذكرناه من خروجه


__________________

عن ملك مالكه ورجوعه إلى الإباحة الأصلية بمجرد الاستعارة أو مع الدخول به الى الحرم ، فرده الى المعير بمنزلة اصطياد جديد له ، فإنه بعد عوده إلى الإباحة الأصلية يتملكه من شاء بحيازته.

وبالجملة فحدوث الملك الجديد للمعير بالرد اليه لا يوجب رفع الضمان الثابت على المستعير بأخذه له وصيرورته من المباحات.

ولا وجه للقول بارتفاع الضمان بالرد الى المعير وتنظيره بصيرورة الخل المغصوب خمرا عند الغاصب ، فإنه وان ضمنه للمالك بقيمة الخل لكنه لو رجع الى الخلية بوصوله الى المغصوب منه عند رده إليه فإن الغاصب يخرج عن الضمان بذلك.

لأنا نقول : مسألة الصيد لا تشبه هذه المسألة ، فإن الخل بصيرورته خمرا لا يخرج عن الملكية العرفية ، وان انتفت شرعا. ومن هنا مع ضمان الغاصب للمالك قيمة الخل يبقى له حق الاختصاص فملكيته لم تبطل وان ضعفت شرعا فعبر عنها بالحق الذي هو مرتبة ضعيفة من الملك. وعليه فلو عاد الخمر إلى الخلية بوصوله الى المغصوب منه أو قبل ذلك يرتفع ضمان الغاصب للقيمة حيث كان لجهة الخمرية وقد ارتفعت بعوده إلى الخلية ووصل الى المغصوب منه تمام ما غصب منه ، فلا وجه لبقاء الضمان وعدم ارتفاعه. وهذا بخلاف ما نحن فيه من مسألة الصيد الذي استعاره المحرم ، فإنه بناء على ما قربناه من خروجه عن ملك مالكه باستعارة المحرم له أو مع الدخول به الى الحرم وعوده إلى الإباحة الأصلية ـ كما كان قبل اصطياده يملكه كل من حازه ووضع يده عليه ما لم يكن محرما ، وشأن مالكه السابق ـ وهو المعير ـ شأن غيره بالنسبة اليه ، ولم يبق له حق اختصاص به ـ أصلا ـ وكان ضمان المستعير لقيمته من جهة إتلاف ماليته وملكيته السابقة ، والذي


__________________

حصل للمعير برده اليه وأخذه ملكية ومالية جديدة بعد انعدام الاولى وهي المضمونة ولم تعد. ومن هنا : لو فرض أن المستعير أرسله ثم اصطاده المعير ، فهل يمكن القول بارتفاع الضمان من المستعير بدعوى عود المضمون الى مالكه السابق؟ لا أظن ان القائل يلتزم بذلك. والسر فيه أن الاصطياد ملكية جديدة وليست عودا للملكية السابقة ، وأي فرق بين الاصطياد بعد الإرسال والرد الى المعير وأخذه بناء على عدم توقف الخروج عن المالية على الإرسال ، بل حصوله بأخذ المستعير للصيد أو بإدخاله إلى الحرم؟

إذا تمهد ذلك ، فنقول : لا نقض على السالبة الكلية أعني : (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) بضمان الصيد المستعار للمحرم من المحل ، وقد وجه شيخنا الأنصاري ـ قدس سره ـ عدم النقض بقوله : «الا أن يقال ان وجه عدم ضمانه بعد البناء على انه يجب على المحرم إرساله وأداء قيمته ان المستقر عليه قهرا بعد العارية هي القيمة لا العين ، فوجوب دفع القيمة ثابت قبل التلف بسبب وجوب الإتلاف الذي هو سبب لضمان ملك الغير في كل عقد لا بسبب التلف» انتهى.

وحاصل هذا التوجيه : أن الضمان الموجود في مورد النقض ـ وهو استعارة المحرم للصيد ـ غير المنفي في القضية السالبة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) فإن المنفي ضمان العين بقيمتها بتلفها وهذا ضمانها بإتلافها فان المتعهد به والمستقر عليه بعد الاستعارة هو قيمة الصيد الثابتة في العهدة قبل تلفه لحكم الشارع بوجوب إتلافه بإرساله فهو ضمان إتلاف للصيد ، والإتلاف وان لم يتحقق بأخذ الصيد ، وانما هو حاصل بالإرسال ، ولكن لما وجب على المحرم الإرسال ـ فورا ـ فهو ـ أي الإتلاف ـ بمنزلة الحاصل فعلا.


__________________

وبالجملة ، فالمنفي في القضية السالبة ضمان تلف العين فيما لا يضمن بصحيحه من العقود المجانية ـ ومنها مورد النقض ـ والموجود ضمان إتلافها وهو حاصل في جميع العقود ـ معاوضية كانت أم مجانية.

هذا ، ولكن : بناء على ان إتلاف مالية الصيد وإرجاعه إلى الإباحة الأصلية لا يتوقف على إرسال المستعير له ، بل هو حاصل باستعارة المحرم وأخذه ، كما نسب الى المشهور ـ أو بإدخاله له الى الحرم ـ كما هو المستفاد من رواية عبد الأعلى ـ يتم ما ذكره : من أنّ المستقر عليه بعد العارية هو القيمة ، فوجوب دفعها ثابت قبل التلف ، وأما لو كان الصيد المستعار باقيا ـ بعد ـ على ملك المعير وانما يكون خروجه عن المالية بإتلافه بالإرسال غاية الأمر أنه يجب ذلك على المستعير المحرم بعد الأخذ وأداء قيمته الى المعير ، فبأي وجه يمكن ان يقال : ان المستقر عليه ـ فعلا ـ قيمته الذي هو معنى الضمان الوضعي وان وجوب دفع القيمة الذي هو لازم الضمان ثابت قبل التلف بمعنى الإرسال والحال ان الضمان ولازمه مسببان عن الإتلاف وكيف يمكن تحقق المسبب قبل حصول. سببه وما وجهنا به ذلك من ان إيجاب الشارع على المحرم إرساله ـ فورا ـ بمنزلة الإتلاف ، لا يرجع الى وجه محصل. ولعل تعبير الشيخ الأنصاري ـ قدس سره ـ بقوله «الا أن يقال» مشعر بضعفه وعدم ارتضائه له.

هذا وما ذكره سيدنا الخال المصنف فيما تقدم من كلامه في دفع النقض بأنه مبني على الحكم بضمان المحرم للصيد المستعار مطلقا ولو تلف قبل إرساله وهو ممنوع ـ الى آخر ما ذكره ـ فإنه وان حصل به دفع النقض عن القاعدة ، لكنه مبني على كون الضمان ولزوم دفع القيمة للمالك بعد الإتلاف بالإرسال ، فلو تلف قبل الإرسال لم يضمنه المستعير. والذي قربناه ما نسب


ومنها ـ النقض بنماء المبيع بالبيع الفاسد غير المستوفى (١) فإنه مضمون ، مع كونه غير مضمون بصحيحه ، فإنه مضمون بسبب الإتلاف

__________________

الى المشهور من الحكم بضمان قيمة الصيد عند أخذ المستعير له بسبب سقوط ماليته وعوده إلى الإباحة الأصلية بأخذه ، وان شئت فقل : وإدخاله إلى الحرم ـ على ما يستفاد من رواية عبد الأعلى ـ وعليه ، فلا فرق بين إرسال المحرم له أو رده الى المعير أو إبقائه تحت يده حتى تلف.

وعلى كل فالضمان الموجود في عارية المحرم للصيد هو بسبب الإتلاف الحاصل بأخذ المستعير للعين المستعارة من المعير ـ على ما نسب الى المشهور ـ أو إدخالها بعد أخذه إلى الحرم كما استفيد من الرواية أو بإرسالها بعد أخذها ـ كما اختاره سيدنا قدس سره ـ وصحيح العارية مضمون بالإتلاف كفاسدها والمستفاد من القضية السالبة عدم الضمان فيها بسبب التلف ، فلا نقض عليها.

__________________

(١) ربما يرد النقض على القاعدة بنماء المبيع بالبيع الفاسد ومنافعه فإنها مضمونة على المشتري للبائع مع كونها غير مضمونة في الصحيح.

هذا ، ولكنا ذكرنا ـ سابقا ـ أن القاعدة ليست في مقام بيان كل ما هو مضمون أو غير مضمون في العقود الفاسدة وانما هي لبيان الضابط لتمييز ما يضمن فيه مورد العقد ومصبه مما لم يضمن فيه ذلك ، وفي ما سواه يرجع في ضمانه وعدم ضمانه الى القواعد الأخر. وحيث كان مصب العقد في البيع نفس المبيع ، وهو مضمون في صحيحه ، فكذا يضمن في فاسده ، وأما النماء والمنفعة فالمرجع فيهما قاعدة تبعيتهما للأصل ، وحيث كان المبيع في البيع الفاسد ملك البائع فمقتضى تلك القاعدة ضمان المشتري ما أتلفه أو تلف تحت يده من نمائه وكذا ما استوفاه أو فات تحت يده من منفعته.

هذا في المقبوض في البيع الفاسد. وأما المقبوض بالصحيح ، فنماؤه ومنفعته ملك القابض كالأصل.

نعم لو حصل فسخ في البيع بخيار أو انفساخ فيه بإقالة فما يحدث من النماء


وفيه ان عدم ضمان النماء في البيع الصحيح لكونه من نماء ملكه غير ملحوظ فيه انتقاله بالعقد من المالك حتى يصح اتصافه بكونه مضمونا أو غير مضمون في العقد الصحيح.

ومنها ـ النقض بحمل المبيع بالبيع الفاسد ، فان المحقق ـ رحمه الله ـ في (الشرائع) ـ مع بنائه على عدم دخول الحمل في بيع الحامل إلا بالشرط ـ كما هو المشهور ـ (١) بل حكى الإجماع عليه ـ جزم بضمانه على المشتري فيه ـ مع انه غير مضمون في البيع الصحيح لكونه بيد المشتري أمانة مالكية وحكى ذلك عن (المبسوط) أيضا.

والحق ، أن الحمل غير مضمون على المشتري لكونه أمانة مالكية بيده مطلقا في صحيح البيع وفاسده وان كان الحامل مضمونا عليه بالمسمى في الأول وبالقيمة في الثاني.

وعلى الدخول بالشرط ينزل كلام المحقق ـ رحمه الله ـ في (الشرائع)

__________________

بعدهما كالأصل مضمون بمثله أو قيمته على القابض لو أتلفه أو تلف تحت يده ما لم يستأمنه المالك عليه فلا يضمنه بالتلف وكذا المنفعة الحادثة المستوفاة أو الفائتة فإنها مضمونة بأجرة المثل ما لم يستأمنه المالك على العين ، فلا يضمن الفائت منها وأما السابق عليهما فلا يضمنها ـ مطلقا ـ

اللهم الا أن يقال ببطلان المعاوضة من أصلها بالفسخ أو الانفساخ ، لكنه ضعيف ، بل الأقوى البطلان من حينهما ـ فتأمل جيدا.

__________________

(١) حيث يقول ـ في كتاب التجارة ، الفصل التاسع في بيع الحيوان ، الثاني ـ في أحكام الابتياع : ـ «وإذا باع الحامل فالولد للبائع على الأظهر ، إلا أن يشترطه المشتري».


كما في (المسالك) (١) وبناء الشيخ في (المبسوط) على أصله فيه من دخوله في المبيع تبعا كالجزء (٢) وان أنكر شيخنا في (الجواهر) كونه أمانة لكون الاذن من المالك في البيع الفاسد من جهة اعتقاد كونه مستحقا عليه فالإذن مقيد بجهة الاستحقاق ومن حيث البيعية ، والمقيد ينتفي بانتفاء جهة تقييده ، وجعله هو الوجه في إطلاق كلام مصنفه.

وفيه : أن توهم الاستحقاق أو اعتقاده من الجهات التعليلية لا من الجهات التقييدية وبعبارة أخرى : من الدواعي ، لا من مشخصات الموضوع وتخلف الداعي عن الواقع لا يخرج الأمين عن كونه أمينا.

نعم ، مع علم المالك بتخلف الداعي وخطأ الاعتقاد لم يجعله أمينا ، وأين ذلك من الضمان بعد جعله أمينا لو تلف بغير تعد وتفريط كما هو المفروض في المسألة.

وبالجملة فالضمان وعدمه في الفرض ـ يدور مدار الامانة وعدمها ، لا صحة العقد وفساده ، لعدم مدخلية الحمل في المبيع ، وليس من متعلقات عقد البيع أصلا حتى يكون مورد النقض على القاعدة ـ لو سلم ضمانه في الفاسد ـ لأن النقض انما يتم في متعلقات العقد دون ما يقارنه ، وان كان مستلزما له بناء على ارادة العقد من كلمة (ما) في القاعدة دون القبض.

ومنها ـ النقض بالشركة الفاسدة أورده شيخنا المرتضى ـ رحمه الله ـ

__________________

(١) راجع : الجزء الأول كتاب التجارة ـ في بيع الحيوان ـ في شرح قول المحقق الآنف «فاذا باع الحامل» حيث يقول : «هذا هو المشهور وعليه الفتوى ، وخالف فيه الشيخ ، وتبعه جماعة محتجا بأنه جزء من الحامل ، فيدخل ، ولا يصح استثناؤه حتى حكم بفساد البيع لو استثناه البائع كما لو استثنى جزء معينا ، وحيث يشترطه المشتري يدخل وان كان مجهولا لأنه تابع للمعلوم.»

(٢) كما عرفت ـ آنفا ـ من نقل الشهيد عنه في (المسالك).


في (مكاسبه) بما لفظه : «ويمكن النقض ـ أيضا ـ بالشركة الفاسدة بناء على أنه لا يجوز التصرف بها فأخذ المال المشترك ـ حينئذ ـ عدوانا موجب للضمان» (١).

والظاهر إرادة شركة العنان ، لأنها المتصور فيها الصحيح ، والفاسد دون غيرها من أقسام الشركة (٢).

وفيه : أنه إن أراد بالضمان مع عدم الاذن في التصرف من الشريك فهو من التصرف عدوانا ، وبغير حق ـ على التقديرين. وإن كان باذنه فلا ضمان في الشركة الفاسدة ـ أيضا ـ لأنه مأذون من الشريك.

ودعوى كون الاذن من جهة الشركة المفروض عدمها في الفاسدة.

فيها ما عرفت : من كون الجهة تعليلية ، لا تقييدية ، ومن مشخصات الموضوع ، بل هي من الدواعي ـ كما تقدم.

وان أراد كفاية عقد الشركة للاذن بجواز التصرف بناء على ظهوره فيه ما لم يمنع عنه من غير حاجة الى إذن مستقل بعد العقد ، وهو إنما يتأتى في العقد الصحيح دون الفاسد الذي يكون وجوده كعدمه من جهة إلغاء الشارع له.

ففيه ـ مع أنه من أصله غير مسلم ـ (٣).

__________________

(١) راجع : كتاب البيع ، مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ، في قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده).

(٢) الشركة : قد تكون بأعيان الأموال ـ وتسمى شركة العنان ـ وقد تكون بالمنافع ـ وتسمى شركة الأعمال ـ وقد تكون بالمفاوضة في الغنم والغرم ، وقد تكون بالوجوه. والأولى هي الصحيحة ، والثلاثة الآخر باطلة ـ كما عليه عامة الفقهاء ـ (ولتفصيل الموضوع راجع : كتب الفقه ، كتاب الشركة).

(٣) أقول : الشركة : قد تكون واقعية ، عرفوها بأنها اجتماع حقوق


__________________

الملاك في الشي‌ء الواحد على سبيل الشياع ، وهي من الأحكام لا من العقود. نعم سببها ربما يكون عقدا ، كما لو اشترى شخصان شيئا واحدا لهما ، وقد يكون سببها إرثا ، كما لو ورث اثنان شيئا واحدا ، أو مزجا ـ قهريا أو اختياريا ـ في مالين لمالكين بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر.

وقد تكون الشركة إنشائية عقدية ينشأ بها التعاقد والتعاهد على الاسترباح بالمال المشترك بالتكسب به واستنمائه بالعمل به بحدود وقيود ذكرت ـ في بابها من كتب الفقه ـ

ونسبة الواقعية إلى العقدية كنسبة الموضوع الى الحكم ، فان التعاهد على الاسترباح مورده المال المشترك.

ثم إن في كفاية عقد الشركة بين المتعاقدين للاذن بجواز تصرف كل منهما في المال الذي تعاقدا على استرباحه وعدم الاحتياج فيه الى إذن مستقل من كل منهما للآخر ، وعدم الاكتفاء بذلك ، بل لا بد من الاذن المستقل به ـ وجهين ـ بل قولين ـ وظاهر سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ عدم تسليم كفاية عقدها للاذن حيث يقول : «وإن أراد كفاية عقد الشركة للاذن بجواز التصرف ـ الى أن يقول ـ : ففيه مع أنه من أصله غير مسلم».

ولكن يمكن أن يقال : ان اشتراك المالكين في المال الواحد إذا كان مسببا عن سببه المقتضى له من إرث أو اشتراء أو مزج ـ كما تقدم ـ وكان استحقاق كل من الشريكين من ربح المال المشترك ونمائه بنسبة حصته من المال مما يقتضيه الاشتراك في المال الواحد ، وكذا لو ورد التلف والخسارة عليهما بتلك النسبة.

فلو لم يكن إنشاء عقد الشركة من المالكين كافية في إذن كل منهما


__________________

لصاحبه في التصرف بالمال المشترك بالتكسب به واستنمائه بالعمل فيه ، بل كان جواز التصرف محتاجا إلى إذن مستقل ، فأي أثر يمكن أن يكون مستفادا من إنشاء التعاهد والتعاقد بين الشريكين؟

ومن هنا قال المحقق الثاني ـ قدس سره ـ في (جامع المقاصد) في مقام الاستدلال على كفاية عقد الشركة في الاذن وعدم الاحتياج إلى إذن مستقل بأنه : «لولاه لزم لغوية الشركة» يعني العقدية.

وما ذكره بعض المعاصرين ـ في تعليقته على مكاسب الشيخ : من لزوم كون ألفاظ العقود صريحة ـ عرفا ـ في إنشاء مضمونها ، ومن الواضح عدم ظهور لفظ عقد الشركة في إذن الشركاء في حصصهم لكي يكون إنشاء للاذن فالالتزام بعدم ترتب الفائدة على العقد أهون من ترتب ما لا يكون أثرا له عرفا ـ كما لا يخفى ـ انتهى.

فيه : ان اعتبار صراحة ألفاظ العقود في إنشاء مضامينها أو كفاية الظهور العرفي في ذلك ، ولو كان حاصلا بواسطة القرينة التي اشتمل العقد عليها أو الأعم من ذلك ومن القرينة الخارجية ، إنما هو في العقود اللازمة كالبيع والإجارة والنكاح ـ مثلا ـ دون ما كان منها قوامه الاذن من كل من المتعاقدين للآخر في التصرف فيما هو له فان المناط فيها حصول الاذن والرضا بذلك من أي لفظ استفيد ، ولا ريب في استفادة الإذن بجواز التصرف بالمال المشترك بين المتعاقدين من إنشاء التعاهد والتعاقد بينهما باسترباح المال بالتكسب به واستنمائه بالعمل فيه.

وبالجملة ، فالأظهر كفاية عقد الشركة للاذن بجواز التصرف وعدم الاحتياج إلى إذن مستقل وفاقا للمحقق الثاني وكثير من الأصحاب على ما يظهر


لا مدخلية لإلغاء الشارع سببية العقد للشركة فيما ليس مجعولا له من ظهور الألفاظ في مداليلها وكشفها عما في ضمير المتكلم فان كان العقد بلفظه أو بمعونة شاهد الحال كاشفا عن تحقق الاذن ، كان كاشفا ـ مطلقا ـ ألغاه أم أمضاه ـ وإلا ، فلا كذلك.

وربما يتوهم النقض أيضا بعامل القراض إذا أخذ المال قراضا ، وكان عاجزا عنه ، مع جهل المالك به ـ بناء على فساد المضاربة ـ حينئذ ـ كما هو الأظهر ، وعليه شيخنا في (الجواهر) ، فإنهم حكموا بضمان المال عليه ـ مطلقا ـ أو على التفصيل المحرر في محله مع أنها مضاربة ، وصحيحها غير مضمون ، ففاسدها ينبغي أن يكون كذلك.

ويدفعه : أن الضمان ـ هنا ـ بسبب التعدي بوضع يده على المال على الوجه غير المأذون فيه ، ولذا قال به من قال بصحة المضاربة ـ أيضا ـ كما في (المسالك) وغيرها ـ لعدم المنافاة بين الضمان وصحة المضاربة ، كما لو عين المالك جهة خاصة ، وخالفها العامل ، فإن المضاربة صحيحة ، والربح بينهما على الشرط.

__________________

منهم ، وان ظهر من سيدنا الخال ـ قدس سره ـ عدم التسليم لذلك ، وفاقا لغيره.

هذا إذا لم يعين نحو التكسب والعمل بالمال المشترك عند التعاقد عليه بل أطلق وأوكل الى ما يراه العامل مما فيه الربح ، والا فمن الواضح عدم جواز التعدي عنه الا برضا الشريكين ، وكذا لو منع أحدهما الآخر من تصرف خاص بعد التعاقد عليه.

وعلى كل فالنقض غير وارد كما ذكر ذلك سيدنا في المتن.


مع كون المال مضمونا عليه بالتعدي (١).

__________________

(١) الكلام في المسألة فيما إذا كان رأس المال في المضاربة بمقدار يعجز العامل عن التجارة به ، وكان قادرا على التجارة ببعضه مع اشتراط المالك مباشرته في العمل بلا استعانة بالغير ، أو كان عاجزا ولو مع الاستعانة بالغير ، والمسألة من ناحية صحة المضاربة وعدم صحتها ذات قولين ، والأظهر فسادها كما اختاره جماعة من أصحابنا ، حيث انه يشترط في العامل في باب القراض أن يكون قادرا على العمل بمال القراض فمع عجزه لا تصح مضاربته ، كما لا يصح استيجاره على العمل إذا كان عاجزا عنه ، وعليه فيكون ربح ما اتجر به من بعض المال للمالك ، ولا نصيب للعامل فيه.

نعم له أجرة مثل عمله مع جهله بالبطلان بلا ريب.

اما مع علمه به (ففي) استحقاقه اجرة على عمله الذي استوفاه المالك منه بمضاربته مع عدم تبرعه به ، بل كان بذله بإزاء الحصة من الربح التي تعهد بها المالك له على تقدير الحصول ، وقد حصل ، غايته أنه لا يستحقها ـ شرعا ـ لفساد المضاربة بفقد شرطها ، وهو قدرة العامل على العمل بمجموع مال المضاربة ، وذلك لا يقتضي التبرع بالعمل ، فمقتضى قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» استحقاقه اجرة المثل على عمله (أو عدم) الاستحقاق ، لأنه مع علمه بفساد المضاربة لعدم قدرته على العمل بمال القراض. وعدم استحقاق ما جعله المالك له من الربح شرعا ـ يكون كالمتبرع بعمله ، واقدامه على بذله مجانا :

وجهان : لا يبعد أن يكون أولهما أوجه ، إذ لا يلزم من علمه بفساد المضاربة ، وعدم استحقاقه الربح شرعا كونه متبرعا بعمله ، فإنه لم يبذل للمالك بنحو (المجان) بل بإزاء الحصة من الربح المجعولة له في العقد ، فعمله مضمون على المالك المستوفي له بمضاربته ، وفسادها ـ شرعا


__________________

لعدم قدرته على العمل بتمام مال المضاربة ، غاية ما يقتضي عدم استحقاقه ـ شرعا ـ الحصة من الربح المجعولة له في عقدها ، لا عدم استحقاق اجرة على ما قدر عليه من العمل بالبعض ، مع فرض عدم التبرع بعمله فيه ، وكونه مأذونا في ذلك من المالك لجهله بعجزه كما هو المفروض.

هذا ، بناء على ما استظهرناه من بطلان مضاربة من لم يقدر على العمل بمجموع مال المضاربة ، وان كان قادرا على العمل ببعضه ـ كما اختاره جماعة من الأصحاب.

وربما يقرب ـ بل يختار الصحة ـ فيما قدر عليه من العمل في بعض مال المضاربة واستحقاق العامل الحصة من ربحه وقواه بعض السادة من العلماء المعاصرين طاب ثراه في تعليقته على هذه المسألة من (العروة الوثقى) ولعل وجهه أن المعاملة على مجموع رأس المال بالتجارة فيه واسترباحه ، وان كانت واحدة ، لكنها لدى التحليل معاملة على كل جزء منه يمكن التجارة به واسترباحه بحصة من ربحه وفسادها بالنسبة الى ما كان غير قادر على التجارة به ، لا يقتضي الفساد بالنسبة الى ما كان قادرا فيه من العمل ، فيصح ويستحق الحصة من ربحه.

وعلى كل فسواء قلنا بأن العاجز عن العمل بمجموع مال المضاربة القادر على العمل في البعض تصح مضاربته فيما قدر عليه من العمل ، ويستحق الحصة من ربحه أو قلنا بفسادها ، وعدم استحقاقه لها. فالعامل فيما قدر عليه ، لم يكن متبرعا بعمله ، فان المتبرع من لا يبتغي بعمله عوضا ، وبمجرد علمه بفاسد المضاربة على فرضه وعدم استحقاقه الحصة من الربح فيما عمل فيه شرعا ما لم يكن بانيا على الالتزام بحكمه الشرعي ، لا يكون متبرعا بعمله فيما تمكن منه من البعض.


__________________

ثم على ما استظهرناه : من فساد المضاربة (ففي) ضمان العامل لتلف المال الا مع علم المالك بالحال بعد مضاربته وانه عاجز عن العمل بتمام المال (أو عدم) ضمانه ـ مطلقا. وعلى الضمان ، فهل يضمنه كله ـ لعدم التمييز به مع عدم الاذن في أخذه على هذا الوجه ، أو يضمن القدر الزائد لأن العجز يكون بسببه ، فيختص به ، أو التفصيل بين ما إذا أخذ الجميع ـ دفعة ـ فيضمن الكل ، وبين ما إذا أخذ أو لا بقدر مقدوره ، ثم أخذ الزائد ، ولم يمزجه بما أخذه أولا ـ فيختص الضمان بالزائد. وجوه ، وأقوال :

أقواها : عدم الضمان ـ مطلقا ـ كما قواه شيخنا الأستاذ النائيني ـ رحمه الله ـ في (تعليقته على العروة الوثقى) ـ علم المالك بالحال أم لم يعلم ، أخذ المال كله دفعة أم أخذ مقدوره ثم أخذ الزائد عليه ، مزجه مع الأول أم لم يمزجه ـ لأن يد العامل على المال يد استيمان ، وتسليط المالك له تسليط (مجان) فان دفعه اليه كان لاسترباحه واستنمائه ، لا لدفع شي‌ء بإزائه.

وما وجه به سيدنا ـ قدس سره ـ الضمان بأنه بسبب التعدي بوضع يده على المال على الوجه غير المأذون فيه. إلخ وحاصله : أن الأمين إنما لا يضمن إذا لم يتعد ، وهذا متعد ، فهو ضامن.

قابل للمناقشة ، فإن التعدي الموجب لضمان الأمين ، هو تعديه عن الحدود والقيود التي عينها له المستأمن ، ففي مسألتنا : لو عين له صاحب المال شراء متاع معين به ، فاشترى غيره ، أو منعه من السفر بمال المضاربة فسافر به ، أو نحو ذلك مما يكون فيه العامل متجاوزا ومتعديا عما عينه وحدده صاحب المال ، فإنه مع التجاوز يكون ضامنا بلا اشكال ، لعدم اذن المالك بتصرفه في المال على الوجه المذكور ، وليس هو محل كلامنا ،


__________________

بل هو ما إذا كان العامل عاجزا عن العمل بجميع مال المضاربة وكان قادرا على العمل ببعضه ، وكان المالك جاهلا بعجزه حين دفعه اليه واستنمائه عليه ، وعدم قدرته على العمل بالجميع المقتضي ، لفساد المعاملة بناء على ما استظهرناه لا يوجب انتفاء الاذن من المالك ، وكونه متعديا بوضع يده على المال على الوجه غير المأذون فيه ـ كما يقول سيدنا ـ إذ الاذن من المالك حاصل ـ وجدانا ـ غايته كان مبنيا على ما تخيله من قدرة العامل على العمل بمجموعه والتجارة به غير الحاصل ـ حسب الفرض. ومن هنا كانت المعاملة فاسدة.

ولكن الظاهر أن هذا التخلف من قبيل تخلف الداعي ـ غير الموجب لعدم الاذن في الأخذ ـ لا من قبيل تخلف العنوان.

والحاصل إن المدعى أن جهة قدرة العامل على العمل بمال المضاربة بالنسبة إلى صحة المعاملة معه وعدم صحتها ، وان كانت تقييدية واقعية ، فمضاربة القادر على العمل بمال المضاربة صحيحة ، وان اعتقد المالك حين إنشاء المعاملة عجزه عن العمل بمجموعه ، ومضاربة العاجز عن العمل بالمجموع فاسدة ، وان اعتقد المالك قدرته على ذلك حين المعاملة معه.

ولكن هي ـ أي الجهة المذكورة ـ بالنسبة إلى حصول الاذن من المالك في أخذ المال والتصرف فيه ، تعليلية اعتقادية ، فان اعتقاد المالك قدرة العامل على العمل من قبيل الداعي لحصول الاذن منه الذي لا يضر تخلفه في واقع الأمر ، وانه لو لا اعتقاده بقدرة العامل على العمل لما حصل الاذن منه ، فإن الإذن المذكور لا يرجع الى التقييد ليكون مفاده : انك ـ أيها العامل ـ مأذون بالتصرف والاتجار بالمال ان كنت قادرا ، وإلا


وقد يتوهم النقض ـ أيضا ـ باستعارة العين المغصوبة من الغاصب ، فإنهم حكموا بالضمان في بعض صور تلف العين.

وجملة صورها : هو أن يقال : إما أن يكون التلف في يد الغاصب المعير (١) أو في يد المستعير. وعلى التقديرين ، فتارة مع جهل المستعير بالغصب ، واخرى ـ مع العلم به. وعلى التقادير ، فاما أن تكون العارية مضمونة بالشرط ، أو كانت من الذهب والفضة ، أو لم تكن. وعلى التقادير كلها ، فاما أن يرجع المالك على الغاصب المعير ، أو على المستعير.

وأما أحكامها ، فليعلم ـ أولا ـ ان للمالك الرجوع على اي منهما شاء من غير فرق بين كون العين متلفة أو تالفة في يد المستعير أو في يد المعير (٢) لقاعدة تعاقب الأيدي (٣). فإن رجع على المستعير بالعين وما استوفاه من المنفعة (٤). رجع المستعير بهما (٥) مع جهله بالغصب على المعير ، ان

__________________

فلست بمأذون ، حتى يضر تخلفه.

وبالجملة : فإنه نظير من اذن لشخص بالتناول من طعامه أو الدخول في داره معتقدا كونه صديقا له ، وكان في الواقع عدوا له بحيث لو كان عالما بذلك لما أذن له ، فان الظاهر جواز تناوله من ذلك الطعام أو دخوله في الدار ، اعتمادا على الاذن الحاصل من المالك بالتناول منه أو الدخول فيه ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) بعد عودها الى المعير من المستعير.

(٢) يعني بعد عودها اليه ـ كما عرفت.

(٣) المقتضية لضمان كل من الأيدي المتعاقبة على مال الغير.

(٤) بمعنى أخذه عوضهما منه.

(٥) أي بما أخذه المالك منه من بدل العين ، وبدل ما استوفاه من المنفعة.


لم تكن العارية مضمونة عليه (١) ولو كانت العين تالفة في يده (٢) لغروره (٣) ولكونها عارية منه (٤) وهي غير مضمونة بصحيحها ، فلا تضمن بفاسدها أيضا (٥) ولا يعارضها قاعدة (قرار الضمان على من كان التلف في يده) لأنها فرع تحقق أصل الضمان المنفي بقاعدة (ما لا يضمن) ضرورة أن مفادها نفي ما هو بمنزلة الموضوع لقاعدة القرار.

ومنه يظهر الوجه في عدم رجوع الغاصب المعير على المستعير مع جهله ، إن رجع المالك عليه ـ مطلقا ـ (٦) إلا إذا كانت العارية مضمونة على المستعير وكان التلف بيده ، فإنه يرجع عليه ببدل العين دون المنفعة لأنها عارية مضمونة وهي مضمونة بصحيحها ، فتكون مضمونة بفاسدها أيضا ـ ومنافعها غير مضمونة ـ مطلقا ـ (٧).

__________________

(١) واما إذا كانت مضمونة عليه فيرجع المستعير على المعير بما أخذه المالك منه من بدل ما استوفاه من المنفعة أو الفائتة تحت يده.

(٢) أي في يد المستعير.

(٣) بمقتضى النبوي المشهور : «المغرور يرجع فيما غرمه على من غره».

(٤) أي من المعير.

(٥) بناء على أن المورد مشمول للقاعدة المذكورة ، وأما بناء على ما سيجي‌ء من المصنف من عدم شمول القاعدة للمورد واختصاص ذلك بالعارية المستعارة من المالك ، فينحصر المدرك في عدم ضمانه بقاعدة الغرور.

(٦) يعني : إن المالك لو رجع على الغاصب المعير بقيمة العين التالفة عند المستعير وبعوض ما استوفاه من منفعتها مع جهله بكونها مغصوبة ، لا يرجع بما غرمه للمالك على المستعير المفروض كونه مغرورا من قبله ، إذ لا معنى لرجوعه على من لو رجع المالك عليه بذلك رجع به عليه ، لكونه مغرورا من قبله.

(٧) سواء في ذلك العارية الصحيحة والفاسدة ، أما في الصحيحة فواضح


هذا ، وفي (الشرائع) : جعل الوجه ـ مع جهل المستعير ـ اختصاص الضمان بالغاصب ـ عينا ومنفعة ، تلفت في يده أو في يد المستعير. (١) وليس بوجيه ، لمخالفته الأخبار المنجبرة (٢) وقاعدة (تعاقب الأيدي) (٣) ولعل نظره ـ كما في المسالك ـ الى ضعف مباشرة المستعير بالغرور والسبب الغار أقوى (٤) لا ما علله شيخنا في (الجواهر) : بقاعدة (ما لا يضمن.) إذ لا عارية بين المستعير والمالك حتى يستند عدم تعلق الضمان له عليه إلى قاعدة (ما لا يضمن) ، نعم تجري القاعدة بين المستعير والمعير لتحقق العارية بينهما.

__________________

وأما في الفاسدة فللتسلط عليها ـ مجانا ـ بناء على أن التسليط المجاني عليها ، ولو كان من غير المالك ، لا يقتضي الضمان.

(١) ونص عبارته ـ كما في كتاب العارية ، الفصل الأول ـ : «ولو استعار من الغاصب وهو لا يعلم كان الضمان على الغاصب ، وللمالك إلزام المستعير بما استوفاه من المنفعة ، ويرجع على الغاصب ، لأنه أذن في استيفائها بغير عوض ، والوجه تعلق الضمان بالغاصب ـ حسب ـ وكذا لو تلفت العين في يد المستعير».

(٢) المراد بها : ما في المرسل : «عن على ـ عليه السلام ـ ، وخبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله وأبي إبراهيم ـ عليهما السلام ـ : «إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت ، فالمستعير ضامن».

(٣) على مال الغير بغير استحقاق ، فإنها تقتضي ضمان الكل للمالك ، نعم المغرور يرجع بما غرمه للمالك على غارّه.

(٤) قال في (المسالك ـ كتاب العارية ، تحت عنوان قول المحقق (ولو استعار) : «ووجه ما اختاره المصنف من اختصاص الضمان بالغاصب حيث لا تكون العارية مضمونة : أن المستعير مغرور فضعفت مباشرته ، فكان السبب الغار أقوى».


فمن الغريب نسبته الغرابة إلى (المسالك) حيث قال : «اللهم إلا أن يقال ان قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) تقتضي ذلك ولعلها المدرك للمصنف وغيره في الحكم بعدم الضمان ، لا ما في (المسالك) من الأول ، فمن الغريب ما فيها من موافقته على جريانها في المقام ، حتى استدل بجزء الإثبات منها على ضمان الجاهل في العارية المضمونة ، مع إنكاره على المصنف الحكم بعدم الضمان» انتهى (١)

__________________

(١) راجع : كتاب العارية من (كتاب متاجر الجواهر) ـ في شرح قول المحقق ـ : «وكذا لو تلفت العين في يد المستعير».

ثم إن الكلام في وجه ما اختاره المحقق : من اختصاص الضمان في العين المغصوبة من المالك ، المستعارة لمن جهل بغصبيتها ـ بالغاصب وعدم ضمان المستعير لها عينا ، ومنفعة ما استوفاها المستعير منها وما فاتت تحت يده ، وما ذكره (صاحب الجواهر ـ رحمه الله ـ) : من توجيهه بقوله : «اللهم إلا أن يقال : إن قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) تقتضي ذلك ، ولعلها المدرك للمصنف وغيره في الحكم بعدم الضمان» انتهى :

غير واضح ، إذ الكلام في وجه عدم ضمان المستعير لمالك العين لو رجع عليه بقيمتها بعد التلف ، وبعوض ما استوفاه من منفعتها أو فات تحت يده ، واختصاص ذلك بالغاصب ، ولا عارية بين المالك والمستعير ، لتكون قاعدة (ما لا يضمن) مقتضية لعدم ضمانه له. نعم ، العارية بين المعير والمستعير ولا كلام في عدم ضمانه له لو رجع المالك على المعير بعوض ما تلف في يد المستعير ، وبمنفعتها الفائتة أو المستوفاة له ، ما لم تكن عارية مضمونة ، فله الرجوع عليه بما غرمه للمالك : من قيمة العين دون منفعتها.

وبالجملة ، لم يتضح ما وجهه في (الجواهر) بما عرفت.


__________________

كما أن ما وجه به الشهيد في (المسالك) ما اختاره المحقق ـ رحمه الله ـ بقوله : «ووجه ما اختاره المصنف من اختصاص الضمان بالغاصب حيث لا تكون العارية مضمونة : أن المستعير مغرور ، فضعفت مباشرته فكان السبب الغار أقوى» انتهى :

لم يتضح ـ أيضا ـ فإن قاعدة أقوائية السبب من المباشر واختصاص الضمان بالسبب ، موردها ما إذا كان استناد تلف المال أو النفس الموجب للضمان الى السبب ـ عرفا ـ ولا ينظر الى دخل المباشر فيه ، نظير من أعطى سكينا لطفل غير مميز فجرح نفسه ، أو فتح باب المحبس عن مفترس فخرج وافترس إنسانا أو حيوانا ، أو حفر بئرا في ممر من الناس ولم يتخذ لها حافظا وواقيا ، فسقط فيها إنسان لا يبصر ، أو زاحمه حيوان فوقع فيها ، أو أجّج نارا في عاصف من الريح ، ولم يتخذ لها واقيا ، فاحترق بها مال للغير ، ونحو ذلك مما يكون استناد التلف فيه الى المسبب ـ عرفا ـ ففي جميع ذلك ونظائره صح أن يقال : السبب أقوى من المباشر ، واختص الضمان به.

أما في مثل ما نحن فيه مما كان سبب الضمان فيه استيلاء غير المستحق على مال الغير ـ وقد أخذه ممن سبقه ـ في عدم الاستحقاق ، غاية الأمر ان السابق عالم بعدم استحقاقه ، والأخذ منه جاهل به ، فكون ذلك من موارد القاعدة المذكورة ، غير واضح ، نعم هو من موارد قاعدة (الغرور) وليس مفادها عدم ضمان المغرور واختصاص الغار به ، بل رجوعه على من غرّه بما خسره لمالك العين التالفة عند رجوعه عليه وأخذه منه ، فهو ضامن كالسابق الغار ، ولكنه يرجع بغرامته عليه بمقتضى النبوي المشهور : «المغرور يرجع بما غرمه على من غرّه».


فان مورد إجرائها في (المسالك) بين المستعير والغاصب المعير وهو مجراها ، لتحقق العارية بينهما ، ولا مورد لجريانها بين المالك والمستعير الذي لا عارية بينهما حتى يصلح أن يجعله مدركا للحكم.

هذا كله مع جهل المستعير بالغصب. وأما مع علمه به ، فهو ضامن للعين والمنفعة ، وقرار الضمان عليه لو تلفت في يده ، ولعله مورد توهم نقض القاعدة به ، لكونها مضمونة ـ حينئذ ـ من غير خلاف ، مع كونها غير مضمونة بصحيحها ، ولا مدخلية للعلم والجهل إلا في الإثم وعدمه دون الأحكام الوضعية من الضمانات وعدمها.

ولكنه توهم فاسد ، لأن المستعير لعلمه بالغصب علم بكونها مضمونة عليه ـ شرعا ـ ولو للمالك ، فهو كعارية الذهب والفضة ـ المضمونة شرعا لا بشرط من المعير ، فهو إقدام منه على الضمان ، والعارية مضمونة بصحيحها فهي مضمونة بفاسدها ـ فتأمل (١).

__________________

(١) قد يقال : إن وجه ضمان المستعير للعين من الغاصب إذا كان عالما بغصبيتها ، إنما هو قاعدة تعاقب الأيدي على مال الغير عدوانا ، فإنه لعلمه بالغصب يكون غاصبا كالمعير ، فيضمن للمالك العين والمنفعة ـ مطلقا.

وليس الوجه في ذلك كونها عارية مضمونة كعارية الذهب والفضة ، فهو أقدام منه على الضمان ، والعارية مضمونة بصحيحها ، فهي مضمونة بفاسدها ، كما يقول سيدنا ـ قدس سره ـ فإن عارية الذهب والفضة إنما يكون المضمون فيها للمالك نفس العين دون المنفعة ـ أيضا ـ مضافا الى أن عارية الذهب والفضة يضمنها المستعير للمالك والمعير على البدل ، بمعنى أن المالك لو رجع ببدل العين التالفة على المستعير خسره له ، ولو رجع على الغاصب المعير وأخذ البدل منه خسره المستعير له ـ أيضا ـ فهو مقدم على ضمان العين وبدلها على البدل ، وهذا بخلاف المستعير من الغاصب العالم بكونه غاصبا ، فان ضمانه للمالك لو رجع عليه ببدل


ثم إن ما ذكرنا جريا على مذاق من أجرى قاعدة العارية بين المستعير والغاصب المعير في الرجوع وعدمه في بعض صور المسألة ، وإلا فيمكن أن يقال بخروج عارية الغصب عن مجرى قواعد العارية وأحكامها ، وان كانت بصورة العارية.

وما تقدم في بعض صور المسألة من الرجوع وعدمه بين المستعير والغاصب المعير ، فإنما هو للغرور ، لا لكونها عارية يتمسك فيها بقاعدة «ما لا يضمن» فإن العارية التي تجري فيها قواعدها ـ وكذا الوديعة ونحو ذلك من العناوين ـ هي الطارئة على أخذ المال من المالك لا مطلق الأخذ وإن كان من غيره.

ومما يمكن أن يورد على الكلية الإيجابية : النقض بالبيع من السفيه المحجر عليه ، لو تلف المبيع في يده مع كون القبض بإذن البائع ، فإنه حكم غير واحد ـ كالعلامة في القواعد ، والمحقق في الشرائع ، وثاني الشهيدين والمحققين في المسالك ، وجامع المقاصد ـ بفساد البيع ، وعدم تعلق الضمان

__________________

العين التالفة بلا اشكال ، وأما ضمانه للغاصب المعير لو رجع عليه المالك ببدل العين التالفة وخسارته البدل له ، فهو لا يخلو عن الإشكال ، فإن علمه بالغصب غاية ما يقتضي كونه ضامنا للمالك العين التالفة وعدم رجوعه بما خسره له على المعير لعدم كونه مغرورا منه كالجاهل بالغصبية.

وأما ضمانه للمعير بدل العين التالفة لو رجع المالك عليه وأخذ البدل منه فهو مشكل ، إذ هو قادم على ضمان العين للمالك لو رجع عليه ببدلها ، لا على ضمان بدلها للمعير لو رجع عليه المالك وأخذ البدل منه ، لما ذكرناه من جريان قاعدة العارية بين المعير الغاصب وبين المستعير منه ، وانه غير مقدم على الضمان له ما خسره للمالك. ولعل ما ذكرناه هو الوجه في تأمل سيدنا المصنف ـ قدس سره.


بالسفيه ، وإن فك حجره (١) فالمبيع ـ هنا ـ غير مضمون مع كون صحيحه مضمونا ، وكل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

وإطلاق كلام المحقق ، وصريح الباقين : عدم الفرق بين صورتي العلم والجهل بالسفه.

قلت : لا يتم النقض به مع علم البائع بذلك لأنه ـ حينئذ ـ مقدم على تلف ماله ، ومضيّع له ، ومسقط لاحترامه.

نعم يتوجه النقض به مع جهله ، وان علّله في (المسالك) و (جامع المقاصد) بما يرجع محصله إلى تقصير البائع معه بعدم اختبار حاله. وعلمه بثبوت العوض المبذول له.

وفيه : منع التقصير ، ولزوم الاختبار مع جريان أصالة الصحة والسلامة ، فإنه أصل موضوعي عليه بناء العقلاء ، والسيرة القطعية في معاملاتهم.

__________________

(١) ففي كتاب الحجر من (قواعد العلامة ـ الفصل الثاني في المجنون والسفيه) : «فان اشترى بعد الحجر فهو باطل ، ويسترد البائع سلعته إن وجدها ، وإلا فهي ضائعة إن قبضها باذنه عالما كان البائع أو جاهلا».

وفي (شرائع المحقق ـ كتاب الحجر ، الفصل الثاني في أحكام الحجر) : «المسألة الثانية ـ إذا حجر عليه ، فبايعه إنسان كان البيع باطلا ، فان كان المبيع موجودا استعاده البائع ، وان تلف وقبضه بإذن صاحبه كان تالفا وان فك حجره»

وفي (مسالك الشهيد الثاني) ـ في التعليق على قول المحقق الآنف «إذا حجر عليه» : «لا فرق في جواز استعادته مع وجوده بين من بايعه عالما بحاله وجاهلا ، لان البيع في نفسه باطل ، فله الرجوع في ماله متى وجده ، وأما إذا تلف فلا يخلو : إما أن يكون قد قبضه بإذن صاحبه أو بغير إذنه ، وعلى التقديرين إما أن يكون البائع عالما أو جاهلا ، فان كان قبضه بإذن صاحبه كان تالفا عليه لأنه سلط على إتلافه مع كونه سفيها ، ووجود السفه مانع من ثبوت العوض».


اللهم الا أن يمنع بناء العقلاء على التمسك به في مفروض المسألة من العلم بأصل الحجر ، والجهل بالسبب إن لم نقل ببنائهم على التوقف في نحو ذلك حتى يحرزوا سببه ، لو أرادوا المعاملة معهم ، فما عللاه من التقصير في الاختبار لا يخلو من وجه.

وعلى كل حال ، لا يكون نقضا للقاعدة : إما بدعوى الضمان في صورة الجهل ، أو لوجود المسقط له من قاعدة التسليط ، ان قلنا بتقصيره في الاختبار.

وربما يتوهم النقض أيضا بما لو باع بلا عوض أو آجر بلا أجرة بأن قال : بعتك الدار بلا عوض أو آجرتك بلا أجرة ، فعن الشهيدين في ثانيهما : عدم الضمان مع كون صحيح البيع والإجارة مضمونا ، وكل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

وفيه : ان عدم الضمان فيهما لعله مبني على ظهور إرادة التمليك المجاني كالهبة ونحوها من لفظ (بعت) أو (آجرت) بقرينة قوله «بلا عوض» أو «بلا أجرة» ، وحينئذ فان لم نعتبر في صحة ذلك لفظا خاصا أو صيغة خاصة كانت هبة صحيحة ، وهي غير مضمونة ، وإلا كانت هبة فاسدة ، وهي غير مضمونة أيضا لأن صحيحها غير مضمون ففاسدها كذلك.

نعم يحتمل أن يكون المراد من ذلك : نفس البيع لصراحة لفظ (بعت) ـ مثلا ـ فيه ، وكون العوضية مأخوذة في حقيقته ، فإرادته مع إرادة عدم العوضية من الجمع بين المتضادين ، وهو محال ، فلا بدّ من صرف لفظ (بعت) عن ظاهره بحمله على ما لا ينافي المجانية كالهبة ونحوها.

وفيه : إن محالية إرادة المتضادين بمعنى إنشائهما مسلم ، إن أراد المعنى الصحيح الشرعي المأخوذ فيه العوضية من البيع الفاسد ، لعدم العوض


بخلاف ما لو أراد تنزيل هذا البيع منزلة البيع الصحيح ، وأنه من أفراده بالادعاء ، فيكون لفظ البيع مستعملا في معناه الحقيقي ويكون من الاستعارة والمجاز في النسبة ، نحو : زيد أسد. أى : فرد منه بالادعاء ، ومنه إطلاق العين على الربيئة. ومن هذا الباب : التشريع الذي مرجعه في الحقيقة ـ إلى تنزيل مخترعاته منزلة مخترعات الشارع ، وأنه منه بالادعاء ، لا أنه من أفراده ـ حقيقة ـ فتأمل.

وعليه ، فالأقوى الضمان ، لأنه بيع فاسد أو إجارة فاسدة ، وصحيحهما مضمون ففاسدهما كذلك (١).

ولا يتوهم سقوطه ـ مع ذلك ـ بتسليط البائع له على ماله ـ مجانا ـ لأن ذلك كان بعنوان البيعية ، والحيثية ـ هنا ـ تقييدية ، لا تعليلية ، فينتفي المقيد بانتفاء جهته التقييدية ، فيبقى عموم «على اليد» و «قاعدة الاحترام» سليمين عن المسقط.

وبالجملة لا إشكال في حكم القضية بعد تشخيص المراد منها ، إنما الاشكال والتأمل في ظهور هذا العقد الصادر من البائع في أي الاحتمالين حتى يترتب عليه حكمه وأصالة الصحة لا مدخلية لها في ظواهر الألفاظ المتبعة في كشفها عن المراد (٢).

__________________

(١) هذا مبني على أن مفاد القاعدة : أن كل صنف من العقود يكون فرده الصحيح موجبا للضمان ، فالفرد الفاسد منه كذلك أيضا ، وأما بناء على ما قربناه واخترناه من أن مفادها أن كل شخص من العقد لو فرض كونه صحيحا وكان على الفرض ـ منشأ للضمان ، فهو كذلك في فرض فساده وما لم يكن ـ على تقدير صحته فيه الضمان ـ فلا ضمان فيه في فرض فساده. فالأقوى عدم الضمان فيه. لأن شخص هذا العقد ـ بناء على كونه بيعا فاسدا ـ لو فرض صحته لا ضمان فيه.

(٢) ثم انه ربما يورد على عكس القضية بضمان العين المستأجرة على المستأجر بالإجارة الفاسدة مع عدم ضمانها في الإجارة الصحيحة ، وهو


__________________

مناف لقضية «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

أقول : لا ريب في عدم ضمان المستأجر للعين المستأجرة بالإجارة الصحيحة ، وإنما الكلام في ضمانها في الإجارة الفاسدة ، وهو محل خلاف بين علمائنا ـ قدس الله أسرارهم ـ وربما ينسب كل فريق ما اختاره من الضمان أو عدمه الى المشهور ، والظاهر : أن هذا الخلاف يبتني على الخلاف في صحة شرط ضمان العين المستأجرة على المستأجر ، وعدم صحته : فمن قال بصحة الشرط قال بضمان العين في الإجارة الفاسدة ومن قال بعدم صحة الشرط قال بعدم الضمان.

فنقول : الظاهر هو القول بالتفصيل في صحة الشرط وعدم صحته. بيان ذلك : إن عقد الإجارة : إما ينشأ به تمليك منفعة عين بعوض أو ينشأ به تمليك عمل بعوض. ثم العمل : إما أن يكون من حر ، أو من غيره ، إنسانا كان أو حيوانا.

أما في صورة كون المملوك بها العمل ، فلا يتوقف استيفاء المستأجر ما ملكه بها أن تكون العين الصادر منها العمل تحت يده ، بل لا يتصور ذلك في الحرّ بناء على ما هو المشهور : من أنه لا يكون تحت اليد ، ولذا لم يحكم على حابسه بضمان منافعه الفائتة مدة الحبس ، وان حكم بضمان منافعه المستوفاة بملاك الاستيفاء والإتلاف الذي ليس هو محل الكلام في القاعدة فإن موردها ما يضمن بضمان اليد مما لا يضمن به ، بخلاف استيفاء عمل غير الحر كالعبد والدابة ، فإنه يمكن حصول ما ملكه المستأجر من العمل حال كون العبد أو الدابة تحت يده ، كما يمكن حصول ذلك حال كونهما تحت يد المالك الموجر ، فانتفاع المستأجر بما ملكه من العمل لا يتوقف على كون العين المستأجرة تحت يده.


__________________

وأما لو كان المملوك بعقد الإجارة منافع الأعيان ، كإجارة المساكن والحوانيت ـ مثلا ـ فإنه لا يمكن استيفاء المستأجر ما ملكه من منفعة المسكن والحانوت الا بكونهما تحت يده ، وتسليط المالك الموجر لهما المستأجر على العين ليستوفي ما ملكه من المنفعة بعقد الإجارة.

إذا تبين ذلك ، فنقول : أما في إجارة الحر نفسه للعمل ، فلا معنى لشرط ضمان العين مع فرض عدم إمكان كونه تحت اليد. وأما في إجارة العبد للخدمة أو الدابة لحمل المتاع ـ مثلا ـ فحيث يمكن استيفاء منفعتهما بكل من النحوين كونهما تحت يد المؤجر أو تحت يد المستأجر ، فلا يملك المستأجر باستئجاره كونهما تحت يده لكي يكون المؤجر ملزما بتسليمه لهما وتسليطه عليهما مدة الإجارة.

وعليه ، فيصح له ـ حين العقد ـ اشتراط ضمانهما عند تسلم المستأجر وانتفاعه بهما حال كونهما تحت يده إذ لم يكن الشرط مخالفا لمقتضى العقد بل لإطلاقه ولا بأس به. وأما إجارة الدار والحانوت ـ مثلا ـ فحيث لا يمكن حصول المنفعة للمستأجر إلا بكون العين المستأجرة تحت يده ، فعقد الإجارة المنشأ به تمليك المنفعة للمستأجر يقتضي تسليطه على العين لأن تسليم المنعفة التي ملكها المستأجر بعقدها في هذا القسم متوقف على تسليم المؤجر العين اليه ، وتسليطه عليها ليستوفي منها ما ملكه ، فالعقد ـ هنا ـ كما اقتضى تمليك منفعة الدار ـ مثلا ـ بالأجرة ، اقتضى أيضا تسليم العين للمستأجر وتسليطه عليها ـ مجانا ـ ليستوفي منها المنفعة ، وبعبارة أوضح ، فإن المستأجر في القسم المذكور استحق بعقد الإجارة المنفعة بالأجرة مدة الإجارة وكون العين تحت يده في تلك المدة ـ مجانا ـ فتضمينه العين بالشرط يكون من قبيل الشرط المخالف لمقتضى العقد ، فيبطل.


__________________

والحاصل ، المدعى أن الإجارة لا تختلف حقيقتها باختلاف أفرادها بل هي حقيقة واحدة في الجميع وهو تمليك المنفعة ـ بالعوض في قبال البيع الذي هو تمليك العين بالعوض ، ومنفعة كل شي‌ء بحسبه ، فمنفعة الحر عمله ومنفعة العبد خدمته ، ومنفعة الدابة حمل المتاع أو الركوب عليها ، ومنفعة الدار السكنى فيها ، وهكذا. والمضمون بعقد الإجارة بالعوض هو المنفعة التي ملكها المستأجر بالعقد ، وأما العين المستأجرة فنفس العقد لا يقتضي تضمينها ، وإن أمكن اشتراط ضمانها بالنسبة الى بعض أفرادها ، وسيأتي بيانه.

وأما من جهة تسليط المالك للمنفعة على العين ليستوفي ما ملكه بعقد الإجارة ، فبالنسبة الى ما لا يمكن ويتصور فيه ذلك ، كإجارة الحر نفسه للعمل ، بناء على المشهور من عدم دخوله تحت اليد ، فليس محلا للكلام وأما بالنسبة الى ما يمكن فيه ذلك كسائر موارد الإجارة ، فما يتوقف استيفاء المستأجر ما ملكه بالعقد من المنفعة وانتفاعه بها على كون العين المستأجرة تحت يده مدة الإجارة ، ولا يمكن حصولها بغير ذلك كإجارة المساكن والحوانيت ونظائرها فعقد الإجارة كما يقتضي تضمين المستأجر المنفعة بعوضها كذلك يقتضي تسليطه على العين مدة الإجارة ـ مجانا ـ وعدم تضمينه لها.

وعليه فيكون اشتراط ضمانها مخالفا لمقتضى العقد فيبطل. وأما ما سوى ذلك من موارد الإجارة مما لا يتوقف استيفاء المستأجر وانتفاعه بما ملكه على كون العين تحت يده ، بل يمكن فيه ذلك ، وهي في يد المالك المؤجر ـ أيضا ـ فعقد الإجارة بالنسبة إلى التسليط على العين وكونها تحت يد المستأجر لا اقتضاء ، فيصح للمؤجر أن يشترط على المستأجر في متن العقد ضمانها عند تسلمها.


__________________

إذا عرفت ذلك ، وظهر لك ما يصح فيه اشتراط ضمان العين المستأجرة مما لا يصح فيه ذلك ، يتضح لديك أن يد المستأجر على العين المستأجرة بالإجارة الفاسدة لا تكون مقتضية للضمان مطلقا ، ولا غير مقتضية كذلك بل الأظهر التفصيل بين ما يصح فيه اشتراط الضمان في صحيح العقد ، فيضمن في فاسده العين المقبوضة ، وبين ما لا يصح فيه اشتراط ضمانها في الصحيح فلا يضمنها في العقد الفاسد.

بيان ذلك : إن في مثل إجارة الدار والحانوت مما يكون صحيح عقد الإجارة مقتضيا لضمان المنفعة وعدم ضمان العين المستأجرة تحت يد المستأجر فإن المنفعة تكون مضمونة في فاسدها بحكم أصل قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» والعين المستأجرة لا تكون مضمونة بحكم عكس القاعدة.

وأما ما لا يكون العقد الصحيح فيه مقتضيا لعدم ضمان العين المستأجرة بل يكون العقد بالنسبة إليه (لا اقتضاء) كما في إجارة العبد للخدمة ، والدابة لحمل المتاع ـ مثلا ـ ونظائرهما مما لا يكون استيفاء المنفعة متوقفا على كون العين المستأجرة تحت يد المستأجر مدة الإجارة ـ كما ذكرنا ـ فعدم ضمان العين في الصحيح لكونها أمانة مالكية مأذونا فيها شرعا ، ولم يشترط المالك ضمانها ، ولكنها في الفاسد شرعا حيث ان يد القابض لها من غير استحقاق شرعي ، فيضمنها.

ومما ذكرنا من أن مناط صحة اشتراط ضمان العين المستأجرة على المستأجر وعدم صحته هو توقف استيفاء المنفعة على كون العين تحت يده وعدم التوقف على ذلك. يظهر أن من استأجر غيره لعمل في ملكه كما لو استأجره لخياطة ثوية ـ مثلا ـ وكان استيفاء العمل من الأجير غير متوقف على كون الثوب تحت يده واستيلائه ، بل يمكن حصوله مع كونه تحت يد المستأجر المالك للثوب ـ مثلا ـ وحينئذ ، فيصح


ثم إن بعض المحققين من المعاصرين نسب الى الشيخ في (المبسوط) التمسك لعدم ضمان فاسد عقد لا يضمن بصحيحه ، بالأولوية ، مستشعرا ذلك من كلمة (فكيف) في عبارته ، حيث قال ـ معللا عدم الضمان في المسألة المتقدمة من الرهن المشروط بكونه مبيعا بعد انقضاء الأجل ـ «لأن صحيح الرهن غير مضمون عليه ، فكيف فاسده» وحاصله : إن سبب الضمان إما إقدام المالك عليه ، أو حكم الشارع وإمضاؤه لما أقدم عليه وكلاهما منفي في الرهن الفاسد ، ووجه الأولوية إمكان دعوى عدم ضمان عقد فاسد يضمن بصحيحه لانتفاء السبب الموجب له من الحكم بصحة ما أقدما عليه من الضمان الخاص ـ شرعا ـ بعد أن كان وجود العقد الفاسد كعدمه ، ولا إقدام على غيره ـ كما عرفت سابقا ـ فاذا كان ما يضمن بصحيحه يمكن أن لا يكون مضمونا بفاسده ، فما لا يضمن بصحيحه كالرهن بطريق أولى لا يضمن بفاسده.

__________________

للمستأجر في ضمن العقد اشتراط ضمان الثوب على الأجير عند تسليمه اليه لاستيفاء ما ملكه منه بعقد الإجارة من خياطته.

وعلى كل ، فسواء قلنا : إن العين المستأجرة تضمن في فاسد الإجارة أم قلنا إنها لا تضمن ، فلا يرد النقض في القضية السلبية.

أما لو اخترنا عدم الضمان ، فذلك واضح ، ولو اخترنا الضمان ، فلا نقض ـ أيضا ـ لما ذكرنا من أن القاعدة ـ أصلا وعكسا ـ ليست في مقام بيان كل ما يضمن في العقد الفاسد مما لا يضمن فيه ، وانما هي لتمييز ما يضمن فيه مورد العقد ، ومصبه مما لا يضمن فيه ذلك ، ومصب العقد في الإجارة هو المنفعة وهي مضمونة في الصحيح والفاسد ، فيرجع في العين المستأجرة إلى (قاعدة اليد) وهي مقتضية لضمانها في الفاسد في مورد عدم اقتضاء صحيح العقد مجانيتها ـ فتأمل تعرف.


وفيه ـ مع إمكان أن يقال : إن صحة عقد الرهن والإجارة المستلزمين لتسلط المرتهن والمستأجر على العين شرعا ، بل وسائر ما لا يضمن بصحيحه مؤثرة في عدم الضمان ، وبعبارة أخرى : السبب في عدم الضمان هو إمضاء الشارع لما أقدم عليه المالك من التسليط المجاني ، بخلاف الفاسد منه ، لانتفاء السبب ولو بانتفاء جزئه ، فلا أولوية في المقام :

أن ذلك مبني على إرادة الأولوية من كلمة (كيف) ويحتمل إرادته التعجب منها ، دون الأولوية ، ومنشأه توهم الفرق بين صحيح ما لا يضمن وفاسده في الضمان ، وعدمه ، مع اشتراكهما في عدم علة الضمان أو علة عدمه ، لأن علة الضمان : إما إقدام المالك ، أو حكم الشارع به ، أو المركب منهما ، والكل منتف في صحيح ما لا يضمن ، فكذا في فاسده ، بعد أن كان وجود العقد كعدمه ، والاشتراك في العلة يستلزم الاتحاد في الحكم وبعد أن كان صحيح الرهن ـ مثلا ـ لا يضمن ، فكيف فاسده ، فالفرق بين صحيح الرهن وفاسده مورد التعجب.

هذا ما حضرني من النقوض التي ربما يتوهم ورودها على القاعدة بكليتها : الإيجابية والسلبية ، وقد عرفت عدم تماميتها. مع أنه لو فرض تخلفها في بعض الموارد لدليل خاص لا ينافي تأسيسها الموجب للتمسك بها في موارد الشك ، وإن هي إلا كالعام المخصص ، وليست هي من القواعد العقلية الآبية عن التخصيص ، مع أن النقض إنما يتحقق بما إذا كان ما يخالف القاعدة من المتفق عليه والمسلمات عندهم ، لا فتوى شرذمة منهم.

وأما الإشكالان :

فالأول منهما ـ إن فاسد عقود المعاوضات إذا كان الفساد من جهة لفظه ، لم لا تكون مضمونة بالمسمى كصحيحها بالمعاطاة ، بعد أن كان وجود العقد لفساده كعدمه.


والجواب عنه : إن المعاطاة يعتبر فيها غير اللفظ ما يعتبر في العقود التي منها قصد التمليك بالإيجاب والقبول الفعليين كالعقود المعتبر فيها قصد التمليك بالإيجاب والقبول اللفظيين ، فالقبض والإقباض في المعاطاة يقصد بهما التمليك والتملك ، وفي العقود يترتبان على ما قصد التمليك به من العقد فالعقد الفاسد قصد التمليك به ، لا بما يترتب عليه من القبض والإقباض فما قصد به التمليك من العقد لم يقع ، وما وقع من القبض والإقباض لم يقصد بهما التمليك ، فلم يقع عقد ولا معاطاة ، فلا تكون مضمونة إلا بعوضه الواقعي من المثل أو القيمة.

والثاني ـ إن إطلاق كلامهم في الكلية الإيجابية يشمل صورة علم البائع مع جهل المشتري ، وحينئذ يقتضي سقوط الضمان للغرور.

وفيه : ـ مع انه غير مطرد إلا إذا استلزم غرامة البدل الواقعي زيادة الضرر على المسمى ـ أنه لا غرور من البائع حتى يوجب عدم ضمان ماله وسقوط احترامه ، وجهل المشتري لتقصيره في تعليم الأحكام الشرعية غير موجب لسقوط الضمان عنه.


رسالة

في القبض وحقيقته



بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسألة : لما كان جملة عقود المعاوضات وشطر من المجانيات كالرهن والوقوف والهبات ، يعتبر القبض فيما يترتب عليها من الأحكام ، كان التعرض لمعناه من المهمات ، حيث يترتب عليه كثير من الثمرات.

القول فنقول ـ وبالله المستعان ـ : القبض ـ لغة ـ هو الأخذ والتناول باليد واختلفت عبارات الفقهاء فيما يراد منه في المنقول ـ بعد اتفاقهم على كفاية التخلية في غيره ـ والجمود على ظواهرها ينهيه إلى أقوال ثمانية :

القول الأول ـ كفاية التخلية فيه ـ مطلقا ـ في المنقول وغيره ، صرّح به في (الشرائع) (١) و (مختصر النافع) (٢) وهو المحكي عن (كاشف الرموز) (٣) ونسبه في (الإيضاح) إلى بعض المتقدمين (٤).

__________________

(١) للمحقق الحلي. راجع : كتاب التجارة ، الفصل الرابع في أحكام العقود النظر الثالث في التسليم ـ طبع إيران.

(٢) للمحقق الحلي راجع : كتاب التجارة ، الفصل الرابع في لواحق البيع الثالث في القبض ج ١ ص ١٢٤ طبع دار الكتاب العربي بمصر.

(٣) صاحب (كشف الرموز) هو الحسن ابن أبي طالب اليوسفي الآبي. وكتابه (كشف الرموز) هو شرح رموز كتاب أستاذه المحقق الحلي (المختصر النافع) والكتاب من نفائس المخطوطات ، فرغ من تأليفه سنة ٦٧٢ ه‍ (راجع ـ عن الكتاب ومؤلفه : رجال السيد بحر العلوم ج ٢ ص ١٧٩ ـ ١٨٠).

(٤) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ، لفخر المحققين محمد بن الحسن


وحجتهم ـ على ما قيل ـ : لزوم الاشتراك أو المجاز لو أريد غيرها في المنقول ، بعد الإجماع ـ بل الاتفاق ـ على إرادتها في غيره ، والمراد بها رفع اليد وجميع الموانع عن سلطنة القابض واستيلائه عليه.

القول الثاني ـ التخلية في غير المنقول كالعقار والدور ، وفي المنقول نقله أي نقل المشتري له ، لأنه الكاشف عن السلطنة والاستيلاء عليه ، والمتحقق به قبضه دون البائع ، اختاره الشيخ ـ رحمه الله ـ في (الخلاف) (١) وابن إدريس في (السرائر) ـ على ما حكي عنه ، وابن زهرة في (الغنية) مدعيا عليه الإجماع (٢) والشهيدان في (اللمعة والروضة) (٣) وغيرهم.

ودليلهم عليه ـ بعد الإجماع المعتضد بالشهرة المحكية ـ في الجملة ـ : فهم العرف ، لأنه المرجع فيما لم يرد في تعريفه نص من الشرع.

القول الثالث ـ كالثاني ـ في تحقق قبض المنقول بنقله ، للصدق العرفي إلا في خصوص المكيل والموزون ، فقبضه كيله أو وزنه معينا ، لصحيحة معاوية بن وهب ، قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الرجل يبيع المبيع قبل أن يقبضه؟ فقال : ما لم يكن كيل أو وزن ، فلا تبعه

__________________

ابن العلامة الحلي المتوفى سنة ٧٧١ ه‍ وهو شرح مفصل لقواعد والده العلامة ـ طاب ثراهما ـ والكتاب من نفائس المخطوطات.

(١) الجزء الأول : كتاب البيع مسألة (١٥٩) طبع طهران سنة ١٣٧٧ ه‍.

(٢) كتاب الغنية لابن زهرة مطبوع في آخر المجلد الثاني من كتاب جوامع الفقه.

قال ـ رحمه الله ـ في كتاب البيع فصل فيما يتعلق بالبيع من الأحكام : «والقبض فيما لا يمكن نقله كالأرضين : التخلية ورفع الحظر وكذا حكم ما يمكن ذلك فيه مما يتصل بها من الشجر وثمره المتصل به والبناء وفيما عدا ذلك التحويل والنقل كل ذلك بدليل إجماع الطائفة».

(٣) راجع : ج ١ كتاب البيع ، الفصل العاشر في الأحكام ، الثاني في القبض.


إلا أن تكيله أو تزنه إلا أن تولاه الذي قام عليه» (١) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام : «إنه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكال؟ قال : لا يصلح له ذلك» (٢) حيث علق فيهما جواز بيع المبيع على الكيل أو الوزن ، سيّما مع وقوع الأولى في جواب السائل عن بيع ما لم يقبض أو يكال ، وليس إلا لكونهما قبضا في المكيل والموزون. ذهب إلى هذا القول جماعة ، بل نسبه بعضهم إلى المشهور.

وفيه : إن اعتبار الكيل والوزن : ان كان لكونهما قبضا في المكيل والموزون.

فيدفعه : أنهما يصدران ـ غالبا ـ من البائع في مقام الإقباض والتسليم ، والقبض والتسليم فعل المشتري ، فكيف يكون ما هو فعل البائع فعلا للمشتري؟ فلا أقل من القول بالتفصيل بين ما لو صدرا من البائع أو المشتري في مقام التسلم والقبض ، ومنه يظهر وجه الإشكال في جعل التخلية ـ التي قد عرفت معناها ـ قبضا ـ مطلقا ـ أو في غير المنقول الذي ادعي الاتفاق عليه فيه (٣).

__________________

(١) راجع : كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي : كتاب التجارة ، أبواب العقود ، باب جواز بيع المبيع قبل قبضه ـ حديث رقم ١١ ، طبع الإسلامية طهران.

(٢) راجع : كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي : كتاب التجارة ، أبواب العقود ، باب جواز بيع المبيع قبل قبضه ـ حديث رقم ٥ طبع الإسلامية طهران.

(٣) كما هو مفاد القول الأول والثاني الآنفين ـ من أن المراد بها رفع اليد وجميع الموانع عن سلطنة القابض واستيلائه عليه ، فإنها بالمعنى المذكور من فعل البائع لا من فعل المشتري : فلا يصح تفسير القبض الذي هو فعل المشتري بها ـ حينئذ ـ ولكن يمكن رفع الاشكال بتفسير التخلية بما يناسب فعل المشتري ، بأن نقصد منها : التخلية بمعناها الاسم المصدري الذي هو حصيلة المعنى المصدري القائم بالبائع ، فمن فسر القبض في باب البيع بالتخلية أراد بها : التخلي بالمبيع وكونه


وان اعتبرهما الشارع شرطا في رفع المنع ـ تحريما أو كراهة ـ عن بيع ما لم يقبض في خصوص الطعام أو مطلق المكيل والموزون.

فيدفعه ـ مضافا إلى كونه خروجا عن فرض كونهما قبضا في المكيل والموزون ـ : أنه مناف للإجماعات المحكية على جواز البيع بعد القبض فاللازم حمل الصحيحتين ونحوهما على الغالب مما يترتب عليهما من القبض والتسلم.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما استقر به في (المختلف) : من كون القبض في المنقول نقله ، وفي المكيل والموزون ذلك ، أو كيله ووزنه مخيّرا بينهما (١).

واستند في هذا القول الى الجمع بين العرف الذي هو المرجع فيما لا نص فيه من الشرع مؤيدا برواية عقبة بن خالد عن الصادق ـ عليه السلام ـ في رجل اشترى متاعا من آخر ، وواجبه ، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء الله ، فسرق المتاع : من مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته ، فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله اليه» حيث جعل ـ عليه السلام ـ النقل هو القبض. وبين صحيحة معاوية المتقدمة (٢).

__________________

مخلى من قبل البائع بنحو لم يكن له سلطان عليه بعد أن كان ، ولا ريب أن ذلك المعنى قائم بالمشتري ، فيصح تفسير القبض بما هو فعله بها ، ويكون رفع يد البائع وجميع الموانع عن المبيع من مقدمات حصول التخلية للمشتري بالمعنى المذكور وبالجملة ، فالتخلية بمعناها المصدري من فعل البائع ، وبمعناها الاسم المصدري من فعل المشتري ، فتأمل.

(١) وهذا القول اعتبره المصنف رابع الأقوال الثمانية في مسألة القبض.

(٢) الآنفة الذكر في ص ١٢١.


ولعل التزامه بكون الكيل والوزن قبضا دون أن يكون اعتبارهما لمحض كونهما شرطا في رفع المنع التحريمي أو الكراهي عن بيع المكيل والموزون للتخلص عن لزوم تخصيص الصحيحة بالإجماع الذي حكاه بعد أن ساقها حيث قال : «فجعل ـ عليه السلام ـ الكيل والوزن هو القبض ، لأن الإجماع على تسويغ بيع الطعام بعد قبضه» (١).

هذا ، ومفاد الإجماع المزبور : هو كون القبض مسوغا للبيع ، لا حصر المسوغ به ـ كما هو مفاد ما حكاه جدنا (٢) في (الرياض) حيث قال

__________________

(١) راجع : مختلف الأحكام للعلامة كتاب التجارة ، الفصل السادس عشر في القبض وحكمه. وتمام الموضوع ما نصه : «مسألة ـ قال الشيخ في المبسوط ـ الى قوله ـ : والأقرب ، ان المبيع ان كان منقولا فالقبض فيه هو النقل أو الأخذ باليد ، وان كان مكيلا أو موزونا فقبضه هو ذلك ، أو الكيل أو الوزن ، وان لم يكن منقولا فالقبض فيه : التخلية. لنا : أن العرف يقتضي ما قلناه ، ومن عادة الشرع رد الناس الى ما يتعارفونه من الاصطلاحات فيما لا ينص على مقصوده باللفظ.

ويؤيده : ما رواه عقبة بن خالد عن الصادق ـ عليه السلام ـ في رجل اشترى متاعا من آخر وواجبه ، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء الله ، فسرق المتاع ، من مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله اليه» فجعل النقل هو القبض ، لأنه علل زوال الضمان به. ولا خلاف إنه معلل بالقبض ، فكان هو القبض ، وما رواه معاوية بن وهب ـ في الصحيح ـ : قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ : عن الرجل يبيع المبيع قبل أن يقبضه فقال : ما لم يكن كيل أو وزن ، فلا يبعه حتى يكيله أو يزنه ، إلا أن يوليه الذي قام عليه. فجعل ـ عليه السلام ـ : الكيل والوزن هو القبض ، للإجماع على تسويغ بين الطعام بعد قبضه ..».

(٢) صاحب الرياض السيد مير علي الطباطبائي هو جد المصنف لأمه.


في جواب المناقشة على الرواية ـ : «.، فليكونا قبضا ، للإجماع على عدم ارتفاعه الا به»(١)

وتبعه ـ في كيفية نقل الإجماع وحصر المسوّغ بالقبض ـ الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين) حيث قال ـ في وجه سقوط المناقشة : «. بالإجماع المدعى على عدم ارتفاع المنع ـ تحريما أو كراهة ـ بدون القبض» (٢) ولا يخفى عليه الفرق الواضح بين النقلين ، واختلاف لزوم التخصيص على الطريقين.

القول الخامس ـ ما ذهب إليه في (المبسوط) حيث قال : «..

__________________

(١) راجع : كتاب التجارة ، لو أحق البيع ، الثالث في القبض وأحكامه وتمام عبارته ـ فيما يخص الموضوع ـ : «.. والمناقشة فيهما : بضعف الدلالة من حيث أن ظاهر الأولى أن البيع قبل القبض لا يجوز حتى يكيل أو يوزن ، وذلك لا يدل على كون القبض ذلك ، ولا يدل على ذلك بضم السؤال ، إذ يصح جواب السائل : هل يجوز قبل القبض؟ بأنه لا يجوز قبله بدون أحد الأمرين. والثانية : انه يعتبر في انتقال الضمان من البائع إلى المشتري : نقل المتاع وإخراجه من بيته وليس فيه تفسير القبض بكونه عبارة عن ماذا ، مع أن ظاهرها أنه يعتبر في انتقال الضمان الإخراج من بيت البائع ، ولا قائل به ـ مدفوعة : بظهور الأولى في ارتفاع المنع تحريما أو كراهة بأحد الأمرين فليكن قبضا ..».

(٢) لعل المقصود : شرح اللمعة المسمى بـ (الأنوار الغروية) للفاضل الشيخ محمد جواد ابن الشيخ محمد تقي ابن الشيخ محمد الأحمدي البياتي ، الشهير بـ (ملا كتاب) المتوفى بعد سنة ١٢٦٧ ه‍ وهو كتاب كبير يحتوي على عامة أبواب الفقه في عدة مجلدات ، وتمم بعض أبوابه ولده الشيخ حسين في عدة مجلدات أيضا والكتاب لا يزال مخطوطا ، توجد نسخته في بعض خزائن المخطوطات في النجف الأشرف.


وان كان مما ينقل ويخول ، فان كان مثل الدراهم والدنانير والجواهر ومما يتناول باليد ، فالقبض فيه هو التناول ، وان كان مثل الحيوان كالعبد والبهيمة ، فإن القبض في البهيمة أن يمشي بها الى مكان آخر ، وفي العبد أن يقيمه الى مكان آخر ، وان كان اشتراه جزافا كان القبض فيه أن ينقله من مكانه ، وان كان اشتراه مكايلة فالقبض فيه أن يكيله» انتهى (١)

القول السادس ـ ما ذهب إليه في (الدروس) قال : «والقبض في غير المنقول : التخلية بعد رفع اليد ، وفي الحيوان نقله ، وفي المعتبر كيله أو وزنه أو عده : ذلك أو نقله ، وفي الثوب : وضعه في اليد» (٢) ولعل نظره في المكيل والموزون الى الصحيحتين ، وفي النقل الى العرف ، ورواية عقبة المتقدمة ، لكن الفرق بين الحيوان وغيره مشكل وإلحاق المعدود بالمكيل والموزون قياس ، وكلمة (بعد) لعلها زائدة لأن التخلية تحصل برفع اليد والموانع ، لا بعد (٣).

القول السابع ـ كفاية التخلية في نقل الضمان عن البائع ، لا في زوال المنع عن بيع ما لم يقبض. نفى عنه البأس في (الدروس) (٤).

ومن المحتمل أن يكون ذلك اختلافا في مناط الحكمين ، لا في تسميته

__________________

(١) راجع : كتاب البيع ، فصل في حكم بيع ما لم يقبض ، وقبل هذه الجملة ما نصه «.. وكيفية القبض ينظر في المبيع : فان كان مما لا ينقل ولا يحول فالقبض فيه التخلية ، وذلك مثل العقار والأرضين ، وان كان مما ينقل ..».

(٢) راجع : كتاب البيع ، درس في القبض.

(٣) بناء على ما قربناه فيما سبق : من أن المراد بالتخلية معناها الاسم المصدري القائم بالمشتري وأن رفع يد البائع والموانع عن المبيع من مقدماتها بالمعنى المذكور فلا زيادة في كلمة (بعد).

(٤) راجع : كتاب البيع ، درس في القبض ـ حيث يقول : «.. وقيل :


قبضا على أن يكون القبض في نقل الضمان غيره في زوال المنع ، وعليه لا يكون قولا آخر في ماهية القبض وحقيقته. ويقرّبه استبعاد كونه قولا في معنى القبض مرضيا عنده ، بعد ما اختار قبله بلا فصل : ما نقلناه عنه إلا أنه ـ حينئذ ـ يمكن أن يقال عليه : كيف نفى البأس عنه مع أن التخلية إن كانت قبضا ، فقد حصل المسوّغ للبيع للإجماع المتقدم المحكي في (المختلف) وغيره ، وإلا فلم يتحقق نقل الضمان بحكم النبوي المعروف : «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» بل رواية عقبة المتقدمة دالة بظاهرها على اعتبار النقل في رفع الضمان عن البائع ، كما فهمه الأصحاب لا كفاية التخلية فيه ، كما فهمه شيخنا المرتضى ـ قدس سره ـ في (المكاسب) وجعلها معارضا للنبوي وتكلف في وجه الجمع بينهما (١). ومنشأه قراءة (يقبض) بضم حرف المضارعة ، لا بفتحها ، وجعل فاعل (يخرج) راجعا إلى البائع دون المشتري.

القول الثامن ـ الاستقلال والاستيلاء عليه باليد وهو. المحكي عن الأردبيلي ـ رحمه الله ـ والسبزواري ـ رحمه الله ـ (٢) و (المسالك) وإن

__________________

التخلية مطلقا ولا بأس به في نقل الضمان ، لا في زوال التحريم أو الكراهية عن البيع قبل القبض ..»

(١) حيث قال ـ كما في كتاب البيع ، القول في أحكام القبض ـ «.. فيمكن حمل النبوي على ذكر ما هو مقارن غالبي للتخلية ، واحتمل ورود الرواية مورد الغالب من ملازمة الإخراج للوصول إلى المشتري بقرينة ظاهر النبوي.».

(٢) قال المحقق السبزواري في كفاية الأحكام في الفصل الثالث من أحكام العقود : «والأقوى الرجوع في ذلك (يعني القبض) الى العرف حيث لم يثبت له حقيقة شرعية ، قال في المسالك : العرف يدل على أن إقباض غير المنقول يتحقق بالتخلية مع رفع يد البائع عنه وعدم مانع للمشتري من قبضه ، وأما في المنقول فلا يتحقق


أطرده في الأخير في غير المكيل والموزون ، وتبع فيهما النصوص المتقدمة (١).

لكن لا يكاد يتم ما ذكره هنا وقواه ، مع ما ذكره ـ أخيرا ـ بعد ذكر فروع كثيرة بقوله : «والتحقيق هنا أن الخبر الصحيح دل على النهي عن بيع المكيل والموزون قبل اعتباره بهما له ، لا على أن القبض لا يتحقق بدونهما وكون السؤال فيه وقع عن البيع قبل القبض ـ حينئذ ـ لا ينافي ذلك ، لأن الاعتبار بهما قبض وزيادة ، وحينئذ ، فلو قيل : بالاكتفاء في نقل الضمان فيهما بالنقل عملا بمقتضى العرف والخبر الأخير ، ويتوقف البيع ثانيا على الكيل والوزن ، أمكن ، إن لم يكن إحداث قول النهي فتأمل جيدا» انتهى.

والذي يظهر لي أن القبض معناه أمر واحد في جميع موارد اعتباره وهو الاستيلاء والسلطنة العرفية على الشي‌ء وقيامها بذات المشتري ، بعد أن كانت قائمة بذات البائع. مثلا ـ بحيث لو لم يكن مالكا أو مأذونا من مالك لكان غاصبا من غير مدخلية مماسة اليد أو فعل الجوارح في ماهيته واعتبار العرف لشي‌ء من ذلك ، إنما هو لكونه كاشفا عن حصولها له وتحققها فيه ، فهو معتبر من باب الامارة والطريقية ، لا موضوعية له في

__________________

إلا باستقلال يد المشتري به سواء نقله أم لا ، وكذا في طرف البائع بالنسبة إلى الثمن وهو حسن».

(١) راجع : ج ١ كتاب التجارة ، الفصل الرابع في أحكام العقود ، النظر الثالث في التسليم ـ في شرح قول المحقق : «والقبض هو التخلية ..» حيث يقول «.. والعرف يدل على أن إقباض غير المنقول يتحقق بالتخلية مع رفع يد البائع عنه ، وعدم مانع للمشتري من قبضه ، وأما في المنقول فلا يتحقق إلا باستقلال يد المشتري به سواء نقله أم لا ، وكذا في طرف البائع بالنسبة إلى الثمن ، وهذا مطرد في المكيل والموزون وغيرهما ، إلا أنهما خرجا بالنص الصحيح فبقي الباقي ، وهذا هو الأقوى».


ماهيته ، بل هي مرتبة على السلطنة ترتب المعلول على العلة والأثر على المؤثر. نعم هي أسباب لحكم العرف بحصولها للمشتري ، لا لنفس الحصول فلو حصلت التخلية التامة التي هي بمنزلة الإقباض من البائع ـ مثلا ـ مع قبولها من المشتري تحولت تلك السلطنة من المنقول منه الى المنقول اليه ، وقامت بذاته قيام الصفة بالموصوف والعارض بالمعروض ، ولذا لو أرجع الغاصب العين المغصوبة إلى المغصوب منه ووضعها بين يديه أو في داره بمشهد منه حصلت التأدية منه ، وبرئت ذمته ، وليس إلا لرجوع تلك السلطنة المسلوبة منه اليه بمجرد وضعه بين يديه وحصول القبض منه لماله وكذا الودعي للوديعة. ولعل اختلاف عبارات الأصحاب في قبض المنقول عدا من اعتبر الكيل والوزن في المكيل والموزون للتعبد محض اختلاف في التعبير عن الكواشف والأمارات ، لا خلاف في أصل معناه. ولذا كل منهم يستند في دعواه الى العرف. فلترجع ـ حينئذ ـ جملة من الأقوال بعضها الى بعض.

هذا تمام الكلام في أقوال المسألة


بقي هنا فروع

الأول انه لو كان المبيع مشغولا بأمتعة البائع : فاما أن يكون منقولا (١) أو غير منقول (٢) وعلى الأول : فاما أن نعتبر النقل في قبضه (٣) أو تكفي التخلية أو الاستيلاء ، وعلى التقادير : فمرة ـ مع إذن البائع لنقل المتاع ، وأخرى ـ مع عدم إذنه له.

فنقول : أما مع الاذن بنقله (٤) فلا إشكال في حصول القبض ـ مطلقا ـ بعد حصول ما هو معتبر فيه (٥) ـ منقولا كان أو غير منقول ـ كالعقار والدور. وأما مع عدم إذن البائع في نقل المتاع مع كونه آذنا في قبض المبيع أو كان اذنه غير معتبر لوصول الثمن إليه (ففي) تحقق القبض قبل تفريغه وترتب جميع أحكامه عليه بالاستيلاء عليه ، أو نقله بما فيه ، ان كان منقولا واعتبرنا النقل فيه ، أو عدمه كذلك (٦) أو ترتب نقل الضمان عن البائع دون غيره من أحكام لعدم كونه قبضا ـ : (وجوه

__________________

(١) يعني : يمكن نقله من مكان البيع الى حيز آخر.

(٢) مثل الدار والعقار.

(٣) يعني : لا يكفي في تحقق قبضه مجرد التخلية أو الاستيلاء بل يعتبر مع ذلك نقله عن مكان البيع الى مكان آخر.

(٤) اي نقل المتاع.

(٥) من مجرد التخلية أو الاستيلاء عليه أو مع نقله الى حيز آخر في المنقول (٦) يعني : عدم ترتب شي‌ء من أحكام القبض قبل تفريغه عن المتاع وان استولى عليه المشتري أو نقله بما فيه ان كان منقولا.


واحتمالات) قوى أولها (١) في (الجواهر) ونظره الى عدم مانعية الإثم لتحقق القبض وترتب أحكامه عليه ، وهو حسن ، إن كان المنشأ ذلك لأن النهي لا يدل على الفساد في المعاملة ، وإن اتحد العنوان المحرّم معها في الوجود ـ كما هو محقق في محله ـ (٢).

__________________

(١) يعني تحقق القبض قبل تفريغه وترتب جميع أحكامه عليه بالاستيلاء عليه أو نقله بما فيه إن كان منقولا واعتبر النقل فيه.

(٢) النهي عن المعاملة : تارة يكون من جهة أن الانشغال بها يفوت الحضور الى واجب تضيق وقته ، كالنهي يوم الجمعة عن البيع عند النداء الى صلاتها في الآية الشريفة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) .. وأخرى ـ يكون لاتحاد العنوان المحرّم معها في الوجود ، كما في صورة نقل المبيع المشتمل على متاع البائع الحاصل به قبض المشتري له ، فيما لو اذن البائع بنقله ، ولم يأذن بنقل ما فيه من المتاع فان نقله المحرم لعدم اذن مالكه بنقله اتحد مع نقل المبيع المأذون من البائع نقله. والنهي في الصورتين المذكورتين لا يقتضي فساد المعاملة ـ أعني البيع وقت النداء وقبض المبيع مع ما فيه من المتاع الذي لم يأذن مالكه بنقله ـ إذ النهي فيهما إنما هو لجهة خارجة عنها وهي مبغوضية الانشغال بما يفوت الواجب المضيق وقته وفيما نحن فيه مبغوضية التصرف في مال الغير بدون اذنه وهو غاية ما يقتضي حرمتها ، لا عدم ترتب الأثر عليها الذي هو معنى صحة المعاملة إذ ليست المعاملة كالعبادة مما تكون حرمتها كاشفة عن مبغوضيتها للشارع ، وعدم صلاحية التقرب بها الى الله تعالى لأي جهة كانت حرمتها.

نعم ربما تكون المعاملة بذاتها من حيث هي هي متعلقة لنهي الشارع لجهة فيها تقتضي مبغوضيتها لديه ، وعدم إمضائه لها كبيع المحاقلة والمزابنة والربا ونظائرهما مما تكون المعاملة بذاتها مبغوضة للشارع ومتعلقة لنهيه ، فيكون دليلها مخصصا لعموم آية «حل البيع» و «التجارة عن تراض» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»


ولكن يمكن أن يوجه المنع بعدم تحقق الاستيلاء والسلطنة ، أو التخلية التي قد عرفت أن معناها رفع جميع الموانع التي منها ـ بل أعظمها ـ المانع الشرعي لكونه مستلزما للتصرف في مال الغير بغير إذنه ولو كان منقولا ، واعتبرنا النقل فيه ، لأن اعتبار النقل اعتبار للتخلية وزيادة. نعم يتحقق بعد التفريغ وان أثم فيه ، لا قبله (١).

__________________

فتفسد المعاملة بذلك ولا يترتب عليها الأثر ـ شرعا.

(١) توضيح ذلك : أن القبض الذي هو الاستيلاء المطلق على المبيع ـ منقولا كان أم غير منقول ـ يتوقف تحققه بالنسبة إلى المشترى على رفع جميع الموانع عن استيلائه الذي هو معنى التخلية وحقيقتها. ومن أعظم الموانع وأهمها : المانع الشرعي المستلزم عدم رفعه للتصرف في مال الغير بدون إذنه.

وعليه فالتخلية بالمعنى المذكور لا بد منها في تحقق القبض ، ولو فيما يعتبر في تحقق قبضه نقله ، إذ ليس معناه الاكتفاء بمجرد نقله ، ولو كان ممنوعا منه ـ شرعا ـ وإلا لما توقف قبضه على إذن البائع بالقبض فيما يعتبر فيه اذنه ، كما في صورة عدم وصول الثمن اليه ، بل اعتبار نقله اعتبار للتخلية وزيادة.

إذا عرفت ما ذكرنا : من أن الاستيلاء المطلق على المبيع لا يتحقق للمشتري إلا برفع جميع الموانع ، سيما المانع الشرعي ، ففي الفرع المذكور ، وهو ما لو اشتمل المبيع على متاع البائع : رفع المانع الشرعي عن استيلاء المشتري إنما يتحقق بأحد أمور ثلاثة : إما بنقل البائع متاعه عنه ، أو إذنه للمشتري بنقله عنه ، أو إذنه بنقله مع المبيع فيما يعتبر في قبضه النقل ـ فلو لم يتحقق أحد الأمور الثلاثة لا يمكن تحقق القبض المشروع بمعنى الاستيلاء المطلق على المبيع وترتب جميع أحكام القبض عليه من غير فرق بين المنقول وغير المنقول كالدار والعقار. فان الدار المشغولة بمتاع البائع ـ ولم يأذن للمشتري بتفريغها عنه وكان ممنوعا عنه شرعا ، لاستلزامه التصرف في مال الغير بدون إذنه ـ كيف يمكن القول بتحقق قبضها بمعنى الاستيلاء


ومنه يظهر وجه القول الأخير (١) ومواقع النظر من كلام شيخنا في (الجواهر) حيث قال : «.. فان كان منقولا كالصندوق المشتمل على أمتعة البائع ، كفى في قبضه ـ على المختار ـ حصول تلك السلطنة عليه ولو قبل تفريغه ، بل لو اعتبرنا نقله ـ ونقله المشتري بالامتعة ـ كفى في نقل الضمان وغيره ، حتى مع عدم إذن البائع في نقل الأمتعة ، بعد أن يكون آذنا في المبيع ، أو كان إذنه غير معتبر لوصول الثمن إليه ، إذ الإثم في ذلك لا ينافي صحة القبض وترتب أحكامه عليه (٢) واحتمل في (المسالك) توقفه ـ فضلا عن غيره من أحكام القبض ـ على إذن البائع في نقل الأمتعة

__________________

المطلق عليها أو تخليتها له مع كونها مشغولة بمتاع البائع ، ولم يأذن بالتصرف فيه ونقله عنها ، سيما إذا كان جل بيوتها مشغولة بالمتاع. نعم يتحقق القبض بعد حصول الإثم بنقل المتاع عنها وتفريغها منه ، لا قبله.

(١) وهو القول بترتب نقل الضمان إلى المشتري وعدم ترتب غيره من أحكام القبض الصحيح ـ فيما لو اذن البائع بنقل المبيع ـ خاصة ـ ولم يأذن بنقل ما فيه من المتاع ـ ونقله المشتري بما فيه.

أما وجه ترتب نقل الضمان إلى المشتري ، فلما سيجي‌ء من سيدنا المصنف في الفرع السادس : من أن نقل الضمان من البائع إلى المشتري لا يتوقف على صحة القبض ، بل هو من أحكام مطلق قبض المشتري ـ سواء الصحيح منه والفاسد ـ

وأما عدم غيره من أحكام القبض ، فلما عرفت ـ آنفا في توجيه المنع ـ أنه من آثار القبض الصحيح غير الممنوع فيه شرعا ـ والمفروض ان القبض المذكور ممنوع عنه ـ شرعا ـ لاستلزامه التصرف بمال البائع غير المأذون بنقله.

(٢) ظهر مما ذكرنا ـ آنفا ـ : أن الأحكام المترتبة على القبض الصحيح غير الممنوع عنه شرعا لا يترتب عليه. وإنما يترتب عليه خصوص نقل الضمان المترتب على مطلق القبض ـ صحيحا كان أم فاسدا.


وفيه من الضعف ما لا يخفى ، وإن كان غير منقول فلا ريب في تحقق التخلية قبل نقل الأمتعة ، فيكتفى بها. واحتمل في (المسالك) عدم الاكتفاء قبل النقل ـ أيضا ـ وهو أضعف من سابقه» (١) انتهى.

وأما الوجه الثالث (٢) فقد يقال : إنه لا موجب لنقل الضمان بعد أن لم يكن قبضا بالفرض ، مع أنه تالف قبل قبضه «وكل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال البائع» بحكم النبوي المتقدم.

ودعوى ترتب الضمان على القبض الفاسد ـ غير الشرعي ـ كقبض المغصوب وإن لم يترتب عليه سائر أحكامه.

__________________

(١) راجع : كتاب البيع من كتاب الجواهر في مبحث ما يتحقق به القبض في شرح قول المحقق : القبض هو التخلية ..

أما وجه الضعف فيما يتوقف قبضه على نقله ، فقد ظهر بما أشار إليه في (الجواهر) من أن الإثم في ذلك (يعني في نقل المبيع) لا ينافي صحة القبض وترتب أحكامه عليه ، بناء على ما تقدم منا ـ آنفا ـ من أن النهي عن المعاملة ـ لا من حيث هي هي بل لجهة خارجة عنها كما في المقام ـ لا يقتضي فسادها وعدم ترتب الأثر عليها.

وأما وجه أضعفية ما احتمله في (المسالك) من عدم الاكتفاء بالتخلية في غير المنقول قبل نقل المتاع عن المبيع ، فهو انا لو تنزلنا وسلمنا اعتبار اذن البائع بنقل المتاع فيما يتوقف قبضه على نقله ، ولكن فيما يكون قبضه بالتخلية الحاصلة برفع يد البائع عن المبيع وتفويض أمره الى المشتري ، فعدم الاكتفاء بها في تحقق القبض قبل نقل المتاع وتفريغه ، كاد أن يكون بلا وجه.

هذا ، ولكن ذكرنا ـ آنفا ـ أنه يمكن توجيه ما احتمله في (المسالك) بما أشار إليه المصنف بقوله «ولكن يمكن توجيه ذلك ..» الى آخر كلامه.

(٢) أي : ترتب نقل الضمان إلى المشتري دون غيره من أحكام القبض.


يدفعها : أن الضمان المترتب عليه هو الضمان بالمثل أو القيمة ، دون الضمان بالمسمى ، والمبيع مضمون بالمسمى على بائعه قبل التلف ، لا بالمثل أو القيمة.

إلا أن الأقوى ـ كما ستعرف ـ ضمانه بالمسمى ، إن لم يكن فساده منبعثا عن فساد العقد أو ما يعتبر فيه ـ كما في المقام ـ (١).

ومنه يظهر قوة ما قواه في (المسالك) (٢) ففي المسألة احتمالات ثلاثة.

الثاني ـ لو كان المبيع بنفسه مشتركا بين البائع وغيره ، فعلى المختار كفى في تحقق القبض حصول الاستيلاء والسلطنة للمشتري على حسب ما كان

__________________

(١) يعني : أن الأقوى ضمان المشتري المقبوض بالقبض الفاسد بالمسمى فيما لم يكن منشأ فساده فساد العقد أو ما يعتبر فيه. فإنه يضمنه بالمثل أو القيمة فيما كان المنشأ فساد العقد ، وفي المقام : منشأ فساد القبض عدم اذن البائع بنقل المتاع ، مع فرض صحة العقد وسيأتي من سيدنا ـ في الفرع السادس ـ توضيح ذلك.

(٢) حيث قال الشهيد ـ قدس سره ـ في مباحث القبض من كتاب البيع ـ : «الرابع ـ لو كان المبيع مشغولا بملك البائع : فإن كان منقولا كالصندوق المشتمل على أمتعة البائع واعتبرنا نقله فنقله المشتري بالأمتعة ، كفى في نقل الضمان مطلقا ـ ويحتمل توقفه على إذن للبائع في نقله الأمتعة ، وان كان عقارا كالدار ، ففي الاكتفاء بالتخلية قبل نقل المتاع وجهان ، أجودهما ذلك ، وهو خيرة التذكرة».

فإن الظاهر من اكتفائه في نقل الضمان ـ مطلقا ـ ومن قوله أخيرا ـ أجودهما ذلك قوة الاكتفاء بمطلق النقل.

وقوله ـ في الفرع الأول «ويحتمل توقفه على إذن البائع في نقله الأمتعة» مجرد احتمال ، لا اختيار.


للبائع ـ مطلقا ـ منقولا كان المبيع أم غيره.

وكذا على القول بكفاية التخلية ـ مطلقا ـ إذ ليس للمشتري إلا ما كان للبائع من السلطنة له في المال المشترك ، والمنع من التصرف من جهة الشركة لا ينافي الملكية بالإشاعة ، لوضوح الفرق بين الطلق والمشاع في الملكية والتخلية المطلوبة من المالك ، وان اعتبرنا النقل في المنقول وكان المبيع المشترك منقولا ، فغير بعيد الحاقة بغير المنقول في تحقق القبض بالتخلية ـ كما عن (المختلف) ـ في كتاب الهبة ـ (١).

ويحتمل ـ قويا ـ توقف القبض على إذن الشريك أو قبض الحاكم له ـ أجمع ـ بعضه أمانة ، وبعضه عن المشتري ، بعد رفع أمره الى الحاكم.

الثالث : قال في (المسالك) ـ تبعا للتذكرة ـ : «لو كان المبيع في مكان لا يختص بالبائع ، كفى في المنقول نقله من حيز الى آخر ، وان كان في مكان يختص به ، فان نقله فيه من مكان الى آخر باذنه كفى أيضا (٢)

__________________

(١) قال العلامة في المختلف ، في آخر مسألة من الفصل الأول من كتاب الهبة) : «مسألة : قال الشيخ في (المبسوط) : هبة المشاع جائزة ، ثم إن كان مما لا ينقل كالأرض كان القبض هو التخلية ، وإن كان مما ينقل كان القبض التحويل ، فان وافق الشريك على أن يقبض المتهب أو المتهب على أن يوكل الشريك في القبض صح ، وان تعاسرا نصب الحاكم أمينا يقبض الكل : نصفه هبة ونصفه أمانة للشريك حتى يتم عقد الهبة ، والوجه عندي : جعل القبض ـ هنا ـ التخلية أيضا لأنه ـ فيما لا يمكن نقله وتحويله ـ كأنه لا فرق بين عدم الإمكان المستند الى عدم القدرة الحسية أو عدم القدرة الشرعية ، وهو أولى من التحكم في مال الشريك بغير اختياره».

(٢) يعني في ترتيب جميع آثار القبض على نقله.


وان كان بغير إذنه كفى في نقل الضمان خاصة كما مر» (١).

قلت : هذا مبني على اعتبار النقل في المنقول ، وعليه فالظاهر حصول القبض بنقله (٢) من حيز الى آخر ، وان كان مختصا بالبائع وكان بغير إذنه لتحقق ما هو مناط القبض من التسليط والتسلط والنقل المأذون في أصله ، وإن أثم باختياره منه الفرد المتحد مع العنوان المحرم ، سيّما مع كون الحيز المنقول إليه في طريق السلوك الى الخارج ضرورة أن النقل الى ذلك الموضع محلل لا إثم فيه ، وهو يكفي في تحقق القبض ، وها هنا يتجه كلام شيخنا المقدم في (جواهره) لا في الفرع المتقدم ، فافهم (٣).

__________________

(١) راجع : كتاب المسالك للشهيد الأول ، المبحث السادس من مباحث القبض في شرح قول المحقق (القبض هو التخلية ..) ويريد مما مر : أي في المبحث الرابع من مباحث القبض ، كما أشار إليها سيدنا المصنف ـ آنفا ـ ونقلنا ـ عبارته بنصفها وعلقنا على الموضوع ـ فراجع.

(٢) وترتيب جميع آثار القبض على نقله.

(٣) يريد سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ بالفرع المتقدم : الفرع الأول من فروع القبض ، وهو ما إذا كان المبيع مشغولا بأمتعة البائع ، ولم يأذن بنقل المتاع مع كونه آذنا بقبض المبيع ونقله المشتري بما فيه ، وقوى صاحب (الجواهر) ـ قدس سره ـ حصول القبض للمشتري بنقله مع المتاع ، وترتيب جميع آثار القبض وأحكامه على نقله مع المتاع ، قائلاً «إن الإثم بنقل المتاع لا ينافي صحة القبض وترتب أحكامه عليه» وذكر سيدنا ـ قدس سره ـ أن نظره في حصول القبض : أنه معاملة والنهي عنها لا يقتضي الفساد.

ثم ذكر ـ رحمه الله ـ وجها لفساد القبض المذكور ، سبق منا توضيحه ، وحاصل الفرق بين هذا الفرع وبين ما سبق من الفرع الأول : أنه في هذا الفرع مناط صحة القبض حاصل ، وهو إذن البائع بأصله ، وقدرة المشتري ـ شرعا ـ عليه بنقله


الرابع : لو باع ما هو غير منقول كالدار مع ما فيها من المنقول صفقة فالظاهر كفاية التخلية في قبض المجموع ـ هنا ـ وان اعتبرنا النقل في المنقول ، لأن قبض الدار قبض لها بما فيها ـ عرفا.

__________________

الى حيز خارج عما يختص بالبائع مما لم يأذن بنقله إليه ، غاية الأمر : إن المشتري بسوء اختياره طبق القبض المأذون فيه على الفرد المحرم ـ شرعا ـ بأن نقله الى المكان الذي لم يأذن البائع بنقله اليه ، فيتوجه ـ حينئذ ـ كلام صاحب الجواهر ـ قدس سره ـ بأن النهي عن المعاملة ـ أعني القبض المتحد مع الحرام في الوجود ـ لا يقتضي الفساد وعدم ترتب الأثر عليه.

هذا ، ولكن في الفرع السابق لم يكن فساد القبض من حيث اجتماعه مع الحرام في الوجود ، بل من حيث أن البائع لم يأذن بنقل متاعه وتحريكه عن مكانه مطلقا لا منضما الى المبيع ولا مجردا عنه ، وكل منهما ممنوع عنه شرعا ـ لكونه مستلزما للتصرف في مال الغير بدون إذنه ، ولم يكن شق ثالث يمكن أن يحصل به قبض المبيع بلا مانع شرعي ، فلا أثر لإذن البائع بقبض المبيع في ظرف عدم قدرة المشتري على القبض المشروع.

والحاصل : إن التخلية التي ليست هي مجرد رفع البائع يده عن المبيع ، بل هي : تحويل سلطنته على المبيع إلى المشتري ورفع المانع الحاصل من جهته عن قبضه المبيع وتسلطه عليه ـ عقليا كان أو شرعيا ـ في الفرع المتقدم غير حاصلة ، فتبصر لئلا تقول : إن في كل من الفرعين نقل المبيع الحاصل به قبضه ممنوعا عنه المشتري شرعا ، وفي الفرع الذي نحن فيه كذلك ، فما الوجه في كون المنع الشرعي في الفرع المتقدم مانعا عن تحقق القبض بنقله دون هذا الفرع؟

نقول : إن القبض المشروع في الفرع السابق غير مقدور للمشتري ، وإنما المقدور له غير المشروع ، وهنا مقدور له بنقله الى حيز خارج عما يختص بالبائع فافهم.


ويحتمل اعتبار النقل في خصوص قبض الحال ، وان كفت التخلية في قبض المحل (١).

الخامس : لو كان المبيع مكيلا أو موزونا ، فلا يخلو من صور ثلاث ، لأنه إما أن يكون كيله أو وزنه معلوما ، أو لا ، كما لو باعه قدرا معينا من صبرة مشتملة عليه. وعلى الأول : فاما أن يكون معلوما بالمشاهدة ـ كما لو كيل أو وزن بمشهد المشتري ـ قبل العقد عليه ، أو بأن أخبره به ، فصدقه.

أما الثالثة : فهي المتيقنة من مورد النصوص المتقدمة الدالة على المنع تحريما أو كراهة عن بيع المكيل أو الموزون قبل كيله أو وزنه.

وأما الأولى : ففي الاكتفاء بالكيل السابق أو وزنه عن تجديدهما بعد البيع ـ ثانيا ـ وجهان : مبنيان على أن اعتبارهما هل هو من جهة تحقق القبض ، فلا بد من تجديدهما بعد البيع إذ لا معنى للقبض قبل البيع ـ كما قواه في المسالك ـ ونسبه فيه الى العلامة والشهيد (٢) وعليه ، فلا بد

__________________

(١) اما ما استظهره سيدنا ـ قده ـ من كفاية التخلية في قبض المجموع فهو أن ما في الدار ـ مثلا ـ من المتاع بمنزلة التابع لها في البيع فيكفي في قبضه ما يكفي فيها من التخلية : وأما وجه ما احتمله من اعتبار النقل في خصوص المتاع الذي فيها وان كفت التخلية في بعض الدار فباعتبار انهما مبيعان انضم كل منهما إلى الآخر فلكل منهما حكمه في تحقق قبضه.

(٢) راجع : البحث السابع من مباحث القبض من كتاب المسالك في شرح قول المحقق : والقبض هو التخلية حيث يقول : «.. لو كان المبيع مكيلا أو موزونا فلا يخلو : إما أن يكون قد كيل قبل البيع أو وزن ، أو لا ، بأن أخبر البائع المشتري بكيله أو وزنه ، أو باعه قدرا منه معينا من صبرة مشتملة عليه ، فان كان الآخر فلا بد في تحقق قبضه من كيله أو وزنه للنص المتقدم ، وان كان الأول ، ففي


من الاعتبار ـ ثانيا ـ في الصورة الثانية بطريق أولى ، أو لمحض التعبد في رفع المنع عن بيعه ـ ثانيا ـ المحتمل عليه دعوى الاكتفاء بالكيل السابق أو وزنه لإطلاق النصوص المتقدمة الشاملة لما كان الكيل أو الوزن قبل البيع ، ضرورة صدق كونه كيل أو وزن عليه. وعليه ، ففي الصورة الثانية يحتمل الاكتفاء به أيضا ، ويحتمل العدم ، لعدم الأولوية ـ حينئذ ـ مضافا الى رواية محمد بن حمران «قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : اشترينا طعاما ، فزعم صاحبه أنه كاله فصدقناه وأخذناه بكيله؟ فقال : لا بأس فقلت : أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ فقال : لا ، أما أنت فلا تبعه حتى تكيله» (١).

هذا ، والتعرض لكلمات الأصحاب في هذا الفرع ربما ينجرّ إلى الإطناب.

والذي يختلج بالبال ويخطر في الخيال في تحقيق المسألة : هو أن يقال : كل مبيع بعد تعلق البيع الصحيح به جاز للمشتري بيعه بعد الدخول في ملكه ـ مطلقا ـ وإن لم يقبضه ، لوقوعه من أهله في محله. إلا المكيل

__________________

الافتقار الى اعتباره ـ ثانيا ـ لأجل القبض ، أو الاكتفاء بالاعتبار السابق ، وجهان : من إطلاق توقف الحكم على الكيل أو الوزن ـ وقد حصلا ـ وقوله «لا تبعه حتى تكيله أو تزنه» لا يدل على أزيد من حصولهما الشامل لما كان قبل البيع ، ومن كون الظاهر أن ذلك لأجل القبض لا لأجل صحة البيع فلا بد له من اعتبار جديد بعد العقد ، وبه صرح العلامة والشهيد وجماعة ، وهو الأقوى».

(١) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي ج ١٢ طبع جديد : كتاب التجارة أبواب عقد البيع وشروطه ، باب جواز الشراء على تصديق البائع .. حديث ٤ والإسناد هكذا : وبإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عن محمد ابن حمران .. إلخ.


والموزون ، فإنه يمنع عن بيعه مكايلة قبل قبضه ، وان دخل في ملكه للنصوص المتقدمة ، بعد تنزيلها على الغالب من ترتب القبض على الكيل والوزن ، وبعد قبضه يجوز بيعه ، وان تحقق بغير الكيل والوزن ، لما تقدم من الإجماع المحكي في (المختلف) (١) على انعقاد البيع بعد القبض ، فالقبض هو المناط في جواز البيع ـ ثانيا ـ جمعا بين النصوص والإجماع المتقدم.

وإن أبيت إلا الجمود على ظاهر النص وأغضيت النظر عن إجماع (المختلف) أو تمسكت بظاهر معقده المحكي في (الرياض) (٢) و (شرح اللمعتين) (٣) فنقول : خصوص المكيل والموزون يمنع عن بيعه ـ ثانيا ـ إلا بعد الكيل والوزن ، وان حصل القبض فيهما بدون ذلك ، كما لو نقله المشتري الى بيته ، وتصرف فيه بجملة التصرفات من دون كيل عليه أو وزن ، فإنه ـ حينئذ ـ يترتب جميع أحكام القبض عليه حتى دخوله في ضمان المشتري غير أنه لو أراد بيعه ـ ثانيا ـ توقف على كيله أو وزنه ، للنصوص المتقدمة

السادس : المقبوض بالقبض الفاسد ، لو تلف بيد المشتري كان مضمونا عليه ـ مطلقا ـ بالمثل أو القيمة ، إن كان الفساد منبعثا عن فساد العقد أو ما يعتبر فيه ، وبالمسمى إن كان فاسدا فيما لا يكون القبض مستحقا له على البائع مع وقوعه منه بغير إذنه وفرض كون العقد صحيحا ، ومعناه انتقال الضمان منه إليه ، لقاعدة الضمان على من تلفت بيده.

وقد يتوهم ـ هنا ـ كون الضمان على البائع ، بناء على ما تقدم من

__________________

(١) راجع ـ هذا المضمون ـ فيما مضى من هذا الكتاب : القول الثالث من أقوال القبض ص ١٢٤.

(٢) راجع : ـ ذلك ـ فيما سبق من الكتاب : ص ١٢٠.

(٣) راجع ما سبق آنفا : ص ١٢٤ من الكتاب وذكرنا ـ هناك ـ : أن الصحيح (شرح اللمعة) للفاضل الجواد.


عدم تحقق القبض إلا بعد التخلية الموقوفة على إذنه ، لكون القبض غير مستحق عليه بالفرض ، فهو تالف قبل قبضه ، وكل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه ، بحكم القاعدة المستفادة من النبوي المتقدم.

إلا أنه توهم فاسد ، لأن المراد من القبض المعلق على عدمه التلف مطلق القبض بكلا قسميه : الصحيح والفاسد ، ونفي القبض كذلك معناه كون التلف عند غير المشتري ، فلا يكون المقام مشمولا للنبوي حتى يتوهم تعارض القاعدتين فيه ، كيف ولو تلف بيد المشتري بعد أن كانت العين مضمونة بالمسمى بالعقد الصحيح ، فان رجع البائع على المشتري ببدله الواقعي ، فمع أنه غير الضمان بالمسمى مع كون الضمان به بالفرض ، لم يكن الفوات من مال البائع بعد أخذه البدل الواقعي. وإن لم يرجع عليه بشي‌ء من البدلين الواقعي والمسمى ، جمع المشتري بين العوض والمعوض ، فلم يبق إلا كون المبيع فائتا من المشتري ، بمعنى كون خسرانه عليه ونقصانه في ملكه ، وهو المطلوب من انتقال الضمان للمشتري.

نعم لو لا النبوي لكان مقتضى القاعدة الأولية غرامة البائع بعد أن كانت العين مضمونة بعقد المعاوضة وتلف عنده المثل أو القيمة للمشتري بدلا عن ملكه وأخذه المسمى منه ، إلا أن النبوي حاكم على تلك القاعدة الأولية ومتضمن لبطلان البيع وانفساخه ، ورجوع المبيع الى ملك البائع آنا ما عند التلف حتى يصدق كون التالف من مال البائع ـ كما عليه المشهور وان كان الأقوى ـ عندنا ـ موافقة النبوي للقاعدة في إيجابه الانفساخ بالتلف قبل القبض ، كما ستقف عليه عند تحريرنا له في مسألة مستقلة (١).

وبالجملة : فمفاد النبوي عندهم مجرد بيان حكم ما لو تلف المبيع عند البائع وكون التلف منه في قبال ما تقتضيه القاعدة الأولية ، وأين ذلك من المقام المفروض كون التلف بيد المشتري؟.

__________________

(١) يذكر ذلك ـ مفصلا ـ في أوائل رسالته التالية لهذه الرسالة ، فراجع.


السابع : قال في (المسالك) : «لو كان المبيع بيد المشتري قبل الابتياع : فان كان بغير اذن البائع فلا بد من تجديد الاذن في تحققه بالنسبة إلى رفع التحريم أو الكراهة. وأما بالنسبة إلى نقل الضمان ، فيحتمل ـ قويا ـ تحققه بدونه ، كما لو قبضه بعده بغير اذن البائع. ويحتمل توقف الأمرين على تجديده ، لفساد الأول شرعا ، فلا يترتب عليه أثر. ولو كان بإذنه كالوديعة والعارية لم يفتقر الى تجديد إذن ولا تخلية.» (١) انتهى.

قلت : ومما ذكرنا ظهر لك وجه قوة ما قواه في (المسالك) من انتقال الضمان إلى المشتري لو كان مقبوضا بغير إذنه ، إلا أن إطلاق قوله (فلا بد من تجديد الاذن) الشامل لما لو كان القبض مستحقا له على البائع ، كما لو اشتراه بمال في ذمته ، غير جيد ـ ضرورة عدم الحاجة إلى الإذن بعد ما كان القبض مستحقا عليه.

هذا بالنسبة إلى البيع. وأما بالنسبة الى ما كان القبض شرطا في صحته أو لزومه كالرهن والهبة ، فنقول : لو رهن المقبوض بيد المرتهن قبل عقد الرهن عليه ، فلا يخلو : إما أن يكون القبض المتحقق أولا بإذن الراهن ، أو بغير إذنه كالمغصوب. وعلى التقديرين ، ففي اعتبار الاذن مطلقا أو عدمه كذلك ، أو التفصيل بين المأذون وغيره.

أقوال : نسب ثانيها إلى الأكثر ، ولعل نظرهم إلى كفاية تحقق القبض فيما هو معتبر فيه من الصحة أو اللزوم ، لإطلاق قوله (ص) «لا رهن إلا مقبوضا» (٢)

__________________

(١) راجع : المبحث الثاني من مباحث القبض في شرح قول المحقق : «القبض هو التخلية ..».

(٢) راجع : الوسائل للحر العاملي ، كتاب الرهن ، ٣ ـ باب اشتراك القبض في الرهن ، حديث ـ ١ محمد بن الحسن ، بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن صفوان عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي جعفر ـ عليه السلام.


و «رهان مقبوضة» (١).

وفيه : إن المطلقات مسوقة لبيان أصل اعتبار القبض ، وأما من جهة الكيفية ، فهي مهملة غير ناظرة إليها ، فيبقى الحكم على ما كان عليه قبله من الجواز وعدم ترتب الصحة بحكم الاستصحاب.

وأما وجه القول بالتفصيل ، فلتحقق ما هو معتبر في القبض من الاذن في الأول دون الثاني.

وفيه أن المعتبر هو القبض المأذون بعنوان كونه رهنا ، لا مطلق الاذن بالقبض ، وبالجملة ، بعد اعتبار الاذن والرضا في صورة حدوث القبض المعتبر في الرهن بعد عقده ـ كما عليه المشهور ـ لا معنى لعدم اعتباره في القبض المستدام ، كما نسب إلى الأكثر أيضا هنا.

ومنه يظهر الإشكال في وجه التفرقة بين المقامين حتى ذهب المشهور الى اعتبار الاذن في الأول وعدم اعتبارهم له في الثاني.

ودعوى تحقق الاذن فيه ـ بدلالة الإرهان عليه ـ فمع أنها ممنوعة من أصلها لعدم الملازمة بين الرضا بكونه رهنا وكونه عند المرتهن بعينه آت في القبض الحادث ، كما لو قبضه المرتهن بدون إذن الراهن بالقبض بمجرد العقد عليه ، فالأقوى في المقامين اعتبار كون القبض مأذونا فيه وفاقا للمشهور في الأول ، وخلافا لهم في الثاني ـ كما عرفت من الاستصحاب بعد كون المطلقات مهملة من حيث الكيفية ، مضافا الى أن القبض بعد كونه جزء السبب ومتمما للعقد صحة أو لزوما يعتبر فيه ما يعتبر في باقي أجزاء السبب من الرضا والاختيار ، أو الى دعوى كون المستفاد من أدلة اعتبار القبض فيما هو معتبر في صحة العقد أو لزومه اعتبار تأكد الإيجاب

__________________

(١) يشير الى قوله تعالى في سورة البقرة ٢٨٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).


والقبول اللفظي بالإيجاب والقبول الفعلي ـ كما عن شيخنا المرتضى رحمه الله ـ في بعض تحقيقاته الدرسية فالسبب عنده في الرهن ونحوه مما كان القبض معتبرا في صحته أو لزومه مركب من الإيجاب والقبول اللفظي والفعلي ، تأكيدا للعقد اللفظي بالمعاطاة الفعلية.

وبالجملة ، فلا بد من كون قبض المرتهن عن إقباض الراهن أو إذنه من غير فرق بين القبض الحادث والمستدام ، غير أنه في المستدام بعد الاذن به لا يحتاج الى مضي زمان يمكن فيه تجديد القبض ـ كما في المسالك عن (التذكرة) مستندا الى أن القبض إنما يعتبر بعد الرهن ، وهو لا يتم إلا بإذن ثم الاذن في القبض يستدعي تحصيله ، ومن ضروراته مضي زمان فهو دال على القبض الفعلي بالمطابقة ، وعلى الزمان بالالتزام.

ولما لزم من القبض الفعلي تحصيل الحاصل أو اجتماع الأمثال المحالان حمل اللفظ على المعنى الالتزامي لتعذر المطابقة .. انتهى.

وفيه : إن مضي الزمان من لوازم حصول القبض وتحققه ، فيعتبر فيه من باب المقدمة ، فلا يعتبر في القبض الحاصل المتحقق.

نعم ، لا يكفي الاذن ، ولو مع مضي زمان يمكن فيه القبض ، فضلا عن الاذن ـ وحده ـ لو كان المرهون ـ منقولا كان أو غيره غائبا ـ غيبة لا يصدق معها القبض لو خلي بينه وبينه فيما يكفي فيه ذلك ، فضلا عما لو كان منقولا واعتبرنا النقل فيه حتى يحضر المرتهن أو وكيله عند الرهن ويقبضه بما يصدق معه من تخلية أو نقل.

وبعبارة أخرى : لو رهن ما هو غائب عن مجلس العقد غيبة لا يصدق معها القبض لم يصر رهنا صحيحا بناء على اعتباره في الصحة ، أو لازما بناء على اعتباره في اللزوم ، بلا خلاف أجده ـ كما في الجواهر ـ (١)

__________________

(١) راجع : كتاب الرهن من مجلد المتاجر في شرح قول المحقق (لو رهن ما هو غائب ..) ففيه نفس العبارة هذه ، بتغيير بسيط.


بل عن (جامع المقاصد) نسبته الى نص الأصحاب (١).

وهذا مما لا كلام فيه ولا شبهة تعتريه. إنما الكلام في تسويغ حيلة توجب صحة رهن ما كان غائبا كذلك أو لزومه.

فقد يقال ـ بل قيل ـ بصحة رهنه كذلك لو وكل المرتهن الراهن على قبضه ، فيكون قبضه له بعد عقد الرهن عليه قبضا عن المرتهن والمفروض كفاية القبض المستدام مع الاذن في صحة الرهن أو لزومه ، ولا يعتبر حدوثه بعده.

وفيه ـ أولا ـ ان القبض بعد اعتباره وكونه جزء من السبب يعتبر فيه ان يكون مقدورا للقابض ، وفعلا من أفعاله الاختيارية وقبض الراهن في الفرض قبض غير مقدور له لكونه مقهورا عليه ، فهو من بقاء المال تحت يده ، لا إبقاء له كذلك.

وثانيا ـ إن الوكالة إنما تتحقق بأمرين : حدوث فعل ، مع نية كونه عن الموكل ، إذ لا بدّ لهما من المتعلق. والقابض الناوي عن العين المقبوضة له ، لم يحدث منه فعل حتى ينوي به عن الموكل ، ولا نيابة إلا في فعل ومجرد قصد الوكالة غير كاف في تحققها.

ومما ذكرنا يتجه الفرق ـ بل يتضح ـ بين حضور الرهن عند القابض وغيبته غيبة تمنع عن الصدق ، ضرورة أن دوام القبض في الأول معناه

__________________

(١) راجع : كتاب الدين ، المقصد الثاني في الرهن ، المقصد الخامس في القبض ـ قال في شرح قول العلامة ـ في قواعده : ولو رهن الغائب لم يصر رهنا حتى يقبضه هو أو وكيله ـ : «هذا الحكم مبني على اشتراط القبض في الرهن وحينئذ فلا بد في حصول الرهن من عود الغائب إلى موضع الرهن ليتصور قبضه إياه عادة ، أو توكيله في القبض لمن كان قريبا بحيث يتمكن منه ، سواء في ذلك ما ينقل وغيره ، نص على ذلك الأصحاب وغيرهم».


الإبقاء ، وفي الثاني هو البقاء ، والإبقاء فعل اختياري بخلاف الثاني حتى لو كان القابض الناوي هو المرتهن بأن كان مقبوضا له قبل رهنه وان احتمل فيه الصحة لكونه مقبوضا له باذنه بناء على ما تقدم من اعتبار كون القبض فعلا اختياريا ، فيفرق في القبض المستدام بين ما كان منبعثا عن الإبقاء أو منبعثا عن البقاء ، فافهم واغتنم.


رسالة

في قاعدة تلف المبيع قبل القبض



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وأهل بيته المعصومين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن الى يوم الدين.

مسألة : يظهر من الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ اتفاقهم على أن المبيع الشخصي قبل القبض مضمون على بائعه بالمسمى ، وبعده ينتقل الضمان منه الى المشتري ، بل في (التذكرة) : نفي الخلاف فيه ـ عندنا ـ وأنه من ضمان البائع لو تلف قبل القبض (١) وحكاية الإجماع عليه مستفيضة.

والأصل فيه ـ قبل الإجماع عليه ـ النبوي المشهور المتلقى عندهم بالقبول : «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (٢) وخبر عقبة بن خالد عن الصادق ـ عليه السلام ـ في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء الله

__________________

(١) قال العلامة في (التذكرة ج ١ ، كتاب البيع ، في أحكام القبض) : «النظر الثالث في حكمه ، وله حكمان انتقال الضمان إلى المشتري ، وتسويغ التصرفات فهنا مطلبان : الأول ـ الضمان. ولا خلاف ـ عندنا ـ في الضمان على البائع قبل القبض مطلقا ، فلو تلف ـ حينئذ ـ انفسخ العقد وسقط الثمن .. ويكون من ضمان المشتري ..».

(٢) هذا الحديث النبوي تقدم الكلام عنه في هذا الكتاب : ص ٧٦.


فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال ـ عليه السلام ـ من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يردّ ماله اليه» (١).

والمراد بصاحب المتاع هو البائع بقرينة ذيل الخبر (٢).

وهذه الكلية ـ في الجملة ـ مما لا كلام فيها. وإنما الكلام يقع في أمور :

الأمر الأول ـ في كونها : هل هي على القاعدة ، أو جرت على خلافها تعبدا للدليل الدال عليها ، فيجب الجمود فيها ـ حينئذ ـ على مورده من المبيع دون الثمن ، فضلا عن غير البيع من سائر المعاوضات؟

فنقول : أكثر من تعرض لهذه المسألة ـ مفصلا ـ صرّح بأنها جارية على خلاف القاعدة ، لأن القاعدة الأولية ـ بناء على انتقال كل من العوضين الى ملك الآخر بالعقد ـ تقتضي ضمان كل منهما لصاحبه لو تلف قبل القبض ببدله الواقعي من المثل أو القيمة ، ان لم نقل بكون يده يد أمانة لا بالمسمى وكونه تالفا من المشتري (٣) ، وضمانه باليد لعموم دليله ، لا من ضمان المعاوضة ، لكن لما دل الدليل على كون التلف قبله من مال البائع الظاهر

__________________

(١) تقدم الكلام عن هذا الخبر ـ آنفا ـ في أوائل هذه الرسالة. وراجعه ـ أيضا ـ في وسائل الشيعة للحر العاملي ، أبواب الخيار ، باب ان المبيع إذا تلف قبل القبض

(٢) وهو قوله ـ عليه السلام ـ «فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يردّ ماله إليه».

(٣) يعني وتقتضي القاعدة كون المبيع تالفا من المشتري وكون ضمانه على البائع باليد لعموم النبوي المشهور : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» بمعنى أن على ذي اليد ما استولى عليه من مال الغير يضمنه له ويتحمل تبعاته من حفظه عن التلف وتدارك نقصه وضمان منافعه التالفة تحت يده الى أن يؤديه إلى مالكه ، فان تعذر عليه أداؤه لتلفه أو ما هو بمنزلته في عدم إمكان أدائه ضمنه بمثله أو قيمته.


في كونه مالا له عند التلف بمعونة ظهور (من) فيه للتبعيض ، وإلا فبعد التلف لا يتعقل اتصافه بكونه مالا له ، وجب الحكم بانفساخ العقد قبل التلف بجزء لا يتجزء من الزمان تصحيحا لصدق كونه تالفا من البائع ، ومثل ذلك في سبق الدخول في الملك آنا ما غير عزيز في الشرع ، كما التزموا به (١) فيمن اشترى أحد عموديه ، وفي نحو (أعتق عبدك عني) (٢) وكدخول

__________________

(١) الملتزم بذلك : هو المشهور جمعا بين الأخبار الدال بعضها على ترتب الانعتاق على الملك الظاهر في الترتب الزماني لا مجرد الترتب الطبعي : منها ما رواه الشيخ ـ قدس سره ـ في (التهذيب) عن محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما السلام ـ قال : «إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته أعتقوا» إلخ. وما رواه عن كليب الأسدي قال : «سألت أبا عبد الله عن الرجل يملك أبويه وإخوته؟ فقال ـ عليه السلام ـ : ان ملك الأبوين فقد عتقا» الى غير ذلك من الروايات بهذا المضمون الظاهرة في ترتب العتق على الملك زمانا. نعم بعضها الآخر ينفي أصل الملكية في العمودين وبعض ذوي الأرحام كرواية عبيد بن زرارة المروية في (التهذيب) أيضا قال : «سألت أبا عبد الله عما يملك الرجل؟ فقال ـ عليه السلام ـ : لا يملك والدية ولا ولده ولا أخته ولا عمته ولا خالته» إلخ. وفي (التهذيب) أيضا عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : «لا يملك الرجل والديه ولا ولده» الى غير ذلك مما هو بهذا المضمون من نفى أصل الملك والمشهور حملوا هذه الرواية على نفي الملكية المستقرة وتلك على ثبوت الملكية المستعقبة للانعتاق وهو معنى الملكية الآنية ، جمعا بينها ، مضافا الى النبوي المشهور : «لا عتق إلا في ملك (أو بعد ملك) وسيأتي في باب المعاطاة في الدليل الأول من أدلة إفادتها الملك استضعاف سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ ذلك ، واختيار تقريب آخر للجمع بينها ، ويأتي منها : استظهار ما اختاره المشهور في الجمع بعد ذكر مجموع ما عثرنا عليه من الروايات لقرائن فيها تؤيد ذلك.

(٢) هذا من موارد استيفاء مال الغير بأمر معاملي عند استجابة المأمور لأمر الآمر توضيح ذلك : ان من طلب من غيره صرف ماله أو عمله في سبيله ومصلحته


__________________

فيما إذا كان المطلوب صالحا لوقوعه عن الغير بأن كان قابلاً للتبرع به عنه فإنه بأمر الآمر وطلبه من المأمور إيجاده واستجابة المأمور لما طلبه منه غير قاصد للتبرع به عنه وبذله له مجانا ، يدخل المال في ملك الآمر ثم ينصرف الى وجهه الذي أراده الآمر من مالكه ويضمنه الآمر بما عيّنه له من العوض ومع عدم التعيين يضمنه بمثله أو قيمته. بيان ذلك : ان الضمان تارة يكون له أطراف أربعة : ضامن ومضمون ومضمون عنه ومضمون له ، وهو الضمان العقدي الموجب لانتقال ما في ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ، وأخرى ـ يكون له أطراف ثلاثة ـ ضامن ومضمون ومضمون له. وهذا على قسمين : فتارة يكون بحكم الشارع المقدس وتغريم منه للضامن بإلزامه بتدارك المضمون عند تلفه أو إتلافه بمثله أو قيمته ، ويسمى ضمان غرامة كالحاصل باليد العادية على مال الغير أو بإتلافه ، وأخرى ـ يكون بإقدام وتعهد من الضمان والتزام منه بتدارك المضمون للمضمون له عند استيفائه منه ببدله سواء سمّاه له وعيّنه عند الالتزام والتعهد أم لم يعين بدله بل التزم له بضمان ما استوفاه بمثله أو قيمته بل ولو لم يصرح له بتداركه له بل كان منه مجرد أمر واستدعاء لما طلبه منه كما لو قال له : أعتق عبدك عني أو تصدق بمالك عنى ، ولم يقل : وعلي ضمانه بكذا ، فلو استجاب مالك العبد أو المال وأعتق أو تصدق عنه غير قاصد به التبرع يضمنه الآمر بالمثل أو القيمة وعلى كل فالضمان بالاستدعاء والأمر المعاملي ليس كالقسم السابق مما كان بتغريم وطرح من الشارع المقدس أعني الضمان باليد والإتلاف لا يقتضي دخول المضمون في ملك الضامن قبل التلف بآن ما وان قيل به أيضا لكنه خلاف المشهور حيث لا موجب له بخلاف الضمان بالاستيفاء فإنه ضمان معاوضي ومقتضاه دخول المضمون في ملك الضامن عند استيفائه له ولو بآن ما ، عوضا عما يخرج من ملكه الى المضمون له من بدله سواء كان بدله معينا أم كان هو المثل أو القيمة. نعم يبقى شي‌ء وهو بيان المدرك لصحة الضمان بالاستيفاء ومشروعيته.


الدية في ملك الميت قبل موته بآن ما (١) وحيث كان مفاد الدليل عندهم ذلك ، وكان اختص من القاعدة ، التزموا بتخصيصها به.

__________________

فنقول : مضافا إلى تسالم الأصحاب وعدم خلافهم في أصل صحته يمكن القول بكونه مشمولا لآية (التجارة عن تراض) فإنه كسب وتكسب من الضامن والمضمون له فان الضامن بالأمر المعاملي يكسب المال أو العمل من المضمون له بما تعهده له من العوض والمضمون له يكسب ما تعهده الضامن له من بدله ولم يكن الضمان بإلزام وتغريم من الشارع بل بإقدام واختيار من المتضامنين وبالجملة ، فهو من التجارة عن تراض.

نعم قد يشكل بأن المعاملة المذكورة غالبا لم يعين الضامن عوضها وقيمة المضمون في الغالب لم تكن معلومة للمتضامنين حين المعاملة فالمعاملة غررية ، وقد نهى النبي (ص) عن الغرر.

ويمكن ان يجاب عنه بان دليل الغرر ليس من العمومات غير القابلة للتخصيص فان تم الاتفاق على صحة المعاملة المذكورة مطلقا كما هو الظاهر يخصص دليل الغرر بالإجماع في المقام.

(١) قوله : «وكدخول الدية في ملك الميت قبل موته ، انما التزم الأصحاب بدخول الدية في ملك الميت قبل موته بآن ما لأحد أمرين على سبيل منع الخلو : اما للوجه الاعتباري وهو أن الدية عوض لنفس الميت التي أزهقها القاتل ، وحيث كان الميت ـ حال الحياة ـ مالكا لنفسه فيملك عوضها بآن ما قبل موته ، واما للروايات المستفاد منها أنها ميراث ومتروك منه للوارث ولازم ذلك كونها مملوكة له عند الموت وان الوارث يتلقى الملك من مورثه وذلك كخبر إسحاق عن الصادق ـ عليه السلام ـ : «إن رسول الله (ص) قال : إذا قبلت دية العمد وصارت مالا فهي ميراث كسائر الأموال» وكخبر يحيى الأزرق عن الكاظم ـ عليه السلام ـ : (في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن


قلت : ان ما ذكروه مبني على أن مفاد العقد ليس إلا التمليك بإزاء التمليك وأن وجوب القبض إنما هو لكونه ملك الغير فيجب تسليمه الى مالكه ، لا لاقتضاء عقد المعاوضة ذلك.

وفيه ـ مضافا الى ما يلزمهم من محذور لزوم تقدم المعلول على علته بعد أن كان الانفساخ مسببا عن التلف بعده ـ وقياسه بإجازة الفضولي بناء على الكشف ، قياس مع الفارق ، لإمكان دعوى كون الشرط في الإجازة هو تعقب العقد بها ، وهو مقارن للعقد ، وليس في المقام ما يصلح أن يكون معقبا بالتلف حتى يصح أن يكون علة للانفساخ ، ولا يتوهم ـ هنا ـ كون السبب هو العقد المعقب ـ أيضا ـ لأن مدخلية التلف في التأثير تضاد أثر العقد ومفاده ، فكيف يمكن تركب السبب منهما ، بخلاف الإجازة التي ليس معناها إلا إمضاء مفاد العقد ، وإرجاع شرطية التلف إلى شرطية بقاء العين الى القبض في اللزوم ، فيه من التكلف ما لا يخفى وصدق الرجوع والانفساخ ، وان توقف على سبق الملك بالعقد إلا أن استناده لا يمكن الى العقد ، أو ما يتركب منه ومن غيره ومع ذلك لا ينفك عن لزوم المحال من تأخر المعلول عن علته التامة بالزمان ، بناء على ما هو المسلم عندهم من الانفساخ من حينه لا من حين العقد ، ولذلك كان القول بشرطية التعقب بالإجازة مبنيا على القول بأنها كاشفة لا ناقلة.

__________________

يقضوا دينه؟ قال ـ عليه السلام ـ نعم قال وهو لم يترك ، قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه» وفي خبر السكوني عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ «من أوصى بثلثه ثم قتل خطأ فإن ثلث ديته داخل في وصيته» وفي خبر محمد بن قيس : «أنه ـ عليه السلام ـ قضى في وصية رجل قتل انها تنفذ من ماله وديته» وفي صحيح ابن سنان «قضى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ان الدية يرثها الورثة إلا الاخوة والأخوات من الأم فإنهم لا يرثون من الدية شيئا» إلى غير ذلك من النصوص.


أنه لا ملازمة بين التعبير بكونه من مال البائع ، والقول بالانفساخ فضلا عن سبقه على التلف حتى يلتزم به ، إذ كما يمكن ذلك تصحيحا للصدق كذلك يمكن أن يكون كناية عن إرادة كونه تالفا عليه بلا عوض له فأشبه بماله الذي لو تلف عنده كان التلف عليه وخسرانه منه. وهذا المعنى يكفي ـ أيضا ـ في تحقق الصدق المذكور عليه ، وإن كان الأول هو الأظهر من العبارة ، إلا أن الثاني يمكن ترجيحه عليه بوجوه من المرجحات (١).

وعليه ، فيمكن القول بانفساخ العقد وحله بالتلف ، لكن من حينه لا قبله ، فتكون مخالفتها للقاعدة ـ التي مقتضاها : لزوم العقد ـ من حيث الانفساخ ورجوع كل من العوضين الى مالكه الأول ، أو القول بلزوم العقد وعدم انفساخه الموجب لكون المبيع مضمونا ببدله الواقعي من المثل أو القيمة ، غير أنه بعد قيام الدليل على كونه مضمونا بالمسمى خرجنا به عن القاعدة التي مقتضاها ضمان كل شي‌ء ببدله الواقعي ، وحينئذ فلا حلّ للعقد ولا انفساخ ، بل رجوع الثمن ـ حينئذ ـ إلى المشتري إنما هو من باب

__________________

(١) لعل الوجه في ترجيحه على الأول هو سلامته من محذور تقدم المعلول على علته واستلزام التخلص منه لما لا يخلو عن تكلف ولزوم محال كما أشار إليه سيدنا ـ قدس سره ـ مضافا الى أن الالتزام بالمعنى الثاني للنبوي يمكن مع القول بلزوم العقد الموافق لأصالة اللزوم منه وعدم انفساخه المقتضي لكون المبيع قبل القبض مضمونا على البائع بعوضه الواقعي من المثل أو القيمة غير انه في المقام لقيام الدليل على كونه مضمونا بالمسمى خرجنا به عن القاعدة المقتضية لضمان كل شي‌ء ببدله الواقعي وعليه فرجوع الثمن المملوك للبائع بالعقد إلى المشتري انما هو بدل وغرامة لما تلف من ملكه في يد البائع التي هي يد ضمان على الفرض لا من حيث انفساخ العقد ورجوع كل ملك الى مالكه قبل العقد كما هو مقتضى المعنى الأول للنبوي فتأمل جيدا.


الغرامة والبدلية عما تلف من ملكه ، ولم يقع الانفساخ في متن رواية أو معقد إجماع حتى يلتزم به ، وإن وقع التعبير به عن الأكثر ، إلا أنه استنباط منهم من ظهور التعبير الواقع في الحديث وغيره في ذلك الممكن إرادة ما ذكرناه منه ، بل هذا هو الأنسب بإطلاق الضمان عليه ومرجعه في مخالفته للقاعدة الى عدم إمضاء الشارع في المقام لما هو المجعول بدلا عن التالف عند العرف والعقلاء بجعله الثمن المملوك للبائع بخصوصه بدلا عن المبيع التالف قبل القبض ، والالتزام بذلك اولى من رفع اليد عن الأدلة الدالة على لزوم العقد ووجوب الوفاء به إذ ليس هو إلا عدم تقرير وإمضاء من الشارع لما عليه العرف والعقلاء في خصوص المقام من جعل البدل.

وتظهر الثمرة بينه وبين القول بالانفساخ قبل التلف ـ أو من حينه ـ فيما لو عاد التالف بالفرض ، أو ما بحكمه من السرقة ونحوها ، بناء على إلحاقه بالتلف في الحكم ، فإنه يرجع كل من العوضين على الأخير إلى مالكه بالعقد كالمأخوذ بدلا عن الحيلولة ، ولا يرجع على الأول ، لانفساخ العقد وحله ، وعوده موقوف على معاوضية جديدة.

هذا ، وما ذكرناه كله جريا منا على مذاق من بنى على كون الحكم بذلك على خلاف القاعدة ، وإلا فالأظهر ـ عندي ـ كما عليه غير واحد من الأصحاب ـ موافقته لها ، بعد أن كان مقتضى العقد هو تسليط كل من المتعاقدين صاحبه على ما كان مسلطا عليه من تبديل سلطنة بسلطنة في المتعلق الموجب لحصول الربط بين العوضين ربط البدلية ، بحيث يقوم كل منهما مقام الآخر في تعلق السلطنة الفعلية به وحيث كان مفاد العقد ذلك وجب على كل من المتعاقدين إيجاد ما هو عليه بعد العقد من التمكين الذي هو بمنزلة الجزء الأخير من العلة التامة لحصول التسليط الفعلي ، وحينئذ فوجوب القبض والتسليم إنما هو من شئون العقد ومقتضياته ، ولذا جاز


لكل منهما الامتناع عن التسليم حتى يحصل التقابض ، ولو بالرجوع الى الحاكم عند التشاحّ.

وعليه ، فبالتلف يتحقق الانفساخ المسبب عن عدم الوفاء بتمام مقتضى العقد (١).

__________________

(١) وبتقريب آخر : أن كلا من المتعاقدين كما يلتزم للآخر بالمبادلة بين المالين في عالم الاعتبار الذي هو المدلول المطابقي لإنشائه كذلك يلتزم له بالمبادلة الخارجية ، وهي : إعطاء ما خرج من ملكه اليه بدلا عما يأخذه منه ، ومرجع ذلك الى التزامه بتسليم ما سمّاه لصاحبه في عقد المعاوضة بدلا عما يتسلمه منه ، فاذا خرج المسمى في العقد عن صلاحية كونه بدلا وعوضا عما يتسلمه منه لتلفه أو ما هو بمنزلة التلف ـ كصيرورة العبد حرا بسبب الزمانة والإقعاد ، وكسرقة المتاع مع عدم معرفة السارق ، أو غصب الظالم له بنحو لا يرجى عوده ، ونحو ذلك ـ يخرج عوضه عن البدلية ، ويرجع الى ملك مالكه ، فيرجع المعوض والمبدل أيضا الى مالكه وهو معنى الانفساخ.

لأن المعاوضة والمبادلة المقتضية لخروج المعوض عن ملك من دخل العوض في ملكه ، ودخوله في ملك من خرج العوض عن ملكه الى مالك المعوض بطلانها مقتض للعكس ، أعني : دخول ما خرج ، وخروج ما دخل ، فاذا دخل الثمن في ملك المشتري ـ مثلا ـ فلا بد من خروج المثمن عن ملكه ، إذ لا يمكن الجمع بين العوض والمعوض ، فتنفسخ المعاوضة ويرجع كل من العوضين الى مالكه الأصلي.

فإن قلت : سلمنا أن الانفساخ ورجوع كل من العوضين الى مالكه الأصلي على طبق القاعدة ، ولكن رجوع المبيع الى ملك البائع قبل التلف آنا ما تعبد صرف بمقتضى ظاهر قوله (ص) : «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» فإن ظاهره كون التلف يقع في ملك البائع وان المبيع عند تلفه يكون من أمواله ، وانفساخ المعاملة ورجوع المبيع إلى ملك البائع إذا كان مسببا عن التلف ومعلولا له كيف


__________________

يتقدم عليه؟ فلا بد أن يكون ذلك على خلاف القاعدة بل هو تعبد محض.

قلت : يمكن أن يكون ذلك أيضا على طبق القاعدة وأن المعاوضة تقتضي ذلك ، بأن يكون التلف كاشفا عن انفساخها لا علة له ، فان عقد المعاوضة إذا كان مقتضاه ضمان المسمى فيه بعوضه المجعول في العقد لا ببدله الواقعي من المثل أو القيمة ، وكان لازم انفساخها رجوع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأصلي ، ومقتضاه رجوع المثمن إلى البائع وبعد تلفه غير صالح للرجوع ، إذ لا قابلية له للعوضية ، وبطلان المعاوضة ـ كما ذكرنا ـ مقتضاه دخول ما خرج ، فمع عدم صلاحية الدخول بعد التلف لكونه معدوما لا بد من الالتزام بما هو صالح للرجوع إلى البائع ودخوله في ملكه ، والصالح للرجوع والدخول في ملك البائع إنما هو المبيع قبل تلفه ولو آنا ما ، وهو معنى كون التلف كاشفا عن الرجوع ، لا علة له.

ثم إنه ـ بناء على ما تبين : من أن مقتضى المعاوضة والمبادلة بين المالين مع إمضاء الشارع لها ، هو انفساخها بتلف كل من العوضين قبل التسليم ، فلا فرق بين تلف المثمن وبين تلف الثمن ، وبين البيع وبين غيره من سائر المعاوضات. نعم ، لو قلنا : بأن الانفساخ ورجوع المبيع الى ملك مالكه الأصلي على خلاف القاعدة ، بل لمحض التعبد للنبوي المشهور المتلقى بالقبول ، وخبر عقبة بن خالد.

فالتعدي عن البيع إلى سائر المعاوضات وادعاء أن المناط هو المعاوضة مشكل ، إذ المناط غير منقح بل هو من شم الفقاهة.

نعم ، الظاهر عدم الفرق بين تلف المبيع وبين تلف الثمن ، إذ النبوي ـ وإن اختص بتلف المبيع ـ لكن رواية عقبة بن خالد


__________________

ظاهرة في سراية الضمان المعاوضي الثابت على البائع إلى الثمن ـ أيضا ـ فإنه (عليه السلام) في صدر جواب سؤال السائل بقوله : «فسرق المتاع من مال من يكون؟» قال (ع) «من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته» فيكون مفاده كالنبوي من حيث الضمان ، وكون التالف مضمونا على البائع ببدله المسمى وكون تلفه موجبا لانفساخ المعاوضة ورجوع كل من العوضين الى ملك مالكه ، فان ظاهر قوله (ع) : «من مال صاحب المتاع» كونه مضمونا ببدله المسمى في الاشتراء ، فسرقته المنزلة منزلة تلفه موجبة لانفساخ المعاوضة.

وبالجملة ، فظاهر جواب الامام ـ عليه السلام ـ كون ضمان صاحب المتاع البائع له : ضمانا معاوضيا ، فقوله ـ عليه السلام ـ بعد ذلك : «فإذا أخرجه من بيته» الذي هو كناية عن إقباضه للمشتري ، فالمبتاع ـ أي المشتري ـ ضامن لحقه ، أي : حق البائع ، وهو الثمن حتى يرد اليه ماله ـ (١) لا بد أن يراد من ضمان المشتري للثمن : الضمان المعاوضي ـ أيضا ـ الذي مقتضاه : كون تلفه قبل الرد موجبا لانفساخ المعاوضة وعوده الى ملك مالكه الأصلي ، وهو المشتري كضمان البائع للمتاع قبل الإقباض واحتمال ـ كون ضمان المبتاع للثمن من قبيل ضمان اليد ، لا المعاوضي ـ بعيد غايته.

__________________

(١) قوله «حتى يرد اليه ماله» يمكن أن تكون كلمة يرد مضارع رد ، يعني ان المشتري ضامن للثمن حتى يدفعه ويوصله إلى البائع. ويمكن أن تكون مضارع ورد ، ولعله الأنسب ، يعني ان المشتري ضامن للبائع حقه وهو الثمن حتى يصل الى البائع ماله من الثمن.


وبالجملة ، فالقبض شرط في الخروج عن ضمان المعاوضة في جميع عقود المعاوضات ، فيجري مثل تلف المبيع قبل القبض تلف المنفعة قبله في الإجارة بتلف العين بعد مدتها فتنفسخ الإجارة ـ على المختار ـ وتكون المنفعة مضمونة بقيمتها ـ على القول الآخر ـ اقتصارا فيما خالف الأصل عندهم على مورد الدليل من البيع دون غيره.

وليس من الحكم بذلك : ما لو تلفت العين المستأجرة قبل القبض مع انقضاء مدة لا يمكن فيها الانتفاع ، أو بعده ـ بلا فصل ـ كذلك فان الحكم ببطلان الإجارة في الصورتين مستند الى تعذر التسليم لكون القدرة عليه شرطا في صحة العقد ـ بالاتفاق ـ ولذا اتفقوا على بطلان الإجارة ـ هنا ـ وان اختلفوا في كون مسألة تلف المبيع قبل القبض على القاعدة أو على خلافها.

فمن الغريب توهم بعض الأساطين في استناد حكمهم بالبطلان ـ هنا ـ الى ما ورد في البيع : من الدليل على الانفساخ فيما لو تلف المبيع قبل القبض.

وها نحن نتلو عليك جملة من عباراتهم لكيلا تغفل عن مستند الحكم : قال في (الجواهر) ـ في شرح قول مصنفه : ولو استأجر شيئا فتلف قبل قبضه بطلت الإجارة ما لفظه ـ : «.. بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به في محكي (التذكرة) لفحوى ما دل عليه في البيع : من النبوي ، وخبر عقبة ، وغيرهما ، بل ظاهر الأصحاب في المقام اتحاد الحكم في المقامين ، وان المنفعة هنا بمنزلة المبيع ، والأجرة بمنزلة الثمن ، ومن هنا يتجه جريان جميع ما تقدم هناك في المقام كالبحث عن تلف الثمن المعين ..» (١)

__________________

(١) راجع : كتاب المتاجر منه ، كتاب الإجارة تحت عنوان شرائط الإجارة الرابع ـ أن تكون المنفعة معلومة ..


وقال الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين) ـ في شرح قوله : ولو طرأ المنع. فان كان قبل القبض فله الفسخ ـ ما نصه : «المنع الطارئ على المنفعة بعد العقد عليها وقبل قبضها إن كان بتلف سماوي بطلت الإجارة وليس مرادا من العبارة ، لحكمه بثبوت خيار الفسخ مع أن الثابت بالتلف هو الانفساخ لكون المنفعة بمنزلة المبيع التالف قبل القبض في الضمان ، وانفساخ العقد ـ بلا خلاف كما في التذكرة ، وظاهره نفيه بين المسلمين ، بل في (السرائر) وغيره : الإجماع عليه صريحا ، ولولاه لأشكل الحال في تعدية الحكم من البيع إلى الإجارة ، لوجود النص في الأول ، وفقدانه في الثاني ـ إلى أن قال بعد منع الدليل عليه هنا ـ فالعمدة الإجماع في المقام» (١).

وقال جدنا في (الرياض) : «ولو تلفت العين المعين في العقد استيفاء المنفعة منها قبل القبض أو بعده بلا فصل ، أو امتنع المؤجر عن التسليم مدة الإجارة بطلت الإجارة بلا خلاف في الأولين في الظاهر ، وبه صرح في (التنقيح) قيل : لفوات المتعلق ، فتكون كتلف المبيع قبل قبضه ، واستيفاء المنفعة هنا بتمامها قائم مقام القبض في المبيع ، كما أن استيفاء بعضه كقبض بعضه ، ولو لا الاتفاق على هذا الحكم لأمكن المناقشة فيه على إطلاقه ، بل مطلقا ، لمخالفته الأصل الدال على لزوم الأجرة وانتقال المنفعة إلى ملك المستأجر بمجرد العقد. فرجوع كل منهما الى مالكهما الأول مخالف للأصل ، ولا دليل عليه سوى القياس على المبيع ، وهو فاسد

__________________

(١) عرفت ـ آنفا ص ١٢٤ ـ : أن الصحيح (شرح اللمعة) لا شرح اللمعة والروضة معا ، فان الفاضل الجواد بن الشيخ محمد تقي المعروف بـ (ملا كتاب) ليس له إلا شرح اللمعة للشهيد الأول. ويؤيد ذلك ـ هنا ـ أن هذه الجملة (ولو طرأ) التي أشار إليها سيدنا المصنف ، هي نص عبارة الشهيد الأول في اللمعة في أوائل كتاب الإجارة فراجع.


بعد اختصاص الدليل به» (١).

وقال في (الحدائق) : «الثالث عشر ـ لو استأجرت شيئا فعرض له التلف : فاما أن يكون للجميع أو البعض قبل القبض أو بعده ، أو لم يعرض له التلف ـ الى أن قال : ـ الأولى ـ أن تتلف العين المستأجرة لاستيفاء المنافع منها قبل القبض ، ولا إشكال في بطلان الإجارة لأن استيفاء المنفعة أحد العوضين ، فاذا فات قبل قبضه بطل كما في البيع ، فاستيفاء المنفعة ـ هنا ـ كالقبض في البيع ، كما أن استيفاء البعض كقبض بعض المبيع» (٢).

وقال في (المسالك) ـ في شرح ما تقدم من عبارة مصنفه ـ : «المراد بالتالف المعين في عقد الإجارة استيفاء المنفعة منه ، كما يرشد اليه ظاهر العبارة ، وبطلان الإجارة ـ حينئذ ـ واضح ، لأنه أحد العوضين فاذا فات قبل قبضه بطل كالبيع ، والاستيفاء ـ ها هنا ـ للمنفعة بتمامها ، قائم مقام القبض في المبيع ..» (٣).

وقال في (التذكرة) : «مسألة ـ إذا فاتت المنفعة بالكلية حسا انفسخ العقد ولا خيار للمستأجر ، كما لو استأجر دابة معينة للركوب فماتت أو استأجر للخدمة أجيرا معينا فمات ، فان كان قبل القبض انفسخ العقد بلا خلاف نعلمه ، لان العقود عليه تلف قبل قبضه ، فأشبه ما لو تلف المبيع قبل قبضه ، وكذا إن كان عقيب القبض بلا فصل قبل مضى مدة

__________________

(١) راجع : الجزء الثاني منه : كتاب الإجارة ، بعنوان : بطلان الإجارة لو امتنع عن التسليم.

(٢) راجع منه كتاب الإجارة ، المطلب الثالث في الأحكام ، وفيه مسائل : الثالثة عشرة ..

(٣) راجع : كتاب الإجارة منه في شرائطها ـ كما عرفت آنفا.


لمثلها أجرة ، فإن الإجارة تنفسخ ، وتسقط الأجرة ـ أيضا ـ في قول عامة الفقهاء» (١) انتهى.

ومنشأ توهمهم في مستند الحكم بذلك : هو صدق عنوان التلف قبل القبض مع الغفلة عن استناد بعض صور الى فقدان القدرة على التسليم المتفق على اعتبارها في صحة العقد.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : تنقيح المسألة هو أن يقال : تلف العين المستأجرة : إما أن يكون قبل القبض ، أو بعده ، وعلى التقديرين : فاما أن يكون التلف بعد انتهاء مدة الإجارة ، أو في أثنائها ، أو قبل مضي شي‌ء منها يمكن الانتفاع فيه ، فهنا صور :

الأولى ـ أن يكون التلف قبل القبض ، ولكن بعد انتهاء مدة الإجارة ففي هذه الصورة نحكم بانفساخ الإجارة ورجوع الأجرة إلى المستأجر ، نظير الحكم في تلف المبيع قبل القبض بالانفساخ ورجوع الثمن إلى المشتري إن قلنا به على القاعدة ، وإلا فالمنفعة مضمونة على المؤجر بقيمتها للمستأجر لفقدان الدليل على الضمان بالمسمى في الإجارة.

الثانية ـ لو كان التلف في أثناء المدة ، ولكن قبل القبض أيضا فحكمها حكم تلف بعض المبيع قبل القبض ، فإن المنفعة كالمبيع والأجرة كالثمن ، وستعرف حكمها.

الثالثة ـ لو كان التلف قبل القبض ، ولما ينقض زمان يمكن فيه القبض. وهذه الصورة كالصورة :

الرابعة ـ وهي إذا كان التلف بعد القبض بلا فصل في الحكم ببطلان العقد من أصله ، لتعذر التسليم فيهما ، لا للنبوي ، وغيره في البيع.

__________________

(١) راجع : المجلد الثاني ، كتاب الإجارة ، فصل في المدة والضمان ، البحث الثاني ـ في فوات المنفعة بالكلية حسا ، مسألة ..


الخامسة ـ ما إذا كان التلف بعد القبض لكن في أثناء المدة.

السادسة ـ ما إذا كان التلف بعدهما ، والحكم فيهما واحد من حيث استحقاق الأجرة إلى حين التلف ، غير أنه يستحق من الأجرة إلى حين التلف في الأولى لكونه مقبوضا له ، والتلف في الأثناء يكشف عن تعذر التسليم فيما بقي من المدة ، وفي الأخيرة يستحق الأجرة بتمامها لكون المنفعة بجملتها مقبوضة له ، وان لم يستوفها في تمام المدة أو في بعضها.

هذا ، وليعلم أن قبض المنفعة يصدق ـ عرفا ـ بقبض العين ، وان كان حصولها بالتدريج ، فللمؤجر مطالبة الأجرة بمجرد تسليم العين إلى المستأجر ولا كذلك في الأجير على عمل ، فليس له مطالبة الأجرة إلا بعد إيجاد العمل وان ملكها بالعقد ، والفرق : ان اليد على العين ـ عرفا ـ يد على منافعها ، فتكون المنافع ـ بأجمعها وان تجدد حصولها ـ تحت يده عرفا لكن بشرط بقاء العين المحرز عندهم بأصالة السلامة من التلف واستصحاب بقائها ، ولذا كانت منافع العبد المملوك مضمونة على من حبسه ، وان لم ينتفع بخدمته ، وحيث لا يد على الأجير الحر لا يكون عمله مقبوضا للمستأجر وتحت يده إلا بعد إيجاده ، فليس له مطالبة الأجرة قبله ، وان ملكها بالعقد ، ولذا لا تكون منافع الحر المحبوس مضمونة على حابسه ، إذ لا يد له عليه حتى يكون له يد على منافعه.

نعم ، لو حبس الأجير على عمل مشخص بمدة مخصوصة كيوم مخصوص غير المستأجر ضمن الحابس منفعته المخصوصة ، لصدق الإتلاف عليه ـ عرفا ـ بعد تموّله عندهم.

ولعلّ فيما ذكرنا ـ : من الفرق بين الأجير ومؤجر العين في صدق قبض المنفعة وعدمه مع تملك كل منهما الأجرة بالعقد ـ شهادة أيضا على ما قويناه : من كون القبض من مقتضيات العقد في سائر عقود المعاوضات.


الأمر الثاني لو كان المبيع بعضا من جملة معينة : فاما أن يكون معبرا عنه بأحد الكسور التسع كالنصف والثلث والربع ـ مثلا ـ من صبرة معينة ، أو يكون معبرا عنه بمقدار مخصوص وزنا أو كيلا كوزنة منها أو قفيز.

فان كان الأول ، كان المبيع مشاعا ، ويتحقق قبضه بقبض الجميع ضمنا. فاذا تلف الكل بعد قبضه كان من ضمان المشتري ، لأنه تلف بعد قبضه ، ولو تلف بعضه كان التالف منهما بالنسبة.

وان كان الثاني ، ففي تحقق قبضه بقبض الجميع ليتخير منه إشكال ينشأ : من الإبهام وعدم تعين المبيع إلا بعد تعيينه ، فلم يكن مقبوضا بعنوانه ، ومن انحصاره في المعين الخارجي فلا يخرج عن كونه مقبوضا بقبض الجميع.

فعلى الأول ، لو تلف الجميع انفسخ العقد وكان من ضمان البائع لأنه من التلف قبل القبض بالفرض ، ولا ينفسخ لو تلف بعضه إن كان الباقي بمقدار المبيع ، ولا ينفسخ على الثاني مطلقا وان تلف جميعه لكونه بالفرض من التلف بعد القبض الموجب لانتقال الضمان به من البائع إلى المشتري.

الأمر الثالث لو كان المبيع كليا في الذمة ، فدفع إلى المشتري أكثر من حقه مقدارا أو مصداقا ليتخير منه ، ففي تعيّن الحق في المدفوع لكون التعيين بيد المديون ـ وفد عينه في الجملة ـ وان كان يعدّ مبهما فيه ، وعدمه وجهان : وعلى الأول ـ ففي حصول قبضه بقبض المجموع لاشتماله عليه ، وعدمه لإبهامه بعد ـ بالفرض : الاشكال المتقدم. وحكم ما لو تلف جميعه في يده ـ من حيث كونه من ضمانه أو من ضمان البائع ـ يعرف مما تقدم.

هذا ، ويحتمل تنزيل ذلك على الإشاعة بعد فرض التعيين في المدفوع


فيكون مقبوضا بقبض الجميع ، كما صرحت به رواية محمد بن مسلم في الضعيف عن الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «سألته عن رجل اشترى من رجل عبدا وكان عنده عبدان ، فقال للمشتري : اذهب بهما ، فاختر أيهما شئت ورد الآخر ، وقد قبض المال فذهب بهما المشتري فأبق أحدهما من عنده؟ قال : ليرد الذي عنده منهما ويقبض نصف الثمن مما اعطى من البائع ، ويذهب في طلب الغلام فان وجده ، اختار أيهما شاء ، ورد النصف الذي أخذ ، وان لم يجد كان العبد بينهما نصفه للبائع ونصفه للمبتاع» (١) ونحو ذلك خبر السكوني عن الصادق ـ عليه السلام ـ (٢).

والمبيع في الخبر محمول على كلي في الذمة موصوف بما ترتفع به الجهالة ، وكل من العبدين مصداق لما ينطبق عليه المبيع الكلي ، وإلا فأحد العبدين لو كان مبيعا لبطل العقد لإبهامه.

إلا أن الروايتين ـ مع ضعف سندهما (٣) وعدم معلومية الجابر لهما ـ وان نسب الشهيدان في (الدروس ، والروضة) إلى الأكثر العمل بهما ،

__________________

(١) سند الرواية ـ كما في الوسائل كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ، باب ١٦ حكم من اشترى عبدا .. هكذا : محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي حبيب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) .. إلخ.

(٢) وسنده ـ كما في الوسائل نفس الباب الآنف ـ هكذا : عن الصفار عن علي بن إبراهيم عن هاشم عن النوفلي عن السكوني.

(٣) ولعل الضعف المشار إليه في المتن من جانب ابن أبي حبيب ، وهو بكر ـ في الرواية الأولى ـ فقد ذكره الشيخ في (رجاله ـ في أصحاب الصادق عليه السلام ـ) ولم يوثقه. وأما النجاشي فلم يذكره في كتاب رجاله. ومن جانب السكوني ، وهو إسماعيل بن أبي زياد ، في الرواية الثانية حيث لم يرد فيه من الشيخ والنجاشي توثيق بل ذكراه في كتابيهما بلا تعرض لذلك.


إلا أن غير واحد أنكر النسبة المذكورة ـ واضطراب متنيهما ـ : فيهما إشكال من وجوه :

الأول ـ أن ظاهرها تعين الكلي في الذمة في العبدين المقبوضين بتعيينه فيهما ، مع أن تشخيص ما في الذمة في الكلي الخارجي في حيز المنع.

الثاني ـ انها صرحت بالإشاعة الموجبة لكون ملك المشتري نصفا من كل من العبدين ، ومقتضاها عدم استرداد نصف الثمن لكون المبيع مقبوضا بجملته في ضمن الكل ، فالتالف منهما ، وتلف حقه فيه من ضمانه لأنه من التلف بعد القبض ، والموجود لهما ، وحقه فيه مقبوض له موجود عنده فلا وجه لاسترداد نصف الثمن.

الثالث ـ أنها حكمت باسترداد نصف الثمن ، وهو ينافي الإشاعة وموجب لعدمها ، وعليه فيتعين حقه في الموجود من العبدين لخروج التالف عن قابلية تشخص المبيع فيه ، كبيع صاع من صبرة معينة ، فإن المبيع ينحصر في الباقي منها ، وان كان صاعا واحدا والتالف كله من البائع ، وهو مناف لذيل الخبر ، وهو قوله عليه السلام : «وكان العبد بينهما نصفه للبائع ونصفه للمبتاع» الصريح في الإشاعة وكون التالف منهما والموجود لهما.

الرابع ـ على الإشاعة ينافي رجوع التخيير بعد وجدان الآبق إلا بجعل الاختيار كالقسمة ، وهو ممنوع.

ومن ثم لم يعمل بهما أكثر المتأخرين ، حتى أن صاحب الحدائق رجع في المسألة الى ما تقتضيه القواعد بعد طرح الخبر من جهة المخالفة لها.

اللهم الا أن يتكلف في الجواب عن ذلك كله : أما عن الأول فيمنع امتناع تشخص ما في الذمة في الكلي الخارجي ـ مطلقا ـ بعد أن كان التعيين بنظر المديون فكما له التعيين في ضمن فرد ، له التعيين في


ضمن أفراد مخصوصة مدفوعة له بعنوان الوفاء مخير إياه في التعيين منها.

وأما عن الثاني ، فلتنزيل الإبهام في الإفراد المخصوصة منزلة الاشتباه أو المزج الرافع للتميّز في كونه موجبا للشكرة الموجبة للتملك بالإشاعة وعليه فنصف الآبق ، وإن تملكه المشتري وكان مقبوضا له ، إلا ان تلفه من ضمان البائع بعد أن كان الخيار في التعيين للمشتري ، إلحاقا له بتلف المبيع في مدة الخيار ، فإنه من ضمان من لا خيار له ـ وهو هنا البائع ـ

ولا يقدح الفرق بينهما بأن الخيار هنا في تشخيص المعقود عليه وهناك في لزوم أصل العقد بعد وجود المناط من عدم الاستقرار على من له الخيار ، كما صرح به هناك في (السرائر) أو تنزيله على الاباق في في الثلاثة ، فيكون من خيار الحيوان.

وبذلك ينقدح الجواب عن الثالث : من عدم منافاة استرداد نصف الثمن للإشاعة بعد ظهور الوجه فيه من كونه في ضمان البائع وان كان مقبوضا للمشتري.

وأما عن الرابع ، فرجوع التخيير بعد وجدانه مبني على ما هو الحق كما حقق في محله ـ : من كون الشركة حكمية لا حقيقية ، فلا يخرج بمزج المالين كل منهما عن ملك مالكه ، وان جرت عليه أحكام الشركة الحقيقية من جهة المزج والاشتباه. ولذا لو تميزا بعد رفع التميّز ارتفع حكمها واختص كل منهما بمالكه.

لكن مع ذلك كله : الأقوى طرح الرواية ، والعمل بما تقتضيه القاعدة : من تعيين الحق بالموجود من العبدين بعد تحقق القبض الوقائي بقبضهما ان قلنا به. وعدم استرداد شي‌ء من الثمن وكون التالف من ملك البائع.

وفي كونه مضمونا على المشتري لعموم «على اليد» وإلحاقه بالمقبوض بالسوم ، بل لعله أقرب منه لتحقق البيع ـ هنا ـ وانطباق المبيع الكلي


عليه وتشخصه فيه بعد الاختيار ، ولم يتحقق بعد في المقبوض بالسوم ، وعدمه بناء على اختصاص دليل اليد برد المأخوذ بنفسه. ورد بدله بعد تلفه مستفاد من دليل آخر. واختصاص دليل ضمان المقبوض بالسوم بالإجماع المحكي المفقود في المقام ـ :

وجهان ، بل قولان. ولعل الآخر هو الأقوى ، وان قلنا بعموم «على اليد» لخروج يد الأمانة عنه ، والتالف بيد المشتري أمانة لكونه مدفوعا اليه من المالك.

والأولوية من المقبوض بالسوم ممنوعة : أولا ـ لما قبل من الفرق بين المقامين ، فان المقبوض بالسوم مبيع بالقوة بما يؤول اليه ، وصحيح البيع وفساده مضمون بخلاف صورة الفرض لأن المقبوض ليس كذلك لوقوع البيع سابقا ، وانما هو محض استيفاء حق أو لأن المقبوض بالسوم يحصل بمطالبة المشتري ، وهنا يدفع البائع من دون سبق المطالبة به. وثانيا ـ لو سلمت فهي أولوية ظنية لا معول عليها ، بل لعل الحكم بالأمانة ـ هنا ـ اولى بالحكم بها فيما لو باع دينارا بدينار موصوفين في الذمة ، فدفع أحدهما إلى الآخر ما يزيد عليه فإنه لم يتشخص الزائد المدفوع ثمنا أو مبيعا وعليه إبداله حيث حكموا بكون ما في يده أمانة لم يضمنه لو تلف قبل رده بغير تعد وتفريط من غير فرق بين صورتي تعمد الدافع وغفلته ، إلا في كون المدفوع على الأول ـ أمانة مالكية وعلى الثاني أمانة شرعية ، بل في (المسالك) دعوى الاتفاق على كونه أمانة في الأول.

الأمر الرابع ما ذكرنا إنما هو فيما إذا كان التلف بنفسه. وأما إذا كان بتسبيب ، فاما أن يكون بإتلاف المشتري ، أو البائع ، أو الأجنبي.

فإن كان من المشتري ، فإتلافه بمنزلة قبضه فيكون من ضمانه ما لم يكن مغرورا لوقوع الإتلاف منه على ملكه. كما لو أتلف ماله المغصوب


في يد الغاصب الموجب لخروجه عن الضمان. ولعل التفصيل بين الغرور وعدمه هو مراد الشيخ فيما حكي عنه من التفصيل بين صورتي علم المشتري وجهله.

وان كان الإتلاف من البائع ففي ضمانه بالمسمى لاقتضاء العقد ذلك من غير فرق بين الاختيار وعدمه إلا في الإثم وعدمه ، أو لصدق التلف. وان كان بالاختيار فيكون مشمولا لإطلاق ما دل على كونه من مال البائع ، وان أثم بالاختيار ، أو بالمثل والقيمة بناء على انصراف التلف في الدليل المخرج له عن القاعدة الى ما كان بنفسه ، أو تخيير المشتري بين تضمين البائع بالمسمى أو بالمثل لوجود سبب كل من الضمانين الموجب للخيار في اختياره الأخذ بأيهما شاء.

أقوال. والأول ـ هو الأقوى على المختار ، والثاني ـ قوي إن قلنا به على خلاف القاعدة ، وفي الثالث ـ نظر (١).

__________________

(١) الظاهر : أن قاعدة التلف قبل القبض وكونه موجبا لانفساخ المعاوضة ورجوع كل عوض الى مالكه الأصلي ، أجنبية عن مورد الإتلاف وانما هي مختصة بالتلف ، وما هو بمنزلته ، كغصب الظالم له ـ مثلا ـ بنحو لا يرجى عوده ، والسرقة مع عدم معرفة السارق ، ونحو ذلك ولا فرق في ذلك بين القول بكونها ثابتة بالتعبد على خلاف القاعدة ، وبين كونها على طبقها.

توضيح ذلك : أنه بناء على أن القاعدة الأولية بعد انتقال كل من العوضين الى ملك مالك العوض الآخر بالعقد تقتضي ضمان كل من المتعاقدين لصاحبه لو تلف ما انتقل منه اليه قبل القبض : البدل الواقعي من المثل أو القيمة ، وكون الضمان ضمان اليد ، لعموم دليله باعتبار أن كلا من


__________________

المتعاقدين بعد العقد ما تحت يده ملك لطرفه فيضمنه له بعوضه الواقعي إن لم نقل بكون يده يد أمانة ولعله الأقرب ، فإن يده بعد العقد على المال أمانة شرعية يلزمه تسليمه لمالكه في أول أزمنة الإمكان. وعلى كل لو كان ضامنا ، فضمانه ببدله الواقعي متوقف على كون المال عند تلفه ملكا لطرفه ليضمنه له بمثله أو قيمته.

ولما كان مفاد (النبوي) وخبر عقبة بن خالد : كون المبيع عند تلفه قبل القبض من مال البائع ، ومقتضاه أن ضمانه معاوضي ، وانه مضمون على ذي اليد بعوضه المسمى في العقد ، وكون تلفه موجبا لانفساخ المعاوضة وعود كل عوض الى ملك مالكه الأصلي.

فلا بد من الخروج عن القاعدة وتخصيص عموم «على اليد» بالنبوي والخبر ـ على ما أفاده سيدنا قدس سره ـ ولكن لما كان ظاهر الدليل المخرج لمورده عن القاعدة : كون تلف المبيع أو ما هو بمنزلته بلا اختيار من البائع ، فلا يشمل صورة الإتلاف له ، وعليه فيضمنه بالإتلاف ببدله الواقعي ، سواء قلنا إن يده على المال بعد العقد يد ضمان أو يد أمانة.

ولا إشكال في ذلك. إنما الكلام لو قلنا : بأن القاعدة تقتضي كون كل من المتعاقدين ضامنا لصاحبه بعد العقد ضمانا معاوضيا ، وكون ما تحت يده من ماله مضمونا بعوضه المسمى الذي مقتضاه انفساخ المعاوضة عند عدم إمكان تسليم المال لطرفه فهل القاعدة المذكورة مختصة بالتلف وما هو بمنزلته أو أنها تعم صورة الإتلاف له أيضا بلا فرق بينهما سوى الإثم في صورة الإتلاف الاختياري ، كما قواه سيدنا حيث قال : «والأول هو الأقوى على المختار» ومراده بالأول : كون الضمان بالمسمى بلا فرق بين التلف الاختياري وغير الاختياري ، ومراده بقوله «على المختار» هو


__________________

القول بكون الضمان المعاوضي المقتضي لانفساخ المعاوضة عند عدم إمكان التسليم على طبق القاعدة ، لا على خلافها لنص أو إجماع ، ليختص بالتلف وما هو بمنزلته ، ولا يشمل صورة الإتلاف.

هذا ، ولكن الظاهر اختصاص الضمان المعاوضي المقتضي للانفساخ عند عدم إمكان التسليم بالتلف ونحوه سواء قلنا : إنه على القاعدة أو على خلافها لنص أو إجماع.

توضيحه : إن العقد المعاوضي بين المتعاقدين بما أنه مقتض لنقل كل منهما ما يملكه لطرفه بعوض ما يتملكه منه الذي هو المدلول المطابقي للعقد ، كذلك هو مقتض ومتضمن لالتزام كل منهما تسليم ما انتقل عنه لطرفه عند تسلم عوضه منه حيث ان كلا من المتعاقدين كما التزم لطرفه بجعل ما هو مملوك له تحت سلطنته المطلقة الاعتبارية الذي هو مرجع الملكية أو لازمها ، عوضا عما هو مملوك لطرفه المجعول تحت سلطنته المطلقة الاعتبارية أيضا كذلك التزم له بجعله تحت سلطنته الخارجية عند تسلطه الخارجي على عوضه.

فليس مقتضى العقد المعاوضي مجرد التبادل بين العوضين في عالم الاعتبار فقط ، بل ذلك وما يلزمه من جعل كل منهما مكان الآخر خارجا ، وتسليمه لمالكه بالعقد ، ومقتضى ذلك أنه لو تعذر عليه التسليم لتلف ما ملكه طرفه منه أو ما هو بمنزلة التلف من ذهاب مناط ماليته انفساخ عقد المعاوضة وعود كل من العوضين الى ملك مالكه الأصلي ، لكون عقد المعاوضة مع إمكان الالتزام بما يقتضيه يبقى ويصح ، ومع عدم الإمكان ينفسخ ويبطل

لا يقال : تعذر التسليم لا يقتضي الانفساخ بل غايته الخيار والتسلط على الفسخ.


__________________

لأنا نقول : إنما يتجه الخيار مع إمكان التسليم وكون تعذره عارضا يمكن زواله كالإباق والسرقة مع رجاء العود. أما مع عدم بقاء صلاحية التسليم للتلف وما هو بمنزلته فلا معنى للخيار مع بطلان العوضية وامتناع الوفاء بما يقتضيه العقد بمدلوله الالتزامي من تسليم ما وقع العقد عليه.

لا يقال : امتناع الوفاء بمقتضى العقد وتسليم ما وقع عليه لا يقتضي البطلان وانفساخ العقد ، إذ يمكن إبقاء صحته بدفع مثل التالف أو قيمته وأخذ بدله المسمى في العقد ، فتبقى المعاوضة ولا تنفسخ.

لأنا نقول : لو كان الالتزام الضمني والمدلول الالتزامي لعقد المعاوضة هو بدلية أحد العوضين خارجا عن الآخر على تقدير بقائه وأما مع تلفه فما يكون بدلا عن المسمى مثل التالف أو قيمته لاتجه ذلك ، وأمكن إبقاء صحته ، ولكنه واضح البطلان ، فإن الذي يقتضيه عقد المعاوضة بدلية أحدهما عن الآخر بدلية مطلقة ، فمع خروج المعوض عن قابلية البدلية لتلفه أو ما هو بمنزلته لا بد من خروج العوض عن مالك المعوض ، ودخوله في ملك مالكه الأصلي لاقتضاء المعاوضة ذلك.

هذا ، إذا كان عدم إمكان تسليم ما انتقل منه الى من انتقل اليه لتلفه أو ما هو بمنزلته بأن كان التلف بلا اختيار من الضامن. وأما إذا كان باختيار منه بإتلافه أو ما بحكمه من إذهاب ماليته فإنه لا موجب للانفساخ بذلك والضمان المعاوضي الذي يقتضيه عقد المعاوضة لا يوجبه بل يختص بالتلف ونحوه ، فان اللزوم المستفاد من آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ليس مفاده محض تكليف المتعاقدين بلزوم تسليم ما وقع العقد عليه لمالكه بالعقد وحرمة إتلافه عليه ، بل مفاد ذلك نفوذ العقد عليهما وسلب سلطنة كل منهما على حله وإبطاله ، بمعنى عدم تأثير ما يختاره من إنشاء فسخ العقد


__________________

أو إتلاف متعلقة في إبطال العقد وانفساخه.

وعليه ، فيلزم كلا منهما عند إتلاف متعلقة دفع مثله أو قيمته لطرفه وأخذ العوض منه.

نعم ، لا يبعد ثبوت الخيار للطرف بين فسخ المعاوضة واعادة العوض الى ملكه ، وبين إمضائها وقبول البدل الواقعي من المثل أو القيمة ، فإنه إنما التزم بكون ما يملكه عوضا عن نفس العين التي أتلفها البائع ، ولم يكن التزامه بكونه عوضا للأعم من العين ومن بدلها الواقعي.

والحاصل : إن ما اختاره سيدنا : من الفرق بين كون الضمان المعاوضي المقتضي للانفساخ بتلف أحد العوضين قبل القبض مستفادا من النص على خلاف القاعدة ، وبين كونه على القاعدة ، وأنه على الأول خاص بالتلف وما هو بمنزلته بخلافه ـ على الثاني ـ أعني كونه على القاعدة ، فيعم الإتلاف غير واضح بل الأقوى عدم الفرق بين كونه مستفادا من النص وبين كونه على القاعدة في كونه خاصا بالتلف وما هو بمنزلته ولا يشمل صورة الإتلاف.

وعليه ، فالاتلاف : ـ تارة ـ يكون ممن انتقل المال منه ، واخرى ـ يكون ممن انتقل اليه ، وثالثة ـ يكون من الأجنبي.

ففي الصورة الأولى ، ذكرنا أنه مضمون على الناقل بالبدل الواقعي مع عدم استبعاد ثبوت الخيار للمضمون له بين فسخ المعاوضة وإعادة العوض الى ملكه وبين إمضائها ، وقبول البدل الواقعي من المتلف.

وفي الصورة الثانية ، يكون الإتلاف من المنقول اليه بمنزلة قبضه ما لم يكن مغرورا ، وأما مع الغرور كما إذا دعاه الناقل الى طعام وقدم اليه الطعام المنقول اليه ـ ولم يعلمه بأنه الذي اشتراه منه فأكله بانيا على


__________________

أنه ملك لمن دعاه بذل له تبرعا فالظاهر عدم كون إتلافه باكله بمنزلة قبضه ما اشتراه منه ، بل يضمنه له البائع الغار.

وان استضعفه شيخنا في (الجواهر) حيث قال في شرح قول المصنف (وإذا تلف المبيع قبل تسليمه الى المشتري كان من مال البائع) : «والظاهر أن إتلاف المشتري بمنزلة القبض سواء كان عالما أو جاهلا للأصل السالم عن معارضة الخبر المنساق منه غير الفرض بقرينة ظهوره في إرادة الإرفاق بالمشتري ، واحتمل الشافعي عدم كونه بمنزلة القبض في الأول ، فضلا عن الثاني ، بل في (التذكرة) : هذا إذا كان المشتري عالما أما إذا كان جاهلا بأن قدم البائع الطعام المبيع إلى المشتري فأكله فالأقرب انه ليس قبضا وأنه كإتلاف البائع وهو كما ترى» انتهى.

ولكنه في كتاب الغصب قال ـ قدس سره ـ ولو غصب مأكولا ـ مثلا ـ فأطعمه المالك بان قال له : هذا ملكي وطعامي ، أو قدمه إليه ضيافة أو نحو ذلك مما يتحقق به الغرور منه ، ذو شاة فاستدعاه وذبحها مع جهل المالك ضمن الغاصب بلا خلاف ولا اشكال ، وان كان المالك المباشر للإتلاف ، ولتسلم المال الا أنه ليس تسليما تاما يتصرف به المالك تصرف الملاك في أملاكهم على انه مال له» انتهى.

هذا ولم يتضح وجه الفرق بين البابين وتضعيفه ما قربه العلامة ـ قدس سره ـ في التذكرة ـ : من عدم كون تقديم الطعام المبيع إلى المشتري المأكول له في ظرف جهله وغروره بكونه الذي اشتراه من البائع قبضا له وانه بمنزلة إتلاف البائع ، مع التزامه ـ قدس سره ـ بنظيره في غصب الطعام وأنه ليس تسليما تاما للمغصوب من حيث أن تصرف المالك باكله في ظرف جهله بكونه المغصوب منه لم يكن بما هو مال له بل بما هو


لوجوب إلغاء أحد السببين المتضادين في الأثر عند اجتماعهما عن السببية ، فإن التلف أثره انفساخ العقد وحله الموجب لضمانه بالمسمى ، والإتلاف أثره الضمان بالمثل أو القيمة ، وهو مبني على بقاء العقد ولزومه فأما أن لا يكون التلف المسبب عن الإتلاف سببا للضمان بالمسمى أو لا يكون الإتلاف المسبب بالكسر للتلف سببا للضمان بالمثل والقيمة.

والتعليل له ـ أيضا ـ بعد انصراف الدليل الى التلف بنفسه بتعذر التسليم الموجب للخيار بين الفسخ فيرجع عليه بالمسمى ، والقبول فيرجع ببدله الواقعي.

عليل لأن التعذر المسبب عن التلف لم يثبت سببيته للخيار ، وان قلنا به في بيع الضال ونحوه. وخبر الضرار يدفعه ما وضعه الشارع من الضمان بالبدل الواقعي لمن أتلف مال غيره.

ويجري ما ذكرنا ـ هنا ـ من الأقوال الثلاثة ومستندها حرفا بحرف

__________________

للغاصب ، قدمه اليه تبرعا وضيافة فلم لم يلتزم في باب البيع بما التزم به في الغصب مع كون الملاك واحدا ، فكما لم يكن أكل المالك لطعامه المغصوب في ظرف جهله أداء له ، فينبغي ان يكون كذلك في قبض المبيع فإن الأداء والقبض مرجعهما الى وصول المال الى مالكه لا بما هو هو بل بما هو مال له.

وعلى كل فالأظهر فيما نحن فيه تخيير المشتري بين فسخ المعاوضة واسترجاع عوضه وذهاب المبيع من مال البائع ، وبين إمضائها وتغريم البائع بالمثل أو القيمة.

وفي الصورة الثالثة يتخير المنقول اليه بين فسخ المعاوضة والرجوع بالعوض على الناقل فيرجع الناقل ببدل العين الواقعي على من أتلفها وبين إمضائها والرجوع على المتلف بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة.


فيما لو كان الإتلاف من الأجنبي ، غير أن وجه القول بالتخيير فيه أقوى بل نسب القول به فيه الى الأشهر ـ بل المشهور ، بل في (الجواهر): ظاهرهم الاتفاق عليه (١) وهو ممنوع جدا.

الأمر الخامس لو حصل للمبيع قبل التلف نماء ، فهو عند غير الشيخ للمشتري ، لأنه نماء ملكه بعد أن كان الأصل منتقلا اليه بالعقد والانفساخ إنما هو من حين التلف ، وقاعدة تبعية النماء للأصل في الملك تقضي بذلك ، بل أرسل أكثر من تعرض للفرع هنا ذلك إرسال المسلمات إلا أن الشيخ في (المبسوط) حكم بأن نماء المبيع المردود بخيار العيب قبل القبض للبائع ، مستدلا عليه بحديث «الخراج بالضمان» مفسرا للخراج بالفائدة ، والضمان بمن يكون المال يتلف من ملكه ، والأصل قبل القبض في ضمان البائع ، فالخراج له (٢).

وكلامه ـ وان اختص بالذكر بالمبيع المردود بالخيار ـ إلا أن التعليل بالخبر يعم المقام.

قلت : المراد بالضمان في الحديث ضمان تكفل ، لا ضمان غرامة ، فالمبيع يدخل في ضمان المشترى بالعقد بالمعنى الأول ، وهو الى القبض في ضمان البائع بالمعنى الثاني. ولا منافاة بين الضمانين.

وتنقيح المسألة : هو ان الملكية ربط بين المالك والمملوك ربط إضافة ونسبة ، فكل منهما مربوط بالآخر ، غير أن أثر الربط في المالك سلطنته على المملوك ، فله أنحاء التصرف فيه ، وهو غنمه منه وفي المملوك : دخوله في عهدة المالك ، فعليه غرمه من حيث حفظه وإصلاحه ، بحيث لو كان

__________________

(١) راجع : متاجر الجواهر ، كتاب البيع ، الفرع الرابع. في شرح قول المحقق : إذا تلف المبيع قبل تسليمه الى المشتري كان من مال البائع.

(٢) راجع : كتاب البيوع ، من المبسوط فصل في أن الخراج بالضمان.


حيوانا لكان عليه نفقته ، لأن (من له الغنم فعليه الغرم).

ويشهد لما ذكرنا ـ من تفسير ضمان المال بتكفله من كلام أهل اللغة ـ ما قاله محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الإفريقي في كتابه المسمى بـ (لسان العرب) : «الضمين الكفيل ، ضمن الشي‌ء ، وبه ضمنا وضمانا كفل به ، وضمنه إياه كفله» إلى أن قال في كلام لأبي عبيد في تفسير حديث (الضامنة من النخل) ـ : «ما تضمنتها أمصارهم ، وكان داخلا في العمارة ، وأطاف به سور المدينة ، قال أبو منصور : سميت ضامنة ، لأن أربابها قد ضمنوا عمارتها وحفظها ، فهي ذات ضمان ، كما قال الله عز وجل (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : ذات رضي ، والضامنة : فاعلة بمعنى : مفعولة وفي الحديث : (الامام ضامن ، والمؤذن مؤتمن) أراد بالضمان ـ هنا ـ : الحفظ والرعاية ، لا ضمان الغرامة لأنه يحفظ على القوم صلاتهم ..» انتهى (١).

فاذا كان ضمان المبيع بهذا المعنى على المشتري ، كان خراجه له لأن الخراج بالضمان ، فيكون الخبر موافقا لقاعدة تبعية النماء للأصل في الملك ، بل هو من أدلتها ، ولا ينافي ما ذكرنا خروجه عن ملك المشتري بالانفساخ عند التلف وكونه من البائع تقديرا فافهم (٢).

__________________

(١) راجع : ذلك باقتضاب في (مادة ضمن) من الكتاب.

(٢) توضيح ذلك : أن المراد بالخراج في الحديث : الفائدة وما يتحصل من الشي‌ء كنمائه ومنفعته ، وبالضمان : معناه المصدري ، وهو جعل الضامن ما ضمنه بعهدته بالتزام عوض للمضمون له بإزائه وتعهده به ، وباء الجر الداخلة على لفظ الضمان للعوضية والسببية فمفاد الحديث الشريف : أن خراج المضمون وفائدته للضامن بدلا عن ضمانه المعاوضي أو بسببه.

ثم انه لا كلام في أن خراج المبيع الحاصل بعد قبض المشتري له ملك


الأمر السادس صرحوا بأن النماء المتجدد قبل التلف بيد البائع أمانة لم يضمنه بغير تعد وتفريط ، وهو كذلك ، لأن الضمان باليد ما كان مسبوقا بملك الغير ، لا ما كان سابقا على حدوثه ، كما هو صريح جعل الأخذ صلة للموصول في حديث «على اليد» فاليد عند حدوث الملكية

__________________

للمشتري ، كما أنه لا إشكال في أن الخراج الحاصل بعد فسخ المعاوضة ورجوع المبيع الى ملك البائع ملك له ، إنما الكلام فيما حصل من الخراج ما بين العقد وبين قبض المشترى المبيع أو فسخه العقد بالخيار قبله ، فهل هو ملك للمشتري باعتبار تعهده بالمبيع بجعل عوض للبائع بإزائه والتزامه بتبعاته كنفقته لو كان حيوانا وجناياته فيما لو كان عبدا ، وكون الغرض المهم من إقدامه المعاوضي كون الخراج له ، فمناسبة الحكم للموضوع تقتضي كونه المالك له ، أو أن الخراج للبائع باعتبار أن الأصل قبل القبض في ضمان البائع وكون تلفه من ملكه فخراجه له.

هذا ولكن الظاهر انه لا ينبغي الإشكال في كون المشتري هو المالك للخراج قبل القبض لكون ضمانه المبيع للبائع بعوضه المسمى المقتضى لملكية خراجه ، انما هو بأصل المعاوضة والعقد الواقع بينهما ، وأما ضمان البائع المبيع للمشتري بعوضه المنتقل منه اليه بالعقد الثابت بالتعبد أو للشرط الضمني في العقد فإنما هو فرع وتبع للضمان الحاصل بأصل العقد.

وبالجملة فإن فعلية ضمان المشتري المبيع للبائع بعوضه المسمى المقتضى لملكية خراجه إنما هو بنفس العقد المعاوضي بينهما ، وفعلية ضمان البائع المبيع للمشتري بالمسمى المنتقل منه اليه بالعقد انما هو بانفساخ العقد بتلف المبيع قبل القبض ، وغاية ما يقتضيه الانفساخ عود كل من العوضين الى مالكه السابق على العقد. وأما ملكية البائع خراج المبيع الحاصل قبل تحقق الانفساخ وبطلان ملكية المشترى له المستفادة من قاعدة كون الخراج بالضمان فهو بلا موجب. اللهم إلا أن يقال : إن انفساخ المعاوضة بطلانها من أصلها ، ولكنه خلاف التحقيق ، فتأمل جيدا.


يد أمانة لا يخرج منها الى الضمان إلا بتعد ونحوه.

ومنه يعلم : أن الضمان ـ هنا ـ من ضمان المعاوضة لا من ضمان اليد.

توضيح ذلك : أن المبيع مع قطع النظر عن كونه مضمونا باقتضاء العقد على المختار ، أو بحديث «كل مبيع تلف ..» إلخ على القول الآخر فمقتضى القاعدة أن يكون أمانة عند حدوث الملكية لخروجه عن مصب حديث «على اليد» لما عرفت. ولا يخرج عنها إلا بتبدل عنوان اليد بأحد أسباب الضمان ، ولا دليل سواه يقضى بكون الأصل في اليد : الضمان مطلقا ـ غير أن ضمانه بالمسمى ثابت : أما باقتضاء العقد ، أو بحديث «كل مبيع ..» وأما نماؤه ، فلما لم يكن من المبيع ، لم يتعلق به ما يوجب الضمان من اقتضاء العقد ، أو الحديث ، والمفروض عدم شمول دليل اليد له ، حتى يكون مضمونا عليه باليد بعد فرض تبعيته للأصل فيما تقتضيه القاعدة الأولية ، لا جرم كان بيد البائع أمانة لم يضمنه بغير تعد وتفريط.

الأمر السابع يلحق بالتلف الظاهر في الهلكة ، ما كان بحكمه مما يوجب تعذر التسليم كالسرقة والضياع والغصب المتعذر استخلاصه من الغاصب على المختار ، لوجود المناط الموجب لحل العقد وانفساخه من عدم تمامية مقتضاه. وفي لحوقه به على القول بمخالفته الأصل ـ للنص على السرقة في خبر عقبة بن خالد ، المحمولة فيه على المثال أو عدمه ، لضعف الخبر وعدم معلومية الجابر له في هذا الخصوص ، أو يفصل بين السرقة ، كما في الخبر ونحوها ـ مما لا يمكن الرجوع على من فعله ، لمجهوليته ـ وبين الغصب مما كان معلوما يمكن الرجوع به بالغرامة ، فيلحق الأول بالتلف في حكمه المخالف للقاعدة ويرجع في الثاني الى ما تقتضيه القواعد ـ وجوه


أظهرها التفصيل لما عرفت (١).

الأمر الثامن قد عرفت أن سبب انفساخ العقد وحله إنما هو التلف قبل القبض ، فلو شك بعد تحقق التلف في كونه من التلف الموجب للانفساخ وعدمه ، ولو للشك في كونه من التلف قبل القبض أو بعده فربما يتوهم فيه الحكم بلزوم العقد للشك في عروض الفاسخ له أو فاسخية العارض ، إلا أنه توهم فاسد ، لأن الشك فيه مسبب عن حصول القبض وعدمه ، لعدم تعقل القبض بعد التلف ، وأصالة عدم تحقق القبض محكمة على أصالة لزوم العقد واستصحاب بقائه ، ولا يتوهم أن أصالة عدم القبض لا تثبت عنوان كون التلف قبل القبض ، والسبب إنما هو التلف المعنون بعنوان القبلية على القبض لا بعدم القبض بعده لأن القبلية بالنسبة إلى بعدية الغير له غير معقول هنا ، لأن القبض بعد التلف من قبض المعدوم ، وهو محال ، فلا جرم كان معنى تلفه قبل القبض تلفه بلا قبض (٢).

__________________

(١) بين مثال السرقة والضياع فيلحق بالتلف في الحكم بالانفساخ ، وبين مثال غصب الظالم المتعذر استحصال المغصوب منه فيلحقه حكم تعذر التسلم بعد العقد فيتخير المشتري بين الفسخ والرجوع بالمسمى على البائع فيضمن الغاصب ما غصبه للبائع وبين الإمضاء والرجوع بالمغصوب أو ببدله من المثل أو القيمة مع تلفه على الغاصب ، فافهم.

(٢) محصل ما ذكره ـ قدس سره ـ : أن سبب انفساخ العقد وحله هو تلف المبيع قبل قبضه ، فلو تحقق التلف وشك في كونه موجبا للانفساخ للشك في حصوله قبل القبض الموجب للانفساخ أو عبده مما لا يوجبه ، فربما يحكم بلزوم العقد للشك في وجود الفاسخ أو فاسخية الموجود وهو اتصاف التلف بكونه قبل القبض والأصل لزوم العقد وعدم عروض الفاسخ ، أو فاسخية العارض له. هذا ولكن الأصل المذكور مسبب عن الشك في حصول قبض المبيع وعدمه ، والأصل


الأمر التاسع استثنى بعض الأصحاب كالمفيد في (المقنعة) على ما حكي عنه ، والسيد في (الانتصار) وسلار في (المراسم) (١) من الكلية المتقدمة : ما لو تلف المبيع قبل القبض في الثلاثة التي يثبت فيها خيار التأخير فذهبوا إلى كونه في ضمان المشتري وبعد الثلاثة من ضمان البائع ، لأنه ملكه بالعقد ، وكان التأخير لمصلحته ، بل في (الانتصار) وعن الغنية دعوى الإجماع عليه (٢).

__________________

الجاري في الشك السببي حاكم على الأصل الجاري في الشك المسببي ، فأصالة عدم تحقق قبض المبيع محكمة على أصالة اللزوم واستصحاب بقائه. (وتوهم) أن موضوع الانفساخ اتصاف التلف بكونه قبل القبض وأصالة عدم القبض لا تثبت العنوان المذكور : (أعني كون التلف قبل القبض) إلا بالأصل المثبت الذي لا نقول به (مدفوع) بأن قبلية التلف للقبض بالنسبة إلى بعدية القبض له غير معقول هنا فإنه بعد التلف من قبض المعدوم فلا بد من كون معنى تلف المبيع قبل القبض الذي هو موضوع الانفساخ تلفه بلا قبض المشتري له بمعنى ان موضوع الانفساخ مركب من جزئين تلف المبيع وعدم قبض المشتري له فأحد جزئي الموضوع ـ وهو التلف ـ حاصل بالوجدان ، والجزء الثاني ـ وهو عدم قبض المشتري له ـ مجرى الأصل ، فافهم.

(١) كتاب المراسيم لسلار ، طبع في ضمن (جوامع الفقه) بايران.

راجع ذلك في أول كتاب المكاسب منه ، ذكر الأول : لا يمضي بيع إلا في ملك البائع.

(٢) راجع ـ من الانتصار ـ : كتاب البيع والصرف والربا ـ مسألة ٦ ـ قوله : ومما انفردت به الإمامية أن من ابتاع شيئا معينا بثمن معين ولم يقبضا ـ الى قوله ـ «دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد» ومن الغنية : كتاب البيع فصل فيما يتعلق بالبيع من الأحكام خلال قوله : «واعلم ان من حكم البيع


ونسب إلى (الوسيلة) (١) وأبي الصلاح الحلبي : التفصيل بين ما لو عرض البائع المبيع ، فلم يتسلم المشتري ، فهو من ضمانه ، وعدمه ، فمن ضمان البائع.

قلت : ليس التفصيل بين عرض البائع المبيع وتمكينه من التسليم للمشتري ، وعدمه ، قولا في أصل المسألة ، بل لعله من التلف بعد القبض بناء منهم على تحقيق القبض بذلك ، موضوعا أو حكما ، لا استثناء من الحكم بالتلف قبل القبض.

وأما التفصيل بين الثلاثة وبعدها.

فان استند أهل هذا القول إلى إجماعي (الانتصار) و (الغنية) فمع موهونيتهما باعراض الأكثر عنهما ، معارض بالإجماع المحكي عن (الخلاف) المعتضد بإطلاق النبوي وفتوى المعظم.

وان استندوا الى التعليل المتقدم ، ففيه مع أنه عليل في نفسه أنه غير مختص بالثلاثة ، بل يأتي فيما بعدها ـ أيضا.

وان استندوا إلى قاعدة التلف في مدة الخيار المضمون على من لا خيار له ، والخيار هنا للبائع ، ففيه ، مع أنها مخصوصة بما إذا كان التلف بعد القبض ، كما يأتي (٢) وموقوفة على تقديمها ـ لو سلم شمولها لما قبله ـ على قاعدة التلف قبل القبض ، إذ النسبة بينهما ـ حينئذ ـ العموم من وجه : ـ أنه لا فرق ـ حينئذ ـ بين الثلاثة وبعدها في كونه في ضمان المشتري.

__________________

وجوب تسليم المعقود عليه في الحال ـ الى قوله ـ : كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

(١) كتاب الوسيلة إلى نيل الفضيلة طبع ضمن (جوامع الفقه) في إيران ذلك كتاب البيع منه ، فصل في بيان بيع الأعيان المرئية.

(٢) في تذييل الأمور المذكورة بعد العشرين منها.


بل لعل بعد الثلاثة أولى به منه فيها لأنه لا خيار في الثلاثة ، وانما يحدث بالتأخير بعدها.

الأمر العاشر لا يسقط هذا الضمان عن البائع بإسقاط المشتري أو إبرائه ، لأن الانفساخ بالتلف حكم إمضائي من الشارع لما تقارر عليه المتعاملان بعقد المعاوضة ، فهو من أحكامها ، وليس من الحقوق حتى يمكن فيه دعوى السقوط بالإسقاط.

ولو سلم كونه حقا ، لأنه متعهد به وفي عهدته كغيره من الأعيان المضمونة على من هي في يده لدخولها في العهدة. غير أن السلطنة هنا بالتلف على الرجوع بالمسمى ، وفي غيره على الرجوع بالمثل أو القيمة.

ففيه ـ مع أن الرجوع هنا بالمسمى إنما هو لرفع البدلية عنه بالتلف ، لا لأخذه بدلا وعوضا عن التالف ليكون حقا ـ : أنه ليس من الحقوق التي تسقط بالإسقاط لو فرض أنه حق بعد أن كان الانفساخ ـ قهريا ـ لما هو محقق في محله من أن الحق إذا كان الموجب له علة تامة لا يسقط بالإسقاط ولا ينتقل بالنواقل لعدم جواز تخلف المعلول عن علته التامة.

هذا ، ولو اشترط في العقد البراءة عنه ، احتمل ـ قويا ـ حصولها لرجوع الاشتراط فيه الى كون مفاد العقد المشروط بها صرف التمليك والتسليط الاقتضائي ، بمعنى الاستحقاق ، دون التسليط الفعلي الذي هو مفاد العقد المطلق ، ضرورة أن العقد المشروطة فيه البراءة عنه من الجانبين أو من أحدهما بالنسبة إلى ضمان العوضين أو أحدهما مفاده مغاير للعقد المطلق لأن مفاد الأول هو مجرد التمليك بإزاء التمليك بحسب الاقتضاء واستحقاق التملك منهما أو من أحدهما بحسب الشرط ، ومفاد الثاني هو التسليط الفعلي بإزاء التسليط الفعلي ، فان الاقتضائية والفعلية إذا اجتمعتا اتحدتا في الوجود فلا يكون الشرط في الأول منافيا لمقتضى ذات العقد. وهذا لا ينافي ما ذكرنا


من كون التسليم من تمام مقتضى العقد ، فإنه من مفاد العقد المطلق لا مطلق العقد. وبذلك ظهر الفرق بين الاشتراط في العقد والاسقاط بعده الذي لا أثر له بعد العقد اللازم العمل بتمام مقتضاه.

الحادي عشر ـ : ربما يستثني من هذه الكلية صور :

منها ـ ما لو أسلم عبد الكافر ، فإنه يجبر على بيعه من مسلم ، فلو تلف أو أبق أو سرق بعد بيعه وقبل القبض ، احتمل عدم الانفساخ هنا ، سيما بناء على سبقه على التلف لاستلزامه الدخول في ملك الكافر ، ولو آنا ما وهو ممنوع كالدخول في ملكه ابتداء لعدم الفرق بين التمليك الابتدائي والعود الى الملك بعد وجود علة المنع من نفي السبيل وغيره.

ويحتمل ـ أيضا ـ استثناؤها من كلية منع تملك الكافر للمسلم ، بناء على اختصاصه بالتمليك الابتدائي ، لأن بين الكليتين عموما من وجه ، فلا بد من الترجيح ولعل الأظهر ترجيح عموم كلية التلف قبل القبض ، لأن العود الى الملك من توابع ملكه قبل الإجبار ، إن لم نقل بانصراف الملك الممنوع الى الملك المستقر ، لمنع السبيل في هذا النحو من الملك.

ومنها ـ ما لو باع العبد ممن يعتق عليه ـ قهرا فتلف قبل التسليم فان الانفساخ والرجوع الى ملك البائع متعذر هنا ، لانعتاقه بمجرد العقد ولا يعود الحر ملكا بل لعل القبض غير معتبر فيه ، لعدم اليد على الحر بل قبضه انعتاقه ، سيما بناء على أن مفاد البيع هنا ـ هو الانعتاق دون التمليك ، ليتوقف على تقدم التملك عليه : إما بالطبع أو بالزمان ، ولو آنا ما.

ومنها ـ ما لو باع العبد الآبق مع الضميمة ، فتلف الآبق دون الضميمة قبل اليأس ، لم ينفسخ البيع ، لكون الثمن بإزاء الضميمة مع عدم الوجدان ، للنص ، وفي كون التالف من ضمان المشتري أو البائع تردد


ينشأ من كونه من المبيع التالف قبل قبضه ، ومن أن ضمان البائع إنما هو حيث يتحقق الانفساخ ولا موجب له مع بقاء الضميمة ، وكون الثمن ـ حينئذ ـ بإزائها.

وأما لو تلفت الضميمة قبل القبض ، فان كان بعد وجدان الآبق وقبضه ، فالأظهر ـ بل الظاهر ـ الرجوع بما قابله الضميمة لا مجموع الثمن لأن الآبق لا يوزع عليه الثمن ما دام آبقا ، للنص ، لا بعد حصوله في اليد لأنه جزء من المبيع المبذول بإزاء مجموعة الثمن الموجب للتقسيط حينئذ.

وان كان تلفها قبله وفي حال فقدانه ، ففي انفساخ العقد في الآبق تبعا للانفساخ في الضميمة ، أو بقائه بما قابله من الثمن وجهان : من أن العقد على الآبق إنما صح بالعقد على الضميمة ، وبعد فرض كون العقد عليها كأن لم يكن بالتلف قبل القبض ، انتفت الصحة بالنسبة إلى الآبق لانتفاء المعلول بانتفاء علته ، ومن أن الضميمة علة التصحيح وحدوث الصحة ، لا دوامها.

وتظهر الثمرة في حصوله باليد بعد تلف الضميمة فيرجع بما قابله من الثمن على الثاني ، ولا يرجع به على الأول.

ومنها ـ ما لو اشترى جارية ، فأولدها ، ولما يحصل القبض بالوطء فتلفت الجارية ، أو أبقت قبل القبض بالفرض ، ففي لزوم العقد ـ حينئذ ـ أو انفساخه وجهان : من أن أم الولد لا تنتقل الى غير مالكها إلا في بعض الصور الذي ليس المقام منه ، ومن أن الانفساخ قهري بحكم عموم هذه الكلية ، والمنع عن بيع أمهات الأولاد مخصوص بالنواقل الاختيارية ، ولا يتوهم من جواز فسخ البائع بالخيار إذا كان له خيار لسبق حقه على حق المشتري من المنع بالاستيلاء على التلف الذي هو سبب الانفساخ ، فيكون من ضمان المشتري ومستثنى من هذه الكلية ، لأن الانفساخ بالتلف تابع


لعقد المعاوضة السابقة على الاستيلاء ، لوقوعه بين العقد والتلف ، فالعمل بما يقتضيه عقد المعاوضة ، لأنه أسبق السببين.

ومنها ـ ما لو حصل في العبد المبتاع قبل القبض أحد أسباب الانعتاق من الجذام والعمى ونحوهما (١) فربما يتوهم كونه من ضمان المشتري ، قياسا على الانعتاق عليه في شراء أحد عمودية لاتحادهما في الانعتاق القهري ، وان اختلفا في السبب ، إلا أنه توهم فاسد ، لأن الانعتاق ـ هنا ـ بعروض المرض بحكم التلف السماوي لعدم الفرق في التلف قبل القبض بين تلف الملك أو الملكية بعد فرض حصول الانعتاق قهرا بحدوث السبب ، كما هو مفاد الأخبار المستفيضة وعليه الفتوى.

نعم ، لو قلنا بكونها أسبابا لوجوب العتق على صاحبه كما هو ظاهر خبر الجعفي عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ حيث قال : «إذا عمى المملوك أعتقه صاحبه ولم يكن له أن يمسكه ..» الخبر (٢) ولم يقل : انعتق على صاحبه ـ لم ينفسخ العقد لكونه مملوكا ـ بعد ـ بالفرض ، فاذا قبضه دخل في ضمان المشتري ، وان وجب عليه عتقه.

ومنها ـ ما لو جنى المملوك قبل القبض بما يوجب استرقاقه حيث لا يكون الخيار للمالك ، فالأقوى كونه من ضمان البائع لتعذر التسليم عليه قبل القبض.

ومثله ما لو جنى على نفسه بقتل ، فإنه من التلف قبل القبض وان كان بإتلاف منه. ولا كذلك لو ارتد عن فطرة ، وان وجب قتله لبقائه

__________________

(١) كالجنون والبرص والقرن في العبد والجارية.

(٢) في الكافي ـ كتاب العتق والتدبير والكتابة ، باب المملوك إذا عمى أو جذم ج ٣ ـ بسند الحديث هكذا : الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن بن علي الوشاء عن أبان عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (ع).


على الملك ، فان قتل قبل القبض كان من التلف قبله ، وان قبضه دخل في ضمان المشتري ، وان وجب قتله.

ودعوى كونه بحكم الميت بعد وجوب قتله. ولذا تبين زوجته وتعتد عدة الوفاة وتقسم أمواله في ورثته فهو كالميت قبل القبض.

فاسدة ، لأنه بحكمه في الأحكام المخصوصة تعبدا ، لا في مطلق الأحكام.

الثاني عشر لو ضمن الأجنبي للمشتري درك الثمن لو رجع اليه بتلف المبيع قبل قبضه ، لم يصح الضمان إن كان قبل تلف المبيع مطلقا قبل قبض البائع الثمن أو بعده ، قبل تلفه عنده أو بعده ـ تلف المبيع أو لم يتلف ـ حيث كان الضمان قبل تلفه ، لأنه من ضمان ما لم يجب في جميع صوره.

وان وقع الضمان بعد تلف المبيع عند البائع وكان الثمن مقبوضا له صح مطلقا ـ ولو كان الثمن موجودا حين الضمان. أما مع تلفه فواضح لكونه من ضمان المال ـ حينئذ ـ الذي لا إشكال في صحته ، وأما مع وجوده فهو من ضمان العين ودرك الثمن الذي لا إشكال في صحته ـ أيضا ـ وان وقع الكلام في كونه على القاعدة أو على خلافها ، وانما ثبوته بالإجماع ومسيس الحاجة اليه ، وقد تقدم منا تحقيقه في بيع الفضولي. وملخصه : عدم المنافاة بين صحة الضمان الذي معناه ـ عندنا ـ تحويل ما في ذمة إلى ذمة أخرى وكون المضمون عينا بعد فرض دخولها في العهدة لعدم الدليل على اختصاص كون المضمون مالا ، والعهدة قابلة للنقل والتحويل فراجع (١).

__________________

(١) يذكر المصنف ذلك فيما يأتي في هذا الكتاب : من رسالة بيع الفضولي ويأتي منا تحقيق حول الموضوع.


الثالث عشر لو وكل غيره على البيع وإقباض المبيع وفرط الوكيل في الإقباض ، فتلف المبيع قبل قبضه ، انفسخ العقد ، ورجع الموكل على وكيله بسبب التفريط بالمسمى ، لأنه فوته عليه بعد أن ملكه ويحتمل ـ قويا ـ الرجوع عليه بالمثل أو القيمة ، لأن ضمان الوكيل ـ حينئذ ـ من ضمان اليد لا من ضمان المعاوضة ، ويحتمل ـ فيما لو زاد المسمى على القيمة ـ تغريم الزائد عليها ـ أيضا ـ بالتفويت والإضرار ، ولا يتوهم أن الضمان بالتفريط حين تعلقه بالوكيل كان للمشتري لكون المبيع ملكه قبل التلف ، فكان حق الرجوع بالمثل أو القيمة للمشتري دون البائع لأن ضمان الوكيل إنما هو للمالك من حيث هو مالك ، وبالتلف يخرج المشتري عن كونه مالكا ويكون من مال البائع الموكل ، فيكون الضمان له ويجرى مثل ذلك في بيع الولي ـ من الحاكم وغيره ـ مال المولى عليه لو فرط في إقباضه حرفا بحرف.

الرابع عشر لو كان المبيع مقبوضا للمشتري قبل البيع لم يفتقر ـ حينئذ ـ إلى قبض جديد ولا إلى مضي زمان يسعه فيه من غير فرق بين كون القبض مأذونا فيه كالوديعة والعارية ونحوهما ، أو منهيا عنه كالغصب ، لظهور بيعه في الرضا بقبضه ، فينتقل الضمان إلى المشتري فيكون التلف منه ، لأنه من تلف المبيع بعد قبضه بالفرض.

نعم ، لو علم عدم الرضا به حيث كان له الامتناع عن التسليم الى أن يتسلم الثمن ، أو كان مما يعتبر القبض فيه في أصل النقل أو لزومه لم يكن القبض ـ حينئذ ـ معتبرا موجبا لنقل الضمان إلى المشتري ، فيكون التلف عنده من التلف قبل القبض الموجب لانفساخ العقد.

لكن قد يشكل ذلك فيما لو كان اليد عليه قبل البيع يد ضمان كالغصب ونحوه ، لخروجها عن الضمان بالانتقال اليه لتبدل عنوانها الى يد


مالكية ، ولا دليل على عود الضمان في المقام بعد تلف المبيع لعدم الموجب له من اليد على مال الغير.

إلا أنه يضعف بعدم خروجه بالبيع عن مطلق الضمان. بل هو من تبدل الضمان بضمان آخر ، فان المبيع قبل البيع كان مضمونا عليه بضمان اليد بالمثل أو القيمة ، وبعده قبل التلف كان مضمونا بالمسمى ، فاذا انفسخ العقد الموجب لتبدل الضمان عاد الضمان الأول فيرجع المشتري بالثمن لو كان مقبوضا للبائع ، ويغرم له المثل أو القيمة.

الخامس عشر لو اتحد المقبض والقابض ، واختلفا بالاعتبار والحيثية ، كما لو باع الولي ماله من الطفل ، أو ابتاع منه لنفسه ، لم يفتقر الى قبض منوي به عن الطفل في الأول ، ولنفسه في الثاني ، بعد أن كان المبيع مقبوضا له في الصورتين ، فيكون التلف بعد العقد من المشتري المولى عليه في الأول ، والولي في الثاني ، لكونه بالفرض من التلف بعد القبض.

ويحتمل اعتبار القصد في القبض عن المشتري ـ وليا كان أو مولى عليه ـ ليمتاز عن القبض الأول ، بعد أن كان المبيع في يد الولي وقبضه في الصورتين قبضا واحدا مستمرا ، فلا يتشخص إلا بالقصد.

واختلف الأصحاب في هبة الولي للصغير : في لزوم قصد القبض عنه وعدمه ، فالمشهور على العدم ، لما روي في الصحيح : «عن الصادق ـ عليه السلام ـ في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا؟ فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث فان تصدق على من لم يدركوا من ولده فهو جائز ، لأن الوالد هو الذي يلي أمره» (١) وموثقة داود بن الحصين «الهبة والنحلة ما لم يقبض حتى يموت صاحبها؟ قال : هو ميراث ، فان :

__________________

(١) التهذيب ـ في الوقوف والصدقات ـ حديث تسلسل (٦٠٥ ـ ٥٢) وسند الحديث .. «عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام).


كان لصبي في حجره فأشهد عليه فهي جائزة ..» (١) ورواية جميل : «عن رجل وهب لابنه شيئا ، هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال : نعم إلا أن يكون صغيرا» (٢).

والجواز في الأولين بمعنى النفوذ بقرينة المقابلة للإرث ، وعدم تقييده بالقبض مع تقييد ما قبله به لتحققه فيه بقبض الولي ، لا لعدم اعتبار القبض في هبة الصغير واعتباره في الكبير ، لأن القبض معتبر في صحة الهبة أو لزومها مطلقا ، ولو كان المتهب صغيرا ، غير أن قبض الصغير يتحقق بقبض وليه وإطلاق الرجوع في هبة الكبير في الأخير محمول على الرجوع قبل القبض ، واستثناء الصغير انما هو لتحققه بقبض وليه الواهب.

وإطلاق هذه الأخبار يعم ما لو قصد القبض عن المولى عليه وعدمه ولو كان القصد معتبرا وجب التقييد به ، والا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة والعلة المنصوصة في الأولى موجبة للحكم به في غير الهبة من سائر عقود المعاوضات.

فإذا الأقوى عدم اعتبار القصد في القبض ، بل يدل عليه ـ مضافا الى ذلك ـ : أن اليد فيما لو باع الولي على المبيع مالكية وبالبيع الى المولى عليه ، فتنتقل اليد عن كونها مالكية إلى كونها أمانة جزما. ومعناها : ليس إلا كون يده عليه بدلا عن يد مالكه ، وبالعكس فيما لو ابتاع من المولى عليه لنفسه فان اليد تبدلت من الأمانة عن الغير إلى المالكية ، بل الأظهر تحقق القبض ـ قهرا ـ وان قصد عدمه بعد تبدل العنوان ، لأنه لم تنفك المالكية عن كون القبض لنفسه ، والأمانة عن كونه عن غيره.

__________________

(١) التهذيب للشيخ الطوسي ـ في النحل والهبة ـ حديث تسلسل (٦٤٨ ـ ٢٥).

(٢) المصدر نفسه ، حديث تسلسل (٦٤٦ ـ ٢٣).


السادس عشر إذا تلف بعض المبيع وكان التالف مما يقسط عليه من الثمن ، انفسخ العقد بالنسبة إليه بخصوصه مما يقابله من الثمن ، لكونه من تلف المبيع قبل قبضه ، بعد فرض انحلال البيع الى بيوع متعددة ويتخير المشتري في رد الموجود منه ، والرجوع بجملة الثمن ، للتبعض وقبوله بما يقابله منه.

نعم ، قد يشكل الحكم بالانفساخ ـ هنا ـ وكون التالف بخصوصه من مال البائع مع أن ظاهرهم الاتفاق عليه ، على القول بمخالفة الحكم به للقاعدة ، لوجوب الاقتصار فيه على المتيقن خروجه منها ، وهو تلف جميع المبيع ، ولو بدعوى الانصراف اليه ، دون بعضه ، والرجوع في تلف البعض مع القبول وعدم الرد إلى ما تقتضيه القاعدة من ضمانه بالمثل أو القيمة ولعله من الشواهد ـ أيضا ـ على كونه موافقا للقاعدة ، وان كان مما لا يقسط عليه شي‌ء من الثمن ـ جزء كان التالف أو وصفا ـ كقطع يد العبد قبل القبض ونسيانه الكتابة كذلك المشروط اتصافه بها ، فلا خلاف في أن للمشتري الرد. وفي جواز أخذ الأرش بحيث يجبر البائع عليه فيكون المشترى مخيرا بين الرد والأرش قولان : فعن الشيخ في (المبسوط والخلاف) العدم ، بل عن (الخلاف) : دعوى عدم الخلاف فيه ، وهو المحكي عن ابن إدريس ، والمحقق في (النافع) و (كاشف الرموز) في شرحه (١) وعن غير واحد ـ ومنهم الشيخ في محكي (النهاية) وعن ابن البراج وأبي الصلاح : الجواز ، وهو المحكي عن الشهيدين ، وثاني المحققين ، بل عن (المسالك) : إنه المشهور ، واستدل عليه في (المختلف) وغيره بأن المبيع لو تلف أجمع ، لكان من ضمان البائع ، فكذا أبعاضه وصفاته قلت : قد يشكل قياس تلف أبعاض المبيع ـ مطلقا ـ وصفاته بتلف جمعه في كونه من ضمان البائع الذي قد عرفت أن معناه انفساخ

__________________

(١) تقدم ـ آنفا ـ ص ١١٩ كلام موجز عن هذا الكتاب ، ومؤلفه.


العقد بالتلف والرجوع بالمسمى ، لأن الضمان بهذا المعنى إنما يتحقق بتلف الجميع أو بعضه مما يقابل بشي‌ء من الثمن ، لإمكان تحقق الرجوع ـ حينئذ ـ بكل الثمن أو بعضه بالانفساخ في كل المبيع بالتلف أو بعضه وحيث كان التالف جزء لا يقسط عليه من الثمن أو وصفا ، وهو كذلك كيف يمكن فرض الضمان فيه بهذا المعنى؟ إذ لا رجوع فيهما بشي‌ء من المسمى ، وليس الأرش من المسمى ، حتى يمكن في مورده فرض الانفساخ والرجوع بشي‌ء منه.

إلا أن شيخنا المرتضى ـ رحمه الله ـ ذكر وجها لتعقل انفساخ العقد وتخيير المشتري بين الرد والأرش فيما لو حدث عيب في المبيع قبل القبض بما يرجع ملخصه ـ بتوضيح منا ـ إلى أن الضمان في تلف المبيع وأبعاضه وأوصافه بمعنى واحد ، وهو فرض العقد بالنسبة إلى التالف كأن لم يكن غير أنه يختلف حكمه باختلاف التالف ، فان كان الكل كان الرجوع بتمام المسمى ، وان كان بعضا يقسط عليه من الثمن كأحد العبدين فرض كأن لم يعقد على التالف وعقد على الموجود منهما ، فيرجع بما يقابل التالف من المسمى ، ويتخير للتبعض بين الرد وقبول الموجود بما يقابله منه ، وان كان التالف بعضا لا يقسط عليه من الثمن أو وصفا مشروطا اتصافه به أو يوجب فواته عيبا فيه كان ضمانه بمعنى فرض العقد بالنسبة إليه بخصوصه كأن لم يكن ، ومرجعه الى تقدير كون العيب في ملك البائع ووقوع العقد على المعيب ، فيجري حكمه من التخيير بين الرد والأرش فيه.

وهو تخريج حسن ، لجواز أخذ الأرش من البائع بضمانه لما تلف من أوصاف المبيع قبل القبض ، لكن يشكل ذلك كما اعترف به ، بناء

__________________

(١) مكاسب الشيخ الأنصاري ، كتاب البيع ، في أحكام القبض ، مسألة ما لو تلف بعض المبيع قبل قبضه.


على كون الحكم به على خلاف القاعدة لوجوب الاقتصار فيما يخالفها على المتيقن خروجه منها ، وهو تلف جميع المبيع ، أو يعمه وما بحكمه من تلف بعض يقسط عليه من الثمن دون مطلق أبعاضه وأوصافه.

السابع عشر : يجري في تلف الثمن المعين وأبعاضه وأوصافه قبل القبض ما تقدم في تلف المبيع قبله ، حرفا بحرف وأنه في ضمان المشتري قبل القبض ، كما أن المبيع في ضمان البائع إلى حصول القبض ، لتساويهما في اقتضاء عقد المعاوضة لضمانهما.

نعم ، يشكل تعدي الحكم من المبيع إلى الثمن ، بناء على كونه مخالفا للقاعدة ، إلا بدعوى إطلاق المبيع على الثمن أيضا ، كما يقال : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١).

ويظهر من بعض دعوى الاتفاق على تعدي الحكم الى الثمن وهو من الشواهد ـ أيضا ـ على كون الضمان من مقتضيات عقد المعاوضة (٢).

__________________

(١) نبوي مشهور لدى الفريقين فمن العامة ذكره المناوي في (كنوز الحقائق بحرف الباء) بهذا النص وذكره العجلوني في (كشف الخفاء باب الباء حديث رقم (٩٣) بلفظ «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر» واستعرض ذكر الحديث بوجوهه المختلفة وإسناده الكثيرة ، ومن الخاصة : عامة كتب الأخبار والموسوعات الفقهية ـ في أبواب الخيار.

(٢) أقول : ذكرنا : أن الظاهر تعدي الحكم من المبيع إلى الثمن ، وإن قلنا إن الحكم على خلاف القاعدة من جهة النص ، بلا حاجة إلى دعوى إطلاق المبيع على الثمن ـ أيضا ـ والاستشهاد بقوله «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» ، ولا إلى دعوى بعض : الاتفاق على تعدي الحكم الى الثمن ، بل لما ذكرنا من أن النبوي ـ وان اختص بتلف المبيع ـ لكن رواية عقبة بن خالد ظاهرة في سراية الحكم المذكور الى تلف الثمن قبل القبض ـ أيضا ـ على ما قربناه من دلالتها على ذلك.


الثامن عشر : لو باع ثوبا بعبد ـ مثلا ، وقبض الثمن ـ وهو العبد ـ فباعه من غيره ، ثم تلف المبيع ـ وهو الثوب ـ قبل قبضه ، فان كان البيع سابقا على التلف نفذ البيع لوقوعه في ملكه ، ويغرم قيمة العبد للمشتري لانفساخ العقد بتلف المبيع قبل قبضه ، وان كان مسبوقا به لم ينفذ بيع العبد لرجوعه الى المالك الأول بانفساخه من حين التلف ووقوع البيع ـ حينئذ ـ منه على ملك الغير ، والحكم في الصورتين واضح ، ومع الشك في السبق واللحوق ، فأصالة تأخر كل منهما معارضة بمثلها في الآخر فيشكل نفوذ البيع في العبد بل يشكل ـ أيضا ـ لو أثبتنا التقارن بأصالة عدم تقدم كل منهما على الآخر ، وان قلنا بكونه أمرا عدميا ، فضلا عن كونه أمرا وجوديا.

اللهم إلا أن يقال : إن الشك في بقاء الملك للعبد حين بيعه وعدمه مسبب عن سبقه على التلف ، ومع تعارض الأصلين في السبب يرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المسبب ، وهو بقاء الملك الى حين البيع الحاكم على أصالة عدم النقل ، لأن الشك فيه مسبب عن الملك وعدمه.

التاسع عشر قد عرفت الكلام في ما إذا كان الثمن معينا شخصيا وأما إذا كان كليا ، سواء كان كليا خارجيا أو في الذمة ـ ودفع الى البائع ما زاد على الثمن ليتخير منه ، فالكلام فيه هو الكلام في المبيع الكلي بقسميه ـ حسبما تقدم.

العشرون قد عرفت موافقة الحكم بالضمان قبل القبض بالمسمى للقاعدة الموجبة للتعدي من البيع إلى سائر عقود المعاوضات ولعل ذلك من المسلم عندهم ـ كما يظهر من بعضهم ـ :

قال شيخنا المرتضى في (المكاسب) «.. ثم إنه هل يلحق العوضان في غير المبيع من المعاوضات به في هذا الحكم؟ لم أجد أحدا صرح


بذلك نفيا أو إثباتا ، نعم ذكروا في الإجارة والصداق وعوض الخلع ضمانها لو تلف قبل القبض ، لكن ثبوت الحكم عموما مسكوت عنه في كلماتهم ، إلا أنه يظهر من بعض مواضع (التذكرة) عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات ، قال ـ في مسألة البيع قبل القبض وجواز بيع ما انتقل بغير البيع ـ : «والمال المضمون في يد الغير بالقيمة كالعارية المضمونة ، أو بالتفريط ، ويسمى ضمان اليد يجوز بيعه قبل قبضه لتمام الملك ـ إلى أن قال ـ : أما ما هو مضمون في يد الغير بعوض في عقد معاوضة ، فالوجه جواز بيعه قبل قبضه كمال الصلح والأجرة المعينة ، وقال الشافعي : لا يصح لتوهم الانفساخ بتلفه كالبيع وظاهر هذا الكلام كونه مسلما بين الخاصة والعامة» (١) انتهى.

فمن الغريب ـ مع ذلك ـ ما وقع منه ومن غيره من البناء على كون الحكم مخالفا للقاعدة الذي مقتضاه الاقتصار فيما خالفها على المتيقن من مورد الدليل من المبيع دون الثمن ، فضلا عن غير البيع من سائر عقود المعاوضات فافهم واغتنم.

تذييل

يشترط في خروج البائع عن ضمان المبيع بالقبض : أن لا يكون للمشتري خيار يختص به ، فان كان له خيار كذلك ـ وتلف المبيع في يده ـ كان من ضمان البائع ـ أيضا ـ وان كان بعد قبضه حسبما كان ضامنا له قبل القبض ، لأن تلف المبيع في مدة الخيار من ضمان من لا خيار له ـ إجماعا بقسميه في الجملة ـ وهي قاعدة مسلمة عند الأصحاب ، وإن وقع من بعض

__________________

(١) راجع : كتاب البيع ـ في أحكام القبض ، مسألة تلف المثمن المعين قبل القبض.


التأمل في كليتها بحيث تعم الثمن والمثمن وأنواع الخيارات ، بايعا كان ذو الخيار أو المشتري.

والأصل فيه ـ قبل الإجماع ـ : صحيحة ابن سنان : «عن الرجل يشتري الدابة أو العبد ويشترط الى يوم أو يومين ، فيموت العبد أو الدابة أو يحدث فيه حدث ، على من ضمان ذلك؟ فقال : على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري» (١) شرط له أم لم يشترط ـ وان كان بينهما شرط أياما معدودة فهلك في يد المشتري فهو من مال البائع» (٢)

ورواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله : قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل : اشترى أمة بشرط من رجل يوما أو يومين فماتت عنده ، وقد قطع الثمن : على من يكون ضمان ذلك؟ قال : ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضي بشرطه» (٣)

ومرسلة ابن رباط : «إن حدث في الحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع» (٤)

والنبوي المروي في (قرب الاسناد) في العبد المشتري بشرط فيموت

__________________

(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ، باب تلف الحيوان قبل الثلاثة حديث رقم (٢).

(٢) وهذه الفقرة الأخيرة من رواية أخرى عن ابن سنان أيضا ، راجع نفس المصدر باب أن المبيع إذا حصل له نماء في مدة الخيار .. حديث رقم (٢).

(٣) وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ، باب أن الحيوان إذا تلف أو حدث فيه عيب في الثلاثة حديث رقم (١).

(٤) المصدر نفسه ، حديث رقم (٥).


قال : «يستحلف بالله ما رضيه ، ثم هو بري‌ء من الضمان» (١).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم ان الكلام هنا يقع في أمور :

الأول : ان المصرح به في كلام كثير من الأصحاب هو أن تلف المبيع في زمن الخيار من ضمان من لا خيار له ، وقد أرسلوها إرسال القاعدة وهي ـ بإطلاقها ـ تعارض القاعدة المتقدمة ، وهي تلف المبيع قبل قبضه تعارض العامين من وجه ، لأنها تعم ما قبل القبض وبعده ، غير أنها مختصة بوجود الخيار ، وتلك القاعدة ، وان اختصت بما قبل القبض ، إلا أنها عامة بالنسبة إلى صورتي وجود الخيار ، وعدمه ، وحينئذ فتتعارض القاعدتان في صورتي تلف المبيع قبل قبضه والخيار للبائع فقط ، وتلفه بعد قبضه والخيار للمشتري كذلك ، وتتوافقان في الصورتين ـ أيضا ـ في الأولى ، مع كون الخيار للمشتري ـ فقط ـ وفي الثانية مع كون الخيار للبائع كذلك.

هذا ولكن الإنصاف عدم استفادة نحو هذه الكلية من الأخبار حتى يقع تعارض بين القاعدتين المذكورتين وإن وقع التعبير بنحو هذه الكلية في كلام الأصحاب ، بل المستفاد منها اختصاصها بما بعد القبض ، بقوله ـ عليه السلام ـ في ذيل الصحيحة المتقدمة : «وإن كان بينهما شرط أياما معدودة فهلك في يد المشتري» وقوله ـ عليه السلام ـ «فماتت عنده» في رواية عبد الرحمن ، المقيد بهما ، ولو بمعونة فهم الأصحاب إطلاق

__________________

(١) المصدر نفسه ، حديث رقم (٤) وسند الحديث فيه هكذا : وبإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي إسحاق عن الحسن بن أبي الحسن الفارسي عن عبد الله بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد قال قال رسول الله (ص) : في رجل اشترى عبدا بشرط ثلاثة أيام ، فمات العبد في الشرط وقال ..


الخبرين الأخيرين ، فلا تكون النسبة بين القاعدتين عموما من وجه حتى يرجع في تخصيص إحديهما دون الآخر الى المرجح.

الثاني هو أن الأخبار المتقدمة ، وإن اختصت بظاهرها ـ بمعونة ذكر الزمان فيها ـ ببعض الخيارات كخيار الحيوان وخيار الشرط ، أو هما وخيار المجلس ، إن اختص بالمشتري ولو بإسقاط البائع خياره ، بناء على إطلاق الشرط عليه في الأخبار ، فلا تشمل القاعدة غيرها من أنواع الخيارات كخيار الغبن وخيار العيب ، ونحوهما مما يكون فيه على الفورية من غير اعتبار للمدة فيه.

إلا أن الأقوى تعميمها لمطلق الخيار (١) بناء على أن المناط في عدم ضمان ذي الخيار له ، وان تلف في يده ، هو تزلزل العقد بالنسبة إليه

__________________

(١) قد يقال : إن الحكم بضمان البائع ما يتلف في يد المشتري من المبيع ـ على خلاف القاعدة المستفادة من عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الدال على لزوم العقد ، وعدم انفساخه بلا موجب ، ومع عدم الانفساخ لا يمكن أن يكون التلف على غير قابضه.

هذا مضافا الى خصوص رواية عقبة بن خالد عن الصادق ـ عليه السلام ـ «في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إن شاء الله ، فسرق المتاع؟ من مال من يكون؟ قال ـ عليه السلام ـ : من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه». فإن الظاهر منها أن المال بعد القبض في عهدة مالكه ، ولا يضمنه غيره ، حتى يقال بالانفساخ ، والقدر المتيقن من قاعدة التلف في زمن الخيار هو خيار الحيوان والشرط ، الثابتان للمشتري حسبما يستفاد من صحيحة ابن سنان ، ورواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله


__________________

ومرسلة ابن رباط ، والنبوي المروي في (قرب الإسناد) ـ على ما ذكر في المتن.

وهذه الروايات خاصة بخيار الحيوان ، والشرط الثابت للمشتري ، والتعدي إلى سائر الخيارات ـ بل الى الخيار الثابت للبائع ـ بلا وجه ، سوى دعوى تنقيح المناط ، أو دعوى استفادة العلية من قوله ـ عليه السلام ـ : «حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري» بناء على ان المراد بصيرورة المبيع للمشتري كونه بنحو الاستقرار ، دون أصل الملك ، وان المستفاد منه أن كل من لم يستقر عليه المال لكونه ذا خيار فتلف ماله على من عليه الخيار ، وبالتلف تنفسخ المعاملة ويصير التالف قبل تلفه ـ آنا ما ـ ملك من عليه الخيار ، ثم يتلف من ماله ، نحو ما ذكرنا في التلف قبل القبض ، بلا فرق بين كون الخيار الثابت له خيار حيوان أو شرط أو مجلس أو تخلف شرط ضمني ، كخيار الغبن أو العيب أو تخلف الوصف.

والحاصل : أن التعدي عن مورد الروايات ، وهو خيار الشرط والحيوان متوقف على استفادة العلية من قوله : ـ عليه السلام ـ «حتى ينقضي الشرط» المراد به الخيار ، وان العلة في الضمان وجود الخيار لمن تلف عنده المال ، وذلك غير واضح ، بل الظاهر كون المراد من قوله ـ عليه السلام ـ «حتى ينقضي الشرط» بيان أن ضمان المال على من عليه الخيار وهو البائع إلى زمان انقضاء خيار الحيوان ، ولا اعتبار بشرط اليوم واليومين ، فقوله ـ عليه السلام ـ «حتى ينقضي الشرط» لبيان غاية ضمان البائع لموت العبد والدابة ، وهو الثلاثة أيام.

وأما دعوى كون المناط في الضمان عدم استقرار الملك بسبب مطلق الخيار ، فليس ذلك سوى الظن ، ولا يكون من تنقيح المناط القطعي


__________________

فهو من قبيل القياس الذي لا نقول به.

والحاصل : أن الظاهر من الروايات الواردة في بيان ضمان من عليه الخيار ما يتلف في يد من له الخيار : اختصاص ذلك بصورة كون الخيار مما له أمد محدود ومبدء ومنتهى كخيار الحيوان والشرط ، فمثل خيار الغبن والعيب ، وتخلف الوصف مما لم يكن له أمد استفادة حكمها من روايات الباب مشكل غاية الإشكال ، لا سيما مع القول بكون الخيار فيها على الفور.

ثم إن الروايات الواردة في الباب ، وان كان موردها صورة كون المبيع حيوانا ، وقد قبضه المشتري ، وان تلفه في الثلاثة أيام على البائع وبعد الثلاثة من المشتري ، إلا إذا شرط البائع لنفسه الخيار مدة تزيد على الثلاثة ، فغاية ضمان البائع تلف المبيع انتهاء مدة الشرط ، ولكن الظاهر عدم الخصوصية للحيوان ، فيمكن أن يتعدى منه الى غيره فيما لو كان الخيار المجعول للمشتري بالشرط.

وأما التعدي إلى صورة ما إذا كان الخيار المجعول بالشرط للبائع وتلف الثمن في مدة خياره ، فدعوى القطع باتحاد المناط وعدم الخصوصية للمشتري وكون التالف العين المبيعة غير بعيدة. ولو نوقش في دعوى القطع باتحاد المناط بين تلف المثمن وبين تلف الثمن في ضمن الخيار فيكفي في ذلك استصحاب الضمان الثابت قبل القبض بالنسبة إلى الثمن ، إذ لا ينبغي الإشكال في أن قاعدة كون تلف المال من مالكه مخصصة بقاعدة التلف قبل القبض بالنسبة إلى الثمن ، وكون تلفه من المشتري لحكومة قاعدة التلف قبل القبض على قاعدة كون تلف المال من مالكه ، وبعد قبض البائع للثمن ، وكون الخيار للبائع خاصة ، وحصل الشك في كون تلف الثمن من ماله لقاعدة كون التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له ، وكونها


وعدم استقراره عليه وضمانه على من لا خيار له لأنه قد استقر العقد عليه كما صرح به في (السرائر) حيث قال : «وكل من كان له الخيار فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار ، لأنه قد استقر العقد عليه ولزم والذي له الخيار ما استقر عليه العقد ولا لزمه ، فان كان الخيار للبائع دون المشتري وكان المتاع قد قبضه المشتري وهلك في يده ، كان هلاكه من مال المشتري دون مال البائع ، لأن العقد استقر عليه ولزم من جهته ..» (١) انتهى.

وهو مناط مستفاد مما هو بحكم التعليل في قوله «حتى ينقضي الشرط

__________________

شاملة للثمن أيضا ، فلو نوقش في دعوى تنقيح المناط ، وكونه ظنيا لا قطعيا ، فاستصحاب ضمان المشتري للثمن الثابت بالنسبة إليه قبل القبض ببدله المسمى في العقد الى ما بعد قبض البائع له في مدة خياره المجعول له بالشرط ، يكون من قبيل استصحاب حكم الخاص الحاكم على عموم العام ـ كما يظهر بالتأمل.

وأما التعدي عن مورد الروايات الى خيار المجلس الثابت لأحد المتعاقدين فالكلام فيه هو الكلام في سابقه من التعدي بالنسبة إلى الثمن ، فإنه ، وان لم يكن الخيار فيه محدودا بزمان كخيار الحيوان ، والشرط ، ولكن حيث حدد بالافتراق فهو بمنزلة التحديد بالزمان.

والحاصل ، أن التعدي إلى الخيارات الثلاثة : خيار الغبن ، وخيار العيب ، وخيار تخلف الوصف المشروط في العقد ، مشكل غاية الإشكال لا سيما بناء على المشهور من كون ظهور العيب والغبن والتخلف سببا للخيار لا كاشفا عن ثبوت الخيار من حين العقد ، بل لا وجه له على هذا المعنى كما لا يخفى.

(١) السرائر لابن إدريس ـ كتاب البيوع ، باب الشرط في العقود.


ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري» بعد حمل صيرورته للمشتري على الملك المستقر كما فهمه المشهور ، دون أصل الملك ، كما عليه الشيخ ، ومانعية التزلزل عن ضمان المقبوض لم تنفك عن مطلق الخيار.

وبهذا التعميم وغيره ـ كما ستعرف ـ صرح بعض الأصحاب :

قال في (الدروس) : «.. ولو تلف بعد قبض المشتري فهو من ماله إلا أن يختص بالخيار ، فيكون من البائع.» انتهى (١) من غير تقييد للخيار في كلامه بما يخصصه ببعضه.

وقال جدنا في (الرياض) بعد بيان قاعدة ما إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه ـ : «.. وكذا لو تلف المبيع أو الثمن بالآفة الإلهية بعد قبضه وقبل انقضاء خيار المشتري أو البائع ، فإن التلف في مدة الخيار ممن لا خيار له بلا خلاف أجده ، لما مر في كل من خياري الشرط والحيوان : من المعتبرة المستفيضة ، وأخصيتها من المدعى مندفعة بعدم القائل بالفرق بين الطائفة ..» (٢).

وقال في (مفتاح الكرامة) : «لقد حكم المصنف ـ هنا ـ وفي التذكرة والمحقق الثاني والفاضل الميسي : أنه يكون من المشتري ان كان الخيار للبائع أو لهما أو لأجنبي ، وأنه إن كان للمشتري ـ خاصة ـ فمن البائع وهو ـ فيما عدى الأجنبي وما عدى ما إذا كان الخيار لهما ـ على ما ستعرف الحال فيه ـ موافق لما في (السرائر) و (جامع الشرائع) لابن سعيد ، و (الإرشاد) وشرحه لولده ، (ومجمع البرهان) : من أن التلف إن كان في مدة الخيار ، فهو ممن لا خيار له ، وهو معنى ما في (الشرائع) و

__________________

(١) راجع من دروس الشهيد : كتاب البيع ، درس في القبض.

(٢) كتاب التجارة ، الفصل الثالث في الخيار في شرح قول المحقق : الخامسة إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه ..


(التحرير) و (التذكرة) و (المسالك) و (المفاتيح) : من أنه إن كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري ، وان كان للمشتري فالتلف من البائع ، ولا أجد في شي‌ء من ذلك خلافا ، بل إطلاق إجماع (الغنية) حيث قال : «إذا هلك المبيع في مدة الخيار فهو من مال البائع إلا أن يكون المبتاع قد أحدث فيه حدثا يدل على الرضا ، فيكون هلاكه من ماله» منطبق على الصورة الثانية ، لكنه يشكل بالنسبة الى ما إذا كان الخيار لهما كما ستسمع (١) انتهى.

وبالجملة ، لم أجد من صرح من الأساطين باختصاص الخيار ببعض أقسامه مع وقوعه بنحو الإطلاق في كلامهم ، وان وقع التعبير بالمدة والزمان في كلام أكثرهم المنزل على غلبة تصوير التلف في حال الخيار ووجوده بعد أن كان المناط التلف في حال التزلزل من غير مدخلية للزمان في موضوعية المناط ، وان أخذ ـ غالبا ـ طريقا الى تحققه.

نعم ، الظاهر عدم مانعية التزلزل المسبوق باللزوم عن ضمان المقبوض كخيار تأخير الثمن لحدوث الخيار بعد الثلاثة لا في أثنائها ، فضمان المبيع على المشتري لو تلف عنده بعد الثلاثة إنما هو للقاعدة الأولية لكونه تلف في ملكه بعد قبضه ، كما لو تلف في الثلاثة ، لا لخيار البائع وأنه من مال من لا خيار له ، لظهور «حتى ينقضي الشرط» في الصحيحة في اعتبار اتصال التزلزل بالعقد ، وكذا مثله ، بناء على تعميم القاعدة للثمن أيضا ـ كما ستعرف ـ إذا تلف الثمن بعد قبض البائع له لو شرط الخيار عند رد الثمن أو مثله في زمان معين ، فان الخيار إنما يحدث بعد رد مثل الثمن فيه ، لا قبله ، فيكون تلف الثمن في ملكه ، ولا خيار له حتى يكون في ضمان المشتري ، ومن مال من لا خيار له ، فهو من التزلزل المسبوق

__________________

(١) راجع : كتاب المتاجر منه ص ٥٩٨ طبع الشام.


باللزوم الذي قد عرفت أنه غير مانع عن الضمان.

نعم لو فرض استمرار الخيار في المدة ، وأن رد مثل الثمن شرط في إعمال الخيار ومباشرة الفسخ على وجه يكون ذلك بجعل بالفرض في أصل العقد ، أشكل الحكم بذلك لاختصاص الخيار بالبائع واقتضاء القاعدة كونه من ضمان من لا خيار له ، وهو المشتري.

الثالث يظهر مما ذكرنا من عدم كون المقبوض لذي الخيار مضمونا عليه لو تلف في خياره : عدم الفرق بين المبيع والثمن ، لوحدة المناط المتقدم فيهما ، ضرورة أن نسبة الثمن المقبوض للبائع ، والخيار مختص به كنسبة المبيع المقبوض للمشتري إذا كان الخيار مختصا به.

وإن تأمل في التعميم من هذه الحيثية أيضا ـ بعض المحققين من المعاصرين ، نظرا الى الاقتصار فيما خالف الضوابط الشرعية على المتيقن خروجه منها ، وهو المبيع ، فلا يتعدى منه إلى الثمن.

وأنت خبير بما فيه ، لعدم وقوع لفظ المبيع في شي‌ء من الأخبار كما وقع في النبوي المتقدم في القاعدة المتقدمة حتى يتوهم الاقتصار عليه.

ودونك في التعميم من هذه الحيثية ـ أيضا ـ ما تقدم من كلام جدنا في (الرياض) وغيره.

الرابع ـ الخيار : إما أن يكون للبائع ، أو للمشتري ، أو لهما ، أو للأجنبي ـ منفردا ـ أو له منضما إليهما ، أو إلى أحدهما ، بائعا كان أو المشتري وعلى التقادير كلها : فاما أن يكون التلف قبل القبض أو بعده.

فان كان قبل القبض كان من ضمان البائع ـ مطلقا ـ في جميع صورها السبع ، لأنه من تلف المبيع قبل قبضه الذي قد تقدم كونه مضمونا على البائع ـ مطلقا ـ حتى لو كان له خيار مختص به فإنه لا يكون من ضمان المشتري الذي لا خيار له ، لما عرفت من اختصاص قاعدة تلف المبيع


في مدة الخيار بما إذا كان بعد القبض ، لا قبله ، وان توهم كونه من تعارض القاعدتين فيه.

وأما إذا كان التلف بعد القبض فمن ضمان المشتري في جميع صورها أيضا ـ إلا إذا كان الخيار خاصا بالمشتري ، فإنه المتيقن خروجه ـ بما دل على كون التالف في مدة الخيار ممن لا خيار له ـ عن القاعدة الأولية التي مقتضاها كون التالف منه ، لأنه تلف في ملكه وهو مقبوض له.

ويلحق بهذه الصورة في الخروج عن القاعدة الأولية : ما لو كان الخيار للأجنبي ، وكان بجعل من المشتري توكيلا منه ـ منفردا كان أو منضما الى نفسه ـ لا تحكيما ، فافهم.

الخامس ـ المراد بالضمان في هذه القاعدة هو المراد منه في قاعدة تلف المبيع قبل قبضه ، بمعنى انفساخ العقد وحله ، فلا يفتقر بعد التلف الى فسخ ذي الخيار ، لتحقق الانفساخ بمجرد تحقق التلف ، فلم يبق عقد ـ حينئذ ـ حتى تكون له سلطنة على الفسخ بالخيار ، وهو واضح

هذا آخر ما أردنا بيانه في هذه المسألة والله العالم

بحقائق أحكامه


رسالة

في الأراضي الخراجية



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين محمد (ص) وأهل بيته المعصومين ، وعلى صحبه الأبرار المنتجبين ، ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين.

وبعد : فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الحسني الحسيني الطباطبائي (١) :

هذه (رسالة في الأراضي الخراجية) وغيرها ، وما يأخذه السلطان من الخراج والمقاسمة ، وما يؤخذ منه من الجوائز. رتبتها على مقدمة ومقالات وتذنيب ، وخاتمة.

أما المقدمة ، ففي تقسيم الأرضين

وهي في الأصل ـ كما في قاطعة اللجاج (٢) ـ على قسمين :

(أحدهما) ـ أرض بلاد الإسلام ، وهي على قسمين ـ أيضا ـ عامر ، وموات. فالعامر ، ملك لأهله لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن ملاكه

__________________

(١) هو العلامة المحقق سيدنا الخال السيد محمد ابن العلامة السيد محمد تقي ابن العلامة السيد رضا ابن سيدنا المعظم بحر العلوم الطباطبائي قدس الله تعالى أسرارهم.

(٢) رسالة قاطعة اللجاج في حل الخراج للشيخ الجليل المحقق الثاني نور الدين علي بن عبد العالي الكركي صاحب المصنفات الكثيرة المشهورة منها : جامع المقاصد في شرح القواعد للعلامة الحلي ـ قدس الله تعالى سرهما.

طبعت هذه الرسالة القيمة مع جملة من رسائل مختلفة في الرضاع والخراج في إيران سنة ١٣١٥ ه‍.


والموات ـ إن لم يجر عليه ملك مسلم ، فهو لإمام المسلمين ، يفعل به ما يشاء وليس هذا القسم من محل البحث المقصود.

(الثاني) ما ليس كذلك ، وهو أربعة أقسام : الأول ـ الأرض المفتوحة عنوة ، الثاني ـ أرض الجزية ، وهي التي صولح عليها ، الثالث الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا ، الرابع ـ أرض الأنفال (١).

وهذه القسمة لا تنافي تقسيم أكثر الفقهاء لها إلى الأقسام الأربعة ، لأن نظرهم في التقسيم إليها من حيث تعلق يد الكفار بها واستيلائهم عليها.

(تنبيه) : جمع الأرض على الأراضي على غير قياس ، لأن (فعل) لا يجمع على (فعالي) ، بل هو جمع (فعلاء) كصحراء وصحاري ، قال في (المسالك) : «.. وربما جمعها ـ أي الأرض ـ بعضهم على الأراضي وغلط في ذلك» (٢) وعن الحواشي المنسوبة إلى الشهيد ـ رحمه الله ـ : «أن جمع الأرض على الأراضي غلط».

قلت : هو جمع سماعي على غير قياس ، قال في (الصحاح): «.. وقد تجمع ـ أي الأرض ـ على أروض ، وزعم أبو الخطاب : أنهم يقولون : أروض ، وأراض ، كما قالوا : أهل ، وآهال ، والأراضي ـ أيضا ـ على غير قياس» (٣) وقال في (القاموس) : «.. أرضات وأروض وأرضون وأراض ، والأراضي غير قياسي» (٤) وعن المصباح «.. قال أبو زيد : وسمعت العرب تقول في جمع الأرض : الأراضي والأروض ، مثل : فلس وفلوس ، وجمع فعل وفعالي في أرض وأراضي

__________________

(١) راجع هذا التقسيم ـ باقتضاب ـ في المقدمة الأولى من الرسالة المذكورة.

(٢) راجع : مسالك الأفهام للشهيد ج ٢ أوائل كتاب إحياء الموات.

(٣) راجع : الصحاح للجوهري ، باب الضاد ، فصل الألف بمادة (أرض)

(٤) راجع : تمام المادة ـ في (القاموس) أو باب الضاد فصل الهمزة.


وأهل وأهالي ، وليل وليالي ـ غير قياسي» (١).

وكيف كان ، فها هنا مقالات :

المقالة الاولى : في الأرض المفتوحة عنوة بفتح العين المهملة وسكون النون ـ وهي المأخوذة بالقهر والغلبة المستلزمة للذل والخضوع.

ومنه قوله تعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (٢).

فما كان منها عامرا ـ يوم الفتح ـ فهو للمسلمين قاطبة ، ولمن يدخل في الإسلام ولمن يوجد ـ بعد ذلك ـ بالسوية ، من غير تفاضل بينهم ، فضلا عن التخصيص بالمقاتلة منهم.

ويدل عليه ـ بعد الإجماع بقسميه البالغ منقولة فوق حد الاستفاضة المعتضد بدعوى غير واحد الوفاق ، وعدم الخلاف في ذلك ، فلا يعبأ بما وقع من التعبير عنه بالمشهور في (الكفاية) ـ (٣).

الأخبار المستفيضة التي منها : صحيحة الحلبي «عن السواد : ما منزلته؟ فقال : هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق ـ بعد ـ فقلنا : الشراء من الدهاقين؟ قال : لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يجعلها للمسلمين ، فان شاء ولي الأمر أن يأخذها

__________________

(١) راجع : المصباح المنير للفيومي باب الألف بمادة (الأرض).

(٢) سورة طه ـ ١١١.

(٣) حيث قال في كتاب الجهاد : «القول في أحكام الأرضين وهي على أقسام أربعة : الأول ـ المفتوحة عنوة ـ الى أن يقول : والمراد بالمفتوحة عنوة المأخوذة بالغلبة والقهر والاستيلاء وحكمها على المشهور انها للمسلمين قاطبة لا يختص بها الغانمون وعند بعضهم انها كذلك بعد إخراج الخمس لأهله إلى آخر كلامه «قده»

والظاهر عدم الإشكال في تعبيره (قدس سره) بالمشهور إذ هو في قبال قول البعض من انها لجميع المسلمين بعد إخراج الخمس لأهله ، فراجع.


أخذها. قلنا : فإن أخذها منه؟ قال : يرد إليه رأس ماله ، وله ما أكل منها» (١).

ومنها ـ صحيحة ابن ربيع الشامي : لا تشتروا من أرض السواد ـ إلى أن قال ـ : فإنها في‌ء للمسلمين» (٢).

ومنها ـ خبر محمد بن شريح : «سألت أبا عبد الله ـ ع ـ عن شراء الأرض من أرض الخراج؟ فكرهه ، وقال : إنما أرض الخراج للمسلمين فقالوا له : فإنه يشتريها الرجل ، وعليه خراجها؟ فقال : لا بأس ، إلا أن يستحيي من عيب ذلك» (٣).

ومنها ـ صحيحة صفوان : «قال : حدثني أبو بردة ، قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال : ومن يبيع ذلك ـ وهي أرض المسلمين؟ قال : قلت : يبيعها الذي هي في يده ، قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ـ ثم قال ـ : لا بأس أن يشتري حقه منها ، ويحول حق المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى عليها وأملأ بخراجهم منه» (٤).

ومنها ـ مرسلة حماد ـ الطويلة ـ «.. عن أبي الحسن الأول (ع) :

__________________

(١) ذكرها الشيخ ـ قدس سره ـ في التهذيب في الجزء السابع كتاب التجارات الباب الحادي عشر باب أحكام الأرضين (٦٥٢) ـ (١) وفي آخرها «وله ما أكل من غلتها بما عمل» فراجع.

(٢) ذكرها الشيخ ـ قدس سره ـ في التهذيب في (١١) باب أحكام الأرضين (٦٥٣) ـ (٢) : عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال لا تشتر من أرض السواد شيئا إلا من كانت له ذمة فإنما هو في‌ء للمسلمين.

(٣) ذكره الشيخ ـ قدس سره في نفس الباب من التهذيب (٦٥٤) ـ (٣).

(٤) ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ فيه في نفس الباب منه (٦٨٦) ـ (٣٥).


«الأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب ، فهي موقوفة متروكة بيد من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على قدر طاقتهم من الخراج : النصف أو الثلث أو الثلثان ، على قدر ما يكون لهم صلاحا ، ولا يضر بهم ، فاذا خرج منها نماؤها فأخرج منه العشر من الجميع فيما شقت السماء أو سقي سيحا ونصف العشر فيما سقي بالدوالي والنواضح ، فأخذه الوالي ، فوجهه في الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم : (لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ) .. (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، ثمانية أسهم يقسمها بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقتير ، فان فضل شي‌ء من ذلك رد إلى الوالي ، وان نقص شي‌ء من ذلك ، ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا ، ويأخذ بعد ما يبقى من العشر ، فيقسمه بين الوالي وشركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها ، فيدفع إليهم انصبارهم على ما صالحهم عليه ، ويأخذ الباقي فيكون أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينويه من تقوية الإسلام وتقوية الدين ، وفي وجوه الجهاد ، وغير ذلك مما فيه مصلحة عامة ، وليس لنفسه من ذلك القليل والكثير» (١).

وهي ـ وان كانت مرسلة ـ إلا أن الأصحاب تلقوها بالقبول ، فهي منجبرة ، وان تضمنت تقديم الزكاة على الخراج ، وهو ـ على ما قيل ـ خلاف المشهور. الى غير ذلك من الأخبار.

والظاهر : أنها لهم على جهة الملكية ـ كما عن صريح بعض ـ لمكان اللام والإضافة الظاهرين فيها ، لا على وجه الاختصاص ، ولو من جهة

__________________

(١) راجع هذا الحديث ـ باختلاف بسيط في بعض عباراته ـ في أصول الكافي للكليني كتاب الحجة باب الفي‌ء والأنفال حديث رقم (٤) وفي كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي كتاب الجهاد باب كيفية قسمة الغنائم حديث رقم (٢)


اختصاص ارتفاعها بهم لكونه يصرف في مصالحهم ـ كما في المستند ـ تبعا للمحكي عن بعض فيه ـ ولعله ظاهر (الكفاية) ـ أيضا ـ بدعوى منع ظهور اللام والإضافة في الملكية ، لصدق الإضافة بأدنى الملابسة ، وكون الاختصاص أحد معاني اللام ، مضافا الى أن الملكية لا يمكن أن تكون لغير المعين ، لأنها من الصفات اللازم قيامها بالذات المفقودة في الكلي قبل تشخصه في الخارج ، ولذا يحمل (١) عليها في باب الدعاوي والأقارير والمجاز خير من الاشتراك ، أو المنصرف إليها عند الإطلاق ، بناء على انها حقيقة في مطلق الاختصاص الذي هو القدر المشترك بين جهاته : من الملكية أو الاستحقاق أو الاختصاص الخاص ، لأنها المنسبق الى الذهن من سائر

__________________

(١) هذا من كلام المصنف ـ قدس سره ـ لبيان أن اللام في قوله ـ عليه السلام ـ في صحيحة الحلبي هو لجميع المسلمين ، وان الإضافة في قوله ـ عليه السلام ـ في صحيحة صفوان وهي أرض المسلمين ، وما كان من قبيلهما من الروايات ظاهرهما كون ذلك لهم على جهة الملكية لا على وجه الاختصاص من حيث اختصاص ارتفاعها بهم ـ كما في المستند وظاهر الكفاية ـ فإنه لو لا الظهور في الملك لما حملنا عليه في الدعاوي والأقارير على ما هو المتسالم عليه. ودعوى صدق الإضافة بأدنى الملابسة وكون الاختصاص أحد معاني اللام لا ينافي ظهورهما في الملكية لإمكان كون ذلك على وجه المجاز فإنه خير من الاشتراك ، ولو قلنا بان اللام حقيقة في مطلق الاختصاص الذي هو القدر المشترك بين الملكية والاستحقاق والاختصاص الخاص ، فلا ينبغي الريب في ان المنسبق الى الذهن والمنصرف اليه من الجهات هو المكية ومقتضاه الحمل عليها عند الإطلاق ، وكفاية أدنى الملابسة في صدق الإضافة غاية مقتضاها إمكان إرادة الأدنى منها لا إيجاب الحمل عليها ، وعلى كل فاللام والإضافة ظاهران في الملكية سواء كان المنشأ هو الوضع أو الإطلاق والانصراف هذا حاصل مراد سيدنا ـ قدس سره ـ وان كان في العبارة نحو من الغموض.


الجهات وكفاية أدنى الملابسة في الصدق ، غايته أنها مسوغة لإرادة الأدنى منها ، لا أنه موجب للحمل عليها.

وأما الحكم بعدم إمكان كون الملك لغير المعين ، ففيه : أنه إن أريد منه عدم إمكان كون الملك للمالك الكلي ، وأن المالك لا بد أن يكون شخصا خارجيا ، ففيه عدم الفرق في الملكية التي هي عبارة عن العلقة الخاصة الحاصلة بين المالك والمملوك بين طرفيها ، فكما يصح أن يكون المملوك كليا كالكليات الثابتة في الذمة ، صح أن يكون المالك كليا ـ أيضا ـ كالخمس والزكاة بعد التعيين وقبل القبض للفقراء والهاشميين والأعيان الموقوفة على العناوين العامة ، كالعلماء والمشتغلين ، بناء على أن الوقف ـ مطلقا ـ ملك للموقوف عليه.

والفرق بدعوى صحة كون المملوك كليا باعتبار أوله ، وإمكان تشخصه في الخارج الموجود ذلك الكلي فيه ومنطبق عليه ، فهو متمول بهذا الاعتبار يصح تعلق الملكية به.

فبعينه يقال في صحة كون المالك كليا ، حرفا بحرف.

وبالجملة ، فالملكية : إما أن تكون بين جزئيين شخصيين ، أو كليين أو يكون أحدهما جزئيا والآخر كليا ، فالصور أربع.

أما الأولى ـ فكملكية زيد ـ مثلا ـ للعين الشخصية الخارجية.

وأما الثانية ـ فكملكية مقدار من الخمس أو الزكاة الثابتين في ذمة المتلف لهما لكلي الفقراء والهاشميين ، ومنه يتضح المثال في الصورتين الأخيرتين ـ فتأمل (١)

وإن أريد منه لزوم التعيين المقداري ، ففيه ـ مع إمكان منع كونه معتبرا في أصل الملكية وتحققها ، وإن اعتبرناه في صحة المعاملة ، لتعذر

__________________

(١) وجه التأمل هو إمكان دعوى كون العناوين العامة كالهاشميين أو الفقراء وغيرهما مصرفا لذلك لا مالكا له (منه رحمه الله).


القبض والتسليم مع جهالة المقدار ، فغايته اعتبار تعيينه في الواقع ونفس الأمر ، وإن لم يكن معلوما في الظاهر ، وهو متعين في علم الله بالنسبة إلى المسلمين المالكين لتلك الأراضي. فإذا : الأقوى إنها لهم على جهة الملكية للرقبة دون الاختصاص ، لكن هل هي لهم بمعنى أنه لكافة أحادهم على سبيل الاستغراق الأفرادي كما يعطيه ظاهر النسبة الى جميع المسلمين ، أو لكافتهم أو قاطبتهم في الصحيحة الأولى ومعقد بعض الإجماعات المحكية ، أو هي لهم على الجنسية والنوعية الكليين كالأمثلة المتقدمة من الخمس والزكاة ـ وجهان ـ

ويتبع ملكية الرقبة ملكية ارتفاعها ، ففي تعيين صرفها لخصوص المصالح العامة المستوية فيها آحاد المسلمين ، أو هو لمطلق المصالح الراجعة لنوعهم ، وإن اختصت المصلحة ببعضهم دون بعض : وجهان ، مبنيان ـ كما عرفت ـ على كيفية الملكية للرقبة ، فإن قلنا بكونها لآحاد المسلمين كافة ـ كان نماؤها التابع لها في الملكية لآحادهم ـ أيضا ـ وحيث يتعذر التوزيع والقسمة بين الكل تعين الصرف في المصلحة الراجعة إلى الكل كمعونة الغزاة ومؤنة الولاة والقضاة ومطلق ما يرجع الى تقوية الدين ومصالح كافة المسلمين ، كبناء المساجد والقناطر ، فان الحقية ثابتة لكل واحد منهم وان لم يتفق له فعلية الانتفاع ، ضرورة أنه لا معنى لكون الرقبة ملكا لكل واحد منهم ، ويختص بنمائها البعض ، وان قلنا بملكيتها لكلي المسلمين ونوعهم جاز دفع نمائها للبعض الصادق عليه النوع والكلي ، بل أمكن أن يقال بجواز دفع عين الرقبة ـ كلا أو بعضا ـ له ، لصدق النوع عليه ، فتكون من دفع المملوك الى مالكه ، إلا أن يقال بظهور الأخبار وكلمات الأصحاب على الملكية المؤبدة لهم وصرف ارتفاعها عليهم كالأعيان الموقوفة لغرض تأبيد العين وتسبيل المنفعة. لم أر في كلماتهم تنقيحا لذلك.

وظاهر بعض الأخبار ومعقد الإجماعات ، وان اقتضت ملكية الرقبة


لآحادهم الموجبة لاختصاص صرف نمائها في المصالح العامة ـ إلا أنها معارضة بما دل على حلية أخذ جوائز السلطان الشامل بإطلاقه لما كان المأخوذ من الخراج والمقاسمة ، من غير تقييد بكونها من غيرهما ، بل في بعضه ما هو نص في ذلك ، ويأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة توضيح لذلك.

مع عدم حلية ذلك لو كان المصرف خصوص المصالح العامة ، إذ لا يجوز صرف حق في غير مصرفه ، فيصلح لأن يكون قرينة لصرف تلك الظواهر وحملها على إرادة نوع المسلمين دون آحادهم ، والجمع والتأكيد إنما هو لتعميم النوع وإفادة عدم الاختصاص ببعض منهم دون بعض وطائفة دون أخرى.

وبالجملة ، فحلية ما يؤخذ منهما بنحو الهبات والصلات ـ كما عليه بعض الإجماعات ـ تكشف عن عدم اختصاص صرفهما في المصالح العامة ، وهي انما تتم على ملكية النوع ، دون الآحاد.

هذا ، ولكن كلمات الأصحاب ، وكذا الأخبار الواردة في بيان المصرف كلها مصرحة باختصاصه في المصالح العامة.

اللهم إلا أن يقال : بذل الجوائز والعطايا لكونها من لوازم الرئاسة التي هي من المصالح العامة ، يعد منها أيضا ـ فهي محسوبة من مؤنة القائم بها.

بقي هنا أمور :

الأول ـ إن هذه الأراضي ، هل يتعلق بها الخمس ، فيكون الباقي بعد إخراج الخمس منها ـ وهو الأربعة أخماس ـ ملكا للمسلمين ، أو الكل لهم بخمسة أخماسها؟ قولان :

المشهور هو الأول ، بل في (المبسوط) (١) : إنه يقتضيه المذهب». بل هو مندرج في معقد إجماع (المدارك) و (الذخيرة) بل في (الحدائق) :

__________________

(١) راجع : كتاب الجهاد ، فصل في ذكر مكة هل فتحت عنوة أو صلحا.


«إنه ظاهر كلام الأصحاب» وفي (الجواهر) ـ بعد نسبته الى ظاهرهم : «كأنه من المسلمات عندهم» وحكي عن بعض : التصريح بالثاني ، بل في (الحدائق) : (إن اختصاص الخمس بالمنقول من الغنائم هو ظاهر الأخبار) : بل فيه : «إنه لم يعرف دليلا ولا وقف على مستند يوجب الخمس في ذلك إلا ظاهر الآية».

قلت : الكلام في هذه المسألة ـ مرة ـ من حيث أخبارها ، وأخرى من حيث كلمات الأصحاب فيها.

أما الكلام في الأولى : فهنا طوائف من الأخبار : واحدة منها ـ دلت على وجود الخمس في هذه الأراضي بالعموم أو الإطلاق.

وأخرى ـ على عدمه ـ كذلك ـ وكونها للمسلمين.

وثالثة ـ ما دل على أن الأرض كلها للإمام ـ عليه السلام.

فمن الأولى ـ رواية أبي حمزة : «إن الله جعل لنا ـ أهل البيت ـ سهاما ثلاثة في جميع الفي‌ء ـ الى أن قال ـ : وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا ، والله ، يا أبا حمزة ، ما من أرض تفتح ، ولا خمس بخمس فيضرب على شي‌ء منه إلا كان حراما على من يصيبه ، فرجا كان أو مالا» (١).

وحسنة معاوية بن وهب ، وفيها : «السرية يبعثها الامام فيصيبون غنائم ، كيف يقسمون؟ قال : إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الامام

__________________

(١) وسند الحديث ـ كما عن الوسائل للحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال ، باب إباحة حصة الإمام من الخمس للشيعة حديث رقم (١٩) ـ هكذا : وعن علي بن محمد ، عن علي بن العباس ، عن الحسن بن عبد الرحمن عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام ـ في حديث ـ قال : ان الله جعل ..


عليه السلام ـ أخرج منه الخمس لله وللرسول ، وقسم بينهم أربعة أخماس وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلما غنموا للإمام (ع) يجعله حيث أحب» (١).

ورواية أبي بصير : «كل شي‌ء قوتلوا عليه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، فان لنا خمسه» (٢).

ومن الثانية ـ : ما تقدم مما دل على كونها للمسلمين ، ومعارضتها للأولى من تعارض العام والخاص المطلق ، الموجب لحمل العام على الخاص أو المطلق على المقيد ، لأن تلك الأخبار التي هي من الطائفة الأولى كعموم الآية الدالة على وجوب الخمس ، شاملة ـ بعمومها أو إطلاقها للأراضي وغيرها من منقول الغنائم ، وهذه الأخبار التي هي من الطائفة الثانية الدالة كونها للمسلمين مختصة بخصوص الأراضي ، وما لا يحول وينقل ـ وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى جميعها أو الباقية بعد إخراج الخمس منها ـ إلا أنها ـ بإطلاقها أخص من الأولى ، والخاص المطلق ، وان كان بالنسبة الى ما هو مندرج فيه ـ مطلقا أو عاما ـ مقدم على العام المطلق الشامل له ولغيره ومع وجود المرجحات الداخلية ـ من العموم والخصوص المطلقين ـ لا يرجع الى المرجحات الخارجية من موافقة الكتاب ومخالفة الجمهور.

__________________

(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام حديث رقم (٣) وسند الرواية هكذا : وعنه عن أبيه عن ابن محبوب عن معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله (ع) ..

(٢) تمام الرواية وسندها ـ كما عن الوسائل للحر العاملي : كتاب الخمس أبواب الأنفال باب وجوب إيصال حصة الإمام حديث رقم (٩) ـ هكذا محمد ابن محمد في (المقنعة) عن أبي بصير عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : «كل شي‌ء قوتل عليه ..».


فمن الغريب : ما وقع من (النراقي) في (مستنده) حيث جعل التعارض بينهما من العامين من وجه ، فقال ـ بعد أن أورد تلك الأخبار العامة ـ ما لفظه ـ : «وهي ، وان كانت معارضة مع عمومات الأخبار المصرحة بأنها لجميع المسلمين بالعموم من وجه إلا أن الترجيح لأخبار الخمس لموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة (١).

ومنه يظهر ـ أيضا ـ : ضعف ما ذكره في (الجواهر) من قوله : «كما أن تلك الأخبار الواردة في المفتوحة عنوة ، وأنها ملك المسلمين وكيفية إخراجها ، لا يأبى التقييد بما هنا : من كون ذلك بعد الخمس فان الخاص المطلق يأبى تقييده بالعام كذلك ، وان كان مطلقا بالنسبة إلى ما هو مندرج تحته».

هذا ، مضافا الى ما يمكن أن يقال : إن الحسنة المتقدمة ظاهرة في المنقول من الغنائم بقرينة تقسيم الباقي بعد الخمس الى خصوص المقاتلين.

نعم ، ذيل رواية أبي حمزة ، وان صرح بالأرض المفتوحة ، إلا أنها بقرينة قوله ـ بعده ـ «أو خمس يخمس» ظاهرة في إرادة الأنفال منها ، التي كلها للإمام ، لظهور المقابلة لما فيه الخمس في ذلك.

ومع فرض التسليم ، فهي ـ أيضا ـ لشمولها عامر المفتوحة ومواتها ورؤوس الجبال وبطون الأودية ـ أعم مطلقا مما دل على أن المفتوحة للمسلمين ، بعد معلومية تقييدها بالإجماع وغيره ـ بالمحياة عند الفتح منها فلا مناص عن كون التعارض بين الطائفتين من العموم والخصوص المطلق.

وأما الطائفة الثالثة التي تأتي أخبارها (٢) ، فلا دلالة فيها على وجود الخمس في هذه الأراضي ، بل هي دالة على كونها للإمام ـ عليه السلام ـ

__________________

(١) راجع : كتاب المكاسب منه : المسألة التاسعة فرع (ج).

(٢) بعد قليل بعنوان (المقالة الرابعة في أرض الأنفال).


فهي من الأنفال ، فتكون معارضة لأخبار كونها للمسلمين ، حتى في القدر المسلم كونها لهم.

هذا ، مع أنه أعم منها ـ مطلقا ـ لشمولها لجميع الأراضي ، فيكون التعارض بينهما من تعارض العام والخاص المطلق أيضا ، المنتج ـ بعد الحمل ـ كون الأراضي كلها للإمام ـ عليه السلام ـ إلا المفتوحة ـ عنوة ـ فإنها للمسلمين.

وأما الكلام في الحيثية الثانية ـ فقد عرفت كلمات الأصحاب فيها ، وأن ثبوت الخمس في هذه الأراضي منسوب ـ في كلام جماعة ـ إلى ظاهر الأصحاب ، بل صرح غير واحد ـ ومنهم خالي المجاهد في (المناهل) (١) بظهور دعوى الاتفاق عليه وعدم الخلاف فيه.

مضافا الى ما عرفت : من أنه مقتضى المذهب في (المبسوط) وانه من الضروريات والمسلمات في (الجواهر) ، ولعل منشأ ذلك ظاهر إطلاق كلام الأصحاب في كتاب الخمس بوجوبه في الغنائم الشامل للمنقول منها وغير المنقول ، وإلا فالمصرح به بالخصوص ليس الا البعض منهم ، وان نسب الى المعظم ، نعم في (المدارك) ـ في شرح قول مصنفه في تعداد ما يجب فيه الخمس : الأول ـ غنائم دار الحرب مما حواه العسكر وما لم يحوه من أرض وغيرها ما لم يكن غصبا من مسلم أو معاهد ـ قليلا كان أو كثيرا ـ قال : «هذا الحكم مجمع عليه بين المسلمين» (٢) ، ومثله وقع من (الذخيرة) ـ في شرح قول مصنفه ـ أيضا ـ مع إطلاق معاقد الإجماعات المحكية فوق الاستفاضة على ثبوت الخمس في الغنائم الشامل لها ـ أيضا ـ

__________________

(١) صاحب (المناهل في الفقه) هو السيد محمد المجاهد ابن السيد مير علي الطباطبائي صاحب (الرياض). ووجه تسميته بالخال : حيث أن والدة سيدنا المصنف بنت صاحب الرياض ، فصاحب المناهل خاله بالذات.

(٢) راجع : أول كتاب الخمس من (مدارك الأحكام) للسيد محمد العاملي


هذا ، ويختلج بالبال ويخطر في الخيال ، دعوى المناقشة في ذلك كله :

أما ظهور إطلاق كلامهم في الغنائم في كتاب الخمس ، فمعارض بظهور إطلاق كلامهم في حكم المفتوحة عنوة : أنها للمسلمين من غير تقييد بإخراج الخمس منها.

وأما إجماع (المدارك) و (الذخيرة) ، ففيه : إنه ان كان المشار اليه ثبوت الخمس في كلي الغنائم ، فمسلم كونه مجمعا عليه بين المسلمين لكن لا يجدي في خصوص الأراضي إلا بنحو العموم والإطلاق ، وهو مخصص كإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة على ثبوت الخمس في الغنائم بما دل على عدمه في الأراضي المذكورة. وان كان ثبوته في كل ما اندرج في عبارة المصنف ، فممنوع مسلميته بين المسلمين ، كيف ، وقد تقدم من (المستند) ترجيح أخبار الخمس بموافقة الكتاب ومخالفة العامة. فلعل نسبتهما له الى عموم المسلمين ظاهرة في إرادة المعنى الأول.

وأما إطلاق معاقد الإجماعات المحكية على ثبوت الخمس في الغنائم فهي ـ كما عرفت ـ مخصصة كعمومات الكتاب والسنة بما يعارضها من الأخبار الخاصة الواردة في المفتوحة عنوة بأنها للمسلمين.

فلم يبق في المقام لثبوت الخمس إلا الشهرة التي لا تنهض لإثبات الحكم بها على تقدير تحققها.

لكن ـ مع ذلك ـ الأقوى ثبوت الخمس فيها ـ أيضا ـ كغيرها من منقول الغنائم ، لظهور الاتفاق من إطلاق كلامهم في كتاب الخمس المتكفل لبيان ما يجب فيه الخمس بثبوته في غنائم دار الحرب ، من غير تقييد لها بالمنقول منها ، مع كونه مقام بيان التخصيص ، لو كان الثبوت مختصا ببعضها.

وهذا بخلاف إطلاقات كلامهم في حكم الأراضي المفتوحة عنوة في


كتاب الجهاد ـ فإنها مسوقة لبيان عدم اختصاصها كالمنقول منها بالمقاتلين وكونها لكافة المسلمين ، واكتفاء منهم في بيان تعلق الخمس بها بما بينوه في محله ـ من كتاب الخمس ـ لأنه المقرر لتعيين ما يجب فيه الخمس ، دون كتاب الجهاد ، وإحياء الموات.

ومثله الكلام في إطلاق الأخبار المتقدمة الواردة في حكم الأراضي المزبورة وكونها للمسلمين وفيئا لهم ، دفعا لما يتوهم من كونها مختصة بالمقاتلين منهم. فلا معارضة بينها وبين عمومات الكتاب والنصوص بعد أن كان موردها بحسب السياق مختصا بغير الخمس منها ، فتبقى العمومات والإطلاقات من الكتاب والسنة والإجماعات سليمة عن المعارض كافية وافية في إفادة المطلوب من ثبوت الخمس فيها ، مؤيدة بالشهرة العظيمة وتصريح الأساطين بذلك ، بل لم نعثر على من صرح بالعدم عدى (الحدائق) ، وان نسب الى بعض ـ وبأخبار حل الشيعة ما هو لهم مما في أيديهم مما يأخذونه من السلطان ، بقرينة كون المأخوذ ـ غالبا ـ من الخراج والمقاسمة ، من غير فرق في الحلية بين حصته وحصة قبيلته ، ولا استبعاد في إباحتهم لحصة قبيلتهم من الأسهم الثلاثة الآخر بعد أن كان زيادتهم له ونقصهم عليه.

الأمر الثاني : على ما هو الأقوى من ملك الرقبة وتعلق الخمس بها فهل يتعين إخراجه من العين ـ كما عن ظاهر المبسوط والسرائر ـ أو من حاصلاتها ـ كما عن ظاهر التحرير ـ أو التخيير بينهما ـ كما عن صريح الشرائع والقواعد ـ احتمالات ، بل لعلها أقوال ، أقواها الأخير. ولعل الأولين يرجعان اليه.

وعلى تقدير الافراز من العين ـ كلا أو بعضا أو قطعة قطعة ـ فلا بد من التعديل ـ أولا ـ ثم القسمة بعده على حد القسمة في المشتركات.


الأمر الثالث ما يأخذه السلطان من طرف أجرة الأرض باسم الخراج أو المقاسمة ، إنما يأخذه بدلا عن مجموع الأرض ، لا عن غير الخمس منها ، فالخمس في الخراج وداخل في القبالة ، لا في حصة المتقبل التي هي عوض عمله ، ولا موزع عليهما.

فلا يتوهم اختصاص صحة التقبيل من السلطان وبراءة ذمة المتقبل بدفع القبالة إليه بغير الخمس من الأربعة أخماس ، اقتصارا على القدر المتيقن مما أمضاه الشارع بالنسبة الى ما كان راجعا الى المسلمين ـ كافة ـ فيبقى الخمس مندرجا تحت الأصل وما تقتضيه القواعد العامة ، لإطلاق ما دل على الخراج والمقاسمة المفروض كونهما بدلا وقبالة عن مجموع الأرض ، لا خصوص غير الخمس منها.

الأمر الرابع الأقوى ثبوت الخمس في الخراج ـ مطلقا في زماني الحضور والغيبة ـ وان قلنا بتعميم أخبار التحليل والإباحة منهم لشيعتهم لها ، لا مختصا بما كان مختصا بهم من أراضي الأنفال ، ونحوها ، لأن مفادها ـ ظاهرا ـ على تقدير القول به ـ هو حلية الأخذ وإباحة التناول مما فيه الخمس من الخراج ، لا سقوطه من أصله ، كإباحتهم للخمس في المتاجر بالنسبة الى ما يؤخذ منها مما فيه الخمس ، لا سقوط الخمس من أرباح التجارات.

خلافا لظاهر المحكي في (الكفاية) عن بعض (حواشي القواعد): من التفصيل بين زماني الحضور والغيبة ، حيث قال المحشي ـ في شرح قوله (يخرج منه الخمس) ـ : «هذا في حال ظهور الامام وأما في حال الغيبة ففي الأخبار ما يدل على أنه لا خمس فيه» انتهى.

ولعل نظره في ذلك الى أخبار التحليل والإباحة.

وفيه ـ مع ما عرفت : من مفاد تلك الأخبار على تقدير شمولها


للأراضي الخراجية ـ : أنه لا ملازمة بين الإباحة والسقوط من أصله ، بل هي على عدمه أدل.

وتظهر الثمرة بينهما في جواز السرقة منه بمقداره ، وعدمه ، بناء على القول بوجوب دفع الخراج الى السلطان ـ مطلقا ـ أو مع مطالبته ، وجواز التملك لرقبتها احتسابا من الخمس بمقداره ، فيختص بتملكه المحتسب له وإباحة التصرف فيها يخص الامام من سهمه منه للشيعة ـ مطلقا ـ بناء على تحليل الشيعة لما يخصهم من الأراضي كذلك.

مضافا إلى أن الإباحة والاذن العام منهم وقع ممتدا من زمان حضورهم الى زمان الظهور ـ عجل الله فرجه ـ فلا معنى ـ حينئذ ـ للتفصيل بين الحضور والغيبة.

الأمر الخامس ما دل على كون الأراضي كلها للإمام عليه السلام بالإطلاق أو العموم ، كخبر عمر بن يزيد : قال رأيت مسمعا بالمدينة ـ وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (ع) مالا ، فرده عليه ، فقلت : لم رده عليك؟ فقال : «إني قلت ـ حين حملت اليه المال ـ : إني وليت البحرين الغوص ، فأصبت أربعمائة ألف درهم ، وقد جئتك بخمسها ثمانين الف درهم وكرهت ، أن أحبسها عنك ، وأعرض لها ـ وهي حقك الذي جعله الله لك في أموالنا ـ فقال : أوما لنا من الأرض ، وما أخرج الله عنها إلا الخمس؟ إن الأرض كلها لنا ، فما أخرج الله منها من شي‌ء فهو لنا ، فقلت : وأنا أحمل إليك المال كله ، فقال : يا أبا سيار ، قد طيبناه لك وأحللناك منه ، فضم إليك مالك ، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون يحل ذلك لهم حتى يقوم قائمنا ، فيجيبهم طسق (١) ما كان

__________________

(١) الطسق ـ بالفتح ـ : مكيال ، أو ما يوضع من الخراج على الجربان ، أو شبه ضريبة معلومة وكأنه مولد أو معرب (القاموس للفيروزآبادي).


في أيديهم ، ويترك الأرض في أيديهم ، وأما ما كان في أيدي غيرهم ، فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا ، فيأخذ الأرض من أيديهم ..» الحديث (١).

يجب تقييدها ، أو تخصيصها بتلك الأخبار المتقدمة الدالة على كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين ، لكون المعارضة بينهما من تعارض العام والخاص المطلق.

نعم ، يمكن أن يقال ـ بل قيل ـ : بكونها للإمام عليه السلام أيضا ـ : بوجه آخر ، وهو أنه يشترط في كون المنقول من الغنيمة بعد إخراج الخمس للمقاتلين ، وغير المنقول منها كذلك للمسلمين : أن يكون الاغتنام بإذن الإمام (ع) وإلا فالكل له مختص به وهو من الأنفال.

وعليه ، فما وقع من الفتوحات الإسلامية بعد زمن النبي (ص) مما لم يكن الامام فيه مبسوط اليد يقتضي أن يكون كله للإمام عليه السلام سيما وكون الاذن ـ حيث شك فيه ـ كان مقتضى الأصل عدمه.

قال الشيخ ـ رحمه الله ـ في (المبسوط) ـ بعد ذكر حكم هذه الأراضي من كونها بعد إخراج الخمس منها للمسلمين وغير ذلك ـ ما لفظه : «وعلى الرواية التي رواها أصحابنا : إن كل فرقة غزت بغير الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام (ع) خاصة ، وتكون من جملة الأنفال التي لا يشاركه فيها غيره (٢)» انتهى.

__________________

(١) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الخمس ، باب إباحة حصة الإمام من الخمس للشيعة ، حديث رقم (١٢) ، باختلاف بسيط في أوائل الحديث وذكره النراقي باقتضاب في (مستنده ج ٢) آخر كتاب الخمس.

(٢) راجع منه : كتاب الجهاد ، فصل في ذكر مكة هل فتحت عنوة أو صلحا ..


وإن سار الامام عليه السلام فيها بالخراج أيام خلافته الظاهرة بسيرة من تقدم عليه من الخلفاء الثلاثة ، لعدم تمكنه من التغيير والتبديل ، سيما في مثل هذا الحكم ، بدعواه اختصاص ارتفاع هذه الأراضي بنفسه دون غيره من المسلمين.

ويناسبه أخبار تحليل الخراج لشيعتهم (١) ، المشعر بكونه مختصا بهم من غير حاجة إلى تكلف التوجيه لإباحة حصة قبيلتهم ، فتكون هذه الأراضي بحكم المفتوحة عنوة ، كما حكاه النراقي في (مستنده) ـ بعد أن اختاره عن بعض ، بل عن صريح الأكثر ـ (٢).

لكن ـ مع ذلك ـ الأقوى كونها من المفتوحة عنوة ، موضوعا لا حكما ـ لأن الظاهر تحقق الأذن منهم ، ويكشف عنه إخبارهم لها بكونها للمسلمين في تلك الأخبار المتقدمة ـ بعد تقييدها بما دل على اعتبار

__________________

(١) كخبر عمر بن يزيد المتقدم ـ آنفا ـ وبهذا المضمون أخبار كثرة ـ في تحليل ما كان لهم عليهم السلام ـ فهو لشيعتهم. راجع عنها : كتاب الخمس من (مستند الشيعة للنراقي ج ٢) المقصد الثالث في قسمة الخمس ، المسألة الثالثة.

(٢) مراده : ان أخبار تحليل الأئمة عليهم السلام الخراج لشيعتهم المشعر بكون الخراج من مختصاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم ، تناسب ما ذكرناه من اشتراط كون الاغتنام بإذن الإمام في كون الغنيمة في المنقول بعد إخراج الخمس للمقاتلين وفي غير المنقول منها بعد إخراجه للمسلمين ، واما في صورة عدم الاذن منه عليه السلام فالكل له وهو من الأنفال. وعليه فلا حاجة الى تكلف توجيه تحليل الأئمة عليهم السلام حصة قبيلتهم من الأسهم الثلاثة التي هي للهاشميين وهو نصف الخمس بان زيادتهم للإمام عليه السلام ونقصهم عليه وان لم يكن فيه استبعاد ، ولكن ما ذكرناه من كون ذلك من الأنفال المختص بهم عليهم السلام أقرب.


الاذن في ذلك نصا وفتوى ـ كما يأتي.

واختصاص بعضها ـ سؤالا وجوابا ـ بأرض السواد لا يضر مع تعميم الباقي لمطلق أرض الخراج ، سيما مع ورود نحو صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال : «سألته عن سيرة الإمام (ع) في الأرض التي فتحت بعد رسول الله (ص) ، فقال : إن أمير المؤمنين (ع) قد سار في أهل العراق بسيرة ، فهي إمام لسائر الأرضين ..» الخير (١) الدالة على تبعيتها لها في الحكم.

مضافا إلى ما عن (الخصال) ـ في الأبواب السبعة ـ مسندا الى جابر الجعفي عن أبي جعفر (ع) : أنه «أتى يهودي أمير المؤمنين (ع) في منصرفة عن وقعة (النهروان) فسأله عن تلك المواطن ـ وفيه قوله ـ : وأما الرابعة ـ يعني من المواطن الممتحن فيها بعد النبي (ص) ـ فإن القائم بعد صاحبه ـ يعني : عمر ـ كان يشاورني في موارد الأمور ، فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها ، فيمضيها عن رأيي ، لا يعلمه أحد ولا يعلمه أصحابي ، ولا يناظرني غيره ..» الخير (٢).

ومن المعلوم : أن جهاد الكفار وقتالهم من أعظم الأمور وأغمض الغوامض.

بل استفاض النقل في مشاورتهم لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في

__________________

(١) راجع : مكاسب الشيخ الأنصاري ، في آن الأراضي المفتوحة بعد النبي بإذن الإمام لعامة المسلمين. ومنتهى العلامة : كتاب الجهاد آخر أحكام المساجد والابنية والمساكن.

(٢) راجع : خصال الصدوق ـ في الأبواب السبعة ـ : ج ٢ ص ٢١ طبع مطبعة الشفيعي إيران سنة ١٣٧٤ ه‍.


عظائم الأمور ، ولا يعدون رأيه ، سيما في الحروب (١).

مؤيدا بما اشتهر من وجود أبي محمد الحسن بن علي (ع) في العسكر وإن كنت لم أتحققه (٢).

ودخول أصحاب أمير المؤمنين (ع) في أعمالهم كعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي وغيرهما (٣).

هذا ، وذكر شيخنا (المرتضى) في (مكاسبه) وجوها ثلاثة لإثبات الإذن منهم ـ عليهم السلام ـ زيادة على ما ذكرنا :

الأول ـ ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ذلك أنه يمكن الاكتفاء عن اذن الامام المنصوص في مرسلة الوراق ـ بالعلم بشاهد الحال برضاء أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وسائر الأئمة بالفتوحات الإسلامية الموجبة لتأييد هذا الدين ، وقد ورد : أن الله ـ تعالى ـ يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم منه» انتهى (٤).

ولعل نظره إلى الاكتفاء بالرضا القلبي المستكشف ـ مرة ـ بالاذن ، وأخرى ـ بشاهد الحال. ولا خصوصية للإذن في مقام الكشف ، وان

__________________

(١) راجع ـ في تفصيل هذا الموضوع ـ كتاب علي مع الخلفاء للشيخ المحقق الثبت نجم الدين العسكري فقد أحصى فيه مواضع رجوع الخلفاء والصحابة الى أمير المؤمنين عليه السلام.

(٢) لم نجد ـ رغم تتبعنا حسب الإمكان ـ مصدرا تأريخيا صحيحا يذكر ذلك.

(٣) فعمار بن ياسر استعمله عمر بن الخطاب على الكوفة بعد فتح العراق ، وسلمان الفارسي استعمله على المدائن وابن مسعود قاضيا وأمينا للمال بعد فتح العراق وغنمها من الفرس.

(٤) مكاسب الشيخ الأنصاري : في حكم الأراضي المفتوحة بعد النبي بإذن الإمام.


وقع التعبير به للغلبة ، فالعبرة بالمنكشف دون الكاشف.

وفيه : إن الاستكشاف بشاهد الحال : إن كان عند الاقدام على الجهاد ، فممنوع إحرازه به ، لعدم معلومية تعقب الفتح والغلبة الموجب للقوة ، وإن كان بعد تحقق الفتح المستلزم للرضا القلبي ، فمع أن الرضا المتأخر لا يجدي بالنسبة إلى ما كان هو شرطا فيه عند الاقدام عليه ، لا يبقى مورد لاعتباره في قسمة الغنائم ، إذ الفتح ـ حينئذ ـ لا ينفك عن الاذن ، ومع عدمه لا غنيمة حتى تكون من الأنفال ، ولو فرض مورد لذلك فهو من النادر الذي يأبى حمل اخبار اعتبار هذا الشرط وكلمات الأصحاب عليه.

لا يقال : إن تقوية الدين مرضية عند الامام ـ عليه السلام ـ وهي موقوفة على الجهاد والاقدام على القتال ، وما يتوقف عليه الفعل المرضي مرضي ، فالجهاد مرضي.

لأن المتوقف عليه كلي الجهاد ، دون الوقائع الشخصية المعتبر فيها الاذن : ولو سلم ، ففيه ما عرفت من عدم بقاء مورد لاعتبار هذا الشرط لأنها ـ حينئذ ـ تكون من القضية الدائمة لا ينفك الرضا عنه.

الثاني ما ذكره مما يرجع ملخصه الى التمسك بأصالة الصحة في الغزو الصادر من الغزاة ، أي حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح ، حيث قال : «مع أنه يمكن أن يقال بحمل الصادر من الغزاة من فتح البلاد على الوجه الصحيح ، وهو كونه بأمر الإمام ـ عليه السلام ـ» (١).

وفيه : أنه لا وجه للحمل على الصحة في نحو هذه الأفعال المبتنية على أساس يأبى الحمل عليها ، كيف ، وهم لا يرون لهذا الفعل من حيثية اعتبار الإذن وعدمه ، اتصافا بالصحة والفساد ، حتى يتجنبوا الفرد

__________________

(١) المصدر نفسه بعد تلك الجملة.


الفاسد منها ، فافهم.

الثالث ـ ما ذكره بقوله : «مع أنه يمكن أن يقال : إن عموم ما دل من الأخبار الكثيرة على تقييد الأرض المعدودة من الأنفال بكونها مما لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وعلى أن ما أخذت بالسيف من الأرضين بصرف حاصلها في مصالح المسلمين ، معارض بالعموم من وجه لمرسلة الوراق ، فيرجع الى عموم قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) .. الآية ، فيكون الباقي للمسلمين إذ ليس لمن قاتل شي‌ء من الأرضين نصا وإجماعا» انتهى (١).

وملخص كلامه وخلاصة مرامه : كون المعارضة بين المرسلة وبين الأخبار من تعارض العامين من وجه ، لكون المرسلة موردها مطلق الغنيمة الشاملة للأراضي وغيرها ، وتلك الأخبار ، وإن اختصت بالأراضي إلا أنها مطلقة من حيث اعتبار الاذن ، وعدمه.

وبعد التعارض فليرجع إلى عموم الآية ، الدالة على كون الخمس منها للإمام ، وحينئذ ، فالباقي من الأراضي إما أن يكون لخصوص المقاتلة ـ ولا قائل به ـ فتعين كونه للمسلمين.

وفيه : إن المدعى هو وقوع الفتح عن إذنهم ، كما هو صريح كلامه قبل تعداد الوجوه التي أقامها عليه ، وهو لا يثبت بما ذكره من الوجه الأخير لأن الثابت به ـ على تقدير تماميته ـ هو كونها للمسلمين ، وهو أعم من تحقق الاذن المعتبر ، أو عدم اعتباره من أصله ، والعام لا يدل على خصوص الخاص وإن فرض إعراضه عن الدعوى المزبورة ورجوعه إلى أصل المسألة من اعتبار الاذن وعدمه ، فنمنع الرجوع إلى عموم الآية بمجرد معارضة الأخبار بالعموم من وجه ، للمرسلة المنجبرة المرجحة بالمرجحات الكثيرة الموجبة لتقييد غيرها من عمومات الأخبار ، بل وعموم

__________________

(١) المصدر نفسه بعد تلك الجملة.


الآية بها ـ كما ستقف عليه ـ ان شاء الله ـ عند تعرضنا له في الأنفال.

الأمر السادس ما يفتح من الأراضي عنوة في زمان الغيبة بالجهاد دفاعا إذا استلزم ذلك كان ـ أيضا ـ للمسلمين ، لأنه من الاغتنام مع إذن الامام (ع) بالاذن العام ، لوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام ، وأما الجهاد ـ لا عن دفاع ـ ففي كونها للمسلمين كافة أو للإمام (ع) خاصة وجهان مبنيان على اعتبار الاذن وعدمه ، إذ لم يعلم الاذن منهم في الغيبية على الجهاد الابتدائي إلا بدعوى العلم بشاهد الحال وقد عرفت ما فيه.

الأمر السابع ـ : لا تخرج الأراضي عن كونها خراجية بتغلب الكفار عليها ، فلو عادت الى المسلمين ـ ثانيا ـ ضرب عليها الخراج ، وان كان العود عليهم لا بالغلبة منهم ، بل بالانجلاء عنها ونحوه ، لدخولها في ملكهم ـ أولا ـ بالفتح عنوة وعدم وجود ما يوجب خروجها عنه ، وان هي إلا كالأعيان المغصوبة عندهم ، فهي باقية على حكمها الأولي من كونها للمسلمين وإن كانت تحت يد الكفار.

الأمر الثامن ـ : المراد بالمعمورة عند الفتح وكونها للمسلمين : كونها لهم بعماراتها الكائنة فيها ، فما فيها من الدور والقصور وسائر الآثار من النخيل والأشجار بأراضيها للمسلمين ، إذ لا فرق في صدق المعمورة بين كونها عامرة بنفسها كالمزارع ، أو من حيث وجود العمارة فيها كالدور والعقار. نعم العمارات المستحدثة بعد الفتح لأربابها المحدثين لها لا يشاركهم فيها غيرهم.

فاذا عرفت أن الأرض ـ بما فيها من العمارات والآثار الكائنة عند الفتح ـ للمسلمين ، أشكل الحكم في ملكية ما يصنع من تلك الأراضي من الآلات والأواني كالجص والآجر والكيزان المعمولة من طينها ، وأشكل


منه ، تملك ما يستخرجونه من تلك الأبنية القديمة بحفر أو قلع مما كانت عمارة قبل الفتح وعند الفتح ، ولو بمعونة أصالة تأخر الخراب عن الفتح المعلوم تأريخه كالمدائن ، ولعل منها (الخورنق) ، وأراضي (بابل) ، ونحو ذلك من الآثار القديمة. فالأبنية المستحدثة بعد الفتح من تلك الآثار القديمة والمعمولة من هذه الأراضي ، ينبغي أن تكون ـ أيضا ـ للمسلمين ، فكيف تكون ملكا خاصا؟ فضلا عن تملك الأرض تبعا لها مع إجراء أحكام الملك الخاص على كل من القسمين من النقل والانتقال ونحو ذلك. ولذا اعتبر العلامة ـ رحمه الله ـ وجماعة ـ على ما حكي عنهم ـ في صحة رهن الآثار المستحدثة في المفتوحة عنوة ـ أن لا تكون معمولة من تلك الأراضي.

ودعوى كونها بالانفصال والهدم صارت مواتا ، وبالأعمال فيها عادت محياة ، فيملكها المحيي لها ، لعموم أخبار الإحياء ، مع منع دعوى انصرافها الى غير ذلك لكونه من الانصرافات البدوية التي لا يعول عليها.

فاسدة ، لأنه على تقدير تسليم منع الانصراف وشمول الأخبار لمثل ذلك ـ أرضا وحياة ومماتا ـ أن التملك بالأحياء مشروط بعدم سبق الملك لمالك معلوم بغير الأحياء ، وها هنا المالك معلوم ، وهم المسلمون ، والملكية لهم بالاغتنام ، فلا تكون مشمولة لأخبار التملك بالاحياء. وحينئذ ، فالقاعدة تقتضي توقف تملكها على الشراء من السلطان أو الحاكم وصرف الثمن في مصالح المسلمين ، أو لا أقل من الاستيذان من أحدهما ، مع إمكان أن يقال : لا مدخلية للسلطان فيه ، لأن القدر المأذون في تناوله منفعة الأرض ، لا أجزاؤها. إلا أن يكون الأخذ على وجه الانتفاع لا التملك فيجوز ، مع أن عمل الناس وسيرتهم على التملك من دون توقفه على شي‌ء من ذلك.

هذا ولعل الوجه في صحة التملك : هو أن يقال : إن المنفصلة من


أجزاء الأرض لعمل اللبن والأواني وسائر الآلات المحتاج لها والمضطر إليها عموم الناس ـ تعد من منافعها ، وان كانت عند الاتصال بها وقبل الانفصال عنها تعد من عين الرقبة ، فعموم الانتفاع بالأجزاء المنفصلة موجب لصدق المنفعة عليها وإن كانت هي من الأعيان الخارجية ، وهذه المنفعة مبذولة للمسلمين ـ كافة ـ من غير تخصيص من هذه الحيثية ببعض دون بعض ، وان كان المأخوذ يختص به الأخذ ، والعبرة بعموم البذل في صدق كونها مصروفة في المصالح العامة ، فهو بحكم المباح ، وان كان ملكا للجميع ، لعموم البذل ، فيختص به من سبق اليه ، لعموم قوله (ص) «من سبق الى ما لم يسبق إليه أحد ..» (١).

وإن أبيت إلا لزوم تحقق الاذن مع ذلك ـ أيضا ـ فهو متحقق بالسيرة القطعية الكاشفة عن ذلك.

هذا بالنسبة إلى ما يعمل من الأرض كاللبن والأواني. وأما المستخرجة منها من تلك العمارات القديمة مما هو مدفون في الأرض بعد هدمها ، فقد يقال : إنها تعد من أجزاء الأرض كالمختلفة في ممر المياه من الطين والرمل من غير فرق بين أساس العمارة في الأرض ومهدومها ، فيكون ـ حينئذ ـ حكمه حكم ما مر من الأجزاء المنفصلة. نعم ، الآثار القائمة على الأرض مما لا يعد جزء منها كطاق كسرى ونحوه ، يشكل تملكها بالقلع إلا بإذن السلطان أو الحاكم ، ولا حرج في الالتزام بذلك ـ بخصوصه ـ ولم تقم سيرة عليه كذلك.

الأمر التاسع ـ : يتفرع على ما ذكرنا ـ مما هو المجمع عليه : من كون المفتوحة عنوة للمسلمين ـ قاطبة ـ : أنه لا يجوز التصرف فيها

__________________

(١) راجع الجامع الصغير للسيوطي في مادة (من) وفيه : الى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له.


بالبيع والشراء وسائر النوافل المملكة لها ولا رهنها ولا وقفها ، بل ، ولا يصح تعميرها بدون إذن ببناء دور ومنازل وسائر الآثار من غرس نخيل وأشجار قال في (المبسوط) : «ولا يصح بيع شي‌ء من هذه الأراضي ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إرثه ، ولا يصح أن يبنى دورا ولا منازل ولا مساجد ولا سقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا ، وهو باق على الأصل» انتهى (١).

وتنقيح هذه المسألة يتم ببسط الكلام في طي مقامين :

الأول هل يجوز إيجاد العمارة وإحداث الآثار في المفتوحة عنوة من دون توقف على الاذن من الامام ـ عليه السلام ـ أو من يقوم مقامه أو لا يجوز إلا بإذن منه؟.

فنقول : مقتضى الأصل الأولي فيما كان مملوكا للمسلمين ـ كافة ـ هو العدم الحاكم على أصالة الإباحة في الأشياء. ولكن قد يقال بالخروج عنه ، والحكم بالجواز : إما مطلقا ، لأخبار التحليل ، أو التفصيل بين ما عرض له الموت بعد الحياة عند الفتح ، لعموم أخبار الأحياء ، وبين ما كان باقيا عليها.

وفيه : أما اخبار التحليل ، فهي مختصة بما كان لهم من الأنفال ، دون ما كان للمسلمين ، ولهم ولاية النظر فيها. وأما أخبار الإحياء ، فهي مقيدة بعدم سبق الملكية لمالك معلوم ـ وفي الفرض مملوك والمالك معلوم وهو المسلمون.

فاذا ، لا مناص عن القول بالتوقف على إذن الإمام ، أو من يقوم مقامه ، وهو لا ينافي الحكم بملكية الآثار لمن كانت يده عليها ، حملا للتصرفات

__________________

(١) راجع : كتاب الجهاد منه ، فصل في ذكر مكة هل فتحت عنوة أو صلحا


على الوجه الصحيح : من تحقق الاذن عند إيجادها وإحداثها.

ودعوى سقوط اعتبار الإذن في زمان الغيبة ، أو تحققها فيه ، على عهدة مدعيها.

وقياسه بالأجزاء المنفصلة منها لعمل الآلات والأواني ، لعموم الانتفاع ومسيس الحاجة ـ أيضا ـ قياس مع الفارق. والسيرة عليها بدون الإذن ممنوعة.

الثاني اختلفت كلماتهم : في عدم جواز بيع المفتوحة عنوة ، وغيره من النواقل ـ لعدم التملك مطلقا ـ أو جوازه كذلك ، أو التفصيل بين جواز بيعها تبعا للآثار ـ بناء على انها تملك تبعا لها ، فيدخل في المبيع بالتبعية أو الجزئية ، أو التفصيل بين زماني الحضور والغيبة ـ كما نسب الى الدروس ـ وان كان في النسبة نظر ـ كما ستعرفه عند التعرض لكلامه ـ : أقوال :

ذهب الى الأول منها ـ جمّ غفير ، وهو المحكي عن الشيخ في كتابيه : النهاية (١) والمبسوط ـ في مواضع منهما (٢) وابن إدريس ـ في موضع من السرائر ـ حتى أنه أورد على نفسه ـ بعد المنع عنه مطلقا ـ بما نصه : «فان قيل : نراكم تبيعون وتقفون أرض العراق ـ وقد أخذت عنوة ، قلنا : انا نبيع ونقف تحجيرنا وبناءنا ، فأما نفس الأرض لا يجوز

__________________

(١) راجع كتاب النهاية ـ آخر كتاب الزكاة ـ باب أحكام الأرضين حيث يقول في تقسيمها : «وهذا الضرب من الأرضين ـ أي المفتوحة عنوة ـ لا يصح التصرف فيه بالبيع والشراء والتملك والوقف والصدقات»!.

(٢) كما سبق آنفا ـ عن المبسوط كتاب الجهاد ، فصل في ذكر مكة هل فتحت عنوة أم صلحا؟


ذلك فيها» (١).

بل قيل : هو المشهور ، ولا سيما بين القدماء ، بل نسب القول بالجواز الى الشذوذ ـ كما عن موضع آخر من السرائر ـ نقلا عن الشيخ : انه إذا حجر أرضا ثم باعها لم يصح بيعها ، وفي الناس من قال : انه يصح وهو شاذ ، وأما عندنا فلا يصح بيعه ..» إلخ (٢).

بل ظاهر (الغنية) والكركي في (قاطعة اللجاج) دعوى الإجماع :

قال ـ في الأول ـ : «وهذه الأرض المفتوحة عنوة بالسيف لا يجوز التصرف فيها ببيع ولا وقف ولا غيرهما ـ ثم ذكر أحكامها ، وما يختص بالإمام ـ عليه السلام ـ من الأنفال ـ الى أن قال : ودليل ذلك كله الإجماع المتكرر» (٣).

وقال ـ في الثاني ـ : «.. قال الشيخ في المبسوط والنهاية ، وكافة الأصحاب : لا يجوز بيع هذه الأرض ولا هبتها ولا وقفها» انتهى (٤).

__________________

(١) راجع من (السرائر) آخر كتاب الزكاة ، باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه ، وما لا يصح ، وقبل هذه العبارة وتمامها هكذا : «وهذا الضرب من الأرضين ـ أي المفتوحة عنوة ـ لا يصح التصرف فيه بالبيع والشراء والوقف والهبة وغير ذلك ..».

(٢) راجع هذه الجملة في آخر باب أحكام الأرضين من السرائر أثناء عرض الآراء في المسألة.

(٣) راجع ذلك في آخر كتاب الجهاد من (الغنية لابن زهرة) المطبوع في إيران ضمن جوامع الفقه.

(٤) راجع : المسألة الثالثة من المقدمة الثانية ـ في حكم المفتوحة عنوة ـ من الرسالة وهي مطبوعة ـ كما مر عليك ـ ضمن مجموعة رسائل رضاعية وخراجية في إيران.


والى الثاني ـ السبزواري في (الكفاية) (١) والسيد العاملي في (مفتاح الكرامة) (٢) ـ في ظاهر كلاميهما.

والى الثالث ـ جمع كثير ـ كما عن التحرير ، والمختلف ، والمنتهى (٣) وحواشي الشهيد ، واللمعة ، والروضة ، والمسالك ، وموضع من التذكرة والسرائر. وفي (المسالك) نسبه الى جمع من المتأخرين (٤). بل نسبه بعضهم الى مشهورهم. بل عن حواشي الشهيد : دخولها في المبيع بنحو الجزئية ، دون التبعية المحضة حيث قال ـ : «إذا بيعت تبعا للآثار جاز أن تكون مجهولة ، والأولى أنها جزء المبيع ، فلا بد من العلم بها أيضا» ، وقال في (الدروس) : «لا يجوز التصرف في المفتوحة عنوة إلا بإذن الإمام ـ عليه السلام ـ سواء كان بالبيع أو الوقف أو غيرهما ، نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك ، وأطلق في (المبسوط) : أن التصرف

__________________

(١) حيث يقول في كتاب الجهاد المبحث السابع ـ بعد تعرضه لقول الشيخ في المبسوط ، والشهيد في الدروس بالمنع ـ «والأقرب القول بالجواز ..».

(٢) راجع ذلك في أوائل كتاب إحياء الموات منه.

(٣) راجع ـ من مختلف العلامة ـ كتاب الجهاد ، آخر الفصل الخامس في أحكام الأرضين. ومن المنتهى للعلامة أيضا كتاب الجهاد ، البحث الثالث في أحكام الأرضين.

(٤) قال الشهيد في المسالك في شرح قول المحقق : ولا يجوز بيعها «.. فاذا باعها بائع مع شي‌ء من هذه الآثار دخلت في البيع على سبيل التبع ، وكذا الوقف وغيره ، ويستمر كذلك ما دام شي‌ء من الآثار باقيا ، فاذا ذهبت أجمع انقطع حق المشتري والموقوف عليه وغيرهما عنها هكذا ذكره جمع من المتأخرين ، وعليه العمل».


فيها لا ينفذ» (١).

وقال ابن إدريس : «إنما يباع تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا في نفس الأرض» انتهى (٢).

ونسب اليه القول بالتفصيل بين زماني الحضور والغيبة : بعض مشايخنا منهم شيخنا في (الجواهر) والفاضل الجواد في (شرح اللمعتين).

بل استظهر منه في (مفتاح الكرامة) : جواز بيعها مجردة عن الآثار.

قلت : وظاهر عبارته ـ وان أوهم ذلك في بادئ النظر ـ إلا أنه بعد أدنى التأمل فيها ـ تجدها ظاهرة في التفصيل بين الزمانين في أصل التصرف باحداث الآثار ، وانه لا يجوز في زمان الحضور إلا بإذن الإمام عليه السلام ويسقط اعتبار الاذن فيه ، فيصح وينفذ في زمان الغيبة. فهو قائل بصحة البيع ، تبعا للآثار الصحيحة ، غير ان الآثار لا يصح احداثها في زمان الحضور إلا باذنه ، وتصح في زمان الغيبة ، لسقوط الاذن فيها ثم ـ بناء على الملكية التبعية ـ ففي زوالها بزوال الآثار ـ كما في (المسالك) وغيره (٣) ، أو بقائها ـ وان زالت ـ كما في (المستند) (٤) وجهان : مبنيان على ان الملكية ـ ولو بالتبع ـ : هل هي متعلقة بنفس الأرض من حيث هي ، فلا بد ـ حينئذ ـ في خروجها عنها من مخرج شرعي

__________________

(١) راجع كتاب الجهاد منه ، درس في اللواحق.

(٢) مضى آنفا ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧ نقل هذه العبارة عن (السرائر لابن إدريس) كتاب الزكاة.

(٣) تقدم ـ آنفا ـ ص ٢٣٨ ما نقلناه عن المسالك في ذلك ،

(٤) راجع منه : كتاب المكاسب ، في بيان جواز بيع الأراضي المفتوحة عنوة وعدمه.


أو متعلقة بها من حيث اتصافها بالوصف العنواني ، وهو التابعية الموجب لزوالها بزوال الآثار ، لانتفاء الموضوع ـ حينئذ ـ ولو بانتفاء جزئه ، وهو وصف التابعية؟.

ولعل الثاني هو الأظهر. وعليه ، فلا تبقى الملكية بعد زوال الآثار الموجبة لها بالتبعية.

حجة القول بالمنع ـ مطلقا ـ : ـ مضافا الى أنه مقتضى الأصل فيما هو ملك المسلمين ـ قاطبة ـ وظاهر الإجماع المتقدم ـ : الأخبار الناهية عن شراء أرض الخراج (١).

حجة القول بالجواز ـ مطلقا ـ : الأخبار الدالة على جواز شراء تلك الأرض التي : منها ـ دلالة الاستثناء في ذيل (صحيحة الحلبي المتقدمة) (٢).

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألته عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ فقال : ليس به بأس ، وقد ظهر رسول الله (ص) على أهل خيبر ، فخارجهم على أن تترك الأرض في أيديهم ، يعملونها ويعمرونها ، .. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عملوه ، فهم

__________________

(١) راجع ـ في ذلك ـ (مستند النراقي) كتاب المكاسب : المسألة التاسعة لا يجوز بيع الأراضي المفتوحة عنوة ، فقد استعرض روايات كثيرة في المقام.

(٢) راجع : ص ٢١١ ـ ٢١٢ من هذا الكتاب ـ ونص الصحيحة ـ كما عن كتاب البيع من الجواهر ـ في شرح قول المحقق (واما الأرض المأخوذة عنوة) : «سئل أبو عبد الله (ع) عن السواد : ما منزلته؟ فقال : هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد ، فقلت : الشراء من الدهاقين؟ فقال : لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين ، فاذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها».


أحق بها وهي لهم» (١).

ومنها : ـ صحيحة محمد بن مسلم ، قال : «سألته عن شراء أراضيهم فقال : لا بأس أن تشتريها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم ، فتؤدي فيها كما يؤدون فيها» (٢).

ومنها : ـ رواية أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عن شراء الأرضين من أهل الذمة؟ فقال : لا بأس ان يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم. وقد كان رسول الله (ص) حين ظهر على خيبر وفيها ، خارجهم على أمر وترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها» (٣).

ومنها : ـ رواية محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (ع) ، قال : «سألته عن ذلك فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها ان كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدى عنها كما تؤدي عنها» (٤).

ومنها : ـ رواية إبراهيم بن ابي زياد قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض الجزية؟ فقال : اشترها فان لك من الحق ما هو أكثر من ذلك (٥).

__________________

(١) تهذيب الشيخ : كتاب التجارات ، باب أحكام الأرضين ، حديث تسلسل ٦٥٥.

(٢) راجع : تهذيب الشيخ الطوسي ، كتاب التجارات ، ١١ باب أحكام الأرض ، حديث تسلسل ٦٥٦.

(٣) المصدر نفسه ، حديث تسلسل ٦٥٧.

(٤) المصدر نفسه ، حديث تسلسل ٦٦٢ ، باختلاف بسيط في بعض الكلمات.

(٥) راجع كفاية الأحكام للسبزواري كتاب الجهاد ، القول في أحكام الأرضين المبحث السابع.


ومنها ـ خبر حريز عن أبي عبد الله (ع) قال : «سمعته يقول : رفع إلى أمير المؤمنين (ع) : رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج فقال (ع) له ما لنا وعليه ما علينا ، مسلما كان أو كافرا ، له ما لأهل الله وعليه ما عليهم» (١).

ومنها ـ رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، عن رجل اشترى أرضا من أراضي الخراج ، فبني بها أو لم يبن ، غير أن أناسا من أهل الذمة نزلوها ، أله أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدوا جزية رءوسهم ، قال : يشارطهم ، فما أخذ بعد الشرط ، فهو حلال» (٢).

ومنها ـ ذيل رواية صفوان ـ المتقدمة ـ الناطقة بعد النهي عنه بقوله قلت : يبيعها الذي هو في يده ، قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال : لا بأس ، اشتر حقه منها ، وتحول حق المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى عليه وأملأ بخراجهم منه» (٣).

وفيه ـ مع أن مورد جملة منها ـ بل أغلبها ـ أرض الجزية المحتمل فيها لإجمالها كون الأرض ملكا لهم ، وصولحوا على أنها لهم والجزية فيها على أعناقهم وإن سميت بالأرض الخراجية لكون الخراج للمسلمين ـ كما في الجواهر ـ (٤)

__________________

(١) راجع ـ كتاب البيع من الجواهر ـ في شرح قول المحقق (يجوز بيعها تبعا لآثار التصرف) والوافي ، أبواب أحكام الأرضين ، باب ١٥٩.

(٢) تهذيب الشيخ ، كتاب التجارات ، باب أحكام الأراضين ، حديث تسلسل ٦٦٣ ، و ٦٧٩ باختلاف الطريق إلى إسماعيل بن الفضل.

(٣) راجع الرواية ـ كاملة ـ في تهذيب الشيخ ، كتاب التجارات ، آخر باب أحكام الأرضين ، حديث تسلسل ٦٨٦ وتقدمت في هذا الكتاب ص ٢١٢.

(٤) راجع منه : كتاب الجهاد ـ في شرح قول المحقق : وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها ـ فإنه يرى ذلك بعد عرضه لقسم من الروايات المذكورة في المتن ـ وكتاب البيع ـ في شرح قول المحقق (ويجوز بيعها تبعا لآثار التصرف).


وان كان فيه من البعد ما لا يخفى ـ :

أنها لا تدل على ملكيتها ـ مطلقا ـ حتى مع تجردها عن الآثار ، بل لعلها بعد التأمل يظهر كونها عند الشراء مشغولة بالآثار التي هي مملوكة للبائع ، ـ كما يومئ اليه ذيل خبر صفوان ـ بناء على أن المراد من (الحق) هو الآثار المبنية كيف ـ ومع التجرد عنها هو كغيره من المسلمين لا يملك بالخصوص شيئا حتى ينقله إلى المشتري.

ولو سلم ظهور بعضها ـ ولو بالإطلاق ـ إلى ما كانت مجردة عن الآثار فهو محمول على إرادة صورة الشراء ، ولو بضرب من التسامح بإرادة مجرد رفع ذي اليد يده عنها ، دون الشراء الحقيقي المتوقف على تملك البائع لها ، إذ لا بيع إلا في ملك. ومثل هذا النحو من اليد يعبر عنه في عرفنا ـ الآن ـ بـ «اللزمة» وليست هي يدا تفيد الملكية أو الاختصاص إذ لا شي‌ء له فيها حتى يوجب شيئا من ذلك.

حجة القول بتملكها ـ تبعا للآثار ، فيجوز بيعها كذلك : هو الجمع بين ما دل على المنع من الأخبار بحمله على بيعها مجردة عن الآثار ، وبين ما دل على الجواز بحمله على بيعها تبعا لها.

مضافا إلى دعوى السيرة القائمة بين الناس : خلفا عن سلف على بيعها وشرائها ، سيما الدور والعقارات ، ووقفها مدارس ومساجد أو غيرها غير وليس إلا لكون الأرض مملوكة لمالك الآثار بالتبع.

وفيه : إن هذا النحو من الجمع يتوقف على وجود شاهد له غير موجود في المقام ، ودعوى السيرة على ذلك على عهدة مدعيها ، سيما في الدور والعقار كالمزارع ونحوها.

والإنصاف : انه لا يستفاد من الأدلة ـ سيما بعد ملاحظة الأخبار الناهية ومقتضى الأصول الأولية ـ أزيد من ثبوت حق الاختصاص والأولوية


بالتصرف في الأرض لمن له الآثار فيها ، فاذا بيعت الآثار المملوكة لبائعها لحق المشتري ما كان للبائع في نفس الأرض من حق الاختصاص والأحقية بالتصرف.

هذا ، ويشكل الحكم في الأوقاف العامة المبنية على الدوام ، سيما في المساجد لتعلق الغرض الأصلي في وقف المسجد بأرضها ، وان قلنا بملكية الأرض تبعا للآثار الموجب لزوال الوقفية بزوالها الموجودة في الأراضي المفتوحة عنوة ، سيما فيما كان معلوما منها كأرض العراق فضلا عما لو قلنا بعدم ثبوت غير حق الاختصاص فيها بترتب أحكام المسجدية ـ حينئذ ـ في نفس الأرض ، حتى مع وجود الآثار التي لم يتعلق الوقف ـ حينئذ ـ إلا بها ـ خاصة ـ وهذا الالتزام من الشناعة بمكان كشناعة الحكم ببطلان المساجد المبنية في العراق عند خرابها وزوال آثارها. مع أن السيرة القطعية قائمة بين الخواص والعوام على بقاء الأوقاف ـ خصوصا المساجد ـ على وقفيتها ، وترتيب أحكام مسجديتها وإن زالت الآثار بجملتها.

فلا بد من توجيه ذلك بما ينطبق على ما ذكرناه من حكم المفتوحة عنوة ، فنقول :

أما بناء على بقاء الملكية التبعية في الأرض ـ بعد زوال الآثار ـ : فواضح ، وأما بناء على زوالها بزوال الآثار ، فيمكن أن يوجه بوجوه :

الأول ـ : إن المساجد الموجودة في المفتوحة عنوة ـ مثلا ـ مما يشك في كون أرضها بالخصوص كانت عامرة عند الفتح حتى يملكها المسلمون والأصل يقتضي عدمه ، وهو كاف في الحكم بدوام الوقفية ، وان زالت الآثار. نعم ، لو فرض ـ نادرا ـ تحقق العلم بذلك في أرض مسجد ـ مثلا ـ فلا نمنع من انقطاع الوقفية بعد اندراس الآثار بالكلية ، ولا يلزم من الالتزام بذلك ـ لغاية ندرتها ـ شناعة ولا مخالفة للسيرة ، إذ نمنع قيامها


على مثل ذلك ـ أيضا.

الثاني ـ إن اليد النوعية عليه كاليد الشخصية بالنسبة إلى ما هي عليه من الدلالة والأمارية والمساجد والمدارس ونحوها من الأوقاف العامة عليها يد المسلمين نوعا فيحكم بمفادها كما يحكم بمفاد اليد الشخصية ، بناء على اعتبارها في إفادة الملكية المطلقة بالنسبة إلى ما كانت هي عليه في المفتوحة عنوة ـ كما يأتي ـ بل اليد النوعية منتهية إلى اليد الشخصية ، وهي يد الواقف الممكن في حقه التملك على بعض الوجوه المصححة له.

الثالث ـ إن الملكية الكلية المرددة بين ما يقتضي دوامها ، كما لو كانت مواتا عند الفتح يملكها المحيي لها ـ دائما ـ لكونها للإمام عليه السلام دون المسلمين ، وبين ما لا يقتضي ذلك ، كما لو كانت محياة عنده مستصحبة وهي كافية في الحكم بالدوام ، ضرورة أن الحكم بانقطاع الوقف بعد زوال الآثار من أحكام الملكية المقيدة بها وجودا وعدما ، دون مطلق الملكية أو الملكية المطلقة.

غير أن هذا الوجه الأخير لا يتم على ما اخترناه من عدم ثبوت غير حق الاختصاص في الأرض ، إذ لا وقف إلا في ملك.

الأمر العاشر لا إشكال في ثبوت كون الأرض من المفتوحة عنوة ، أو من العامر في وقتها بما يفيد العلم : من التواتر والشياع والقرائن القطعية المفيدة له.

وهل يثبت بما يفيد الظن من الأمارات الظنية كقول المؤرخين وغيرهم؟.

وبعبارة أخرى : هل الظن يقوم مقام العلم وما بحكمه في ثبوت ذلك أو لا؟ ذهب جماعة ـ ومنهم شيخنا في الجواهر ـ الى عدم اعتبار الظن هنا.

وذهب غير واحد ـ ولعله الأكثر ـ إلى اعتباره.

حجة المنع عن العمل بالظن : الأصل ، وعدم الدليل عليه ،


بل الدليل على عدمه من الكتاب والسنة ، فيجب الرجوع ـ حينئذ ـ مع عدم العلم أو ما في حكمه كالبينة ـ إلى ما تقتضيه الأصول المعتبرة.

وحينئذ ، فما كان الشك في كونها من المفتوحة عنوة ، أو لا ، فمقتضى الأصل عدمه وعدم تحقق ما هو سبب الملكية للمسلمين. وان كان الشك في عمارتها عند الفتح بعد إحراز كونها منه. فان علم كونها معمورة قبل الفتح وشك في خرابها قبله أو بعده كان الحياة مستصحبة إلى ما بعده فيكون للمسلمين ، وان لم يثبت به عنوان الموات بعده ، لكونه من الأصل المثبت ، إذ الحكم المزبور مرتب على الحياة عند الفتح وإن لم يعلم ذلك ، سواء علم بعمارته وشك في تقدمها على الفتح أو حدوثها بعده أو لم يعلم بها أصلا ، وكانت محتملة ، فالأصل يقتضي العدم.

لا يقال : إنا نعلم كون الأراضي منها ما هي عنوة وما بحكمها ، ومنها ما هي ليست كذلك واشتبه علينا وكان من الشبهة المحصورة من الكثير في الكثير ، فيجب الاجتناب عن جميعها ، إذ لا مجرى للأصول في أطرافها ـ على الأقوى ـ كما تقرر في محله. ومثله الشبهة في كونها عامرة أو غامرة عند الفتح لعدم الابتلاء بجميع أطرافها بالنسبة إلى من يجري الأصل في قطعة منها التي هي محل ابتلائه.

واستدل : في (الكفاية) على كفاية الظن مطلقا ، وقيامه مقام العلم بما نصه ـ في البلد المشكوك ـ : «فاما ان يجرى عليه خصوص حكم بلا أمر دال عليه أو امارة ظنية ، ففيه ترجيح حكم بلا مرجح ، أو يرجع فيه إلى الظن. وإذا بطل الأول تعين الثاني ، وأيضا ، إن كان المظنون فيه أمرا كان خلافه مرجوحا ، فاما أن يعمل فيه بالراجح أو بالمرجوح أو لا يعمل بشي‌ء منهما. لا وجه للثالث ، وهو ظاهر ، ولا وجه للعمل بالمرجوح ، فتعين المصير إلى الأول» انتهى موضع الحاجة من


كلامه (١).

وفيه : إن العمل بما تقتضيه الأصول ليس من الترجيح بلا مرجح ، فضلا عن كونه ترجيحا للمرجوح بل هو من العمل بالدليل الشرعي ، واعتبار رجحان الظن أو الكلام ، سيما ومقتضى الأصل عدمه.

هذا ، ولعل الأقوى في المقام ونحوه مما يتعذر العلم وما بحكمه من البينة في تشخيص الموضوعات التي يترتب عليها الأحكام ـ الرجوع إلى الظن الحاصل من أهل الخبرة في تشخيصها سواء كان الشك في مفهوم الموضوعات أو في مصاديقها ، فان المرجع في ذلك العرف الخاص ، كما عليه بناء العقلاء في معرفة ما يتعلق به أغراضهم من ذلك ، ومنه الظنون الرجالية والحاصل من قول اللغويين.

ويرشد إليه صحيحة عمار الساباطي في معرفة المواقيت عن الصادق عليه السلام ، قال : «يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك» (٢).

وكلمة (يجزيك) ظاهرة في كفاية الظن ، إذ ما وراء العلم من شي‌ء.

__________________

(١) قبل هذه العبارة ـ كما في المبحث الثالث من كتاب الجهاد ـ القول في أحكام الأرضين «فإن علم كون بلد آخر كذلك (أي مفتوحة عنوة) فذاك ، وما لم نعلم فيه ذلك وكان مشتبها فالظاهر أن يعمل بالظن هنا ، بيان ذلك أنا نعلم أن بعض البلاد كان مفتوحا عنوة وبعضها صلحا ، وما كان صلحا اشتبه أمره في أن الصلح وقع على أن تكون الأرض لهم أو وقع على ان تكون الأرض للمسلمين فيكون حكمه حكم المفتوح عنوة ، فهذا البلد المشتبه إما أن يكون على سبيل الأولين فيكون للمسلمين وعليه الخراج ، أو على سبيل الثالث فلم يكن عليه خراج».

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الحج ، باب جواز سؤال الناس عن الميقات مع الجهل به .. حديث تسلسل (١).


ويمكن أن يقرر الدليل بنحو أسد من ذلك بما يرجع إلى دليل الانسداد

وتقريره : هو انسداد باب العلم وما بحكمه في المقام لتطاول الزمان وخراب العمران وعدم إمكان الرجوع إلى الأصل ، للزوم المخالفة القطعية ـ كثيرا ـ وعدم إمكان تعطيل حكم تلك الأراضي ، والعمل بالاحتياط متعذر أو متعسر ، فلا مناص عن العمل بالظن الحاصل من القرائن والآثار القديمة وكلام السير والتواريخ المعتبرة والتدرج في العمل بالظن إلى الأقوى فالأقوى كما هو جار في كثير من الموضوعات العامة البلوى التي انسد فيها باب العلم وما بحكمه من البينة كموضوع النسب ونحوه.

والظاهر : عدم التعويل على ضرب الخراج ، وإن عول عليه غير واحد من الفقهاء لأن اعتباره إن كان من جهة حمل فعل المسلمين على الصحة ، ففيه : أنها منتفية بفساد أساسه ـ كما تقدم ـ فلا صحة حتى يحمل عليها. ودعوى وجوب الحمل على ما يوجب أخفية الفساد عند الدوران بينه وبين الأشد والأفسد ، لا دليل عليه.

وإن كان من جهة إفادته الظن ، فالصغرى ممنوعة ـ بعد أن كان الخراج مضروبا على الأراضي الخراجية وغيرها من الأنفال والتي صولحوا عليها ، على أن الأرض لهم والجزية في أعناقهم. ومنه يعلم أن المشكوكة منها المحياة ـ فعلا ـ المردد حالها بين كونها خراجية أو مجهولة المالك أو هي للإمام عليه السلام من تركة من لا وارث له ، لدورانها في نفس الأمر بين كونها من عامرة (المفتوحة عنوة) أو من غيرها ، فملكها المحيي لها ، غير أنه مجهول المالك ، إن كان هو أو وارثه موجودا لا نعلمه ، وإلا فهو ميراث الإمام لأنه وارث من لا وارث له ، وإن دخل في أطراف الشك كونها مما انجلى عنها أهلها ، احتمل كونها للإمام من هذه الجهة ـ أيضا ـ يرجع في أمرها إلى الحاكم ، وإن كان عليها يد الجائر أو يد


من أخذها منه بالخراج ، إذ لا يد له في الحقيقة عليها لكونها عادية في الخراجية ـ أيضا ـ فلا يثبت كونها خراجية بقول ذي اليد ، ولا بضرب الخراج ، لما عرفت. ويعمل فيها الحاكم : إما بالقرعة ، لكونها لكل أمر مشكل ـ وإن كان العمل بها مع عدم الجابر لها أشكل ـ أو يصرف أجرتها فيما ينطبق عليه كل من العناوين المتقدمة.

نعم ، لو كانت تحت يد مدعي الملكية لها حكم بها له ، لليد ، لإمكان تملكها بوجوه من الصحة ، بل يحكم بكونها له ، وان علم كونها من (المفتوحة عنوة) بعد إمكان فرض الصحة فيها على وجوه ، منها تملكه بالاحتساب عليه من الخمس أو الشراء من المستحق المحتسب عليه خمسا ، أو من طرف حصة الإمام المباح للشيعة ، وغير ذلك.

الأمر الحادي عشر : يجوز للإمام عليه السلام ـ ومن يقوم مقامه إقطاع شي‌ء من أرض (العنوة) لبعض ، ولا تخرج به عن كونها خراجية لأن معناه كون خراجها له ، لا خروجها عن الخراجية. وهل يجوز له بيع شي‌ء منها ، وان اقتضت المصلحة ما لم تبلغ نحو حفظ بيضة الإسلام؟ إشكال. والظاهر العدم ، للأصل ، وظاهر قوله (ع) ـ فيما تقدم (من يبيعها وهي للمسلمين) لظهور كون السبب في إنكاره (ع) كونها للمسلمين لا كون البائع غيره ، فإنه في قوة قوله (لا تباع) لكونها للمسلمين ، وقوله عليه السلام في مرسلة حماد المتقدمة له «فهي موقوفة متروكة بيدي من يعمرها» (١) الظاهر في إرادة التأبيد والدوام وصرف الارتفاع في مصالحهم ولزوم مراعاة الأصلحية عند تعارض المصلحتين ، ومقتضاه العدم ـ غالبا.

__________________

(١) راجع : ص ٢١٣ من هذا الكتاب. وراجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب المسألة التاسعة ـ في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.


تنبيه : ما تداول في عصرنا ـ الآن ـ في (دولة آل عثمان) من بيع الأراضي الخراجية وغيرها ، معبرين عنها بـ (الطابو) يجعلونها في ميدان المزايدة ، ويعطونها لمن دفع الزيادة ، ثم من بعده لأولاده الذكور والإناث بالتساوي بينهم ـ ليس هو بيعا حقيقيا ولا تمليكا واقعيا ، بل إنما هو تفويض وتقبيل بالمقاسمة على الخمس من حاصلاتها. غير أنه آلى على نفسه السلطان أن لا يغير المتقبل ما دام حيا ، ويقبل أولاده من بعده ذكورا وإناثا ، تقبيلا جديدا ، قرره بهذا النحو على نفسه من أول الأمر ولذا يسترد الصكوك المعبر عنها بـ (الأوراق الخاقانية) المدفوعة ـ أولا ـ ويعطي أولاده ـ مطلقا كل واحد منهم ورقة خاقانية مستقلا مهينا فيها مقدار سهمه بحسب التوزيع على رءوسهم بالسوية ، وكيفية التقبيل وكمية القبالة منوطتان برائية ، فلا تمليك ولا تملك ولا إرث ولا ميراث ، حتى ينكر ذلك بمخالفتها لحكم الأراضي الخراجية وقواعد المواريث.

كما وقع الإنكار من جماعة ممن لا خبرة له بحقيقة الأمر ، وما يأخذه من النقود ـ أولا ـ عند المزايدة ليس ثمنا ـ كما توهم ـ بل هو للتقديم ، في التقبيل ولعله يصرفه في محله ـ ليس علينا حسابه.

الأمر الثاني عشر : ولاية التقبيل والتسليط للإمام عليه السلام فيقبلها ممن يشاء وبأي كيفية يشاء من الخراج ـ وهو الضريبة ـ بقدر مخصوص من المال يأخذها من طرف أجرة الأرض أو بالمقاسمة ، وهي القدر المخصوص من حاصلاتها : من النصف أو الثلث أو الربع ـ مثلا.

وقد يطلق اسم (الخراج) على (المقاسمة) أيضا ، ويأخذ القبالة ويصرفها في المصالح العامة. وان عين مدة فله أخذها من المتقبل بعد انقضاء المدة وتقبلها من آخر بما يراه من كمية الخراج وكيفيته.


ويدل عليه ـ مضافا الى أن له الرئاسة الكبرى ، وهي من آثارها وأحكامها.

جملة من الأخبار التي منها ـ رواية صفوان ، والبزنطي ، قال : ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج ـ إلى أن قال ـ : «وما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر ، قبل سوادها وبياضها ـ يعني أرضها ونخلها ـ إلى أن قال ـ : إن أهل مكة دخلها رسول الله (ص) عنوة وكانوا أسرى في يده ، فأعتقهم فقال : اذهبوا أنتم الطلقاء» (١).

ومنها ـ صحيحة البزنطي ، وفيها : «وما أخذ بالسيف فذلك الى الامام (ع) يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر ، قبل أرضها ونخلها ..» الحديث (٢).

ومنها ـ ما تقدم من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهل العراق التي هي إمام لسائر الأرضين (٣).

وبالجملة ، فلا كلام في أن النظر وولاية التصرف في هذه الأراضي بالأصل للإمام ـ عليه السلام ـ في زمان حضوره وبسط يده.

ومع عدمها ـ كما في زمان الغيبة ـ ففي سقوط الولاية من أصلها ، فيجوز التصرف لكل أحد بلا توقف على الاذن ، أو ثبوتها للنائب العام إن كان مبسوط اليد متمكنا من التقبيل وصرف القبالة في وجهها ، بناء على عموم أدلة الولاية وكونه مفوضا اليه ما هو أعظم من ذلك كإقامة

__________________

(١) راجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب ، المسألة التاسعة من المقصد الرابع في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

(٢) راجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب ، المسألة التاسعة من المقصد الرابع في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

(٣) تقدم هذا الحديث ص ٢٢٨ من هذا الكتاب وراجع : مستند النراقي كتاب المكاسب المسألة التاسعة من المقصد الرابع.


الحدود. ومع عدم بسط يده فالى السلطان ـ وبعبارة أخرى ، لا بد من الاذن في جواز التصرف من الحاكم مع بسط يده ، وإلا فمن السلطان :

قولان : المشهور هو الثاني. بل في (الكفاية) : القول به هو قضية كلام الأصحاب (١). وفي (المسالك) : في حكم هذه الأرضين في زمان الغيبة : «وهل يتوقف التصرف في هذا القسم منها على اذن الحاكم الشرعي إن كان متمكنا من صرفها في وجهها ـ بناء على كونه نائبا عن المستحق مفوضا اليه ما هو أعظم من ذلك؟ الظاهر ذلك ، وحينئذ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين. ومع عدم التمكن أمرها إلى الجائر وأما جواز التصرف فيها كيف اتفق لكل أحد من المسلمين ، فبعيد جدا بل لم أقف على قائل به ، لأن المسلمين بين قائل بأولوية الجائر وتوقف التصرف على اذنه ، وبين مفوض الأمر الى الامام العدل عليه السلام ، فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه ، فالتصرف بدونهما لا دليل عليه. وليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا ـ عليهم السلام ـ لشيعتهم في التصرف فيها في حال الغيبة ، لأن ذلك حقهم ، فلهم الاذن فيه ـ مطلقا ـ بخلاف المفتوحة عنوة ، فإنها للمسلمين قاطبة ولم ينقل عنهم الاذن في هذا النوع» انتهى (٢).

واستدل عليه ـ أيضا ـ بدعوى غير واحد الاتفاق على وجوب دفع الخراج إلى السلطان الذي هو بمنزلة العوض وأجرة الأرض ، فإذا كان له الولاية على العوض كان له الولاية على المعوض ـ أيضا.

__________________

(١) راجع : كفاية الأحكام للسبزواري ، كتاب الجهاد ، القول في أحكام الأرضين ، المبحث السادس.

(٢) راجع كتاب الجهاد من المسالك ـ في حكم الأراضي المفتوحة عنوة في شرح قول المحقق «والنظر فيها إلى الامام».


وذهب بعض إلى الأول ، واحتمله في (الكفاية) بعد أن حكاه عن بعض (١) واختاره في (المستند) ونسب القول به إلى ظاهر الشيخ في (التهذيب) مستظهرا ذلك من عبارته فيه ، وهي قوله : «وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها عنها ، فانا قد أبحنا ـ أيضا ـ التصرف فيها ما دام الامام مستترا» انتهى (٢) وان كان في الاستظهار منها تأمل.

قلت : تنقيح المسألة هو أن يقال : إن ما كان منها تحت يد السلطان وكان متوليا عليه ، فيرجع إليه في التقبل ويدفع إليه القبالة على ما خارجه عليه من الخراج والمقاسمة ، إجماعا عليه ـ بقسميه ـ مع دلالة بعض المعتبرة عليه ، بل قيل بعدم جواز منعهما وجحدهما ، بل صريح غير واحد دعوى الاتفاق عليه ـ أيضا.

__________________

(١) راجع ذلك في المبحث السادس من أحكام الأرضين ، ضمن كتاب الجهاد.

(٢) قال النراقي في (المستند ج ٢ كتاب المكاسب) المسألة التاسعة من المقصد الرابع ، بعنوان ان الموات من الأراضي المفتوحة عنوة مخصوصة بالإمام : «والمعروف من مذهب الأصحاب والمدلول عليه بالأخبار .. أن توليه هذه الأراضي والنظر فيها الى الامام يصنع فيها ما يراه من تقبيلها ممن يريد كيف يريد ، وظاهر ذلك بل صريح قوله (وذلك للإمام أو اليه) ومقتضى أصالة عدم جواز التصرف في ملك الغير بدون إذنه ـ على ما ذكرنا من ملكية هذه الأراضي فيه سبحانه أو للإمام ـ عدم جواز التصرف لأحد فيها إلا باذنه ، وهو كذلك مع ظهوره واستقلاله واما بدونهما فقد وقع الخلاف فيمن له التصرف فيها : فظاهر الشيخ في (التهذيب) جواز التصرف فيها وإباحته لكل أحد من الشيعة ، قال : وأما أراضي الخراج ..».


وأما ما لا يد له عليه منها ، فيرجع في التصرف إلى الحاكم مع بسط يده. ومع عدمه : ففي جواز استقلاله بالتصرف ، أو الرجوع الى السلطان وجهان ، مبنيان على أن إمضاء الشارع لأعماله : هل هو للتقية وتسهيلا لأمر الشيعة في انتفاعهم بها ، فلا يجب إلا عند الضرورة التي تتقدر بقدرها أو لتنزيله منزلة الإمام العادل ، بعد تغلبه وقيامه بمنصب الإمامة عدوانا في حفظ البيضة وحماية الحوزة ، صيانة للدين وخوفا من تفرق كلمة المسلمين ، إلى أن يظهر من يبسطها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ويرجع الأمر إلى أهله ويدور الحق على مركزه ـ عجل الله فرجه ـ كما يشعر به سيرة علي ـ عليه السلام ـ وأصحابه مع الخلفاء. وعليه ، فيجب الاستئذان منه والرجوع اليه ، ولو مع التمكن من عدمه.

لا يقال : إنه ـ حينئذ ـ يجب تقديمه على الحاكم حتى مع بسط يده ـ أيضا.

لأنا نقول : الحاكم وكيل عن الإمام ، فإذا فرض بسط يده ، كان كما لو كان الامام ـ عليه السلام ـ مبسوط اليد. هذا بالنسبة إلى التصرف في نفس الأرض. وأما في ارتفاعها فهو تابع لها في الابتناء المذكور ، فيجب دفعه اليه ـ على الثاني ـ وإن تمكن من عدمه ولا يجب ـ على الأول ـ إن تمكن من ذلك.

ودعوى الاتفاق على عدم جواز منعهما وجحدهما ـ لو سلمت ـ فمسلمة بالنسبة إلى جحدهما بالكلية ، لا بالنسبة إلى خصوص الجائر ، ولو تنزلنا فهي مسلمة بالنسبة إلى ما كانت تحت يده وخارجة عليها ـ لا مطلقا.

وبالجملة ، فالكلام في وجوب ذلك ، وعدمه ـ أرضا وارتفاعا ـ مبني على ما تقدم من وجهي إمضاء الشارع لإعمال السلطان.

هذا ، ومقتضى التنزيل المتقدم عدم الفرق في المتغلب الجائر بين


المخالف والمؤالف من غير مدخلية اعتقاد حلية أخذ الخراج واستحقاق الإمرة على المسلمين في ذلك ، بعد أن كان المناط حفظ النظام وإعلاء كلمة الإسلام.

ويحتمل قصر الحكم فيما خالف الأصل من إمضاء عمل الجائر على الأول ، اقتصارا فيه على القدر المتيقن ثبوته من الشرع ، سيما ولم يكن لغيره سلطان في زمن ورود الأخبار الآمرة بذلك ، ومع تعدد ذي الشوكة والسلطان ، ففي التخيير بينهما أو التوزيع عليهما ، أو تقديم المخالف منهما مع التخالف للاحتياط ، أو تقديم غيره ، أو الأقوى منهما شوكة أو الأضعف تقوية له ، أو تعيين الدفع إلى من تقبل منه : ـ احتمالات ، كلها ـ عدا الأول منها ـ استحسانات ضعيفة.

ثم إن ها هنا ـ كلاما لشيخنا صاحب (الجواهر) لا يخلو عن تأمل وهو أنه قال : «ثم إن مقتضى السيرة بين العوام والعلماء عدم وجوب صرف ما ينفق حصوله من حاصلها في يد أحد من الشيعة ـ من جائر أو غيره في زمان الغيبة في المصالح العامة ، بل له التصرف فيه بمصالحه الخاصة ، بل قد يقال بحصول الاذن منهم في ذلك للشيعة من غير حاجة الى رجوع إلى نائب الغيبة ، وان كان الأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ استئذانه ، والظاهر أن له الاذن ـ مجانا ـ مع حاجة المستأذن ، كما أن الظاهر حل تناوله من الجائر بشراء أو اتهاب وغيرهما» (١) ثم قال بعد ذلك في شرح قول مصنفه ـ : يصرف الامام حاصلها في المصالح العامة .. إلخ ـ : «وهل تجب مراعاة ذلك إن حصل منها في يده في زمن الغيبة ولو بإذن نائبها

__________________

(١) راجع هذه الجملة في كتاب الجهاد من (الجواهر) القسم الثاني في أحكام الأرضين ، في أخريات شرح قول المحقق (كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين).


وجهان ، أحوطهما ذلك ، وأقواهما العدم ، لظاهر نصوص الإباحة وللسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بين العلماء والعوام ، بل قد تمكن جملة من علمائنا كالمرتضى والرضي والعلامة ـ رحمهم الله ـ وغيرهم من جملة منها ، ولم يحك عن أحد منهم التزام الصرف في نحو ذلك ، بل لعل المعلوم خلافه من المعاملة معه معاملة غيره من الأملاك» انتهى.

قلت : وعبارته في المقامين كما ترى ـ صريحة في جواز صرف ما كان من الخراج والمقاسمة في مصلحته الخاصة ومشعرة بعدم الرجوع إلى الجائر في شي‌ء من ذلك.

مع أن المصرح به في كلمات الأصحاب والمدلول عليه بالأخبار : اختصاص صرفهما في خصوص المصالح العامة ، بل لم أعثر على من اكتفى في مصرفهما بمطلق المصلحة ، وان كانت خاصة مستدلا (يعني صاحب الجواهر قده) على دعواه بنصوص الإباحة ، وبالسيرة.

وفيهما نظر :

أما استدلاله بالأخبار ، فإن أراد به الاستدلال على جواز الاستبداد بالتصرف في الأرض وخراجها من دون إذن بناء على أن ولاية التصرف من حقوق الامام عليه السلام وما كان لهم فقد أباحوه لشيعتهم.

ففيه انها من وظائف الإمامة لا من الحقوق المالية حتى تتعلق بها الإباحة. وان أراد الاستدلال بها على جواز تناوله وصرفه في مصالح نفسه ففيه انه للمسلمين ، فلا يكون مشمولا لأخبار إباحة ما هو لهم لشيعتهم.

وأما استدلاله بالسيرة ، ففيه : منع قيامها على مدعاه ، وكيفية عمل المرتضى وغيره ، غير معلوم لنا.

وكان الأحسن له أن يستدل على عدم تعيين الصرف في المصالح العامة بجواز أخذ جوائز السلطان ، ولو كانت من الخراج والمقاسمة ، من


الصلات والهبات المدلول عليه بمنقول الإجماعات ، بل كاد أن يكون جوازه من الضروريات والمسلمات ، مع كون نحو ذلك من العطيات من المصالح الخاصة ، حتى أن من نقل عنه الاحتياط والتوقف من ذلك لم يستند في وجه ذلك إلا لكون الجائر غاصبا ويده يد عدوان ، ولو كان متعينا صرفه في المصالح العامة لكان الاستناد إلى كونه من صرف المال في غير مصرفه وبذله لغير مستحقه أولى ، وليس إلا لكون جواز التناول عندهم من المسلمات

ودعوى أن ذلك سن باب (لنا المهنا وعليه الوزر) بعيدة جدا (١).

اللهم إلا أن يجاب عنها بما أشرنا إليه ـ سابقا ـ من كون إعطاء الجوائز الذي هو من لوازم الرئاسة محسوبا من المؤن معدودا من المصالح العامة ، فهو من قبيل (الاذن في الشي‌ء إذن في لوازمه).

وأما تمكن المرتضى والرضي وغيرهما من العلماء من تلك الأراضي ومعاملتهم لها معاملة أملاكهم ، فالظاهر أنها كانت من الاقطاعات التي قد تقدم الكلام فيها ، مع إمكان أن يكون على وجوه أخر من الصحة فلا يصلح أن يكون شاهدا له على صحة دعواه.

الأمر الثالث عشر : يلحق بالعمران : حريمها ومرافقها ، وان كانت مواتا لتبعيتها لها والحاجة إليها ـ كمطرح القمامة ومركض الخيل ومرعى المواشي ـ بما لا يخرج في البعد عن العادة ، ولعلها بحيث تسرح في الغداة وتروح في العشي.

الأمر الرابع عشر : لو فتحت بلدة بالعنوة من سمت ، وبالصلح من سمت آخر ـ كما وقع على ما قيل ـ في زمان الثاني في بعض بلاد الشام دخلها أبو عبيدة بالصلح من باب ، وخالد بن الوليد بالعنوة من باب

__________________

(١) مضمون حديث عن الإمام الصادق (ع) ذكره الشيخ في التهذيب برقم (٩٤٠).


آخر ، وكل لا يعلم بما فعله الآخر ، حتى التقى الفريقان عند كنيسة مريم فرقة بالسيف ، وفرقة بالأمان ، فهل هي من المفتوحة عنوة أو صلحا؟. لعل الظاهر انها ليست من العنوة ، لعدم تحقق تمامية الاستيلاء بها ، ولا عبرة بلوائح الفتح وعلاماته قبل أن تضع الحرب أوزارها ، كما لا عبرة بالكر والفر في الغلبة قبل ذلك ، ويحتمل أن يكون المدار ـ حينئذ ـ على ما فعله أمير الجيش.

الأمر الخامس عشر : في تعيين المفتوحة عنوة ، وما أخذ بها ـ وحيث لم تسعني المراجعة التامة إلى كتب التواريخ والسير ، فلا جرم اقتصرت في بيان ذلك على ما ذكره (الكركي في قاطعة اللجاج) لكونه مشتملا على جملة من كلمات الأصحاب ، وشطر من روايات الباب.

قال المحقق المذكور في (رسالته) (١) : «اعلم ، إن الذي ذكره الأصحاب من ذلك مكة ـ زادها الله شرفا ـ والعراق والشام وخراسان وبعض الأقطار ببلاد العجم.

وقد تقدم في بعض الأخبار السابقة : أن البحرين من الأنفال (٢).

فأما (مكة) : فإن للأصحاب في كونها فتحت عنوة أو صلحا خلافا ، أشهره أنها فتحت عنوة ، قال الشيخ في (المبسوط) : ظاهر المذهب أن النبي (ص) فتح مكة عنوة بالسيف ، ثم آمنهم بعد ذلك ،

__________________

(١) راجع هذا الكلام المنقول بطوله في المقدمة الرابعة في تعيين ما فتح عنوة من الأرضين من الرسالة المذكورة.

(٢) يشير إلى حديث سماعة بن مهران ـ كما في تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة باب الأنفال حديث (٣٧٣) : «قال : سألته عن الأنفال ، فقال كل أرض خربة أو شي‌ء كان للملوك ، فهو خالص للإمام ليس للناس فيها سهم ـ وقال ـ : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب».


وانما لم يقسم الأرضين والدور ، لأنها لجميع المسلمين قاطبة ومنّ النبي على رجال من المشركين فأطلقهم ، وعندنا أن للإمام عليه السلام أن يفعل ذلك ، وكذلك أموالهم منّ عليهم بها.

وقال العلامة ـ رحمه الله ـ في (التذكرة) : وأما أرض مكة فالظاهر من المذهب أن النبي (ص) فتحها بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك. وكذا قال في (المنتهى) ، ونحوه قال في (التحرير). وشيخنا في (الدروس) لم يصرح بشي‌ء.

واحتج العلامة على ذلك : بما رواه الجمهور عن النبي (ص) : أنه قال لأهل مكة ما تروني صانعا بكم؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم فقال : أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) أنتم الطلقاء.

ومن طرق الخاصة : بما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : «ذكرنا له الكوفة ـ إلى أن قال ـ : إن أهل الطائف أسلموا وجعل عليهم العشر ونصف العشر ، وإن مكة دخلها رسول الله (ص) عنوة ، وكانوا أسراء بيده فأعتقهم وقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء» (١).

وأجاب عن حجة القائلين بأنها فتحت صلحا ـ حيث أن النبي (ص) ـ دخلها بأمان ـ بما ورد في قصة العباس وأبي سفيان ، وقوله (ص) لأهل مكة : (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) إلا جماعة معينين وأنه (ص) لم يقسم أموالهم ولا أراضيهم : بأنه ـ على تقدير تسليم ذلك ـ إنما لم يقسم الأرضين والدور ، لأنها لجميع المسلمين لا يختص بها الغانمون ، على ما تقرر : من أن الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين ـ قاطبة ـ والأموال والأنفس يجوز أن يمن عليهم بها ، مراعاة للمصلحة ، لأن للإمام

__________________

(١) ذكره الشيخ في التهذيب ، كتاب الخمس باب الخراج عمارة الأرضين.


أن يفعل مثل ذلك. وهذا قريب من كلام (المبسوط).

وأما أرض العراق ـ وهي التي تسمى بـ (أرض السواد) وهي المفتوحة عنوة من أرض الفرس التي فتحت في أيام الثاني.

فلا خلاف في أنها فتحت عنوة. وإنما سميت (سوادا) لأن الجيش لما خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها (السواد) لذلك كما ذكره العلامة في (المنتهى والتذكرة).

قال في (المبسوط) ـ وهذه عبارته ـ : «وأما أرض السواد» فهي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها (عمر) وهي سواد العراق. فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر : أميرا ، وابن مسعود : قاضيا وواليا على بيت المال ، وعثمان بن حنيف ماسحا ، فمسح عثمان الأرض. فاختلفوا في مبلغها : فقال الساجي : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب (١) ، وهي ما بين (عبادان والموصل (٢)) ـ طولا ـ وبين (القادسية

__________________

(١) الجريب ـ من الأرض والطعام ـ : مقدار معلوم ونقل عن قدامة الكاتب أنه ثلاثة آلاف وستمائة ذراع ، وقيل : إنه عشرة آلاف ذراع (أقرب الموارد).

(٢) عبادان ـ بتشديد ثانية وفتح أوله : تحت البصرة قرب البحر الملح ، فان دجلة إذا قاربت البحر انفرقت فرقتين عند قرية تسمى (المحرزي) ففرقة يركب فيها إلى ناحية البحرين نحو بر العرب وهي اليمن ، فأما اليسرى فيركب فيها إلى سراف وجنابة فارس ، فهي مثلثة الشكل ، وعبادان في هذه الجزيرة التي بين النهرين فيها مشاهد ورباطات وهي موضع ردي‌ء سبخ لا خير فيه وماؤه ملح.

الموصل ـ بالفتح وكسر الصاد ـ : المدينة المشهورة العظيمة ، إحدى قواعد بلاد الإسلام ، فهي باب العراق ومفتاح خراسان .. قالوا. وسميت (الموصل) لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق ، وقيل : وصلت بين دجلة والفرات (معجم البلدان للحموي).


وحلوان (١)) ـ عرضا ـ ثم ضرب على كل جريب نخل ثمانية دراهم ، والرطبة : ستة ، والشجر : كذلك ، والحنطة : أربعة ، والشعير : درهمين وكتب إلى عمر فأمضاه.

وروي : أن ارتفاعها كان في عهد عمر مأة وستين ألف ألف درهم فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، رجع إلى ثلاثين ألف ألف في أول سنة ، وفي الثانية بلغ ستين ألف ألف ، فقال : ان عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيام عمر ، فمات في تلك السنة.

وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام. ثم لما أفضى الأمر إليه أمضى ذلك لأنه لا يمكنه أن يخالف ويحكم بما عنده.

والذي يقتضيه المذهب : أن هذه الأرضين وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة يكون خمسها لأهل الخمس ، وأربعة أخماسها تكون للمسلمين ـ قاطبة ـ : الغانمون وغير الغانمين في ذلك سواء ، ويكون للإمام (ع) التصرف فيها ، وتقبيلها وتضمينها بما شاء» ـ هذه عبارته بحروفها.

__________________

(١) القادسية : بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخا وبينها وبين العذيب أربعة أميال. وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد بن أبي وقاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب في سنة ١٦ من الهجرة. وحلوان ـ بالضم ثم السكون هي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد .. وكانت مدينة كبيرة عامرة قال أبو زيد : أما حلوان فإنها مدينة عامرة ليس بأرض العراق بعد الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسر من رأى أكبر منها .. وأما فتحها ، فان المسلمين لما فرغوا من جلولاء ضم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وكان عمه سعد قد سيره على مقدمته إلى جرير بن عبد الله في خيل ورتبه بجلولاء ، فنهض إلى حلوان فهرب يزد جرد إلى أصبهان ، وفتح جرير حلوان صلحا .. وذلك سنة ١٩ من الهجرة (معجم البلدان للحموي باقتضاب).


وقال في (المنتهى) ـ وهذه عبارته ـ : «أرض السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطاب ، وهي سواد العراق وحده في العرض : من منقطع الجبال (بحلوان) إلى طرف (القادسية) المتصل بـ (العذيب) من أرض العرب. ومن تخوم (الموصل) طولا إلى ساحل البحر ببلاد (عبادان) من شرقي دجلة. وأما الغربي الذي تليه البصرة ، فإنما هو إسلامي مثل شط عمر بن أبي العاص ـ إلى أن قال ـ وهذه الأرض فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب ، ثم بعث إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس : عمار بن ياسر على صلاتهم أميرا ، وابن مسعود قاضيا ، وواليا على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وفرض لهم في كل يوم شاة ، شطرها مع السواقط لعمار ، وشطرها للأخيرين ، وقال : ما أرى قرية تؤخذ منها كل يوم شاة إلا سرع في خرابها. ومسح عثمان ارض الخراج ، واختلفوا في مبلغها : فقال الساجي : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب ، وقال أبو عبيدة : ستة وثلاثون ألف ألف جريب ، ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم ، وعلى الكرم ثمانية دراهم ، وعلى جريب الشجر والرطبة سبعة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم ، وعلى الشعير : درهمين. ثم كتب بذلك إلى عمر فأمضاه. وروى : أن ارتفاعها كان في عهد (عمر) مأة وستين ألف ألف درهم ، فلما كان في زمن الحجاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز ..» ثم ساق باقي كلام الشيخ السابق بحروفه ما زاد فيه ولا نقص.

وكذا صنع نحوه في (التذكرة) ـ في باب الجهاد ، وأعاد القول بفتح السواد عنوة في باب إحياء الموات. ومثل ذلك صنع في كتاب الجهاد من (التحرير).

ولم يحضرني في وقت كتابتي (هذه الرسالة) : هذا الموضع من (كتاب السرائر) لابن إدريس لأحكي ما فيه. لكن ـ في باب أحكام


الأرضين من كتاب الزكاة ـ ذكر : أن أرض العراق مفتوحة عنوة ، وذكر من أحكامها قريبا من كلام الأصحاب الذي حكيناه.

وروى الشيخ بإسناده عن مصعب بن يزيد الأنصاري ـ وأورده ابن إدريس ـ رحمه الله ـ في السرائر ، والعلامة في المنتهى ـ : «قال استعملني أمير المؤمنين علي (ع) أربعة رساتيق (١) : المدائن (والبهقباذات) (٢) ونهر سير ، ونهر جوير ، ونهر الملك (٣) ، وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهما ونصفا ، وعلى كل جريب وسط : درهما ، وعلى كل جريب زرع رقيق : ثلثي درهم ، وعلى كل جريب كرم : عشرة دراهم. وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى : لمارة الطريق وابن السبيل ، ولا آخذ منه شيئا. وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب : على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهما ، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل رجل أربعة

__________________

(١) جمع (رستاق) هو (الرزداق) ـ بالضم ـ : السواد والقرى والسطر من النخل (القاموس).

(٢) البهقباذات ثلاثة : أ ـ الأعلى ، ويشمل بابل والفلوجة العليا والسفلى وبهن أردشين وإيزقبار وعين التمر ، ب ـ الأوسط ، ويشمل نهر البدأة وسوداء وبربيسما وباروسما ونهر الملك. ج ـ الأسفل ، ويشمل خمسة طساسيج ، كانت على الفرات الأسفل حيث يدخل البطائح.

(٣) نهر سير : من طساسيح كورة أستان أردشير بابكان وهي على امتداد نهر كونى والنيل. ونهر جوير هي أيضا من طساسيج كورة أستان أردشير بابكان : ونهر الملك : هو أحد الأنهر التي كانت تحمل من الفرات إلى دجلة ، وأوله عند قرية الفلوجة ، ومصبه في دجلة أسفل من المدائن بثلاثة فراسخ. (باقتضاب عن معجم البلدان للحموي).


وعشرين درهما ، وعلى سفلتهم وفقرائهم : اثني عشر درهما على كل إنسان منهم. قال : وجبيتها (١) ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة».

قال الشيخ : توظيف الجزية في هذا الخبر لا ينافي ما ذكرناه : من أن ذلك منوط بما يراه الامام من المصلحة ، فلا يمنع أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام رأى المصلحة في ذلك الوقت وضع هذا المقدار ، وإذا تغيرت المصلحة إلى زيادة ونقصان غيّره ، وانما يكون منافيا لو وضع ذلك عليهم ونفى الزيادة عليه والنقصان في جميع الأحوال. وليس ذلك في الخبر (٢).

قلت : ومثله القول في الخراج منوط بالمصلحة وعرف الزمان ـ كما يأتي ـ ان شاء الله. وهذا التقدير ليس على سبيل التوظيف ، بل بحسب مصلحة الوقت.

واعلم أن الذي أوردته من لفظ الحديث : هو ما أورده الشيخ ـ رحمه الله ـ في (التهذيب) ، لكن ، وجدت نسخة مختلفة العبارة في إيراد (الرساتيق) المذكورة ، فهي في بعضها : (نهرسربا) بالباء الموحدة والسين المهملة المكسورة ، و (نهر جوير) بالنون والجيم المفتوحة والياء المثناة من تحت بعد الواو المكسورة. وفي بعضها : (جوبر) بالجيم والباء الموحدة بعد الواو المكسورة.

وقال ابن إدريس ـ بعد أن أورد الحديث في (السرائر) بعطف (البهقباذات) على (المدائن) بالواو : «نهرسربا ـ بالباء المنقطة تحتها نقطة واحدة ، والسين غير المعجم ، هي المدائن. والدليل على ذلك : أن الراوي قال : استعملني على أربعة رساتيق ثم عد خمسة ، وذكر المدائن ثم ذكر من جملة الخمسة : نهرسربا ، فعطف على اللفظ دون المعنى»

__________________

(١) هذا نقل مضمون كلام الشيخ في (التهذيب ، كتاب الزكاة ، ٣٤ باب الخراج وعمارة الأرضين) بعد ذكره للحديث المذكور.

(٢) في بعض النسخ الخطية والمطبوعة : (وحسبناها).


ثم شرع في بيان جواز مثل هذا العطف ـ إلى أن قال ـ : «فأما البهقباذات فهي ثلاث : البهقباذ الأعلى ، وهو ستة طساسيج» ثم ذكر أسماءها والبهقباذ الأوسط أربعة طساسيج ـ ثم ذكر أسماءها ، والبهقباذ الأسفل خمسة طساسيج ـ وصنع مثل ذلك. والذي وجدته في نسخ (التهذيب) : (المدائن البهقباذات) بغير واو (١) كما وجدت في نسخة (التهذيب) ..

ثم ذكر كلاما لا حاجة لنا في نقله ـ ثم قال ـ : وأما أرض الشام ، فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعض الأصحاب ، وممن ذكر ذلك العلامة في ـ كتاب احياء الموات من التذكرة ـ ولكن لم يذكر حدودها. وأما البواقي ، فقد ذكر حكمها قطب الدين الراوندي في (شرح نهاية الشيخ) ، وأسنده إلى (المبسوط) ، وهذه عبارته : والظاهر على ما في المبسوط ـ أن الأرضين التي هي من أقصى خراسان إلى كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين وما حواليها أخذت بالسيف.

هذا ما وجدته ـ فيما حضرني من كتب الأصحاب ، والله أعلم بالصواب ـ» (٢) انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

هذا تمام الكلام في عامرة المفتوحة عنوة.

وأما مواتها : فهي للإمام عليه السلام على المشهور شهرة عظيمة ، بل الإجماع عليه مستفيض النقل. مضافا ـ إلى المعتبرة المستفيضة الدالة

__________________

(١) وكذلك وجدنا النسخة المصححة المطبوعة في النجف الأشرف سنة ١٣٧٩ ه‍.

(٢) إلى هنا ينتهي نقل ما في رسالة المحقق الكركي بنصها المدرج في المقدمة الرابعة منها.


على أن موات الأرض من الأنفال للإمام (١) وعمومها الشامل لموات (العنوة) وغيرها. وان كان معارضا بالعموم من وجه ، لعموم أخبار حكم (المفتوحة عنوة) من كونها للمسلمين عامرة كانت أو مواتا ـ إلا أنه مرجح على عموم أخبار (العنوة) بالشهرة العظيمة والإجماعات المستفيضة.

ثم إن مقتضى كون الموات ـ مطلقا ـ من الأنفال للإمام عليه السلام يشكل الحكم بكون المحياة عند الفتح على إطلاقه للمسلمين ، لأن ما كان منها محياة بعد شرع الأنفال إلى وقوع الفتح كان إحياء لملك الامام (ع) ـ حينئذ ـ بغير إذنه وغاصبا في تصرفه ، والمغصوب من الغنائم مردود إلى صاحبه.

فلا بد في التخلص عنه من ارتكاب أحد المحاذير الثلاثة : إما بتخصيص العام المحكوم بكونه للمسلمين بما كان عامرا قبل شرع الأنفال ـ كما اختاره شيخنا في الجواهر ، في الأنفال من كتاب الخمس (٢) ـ ونفي عنه البعد

__________________

(١) الروايات الدالة على ذلك كثيرة ، يستعرضها الحر العاملي في وسائله كتاب الخمس أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ، من ذلك : رواية حماد بن عيسى عن العبد الصالح (ع) ـ في حديث طويل ـ : وللإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأصول ـ إلى أن قال ـ : وله بعد الخمس الأنفال ، والأنفال كل خربة باد أهلها ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .. وله رءوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها ..». ويأتي من سيدنا المصنف استعراض تلك الروايات بعنوان المقالة الرابعة في أرض الأنفال.

(٢) قال ـ فيما يلحق بذلك من المقصد الأول في الأنفال ـ : «. وإطلاق الأصحاب والأخبار ملكية عامر الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين يراد به ما أحياه الكفار من الموات قبل أن جعل الأنفال لنبيه (ص) وإلا فهو له أيضا وان كان معمورا وقت الفتح ..».


بعد أن احتمله الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين) ، أو بكون الأحياء ـ مطلقا ـ من الأسباب المملكة لها إلى المحيي ، أو بتخصيص ما دل على كون المغصوب مردودا بغير المغصوب من الامام.

والكل كما ترى ، لا يمكن الالتزام بواحد منه.

أما الأول ، فلعدم الاشعار به في شي‌ء من الأخبار ، وكلمات الأصحاب ، المشحونة كتبهم بجعل الميزان عندهم في كونه للمسلمين المحياة عند الفتح وعدمه ، لا قبل شرع الأنفال وبعده. ولم نعثر على من تفوه بذلك عند ذكر أحكام (المفتوحة). بل اعترف بذلك شيخنا في (الجواهر) في كتاب إحياء الموات (١). مع أنه يشكل فيما كان مشكوكا عمارته بعد شرع الأنفال أو قبله ـ الحكم بكونه للمسلمين ، لعدم ثبوت العمارة قبله. سيما مع أصالة تأخر الحادث. فلا يثبت بها الموات عند شرع الأنفال ، حتى يحكم به للإمام ، لأنها من الأصول المثبتة. فلا يثبت بالأصل كل من العنوانين الوجوديين : المحياة قبل شرع الأنفال ، والموات عنده. بل الأصل يقتضي عدم الأول ، ولا يثبت به الثاني.

وأما الثاني ، فلأن سببية الإحياء لتملك المحيي مشروطة ـ نصا وإجماعا ـ بإذن الإمام ـ عليه السلام ـ المفقود في المقام.

ودعوى كفاية الإذن العمومي المحقق بعمومات أخبار الإحياء.

فيها ـ أولا منع شمولها للكفار ، لتقييد بعضها بالمسلمين ، كصحيحة الكابلي : عن الباقر (ع) : «قال : وجدنا في كتاب علي (ع) : أن

__________________

(١) قال ـ في أوائل الكتاب مع درج كلام المحقق ـ : «وكيف كان فلا خلاف أجده في أن عامر الأرض المفتوحة عنوة وقهرا وقت الفتح للمسلمين قاطبة ـ إلى قوله ـ : وما كان منها مواتا وقت الفتح فهو للإمام بلا خلاف أجده فيه ..».


الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ، ونحن المتقون والأرض كلها لنا. فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها الى الامام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف ، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا ، فيقاطعهم على ما في أيديهم ، ويترك الأرض في أيديهم ..» الحديث (١).

ولعل القيد ـ هنا ـ من القيود الاحترازية ، كالواقعة في الحدود ، وموارد إعطاء القاعدة ، فينزل عليها إطلاق الأخبار الواردة ـ مطلقا ـ في سببية الإحياء للملكية.

وثانيا ـ توقفه على اذن الامام في حال الحضور اتفاقي ـ كما ستعرف ـ ولولاه لم يبق مورد لاعتبار إذن الامام في سببية الإحياء ، إذ لم ينفك الاذن منه في زمن النبي (ص) المنقول عنه بعض تلك الأخبار.

وثالثا ـ لو تنزلنا وسلمنا ، فيكون المعيار ـ حينئذ ـ في الحياة والموات الموجبين لكونه للمسلمين أو للإمام : هو زمان صدور الاذن منه بالاحياء ، لا زمان الفتح ولا زمان نزول آية الأنفال. وهو ـ كما ترى ـ من سخيف الأقوال.

__________________

(١) راجع : الحدائق الناضرة للبحراني ج ١٢ ص ٤٣٥ كتاب الخمس طبع النجف الأشرف. وراجع التهذيب للشيخ الطوسي ، كتاب التجارات ١١ باب أحكام الأرضين. وسقط من تمام الحديث بين كلمة (وله ما أكل منها) وبين كلمة (حتى يظهر القائم) هذه الجملة : وان تركها وأخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها. فليؤد خراجها الى الامام من أهل بيتي ، وله ما أكل حتى ..


وأما الثالث : فلأن المغصوب من مسلم أو مسالم مردود عليه ، فكيف بالمغصوب من امام المسلمين؟.

واحتمال العطية منه ـ عليه السلام ـ للمسلمين بعد رد المغصوب اليه فيكون تملكهم من الامام ـ عليه السلام ـ بالعطية لا من الكفار بالعنوة.

يدفعه ظهور أخبارهم في النصوص بكونها لهم بالأصل لا بالعطية منهم.

اللهم إلا أن يجاب عن الاشكال باليد بدعوى أن محياة الأرض عند الفتح مما هي تحت يد الكفار محكومة بالملكية لهم باليد التي لم يفرق في كونها إمارة عليها بين المسلم والكافر بعد إمكان الصحة بنحو من الوجوه التي منها إحياؤها قبل شرع الأنفال ، فإذا كانت عند الفتح محكومة لهم بالملكية كانت بالفتح للمسلمين ، وهو حسن ، غير أن مفاده حكم ظاهري لا يتمشى في مورد لو فرض العلم بحدوث عمارته بعد شرع الأنفال.

أو يجاب عنه بدعوى منع دخول الموات التي تحت يد الكفار المستولين عليها في الأنفال حتى يشكل الخروج عنه بإحياء الكفار لها بعد تقييد الموات التي للإمام بما لا رب لها ـ كما يأتي. ومقتضاه تنويع الموات عند شرع الأنفال واختصاص نوع منها ، وهو كل موات لا رب له ، بالإمام.

وفيه ـ مع أن الموات الأصلي لا تملك بمجرد الاستيلاء ، ووضع اليد عليها حتى لو كانت من المباحات إلا بالإحياء ـ كما يأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى ـ أنه لم يقم دليل في خصوص موات المفتوحة عنوة أنها منتقلة من الكفار الى الامام بالعنوة كالمحياة المنقولة منهم الى المسلمين بها ، بل الحكم بكونها للإمام ـ عليه السلام ـ مستفاد من العمومات الدالة على أن الموات له ـ بعد تقديمها على عمومات (المفتوحة عنوة)


للمسلمين ، حيث كان التعارض بينهما بالعموم من وجه. ومقتضاه ـ بعد الترجيح ـ أن ما كان للكفار من الأراضي وليس إلا المعمورة منها منتقلة بالعنوة الى المسلمين.

وأما الموات ، فمن أصلها للإمام ، وإلا كانت الأرض المفتوحة بتسميها ـ محياتها ومماتها ـ للمسلمين بحكم عمومات أخبار العنوة. واحتجنا في إخراج الموات منها إلى دليل خاص بالنسبة إليها بالخصوص. ومنه يعلم أن المملوكة من الأراضي للكفار حينما كانت الموات من المباحات قبل شرع الأنفال إذا عرض لها الموت بعده واستمر مواتا الى وقت الفتح كانت للمسلمين أيضا كالمحياة منها ، وليست من الموات التي لا رب لها حتى تكون للإمام ، بل هي كذلك حتى لو ماتت قبل الأنفال بعد أن كانت مملوكة عند شرعه ، بناء على سببية الإحياء للتملك ـ مطلقا ـ واختصاص الموات للإمام بما لا رب لها ـ مطلقا ـ ولو كان كافرا ـ فتأمل.

ولا ينافي ذلك كلامهم المنزل على الغالب باختصاص المحياة عند الفتح بالمسلمين ـ فافهم.

وكيف كان ، فالموات للإمام ـ عليه السلام ـ لا يجوز لأحد التصرف فيها إلا بإذنه ـ عليه السلام ـ ويشترط في تملكها بالإحياء ـ الإذن منه ، إجماعا محكيا في ظاهر (التذكرة) و (التنقيح) وصريح (الخلاف) و (جامع المقاصد) بل في (المسالك) : دعوى الاتفاق على اعتباره حال الحضور (١) ـ مضافا الى الأصل وقاعدة حرمة التصرف

__________________

(١) في أخريات كتاب الخمس ـ في شرح قول المحقق : مسائل : ـ الأولى ـ لا يجوز التصرف في ذلك بغير إذنه .. قال «.. أشار بذلك إلى الأنفال المذكورة ومنها ميراث من لا وارث له عندنا ، وظاهر العبارة تحريم التصرف في ذلك حالة حضوره وغيبته ..».


في مال الغير بغير إذنه ، ومقتضاه المنع بدونه مطلقا ولو في زمان الغيبة.

نعم ، يشكل ذلك بما ورد من أخبار إحياء الموات الدالة بظاهرها على سببية الإحياء للتملك من دون توقف على شي‌ء ، وهي مروية عند الفريقين مسلمة عند الطائفتين.

فمن طريق الجمهور : ما عن سعيد بن زيد : أن النبي (ص) قال : «فمن أحيى أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق» (١). وما عن عائشة : «قال رسول الله (ص) : من أحيى أرضا ليست لأحد فهو أحق بها» (٢). وما عن سمرة : «أن رسول الله (ص) قال : من أحاط حائطا على أرض فهي له» (٣).

ومن طرق الخاصة : ما رواه بن محمد بن مسلم : «في الصحيح عن الباقر ـ عليه السلام ـ قال : أيما قوم أحيوا أرضا ميتة أو عمروها فهم أحق بها وهي لهم» (٤). وما عن السكوني : «عن الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله (ص) : من غرس شجرا أو حفر بئرا لم يسبقه أحد اليه أو أحيى أرضا ميتة فهي له قضاء من الله عز وجل ورسوله» (٥) وفي الحسن : «عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبد الرحمن ابن أبي عبد الله عن الباقر والصادق عليهما السلام : «قال قال

__________________

(١) الجامع الصغير للسيوطي في مادة (من) ويذكر فقرته الأولى : المناوي في (كنوز الحقائق) في نفس المادة.

(٢) يذكره المناوي في (كنوز الحقائق) بمادة (من).

(٣) الجامع الصغير للسيوطي في مادة (من) بلفظ : من أعمر أرضا ..

(٤) تهذيب الشيخ الطوسي ، كتاب التجارات ، ١١ باب أحكام الأرضين حديث تسلسل (٦٧١ ـ ٢٠).

(٥) راجع نفس المصدر ، حديث تسلسل (٦٧٠ ـ ١٩).


رسول الله (ص) من أحيى أرضا مواتا فهي له» (١) الى غير ذلك.

وهذه الأخبار ـ كما تراها ـ ظاهرة في كون الأحياء سببا تاما في الملكية ، حتى أن بعض الأصحاب ـ بل لعل المشهور ـ لم يعتبر الاذن في الغيبة ، تمسكا بهذه العمومات.

وليت شعري ، إن استفيدت السببية التامة منها كان اللازم عدم اعتبار الاذن ـ مطلقا ـ حتى عند الحضور الذي هو زمن ورود هذه الأخبار ، وإلا فلا يسقط اعتباره بها في الغيبة.

فالقول بالتفصيل بين الزمانين ضعيف ، إلا أن يقال باشتراط الاذن في حال الحضور من جهة الإجماع المنقول في (الروضة) على اعتباره فيه بالخصوص. وعليه يحمل إطلاق معقد غيره من الإجماعات. وبه تخصص عمومات الأخبار.

هذا ، ويحتمل ـ قويا ـ أن يقال : مفاد هذه الاخبار هو الترخيص منهم بالإحياء ، فالإذن منهم حاصل بها مدلولا عليه بدلالة الاقتضاء إن لم نقل بالمطابقة أو التضمن ، فهو على حد قول مالك الدار : (من دخل داري فله كذا) المستفاد منه حصول الأذان بدخول الدار ، فلا ينافي اعتبار الإذن بالاحياء مطلقا في زمان الحضور والغيبة. غير أن الاذن منه حاصل بهذه العمومات. فالإذن من الامام معتبر ـ مطلقا ـ وهو حاصل منه كذلك.

وبذلك يجمع بين أخبار الأحياء ، وما دل على اعتبار الاذن : من إطلاقات معاقد الإجماعات ، وقاعدة حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه.

لكن يشكل ـ حينئذ ـ من جهة أخرى ، وهي أن الترخيص بالاحياء

__________________

(١) راجع : نفس المصدر ، حديث تسلسل (٦٧٣ ـ ٢٢).


الموجب للملكية المفروض حصوله من النبي (ص) ، مستلزم لنقض الغرض من شرع الموات من الأنفال ، المقصود به التوسعة في مال النبي (ص) والامام ، ضرورة أن الأرض ما دامت ميتة لا ينتفع بها ، فإذا أحييت ملكها المحيى ، فمتى يكون ذلك توسعة في ماله (ع)؟ وهو مناف للغرض المقصود من تشريعه.

اللهم إلا أن يقال : إن الاذن الصادر من أحدهم ـ ولو بالعموم ـ بنحو «من أحيى أرضا» لا ينفذ على الامام الآخر ، غير الصادر منه ذلك. إذ ليس الاذن هنا وبيان الترخيص فيه من قبيل الأحكام الإلهية المعلوم في بيانها أنهم لسان واحد ، بل هو إذن مالكي في التصرف في ملكه فان انتقل الملك من أحدهم إلى آخر توقف التصرف فيه على إذن المنتقل اليه ورضاه.

نعم ، من أحيى في زمن الصادر منه الإذن بالاحياء بعد صدوره منه ، ملكها بالاحياء. واما قبله ، أو في زمان من لم يصدر منه ، فيحتاج إلى الاستيذان منه ـ عليه السلام. وحينئذ لا تنفع العمومات في زمان الغيبة ، وان استفيد الاذن منها ، إلا إذا ورد نحوها من الحجة ـ عجل الله فرجه.

وحينئذ ، فيبقى الإشكال في التملك به في زمن الغيبة. إلا أن يتشبث للشيعة بأخبار التحليل ، سيما بالنسبة إلى أراضيهم الواردة منهم في إباحتها لهم ـ أخبار كثيرة ، وغيرهم لا يملكونها بالاحياء ، لفقدان الشرط وهو الإذن بالنسبة إليهم ، وإن وجب علينا ترتيب أحكام الملكية الظاهرية لهم بالنسبة الى ما هي تحت أيديهم مما أحيوها كغيره مما استحلوه من أمواله ـ عجل الله فرجه.

مع إمكان أن يقال في الجمع بين أخبار الأحياء ، وما دل على توقف ،


التصرف في مال الغير على الطيب والرضا ، وعموم سلطنة الناس على أموالهم ـ بعد أن كان التعارض بينهما بالعموم من وجه ـ بوجه آخر. وهو منع إفادة أخبار الإحياء التملك المجاني من دون أن يكون للإمام عليه السلام فيه حق ، فيكون للإمام عليه السلام فيه بحسب ما يقاطع المحيى عليها في زمان حضوره وبسط يده ، ومع عدمه فله أجرة المثل. ولا ينافي ذلك نسبة الملكية إلى المحيي في أخبار الأحياء. وان هي إلا جارية مجرى كلام الملاكين للفلاحين في العرف العام عند تحريضهم على تعمير الملك من عمرانها أو حفر أنهارها وكرى سواقيها ، فهي له ، الدالة على أحقيته من غيره وتقدمه على من سواه ، لا على نفي الملكية من نفسه وسلب المالكية عن شخصه. فالحصة الراجعة إلى الملاك المعبر عنها (بالملاكة) مستحقة له غير منفية عنه ، وان أضاف الملك إليهم عند الترخيص والاذن العمومي ، غير أن الشيعة محللون بالنسبة إلى ما يرجع إلى الامام مما يستحقه من أجرة المثل أو حصة (الملاكة) ويشهد لما ذكرنا من الأخبار : صحيحة الكابلي المتقدمة المتضمنة لتعلق الخراج والطسق للإمام عليه السلام في المحياة من أراضيهم ممتدا إلى ظهور القائم بالسيف (١).

وصحيحة عمر بن يزيد ، وفيها : «وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم محللون ، كل ذلك حتى يقوم قائمنا ، فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم ، وأما ما كان في أيدي غيرهم فان كسبهم من

__________________

(١) وهي مفصلة ، راجعها في : وسائل الحر العاملي ، الباب ٣ من (إحياء الموات) ، وفي الحدائق الناضرة كتاب الخمس ج ١٢ ص ٤٣٥ طبع النجف الأشرف وتقدم ذكرها في هذا الكتاب ص ٢٢٨.


الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا ، فيأخذ الأرض من أيديهم (١).

ورواية يونس ـ أو المعلى ـ : «ما لكم في هذه الأرض؟ فتبسم ـ إلى أن قال ـ : فما سقت ـ أو استقت ـ فهو لنا ، وما كان لنا فهو لشيعتنا» (٢).

المقالة الثانية ـ في أرض الصلح.

ويعبر عنها بـ (أرض الجزية) وأرض الذمة. وهي كل أرض لهم فتحت صلحا : أما على أن الأرض لهم والجزية فيها عليهم. وإما على أنها للمسلمين ، والجزية في أعناقهم.

فهي ـ بهذا الاعتبار ـ تنقسم على قسمين :

قسم منها ـ وقوع الصلح معهم على أن أرضهم لهم والجزية فيها بحسب ما يصالحهم الإمام أو نائبه : من النصف أو الثلث أو غير ذلك وله الزيادة والنقيصة ، ولكن بعد انقضاء مدة الصلح ، لأنه من الصلح الجديد يتبع نظره فيه.

وهذه الأرض التي وقع الصلح مع أهلها كذلك ، ملك لأربابها يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، ليس عليهم منها شي‌ء سوى الضريبة المضروبة فيها بالصلح حتى الزكاة ، لأن مقتضاه إقرارهم على أديانهم ومعتقداتهم الذي منه عدم وجوب الزكاة عليهم.

والظاهر أن مواتها للإمام عليه السلام كموات (العنوة) إلا إذا اندرجت

__________________

(١) راجع : الحدائق الناضرة للبحراني ، كتاب الخمس ج ١٢ ص ٤٣٥ طبع النجف الأشرف ، ولقد مر ذكرها في هذا الكتاب ص ٢٢٦.

(٢) المقصود : يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس. والرواية مفصلة ، ذكرها البحراني في (الحدائق الناضرة كتاب الخمس ، ج ١٢ ص ٤٢٤) طبع النجف الأشرف.


في الصلح ، فتكون لهم يملكونها بالاحياء. وحيث كانت الأرض مملوكة لهم ، جاز لملاكها بيعها وسائر النواقل فيها ، لعموم السلطنة. وحينئذ ، فلو باعها من غيره كان الخراج على البائع منتقلا من الأرض إلى ذمته على المشهور شهرة عظيمة. بل عن ظاهر (الغنية) : الإجماع عليه (١) بل كاد أن يكون مما لا خلاف فيه ، إلا ما يحكى عن الحلبي حيث أوجبه على المشتري لأنه حق على الأرض فيجب على من انتقلت اليه. وفيه منع تعلقه بها مطلقا ، ومن حيث هي ، بل متعلق بها من حيث كونها للكافر المطلوب منه الجزية المضروبة في نوع مخصوص من ماله ، فاذا انتقل منه انتفى التعلق ، وموضوعه الخاص.

نعم ، ربما يشهد له من الأخبار : صحيحة ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام : عن شراء أهل الذمة ، فقال : «لا بأس ، فيكون ذلك إذا كان ذلك بمنزلتهم» ونحوها : أخرى مضمرة «يؤدي كما يؤدون» (٢). وخبر ابن شريح المتقدم ـ وفيه : «سألت أبا عبد الله عليه السلام

__________________

(١) قال ابن زهرة في آخر كتاب الخمس من (الغنية) المطبوع ضمن مجموعة (جوامع الفقه) : «وأما أرض الصلح فهي أرض الجزية .. وتسمى الخراجية ، وقد بينا أن ذلك يختص بأهل الكتاب وهذه الأرض يصح التصرف فيها لأربابها .. وإذا بيعت الأرض لمسلم يسقط خراجها ، وانتقلت الجزية إلى رأس بائعها به ـ الى قوله ـ : ودليل ذلك كله الإجماع المتكرر وفيه الحجة».

(٢) الحديث الموجود في (تهذيب الشيخ الطوسي ، كتاب الخمس ، باب الأنفال ـ في الزيادات حديث (٤٠٨) هكذا : «وعنه عن علي عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : سألته عن ذلك فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدى عنها كما يؤدي عنها» وتقدم ذكر الخبر في هذا الكتاب ص ٢٤١.


عن شراء أهل الخراج ، فكرهه ، وقال : إنما أرض الخراج للمسلمين فقال : إنه يشتريها الرجل وعليه خراجها؟ قال : لا بأس إلا أن يستحي من عيب ذلك» (١) بناء على أن الوجه في الاستحياء المستثنى هو التشبه بهم في إعطاء الجزية ، فتكون قرينة على إرادة أرض الذمة من أرض الخراج المسؤول عنه في صدر الخبر.

إلا أنها مع كون الثانية مضمرة موهونة بإعراض الأصحاب عنها ـ غير مكافئة لدليل المشهور : من الإجماع المعتضد بالشهرة العظيمة ، بل بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه إلا منه.

فلتحمل على ما لا ينافي ذلك من المحامل التي منها ـ إرادة الأراضي الخراجية والترخيص في شراء آثارهم فيها ، ومنها ـ الحمل على ما لو شرط عليه ذلك ، بناء على شمول أدلة الشروط له ـ ومنها ـ إرادة الإشارة بقوله : «إذا كان ذلك في الأولى» الى ظهور الحجة ـ عجل الله فرجه ـ دون البيع والشراء ـ كما حكاه عن الوافي في مفتاح الكرامة.

وفيه ـ أيضا ـ احتمال إرادة الاستحياء من الجائر بمطالبة الخراج دون التشبه بهم في الجزية. وإن كان فيهما بعد.

وعلى كل حال ، فالحق ما عليه المشهور : من انتقال الخراج إلى ذمة البائع ـ مطلقا ـ وإن كان المشتري من أهل الذمة ، إذ لا يجب عليه دفع الجزية عن الغير وتحمل جزيتين ، وإن كان هو من أهل الجزية. وإن كان في بعض العبارات تقييد ذلك بالمسلم ، والاستدلال عليه بأنه جزية ، وهي منتفية عنه ، إلا أن نظرهم في مقابل الحلبي المطلق ، لكونه على المشتري ، لأنه حق على الأرض ، فيجب على من انتقلت اليه. هذا ، ومثله في الانتقال إلى ذمة البائع في البيع : الانتقال إلى ذمة

__________________

(١) راجع ص ٢١٢ من هذا الكتاب.


المؤجر لو آجرها للغير ، فإن الأجرة له والخراج عليه من غير خلاف محقق إلا عن الحلبي فيه ـ أيضا ـ وهو على أصله : من أنه حق على الأرض ولو في منفعتها ، فيجب على من انتقلت اليه.

نعم في (الجواهر) حكى الخلاف فيه عن (التذكرة) و (التحرير) (١) وان كنا لم نتحققه ولعله لبعض نسخ الأول حيث فيها «ويجوز للمسلمين استيجارها منهم لأنها ملك له.

وتكون الأجرة والخراج عليه» (٢) انتهى مستشعرا من عطف الخراج على الأجرة المعلوم كونها على المستأجر.

وفيه : إن الظاهر سقوط لفظ (له) بعد (الأجرة) فيكون الخراج على من له الأجرة ، وهو الكافر المؤجر ـ كما في بعض النسخ المصححة.

ويؤيده : ما في (المنتهى) : «فاذا آجرها كانت الأجرة له والخراج عليه» ومثله في (التحرير) (٣) فلم يتبين منه القول بالتفصيل بين البيع

__________________

(١) قال ـ رحمه الله ـ في كتاب الجهاد ـ في شرح قول المحقق : وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها .. «.. هذا كله أي بيع الأرض وغيره من تصرف الملاك لو صولحوا على أن الأرض لهم ، وفي ملكهم يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم ، إذ هو كالصريح في عدم تعلق حق للمسلمين فيها ، لا في العين ولا في المنفعة ، وحينئذ يتجه اشتغال ذمة البائع بعوض الصلح ، وأولى بذلك ما لو آجرها من في يده فإن الأجرة له وعوض الصلح عليه ، لكن في (التذكرة) و (التحرير) : أنه على المستأجر ، كما عن الحلي ..».

(٢) هذه الجملة بنصها في (التذكرة) المطبوعة في إيران ، راجع : كتاب الجهاد ، البحث الثالث في أحكام الأرضين ، مسألة ـ إذا نزل الامام على بلد فحاصره ..

(٣) وتمام الجملة في (منتهى العلامة) كتاب الجهاد ، البحث الثالث في أحكام الأرضين ، القسم الرابع أرض الأنفال ، مسألة إذا نزل الامام على بلد


والإجارة. بل قد يقال بأولويتها منه على القول بكون الخراج على البائع.

ثم ليعلم : إن مصرف هذا الخراج مصرف منقول الغنيمة ـ على ما طفحت به عبارات الأصحاب ، لكونه مأخوذا منه بنوع من (العنوة) فيخرج منه الخمس ـ أولا ـ ثم يعطى الباقي للمجاهدين ولو كان مأخوذا بالأقساط والدفعات ، وفي زمن الغيبة للمتشبهين بهم من الجند والعسكر وحماة الثغور ، لأنهم ـ اليوم ـ في الحقيقة بمنزلة المجاهدين في مصافهم في قبال الكفار أو أقرب ما يكون إليهم ، ولا أرى وجها للدفع الى الفقراء مع وجودهم ـ كما يظهر من السرائر ـ حيث قال : «وكان المستحق للجزية على عهد الرسول (ص) المهاجرين دون غيرهم ـ على ما روي ـ وهي ـ اليوم ـ لمن قام مقامهم مع الإمام في نصرة الإسلام والذب عنه ولمن يراه الامام من الفقراء والمساكين من سائر المسلمين» (١).

ولعله للأصل : وفيه أنه ـ لو سلم ـ فمقطوع بما رواه الشيخ في الصحيح : (٢) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال : سألت عن سيرة الإمام ـ عليه السلام ـ الى أن قال ـ : إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية إنما الجزية عطاء المهاجرين والصدقات لأهلها الذين سمى الله تعالى

__________________

فحاصره .. الى قوله : ويجوز للمسلم استيجارها منهم لأنها ملك له فجاز له ان يلزمها كما يجوز له أن يؤجر فرسه ، فاذا آجرها ..».

ومن (التحرير للعلامة) راجع : كتاب الجهاد أيضا ، الفصل الرابع في الغنيمة ، القسم الثالث في الأرضين (الرابع ـ أرض الأنفال إذا نزل الامام على بلد فحاصره .. يقول : «.. ويجوز للمسلم استيجارها منهم وتكون الأجرة له والخراج عليه ..».

(١) راجع : سرائر ابن إدريس الحلي ، آخر كتاب الزكاة ، باب الجزية وأحكامها.

(٢) تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ـ ٣٣ ـ باب مستحق عطاء الجزية.


في كتابه ليس لهم في الجزية شي‌ء» الحديث. ومثله : صحيحة ابن أبي يعفور (١) فان الذين سماهم في آية الزكاة منهم الفقراء ، وقد نص فيه على أنه ليس لهم في الجزية شي‌ء.

ولعله لذا قيده في (القواعد) بقوله : وما يؤخذ صلحا أو جزية فهو للمجاهدين ، ومع عدمهم لفقراء المسلمين» انتهى (٢) وهو حسن.

هذا بالنسبة إلى الجزية المأخوذة عوض الصلح عن دفع القتال عن أنفسهم.

وأما جزية المعاوضة ، وهي المأخوذة على وجه المعاوضة لدخول بلاد الإسلام حقنا لدمائهم وصيانة لأموالهم ، فالقاعدة فيها مساواة المجاهدين مع غيرهم ، ولا وجه لاختصاصهم بها. وإن روي العطاء لهم على عهد الرسول (ص) فهو حكاية فعل لم يعلم منه الخصوصية لو فرض العلم بكونه كان من القسم الثاني منها ، ومورد الصحيحة المتقدمة هو القسم الأول. ولعل اللام في الجزية ، للعهد الذكري دون الجنس ، فالجزية المأخوذة من القسم الثاني راجعة إلى بيت مال المسلمين مصروفة في مطلق مصالحهم غير مختصة بالعامة منها ، إن لم يقم ـ كما هو الظاهر ـ دليل خاص على اختصاصها بالمجاهدين.

__________________

(١) ففي تهذيب الشيخ آخر كتاب الخمس ٣٩ باب الزيادات حديث رقم (٣٨٠ ـ ٢) : «عنه (أي محمد بن يعقوب) عن عدة من أصحابنا عن سهل ابن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) : إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية ، وإنما الجزية عطاء المهاجرين والصدقة لأهلها الذين سماهم الله في كتابه ، وليس لهم من الجزية شي‌ء ..».

(٢) راجع من قواعد العلامة : آخر كتاب الجهاد (خاتمة) ما يؤخذ من أموال المشركين ..


ومنه يظهر ما في (القواعد) من عطفه الجزية على الصلح ـ إن أريد تغايرهما.

وقسم آخر ـ وقوع الصلح معهم على أن تكون الأرض للمسلمين ولهم السكنى والجزية في أعناقهم فهي بحكم (المفتوحة عنوة) بل هي منها بلا خلاف أجده فيه ـ كما اعترف به بعضهم ـ فيكون عامرها للمسلمين ـ قاطبة ـ بعد إخراج الخمس منها ، ومواتها للإمام عليه السلام ، والجزية للمقاتلة.

ثم الظاهر عدم مشروعية الصلح الموجب لحقن الدم واحترام المال مع غير أهل الذمة من الكافر الحربي ، لعدم انفكاك الإباحة بالنسبة إلى دمائهم وأموالهم وعدم سقوطها إلا بالإسلام.

ومنه يظهر الوجه في تسمية هذه الأرض بأرض الجزية ، كما عن النهاية ، والغنية ، والوسيلة والمنتهى ، والسرائر ، والتذكرة ، وقاطعة اللجاج (١) وغيرها. بل عن الغنية ، والروضة وموضع من (النهاية): إن أرض الصلح هي أرض أهل الذمة. ولعل من أطلق العنوان بأرض الصلح كالمحقق في (الشرائع) و (النافع) وغيره ، اتكالا على المفروغية عنه ، دون التعميم.

نعم ، لا تمنع إجراء حكم الصلح الصحيح في مرحلة الظاهر إذا اقتضت مصلحة كلية بوقوع صورة الصلح معهم ، فيكف عن دمائهم وأموالهم مماشاة معهم في الظاهر ، إجراء لاقتضاء المصلحة دون عقد الصلح فلا يخرجون بذلك عن كونهم مهدورين في الواقع ، وإن كانوا محفوظين

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي ، والغنية لابن زهرة ، والوسيلة إلى نيل الفضيلة لابن حمزة. والمنتهى للعلامة ، والسرائر لابن إدريس الحلي ، والتذكرة للعلامة ، وقاطعة اللجاج للمحقق الثاني الكركي :


في الظاهر بسبب المصلحة. وهذا بخلاف الجزية الموجبة للحكم الواقعي في حقهم ما داموا قائمين بشرائط الذمة.

ولعله الى ما ذكرنا أشار المولى الأردبيلي ـ رحمه الله ـ في (شرح الإرشاد) بقوله : «هذا إنما يكون مع قوم يصح أخذ الجزية منهم وتقريرهم عليها وعلى دينهم ، وهو ظاهر ، وإن فعل مثل ذلك بغيرهم فلا يكون المأخوذ جزية ، ويكون ذلك صلحا لمصلحة يعلمها صاحبها (١) وعليه ينزل كلام شيخنا في (الجواهر) حيث قال ـ في وجه تسمية بعض أرض الصلح بأرض الجزية ـ : «ولعل المراد : أنه الذي وقع من النبي (ص) وإلا فالظاهر من المصنف وغيره عدم الفرق بينهم وبين غيرهم ، لعموم أدلة الصلح ، وليس ذلك من الجزية المختصة بأهل الكتاب ، اللهم إلا أن يدعى اختصاص مشروعية الصلح بهم كالجزية» انتهى (٢).

وبعد تحرير هذه الكلمات عثرت على عبارة (المنتهى) وهي : «مسألة إذا حاصر الامام حصنا لم يكن له الانصراف عنه إلا بأحد أمور خمسة : الأول ـ أن يسلموا ـ الى أن قال ـ : الثاني ـ أن يبذلوا مالا ، فان كان جزية ، وهم من أهلها قبلت منهم ، لقوله تعالى (حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣) وان لم تكن جزية بأن كانوا حربيين اعتبرت المصلحة فإن وجد الامام من المصلحة قبوله منهم ، وإلا فلا» انتهى.

المقالة الثالثة ـ في أرض من أسلم أهلها ـ طوعا كالمدينة المنورة ، والبحرين ، وبعض بلاد اليمن ـ على ما قيل ـ بدعوة كان إسلامهم أو بدونها

__________________

(١) راجع ـ في ذلك ـ كتاب الجهاد ، المطلب الثالث في الأرضين ـ في شرح قول العلامة في الإرشاد : (الثاني أرض الصلح لأربابها على الخصوص.)

(٢) راجع ذلك في كتاب الجهاد منه ـ أحكام الأرضين ـ في شرح قول المحقق (وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها.)

(٣) سورة التوبة ، آية ٢٩.


فهي لأهلها مملوكة لأربابها ، ليس عليهم فيها شي‌ء إلا الزكاة ـ إذا اجتمعت شرائطها ـ فلهم التصرف فيها بالبيع والشراء وغير ذلك من سائر النوافل ما داموا قائمين بعماراتها من غير خلاف فيه كذلك. وإذا أهملوها حتى خربت أخذها الإمام عليه السلام أو القائم مقامه ودفعها إلى من يعمرها بحصة منها : من النصف أو الثلث ـ مثلا ـ ويأخذ القبالة ويدفع منها طسقها (١) الى المالك ، والباقي في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم.

أفتى بذلك جمّ غفير من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ، بل في (قاطعة اللجاج للكركي) وغيره : نسبته الى المشهور (٢). ومقتضاه البقاء على ملك أربابها ، خلافا لما عن ابني حمزة والبراج ، حيث لم يوجبا دفع الطسق لأربابها ، ومقتضاه الخروج عن ملكهم. بل صريح كلاميهما : كونها ـ حينئذ ـ للمسلمين.

واحتجا ـ على ما في المختلف ـ بصحيحة معاوية بن وهب ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : أيما رجل أتى خربة ، فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها ، فان عليه منها الصدقة ، فإن كانت أرض رجل قبله ، فغاب عنها وتركها ، وأخربها ، ثم جاء ـ بعد ـ يطلبها ، فإن الأرض لله عز وجل ولمن يعمرها» (٣).

__________________

(١) الطسق ـ بالفتح ـ : مكيال ، أو ما يوضع من الخراج على الجربان أو شبه ضريبة معلومة وكأنه مولد أو معرب (عن القاموس).

(٢) قال ـ في المقدمة الأولى من رسالته في أقسام الأرضين ـ : «وثانيها ـ أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من غير قتال ، وحكمها أن تترك في أيديهم ملكا لهم يتصرفون فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرف إذا قاموا بعمارتها ويؤخذ منهم العشر أو نصفه. على المشهور.»

(٣) مختلف الشيعة للعلامة الحلي ، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس في الأسارى وأحكام الأرضين ، مسألة أرض من أسلم أهلها عليها طوعا ملك لهم.


وفيه : إن الرواية ـ كما ترى ـ أجنبية عن مدعاهما ظاهرة في تملك المحيي لها من دون شي‌ء غير الزكاة عليه. وأين ذلك من كونها للمسلمين بصرف الامام عليه السلام قبالتها في مصالحهم ، فلتنزل على الموات من الأصل أو المملوكة بالاحياء ـ بناء عليه ـ فيه كما يأتي في الخاتمة.

والأحسن : الاحتجاج لهما بما روى في (المختلف) و (قاطعة اللجاج) عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر قالا : «ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته ، فقال : من أسلم طوعا تركت أرضه في يده ، وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر مما كان بالرشاء فيما عمروه منها وما لم يعمر منها أخذه الإمام ، فقبله ممن يعمره ، وكان للمسلمين وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف العشر».

وفي الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : «ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : الخراج وما سار به أهل بيته ، فقال : العشر أو نصف العشر فيما عمر منها ، وما لم يعمر أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين ، وليس فيما كان أقل من خمسة أوسق شي‌ء ، وما أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر» (١).

والسؤال ـ وان وقع عن أرض الخراج ـ إلا أن الامام عليه السلام أجاب ـ أولا ـ عن حكم أرض من أسلم طوعا ، ثم أجاب عن (العنوة) بعده. وظاهرهما إهمال عمارتها حتى زالت لا عدم تعميرها من أصلها حتى تكون للإمام عليه السلام بقرينة الإضافة الدالة على الملكية لهم دون الامام

__________________

(١) راجع هذين الحديثين ـ في المختلف ـ المصدر الآنف ، وفي أوائل رسالة (قاطعة اللجاج) المقدمة الأولى في أقسام الأرضين.


وبقرينة كونها للمسلمين ، مع أن الموات الأصلي مملوكة لمن أحياها ، وعلى المشهور ، خلافا للحلي ـ فمنع من التصرف فيها بغير إذن أربابها مطلقا حيث قال في (السرائر) ـ بعد نقل ما عليه المشهور ـ : عن الشيخ أبي جعفر ـ «والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، فإنها تخالف الأصول والأدلة العقلية والسمعية ، فإن ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ولا التصرف فيه بغير إذنه واختياره فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد» انتهى (١).

وهو حسن على أصله ، إلا أنه قول متروك ـ كما في الدروس ـ (٢) وغيره ، محجوج بالأخبار المتضافرة التي ادعيت شهرتها. غير أنه ليس في الخبرين المتقدمين دفع الطسق لأربابها ، بل ولا صرف ما زاد عليه من حق القبالة في مصالح المسلمين.

إلا أن بعضهم استدل على وجوب الأجرة إلى المالك بصحيحة الحلبي المتقدمة ، وفيها : «وعن الرجل يأتي الأرض الخربة الميتة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ، ماذا عليه؟ قال : الصدقة ، قلت : فان كان يعرف صاحبها؟ قال : فليؤد إله حقه» القاضية بعدم خروجها عن ملك صاحبها بالموت ، إلا أن مفادها كون الأرض لمن عمرها ، وإن وجب عليه دفع الأجرة لمالكها الأول ، دون توقف على تقبيل الإمام ، فلتحمل على الأحقية بها ما دام قائماً بعمارتها.

وبالجملة ، فالروايات مختلفة ، وكلمات الأصحاب في المقام متشتتة.

__________________

(١) راجع ـ من سرائر ابن إدريس ـ : كتاب الخمس ، باب أحكام الأرضين.

(٢) راجع من (الدروس للشهيد) : كتاب الخمس ، في أخريات (درس) تقسم الغنيمة بعد الحول ..


والذي يظهر لي منها : أن الأرض : إن كانت مواتا ـ بالأصل أو بالعارض ـ ولم يعرف صاحبها ، جاز لكل أحد إحياؤها والاقدام على تعميرها ، فان عرف صاحبها دفع إليه الأجرة ـ مطلقا ـ أو إن كانت مملوكة بغير الإحياء ـ على الخلاف الآتي ـ وليس عليه غيرها وغير الصدقة شي‌ء. وإن كان صاحبها معروفا أو كانت خراجية لا يجوز الاقدام عليه بالاحياء ، لكونه مالا مملوكا لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن مالكه. نعم للإمام عليه السلام أو نائبه أخذها وتقبيلها ممن يعمرها بحصة منها وعليه دفع الأجرة إلى صاحبها ، لكونه أنفع للمسلمين ، وإحسانا محضا و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (١) وجمعا بين حق الملكية وإخراجها عن العطلة فإن ذلك ربما يكون من تضييع المال وإتلافه.

والمراد بكونها للمسلمين في الخبرين المتقدمين : كونها لهم إحياؤها وتعميرها ، وإن توقف على التقبيل من الامام عليه السلام أو نائبه أو نمائها دون رقبتها. وحينئذ فإن دفعها الامام لمن يعمرها بحصة مخصوصة دفع منها الأجرة إلى مالكها إن زادت عليها. وكان الزائد في بيت مال المسلمين لأنه ـ في الحقيقة ـ محيي لها بالولاية العامة وان دفعها لا بحصة مخصوصة كان على المعمر دفع ما يستحقه المالك من الأجرة إليه. ثم الأجرة المدفوعة للمالك أجرة الأرض قابلة للتعمير لا أجرتها معمورة حتى يستحق المالك حق القبالة كله لو كان التقبيل بحصة مخصوصة كالنصف والثلث ـ مثلا ـ ولذا قلنا : ما زاد على الأجرة من حق القبالة يجعل في بيت المال.

ومقتضى الجمع المذكور : عدم اختصاص جواز تقبيل الإمام بأرض من أسلم أهلها طوعا ، بل يعم كل أرض خربة مملوكة لم يعمرها صاحبها كما وقع التعبير بنحو الكلية المزبورة في كلام غير واحد من الفقهاء ، فراجع.

__________________

(١) سورة التوبة ـ ٩٢.


وإن ظهر من بعض : اختصاص الحكم المزبور بأرض من أسلم طوعا لخصوص مورد الخبرين. الأخص مطلقا من غيرهما من الاخبار ، إلا أن الظاهر عدم الفرق بين أراضي المسلمين من حيث هو كذلك كيف ، ولو اختص الحكم بها لزم أن تكون أرض من أسلم طوعا أسوء حالا من أرض من أسلم كرها لخروجها عن مورد النص الموجب لبقائها تحت القاعدة الكلية المانعة من جواز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه.

هذا ، والظاهر اعتبار عدم كون الترك عن الغفلة والنسيان أو خوف الظالم ، فضلا عما لو كان التعطيل لمصلحة الأرض ، لعدم تبادر نحو ذلك من إطلاقات النصوص ، بل المتبادر منها غيره ، كما لو كان عن عجز أو مسامحة أو تعند أو نحو ذلك. خلافا ـ في بعض ذلك ـ لشيخنا في (الجواهر) (١).

ثم الظاهر ـ أيضا ـ جواز ذلك للإمام ـ عليه السلام ـ لا وجوبه عليه ـ كما وقع التعبير به في كلام بعضهم ـ أيضا.

اللهم إلا أن يكون من باب : متى ما جاز وجب سياسة ـ كما احتمله في الجواهر ـ بل استظهره من الخبرين ، وبعض عباراتهم (٢).

__________________

(١) فإنه قال ـ في كتاب الجهاد في شرح قول المحقق (خاتمة ، كل أرض ترك أهلها عمارتها ..) : «.. ثم انه ربما قيل باعتبار عدم كون الترك غفلة أو نسيانا أو خوفا من ظالم أو عجزا عن التعمير بدعوى كون المتبادر غير ذلك ، ولكن فيه منع واضح ، خصوصا الأخير نصا وفتوى ..».

(٢) قال ـ رحمه الله ـ كما في المصدر الآنف بعد تلك الجملة التي أوردناها : «. بل الظاهر من الخبرين وبعض العبارات وجوب التقبيل على الامام ، ولو باعتبار ولايته على المسلمين المقتضية لمراعاة مصلحتهم ، بل لعله مراد من عبر بالجوار كابن زهرة والفاضلين والشهيدين وغيرهما ، ولو باعتبار أنه متى جاز وجب سياسة ومراعاة المصلحة المسلمين».


وفيه ان الأخذ والتقبيل فيهما لكونه في مقام توهم الحظر لا ظهور فيه على أزيد من الجواز والإباحة.

والأولى : ابتناء الحكم المزبور من الجواز أو الوجوب ـ على الوجهين المتقدمين تسويغ الإمام في التصرف من الإحسان ، أو الحفظ من تضييع المال وإتلافه ، فيجوز على الأول ، ويجب على الثاني بل ، عليه ـ حينئذ ـ يجب على المالك التعمير أو الاذن به ، ومع امتناعه عنهما ، فعلى الإمام أخذه وتقبيله من غيرهم.

ثم الظاهر : اختصاص ذلك بالإمام العادل. ويلحق به ـ في زمن الغيبة ـ نائبه العام ، بناء على عموم أدلة الولاية له. وأما الجائر ، فلا يجوز له ذلك ، اقتصارا فيما خالف الأصول والقواعد على مورد النص ، فتأمل.

المقالة الرابعة ـ في أرض الأنفال.

وهي الأراضي المعدودة من الأنفال التي هي لله ولرسوله وللإمام القائم مقامه ، وخاصة له ، دون قبيلته. وهي : كل أرض مفتوحة بغير قتال ولا هراقة دم ، بل من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، سواء أسلموها للمسلمين طوعا ـ وهم فيها ـ أو انجلوا عنها وتركوها. وكل أرض هلك أهلها وبادوا ـ مطلقا : مسلمين كانوا أم كفارا ـ معمورة كانت الأرض أم خربة ـ لأنه وارث من لا وارث له. والأرضون الموات ـ سواء كانت مواتا بالأصل كالمفاوز أم بالعارض إذا باد أهلها ولو كانوا مسلمين ـ بل : وكل أرض لا رب لها ـ مطلقا ـ ولو كانت محياة بنفسها. والمراد بالموات : عطلتها : إما باستيلاء الماء عليها أو انقطاعه عنها أو ظهور السبخ ونحوه فيها بحيث لا ينتفع بها ـ والحالة ذلك ـ وقد مر الكلام فيها ـ مفصلا ـ في (المفتوحة عنوة).

والأرض المفتوحة من الكفار بغير إذن الامام ، بل مطلق المغنومة


منهم ، كذلك ، فإنه للإمام عليه السلام ـ على المشهور شهرة عظيمة ، وعن بعض حكاية الإجماع عليه. وهو الحجة ، سيما بعد اعتضاده بما عرفت.

مضافا ـ الى مرسلة الوراق ـ المنجبر ضعفها به وبالشهرة المستفيضة ـ وفيها : «إذا غزا قوم بغير اذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام عليه السلام فاذا عزوا بأمر الإمام (ع) فغنموا كان للإمام الخمس» (١).

والى الحسنة بإبراهيم بن هاشم عن معاوية بن وهب ـ المتقدمة في المفتوحة عنوة (٢). وقطائع الملوك ، المعبر بها عن غير المنقول من أموالهم التي اختصوا بها كالأراضي ، وعن المنقول منها بالصوافي ، وهي من الأنفال ـ أيضا ـ ما لم يكن مغصوبا من مسلم أو مسالم فان المغصوب مردود الى صاحبه.

والآجام بالكسر أو الفتح ، مع المد ـ : جمع أجمة ـ بالتحريك ، وهو الشجر الكثير الملتف والمراد : ذات الأشجار الكثيرة الملتفة ، ونحوها القصب ، ورؤس الجبال ، وبطون الأودية ، دون ظهورها ، والمرجع فيها إلى العرف ـ مطلقا ـ ولو كانتا في غير ملك الامام على المشهور ـ كما قيل ـ خلافا للحلي ويأتي الكلام فيه.

ويدل على ذلك كله ـ بعد الإجماع المحكى صريحا في بعض منها ، مع عدم ذكر الخلاف في الباقي المؤذن به في الجميع ـ : الأخبار المعتبرة المستفيضة التي منها ـ صحيحة إبراهيم بن هاشم ـ أو حسنته ـ المروية في (الكافي) عن أبي عبد الله (ع) قال : «الأنفال

__________________

(١) راجع : تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة آخر باب الأنفال ، حديث رقم (٣٧٨).

(٢) راجع : ص ٢١١ ـ ٢١٣ من الكتاب ، فقد ذكر فيه عامة هذه الروايات المذكورة هنا.


ما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، أو قوم صولحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكل أرض خربة ، أو بطون الأودية ، فهو لرسول الله وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (١).

ومرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح ـ الى أن قال ـ : «والأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولكن صولحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال ، وله رءوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها ، وله صوافي الملوك مما كان في أيديهم من غير وجه الغصب ، لان الغصب كله مردود ، وهو وارث من لا وارث له ..» (٢).

وقول الباقر عليه السلام في خبر أبى بصير المروي عن علي (ع): «لنا الأنفال ، وقلت : وما الأنفال؟ قال : منها المعادن والآجام وكل أرض لا رب لها وكل أرض باد أهلها فهو لنا» (٣).

وقول الصادق ـ عليه السلام ـ في خبر إسحاق بن عمار المروي عن تفسير علي بن إبراهيم ـ بعد أن سأله عن الأنفال ـ فقال : «هي القرى التي خربت ، وانجلى أهلها ، فهي لله وللرسول وما كان للملوك فهو للإمام وما كان من الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل

__________________

(١) راجعها في وسائل الحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال حديث رقم (١).

(٢) راجع : وسائل الحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام باب (١) حديث رقم (٤) وهي طويلة. ذكرها الشيخ في (التهذيب) آخر كتاب الخمس.

(٣) يذكرها الحر العاملي في الوسائل ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال حديث (٢٨) هكذا : عن أبى بصير ، عن أبي جعفر قال : لنا الأنفال. إلخ.


أرض لا رب لها ..» الحديث (١).

وما رواه الكليني : عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع): أنه سمعه يقول : «إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون الأودية ، فهذا كله من الفي‌ء ، والأنفال لله وللرسول ، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يجب» (٢).

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال : «سمعته يقول : للفي‌ء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كله من الفي‌ء ، فهذا لله ولرسوله ..» (٣).

ورواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله (ع) ـ في حديث ـ «قال : قلت : وما الأنفال؟ قال : بطون الأودية ، ورءوس الجبال والآجام والمعادن وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل أرض ميتة قد جلي أهلها ، وقطائع الملوك» (٤).

وموثقة سماعة : «قال : سألته عن الأنفال؟ قال : كل أرض خربة أو شي‌ء يكون للملوك فهو خالص للإمام (ع) ليس للناس فيه سهم

__________________

(١) راجع : وسائل الحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ، حديث رقم (٢٠).

(٢) تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ، باب الأنفال ، حديث رقم (٣٧٠).

(٣) تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ، ٣٨ باب الأنفال ، حديث رقم (٣٧٦).

(٤) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الخمس أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ، حديث رقم (٣٢) إلا أن سنده عن داود بن فرقد ..


قال ـ : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب» (١).

وما رواه الشيخ عن داود بن فرقد : «قال قال أبو عبد الله : قطائع الملوك كلها للإمام وليس للناس فيها شي‌ء» (٢).

رواية محمد بن مسلم : «قال سمعته قال ـ وسئل عن الأنفال ـ : كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل نصفها يقسم بين الناس ، ونصفها لرسول الله فما كان لرسول الله (ص) فهو للإمام» (٣).

الى غير ذلك من الأخبار المنجبر ضعف بعضها سندا بالشهرة فتوى ورواية.

والتقييد بالنصف محمول على التقية ـ كما في الحدائق ـ (٤) و (بالخربة) (٥) في المرسلة ، منزل على الغالب ، وإلا فالأرض ـ مطلقا ـ وإن كانت معمورة إذا باد أهلها من الأنفال ـ كما عرفت.

وإطلاق جملة منها المتعلقة بالآجام وبطون الأودية ورءوس الجبال

__________________

(١) راجع : وسائل الحر العاملي ، كتاب الخمس ، أبواب الأنفال ، حديث رقم (٨). وتهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ، ٣٨ باب الأنفال حديث رقم (٣٧٣ ـ ٧).

(٢) تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ، ٣٨ ، باب الأنفال ، حديث (٣٧٧ ـ ١١).

(٣) تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة ، ٣٨ ، باب الأنفال ، بسنده : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول. إلخ.

(٤) راجع كتاب الخمس من (الحدائق) ج ١٢ ص ٤٧٢ طبع النجف الأشرف ، عقيب ذكره للخبر الآنف.

(٥) في قول الامام (ع) : «كل أرض خربة.».


يعم ما كان منها في ملك الامام وغيره ، خلافا للمنسوب الى ظاهر الحلي في الثلاثة ، فخصها بما إذا كانت في ملك الامام ورده في البيان بأنه يفضي الى التداخل وعدم الفائدة في ذكر اختصاصه عليه السلام بذلك لكن في (المدارك) ـ بعد ذكره ما في البيان ـ : «انه جيد لو كانت الأخبار المتضمنة لاختصاصه بذلك على الإطلاق صالحة لإثبات هذا الحكم ، إلا أنها ضعيفة السند ، فيتجه المصير الى ما ذكره ابن إدريس الحلي ، قصرا لما خالف الأصل على موضع الوفاق» (١).

وفي (المختلف) : «.. احتج ابن إدريس بأن الأصل إباحة ذلك للمسلم وعدم تخصيص الامام (ع) به ، فلا يعدل عنه بمثل هذه الأخبار الضعيفة. والجواب : المنع من أصالة الإباحة ، بل الإمام أولى ، لأنه قائم مقام الرسول ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.» (٢) انتهى.

وقال الخال في (المناهل) : «.. وأشار الى هذا الأصل في (المدارك) و (الذخيرة) بقولهما : يتجه المصير الى ما ذكره ابن إدريس ـ رحمه الله ـ قصرا لما خالف الأصل على موضع الوفاق. وقد يجاب عما ذكره ـ أولا ـ بالمنع من الأصل المذكور عليه ـ كما في (المختلف)

__________________

(١) وتمام عبارته ـ كما في كتاب الخمس ، المقصد الأول في الأنفال في شرح قول المحقق (ورءوس الجبال ..) : «وإطلاق النص وكلام أكثر الأصحاب يقتضي اختصاصه (ع) بهذه الأنواع الثلاثة من أي أرض كانت ، ومنع ابن إدريس من اختصاص الامام بذلك على الإطلاق ، بل قيده بما يكون في موات الأرض أو الأرضين المملوكة للإمام ، ورده الشهيد في (البيان) بأنه يفضي الى التداخل وعدم الفائدة في ذكر اختصاصه بهذين النوعين ، وهو جيد.

(٢) راجع : كتاب الخمس منه ، الفصل الثالث في الأنفال.


بقوله : والجواب المنع ، الى آخر ما تقدم من كلامه ـ ثم قال ـ : وفي حاشية (الروضة) بقوله ـ بعد الإشارة الى ما ذكره في (المدارك): وما ذكره من قصر الحكم المخالف للأصل على موضع الوفاق لا يخلو من خفاء.

فإنه ان أراد : أن انتقال رءوس الجبال الى الإمام مخالف للأصل فيقتصر فيه على موضع الوفاق ـ وهو ما كان في الموات والأرضين المملوكة للإمام (ع) ـ ففيه : إن ذلك الأصل غير مسلم ، لما عرفت : من احتمال ان تكون الجبال والأودية دائما ـ للحجة في زمانه ، وهو يأتي في الآجام أيضا إذا كانت مستأجمة في الأصل. ولو سلم هذا ، فإنما يتم في ما كان أسلم عليه أهله طوعا. وأما المفتوحة عنوة ، فكما أن الانتقال الى الامام عليه السلام خلاف الأصل فكذلك الانتقال الى المسلمين ، وليس شي‌ء موضع الوفاق فلا ترجيح للثاني على الأول.

وإن أراد : أن الأصل في رءوس الجبال أن تكون تابعة للأراضي التي هي فيها ، فالحكم بها لغير صاحب الأرض مخالف للأصل فيقتصر فيه على موضع الوفاق ، ففيه ـ بعد تسليم الأصل المذكور : أنه ليس على هذا موضع وفاق وقع فيه خلاف ، إذ على ما اختاره ، رءوس الجبال تابعة للأرض مطلقا وتكون لصاحبها ، فلم تقع فيه مخالفة لذلك الأصل.

ويمكن اختيار الأول ، بناء على تسليم الأصل المذكور ، بأن يقال : إن ذلك لترجيح قول ابن إدريس ـ رحمه الله ـ فيما أسلم عليه أهله طوعا بأن فيه اقتصار الحكم المخالف للأصل ، وهو اختصاص الامام على موضع الوفاق ، وأما ترجيحه في (المفتوحة عنوة) فكأنه باعتبار أمر آخر ، وهو موافقته لأصل تبعيتها للأصل ، بخلاف قول المشهور ، فإنهم يحكمون فيهما بكونهما للإمام عليه السلام مع كون الأرض للمسلمين ، فتدبر ، انتهى.


قلت : لا يخفى عليك مواقع النظر في ذلك :

أما ما ذكره في البيان : من الرد بالتداخل وعدم الفائدة ، ففيه : إن ذلك غير وارد على من لم يعمل بأخبار الآحاد كابن إدريس ـ رحمه الله ـ المفروض عنده خلو المقام عن الأخبار المخرجة للحكم عن الأصل. نعم ، يرد ذلك على من يعمل بهذه الاخبار ، ولو بمعونة جبر ما ضعف منها ، ويقول ـ مع ذلك ـ باختصاصها بما كان في ملكه. ولكن لم نعثر على قائل منهم بذلك. على أن الفائدة كادت أن تكون معدومة في رءوس الجبال وبطون الأودية ، لعدم انفكاكها ـ غالبا ـ عن الموات الموجب لكونهما ـ حينئذ ـ للإمام عليه السلام والموجب بسبب الموت.

وأما ما وقع من (المختلف) في الجواب بالمنع من الأصل المزبور بأولوية الإمام (ع) بالمؤمنين من أنفسهم ، ففيه : أن ذلك لا يدل على الملكية له (ع) وإن كان أولى بالتصرف فيه ، فإنه أولى بالمؤمنين في التصرف في أملاكهم من أنفسهم. بل لم نجد لما ذكره من وجه المنع معنى محصلا.

اللهم إلا أن يريد به : إن الامام عليه السلام ليس في مرتبة غيره من آحاد المسلمين حتى يتمسك عليه بأصالة الإباحة عند الشك في امتيازه عمن سواه بالاختصاص.

وفيه : إن الحكم بالأولوية منبسط على المباحات والمملوكات ـ مطلقا ـ فلا ينافي التمسك بالأصل لتعيين أحد النوعين ، وإن كان الحكم بها يعمهما ومنبسطا عليهما ، فافهم.

وأما ما ذكره المحشي ـ رحمه الله ـ في الحاشية الجمالية : من احتمال أن تكون الجبال والأودية ـ دائما للحجة (ع) في زمانه.

ففيه : انا ننقل الكلام معه إلى أول زمان شرع الأنفال المدعى نقلها


اليه بالنفل ، فإن الأصل عدمه.

وأما ما ذكره من قوله : وأما المفتوحة عنوة فكما أن الانتقال الى الامام عليه السلام خلاف الأصل فكذا الانتقال الى المسلمين. إلخ

ففيه : إن الشك في الانتقالين ليس في مرتبة واحدة ، لأن الانتقال الى المسلمين فرع كونهما مملوكين للكفار قبل الاغتنام حتى ينتقل به إليهم وكونهما للإمام فرع عدم كونهما لهم.

مضافا الى أن ما ذكره من التفصيل في إجراء الأصل وعدمه بين المفتوحة عنوة وأرض من أسلم عليها طوعا : بالأول في الثاني ، والثاني في الأول ، مبني على تملك الكفار لهما حال الكفر قبل الإسلام أو الاغتنام حتى يقال ببقائه على ملكهم وعدم انتقاله الى الامام عليه السلام في الثاني ، للأصل. ومعارضة الأصل بمثله بعد معلومية الانتقال منهم بالاغتنام في الأول مع كون الدخول في ملكهم ، والحال ذلك بمجرد وضع اليد عليها من دون إحياء لهما ـ أول الكلام. بل مقتضى الأصل عدمه. ودعوى معلومية الانتقال وعدم بقائهما على الإباحة الأصلية ، تدفعها معارضة أصالة عدم الانتقال الى الامام عليه السلام بأصالة عدم الانتقال والدخول في ملك الكفار ، إذ هو أيضا مقتضى الأصل عدمه ، فيجري فيه نظر ما يجري في المفتوحة عنوة من تعارض الأصلين ، فافهم.

وأما ما ذكره ـ أخيرا ـ : من التفصيل في معنى الأصل بإرادة معناه الأول في أرض من أسلم أهلها طوعا وبمعنى الظاهر في المفتوحة عنوة.

ففيه : أنه تفكيك ركيك : ولعله إليه أشار بالتدبر.

وبالجملة : فكلام ابن إدريس جيد ، بناء على أصله : من عدم العمل بأخبار الآحاد الموجب حينئذ للرجوع الى الأصل ، إلا أنه يجب


الخروج عن مقتضاه بتلك الأخبار الكثيرة المنجبرة ما ضعف سنده منها بالشهرة المستفيضة الحاكمة بإطلاقها على ما كان منها ، ومن المستأجمة بالأصل للإمام عليه السلام ، ولو كان في ملك غيره ما لم يكن مملوكا بالإحياء ، أو مستأجمة في ملكه فإنه لمالكه.

هذا ، وكلام ابن إدريس ـ رحمه الله ـ غير صريح فيما نسب إليه ، بل لعله غير ظاهر فيه ، سيما بالنسبة إلى الآجام التي كاد أن يكون فيها كالصريح في خلافه. ولذا عن (البيان) : الاقتصار في نسبة الخلاف اليه على الأولين دون الآجام ، حيث قال في (السرائر) ـ في تعدد أراضي الأنفال ورءوس الجبال وبطون الأودية والآجام التي ليست في أملاك المسلمين ، بل التي كانت مستأجمة قبل فتح الأرض والمعادن التي في بطون الأودية التي هي ملكه ، وكذلك رءوس الجبال ـ «فأما ما كان من ذلك من أرض المسلمين ويد مسلم عليه ، فلا يستحقه الامام عليه السلام بل ذلك في الأرض المفتوحة عنوة والمعادن التي في بطون الأودية مما هي له ..» انتهى (١).

إذ لعل الظاهر من كلامه التفصيل في المعادن بين ما كان في ملك الامام عليه السلام كبطون الأودية ورءوس الجبال ، على أن تقييد البطون في كلامه بالتي هي ملك الامام (ع) من القيود التوضيحية ، لا الاحترازية ، وكلامه في الآجام موافق لما عليه غيره. بل لعله المشهور من أنه مشروط بما إذا لم تكن مستأجمة في ملك الغير ، فإن المستأجمة كذلك مملوكة لمالكها ولا أقل من الإجمال في كلامه.

وكيف كان ، فلو فرض ـ ولو بالمحال العادي ـ أنه استأجمت

__________________

(١) راجع ـ من سرائر ابن إدريس الحلي ـ : كتاب الخمس ، باب ذكر الأنفال ومن يستحقها.


الأرض المملوكة أو استودت فهل تنتفل الى الامام عليه السلام ، لإطلاق ما دل على كونها من الأنفال ، أو هي باقية على ملك مالكها ، للأصل مع انصراف المطلقات إلى ما كان كذلك بالأصل وقبل شرع الأنفال؟ وجهان ، مبنيان على ما عرفت ـ إلا إذا كانت مملوكة بالاحياء وقلنا بصيرورتها مواتا بذلك ، فإنها تبنى على المسألة الخلافية الآتية في خروج المملوكة بالاحياء بالموات عن الملكية وعدمه ، وإن كان الأقوى عدمه ـ كما يأتي.

هذا ، ولعل النزاع في غير الآجام من الثلاثة قليل الجدوى ، لعدم انفكاكها ـ غالبا ـ عن الموت الموجب لكونهما للإمام بذلك ، بخلاف الآجام التي قد يدعى أنها من المحياة لكثرة الانتفاع بأشجارها وأخشابها التي ربما لا تنقص عن جملة من المنافع التي تعد بها الأرض محياة. بل ، ولعل إطلاق بعض الأدلة يقضي بدخول غير الآجام من الثلاثة في ملك الامام عليه السلام وان كانت محياة بنفسها ، بل وما كان منها في المفتوحة عنوة ، تحكيما للإطلاق المزبور ، على ما دل على ملكية المسلمين لعامرها ولو بترجيحه عليه ، بناء على تعارض العموم من وجه بينهما. بل قد يقال بعدم المعارضة بينهما ، فضلا عن الترجيح ، بناء على أن إطلاقات المفتوحة عنوة للمسلمين مختصة بما كان مملوكا للكفار. وليس شي‌ء من ذلك للأدلة المزبورة داخلا في ملكهم حتى يملكه المسلمون بالاغتنام ـ كما تقدم نظير ذلك في موات المفتوحة عنوة ـ فراجع.

بقي هنا إشكال : وهو إن مقتضى ملكية الإمام عليه السلام لهذه الأراضي ملكية ما فيها من النباتات والأشجار بتبعية الأرض. ومقتضاه عدم جواز تناول شي‌ء من ذلك إلا بإذنه ، مع ان بناء الناس وسيرتهم جار على المعاملة مع هذه الأشياء معاملة المباحات الأصلية من


التملك بمجرد الحيازة بالاحتشاش والاحتطاب وترتيب آثار الملكية عليها بالبيع أو الشراء ، وغير ذلك من غير فرق بين كون الحائز من الشيعة أو غيرهم ، فلا يجدي التمسك بأخبار الإباحة والتحليل بالنسبة إلينا بالخصوص في رفع الاشكال بعمومه ، بل ذلك مقتضى ما ورد من قوله (ص): «الناس شركاء في ثلاثة : النار والماء والكلاء» (١) بل الظاهر منه سيما مع عطف الكلاء على الماء المعلوم كونه من المباحات الأصلية : كون الثلاثة باقية على الإباحة الأولية. بل قد يقال : لم نجد مصداقا لما يتحقق معه الإباحة الأصلية من الكلاء والماء والنار المقصود منها ـ ظاهرا ـ الشجر والحطب ولو مجازا ، كيف وإباحة شي‌ء من تلك فرع إباحة الأرض النابتة فيها. وليس ـ عندي ـ من الأراضي ما هي باقية على إباحتها الأصلية ـ بعد ما عرفت من تقسيم الأراضي وأحكامها.

ودعوى استثناء ذلك من أدلة التبعية في خصوص ما ينبت في أرض الإمام عليه السلام المختصة به بالإمامية ، فيها من الوهن ما لا يخفى.

فلا محيص عن الإشكال ، إلا بما سنح بالبال وخطر في الخيال ، بدعوى إمكان : أن يقال ـ ولو للجمع بين الأدلة ـ : ان تلك الأشياء ـ مع كونها مملوكة للإمام ـ يجب عليه ـ عليه السلام ـ بذلها للأنام كافة كما يجب على المعيل بذل ماله لمن يجب عليه نفقته ، حتى يكون جميع الناس مطوقين له بطوق إحسانه متنعمين بسعة فضله وامتنانه ليكون له فضل المنعم ، ويستحق عليهم شكر المتنعم ، وهو أتم للحجة وأوضح للمحجة ، فتلك ـ لسعة البذل وعمومه ـ بحكم المباحات الأصلية في تملك من سبق

__________________

(١) حديث نبوي مشهور بين الفريقين ، يذكره ابن الأثير في (النهاية) باب الشين ، ومن الخاصة عامة الموسوعات الفقهية في باب المباحات الأصلية.


إليها بالحيازة ، فملكية الامام لها نظير ملكية الله تعالى للأشياء التي لا تنافي معها ملكية العباد.

لكن هذا الحكم لا يعم أمواله المختصة به ، ولو بالإمامة ، بل تختص منه بما اشتد مسيس حاجة الناس اليه وتوقف ضرورة التعيش عليه كالنار وللكلاء ، فافهم واغتنم.

هذا تمام الكلام في أراضي الأنفال من حيث موضوعها

وأما حكمها : فهي للإمام عليه السلام ـ بعد النبي (ص) ـ القائم مقامه ، فلا يجوز لأحد التصرف فيها إلا بإذنه ، كما تقتضيه أصول المذهب وقواعده ـ مطلقا ـ في زمان الحضور والغيبة ، وجواز التصرف في ذلك لنا في الثاني ، لا لسقوط الاذن بالنسبة إلينا ، كما لعله يظهر من (المدارك) وغيره بل لحصوله منهم لنا بأخبار التحليل والإباحة لشيعتهم وهو ـ في الجملة ـ مما لا خلاف فيه ، وإن وقع الخلاف في مقدار ما حللوه : فمنهم من أفرط في ذلك ، وعمم الحكم بالإباحة والتحليل لمطلق ما للإمام عليه السلام حتى الخمس ، فأسقطه في زمان الغيبة ، إلا أنه قول متروك ، رماه غير واحد بالندرة والشذوذ (١) ومنهم ـ من خصه

__________________

(١) وهو مذهب (سلار) من القدماء ، واختاره من المتأخرين : الفاضل المولى محمد باقر في الذخيرة. قال العلامة في (المختلف ـ آخر كتاب الزكاة) الفصل الثالث في الأنفال ـ وقبل انتهاء الكتاب بيسير فإنه بعد استعراض الأقوال في المسألة وذكر احتجاجاتهم فيها ، وعرض احتجاج سلار وأتباعه ، في سقوط أصل الخمس حال الغيبة ـ قال : «.. واعلم ان هذا القول بعيد عن الصواب ، لضعف الأدلة المقاومة لنص القرآن ، والإجماع على تحريم التصرف في مال الغير بغير إذنه».


بخصوص المناكح والمساكن والمتاجر المقصود منها ـ ظاهرا ـ ما يشترى بالتجارة من الأموال التي فيها الخمس من الظلمة ، كما عن العلامة في كتبه وعن (الحدائق) : نسبته الى المشهور (١).

ولعله الأقوى : اختصاصه بمطلق الأنفال دون الخمس ، جمعا بينها وبين ما دل على وجوب دفعه والحث على إخراجه وإيصاله إلى أهله ، أو خصوص الثلاثة منها. وتفصيل الكلام فيه موكول الى محله في كتاب الخمس.

وكيف كان ، فالاراضي التي هي من الأنفال يجوز لنا التصرف فيها بالزراعة وغيرها من غير توقف على التقبيل من الجائر ، بل ، ومن الحاكم ـ أيضا ـ وإن كان نائبا للإمام ، وقلنا بعموم ولايته لحصول الاذن من مالكه الحقيقي. وبذلك يفترق حكمها عن حكم الأراضي الخراجية التي هي للمسلمين من المفتوحة عنوة.

هذا بالنسبة الى ما كان منه في أيدينا. وأما ما كان في أيدي غيرنا فهو عليهم حرام لعدم الاذن به منهم ، وفي جواز انتزاعه من أيديهم مع الأمن من الضرر : وجهان : من أنه مال الامام عليه السلام في يد من لا يستحق وظالم له في تصرفه وغاصب له في قبضه ، ومن أن المستحق لانتزاعه هو الامام فيتوقف على أمره غير أن ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة مما كان في أيدي غيرنا من الأنفال جاز لنا أخذه منه ـ بلا إشكال ـ لأنه للإمام عليه السلام ، وقد أباحه لنا.

نعم ما يأخذه باسم ذلك مما هو في أيدينا ، ففي جواز أخذه منه ،

__________________

(١) راجع ـ في تفصيل ذلك ونسبة هذا القول الى الشيخ الطوسي واختيار عامة المتأخرين له : مختلف العلامة آخر كتاب الخمس ، وحدائق الشيخ البحراني كتاب الخمس آخر ج ١٢ طبع النجف الأشرف.


وعدمه : وجهان : مبنيان على كون المأخوذ باسم ذلك من المتقبل منا مملوكا لكونه بالإباحة والتحليل مستحقا للأرض مجانا بلا أجرة عليه ، أو هو للإمام عليه السلام ، فيكون الجائر غاصبا منه ، دون الزراع ، وإن أبيح له الأجرة لو تسلط عليه. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

هذا ، وقد يسبق إلى الذهن في المقام له إشكال ، وهو : إن غاية مفاد أخبار التحليل والإباحة ، جواز التصرف فيما هو للإمام عليه السلام من الأنفال دون التمليك ، مع قيام الإجماع على ترتيب آثار الملكية عليه من البيع والشراء وسائر النواقل ووطء الأمة وعتقها المتوقفين على الملكية.

ويدفعه ـ مضافا إلى إمكان دعوى أن يقال بدخوله ـ آنا ما ـ في ملكه عند ارادة وقوع شي‌ء من ذلك كالمعاطاة ، بناء على المشهور : من إفادتها الإباحة.

أنه لم لا يجوز أن يكون في أول مرتبة الانتقالات من الفضولي ـ مع إجازة المالك ، بناء على صحته ـ مطلقا ـ ولو مع وقوعه لنفسه كبيع الغاصب مع إجازته؟.

وأما جواز وطء الأمة المغنومة لمن اغتنمها ، فمن باب التحليل ، فتأمل.

أو يقال : إن عدم إفادة الإباحة أزيد من جواز التصرف لكونه المتيقن منها دون التمليك الذي مقتضى الأصل عدمه لأنها أعم منهما ، والعام لا يدل على خصوص الخاص ، مسلم في الإباحة المجردة عن قرينة التمليك دون المحفوفة بها : من التعليل بطيب الولادة ونحوه الظاهر فيه ،


سيما مع ما ورد من قوله عليه السلام «ما هو لنا فهو لشيعتنا» (١). الظاهر ـ ولو بمعونة اللام ـ في الملكية.

لكن قد يقال : إن التمليك لا بد وأن يكون بأحد الأسباب المملكة شرعا ، وليست الإباحة منها.

وقد يجاب عنه بأن السبب المملك شرعا ـ هنا ـ هو اليد بالأخذ والتناول في مورد الإباحة الكلية من المالك ، كالأخذ بقصد التملك في مورد الإعراض والتناول من نثار الأعراس ، فيكون بحكم المباحات المملوكة لمن سبق إليها بالحيازة ، فتأمل (*).

أو يقال : بأن الإباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات مرداة لملكية العين ، بل الإباحة الخاصة مرتبة من مراتب الملكية لها ـ أيضا ـ غير أنها مرتبة ضعيفة من جهة اختصاصها بالجهة الخاصة فالملكية التي هي بمعنى السلطنة المتعلقة بالعين ، إن اشتدت قوتها بحيث أحاطت بجميع التصرفات فيها عبر عنها بملك الرقبة ، للاحاطة المزبورة ، وإن اختصت ببعض الجهات دون بعض عبر عنها بملك المنفعة ، وأضعف منها مرتبة ملك الانتفاع.

فللملكية من حيث الشدة والضعف والأضعف مراتب ثلاثة :

__________________

(١) بهذا النص وبنصوص أخرى مختلفة الأداء متحدة المضمون يذكر الحر العاملي في (وسائله ، آخر كتاب الخمس) أبواب الأنفال ، ٤ إباحة حصة الإمام من الخمس للشيعة ، روايات كثيرة.

(*) وجه التأمل : هو أن ذلك إن تم فلا يتم فيما كان الاغتنام الذي هو لتملك الامام حاصلا بنفس الأخذ ، ضرورة تأخير تملك المغتنم في المرتبة عن تملك الامام بالاغتنام المسبب عنه. اللهم إلا أن يقال : إن التقدم بالعلية لا بالزمان فتأمل (منه قدس سره).


يعبر عن الأولى ـ اصطلاحا ـ بملك العين ، وعن الثانية بملك المنفعة وعن الثالثة بملك الانتفاع.

ومن ذلك : ملكية الزوج لبضع الزوجة ودخول بضع الأمة المحللة في ملك اليمين بعد حصر التحليل في قوله تعالى (إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١) والأمة المحللة ليست بزوجة ـ قطعا ـ فهي مملوكة للمحلل له من جهة خصوص الانتفاع ببضعها. ولا ينافي ذلك كونها باقية على ملك مالكها المحلل المبيح ، ولعلك تقف على مزيد توضيح لذلك في مسألة المعاطاة.

تذنيب : فيما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة الذي قد عرفت معناهما من الأراضي وباسم الزكاة من الانعام وغيرها وما يؤخذ منه من ذلك من الجوائز أو بالبيع والشراء وغير ذلك.

فنقول : لا إشكال في براءة ذمة المتقبل من الجائر بدفع القبالة إليه ، بلا خلاف أجده بل الإجماع ـ بقسميه ـ عليه.

ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك ـ : الأخبار المستفيضة الدالة على صحة التقبيل منه ، وان كان هو آثما في قبضه ، لأنه غير مستحق له لكونه وظيفة الإمام العادل المتولي لأمور المسلمين.

وبذلك يخرج عن القاعدة التي لولاها لكان مقتضاها عدم تعيين المقبوض أجرة ومقاسمة لفساد القبض والقسمة لكونه غاصبا ظالما فيهما ، فيبقى المقبوض على ملك مالكه ، ويجب ـ حينئذ ـ دفع ما عليه من القبالة لمن يستحق القبض منه ، وهو الامام العادل (ع) المتولي لمصالح المسلمين إلا أن الحكم بالبراءة مدلول عليه بالإجماع والسنة المستفيضة الكاشفين عن

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٥ ، ٦ ، وتمام الآية (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا ..)


إمضاء الشارع لتعيينه خراجا للأرض.

كما لا اشكال ـ بل لا أجد خلافا معتدا به ـ في جواز أخذ شي‌ء من ذلك منه بالبيع أو الشراء وسائر الانتقالات : من الصلات والهبات ، لا لأخبار الإباحة والتحليل ـ كما توهم ـ إذ هي أخص من المدعى لظهورها في خصوص ما هو ملكهم كالأنفال ، فلا تعم ما هو لغيرهم ، ولهم الولاية عليه ، كخراج المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين ، بل لتحقق الاذن بذلك منهم بالمستفيضة من الروايات ومحكي الإجماعات.

فمن الأولى أدلة جواز أخذ ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة ـ صحيحة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام قال : «سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان ، من إبل الصدقة وغنمها ، وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، فقال : ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير ، وغير ذلك ، لا بأس به حتى يعرف الحرام بعينه فيتجنب. قلت : فما ترى في متصدق يجيئنا ، فيأخذ صدقات أغنامنا ، فنقول : بعناها ، فيبيعنا إياها ، فما ترى في شراء ذلك منه؟ فقال : إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس قيل له : فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم. فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فنأخذه بكيل فما ترى في شراء ذلك منه؟ فقال : إن كان قد قبضه بكيل وأنتم حضور فلا بأس» (١) .. الحديث.

__________________

(١) ذكر هذه الرواية بنصها الشيخ المرتضى في (مكاسبه ـ في المكاسب المحرمة) بعنوان : خاتمة تشتمل على مسائل .. الثالثة : ما يأخذه السلطان المستحل. وذكرها الحر العاملي في (وسائله ، كتاب التجارة) أبواب ما يتكسب به ، ٥٢ باب جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلاة. حديث رقم (٥) بسنده هكذا : محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب عن هشام بن سالم عن ابي عبيدة عن أبي جعفر (ع).


الظاهرة ـ بل الصريحة ـ في جواز شراء ما لم يعلم أنه الحرام بعينه من المقبوض زكاة أو خراجا المتعين كونه كذلك بالقبض ، ولو بمعونة إمضاء الشارع له ، وأن الحرام هو القدر الزائد عليه ، فيكون باقيا على ملك مالكه ، يجب الاجتناب عنه وعن المشتمل عليه بحيث لا يفرز أو المشتبه به بالشبهة المحصورة مع الابتلاء بأطرافها.

والمناقشة فيها ـ أولا ـ بأخصيتها من المدعى لاختصاصها ـ أولا ـ بالشراء فلا يعم غيره من النواقل ، وثانيا ـ بالزكاة لإمكان أن يكون المشتري مستحقا لها ، وثالثا ـ بأن تعليق الجواز ونفي البأس فيها على عدم معلومية الحرام مشعر بالمنع عنه مطلقا ، بعد أن كان المأخوذ ـ ولو قدر الحق الواجب ـ حراما بالإجماع. ولعل العدول عنه الى التعبير بذلك وللإجمال في البيان للتقية.

ضعيفة جدا ، لأنه إن تم في الشراء أو الزكاة ، تم في غيرهما من النواقل والحقوق بعدم القول بالفصل ـ كما قيل ـ مع ظهور لفظ (القاسم) في ذيلها في المقاسمة ، سيما مع سبق حكم الزكاة في قوله (الا مثل الحنطة والشعير» ووقوع التعبير عنه بـ (المصدق) فيكون (القاسم) غيره. ولا أقل من الإطلاق ، بل العموم المستفاد من ترك الاستفصال وظهور إرادة الزائد على الحق الواجب عليه من الحرام الواقع غاية في قوله «حتى تعرف الحرام بعينه» وهو المخصوص فيها بالمنع عنه ، دون الحق الواجب وان كان حراما على الأخذ آثما في أخذه مضمونا عليه ببدله ممنوعا عن التصرف في ثمنه ، فلا إجمال حتى يشعر بالتقية ، ولا موجب للحمل عليها. بل ظاهرها ـ سؤالا وجوابا وتقريرا من الامام ـ : كون الجواز بالنسبة إلى المقبوض مقدار الحق مفروغا عنه. وإنما وقع السؤال عما يعلم قبضه أكثر من الحق لشبهة اندراج الزائد في المبيع بل مقتضى نفي البأس عن


الشراء المسبب عن حلية المأخوذ به ، ولو بقرينة قوله «حتى تعرف الحرام بعينه «عدم الفرق بينه وبين غيره من النواقل ، لوجود المناط ، وهو الحلية. فاندفع به أيضا دعوى اختصاص الجواز بالشراء ، اقتصارا فيما خالف الأصل والقواعد على القدر المتيقن وهو الشراء دون غيره ـ كما عن بعض.

وبالجملة : فالصحيحة كالصريحة : في أن جهات الأسئلة فيها هي : أولا ـ عن الجواز مع العلم الإجمالي بحصول الحرام في أيدي العمال وثانيا من جهة توهم الحرمة أو الكراهة في شراء ما يخرج في الصدقة ، كما ذكر في باب الزكاة. وثالثا ـ من جهة كفاية الكيل الأول في بيع المكيل والموزون ، وكون أصل الجواز مفروغا عنه ، والا كان هو أولى بالسؤال عنه (*).

__________________

(*) تنبيه : تقييد جواز الشراء في الفقرة الثانية من الصحيحة بالأخذ والعزل الظاهر في كونه عطف بيان لا نسق ، للتعيين ورفع الجهالة والإبهام في المبيع ، ولذا حكموا ببطلان بيع عبد من العبدين وشاة من الشاتين بل وصاع من صبرة منقسمة إلى صيعان متعددة ، وان حكموا بصحة بيعه منها مجتمعة مطلقا ، لعدم الإبهام في الثاني في المبيع المقدر بالصاع ، وان كانت الصبرة مجهولة ، ووجوده في الأول لتردد المبيع بين الصيعان وان كانت معلومة العدد ، وان أشكل بعضهم في وجه الفرق بينهما حتى جعلهما من واد واحد في عدم الجهالة فيهما ، ولعله واضح لان متعلق البيع في الثاني هو الكلي المقدر المجرد عن لحاظ جميع العوارض الطارئة على نفس الحقيقة التي هي الماهية المعراة عن جميع القيود والملاحظات الخارجة عنها. مع فرض عدم الإبهام فيها وفي مقدارها ، بخلاف الأول الملحوظ فيه مع قيد التشخص بالفردية والانتشار في الإفراد الموجب للإبهام من هذه الحيثية المفقودة في بيعه من المحتمة ، فافهم (منه رحمه الله).


ومنها ـ موثقة إسحاق بن عمارقال : «سألته عن الرجل يشتري من العامل ، وهو يظلم؟ قال : يشتري منه ما لم يعلم انه ظلم فيه أحدا» (١) لظهور السؤال عن الشراء من العامل في شراء ما هو عامل فيه من الحقوق التي يقبضها عن السلطان. ولا أقل من العموم المستفاد من ترك الاستفصال.

وبه يندفع توهم السؤال عن شراء أموال الظلمة ـ كما عن الشيخ إبراهيم القطيفي (٢) ـ فيكون المراد بالظلم المنسوب الى العامل هو أخذه الأكثر من الحق الواجب دون أصل الحق ، وإلا لم ينفك العامل عن الظلم ـ حينئذ ـ فيكون سياق الرواية سياق الصحيحة المتقدمة ، سؤالا وجوابا في صدرها.

ونحوه الخبر الموصوف بالصحة ، وفيه : «أشتري من العامل الشي‌ء أعلم إنه يظلم؟ فقال : اشتر منه» (٣).

بل ، وبترك الاستفصال المفيد للعموم يستدل عليه بإطلاق النصوص المجوزة للشراء من الظلمة ، نحو المرسل كالصحيح : «أشتري الطعام

__________________

(١) وسائل الحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب ما يتكسب به ، باب جواز الشراء من غلات الظالم ، حديث رقم (٢).

(٢) ذكر ذلك ـ تفصيلا ـ في رسالته الخراجية المسماة (السراج الوهاج في مسألة الخراج) طبعت ضمن مجموعة من الرسائل الخراجية والرضاعية وغيرهما في إيران بقطع صغير سنة ١٣١٥ ه‍.

(٣) راجع : الوسائل للحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب ما يتكسب به ، باب جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلاة ، حديث رقم (٤) بسنده هكذا : محمد ابن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن النعمان عن معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد الله (ع) : أشتري ..


فيجيئني من يتظلم يقول : ظلمتني؟ فقال : اشتره» (١).

اللهم إلا أن يدعى في نحو الأخير كون الإطلاق مسوقا لبيان حكم آخر

ومنها ـ الحسن : «ما يمنع ابن ابي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس قال ـ ثم قال لي ـ : لم تركت عطاءك؟ قال قلت مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا» (٢).

وقال جدي في (الرياض) ـ بعد ذكره الرواية ـ : ما هذا لفظه : «وهو ـ مع حسنه واحتمال صحته ـ واضح الدلالة من حيث تجويزه ـ أولا ـ لشباب الشيعة أخذ ما يعطي الحاكم الناس المعيلين له ، ومن جهة ما يعطون وجوه الخراج والمقاسمة ، وثانيا ـ للراوي أخذ العطاء من بيت المال الغالب فيه اجتماع وجوههما فيه لندرة الزكوات ، فان لها أربابا مخصوصة يعطون من دون إحراز لها فيه ، فاحتمالها فيه ضعيف وأضعف منه احتمال الوجوه الموصى بها أو المنذورة للشيعة. فالمناقشة في الدلالة بما مر ضعيفة» انتهى (٣).

__________________

(١) الوسائل ـ المصدر الآنف ـ حديث تسلسل (٣) : وعنه ، عن ابن أبي عمير عن محمد بن أبي حمزة ، عن رجل قال : قلت لأبي عبد الله (ع) .. وذكره الشيخ في التهذيب : ج ٦ ص ٣٣٧) حديث تسلسل (٩٣٧ ـ ٥٨) طبع النجف الأشرف.

(٢) وهي رواية أبي بكر الحضرمي ـ كما عن مكاسب الشيخ مرتضى الأنصاري ـ قال : دخلت على أبي عبد الله (ع) وعنده ابنه إسماعيل ـ فقال : ما يمنع ابن ابي سماك .. وذكره الحر العاملي في (وسائله ، كتاب التجارة) باب ٥١ إن جوائز الظالم وطعامه حلال .. حديث رقم (٦).

(٣) راجع : الجزء الأول منه : كتاب التجارة ـ في جواز الشراء من السلطان الجائر في شرح قول المحقق (الثالثة يجوز أن يشتري من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة).


بل في (قاطعة اللجاج) للكركي ـ بعد ذكرها ـ : «هذا نص في الباب ، فإنه ـ عليه السلام بين للسائل حيث قال : إنه ترك أخذ العطاء للخوف على دينه ـ بأنه لا خوف عليه ، فإنه إنما يأخذ حقه حيث أنه يستحق من بيت المال نصيبا ، وقد تقرر في الأصول تعدي الحكم بالعلة المنصوصة» انتهى (١).

إلا أن المقدس الأردبيلي بالغ في الإنكار على المحقق المذكور في دلالتها وأظهر العجب منه حيث قال : «والعجب أنه قال في المنفردة : هذا نص في الباب ـ الى آخر عبارته المتقدمة ـ ثم قال : وأنا ما فهمت منها دلالة ما كيف وغاية دلالتها ما ذكره ، وذلك قد يكون من بيت المال يجوز أخذه وإعطاؤه للمستحقين ، مثل أن يكون منذورا أو وصية لهم بأن يعطيه ابن أبي سماك أو غير ذلك ، ولا يقاس عليه الخراج الذي أخذه الظالم باسم الخراج ظلما ، لأنه ما علم صيرورته خراجا بحيث يجوز لكل أحد الأخذ منه باذنه لا بدونها ، كما هو المدعى ـ نعم لو صار المأخوذ خراجا يجوز للمولى إعطاء المستحق نصيبه الذي فيه ، إن علم العلة وجواز حصته من المال المشترك لبعض الشركاء ، كل ذلك غير ظاهر فيما نحن فيه» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

قلت : الإنصاف أن الرواية ظاهرة في المطلوب ، لا بمثابة النص فيه ـ كما في الرسالة ـ ولا أجنبية عنه ـ كما ادعاه المقدس المزبور ـ والذي أوقعه في ذلك ، بل تكرر في كلامه : هو عدم تعيين المقبوض عنده باسم الزكاة والخراج زكاة وخراجا حتى تترتب عليه صحة الشراء أو أخذ المستحق له من بيت المال لعدم قبض المتولي له ، وهو الامام عليه السلام وان فرق

__________________

(١) راجع ذلك في المقالة السادسة منها في حل الخراج في حال حضور الامام وغيبته.


أخيرا بين الشراء وغيره ، نظرا الى تحقق العوض العائد إلى بيت المال فيه ، بخلاف ما لم يكن له عوض كالهبة ونحوها ، فإنه يصير كالتضييع.

وأنت خبير بما فيه أولا ـ لظهور الأخبار في تعيين ما يؤخذ باسمهما زكاة وخراجا ، سيما الصحيحة المتقدمة وأخبار تقبيل الأراضي. وثانيا ـ بلزوم خروجه عن القاعدة ـ أيضا ـ في تصحيحه الشراء بالأخبار الآمرة به ، والتفرقة بينه وبين غيره بما ذكر أوهن من بيت العنكبوت. إلا أن يقال بالاقتصار على القدر المتيقن فيما خالف القواعد.

نعم ، قد يدعى ظهور اختصاص الرواية بالزكاة ، لأن الزكاة من الحقوق التي يتعلق بها نصيب أغلب الناس من ذوي الحاجة ، وهي في بيت المال ، وإلا فالخراج لا يتعلق بها وهي كذلك إلا نصيب من يكون الدفع إليه من المصالح العامة كالغزاة والقضاة وصاحب الديوان ونحو ذلك. ولم نعلم كون الراوي منهم ، بل الظاهر تجنبه عنهم للخوف على دينه.

وحملها على خصوص المنذور ، أو الموصى به للشيعة كما احتمله المقدس ـ بعيد جدا كدعوى ندرة الزكاة في بيت المال وعدم الإحراز فيه ـ كما تقدم من (الرياض) تبعا لصاحب (الحدائق) ـ ويكون ـ حينئذ ـ لوم الامام عليه السلام لابن أبي سماك : في عدم إخراج شباب الشيعة ، عدم إخراجهم بالعمالة في جمع الزكاة ليكون لهم منها سهم العاملين. اللهم إلا ان يكون تعلق النصيب في خراج الأنفال وما هو للإمام عليه السلام من الخمس الذي أباحوه لشيعتهم ، فيكون تعلقه باعتبار ذلك ، بل ويمكن صدق التعلق بخراج (العنوة) باعتبار اعتياد دفع العطايا والجوائز للناس منها بعلاقة الأول والقوة القريبة.

ومنها ـ الأخبار الواردة في جواز تقبل الخراج من الأراضي والرؤوس التي : منها : ما عن الصدوق في (الفقيه) : «في الصحيح عن إسماعيل


ابن الفضل عن ابي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل يتقبل بخراج الرجال وجزية رءوسهم وخراج النخل والآجام والمصائد والسمك والطير وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبدا ، أو يكون ، أنشتريه وفي أي زمان نشتريه ونتقبل منه؟ فقال : إذا علمت من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتره وتقبل به». وظاهرها كون أصل الجواز مفروغا عنه وانما وقع السؤال عن غيره.

ومنها ـ موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (ع): «في الرجل يتقبل بجزية رءوس الجبال وبخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا يدري لعله لا يكون ..» (١) الخبر المتقدم بأدنى تفاوت. وهي كالأولى في كون السؤال من حيث انه لا يدري أنه يكون من ذلك شي‌ء أم لا.

ومنها ـ صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) ـ في جملة حديث ـ «قال : لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال : نعم لا بأس به ، وقد قبل رسول الله (ص) خيبرا أعطاها اليهود حين فتحت عليه ..» الخبر (٢)

ومنها ـ رواية الفيض بن المختار : «قال : قلت لأبي عبد الله (ع) جعلت فداك ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أؤاجرها من أكرتي على أن ما أخرج الله تعالى منها من شي‌ء لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان؟ قال : لا بأس ، كذلك أعامل أكرتي» (٣).

__________________

(١) ذكر هذين الخبرين : الشيخ الأنصاري في (مكاسبه) وعامة الفقهاء في (المكاسب المحرمة).

(٢) ذكرها الشيخ في التهذيب ، كتاب التجارات ، باب المزارعة ، حديث رقم (٨٨) ج ٧ طبع النجف.

(٣) ذكرها الكليني في (الكافي ، كتاب المعيشة ، باب قبالة أراضي أهل الذمة ..) حديث رقم (٢) بسنده هكذا : حميد بن زياد عن الحسن بن محمد عن


إلى غير ذلك من الاخبار الصريحة في صحة التقبل الموجبة لانتقال الخراج الى المتقبل ودخوله في ملكه مطلقا ولو كان الخراج ثابتا في الذمة المشعرة بكون حكم تصرف الجائر في هذه الأراضي بحكم تصرف الامام العادل فيها ، ولو بإمضاء ذلك منه (ع) لمصلحة هو أعرف بها.

ومنها ـ ما روى في الصحيح عن جميل بن صالح ، قال : «أرادوا بيع تمر عين أبي زياد ، وأردت أن أشتريه ، فقلت : لا ، حتى استأمر أبا عبد الله (ع) ، فسألت معاذا أن يستأمره ، فقال : قل له : يشتره ، فإنه ان لم يشتره ، اشتراه غيره» (١).

واستدل به المحقق الكركي في (رسالته) على حلية الخراج والمقاسمة تبعا لما حكاه عن العلامة ـ رحمه الله ـ في (المنتهى) في ذلك (٢).

وهو مبني على كون عين أبي زياد من الأراضي الخراجية ، كما لعله يعطيه ما حكي عن (الوافي) بعد ذكر الخبر في باب المتاجر : أبو زياد كان من عمال السلطان إلا أنه من المحتمل ـ قريبا ـ كون الضيعة المزبورة

__________________

أحمد بن الحسن الميثمي ، قال : حدثني أبو نجيح المسمعي عن الفيض بن المختار ، وكذلك ذكره الشيخ في التهذيب ، كتاب التجارات ، باب المزارعة حديث تسلسل (٨٨١). والأكرة ـ بالفتح كعملة ـ جمع أكار ـ بالفتح والتشديد : الزراع.

(١) وسائل الحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، ٥٣ باب جواز الشراء من غلات الظالم .. حديث رقم (١) إلا أن فيه بدل (حتى استأمر) : (حتى استأذن). ومثله في (تهذيب الشيخ ـ في المكاسب) ج ٦ ص ٣٧٥ حديث رقم (١٠٩٢ ـ ٢١٣) طبع النجف الأشرف.

(٢) راجع ذلك في المقالة السادسة من (رسالته) في حل الخراج ، أثناء عرض الاخبار في الباب ، يقول بعد ذكره للحديث ـ «قلت : قد احتج بهذا الحديث لحل ذلك العلامة في (المنتهى) وصححه».


كانت لأبي عبد الله وغصبت منه ، كما يشعر به ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي ـ في باب نادر آخر أبواب الزكاة) : «عن يونس ـ أو غيره ـ عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : بلغني انك تفعل في غلة عين زياد شيئا ، فأنا أحب ان أسمعه منك ، قال : فقال : نعم ، كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلون ، فكنت آمر في كل يوم أن توضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة كلما أكل عشرة جاء عشرة يلقى لكل نفس منهم مد من رطب ، وكنت آمر ، لجبران الضيعة كلهم : الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر يجي‌ء ، فيؤخذ لكل إنسان مد فاذا كان الجذاذ فوفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم ، واحمل الباقي الى المدينة ، ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاثة والعقل والأكثر ـ على قدر استحقاقهم ـ وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار ، وكان غلتها أربعة آلاف دينار».

ولا ينافي فيه إضافة الضيعة الى أبي زياد ـ في الأول ـ والى زياد ـ في الثاني ـ فإن مثل هذا التجوز ـ كثير ـ كما قيل ـ فيكون استئماره منه ـ عليه السلام ـ لكونها له. ولعله لذلك لا يخلو الاستدلال به على المطلوب من وهن.

ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج : «قال قال لي : أبو الحسن عليه السلام : مالك لا تدخل مع على في شراء الطعام ، إني أظنك ضيقا قلت : نعم ، وإن شئت وسعت علي ، قال : اشتره» (١) بناء على قوة احتمال كون الطعام المشتري من الحقوق المضروبة على الأراضي والزراعة واحتمال كون اللام فيه للعهد والمعهود من غيرها لعله ضعيف.

__________________

(١) راجع : وسائل الحر العاملي ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، ٥٢ باب جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلات .. حديث تسلسل (٢٢٣٧٠ ـ ١)


وكذا استدل به في (التذكرة) على جواز تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة. وتبعه عليه في ذلك الكركي في (رسالته) (١).

إلى غير ذلك من الاخبار التي يشرف الفقيه بملاحظتها وانضمام بعضها الى بعض ـ على القطع بالمسألة.

مضافا إلى الإجماعات المحكية التي : منها ـ ما حكاه جدنا العلامة في (المصابيح) حيث قال : «ما يأخذه الجائر من الغلات باسم المقاسمة ومن الأموال باسم الخراج في أراضي الصلح ، والأراضي المفتوحة عنوة وباسم الزكاة مما فيه الزكاة ، في حكم ماله يجوز ابتياعه منه واتهابه ، وكذا سائر المعاوضات وان لم يرض المالك ، بإجماع علمائنا ورواية أصحابنا» (٢).

وما وقع حكايته مكررا من الكركي ـ رحمه الله ـ في (رسالته) ومن السيد جدنا في (الرياض) مستفيضا حيث قال ـ بعد ذكر فتواه في ذلك ـ : «والأصل في المسألة ـ بعد عدم الخلاف في الطائفة والإجماع المستفيض حكايته في كلام ـ جماعة ـ : المعتبرة المستفيضة» انتهى (٣).

بل في (المسالك) دعوى إطباق العلماء حيث قال : «.. إلا أن ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا عليهم السلام في تناوله منه

__________________

(١) راجع نفس المصدر الآنف من (الرسالة) فإنه بعد استدلاله بالرواية المذكورة يقول : «وقد احتج بها العلامة في (التذكرة) على تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة».

(٢) المصابيح للسيد بحر العلوم ـ قدس سره ـ من الموسوعات الفقهية الاستدلالية ولا يزال الكتاب خطيا. راجع هذه العبارة في أوائل كتاب التجارة منه بعنوان (مصباح : ما يأخذه الجائر ..).

(٣) راجع الجزء الأول من (الرياض ، كتاب التجارة المكاسب المحرمة منها) في شرح قول المحقق (الثالثة ـ يجوز أن يشتري من السلطان ..).


وأطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه مخالفا وإن كان ظالما في أخذه» (١) انتهى.

وفي (الجواهر) : «لا خلاف معتدا به في جواز شرائه منه وقبول هبته ونحو ذلك مما يقع على المملوك حقيقة» ثم حكى الإجماع عن غير واحد (٢). ولعل التقييد في نفي الخلاف إشارة الى مخالفة الأردبيلي ـ رحمه الله ـ تبعا للشيخ إبراهيم القطيفي.

وفي (الحدائق) : «المسألة الثانية : انه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضي الله عنهم ـ في أن ما يأخذه الجائر باسم المقاسمة والخراج من الأراضي والغلات وما يأخذه باسم الزكاة من الانعام والغلات ونحو ذلك يجوز شراؤه وقبول اتهابه ، بل ظاهر كلام جملة من الأصحاب دعوى الإجماع على ذلك ، ولم أقف على مخالف في الحكم المذكور إلا المحقق الأردبيلي ـ رحمه الله ـ في (شرح الإرشاد) وقبله الفاضل الشيخ إبراهيم ابن سليمان القطيفي أصلا ، الحلي مسكنا» انتهى (٣).

بل يظهر لمن تتبع فتاوى الأصحاب المحررة في كتبهم والمحكية عنهم

__________________

(١) راجع ـ من مسالك الشهيد الأول في شرح الشرائع ـ : أوائل كتاب التجارة في شرح قول المحقق (السابعة ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات ..).

(٢) راجع ذلك ـ في أوائل كتاب المتاجر ـ في شرح قول المحقق (ما يأخذه السلطان الجائر ..) وبعد هذه العبارة يقول «وعن جامع المقاصد : إن عليه ـ أي شرائه منه ـ إجماع فقهاء الإمامية والأخبار المتواترة. وفي (مصابيح العلامة الطباطبائي) : إن عليه إجماع علمائنا وروايات أصحابنا. وفي (قاطعة اللجاج) : الإجماع مكررا على ذلك. وفي (المسالك) : أذن أئمتنا في تناوله وأطبق عليه علماؤنا ولا نعلم فيه مخالفا. وفي محكي التنقيح وتعليق الإرشاد : الإجماع عليه ..»

(٣) راجع منه : كتاب المتاجر والمكاسب ، المقدمة الرابعة في تحقيق مسائل تدخل في حيز هذا المقام .. المسألة الثانية ـ الظاهر أن لا خلاف ..


بالحل وجواز التناول من الجائر إنه من البديهيات عندهم حيث أرسلوه إرسال المسلمات من دون ذكر خلاف في المسألة مع أن ديدتهم التعرض للأقوال النادرة في المسائل الخلافية والى قضاء ضرورة التعيش ومسيس الحاجة إليه بحيث كاد أن يكون التكليف بالتجنب عنه من التكليف بما لا يطاق ، ولا أقل من استلزامه العسر والحرج المنفيين آية ورواية ، وحرمان الشيعة من حقوقهم المتعلقة بتلك الأموال المجعولة في أيديهم وتحت سلطنتهم مع عدم الوسيلة لهم للوصول إليها إلا بهم ، ومقتضاه ـ كما هو مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى بل إطلاق معقد الإجماعات المحكية ـ عدا الأول منها ـ : عدم الفرق في الخراج المأخوذ من أرض الأنفال المختصة بالإمام عليه السلام وغيرها مما هو للمسلمين كأرض الصلح والمفتوحة عنوة ، مع احتمال الاختصاص بالثاني ، اقتصارا على المتيقن من إمضاء تصرفات الجائر وعمله ، والمغصوب من الامام عليه السلام كالمغصوب من آحاد المسلمين أو التفصيل في المأخوذ منه ذلك بين الشيعة وغيرهم لكون الأرض ـ في الأول ـ مفروضة بلا أجرة عليه بحكم الإباحة منهم لشيعتهم ، بخلاف الثاني ، فإنه يجوز لنا أخذه ، اما لكونه أجرة الأرض المفروض كونه للإمام عليه السلام ـ أو تقاصا عن الأجرة الثابتة في ذمته.

ثم إن مقتضى الصحيحة المتقدمة وغيرها (١) الظاهرة بل الصريحة في تعيين ما يقبضه الجائر من المالك باسم الزكاة من الأنعام والغلات زكاة ـ ولذا أجاز شراءه منه وإلا كان غصبا باقيا على ملك مالكه الموجب لعدم جواز شرائه قطعا ـ سقوطها عن المالك وبراءة ذمته عن أدائها مرة أخرى ـ كما هو أحد القولين أو الأقوال في المسألة. بل أخذ الجائر ذلك منه المتوقف على قسمته معه بحكم العزل المعين كون

__________________

(١) راجع : ص ٣١٢ من هذا الكتاب إشارة إلى صحيحة الحلبي.


المعزول زكاة ، بل هو منه حقيقة فإذا أخذه الجائر أخذ ما هو زكاة ، وان كان ظالما في أخذه لكونه غير مستحق له ولا نائبا عن المستحق كالخراج الظالم في أخذه لذلك مع تعيين كونه خراجا بحكم الشارع وبراءة ذمة المالك عن دفعه ثانيا بالاتفاق.

مضافا إلى ما دل على سقوطها ـ حينئذ من المعتبرة المستفيضة التي منها :

صحيحة يعقوب ، قال : (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العشور التي تؤخذ من الرجل ، أيحتسبه بها من زكاته؟ قال : نعم ان شاء):

وصحيحة سليمان : «سمعت الصادق (ع) يقول : إن أصحاب أبي أتوه ، فسألوه عما يأخذه السلطان فرق لهم ، وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها ، فأمرهم أن يحتسبوا به ، فجاز ذلك والله لهم ، يا أبه ان سمعوا ذلك لم يزك أحد ، فقال : يا بني حق أراد الله أن يظهره» (١)

وصحيحة العيص عن أبي عبد الله (ع) في الزكاة ، قال «ما أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم ، فان المال لا ينبغي أن يزكى مرتين» (٢).

__________________

(١) راجع : الاستبصار للشيخ الطوسي ، كتاب الزكاة ، ١١ ـ باب ان الزكاة انما تجب بعد إخراج مؤنة السلطان حديث رقم (٦) ج ٢ طبع النجف الأشرف ، ـ باختلاف بسيط في بعض كلماته ـ وسند الحديث فيه هكذا : سعد بن عبد الله عن أبي جعفر عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن ابن الحجاج عن سليمان بن خالد.

(٢) المصدر نفسه ، حديث رقم (٧) بسنده عن سعد بن عبد الله عن أحمد ابن محمد عن عبد الرحمن بن أبي نجران وعلى بن الحسن الطويل عن صفوان بن يحيى عن عيص بن القاسم عن ابي عبد الله (ع). وفي آخره : (وإن المال لا يبقى على أن يزكيه مرتين).


مؤيدا بالأخبار الدالة على سقوط الزكاة بعد دفع الخراج إليه التي :

منها ما رواه رفاعة : «سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل له الضيعة. فيؤدي خراجها ، هل عليه فيها العشر قال : لا» (١).

ونحوه صحيحته الأخرى ، وخبر أبي كهمش عنه (ع) : «من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه».(٢)

وخبر أبي قتادة عن سهل بن اليسع حيث أنشأ سهل يسأل أبا الحسن ـ عليه السلام ـ عما يخرج منها : ما عليه إذا كان السلطان يأخذ خراجه؟ : «فليس عليك شي‌ء وان لم يأخذ السلطان منها شيئا فعليك إخراج عشر ما يكون فيها» (٣) بعد حملها ـ كما في الحدائق عن بعض ـ على إرادة الزكاة من الخراج ، فتكون ـ حينئذ ـ من روايات الباب. وان كان الأولى حملها على التقية ، لكون ذلك مذهبا لأبي حنيفة ـ على ما حكي عنه ـ وعليه فتعتبر النية عند الدفع اليه ، كما تعتبر في سائر الزكوات.

والقول الآخر : عدم سقوط الزكاة عنه بدفعها اليه ـ كما قواه شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله ـ في (المسالك) معللا بأن الجائر ليس نائب المستحقين ، فتعذر النية ، فلا يصح الإخراج بدونها ووجوب دفعه إليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المعني معهم في أحكامهم والتحرز

__________________

(١) المصدر نفسه ، حديث رقم (٢) بسنده : عن الحسين بن سعيد عن محمد بن ابي عمير عن رفاعة بن موسى ..

(٢) المصدر نفسه ، حديث رقم (٣) بسنده : عن سعد عن أبي جعفر عن الحسين بن علي بن فضال عن أبي كهمش عن ابي عبد الله (ع) ..

(٣) راجع : الوسائل ، كتاب الزكاة ، ١٠ باب حكم حصة السلطان والخراج حديث رقم (١) بسنده عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عبد الله بن مالك عن أبي قتادة.


عن الضرر بمباينتهم (١).

وبما ذكرنا يظهر لك ضعف هذا القول ومستنده.

نعم ، يدل عليه صحيحة الشحام ، وهي : «قلت للصادق (ع) جعلت فداك ، إن هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون منا الصدقة ، فنعطيهم إياها : تجزى عنا؟ قال : إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ظلموكم ـ أموالكم وإنما الصدقة لأهلها» (٢).

إلا أن المحكي عن الشيخ ـ رحمه الله ـ حملها على استحباب الإعادة وفي (الحدائق) : حملها على ما إذا تمكن من عدم الإعطاء بإنكاره ونحوه ولم يفعل. بل لو سلمها إليهم بمجرد الطلب وهو حسن. ولعله يشهد له صحيحة العيص المتقدمة (٣) ، لو لا ظهورها (٤) في المقهورية على الدفع وعدم إمكان المدافعة ، ولو بمعونة ظهور قوله في الجواب (انما هؤلاء قوم غصبوكم أو ظلموكم) الموهن للحمل المذكور.

اللهم إلا أن يريد بالغصب أو الظلم من حيث المصرف والمدفوع له ، لا من حيث الأخذ من المالك لكونها من حقوقكم المدفوعة إلى غيركم ، وحينئذ يتجه الحمل المذكور.

ولعل الأقوى ، القول بالتفصيل في السقوط وعدمه بين الدفع اليه

__________________

(١) راجع ذلك ـ في كتاب التجارة منه ـ في المكاسب المحرمة ، مسائل في شرح قول المحقق : السابعة ـ ما يأخذه السلطان من الغلات باسم المقاسمة .. قال : وهل تبرأ ذمة المالك من إخراج الزكاة مرة أخرى : يحتمله ..

(٢) ذكرها صاحب الجواهر وغيره ممن شرح الشرائع ـ في كتاب المتاجر ، في شرح قول المحقق. السابعة ما يأخذه السلطان ..

(٣) راجع ـ ص ٣١٨ من هذا الكتاب.

(٤) أي : صحيحة الشحام.


مع إمكان منعه وجحده ، ولو بالإنكار عليه ، فالثاني وان تعين المقبوض زكاة بالقسمة والعزل لثبوته بالتفريط في الذمة ، مثلا ، ان كان مثليا ، أو قيمة ان كان قيميا ، ومع عدم إمكانه فالأول لعدم التفريط فيه بالفرض ، وبه يجمع بين الأخبار. ويشهد له الصحيحة المتقدمة (١). ولا كذلك الحكم في الخراج ، بل تبرأ الذمة منه بالدفع إلى الجائر مطلقا وإن تمكن من جحده لوجود تقبل الأراضي منه ولو بالتخيير بينه وبين الحاكم ـ كما هو مدلول الأخبار ، ومعاقد الإجماعات ـ حسبما تقدم ، ولم يوجد مثله في دفع الزكاة إلى الجائر ، فظهر الفرق بما ذكرنا بين الزكاة والخراج بعد دفعهما إليه في السقوط مطلقا في الثاني ، والتفصيل فيه في الأول.

ودعوى عدم تعيين الزكاة بالعزل الذي يلزم من تحققه التلف ، وان كانت ولاية العزل والقسمة للمالك إرفاقا به لكن ما لم يكن كذلك ، وإجبار الشخص على إعطاء الزكاة لا يوجب احتساب المدفوع من حق الفقراء ، لأن المشاع لا يتميز بغير رضا الشركاء ، غاية الأمر أنه يجب على المكره أن يدفع الى المكره ما يكفيه شره ، وأما احتسابه من حق الفقراء فلا ، ومن هنا يعلم أن الإكراه على تعيين قسمة أحد الشريكين لا ينفع في التعيين.

فيها : إن ذلك اجتهاد في مقابل النص. نعم هو مقتضى القواعد الأولية التي يجب الخروج عنها بظواهر النصوص المتقدمة (٢).

هذا كله في حكم الأخذ من الجائر مما يأخذه باسم الزكاة والخراج.

__________________

(١) يشير إلى صحيحة العيص المتقدمة ص ٣١٨.

(٢) راجع : ص ٣١٨ ـ ٣٢٠ من هذا الكتاب.


واما حكم جوائزه مما لا يعلم كونه منهما بل جوائز الظالم مطلقا ، فلا يخلو : إما أن يعلم بكونه حراما بعينه ، أو يعلم بكونه حلالا كذلك ، أو لا يعلم شيئا منهما بل هو مشتبه الحال.

أما الأول فلا إشكال في حرمة أخذه وتناوله إلا مع قصد إرجاعه إلى مالكه مع التمكن منه والتصدق عنه مع عدمه ، فيجوز ذلك ـ حينئذ ـ بل يستحب ويكون أمانة في يده لا يضمنها إلا مع التعدي أو التفريط ، ومع عدم قصد ذلك يضمنه لو تلف ولو بغير تفريط مطلقا ، ولو علم بها بعد القبض ، لأن يده ـ حينئذ ـ عادية والقبض لمصلحته.

أما لو تلف في يده مع سبق القبض على العلم بالحرمة مع القصد المذكور عنده ، ففي ضمانه لعموم «على اليد» وعدم منافاة جواز التصرف للضمان ، وعدمه لجواز التصرف مع قصد الإحسان على المالك بالفرض : قولان ، أقربهما الأول.

وبالجملة ، فصور المسألة في الضمان وعدمه أربع ، لأن المجاز بذلك : إما أن يقصد الإرجاع إلى المالك ، أو لا. وعلى التقديرين : إما أن يعلم بالحرمة قبل القبض ، أو بعده.

لا إشكال في الضمان مع عدم القصد ـ مطلقا ـ ولو كان العلم بها بعد القبض لكونه غاصبا ـ حينئذ ـ كما لا ينبغي الإشكال في عدمه معه لو سبق العلم بها عليه ، لأنه أمين محسن فلا سبيل عليه. وكون القبض ـ حينئذ ـ حسبيا مأمورا به من الشارع رعاية لمصلحة المالك وعدم تضرره ، فكيف يكون ذلك بتضرر القابض حسبة ، وهل هو إلا من دفع الضرر بالضرر المساوي له في درجة الملاحظة.

وفي ضمانه معه ـ لو قبض ثم علم بها ـ قولان : اختار ثانيهما في (المسالك) حيث قال : «والأقوى التفصيل وهو أنه ان كان قد قبضها


من الظالم عالما بكونها مغصوبة ضمن واستمر الضمان وإن أخذت منه قهرا وإن لم يعلم حالها حتى قبضها ثم تبين كونها مغصوبة ولم يقصر في إيصالها إلى مالكها ولا في حفظها ، لم يضمن ، والفرق بين الحالتين واضح فان يده في الأول عادية فيستصحب حكم الضمان كما لو تلف بغير تفريط ، وفي الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلف بغير تفريط» (١)

وتبعه على ذلك جدنا العلامة ـ رحمه الله ـ في (المصابيح) حيث قال : «ولو علم بالتحريم لم يجز الأخذ إلا بقصد الإعادة على المالك فيجوز ـ حينئذ ـ بل يستحب ، ولا يضمن على تقدير التلف لجواز التصرف كما لو قبضها ثم علم بالتحريم» انتهى (٢).

وظاهرهما ـ بل صريح الأول ـ عدم الضمان رأسا. وظاهر السيد جدنا ـ رحمه الله ـ في (الرياض) التوقف في المسألة لاقتصاره فيها على نقل القولين من دون اختيار لأحدهما (٣).

والأقوى هو الأول ، لما عرفت من عموم «على اليد» مع منع كونها عند القبض والاستيلاء عليه أمانة. كيف ولم يقبضها إلا لمصلحة نفسه وأقدم في الأخذ على كونها له.

ويؤيده ـ بل يدل عليه ـ : إطلاق كلامهم بالضمان في مسألة تعاقب الأيدي من غير تفصيل بين العلم بالغصب والجهل به ، مستمرا كان

__________________

(١) راجع : كتاب التجارة منه ضمن مسائل : السادسة ـ جوائز الجائر ، في شرح قول المحقق : ولا يجوز إعادتها ..

(٢) راجع منه : كتاب المتاجر ، مصباح (يجوز أخذ الجوائز من الظالمين والتصرف فيها.).

(٣) راجع ذلك في كتاب التجارة في شرح قول المحقق : السادسة : جوائز السلطان ..


الجهل به أو لا ـ ورجوع المالك على من شاء منهم.

نعم ربما يحتمل القول بسقوطه عند العلم به مع قصد إرجاعه إلى المالك لكون القبض ـ حينئذ ـ مأذونا فيه من الشارع ويكون بالقصد المزبور محسنا على المالك ، فيتبدل عنوان اليد من الضمان إلى الأمانة الشرعية التي هي من مسقطات الضمان ، بل هو أقوى من القول بعدم الضمان ـ أصلا.

ولكنه مع ذلك ، فيه ـ أيضا ـ : منع تبدلها إلى الأمانة بمجرد العلم ، مع القصد المزبور وإن كان مأذونا فيه. أما بناء على أن القبض المستدام قبض واحد ، بناء على بقاء الأكوان وعدم احتياج الباقي الى المؤثر ، فواضح ، لأنه قبض مضمون عليه بالفرض ، فيستصحب ضمانه ، وأما بناء على عدم بقاء الأكوان وأنه قبوضات متعددة متجددة ، ففيه ـ أيضا ـ إن القبض المأذون فيه المتجدد عند العلم ـ لو سلم ـ فغايته أنه لا يوجب ضمانا ولا ينافي ثبوته بالقبض الأول.

والذي يجدي في المقام : كونه مسقطا للضمان ، لا مجرد عدم كونه موجبا له ، إلا بدعوى الملازمة الممنوعة بين عدم سببيته للضمان وبين سببيته لعدمه ، وليس كل مأذون فيه أمانة شرعية ، فإن الإذن لازم أعم للأمانة ، لا مساويا لها.

هذا ، وهل يتقدر الفحص المتوقف عليه الإيصال الواجب إلى سنة تنزيلا له منزلة اللقطة ، لخبر حفص بن غياث : «سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا ـ واللص ـ مسلم ـ : هل يرده عليه؟ فقال : لا يرده عليه فان أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة. يصيبها ، فيعرفها حولا ، فإن أصاب صاحبها ردها عليه وإلا تصدق بها ، فان جاء صاحبها


بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فان اختار الأجر فله الأجر ، وان اختار الغرم فله الغرم» (١) مع التعدي عن مورده من اللص إلى غيره ، ومن الوديعة إلى غيرها.

أو الى حد اليأس لكونه الأصل فيه ، بعد الاقتصار في الخبر على مورده؟ وجهان.

ولو توقف الفحص على الأجرة ، ففي وجوبها عليه ـ مطلقا ـ ويرجع بها مع الجهل على من غرّه ، أو ما لم يكن أمينا بأن كانت يده يد ضمان مطلقا ، ومع الغرور يرجع به الى الغار ، أو في خصوص ما لو كانت يده عدوانا إثما؟ فيه احتمالات. فان عرف المالك بعينه ولو بعد الفحص عنه دفعه اليه مع بقاء العين ، ومع التلف دفع بدله المثل أو القيمة لو كانت مضمونة عليه ، وإلا فإن كان مشتبها بين محصورين تخلص عنه بالصلح معهم ، فان امتنعوا عنه توصل بالدفع الى الحاكم ليجبرهم عليه ، ويحتمل التعيين بالقرعة ، لأنها لكل أمر مشكل. وان كان في غير المحصورين ، أو كان مجهولا بالكلية ، تخير بين الدفع الى الحاكم ـ مطلقا ـ لأنه وليه فيكون يده يد المالك المولى عليه ، وبين التصدق عنه بنفسه كذلك ، لورود الأخبار المستفيضة بالتصدق عنه ـ حينئذ ـ فيستفاد منها ثبوت ولاية التصدق للمتصدق أيضا ، كما أن ولاية تعيين الزكاة وعزلها للمالك.

ويحتمل التفصيل بين العين المتصدق بها وبين الدين الثابت في الذمة ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ـ أبواب القضايا والأحكام ، ٩١ باب ما يكون حكمه حكم اللقطة حديث تسلسل (٨٥٦ ـ ١) ج ٣ طبع النجف الأشرف بسنده : روى سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث ، وفي آخر الحديث : وإن اختار الغرم غرم له وكان الأجر له.


لأنه كلي لا يتشخص إلا بقبض الديان أو وكيله ، فتعين فيه بالخصوص دفعه الى الحاكم ، وبقبضه يتعين كونه للمالك فيتصدق بماله عنه.

اللهم إلا أن يستفاد من إطلاق أخبار الصدقة ثبوت ولاية تشخص العين للمديون هنا ـ أيضا ـ ولا ريب أن الأحوط دفعه الى الحاكم مطلقا لما يظهر من بعض الروايات : أن مجهول المالك مال الإمام ، كرواية داود بن ابي زيد : «إني أصبت مالا ، واني قد خفت منه على نفسي فلو أصبت صاحبه دفعته اليه وتخلصت عنه ، فقال أبو عبد الله (ع) : لو أصبت كنت تدفعه اليه؟ فقال : إي والله ، فقال : والله ما له صاحب غيري ، قال فاستحلفه أن يدفعه الى من يأمره ، فحلف ، قال : فاذهب وقسمه بين إخوانك ولك الأمن مما خفته ، قال : فقسمه بين إخوانه» (١).

ولا يجب عليه الحفظ والوصية به ، والاحتياط بحفظه للمالك لعله خلاف الاحتياط لأدائه ـ غالبا ـ الى حرمانه عن العين والبدل ، بناء على عدم عموم المنزلة في خبر حفص بن غياث المتقدم ، وأن التنزيل منزلة اللقطة في حد الفحص إلى سنة والتصدق بعده ، مؤيدا بخلو أخبار حكم مجهول المالك بالصدقة عن حفظه للمالك ، كما ورد الأمر به ، ولو تخييرا في اللقطة.

فما عن الحلي : من إبقائها أمانة في يده والوصية بها مع كونها معرضا للتلف ، ضعيف لما عرفت.

وكيف كان ، فلو ظهر المالك بعد التصدق فله الخيار بين إمضاء

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه للصدوق ـ رحمه الله ـ في أبواب القضايا والأحكام ٩٠ باب اللقطة والضالة ، حديث تسلسل (٨٥٤) ـ ١٧ ـ ج ٣ طبع النجف الأشرف. وفي بعض النسخ (بين أصحابه) بدل (بين إخوانه).


الصدقة وقبول الأجر والثواب ، وبين ردها وغرامة المتصدق المثل أو القيمة. وليس له الرجوع على المتصدق عليه ولو مع بقاء العين في يده ، لأصالة لزوم الصدقة وثبوت الضمان على المتصدق بعد التصدق مطلقا ، ولو كانت يده أمانة ، للأخبار المستفيضة المصرحة بذلك ، وقاعدة الإتلاف مع إمكان المناقشة فيها بالخصوص في المقام ، لكونه من الإتلاف له لا الإتلاف عليه. ولذا يمكن أن يقال : لو لا الاخبار كان مقتضى القاعدة عدم الضمان بعد الأمر به ، بناء على أن التصدق به نوع إيصال إلى المالك ، ونحو من الطرق الموصلة اليه.

ولو مات المالك ، ففي قيام وارثه في الخيار مقامه وعدمه احتمالان ، لكلي منهما وجه.

ولو مات المتصدق (يعني من عليه التصدق) قبل التصدق به ، فان كانت العين باقية وظهر المالك أخذها وان كانت تالفة مضمونة عليه ولم يتصدق ببدلها حتى مات ، رجع به على تركته مطلقا ، ولو بعد القسمة ، وفي ضمانه بعد الصدقة وإجراء حكم ديونه عليه لو أراد المالك بدله المالي : وجهان ، والأقوى العدم ، بل تعين عليه قبول الأجر والثواب ، سيما بناء على ثبوت الحق للمالك بظهوره أو بمطالبته ، لا عند التصدق به ، كما عليه غير واحد من الأصحاب. وتفصيل الكلام موكول الى محله في باب اللقطة.

ومما ذكرنا يظهر حكم الظالم نفسه فيما عليه من المظالم المجهولة المالك فإنه يجبره الحاكم في أخذ المظالم منه في حال حياته ويتصدق بها عن أربابها وتخرج من أصل تركته بعد موته كالدين مقدما على مواريثه ووصاياه ، خلافا لشيخنا الأكبر كاشف الغطاء في شرحه على (القواعد) حيث قال ما لفظه : «عازما على الضمان أي بعد الصدقة. ثم الأداء لو ظهر فاختار انه يرد اليه ثواب الصدقة ويأخذ ماله ولا يحسب من ديونه ـ الى


أن قال ـ : وتؤخذ من الظالم قهرا مع الإمكان ، إن بقيت في يده ، وعوضها مع التلف ، ويقاص بها من أمواله ما لم يجبر على الأخذ ـ على الأقوى ـ مع حياته ، ولو كانت ودائع على نحو ما سيجي‌ء في كتاب الغصب ، إلا أن ما في يده من المظالم ثم تلف لا يلحقه حكم الديون في التفريع على الوصايا والمواريث ، لعدم انصراف الدين اليه وإن كان منه ، وبقاء عموم الوصية والمواريث على حاله ، والسيرة المأخوذة يدا بيد من مبدء الإسلام إلى يومنا هذا ، فعلى هذا لو أوصى بها بعد التلف خرجت من الثلث» انتهى.

وتبعه على ذلك ولده في (أنوار الفقاهة) حيث قال : «وضمان المتصدق للصدقة لو ظهر أهلها لا يجري فيه حكم الدين في حياته ، ولا يجب أن يوصي به ويعزل عند وفاته ، نعم لو ظهر أهلها بعد موته وقبل تلف التركة قوي جواز الرجوع إلى التركة والأخذ منها ، وأما بعد التلف فلا يبعد سقوط حق الرجوع بها ، وأما الظالم نفسه فيرجع عليه بما أخذه عينا مع وجود أهله ، ولو أتلفه رجعوا عليه بمثله أو قيمته حيا أو ميتا ، ويكون عليه كسائر الديون ، وان كان مجهولا رجع الحاكم عليه في حياته ، وأما بعد موته فالأظهر أنه لا يؤخذ من تركته ولا يحتسب كديونه الخاصة بحيث تقدم على وصاياه ومواريثه ، بل لو اوصى بها خرجت من الثلث» انتهى.

قلت : دعوى الانصراف غير مسلمة ، ولو سلمت فمن الانصرافات البدوية التي لا يعول عليها ، والسيرة الكاشفة ممنوعة ، والمنبعثة عن عدم المبالاة غير مجدية.

فظهر بما ذكرناه حكم صور المسألة ، وان الأقوى في إجراء حكم الدين عليه ، وعدمه التفصيل بين ما قبل الصدقة وبعدها. وفي الثانية :


بين ظهور المالك في حياة المتصدق وبعد موته ، وأنه دين تجري فيه أحكام ديونه قبل التصدق ـ مطلقا ـ ظهر المالك أم لم يظهر ، في حياته أو بعد موته ـ ولا كذلك بعد الصدقة إلا فيما لو ظهر المالك في حال حياته ، فله الرد والرجوع بالبدل المالي ، للأخبار مع الاقتصار فيها على ظاهرها من الرجوع عليه في حياته وأنه القدر المتيقن من ثبوت الحق للمالك بظهوره أو بعد مطالبته.

ثم إن مصرف هذه الصدقة ـ كغيرها ـ من الصدقات ـ هو فقراء المؤمنين حتى لو كان المالك المجهول من غير أهل الحق من مخترمي المال ، لأنه المتبادر منها ولإطلاق الأمر بها ، وإن لم ينتفع بثوابه الأخروي ، لإمكان تعويضه ببدله الدنيوي أو التخفيف عن عذابه في الجحيم ، كما هو المأمول من لطفه العميم.

وفي جواز التصدق بها على الهاشمي ، بناء على تحريم مطلق الصدقة الواجبة عليه لا خصوص الزكاة منها ، وعدمه : وجهان ، بل قولان.

ولعل الأقرب هو الأول ، لأنها من المندوبة على المالك ، وان وجب على من بيده المال دفعه صدقة ، فهو مما يجب دفعه صدقة ، لا من الصدقات الواجبة ، والفرق بينهما واضح.

أما الثاني وهو ما لو كان المأخوذ مما علم كونه حلالا بعينه ، فلا إشكال في حكمه من جواز التصرف فيه ، وإن كان يندب التنزه عنه لأنه موجب لمحبتهم ، فان النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. ولما ورد في الصحيح : «إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله». ولو لا ما قبل من عدم القول بالكراهة لقلنا بها فيه ، وان كان لا ملازمة بينها وبين ترك المندوب ، بل لإشعار الصحيحة بها


مع التسامح في أدلتها وجبلية النفوس ، المتقدمة.

أما الثالث وهو المشتبه بين كونه من الحلال أو الحرام أو منهما فلا كلام في كونه من الشبهة المحصورة ـ لو علم في أمواله محرما ـ وإن أصر شيخنا في (الجواهر) بخروجه عنها ـ موضوعا ـ وإن أدرجه في الشبهة غير المحصورة بملاحظة كلي الظالم وصنفه من كل ذي مال مختلط حرامه بحلاله كالعشار والسارق والمرابي والمرتشي ومن لم يخرج الحقوق ونحوهم الذي منه الجائر ـ فإن ما في أيدي كل واحد من هؤلاء ـ وان كان من الشبهة لو اشتبه الحرام منه بالحلال ـ إلا ان المجموع من حيث المجموع الملحوظ بلحاظ الوحدة صنفا مخرج لها من المحصورة الى غير المحصورة. وإن كان بالنظر الى آحاد أفرادهم كان من المحصورة حتى صارت غير محصورة ، فيجري عليها حكم عدم الاجتناب.

وفيه ـ مع لزوم فتح هذا الباب سد باب الشبهة المحصورة ـ غالبا ـ أنه ـ حينئذ ـ من شبهة الكثير في الكثير المساوي لحكم المتصف بضده في وجوب الاجتناب عنه ـ على الأقوى ـ كما تقرر في محله. كما أنه لا كلام أيضا في خروجه ـ في الجملة ـ عن حكم الشبهة المحصورة ، فيجوز تناول ما يعطيه والمعاملة معه عليه إجماعا بقسميه.

فمن منقوله : ما حكاه جدنا العلامة في (المصابيح) حيث قال : «يجوز أخذ الجوائز من الظالمين والتصرف فيها ما لم يعلم حرمتها ـ بعينها ـ بالإجماع والنصوص المستفيضة» انتهى (١) ـ المعتضد بدعوى غير واحد ـ ومنهم السيد جدنا في الرياض ـ عدم الخلاف فيه ، مضافا

__________________

(١) راجع ـ كتاب التجارة منه ، مصباح : يجوز أخذ الجوائز من الظالمين ..


الى النصوص المستفيضة ـ بل المتواترة معنى ، الصريحة في ذلك (١).

إنما الكلام في خروج المقام عن حكم الشبهة المحصورة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا حصل منهم تصرف خاص كإعطاء وبيع ونحو ذلك : وجهان :

قال شيخنا في (الجواهر) : «إنما الكلام في أن ذلك يقتضي خروج ما في أيديهم وتحت تصرفهم ـ وان علم اشتماله على محرم ـ عن حكم الشبهة المحصورة ، فيجوز المقاصة منه والأكل للمارة والتصرف بالفحوى ونحو ذلك حتى يعلم الحرام منه بعينه فيترك أو يختص ذلك بما إذا حصل تصرف خاص منهم كإعطاء وبيع وإذن ونحو ذلك مما يحتمل فيه القصد إلى الحلال ، فلا تجوز المقاصة وأضرابها ، ويجوز الأخذ مع مقارنة أحد تلك الأفعال المحمولة على الصحة شرعا ـ من غير فرق بين ما كان في صندوق فيه غصب ، أو ليس كذلك ، أو دار أو غيرها ما لم يعلم إقدامه على المشتبه المحصور عنده : احتمالان. ظاهر الأستاد في شرحه : الثاني منهما. قال : ولو لم يعلم كونها ـ أي الجوائز ـ غصبا ، جاز أخذها من الجائر مطلقا ، للإجماع والأخبار ، ومن غيره ما لم يعلم إقدامه على المشتبه المحصور ، لقضاء اليد وأصالة الصحة ، فيجوز الأخذ ـ حينئذ ـ وإن جاء بها من دار أو دكان أو صندوق فيه غصب ، أو أشار الى معين من جملة كذلك ، ولا يعلم حصوله في المدفوع والمعين إلا أن التجنب مع الانحصار من شيم الأبرار ، وتختلف مراتب الرجحان باختلافه ، ولو أشار الى مبهم قوي المنع كالأخذ للمقاصة والأكل للمارة ـ لو جاز ـ

__________________

(١) راجع هذا الموضوع في كتاب التجارة منه ـ في شرح قول المحقق : السادسة : جوائز السلطان الظالم محرمة إن علمت حرمتها بعينها ، وإلا فهي حلال ..


وللدخول تحت رفع الجناح إلا بعلاج ، عملا بالأصل في غير محل النص. والظاهر إرادته من الإطلاق في الجائر بالنسبة إلى كونه سلطانا أو عاملا أو عشارا ، لا أن المراد ـ وان علم إقدامه على المشتبه المحصور حتى يكون الاشتراط في كلامه مختصا بغير الجائر ، بل الظاهر تعميمه لهما ، كما يقضي به التأمل لتمام كلامه.

ويمكن أن يريد اختصاص الجائر بهذا الحكم ، وهو جواز التناول منه ، وإن علم إقدامه على المشتبه المحصور ، كما هو مقتضى حال الجائر للنصوص ، وغيرها مما ستعرفه. وعلى كل حال ، فوجهه : ما أشار اليه.

ويحتمل الأول ، بل ربما أوهمه التقييد بالعين في المتن ، والنافع ، ومحكي نهاية الأحكام والدروس والكفاية ومعقد إجماع المصابيح» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه (١).

وقال في (المسالك ـ في شرح قوله : جوائز الظالم. إلخ): «التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها. وان علم ان في ماله مظالم كما

__________________

(١) راجع منه : كتاب المتاجر في شرح قول المحقق : المسألة السادسة ـ جوائز الجائر .. والنصوص المشار إليها في هذا الموضوع كثيرة ، منها ـ صحيح أبي ولاد : «قلت لأبي عبد الله (ع) : ما ترى في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم ، وأنا أمر به وأنزل عليه فيعطيني ويحسن إلي ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ـ وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : «خذ وكل لك المهنا وعليه الوزر».

وصحيح محمد بن مسلم وزرارة : قال : «سمعناه يقول : جوائز السلطان ليس بها بأس» وغيرهما كثير.


هو مقتضى حال الظالم ، ولا يكون حكمه حكم المال المختلط في وجوب اجتناب الجميع للنص على ذلك» انتهى (١).

قلت : لم أجد وجها لتخصيص القاعدة في حكم الشبهة المحصورة من وجوب الاجتناب عن أطرافها ، بعد تنجز الخطاب بالاجتناب عن الحرام منها المشروط بابتلاء المكلف بجميع أطرافها بما يعطيه الجائر وغيره من الجوائز وغيرها ، بعد أن كان غير الجائزة من أمواله ـ مثلا ـ خارجا عن ابتلاء المجاز ، فلا يكون التكليف بالحرام ـ على تقدير أن يكون غيرها منجزا في حقه ـ حتى يجب الاجتناب عن المشتبه به من باب المقدمة ، فالقاعدة لا تقتضي الاجتناب عنه بعد اختصاص الابتلاء به ، وإن كان من الشبهة المحصورة لانتفاء شرط جريان حكمها فيه ، وهو الابتلاء بجميع أطرافها المفروض عدمه ـ هنا.

نعم ، لو فرض الابتلاء بأطرافها ، كما لو أراد المقاصة من أمواله ، أو أكل المارة حيث جاز دخوله تحت رفع الجناح في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا). الآية (٢) ، أو فيما لو أشار المجيز الى غير معين من أمواله المشتملة على الغصب الموضوعة في صندوق أو قبة ونحوها أو الى مبهم من كيس أو صرة من الصرر المتعددة المشتبه حلالها بحرامها

__________________

(١) راجع : كتاب التجارة منه ، مسائل .. السادسة ـ جوائز الجائر إن علمت بعينها فهي حرام ..

(٢) سورة النور آية ، ٦١. وتمام الآية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً)


وجب الاجتناب عنها بالكلية وحرم أخذ شي‌ء منها ، ولم يعلم ورود دليل على الجواز في أمثال المقام بعد أن كانت النصوص في حل جوائز الجائر وصحة معاملاته واردة فيما خص الابتلاء به من أمواله ، لا مطلقا.

هذا ، والوجه هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره مشايخنا من الوجه المتقدم ذكره في كلامهم : من حمل الفعل على الصحة ، ومنه يظهر جواز الأخذ منه ولو علم الاقدام منه على المشتبه عنده ، خلافا لما تقدم من مشايخنا من اشتراطه بما لم يكن الاقدام كذلك ، ضرورة وضوح الفرق بين المدركين : ما هو المدرك عندنا ، وما هو المدرك عندهم.

وإنما يتجه اعتبار ذلك بناء على الثاني دون الأول.

ثم إن مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق في الحكم المذكور بين ما علم ثبوت مال حلال للظالم أو لا ، وان كان ربما يوهم اعتبار ذلك فيه بعض الأخبار ، مثل ما عن (الاحتجاج) : «عن الحميري : أنه كتب إلى صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ يسأله عن الرجل يكون من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده ولا يتورع عن أخذ ماله ، ربما نزلت في قرية ، وهو فيها ، أو أدخل منزله ـ وقد حضر طعامه ـ فيدعوني إليه ، فان لم آكل من طعامه ـ عاداني ، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى إلى هذا الوكيل ، فيدعوني إلى أن أنال منها ، وأنا أعلم أن الوكيل لا يتورع عن أخذ ما في يده ، فهل عليّ شي‌ء ان أنا نلت منها؟ الجواب : إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه ، واقبل بره ، وإلا فلا» (١).

__________________

(١) الحديث مفصل يذكره الطبرسي في (الاحتجاج) ج ٢ ص ٣٠٦ طبع النجف الأشرف.


إلا أنه ـ لقصوره وعدم مقاومته لما تقدم (١) ـ محمول على ما لو حصل منه العلم بالحرمة.

هذا ، ولكن يستحب التنزه عن نحو هذه الأموال ، بل يكره تناولها بلا خلاف أجده فيه.

مضافا الى جبلية النفوس على حب من أحسن إليها ، وإلى النصوص المستفيضة ، نحو قوله : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (٢) وقوله في الصحيح المتقدم : «ان أحدكم لا يصيب من دنياهم.» وفي الخبر : عن الورع عن الناس فقال : «الذي يتورع عن محارم الله عز وجل ويتجنب هؤلاء ، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه» وقوله : «من ترك الشبهات نجا من الهلكات» الى غير ذلك (٣).

إلا أن الكراهة ترتفع بأمور :

منها ـ إخباره بالحلية أو بما يفيدها كقوله : هو من مال تجارتي ـ كما ادعاه غير واحد من الأصحاب. بل في الرياض : «نفى الريب عنه حينئذ» (٣). والوجه فيه : هو ما دل على قبول قول ذي اليد. والأولى تقييده بما إذا كان مأمونا في قوله ، وإلا كان قوله كيده. ومنها ـ إخراج الخمس منه ، لفحوى ما دل على تطهيره المختلط

__________________

(١) من الأخبار المجوزة. راجع عنها ص ٣٠٥ ـ ٣٠٨ من هذا الكتاب.

(٢) راجع : كشف الخفاء للعجلوني : ج ٢ رقم الحديث (١٣٠٧).

(٣) من أمثال هذه الأخبار الدالة على التورع والحيطة ، يذكرها الشيخ الأنصاري وعامة الفقهاء في (المكاسب المحرمة : باب جوائز السلطان وعماله) ، ويذكر قسما منها الكليني في باب عمل السلطان وجوائزهم.

(٤) راجع منه : كتاب التجارة ، المكاسب المحرمة ، باب جوائز السلطان في شرح قول مصنفه : جوائز السلطان الظالم محرمة ان علمت حرمتها بعينها ، وإلا فهي حلال ..


بالحرام يقينا ، وقد تمسك بالأولوية المزبورة جماعة ، منهم العلامة في (المنتهى) وجدنا بحر العلوم في (المصابيح) (١) وجدنا السيد في (الرياض) (٢).

قيل : ويمكن الخدشة في أصل الاستدلال بأن الخمس إنما يطهر المختلط بالحرام حيث أن بعضه حرام وبعضه حلال ، فكأن الشارع جعل الخمس بدل ما فيه من الحرام ، فمعنى تطهيره تخليصه بإخراج الخمس مما فيه من الحرام ، فكان المقدار الحلال طاهرا في نفسه الا أنه قد تلوث بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم الحرام ، وهو وجوب الاجتناب فإخراج الخمس مطهر له عن هذه القذرة العرضية. وأما المال المحتمل لكونه بنفسه حراما وقذرا ذاتيا ، فلا معنى لتطهيره بإخراج خمسة ، بل المناسب لحكم الأصل ـ حيث جعل الاختلاط قذرة عرضية ـ كون الحرام قذر العين ، ولازمه : أن المال المحتمل الحرمة غير قابل للتطهير ، فلا بد من الاجتناب عنه. انتهى.

وهو حسن ، غير أنه منقوض عليه في المختلط بالحرام يقينا بما لو كان مقدار الحرام في الواقع أكثر من الخمس المدفوع منه ، فإن الزائد عليه ـ حينئذ ـ من قذر العين المفروض تطهيره بدفع بعضه.

فالأحسن : التمسك بالأولوية ، سيما مع كون الاحتمال في المشتبه ثلاثيا مرددا بين كونه حلالا أو حراما أو مشتملا عليهما.

بل ، وأولى منه : التمسك بها فيما لو كان ثنائيا مرددا بين الأول

__________________

(١) ذكر ذلك في كتاب التجارة ، مصباح : يجوز أخذ الجوائز من الظالمين ..

(٢) ذكر ذلك في كتاب التجارة ـ في شرح قول المحقق : جوائز الظالم محرمة ..


والثالث ، فافهمه.

ويدل على نفي الكراهة به من النصوص : الموثق المسؤول فيه عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال عليه السلام : «لا إلا أن لا يقدر فان فعل ، فصار في يده شي‌ء فليبعث بخمسه الى أهل البيت» (١).

فان موردها ـ وان كان ما يقع في يده بإزاء العمل ـ إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.

ومنها ـ ما لو قصد بذلك مواساة الاخوان وصرفها في حوائجهم ، بل في مطلق المصالح التي تكون في نظر الشارع أرجح من الاجتناب عنه كما ورد عن الامام الكاظم (ع) ـ فيما أهدي إليه من قوله : «لو لا أني أرى من أزوجه من عزاب آل أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلته» (٢).

وعلى ذلك ينزل ما ورد من قبولهم عليهم السلام لجوائز الأمويين والعباسيين ، أو على الضرورة ، أو بيان الجواز ، أو على كونه تخليصا لأموالهم المغصوبة ، أو غير ذلك من الوجوه التي هم أعرف بها ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

__________________

(١) ذكره (الرياض ج ١) المصدر نفسه.

(٢) يذكره الشيخ الأنصاري في (مكاسبه المحرمة باب جوائز السلطان) وعامة الفقهاء في نفس الباب.


خاتمة في الأراضي المندرسة

وهي التي خربت بعد أن كانت معمورة مملوكة لمالكها فلا تخلو إما أن يكون المالك قد ملكها بغير الأحياء من الأسباب المملكة والنواقل الشرعية ، ولو بالاغتنام كالمفتوحة عنوة ، أو ملكها بالإحياء.

فإن كان الأول فالذي يظهر من عبارة غير واحد من الأصحاب التسالم فيه على بقاء الملكية ، وعدم زوالها بالخراب. بل في (الجواهر) عن التذكرة : دعوى عدم الخلاف فيه. بل عنه في (المسالك) و (الروضة) : نقل الإجماع عليه (١).

قال في (الروضة) : «ولو جرى عليه ملك مسلم معروف فهو له ولوارثه بعده كغيره من الاملاك ، ولا ينتقل عنه بصيرورته مواتا مطلقا لأصالة بقاء الملك ، وخروجه يحتاج الى سبب ناقل ، وهو محصور وليس منه الخراب. وقيل : يملكه المحيي بعد صيرورتها مواتا ، ويبطل حق السابق ـ الى أن قال ـ : وهذا هو الأقوى. وموضع الخلاف ما إذا كان السابق قد ملكها بالإحياء ، فلو كان قد ملكها بالشراء ونحوه لم يزل ملكه عنها إجماعا ـ على ما نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل العلم ..» انتهى (٢).

وقال في (المسالك) : «إذا جرى على الأرض ملك مسلم معروف ومن في حكمه ، فما دامت عامرة فهي له ولورثته بعده ، وإن ترك

__________________

(١) راجع ذلك ـ مفصلا ـ في خاتمة كتاب الجهاد منه ـ في شرح قول المحقق : كل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها.

(٢) شرح اللمعة للشهيدين ، أوائل كتاب (إحياء الموات).


الانتفاع بها أصلا ـ إجماعا ـ فإن خربت ، فان كان انتقالها اليه بالقهر والغلبة كالمفتوح عنوة بالنسبة إلى المسلمين أو بالشراء أو العطية ونحوها ، لم يزل ملكه عنها ـ أيضا ـ إجماعا ، على ما نقله في (التذكرة) عن جميع أهل العلم ، وإن ملكها بالإحياء ثم تركها حتى عادت مواتا ، فعند المصنف ـ وقبله الشيخ وجماعة ـ أن الحكم كذلك ـ ثم استدل عليه بأدلة ـ الى أن قال ـ : وذهب جماعة ـ منهم العلامة في بعض فتاوى كتبه ، ومال إليه في التذكرة ـ إلى صحة إحيائها وكون الثاني أحق بها من الأول ، ثم استدل على هذا القول بأدلة ـ ثم قال بعدها ـ : وهذا القول قوي لدلالة الروايات الصحيحة عليه» انتهى (١).

وفيما حضرني من نسخ (التذكرة) ما هذا لفظه : «لو لم تكن الأرض التي في بلاد الإسلام معمورة في الحال ، ولكنها كانت قبل ذلك معمورة جرى عليها ملك مسلم ، فلا يخلو : إما أن يكون المالك معينا أو غير معين. فان كان معينا ، فاما أن ينتقل اليه بالشراء أو العطية وشبههما أو بالإحياء ، فإن ملكها بالشراء وشبهه لم تملك بالاحياء ، قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه» انتهى.

وليس فيه دعوى عدم الخلاف ، كما حكاه عنه في الجواهر ، ولو سلم ذلك فليس بصريح في الإجماع ، وصريحه منقول عن ابن عبد البر ، ولا نعرفه ، ولعله من العامة. فإن تم في المقام إجماع ، وإلا فللمناقشة فيه مجال.

وأما الثاني وهو ما كانت مملوكة بالإحياء ، فاختلفت كلمات الأصحاب فيه على قولين بل أقوال. وصريح الروضة ، وظاهر المسالك ، وغيره ـ كما تقدم ـ حصر الخلاف بينهم في هذه الصورة. ولا أرى

__________________

(١) راجع هذا الموضوع ـ مفصلا ـ في أوائل كتاب إحياء الموات من المسالك.


وجها للتفصيل بين الملكية الحاصلة بغير سبب الإحياء من النواقل الشرعية وبين الحاصلة بالإحياء وحصر موضع الخلاف في الثاني دون الأول ، إلا التشبث بذيل الأخبار تعبدا ان تم ، وهو غير معلوم كما ستعرف. كيف والنواقل الشرعية لا توجب إلا نقل ما كان للمنتقل عنه إلى المنتقل إليه.

فإن كانت الملكية الحاصلة للأول ملكية في الجملة وما دامت العمارة موجودة كالملكية بالإحياء ـ بناء عليه فيه ـ انتقلت كذلك الى من انتقلت اليه.

وان كانت الملكية دائمة ، فتنتقل كذلك ، فالعقود ونحوها من النواقل تنقل ما كان للأول الى الثاني ، ان دائما فدائما ، وان كان في الجملة ففي الجملة ، من غير فرق بين وجود الواسطة وعدمها وتعددها وعدمه ، والأغلب ـ بل الغالب ـ تنتهي سلسلة المملوكات صعودا إلى المملوكة بالاحياء ، وتتدرج الكيفية الحاصلة ـ أولا ـ في التنزل بالسلسلة الطولية بعينها الى حصول الخراب من دون زيادة في كيفية الملكية. اللهم إلا أن يكون منشأ الخلاف في المملوكة بالإحياء هو الاختلاف في كيفية سببية الإحياء في الموات المملوكة للإمام بالنقل ، وأنه هل يوجب الملكية ـ كما هو الظاهر من اللام في عموم «من أحيى أرضا ميتة ..» ـ (١) وكونه سببا تاما للملك ، بناء على سقوط إذن الامام في زمن الغيبة أو تحقق المستفاد من تلك العمومات ، أو لا يوجب إلا الأحقية ، بناء على كون اللام للاختصاص ، وان قلنا بمجازيته ، لقرينة ما دل من الروايات على دفع خراجه للإمام (ع) من أهل بيته وانتزاعها من أيديهم عند ظهوره ـ عجل الله فرجه ـ الا ما كان في أيدي شيعتهم فيقاطعهم عليه (٢) وإلا

__________________

(١) راجع هذا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب ص ٢٧١.

(٢) راجع عنها ما مر من الكتاب ص ٢٦٦ ، ٢٦٨ ، ٢٧٤.


فلا معنى لانتزاع المملوك من يد مالكه. وحيث قلنا بمفاد الأحقية دون الملكية ، فمقتضى أخبار التحليل للشيعة فيما هو لهم حتى في التصرفات المتوقفة على الملك : هو اما دخوله آنا ما في ملكه عند إرادته ذلك ، أو كونه من الفضولي المتحقق معه الإجازة من المالك ـ كما تقدمت الإشارة اليه ـ وعلى التقديرين يملكه المنتقل إليه بأحد النواقل الشرعية ملكية تامة ، وان كان الانتقال من المحيي نفسه ، وقلنا له بالأحقية دون الملكية لأحد الأمرين المتقدمين. وحيث تم في أول مرتبة السلسلة تم في جميع مراتبها الطولية نزولا ، بخلاف ما لو خربت عند المحيي نفسه غير الثابت له الا الأحقية التي تزول بزوال مناطها وهو الإحياء.

وبالجملة ، فالقول بزوال حق الأول على ثبوت الأحقية له بالإحياء دون الملكية. وعليه يتجه ما عليه أكثر أهل القول الثاني من أنها للثاني من دون شي‌ء عليه من الطسق للأول ، فافهم.

وكيف كان فقد ذهب الى القول ببقاء الملكية وعدم زوالها بالموت جماعة ، منهم : الشيخ في (المبسوط) وصاحب المهذب ، والسرائر ، والجامع ، والتحرير ، والدروس ، وجامع المقاصد ـ وغيرهم ـ على ما حكي عنهم ـ بل عن الأول : نفي الخلاف في أن غامر بلاد الشرك إذا كان لمعين لا يملك بالإحياء. وهو بإطلاق يشمل محل البحث مما كان مملوكا بالإحياء. مضافا الى تصريحه بعدم الفرق بين بلاد الشرك والإسلام بأكثر من أن الغامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة والغامر في بلاد الشرك يملك بالقهر والغلبة. بل قيل ـ كما في الجواهر ـ : إن لم يعرف الخلاف في ذلك قبل الفاضل في (التذكرة).

وعلى كل حال : حجتهم على ذلك : عموم قوله (ص) : «من


أحيى أرضا ميتة فهي له» وقوله : «ليس لعرق ظالم حق» (١) بالتنوين أو بالإضافة بناء على ما عن هشام بن عروة في تفسيره : أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها.

وخبر سليمان بن خالد ـ وفيه ـ : «أنه سئل الصادق (ع) عن الرجل يأتي الأرض الخربة ، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ، فما ذا عليه؟ قال : الصدقة ، قلت : وان كان يعرف صاحبها؟ قال : فليؤد إليه حقه» (٢) بناء على ظهوره في الرقبة دون أجرتها ، مضافا إلى أصالة بقاء الملك على ما كان عليه ، والى أنها أرض يعرف مالكها فلا تملك بالإحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية. وإلى أن الملكية لا تزول إلا بأسباب مخصوصة ، وليس الخراب منها ـ كذا قيل ـ :

وفي الكل نظر : أما الأول ـ فلا يتم إلا بمعونة الأصل الذي ستعرف ما فيه.

وأما الثاني ، فمع أن التفسير ليس ممن قوله حجة علينا ، فسره بأن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره ، وهو ـ هنا ـ غير مسلم ، بل هو عين الدعوى.

وأما الثالث فبمعارضته بأخبار أخر لعلها أقوى منه سندا.

وأما الأصل ، فيخرج عنه بالأخبار الصحيحة الظاهرة في خلافه.

وأما ما يليه من الأدلة ، فمصادرة محضة ، وإن هو إلا عين الدعوى.

وذهب جماعة أخرى ، منهم العلامة في (التذكرة) وثاني الشهيدين

__________________

(١) هاتان الفقرتان حديث واحد ، ذكره السيوطي في (الجامع الصغير ـ في مادة من) ومر علينا في هذا الكتاب ص ٢٧١.

(٢) راجع عنها ما مر من هذا الكتاب ص ٢٨٥.


في (الروضة) والمسالك ، وغيرهم ، بل في (جامع المقاصد) : إنه المشهور ، وان كنا لم نتحققه ـ الى جواز تملك الثاني لها بالإحياء ، لعموم قوله (ص) : «من أحيى أرضا ميتة فهي له» (١) ولصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام قال : «أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عمروها فهم أحق بها وهي لهم» (٢) وغيرها من الأخبار الدالة على تملك المحيي بالإحياء ، ولأن هذه الأرض أصلها مباح ، فاذا تركها حتى عادت إلى ما كانت عليه صارت مباحة ، كما لو أخذ ماء من دجلة ثم رده إليها ولأن العلة في تملك هذه الأرض الإحياء والعمارة ، فإذا زالت العلة زال المعلول وهو الملك ، فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك فيثبت الملك له ، كما لو التقط شيئا ثم سقط من يده وضاع منه فالتقطه غيره فإن الثاني أحق به ـ كذا قيل.

ومقتضاه زوال ملك الأول بالموت وتملك الثاني بالإحياء الذي مقتضاه عدم وجوب شي‌ء عليه للأول ـ كما هو ظاهر أكثرهم.

وفيه : إما عمومات الإحياء ، فمع أن إجراءها في الثاني ليس بأولى من إجرائها في الأول ، وأنه من الترجيح بلا مرجح ، بل المرجوح فمقيدة بالمرسل المنجبر وهو : «من أحيى ميتة في غير حق مسلم فهي له» اللهم الا أن ينكر كونه لمسلم ـ والحالة هذه ـ وإنه من المصادرة. وفيه مع أنه مقتضى الأصل يكفي كونه مشكوكا بناء على كونه شرطا في صحة الإحياء ـ لا يمكن إحرازه في المقام بالأصل.

وأما عودها الى ما كانت عليه ـ أولا ـ من الإباحة ، فهو مصادرة محضة والإحياء الأول علة للملكية التي مقتضاها الدوام الى طرو أحد

__________________

(١) مر آنفا في هذا الكتاب ص ٢٧١.

(٢) مر آنفا ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ و ٢٧١ من هذا الكتاب.


النواقل الشرعية ، فلا تزول بزواله ، وكونه كالماء المأخوذ من دجلة وعوده إليها من القياس الذي لا نقول به ، بل لا ينبغي تدوينه في كتبنا وان ذكره في (التذكرة) جريا على مذاق الجمهور. مع ان الملقى في دجلة من المأخوذ منه يعد تالفا وبالإلقاء إليها يعد إتلافا له.

والقياس باللقطة قياس مع الفارق ، فإن الأحكام مترتبة على موضوعاتها ضرورة أن اللقطة موضوعها الضالة ، وليس الملتقط الأول بأزيد من المالك الأصلي حتى تكون ضالته غير ضالة الأول.

وبالجملة ، فهذه الأدلة كلها مزيفة واهية جدا. والعمدة في المقام هي النصوص الخاصة التي :

منها ـ صحيحة معاوية بن وهب قال : «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : أيما رجل أتى خربة بائرة ، فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها ، فان عليه فيها الصدقة ، فإن كانت أرضا لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ، ثم جاء ـ بعد ـ يطلبها فإن الأرض لله ولمن عمرها» (١)

وصحيحة الكابلي ، عن أبي جعفر (ع) قال : «وجدنا في كتاب علي : ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون ، والأرض كلها لنا ، فمن أحيى أرضا ميتة من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها الى الامام (ع) من أهل بيتي ، وله ما أكل منها ، فان تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحق بها من الذي تركها ، فليؤد خراجها الى الامام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم عليه السلام من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (ص) ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا ، فيقاطعهم على

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث وذكره ص ٢٨٣ من هذا الكتاب.


في أيديهم ، ويترك الأرض في أيديهم» (١)

وهذان الخبران ـ وإن عارضهما خبر سليمان بن خالد المتقدم ـ (٢) ، إلا ان الجمع بين الأخبار يمكن بأحد وجهين ـ أو وجوه ـ :

الأول ان المعارضة بين خبر سليمان الدال على بقاء الملك للأول والشامل بإطلاقه لما لو كانت الأرض مملوكة بالإحياء أو بغيره ، وبين صحيحة معاوية الدالة على كونها للثاني المعمر لها ، مع شمول إطلاقها للصورتين ـ أيضا ـ من تعارض المتباينين. غير أن صحيحة الكابلي ـ لاختصاصها بصورة التملك بالإحياء ـ أخص مطلقا من خبر سليمان الموجب لتخصيصه بها حملا للمطلق على المقيد أو العام على الخاص ، وبعد التقييد أو التخصيص تنقلب النسبة بين خبر سليمان وصحيحة معاوية ، ويكون أخص منها كذلك ، لاختصاصه بعد التقييد بصحيحة الكابلي بما لو كانت الأرض مملوكة بغير الإحياء ، فيجب تقييد الصحيحة بخبر سليمان المقيد بخبر الكابلي ، فيكون حاصل الجمع بين الأخبار ـ حينئذ ـ : أنه إن كانت مملوكة بالإحياء للأول كانت لمن عمرها ثانيا لصحيحة الكابلي مع دلالة صحيحة معاوية عليه بعد تقييدها بخبر سليمان ، وان كانت مملوكة بغير الإحياء كانت للأول لخبر سليمان المنزل عليه بالخصوص بعد تقييده بصحيحة الكابلي. وعليه ، فتكون الأرض لمن عمرها ثانيا ، ولا شي‌ء عليه لزوال ملك الأول عنها فيما لو كان ملكها بالإحياء.

ويضعف ـ مضافا الى لزومه الترتيب في طريق الجمع الذي فيه كلام موكول الى محله ـ : أن تقييد خبر سليمان بصحيحة الكابلي فرع ظهورها في ملكية الثاني ، وهو ممنوع ، إذ ليس فيه إلا أن الثاني أحق

__________________

(١) مر عليك ذكر هذا الحديث ص ٢٦٨ من هذا الكتاب.

(٢) راجع : ص ٣٤٢ من هذا الكتاب.


من الأول الذي تركها ، وهو أعم من الملكية ، والعام لا يدل على خصوص الخاص. ولو سلم الظهور في الملك بدعوى كونه هو المتبادر من إطلاق الأحقية ، لأن الأحقية المطلقة يتبادر منها الملك ، فإنما هو تبادر إطلاقي. وحينئذ يدور الأمر بين تقييد أحد الإطلاقين : إطلاق خبر سليمان وإطلاق الصحيحة ، وترجيح تقييد الأول على الثاني ترجيح بلا مرجح. ومع التنزل ـ وتسليم كون التبادر وضعيا لا إطلاقيا وأن إرادة غير الملك من الأحقية إرادة للمعنى المجازي فيدور الأمر ـ حينئذ ـ بين التقييد والمجاز والتقييد أولى ، كما تقرر في محله ـ فهو مسلم ما لم يستلزم التقييد حمل المطلق على الأفراد النادرة ، وإلا فالمجاز حينئذ ـ ولا سيما الشائع منه ـ أولى من التقييد ، وهو ـ هنا ـ كذلك ، لأن تقييد خبر سليمان بالصحيحة يوجب تقييده لإطلاق صحيحة معاوية المنزل ـ حينئذ ـ على الفرد النادر ، وهو المملوك بالإحياء ، فإن الغالب ـ ولا سيما في البلاد المعمورة ـ حصول الملك لغيره من الأسباب المملكة كالشراء والعطية ونحوهما من النواقل الشرعية ، فتأمل.

الوجه الثاني : هو أن يجمع بينهما بحمل اللام من قوله (ولمن عمرها) في صحيحة معاوية بن وهب على مجرد الاختصاص دون الملكية بقرينة ظهور (فليؤد إليه حقه) في خبر سليمان في بقاء الملك للأول على كل من تفسيري الحق فيه : بالرقبة أو أجرتها ، إذ لا معنى لاستحقاق الأجرة مع عدم ملك الرقبة ، مضافا إلى ظهور التعبير عنه بصاحبها فيه ، ودعوى إشعار الأحقية به في صحيحة الكابلي. وعليه فتكون الأرض ملكا للأول ، وللمعمر الثاني الأحقية بها وأولوية التصرف فيها وعليه دفع أجرتها للأول. وحينئذ ففي جواز الاقدام على الإحياء ـ مطلقا ـ لإطلاق النصوص وظاهر فتاواهم ، أو مشروطا بإذنه أو إذن الحاكم ، ومع عدمهما


فيجوز حسبة للجمع بينهما وبين ما يقتضي بقاء الملكية من القواعد الشرعية ـ كما عن بعض ـ : وجهان : ولا ريب أن الثاني هو الأحوط ، إن لم يكن هو الأقوى.

هذا كله بناء على أن الإحياء من الأول موجب للملكية اما دائمة أو مقيدة ـ بما دامت العمارة باقية. ويحتمل ـ قويا عندي كما تقدم (١) ، بل هو الأقوى ـ : إن الأحياء في الموات التي هي للإمام عليه السلام لا يكون سببا لملك المحيي وخروج الرقبة عن ملك الامام ، ولا يوجب إلا أحقية المحيي بها وأولويته من غيره بالتصرف فيها فتكون اللام في عمومات الأحياء لمجرد الاختصاص ـ بقرينة ما دل على دفع خراجها للإمام (ع) في صحيحة الكابلي ـ وان كنا لا نقول به في زمان الغيبة لأخبار الإباحة والتحليل للشيعة المستفاد منها كونها لهم بلا اجرة عليهم ، ويحويها بعد ظهوره ـ عجل الله فرجه ـ إلا ما كانت في أيدي شيعتهم ، فيقاطعهم عليها (٢). ولو كانت مملوكة لمن أحياها من غيرهم ، أشكل الحكم بانتزاعها من أيديهم بعد أن كانت مملوكة لهم لمخالفته لمقتضى قواعد الملكية ، وليس إلا لبقائها على ملك الامام.

وأما خبر سليمان بن خالد الدال على الملك ودوام الملكية ، فمحمول على ما لو كانت مملوكة بغير الأحياء من أسباب الملك ، وان انتهت سلسلتها بالصعود الى الأحياء غير المملك للمحيي ، لما عرفناك ـ مكررا ـ ان الإباحة منهم لشيعتهم جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، مستلزمة إما لدخوله آنا ما في ملكه عند ارادة التصرف الخاص أو يكون من

__________________

(١) راجع هذا الموضوع في ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ من هذا الكتاب.

(٢) هذا هو مضمون أخبار التحليل كخبر عمر بن يزيد وغيره ، راجع : ص ٢٢٥ من هذا الكتاب.


الفضولي المتحقق معه الإجازة من المالك ، فتخرج الرقبة ـ حينئذ ـ عن ملك الامام عليه السلام ويملكها من انتقلت اليه ، كما لو اشتراه من الامام (ع) نفسه.

ومنه يعلم : أنه لا وجه لإلحاق الانتقال بالإرث من المحيي لسائر النواقل الشرعية منه كالشراء والعطية وغيرهما ـ كما وقع من شيخنا في (الجواهر) تبعا للرياض وجامع المقاصد ، بل لو خربت عند من ورثها من المحيي ـ ولو بوسائط متعددة بالإرث ـ كان حكمه حكم ما لو خربت عند المحيى نفسه من وقوع الخلاف المتقدم فيه.

وبالجملة ، المملوكة بالإرث من المحيي كالمملوكة بالإحياء في وقوع الخلاف فيه ، ضرورة ان الإرث لا يوجب انتقال ما كان للموروث من الملك أو الحق إلى الوارث ، وليس كالنواقل الشرعية المتوقفة على تحقق عنوان الملك.

وكيف كان ، فعلى ما قويناه ، لا إشكال في جواز الاقدام على تعميره ، ويكون من عمرها أحق بها من غيره لزوال أحقية الأول بزوال مناطها.

ثم ليعلم أنه لا منافاة ـ كما ربما يتوهم ـ بين كلامهم هنا ، وتسالمهم في المملوكة بغير الأحياء على عدم جواز مزاحمة المالك والتصرف في ملكه بغير اذنه. وبين كلامهم في المسألة المتقدمة في المقالة الثالثة : من ذهاب المشهور ، حتى قيل : ان القول بخلافه متروك : من أن ملاك الأرض لهم التصرف فيها ما داموا قائمين بعمارتها ، فاذا أهملوها حتى خربت أخذها الإمام (ع) أو نائبه ، وقبلها من غيرهم ليعمروها ، ودفع طسقها إليهم.


لأن كلامهم ـ هناك ـ في ما لو كان الإهمال منبعثا عن عجز المالك أو تعذره أو نحو ذلك مما يعد معه إبقاء للأرض على العطلة لخصوص الأخبار المتقدمة الدالة عليه ، ولكونه من التضييع المحرم. ولذا قلنا فيه بوجوب الاقتصار على القدر المتيقن المتبادر من النصوص بمخالفتها للقواعد الأولية.

وبالجملة ـ وجوب إخراج الأرض عن العطلة ـ ولو بمزاحمة المالك لو امتنع عنه مسألة ، وجواز مزاحمته في ملكه بمجرد الخراب مسألة أخرى وبينهما فرق واضح وبون بعيد ، فافهم.

هذا تمام الكلام في حكم ما لو كان السبب معلوما.

وأما لو كان مشكوكا دائرا بين سببية الأحياء وغيره ، فحكمه ـ على القول باتحاد حكم الصورتين ـ واضح ، وعلى القول بعدمه وزوال الملكية بالخراب فيما لو كان مملوكا ، بالاحياء ، فقد يتوهم إلحاقه به تمسكا بعموم دليل الأحياء بالنسبة إلى الثاني بعد عدم إمكان تعيين السبب بالأصل لكونه معارضا بالمثل ، فيبقى عموم : «من أحيى» بالنسبة إلى المعمر الثاني سليما عن المعارض.

إلا أنه فيه ـ مع أن عموم الإحياء أو مطلقاته بعد تقييدها بما لم يكن في حق مسلم ، بحكم المرسلة المتقدمة المنجبرة (١) وثبوت تنويع أفراد العام ودوران أمر لمشكوك ـ حينئذ بين كونه مندرجا في العام أو الخاص مع كونه من الشبهة في المصداق ولا يجوز التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية ـ :

أنه يمكن اجراء استصحاب كلي الملك المردد بين فردين : أحدهما

__________________

(١) راجع عنها : ص ٢٤٣ من هذا الكتاب.


معلوم البقاء والآخر معلوم العدم الموجب لدخوله في الموات التي تعلق بها حق مسلم ، فيندرج ـ حينئذ في الخاص المعلوم فيه حكمه من عدم جواز الاقدام على إحيائه وعدم التملك به لو أحياه. فبالاستصحاب يدخل في موضوع الخاص أو المقيد الذي هو من الدليل الاجتهادي الخاص ، فهو من تخصيص العام بالدليل الاجتهادي الثابت موضوعه بالاستصحاب ، لا من التخصيص بالأصل والاستصحاب ، كما ربما يتوهم.

وأما بناء على ثبوت الأحقية دون الملكية بالاحياء وبقاء الرقبة على ملك الامام (ع) ما لم يطرأ عليه أحد النواقل الشرعية ، فمرجع الشك ـ حينئذ ـ إلى الشك في خروجها عن ملك الإمام بأحد النواقل ولو من المحيي وعدمه ، والأصل بقاؤها على ملكه ، فيجوز الاقدام على تعميرها وإحيائها ويكون المحيي أحق بها من غيره ، وأولى بالتصرف من دون شي‌ء عليه من الطسق للأول ، لزوال أحقيته بزوال مناطها ، فافهم واغتنم.

تلخيص لما تقدم من الكلام في الأراضي المندرسة :

وهو : ان الموات منها : إما أن لا يكون له مالك معروف ـ سواء لم يكن له مالك أصلا لانقراضه وانقطاعه ، أو كان مجهولا لا يمكن تشخيصه ولو في محصور ـ وهذه كلها للإمام (ع) كالموات بالأصالة يجوز إحياؤها مطلقا أو للمسلمين خاصة ـ على الخلاف ـ مشروطا بإذن الإمام (ع) مطلقا ، أو في زمان الحضور خاصة ـ على الخلاف أيضا ـ يملكه المحيي بالإحياء. أو يكون به أحق من غيره وأولى بالتصرف فيه مع بقاء الرقبة على ما كانت عليه من ملك الامام ـ على ما تقدم من الخلاف أيضا.


وإما أن يكون له مالك معروف. وهو : اما أن يكون قد ملكها بغير الأحياء من الأسباب المملكة شرعا ، أو ملكها بسبب الأحياء. وعلى التقديرين : اما أن يكون سبب التملك أو الأحقية معلوما أو مشكوكا.

فها هنا مقامات :

الأول ما علم كونه مملوكا بغير الأحياء ، وحكمه البقاء على الملكية وعدم جواز التصرف فيه بغير إذنه ، مطلقا ـ على حد غيره من مملوكاته ـ والظاهر انه عندهم مما لا كلام فيه ولا شبهة تعتريه ، إلا إذا كان ذلك منبعثا عن إهماله لعجز أو تعند ، حتى انجرت الى الخراب ، أخذه الإمام أو نائبه العام وجوبا أو جوازا وقبله من غيره ودفع طسقه الى المالك ـ حسبما تقدم الكلام فيه في المقالة الثالثة ـ

الثاني ما علم كونه مملوكا بسبب الأحياء ، ففيه الخلاف المتقدم : من جواز إحيائه للثاني وتملكه له من دون شي‌ء عليه أو ثبوت الأحقية له كذلك أو مع دفعه الطسق إلى الأول مطلقا ـ أو مشروطا بعدم اذنه وامتناعه من تعميره أو حرمة التصرف فيه ـ مطلقا ـ كما لو كانت مملوكة بغير الأحياء. كل ذلك مبني على الخلاف في كون الأحياء سببا للأحقية والملكية. وعلى الملكية ، فهل هي ملكية دائمة مطلقا ، أو ما دامت الحياة باقية فتزول بزولها؟ ومنشأ الخلاف في ذلك أيضا : اختلاف الانظار في مفاد الأخبار ووجوه الجمع بينها حسبما حررناه لك ، وعليك بالترجيح بعد إعطاء التأمل حقه.

وأما الثالث وهو ما لو كان مشكوكا ولم يعلم كونها مملوكة بالإحياء أو بغيره ، ففي جواز أقدام الثاني على إحيائها ، وعدمه ، وجهان


مبنيان على ما تقدم : من أن الأحياء هل هو سبب للملك أو لا يوجب إلا الأحقية بالتصرف ، وانه على الأول : لا يجوز إحياؤها للثاني لكونها من الموات المتعلق به حق مسلم بحكم استصحاب الكلي الموجب لاندراجه في المرسل المقيد لعمومات إحياء الموات ، وعلى الثاني : يجوز ذلك لاستصحاب بقاء الرقبة على ملك الامام عليه السلام ، فيكون كالموات بالأصالة ، يجوز لكل أحد إحياؤها ، غير أن المحيي أحق بالتصرف من غيره.

والله العالم بحقائق الأمور

بهذه الرسالة ينتهي الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله :

رسالة

في أخذ الأجرة على الواجبات


فهرس

محتوات الجزء الاول من الکتاب

كلمة (مكتبة العلمين العامة) : عرض موجز لمطبوعاتها ومشاريعها الفكرية طيلة ستة أعوام ، لمحات سريعة عن الكتاب ومؤلفه والمعلق عليه.................................................................. (٣ ـ ٨)

خطبة الكتاب للمؤلف............................................... (٩ ـ ١٠)

رسالة في الفرق بين الحق والحكم

المتن : بيان الفوارق المفهومية والمصداقية بين الحق والحكم ، عرض تفصيلي لموارد الحق المختلفة الأنحاء ، وللمصاديق المشتبهة بينهما (١٣ ـ ٣٢)

التعليق : شرح مفصل للفوارق بين الحق والحكم التي ذكرها المصنف ، وتعريف كل منهما ، وذكر المائز بينهما ، ومناقشة المصنف فيما يراه من الحق : بأنها في الحقيقة من قبيل الأحكام لأنها غير قابلة للاسقاط ، كحق الأبوة وولاية الحاكم الشرعي وحق الاستمتاع بالزوجة وحق الجار وحق التولية من الواقف ، وحق الوصاية من الوصي وعامة الولايات المجعولة ممن له الجعل     (٣٣ ـ ٣٩)

الخمس والزكاة من الحقوق بالمعنى الأخص ، لكنهما غير قابلين للاسقاط ، فهما من هذه الجهة من قبيل الأحكام ، تحقيق مفصل في أن متعلق حق الخمس والزكاة ، الذمة أم العين المحقوقة ، واختيار : أنه العين لا الذمة ، وأنه حق مستقل وليس من قبيل سواه من الحقوق.................................................................. (٤٠ ـ ٤٩)


ومن الحقوق ـ غير القابلة للانتقال بالإرث ـ : حق القسم للزوجة ، وان قبل النقل إلى الضرة : ومما لا يقبل النقل والانتقال : ما كان من قبيل حق الغيبة والشتم والضرب والايذاء ، والأظهر عدم كونها من قبيل الحقوق (٥٠ ـ ٥١)

حق الرهانة والشفعة والخيار قابل للانتقال إلى الوارث وغير قابل للنقل إلى الغير بالمصالحة عليه ، بيان الفرق في ذلك ، وذكر الخلاف بين المصنف والشيخ الأنصاري حول الموضوع. وبيان جواز التوكيل في إنشاء الفسخ والاقرار. بيان ما هو الأصل في المشكوك كونه قابلا للنقل والانتقال................................................ (٥١ ـ ٦٠)

هل يصح جعل الحقوق ثمنا للبيع أم لا؟ عرض مفصل عن حقيقة الملكية والبيع ، وأخيرا : اختيار عدم صحة جعل الحق ثمنا للبيع     (٦١ ـ ٦٤)

رسالة في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده

ويستنتج من هذه القاعدة الايجابية : قاعدة سلبية معاكسة لها في المفهوم. بحث مفصل حول القاعدة الكلية طردا وعكسا من حيث المعنى. وبيان ما هو المقصود بالضمان فيها

.................................................................. (٦٧ ـ ٧٨)

مدرك القاعدتين الايجابية والسلبية ـ هو الاجماع وقاعدة الاحترام ، وليس قاعدة الاقدام       (٧٨ ـ ٨٢)

نقوض واشكالان :

ومما ينقض على طرد القاعدة : استعارة المحرم الصيد من المحل ، والجواب عن ذلك. والتحقيق في حكم ذلك الصيد         (٨٣ ـ ٨٨)


وينقض على القاعدة الايجابية ـ أيضا ـ بنماء البيع بالبيع الفاسد المضمون على المشتري ، والجواب عنه         (٨٩ ـ)

وينقض عليها أيضا بحمل المبيع بالبيع الفاسد المضمون على المشتري ، والجواب عنه

.................................................................. (٩٠ ـ ٩١)

ومنها : النقض بالشركة الفاسدة والجواب عنه ، تحقيق في بيان معنى الشركة وأقسامها الصحيحة والفاسدة       (٩١ ـ ٩٤)

وربما ينقض على القاعدة أيضا بعامل القراض إذا أخذ المال قراضا وكان عاجزا عن تأديته ، والجواب عن ذلك ، بيان تفصيلي عن حقيقة المضاربة ، والضمان فيها. والمناقشة مع المصنف في تضمين عامل القراض العاجز ، واختيار عدم تضمينه

.................................................................. (٩٥ ـ ٩٩)

وقد يتوهم النقض على القاعدة باستعارة العين المغصوبة من غاصبها. بيان صور المسألة ، والجواب عن ذلك ، بيان النقاش ـ تفصيلا ـ في ضمان تلك العارية المغصوبة

............................................................... (١٠٠ ـ ١٠٥)

ومما ينقض على القاعدة ، بالبيع من السفيه المحمور لو تلف المبيع في يده مع كون القبض باذن البائع. والجواب عن ذلك   (١٠٦ ـ ١٠٧)

وربما يتوهم النقض أيضا بالبيع بلا عوض ، والإجارة بلا أجرة. التفصيل في ذلك ، وبيان الجواب عنه   (١٠٨ ـ ١١٤)

ذكر الاشكالين على القاعدة ، والجواب عنهما..................... (١١٥ ـ ١١٦)

رسالة في القبض وحقيقته

بيان حقيقة القبض ـ لغة ـ وبيان أقوال الفقهاء الثمانية في مصطلحه وأدلتهم عليها : ١ ـ كفاية التخلية فيه مطلقا في المنقول وغيره ، ٢ ـ التخلية في غير المنقول ، وفيه : نقله ، ٣ ـ القبض في المنقول


إذا لم يكن مكيلا أو موزونا محض النقل ، واما فيهما فبالكيل أو الوزن ، ٤ ـ القبض في المنقول : نقله وفي الموزون والمكيل : ذلك أو الكيل أو الوزن ، ٥ ـ القبض هو التناول باليد فيما ينقل ويحول ، وأما في العبد فقبضه أن يقيمه ، والبهيمة قبضها أن يمشي بها ، والجزاف قبضه نقله من مكان إلى آخر ، والمكيل ، قبضه مكايلته ، ٦ ـ التخلية في غير المنقول وفي الحيوان : نقله ، وفي المكيل والموزون والمعدود : ذلك أو نقله ، وفي الثوب : وضعه في اليد ، ٧ ـ كفاية التخلية في نقل الضمان عن البائع ، لا في زوال المنع عن بيع ما لم يقبض ، ٨ ـ إنه الاستيلاء على المقبوض باليد. وأخيرا استظهار المصنف : أن القبض حقيقة واحدة في جميع الموارد ، وهي الاستيلاء والسلطنة العرفية على الشئ...................................... (١١٩ ـ ١٢٨)

بقي هنا فروع :

عرض موجز لفروع مسألة القبض : الأول ـ فيما لو كان المبيع مشمولا بأمتعة البائع ، الثاني ـ فيما لو كان المبيع بنفسه مشتركا بين البائع وغيره ، الثالث ـ لو كان المبيع في مكان لا يختص بالبائع ، الرابع ـ لو باع ما هو غير منقول كالدار ، الخامس ـ لو كان المبيع مكيلا أو موزونا. السادس ـ لو تلف المقبوض بالقبض الفاسد بيد المشتري. السابع ـ لو كان المبيع بيد المشتري قبل الابتياع .. عرض مفصل في تلك الفروع........................................... (١٢٩ ـ ١٤٦)

رسالة في قاعدة تلف المبيع قبل القبض اتفاق الفقهاء على أن المبيع الشخصي قبل القبض مضمون على بائعه بالمسمى ، عرض الأدلة على ذلك................................................................ (١٤٩ ـ)


هذه الكلية مما لا كلام فيها ، وانما يقع الكلام في أمور : الأول ـ ان ذلك هل هو على القاعدة ، أم على خلافها تعبدا؟ تحقيق مفصل عن كلية قاعدة الضمان ، وبيان الخلاف في ذلك. بيان مبنى الفقهاء بأن مفاد العقد هو التمليك بإزاء التمليك ، والجواب عن ذلك ، وبيان الثمرة بين القول بضمان البائع في تلف المبيع ، والقول بالانفساخ قبل التلف ، درج أقوال الفقهاء في ذلك الموضوع (١٥٠ ـ ١٦٤)

الأمر الثاني ـ بيان موارد الضمان والقبض فيما لو كان المبيع بعضا من جملة معينة

.................................................................... (١٦٥ ـ)

الأمر الثالث ـ موارد الضمان والقبض فيما لو كان المبيع كليا في الذمة ، تحقيق أدلة الموضوع (١٦٥ ـ ١٦٨)

الأمر الرابع ـ بيان حكم تلف المبيع إذا كان التلف بتسبيب من المشتري أو البائع أو الأجني ، عرض صور المسألة ، وأقوال الفقهاء فيها ، مع تحقيق مفصل في أدلة ذلك. وبيان أحكامها................... (١٦٩ ـ ١٧٦)

الأمر الخامس ـ فيما لو حصل للمبيع نماء قبل تلفه فهل للمشتري أم للبائع ، وبيان رأي الشيخ بأنه للبائع ، مستدلا بحديث (الخراج بالضمان) ومناقشة المصنف من قبل المعلق حول الموضوع............ (١٧٧ ـ ١٧٨)

الأمر السادس ـ في أن النماء المتجدد قبل التلف بيد البائع أمانة غير مضمونة

.................................................................... (١٧٩ ـ)

الأمر السابع ـ يلحق بالتلف الظاهر في الهلكة : ما كان بحكمه مما يوجب تعذر التسليم كالسرقة والضياع ونحوهما        (١٨٠ ـ)

الأمر الثامن ـ فيما لو شك في التالف : أنه من التلف قبل القبض أو بعده ، فالحكم هو انفساخ العقد ـ على القاعدة ـ وربما يتوهم لزوم العقد. وتحقيق المصنف والمعلق حول ذلك........................... (١٨١ ـ)


الأمر التاسع ـ استثنى بعض الأصحاب من قاعدة ضمان البائع تلف المبيع قبل القبض : تلفه ضمن الثلاثة أيام التي يثبت فيها خيار التأخير فحكموا أنه من ضمان المشتري ، وبعد الثلاثة من ضمان البائع (١٨٢ ـ ١٨٣)

الأمر العاشر ـ لا يسقط هذا الضمان عن البائع باسقاط المشتري أو إبرائه.. (١٨٤ ـ)

الحادي عشر ـ ربما يستثنى من هذه الكلية صور : منها ـ ما لو أسلم عبد الكافر وتلف بعد بيعه وقبل قبضه ، ومنها ـ ما لو باع العبد ممن يعتق عليه فتلف قبل التسليم. ومنها ـ ما لو باع العبد الآبق مع الضميمة ، فتلف الآبق أو تلفت الضميمة. ومنها ـ ما لو اشترى جارية فأولدها ولما يحصل القبض بالوطء ، فتلفت الجارية أو أبقت قبل القبض ، ومنها ـ ما لو حصل في العبد المبتاع قبل القبض أحد أسباب الانعتاق ومنها ـ ما لو جنى المملوك قبل القبض بما يوجب استرقاقه ، ومثله ما لو جنى على نفسه بقتل ، فإنه من التلف قبل القبض............................................... (١٨٥ ـ ١٨٨)

الثاني عشر ـ لو ضمن الأجنبي للمشتري درك الثمن لو رجع إليه بتلف المبيع قبل قبضه ، فلا يصح ذلك الضمان ان كان قبل تلف المبيع مطلقا ، ويصح ان وقع الضمان بعد تلف المبيع عند البايع وكان الثمن مقبوضا له (١٨٨ ـ)

الثالث عشر ـ لو وكل على البيع والاقباض ، وفرط الوكيل فتلف المبيع قبل قبضه ، انفسخ العقد ورجع الموكل على الوكيل.................................................................... (١٨٩ ـ)

الرابع عشر ـ لو كان المبيع مقبوضا للمشتري قبل بيعه ، لم يفتقر إلى قبض جديد

.................................................................... (١٨٩ ـ)

الخامس عشر ـ لو اتحد المقبض والقابض واختلفا


بالاعتبار لم يفتقر إلى نية القبض.................................. (١٩٠ ـ ١٩١)

السادس عشر ـ إذا تلف بعض المبيع وكان مما يقسط عليه من الثمن ، انفسخ العقد بالنسبة إليه ـ فحسب ـ  (١٩٢ ـ ١٩٣)

السابع عشر ـ كلما تقدم في تلف المبيع قبل قبضه يجري فيما لو تلف الثمن المعين أو أبعاضه أو أوصافه ، وانه في ضمان المشتري حرفا بحرف............................................................... (١٩٤ ـ)

الثامن عشر ـ لو باع ثوبا بعبد ـ مثلا ـ وقبض الثمن وهو العبد فباعه من غيره ، ثم تلف المبيع وهو الثوب قبل قبضه تحقيق الضمان في المسألة............................................................ (١٩٥ ـ)

التاسع عشر ـ الحاق الثمن الكلي ـ خارجيا أم ذميا ـ بالثمن المعين الشخصي في مسألة الضمان      (١٩٥ ـ)

العشرون ـ شمول قاعدة الضمان قبل القبض لسائر عقود المعاوضات. (١٩٥ ـ ١٩٦)

تذييل

يشترط في خروج البائع عن ضمان المبيع بالقبض : أن لا يكون للمشتري خيار يختص به ، وإلا كان الضمان على البائع وان تلف في يد المشتري ، التدليل على ذلك ، وتحقيق المسألة في عرض أمور خمسة ، وعرض أقوال الفقهاء في بيان ذلك

............................................................... (١٩٦ ـ ٢٠٦)

رسالة في الأراضي الخراجية

تبويب الرسالة إلى : مقدمة ، ومقالات ، وتذييب وخاتمة. أما المقدمة ففي تقسيم الأرضين : إلى أرض بلاد الاسلام


وأرض بلاد الكفر ، وبيان أقسام كل منهما........................ (٢٠٩ ـ ٢١٠)

المقالة الأولى ـ في الأرض المفتوحة عنوة ، وانها لعامة المسلمين ، والاستدلال على ذلك بالاجماع والاخبار المستفيضة والاستظهار منها : أن الأرض للمسلمين على جهة الملكية ، لا على وجه الاختصاص ، وبيان صور الملكية الأربعة  (٢١١ ـ ٢١٧)

بقي هنا أمور : الأول ـ هل يتعلق الخمس بالمفتوحة أم أنها كلها للمسلمين؟ بيان رأي المشهور في تعلق الخمس بها والتدليل على ذلك بالأخبار وكلمات الأصحاب ، ومناقشة ذلك ، وأخيرا : اختيار ثبوت الخمس فيها كغيرها من الغنائم المنقولة

............................................................... (٢١٧ ـ ٢٢٢)

الأمر الثاني ـ بيان الخلاف في تعلق الخمس بعين الأرض ، أو بحاصلاتها أو التخيير بينهما ، واختيار التخيير       (٢٢٣ ـ)

الأمر الثالث ـ ما يأخذه السلطان باسم الخراج أو المقاسمة إنما هو بدل عن مجموع الأرض لا عن غير الخمس منها ، فالخمس في الخراج.................................................................... (٢٢٤ ـ)

الأمر الرابع ـ الأقوى ثبوت الخمس في الخراج مطلقا ـ في زمن الحضور ، أم الغيبة ـ (٢٢٤ ـ)

الأمر الخامس ـ الأخبار الدالة على كون الأراضي كلها للامام بالاطلاق أو العموم يجب تقييدها أو تخصيصها بالأخبار الدالة على كون الأرض المفتوحة للمسلمين ، وذكر وجوه وتعليلات تثبت تملك الامام (ع) لعموم الأراضي المفتوحة وأنها محللة للشيعة يتصرفون فيها كيفما شاؤوا. استعراض الوجوه التي ذكرها الشيخ الأنصاري في ذلك الموضوع. مناقشتها      (٢٢٥ ـ ٢٣١)

الأمر السادس ـ الأرض المفتوحة دفاعا في زمان


الغيبة أيضا للمسلمين................................................. (٢٣٢ ـ)

الأمر السابع ـ لا تخرج الأراضي المفتوحة عنوة عن كونها خراجية بتغلب الكفار عليها (٢٣٢ ـ)

الأمر الثامن ـ المراد بالمعمورة عند الفتح وكونها للمسلمين كونها لهم بعماراتها الكائنة فيها ـ حينئذ ـ فيشكل الحكم في ملكية ما يصنع من تلك الأراضي من الآلات والأواني وغير ذلك.............. (٢٣٢ ـ ٢٣٤)

الأمر التاسع ـ يتفرع على ملكية الأرض المفتوحة لعموم المسلمين ـ عدم جواز التصرف فيها بدون الاذن ، والكلام في مقامين : الأول ـ هل يجوز التصرف والتعمير بدون إذن الامام (ع) أو نائبه؟ أو لا. واختيار توقف التصرف على إذن الامام أو نائبه؟ الثاني ـ ذكر الخلاف في جواز بيع الأرض المفتوحة وعدمه ، أو التفصيل بالجواز تبعا للآثار ، والعدم من دون ذلك. عرض فروع المسألة وأقوالها في المقامين وأدلتها ـ تفصيلا ـ.................................. (٢٣٤ ـ ٢٤٤)

الأمر العاشر ـ ذكر الخلاف في ثبوت كون الأرض من المفتوحة عنوة أو من العامر في وقتها بغير العلم من مراقب الظن ، وعرض حجية كل من الفريقين واختيار ثبوت ذلك بالظن........................ (٢٤٥ ـ ٢٤٨)

الأمر الحادي عشر ـ يجوز للامام (ع) ونائبه إقطاع شئ من أرض (العنوة) لبعض ، ولا تخرج بذلك عن كونها خراجية  (٢٤٩ ـ ٢٤٨)

الأمر الثاني عشر ـ ولاية تقبيل الأراضي وتسليطها بيد الامام (ع) في زمن الحضور وبسط اليد ، ومع عدم ذلك ـ كما في زمن الغيبة ـ فهل تسقط الولاية من أصلها ، فيجوز التصرف لكل أحد بلا اذن ، أو ثبوتها للنائب العام للامام؟ قولان في المسألة. تحقيق المسألة مع


عامة فروعها والتدليل على ذلك ، واستعراض كلمات الفقهاء في الموضوع ومناقشتها ، وبيان اختيار المصنف     (٢٥٠ ـ ٢٥٦)

الأمر الثالث عشر ـ يلحق بحكم عمران الأرض المفتوحة حريمها ومرافقها ، الأمر الرابع عشر ـ بيان حكم الأرض المفتوحة عنوة من جانب ، وصلحا من جانب آخر

.................................................................... (٢٥٧ ـ)

الأمر الخامس عشر ـ في تعيين الأراضي المفتوحة عنوة ، ومنها ـ مكة المكرمة........

(٢٥٨ ـ ٢٥٩)

ومن الأراضي المفتوحة عنوه : أرض العراق. تقدير مساحتها وكيفية فتحها ، وتقسيمها إلى العامرة ، والغامرة حين الفتح وبيان حكم العامرة منها.................................................... (٢٦٠ ـ ٢٦٤)

الكلام في أرض الموات المفتوحة عنوة ، وحكمها وأدلة كونها للامام عليه السلام

.................................................................... (٢٦٥ ـ)

إشكال التناقض بين كون الموات للامام ، والحكم بكون المحياة عند الفتح على إطلاقه لعموم المسلمين ، ومحاولة التخلص من الاشكال بعدة حيات. ويتفرع على ذلك : الاشكال بالأخبار الواردة من الفريقين الدالة بظاهرها على سببية الاحياء للتملك مطلقا ـ والجواب عن ذلك بحملها على الترخيص من الامام بالاحياء لا التملك التام. ثم الاشكال على ذلك الحمل أيضا ، والجواب عنه     (٢٦٦ ـ ٢٧٤)

المقالة الثانية ـ في أرض الصلح ، تعريفها وتقسيمها قسمين : القسم الأول ـ وقوع الصلح مع أهل الذمة على أن أرضهم لهم ، وعليهم الجزية بحسب تعين الامام أو نائبه لها كما وكيفا. ويجوز بيعها وإيجارها للمسلمين ولغيرهم على أن ينتقل خراجها إلى البائع لا إلى المشتري ، ذكر الخلاف في ذلك الحكم عن بعض والجواب عنه


وبيان ان مصرف هذا الخراج كمصرف الغنيمة.................... (٢٧٥ ـ ٢٨٠)

القسم الثاني من قسمي أرض الصلح ـ أن تكون رقبة الأرض للمسلمين وللمصالحين السكنى والجزية ـ كأرض المفتوحة عنوة ـ على ان تلك المصالحة الظاهرية لا تخرجهم عن كونهم مهدوري الدم في الواقع (٢٨١ ـ ٢٨٢)

المقالة الثالثة ـ في أرض من أسلم أهلها طوعا وأنها مملوكة لأربابها ، الاستدلال على ذلك بالشهرة فتوى ورواية ـ وذكر الخلاف عن بعض القدماء بأنها للمسلمين ، وبيان تضارب الروايات في ذلك ، والجمع بينها وتوجيهها والقول بالتفصيل

............................................................... (٢٨٢ ـ ٢٨٧)

المقالة الرابعة ـ في أرض الأنفال ، تعريفها ، أقسامها ، حكمها بأنها ملك النبي والامام (ع) ، الاستدلال على ذلك بالاجماع والشهرة والأخبار المستفيضة

............................................................... (٢٨٨ ـ ٢٩٢)

القول بان أرض الأنفال مباحة لعموم المسلمين والجواب عنه ، وذكر مناقشة صاحب المناهل قي دفاعه عن ابن إدريس حول الموضوع ، والجواب عنه ، ذكر الاشكال على ملكية هذه الأرض للامام بأنه يلزم من ذلك ملكية منتجاتها ، ومقتضاه عدم جواز تناول شئ منها إلا باذن الامام وذلك خلاف السيرة ، والجواب عنه................... (٢٩٣ ـ ٢٩٩)

هذا تمام الكلام في أرض الأنفال من حيث موضوعها ، وأما حكمها فهي للامام (ع) أو نائبه بعد النبي (ص) ، ليس لأحد التصرف بها بلا اجازته أو إجازة نائبه في زماني الحضور والغيبة ذكر الخلاف في إطلاق إجازة الأئمة (ع) لشيعتهم حتى في الخمس ، فأسقطه في الغيبة ، أم أن الإجازة مقيدة فيما وراء الخمس من الأموال والأنفال ، تفصيل الموضوع وتحقيقه. الاشكال بان غاية مفاد أخبار


التحليل هو جواز التصرف ، لا التملك ، والجواب عن ذلك بتوجيه التحليل إلى قصد لتمليك  (٣٠٠ ـ ٣٠٣)

تذنيب : في حكم ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة في تقبل الأرض منه ، وجواز الأخذ فيه ، وبراءة ذمة المتقبل بدفع القبالة إليه. الاستدلال على جواز ذلك بصحيحة الحذاء ، وذكر المناقشة فيها والجواب عن ذلك. مواصلة الاستدلال على ذلك بأخبار أخر والاستنتاج منها ـ بعد ذكر مناقشتها والجواب عنها ـ على المقصود ، ومنها الأخبار الواردة في جواز تقبل الخراج من الأراضي والرؤوس :..................................................... (٣٠٤ ـ ٣١٤)

متابعة الاستدلال على جواز أخذ مال الخراج وتقبله من الظالم وبراءة ذمة المتقبل ـ بالاجماعات المحكية عن عامة الفقهاء كالسيد بحر العلوم ، وصاحب الرياض ، والشهيد في المسالك ، وصاحب الجواهر ، والحدائق وغيرهم       (٣١٥ ـ ٣١٧)

ذكر الخلاف : في سقوط الزكاة عن المتقبل بعد أن أخذ الجائر منها الخراج بعنوان الزكاة ، أو عدم سقوطه عنه ، أو القول بالتفصيل في السقوط وعدمه بين الدفع إلى الظالم مع عدم استطاعة جحده وإنكاره ، أو استطاعة ذلك       (٣١٨ ـ ٣٢١)

حكم مال الجائر مما لم يعلم كونه من الخراج أو المقاسمة ، بيان أقسامها الثلاثة : اما أن يعلم حرمته بعينه ، أو حليته بعينه أو يكون مشتبه الحال. صور القسم الأول وبيان أحكامها : وذكر الخلاف فيها....... (٣٢٢ ـ ٣٢٨)

القسم الثاني فيما لو كان المال معلوم الحرمة ، بيان أحكامها ، وذكر الخلاف فيها

.................................................................... (٣٢٩ ـ)

القسم الثالث ، وهو المشتبه الحال ، صور المسألة


وبيان أحكامها ، وبيان أحكام الشبهة المحصورة وغير المحصورة....... (٣٣٠ ـ ٣٣٤)

ويستحب التنزه عن تناول أموال الجائر في جميع الصور ، ويكره التناول ، وترتفع الكراهة بأمور ، منها ـ إخباره ، بالحلية ومنها ـ إخراج خمسه ، ومنها ما لو كان قصد الآخذ قضاء حوائج الإخوان... (٣٣٥ ـ ٣٣٧)

خاتمة في الأراضي المندرسة : تعريفها صورها بيان أحكامها. ذكر الخلاف في أن الإحياء سبب الملكية أم لانتقال الأحقية من الأول إلى الثاني ، مناقشة أدلة الطرفين ، وبيان رأيه في المسألة بعد ذلك وذكر الأخبار المتناقضة ، وبيان وجهة الجمع بينها ، تلخيص لما تقدم من الكلام في الأراضي المندرسة. وبذلك ينتهي الجزء الأول من الكتاب... (٣٣٨ ـ ٣٥٢)

بلغة الفقيه - ١

المؤلف:
الصفحات: 365