٨ ـ مفتاح

[وجوب صلاة الجمعة عند حضورها]

الذين وضع الله عنهم الجمعة متى حضروها لزمهم الدخول فيها ، كما ورد النص في بعضهم معلّلا (١).

والظاهر أنّه لا خلاف في ذلك فيما سوى المرأة ، ولا في احتسابهم من العدد فيما سوى المسافر والعبد ، بل ولا في عدم احتسابهما ، وذلك لأنّ الساقط عنهم إنّما هو السعي ، ولذا (٢) من كان على رأس فرسخين تجب عليه مع الحضور قطعا.

روى الصدوق في أماليه عن الباقر عليه‌السلام قال : «أيّما مسافر صلّى الجمعة رغبة فيها وحبّا لها أعطاه الله عزوجل أجر مائة جمعة للمقيم» (٣) (٤).

ويستفاد من بعض الروايات إجزاء الجمعة عن المرأة أيضا (٥).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٧ الباب ١٨ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) في النسخة المطبوعة : وكذا.

(٣) أمالي الصدوق : ١٩ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٩ الحديث ٩٥٢١.

(٤) وبإسناده عن الباقر عليه‌السلام قال : «ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرّم الله جسده على النار» (أمالي الصدوق : ٣٠٠ الحديث ١٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٧ الحديث ٩٣٨٨) «منه رحمه‌الله»

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٧ الحديث ٩٥١٨.



قوله : (الذين وضع الله عنهم) .. إلى آخره.

قد عرفتهم وعرفت الدليل على الوضع.

وأمّا أنّهم إذا حضروها لزمهم الدخول ، فهو المشهور بين الأصحاب ، بل في «التذكرة» : أنّه لو حضر المريض والمحبوس لعذر المطر أو الخوف ، وجبت عليهم ، وانعقدت بهم إجماعا (١).

وربّما يؤذن هذا بأنّ لزوم الدخول على غير من ذكره ليس إجماعيّا ، فيشكل الحكم المذكور ، لأنّ مقتضى الأخبار الصحاح المعمول بها سقوطها عنهم (٢) ، فإذا سقطت وجب الظهر ، لأنّ العبادة التوقيفيّة لا بدّ من دليل على صحّتها ومطلوبيّتها.

وما قيل ـ موافقا لما ذكره المصنّف ـ من أنّ مقتضى الصحاح سقوط وجوب السعي إليها خاصّة ، لا سقوط الوجوب مطلقا بدليل أنّ من جملتهم من كان على رأس فرسخين ، ولا خلاف في الجمعة عليه مع الحضور (٣) ، محلّ تأمّل ، لأنّ من جملتهم من سقط عنه مطلقا ، وهو الصبيّ والمجنون.

ومع هذا لا يلزم أن يكون السقوط بالنسبة إلى كلّ سقوط خصوص السعي ، بل ربّما كان أعمّ منه ومن السقوط مطلقا ، فإنّه أقرب المجازات إلى الحقيقة ، فإنّ مقتضى أكثر الصحاح سقوط نفس الجمعة.

وأما ما دلّ على وجوب السعي إليها أو حضورها ، فأقصى ما يستفاد منه خصوص هذا الوجوب وسقوطه عنهم ، أمّا وجوب نفس الجمعة فمن أين؟

وبالجملة ، ما دلّ على وجوب نفسها يقتضي سقوط نفسها ، وما دلّ على

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٧ و ٣٨ المسألة ٣٩٣.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٥ الباب ١ من أبواب صلاة الجمعة.

(٣) انظر! الحدائق الناضرة : ١٠ / ١٥٨.


وجوب السعي وسقوطه ، لا يدلّ على وجوب نفسها.

هذا ، مع أنّ عدم الخلاف لم يعلم بعد كونه إجماعا ، سيّما أن يكون إجماعا مقبولا عند المصنّف ومن وافقه ، حتّى يدّعون القطع منه.

إنّما قلنا ذلك ، لأنّ صاحب «المدارك» ادّعى عدم الخلاف في البعيد خاصّة ، وجعله أمارة بالنسبة إلى الباقين (١) ، والمصنّف ادّعى القطع موضع دعوى عدم الخلاف.

هذا ، مع استفاضة الروايات في أنّ فرض المسافر الظهر لا الجمعة ، مثل صحيحة ابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة» (٢).

وصحيحته الأخرى ، أنّه سأله عن صلاة الجمعة في السفر؟ فقال : «تصنعون كما تصنعون في الظهر ، ولا يجهر الإمام بالقراءة ، وإنّما يجهر إذا كانت خطبة» (٣).

ومثلها صحيحة جميل عنه عليه‌السلام (٤) ، وغيرها من الأخبار ، مثل ما ورد أنّه : «ليس في السفر جمعة ولا عيد» (٥).

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥ الحديث ٥١ ، الاستبصار : ١ / ٤١٦ الحديث ١٥٩٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ١٦١ الحديث ٧٦٢٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥ الحديث ٥٤ ، وسائل الشيعة : ٦ / ١٦٢ الحديث ٧٦٢٨.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥ الحديث ٥٣ ، الاستبصار : ١ / ٤١٦ الحديث ١٥٩٧ ، وسائل الشيعة : ٦ / ١٦١ الحديث ٧٦٢٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٩ الحديث ٨٦٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٨ الحديث ٩٥٢٠.


وما ورد : أنّ من أهل القرى ليس عليهم جمعة (١) ، حمل على ما إذا كانوا على رأس فرسخين أو أزيد (٢).

نعم إنّما يصحّ الاستدلال بما رواه الشيخ بسنده إلى حفص بن غياث قال : سمعت بعض مواليهم يسأل ابن أبى ليلى عن الجمعة ، هل تجب على المرأة والعبد والمسافر؟ فقال ابن أبي ليلى : لا تجب على واحد منهم ولا الخائف ، فقال الرجل : فما تقول إن حضر واحد منهم الجمعة مع الإمام فصلّاها معه هل تجزيه تلك الصلاة عن ظهر يومه؟ فقال : نعم ، فقال [له الرجل] : كيف يجزى ما لم يفرضه الله عليه عمّا فرض الله عليه؟ وقد قلت : إنّ الجمعة لا تجب عليه ، ومن لم تجب عليه فالفرض عليه أن يصلّي أربعا ، ويلزمك فيه معنى أنّ الله فرض عليه أربعا ، فكيف أجزأ عنه ركعتان؟ مع ما يلزمك من أنّ من دخل فيما لم يفرضه الله عليه لم يجز عنه ممّا فرض الله عليه ، فما كان عند ابن أبي ليلى فيها جواب فطلب إليه أن يفسّرها له فأبى ، ثمّ سألته أنا عن ذلك ، فقال : الجواب إنّ الله فرض على جميع المؤمنين والمؤمنات ورخّص المرأة والمسافر والعبد أن لا يأتوها ، فلمّا حضروها سقطت الرخصة ولزمهم الفرض الأوّل ، فمن أجل ذلك أجزأ عنهم ، فقلت : عمّن هذا؟ فقال : عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام (٣).

وضعف السند منجبر بالشهرة ، وأمّا الدلالة فمقتضى قوله : «إنّ الله فرض على جميع المؤمنين والمؤمنات» دخول جميع المكلّفين ممّن وضع الله عنهم فيه ، وأنّها الفرض الأوّل عليهم ، وبالحضور لها تجب عليهم البتة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٨ الحديث ٦٧٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٢٠ الحديث ١٦١٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٦ نقل بالمعنى.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٨ ذيل الحديث ٦٧٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٢٠ ذيل الحديث ١٦١٨.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١ الحديث ٧٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٧ الحديث ٩٥١٨ مع اختلاف يسير.


فيلزم أن يكون وضعها عن كلّ من يكون منهم بمعنى الرخصة في أن لا يأتوها لا مطلقا ، فالدلالة أيضا ظاهرة تامّة ، سيّما بعد فتاوى الأصحاب كذلك ، واشتهارها بحيث لم يظهر مخالف.

ويؤيّدها أيضا صحيحة أبي همام ، عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّه قال : «إذا صلّت المرأة في المسجد مع الإمام يوم الجمعة ركعتين فقد نقصت صلاتها ، وإن صلّت في المسجد أربعا نقصت صلاتها ، لتصلّ في بيتها أربعا أفضل» (١).

وضبط «نقصت» ـ بالمهملة ـ في الموضعين ، ولعلّه الأظهر من الرواية أيضا.

ويؤيّدها أيضا ما قاله في «المنتهى» من أنّه لا خلاف في أنّ العبد والمسافر إذا صلّيا الجمعة أجزأتهما عن الظهر ، وحكى نحو ذلك في البعيد (٢).

ويؤيّد أيضا الرواية التي ذكرها المصنّف في ثواب صلاة المسافر الذي يصلّي الجمعة.

وممّا ذكر ظهر أنّ المرأة أيضا إذا حضرتها لزمها الدخول ، والمحقّق حكم بعدم اللزوم ، محتجّا بأنّه مخالف لما عليه اتّفاق فقهاء الأمصار ، وطعن في سند رواية حفص المتقدّمة (٣).

ولا يخفى أنّها منجبرة بالفتاوى ، إذ ظاهر أنّها المستند ، وأمّا المخالفة للإجماع فلم يظهر.

نعم ، الإجماع واقع في عدم وجوب السعي والحضور ، وأمّا إذا اتّفق حضورها ، فلم يعلم من طريقة كلّ المسلمين أو الشيعة عدم اللزوم ، إذ لم يعهد

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤١ الحديث ٦٤٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٠ الحديث ٩٥٢٤.

(٢) منتهى المطلب : ٥ / ٣٧١ و ٣٧٣ و ٣٧٩.

(٣) المعتبر : ٢ / ٢٩٣.


حضورها بلا شبهة على ما نشاهد ، وظاهر تشابه أجزاء الزمان في أمثال هذه ، فكيف يمكن الاستدلال باتّفاق فقهاء الأمصار؟

مع أنّ المفيد في «المقنعة» صرّح بأنّ هؤلاء الذين وضع الله عنهم الجمعة متى حضروها لزمهم الدخول فيها (١) ، وهو مؤسّس مذهب الشيعة.

وكذا العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» (٢).

والشيخ في «المبسوط» صرّح بأنّ المرأة يجوز لها فعلها (٣) ، وفي «المدارك» مال إلى ذلك (٤) وهذا مؤيّد ، إذ الظاهر أنّ جواز الفعل مع وضعه عنها ليس إلّا لكون ما وضع عنها هو السعي ، كما يظهر من العلّة المذكورة في رواية حفص بعد الإشكال المذكور فيها.

مع أنّ الشيخ جمع في «المبسوط» بين المرأة والمسافر فيما ذكره من الجواز (٥) ، ومع ذلك الأحوط أن لا تحضر ، وإن حضرت جمعت بينها وبين الظهر.

وأمّا انعقاد الجمعة بما سوى المرأة والمسافر والعبد ، بمعنى احتسابهم من العدد المعتبر فيها ، فقد مرّ عن «التذكرة» دعوى الإجماع في المريض والمحبوس ، لعذر المطر والخوف (٦).

ويظهر منه عدم الإجماع في غير ما ذكر ، وإن قال في «المدارك» : اتّفق الأصحاب على انعقاد الجمعة بالبعيد والمريض والأعمى والمحبوس ، بعذر المطر

__________________

(١) لم نعثر على هذا المتن في «المقنعة» ، نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٥٤.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٤٢.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤٣.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٥.

(٥) المبسوط : ١ / ١٤٣.

(٦) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٧ و ٣٨ المسألة ٣٩٣ ، راجع! الصفحة : ٧ من هذا الكتاب.


ونحوه مع الحضور ، كما نقله جماعة (١) ، انتهى.

وربّما يظهر من هذا أنّ اتّفاق الأصحاب على ما ذكر نقله جماعة.

وفيه ما فيه ، إذ لو كان كذلك لكان رحمه‌الله في المسألة السابقة يذكر ذلك شاهدا ، لا أنّه من باب الغريق يتشبّث بما تشبّث.

مع أنّه رحمه‌الله ادّعى عدم الخلاف في البعيد ، وجعل ذلك هو الدليل ، على أنّ المراد من قولهم عليهم‌السلام : وضع الله عن التسعة أو الخمسة (٢) هو سقوط السعي لا سقوط نفس صلاة الجمعة.

ثمّ استشهد بتصريح المفيد في «المقنعة» ، وذكر مقدّما على ذلك كلام «التذكرة» و «المنتهى» ـ وقد ذكرتهما ـ وهما ظاهران في خلاف مطلوبه ، كما لا يخفى.

ثمّ نقل عن «نهايته» أنّ من لا يلزمه الجمعة إذا حضرها وصلّاها انعقدت جمعة وأجزأته ، لأنّها أكمل في المعنى ، وإن كانت أقصر في الصورة ، فإن أجزأت الكاملين الذين لا عذر لهم ، فلأن تجزي أصحاب العذر أولى (٣).

ثمّ قال : ويمكن المناقشة في هذه الأولويّة بعدم ظهور علّة الحكم وباستفاضة الأخبار في سقوطها عن التسعة أو الخمسة (٤) ، فلا يكون الآتي بها من هذه الأصناف آتيا بما هو فرضه.

ثمّ قال : إلّا أن يقال : إن الساقط عنهم السعي إليها خاصّة.

ثمّ جعل عدم الخلاف في البعيد هو الدليل على ذلك ، وقد عرفت

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٥ ، ولم ترد فيه : كما نقله جماعة.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٥ الحديث ٩٣٨٢ ، ٣٠٠ الحديث ٩٣٩٧.

(٣) نهاية الإحكام : ٢ / ٤٥.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٥ الباب ١ من أبواب صلاة الجمعة.


الإيراد عليه.

ثمّ استشهد بتصريح المفيد رحمه‌الله (١) ، كما ذكرنا.

ولا يخفى على المتأمّل أنّه لو كان له اتّفاق الأصحاب الذي نقله جماعة لما فعل ما فعل ، فتأمّل جدّا!

وما ذكره رحمه‌الله من الحكم لم أجده في كلام المتقدّمين حتّى في «نهاية» الشيخ رحمه‌الله ، بل لم أجده إلّا في بعض كتب الفاضلين والشهيد رحمه‌الله وبعض كتب المتقدّمين (٢).

وأين هذا من الاتّفاق؟ فضلا عن نقل الاتّفاق ، فضلا أن يكون الناقل جماعة ، مع أنّ الذي وجدت في بعض كتبهم الانعقاد لجميع المكلفين سوى المرأة (٣).

ولا شكّ في أنّه ليس بوفاقيّ ، كما صرّح به في «المدارك» والمصنّف تبعا له ، وصاحب «المدارك» أعرف ، إلّا أنه لا بدّ لنا من دليل على الانعقاد ، ولم يثبت من كلام «المدارك» إجماع منقول يعتمد عليه لما عرفت.

بل ربّما لم يظهر إجماع أصلا ، وإن قلنا باتّفاق الأصحاب ، إذ لم يعلم بعد كونه إجماعا ، فتأمّل جدّا!

وقد عرفت فيما تقدّم عند ذكر العدد وشرائطه الإشكال في انعقاد الجمعة بالمسافر والعبد ، وعرفت في صدر هذا المبحث أيضا الإشكال الذي ذكرنا.

فإن قلت : لعلّ رواية حفص دليل الانعقاد ، لتضمّنها أنّ الفرض الأوّل كان

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) المبسوط : ١ / ١٤٣ ، السرائر : ١ / ٩٣ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٤٥ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٦ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٨٦.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤٣.


شاملا لهم ، والفرض الأوّل كان نسبته إلى جميع المكلّفين على السواء.

قلت : وجوب الجمعة على شخص غير انعقادها به ، ولذا لم تنعقد بالمرأة اتّفاقا وإجماعا ، كما هو ظاهر.

وشرائط وجوب الجمعة (١) غير شرائط العدد ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله فيما سبق ، فإنّ الإسلام والإيمان ليسا بشرط في الوجوب ، لوجوبها على الكافرين وأهل السّنة وأمثالهم عند الشيعة والعامّة (٢) ، سوى أبي حنيفة (٣) ، لما اشتبه عليه الفرق بين مقدّمة الواجب المطلق وبين مقدّمة الواجب المشروط.

ولذا جعل المصنّف الإسلام شرطا في العدد دون من وجب عليه الجمعة ، وظاهر أنّ مراده ما هو مرادف الإيمان ، لعدم صحة صلاة المخالف إجماعا ، ويدلّ عليه الأخبار المتواترة أيضا ، فالعبادة الفاسدة كيف تكون الجمعة منعقدة بها وصحيحة من جهتها؟! فكيف تصير متبوعة للصلاة الصحيحة؟!

وبعض الشروط مشترك بين الوجوب والانعقاد ، وهو الذي صرّح به المصنّف في الوجوب ، ثمّ صرّح به أيضا في شروط العدد ، وصرّح بكون ذلك شرطا حيث قال : أربعة نفر كذا وكذا ، وأكّد ذلك بقوله : (لا غير) ، ولم يذكر في العدد مثل السلامة عن المرض والعمى وأمثالهما ، لعدم كونها شرطا في العدد ، لانعقادها بهم ، نعم ، يكون شرطا في الوجوب ، ولذا ذكرها فيه.

نعم ، لم يذكر عدم البعد بفرسخين من جملة شرائط الوجوب مع كونه من شرائطه بالإجماع والأخبار المستفيضة ، كما ستعرف ، وجعله شرطا في العدد.

__________________

(١) في (ز ٣) : وشرائط الوجوب.

(٢) في (ز ٣) : والمشهور من العامّة.

(٣) لاحظ! فواتح الرحموت : ١ / ١٢٨ مع اختلاف يسير.


مع أنّه يذكر هنا أنّه لا خلاف في احتسابهم من العدد ، وهو صريح في أنّه ليس شرطا في العدد ، فكان اللازم عليه أن يجعله شرطا للوجوب دون العدد ، كالمرض والعمى وأمثالهما.

ويمكن أن يقال : قوله : (حاضر) ، في ذكر شرائط الوجوب أعمّ من غير المسافر وغير البعيد بفرسخين ، والظاهر أنّه كذلك.

وأمّا تقييد الأربعة بكونهم غير بعيدين ، فإنّه قيّد ذلك القيد بقوله : «جميعا» ، أي لا يكون جميع الأربعة ومجموعهم بعيدين.

ويمكن أن يكون مراده : لا يكونون مع الإمام جميعا غير بعيدين ، وهذا غير احتسابهم من العدد ، فإنّ الظاهر من قوله : احتسابهم من العدد ، أن يكون واحدا من العدد أو اثنين ـ مثلا ـ منهم ، لا أن يكون المجموع من حيث المجموع بعيدين ، إذ لا شبهة في أنّ المسافرين لا يجب عليهم الجمعة ، بل فرضهم الظهر ، كما عرفت.

وكذلك الحال في البعيدين عنده ، بأن لا يظهر تفاوت بينهم وبين المسافر في ذلك.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما نقلناه سابقا عن الشهيد في بحث شرائط العدد من وقوع الاتّفاق على صحة الجمعة بجماعة المسافرين (١) فاسد البتة ، بل مخالف لإجماعهم ، إذ قلّما يتحقّق السفر بجماعة أقلّ من خمسة ، بل غالبا أكثر ، وكثيرا ما يكون فيهم من يصلّى بهم جماعة.

فلو كانت في السفر واجبة عليهم بالوجوب التخييرى بل مستحبّة بالاستحباب العيني ، لما كانوا يتركونها بالمرّة البتة ، فلا شكّ في الترك بالمرة ولا شبهة ، وأنّ ذلك المدار في الأعصار والأمصار ، والظاهر أنّ الحال في البعيدين أيضا

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ١١٧.


كذلك ، لعدم دليل على الصحّة.

مع أنّ مقتضى الأخبار سقوطها عنهم بالمرّة ، ولزوم الدخول عند الحضور غير انعقاد الجمعة بمجموعهم ، بل عرفت التأمّل أيضا في احتساب المسافر من العدد ، وكذا العبد.

وأمّا البعيد فإن ثبت إجماع واقعي أو منقول بخبر الواحد على احتساب البعيد من العدد ، وإلّا فلعلّ للمناقشة طريق إليه ، وقلنا : إنّا لم نجد ذلك إلّا في كلام بعض المتأخرين والقدماء ، وظاهر بعض القدماء عدم الانعقاد ، بل ظاهر الكليني والصدوق وأضرابهما عدم الوجوب والسقوط عنهم ، مثل : المجنون والصبي وإن حضروها (١) ، حتّى أنّ الصدوق رحمه‌الله ذكر في كتابه «العلل» كلّ حديث تضمّن علّة ، وإن لم يكن الحديث صحيحا عنده ، بل ويكون فاسدا ، كما صرّح به فيه (٢) ، ومع ذلك لم يذكر رواية حفص المتقدّمة أصلا.

ومقتضى الأخبار الصحاح المتضمّنة للسقوط والوضع عدم صحّتها منهم فضلا عن الوجوب عليهم ، كما اعترف صاحب «المدارك» (٣) ، مع نهاية ظهور الاقتضاء ، فهذا هو الظاهر من الكليني وأضرابه.

ورواية الصدوق رحمه‌الله في أماليه (٤) ـ على ما نقل عنه المصنّف ـ لا يكون دليلا على رضاه بها وفتواه بمضمونها ، لأنّ أماليه ليس كتاب فتواه ، بل «الفقيه» كتاب فتواه ، فإذا لم يذكرها فيه ، وذكر ما يخالفها كثيرا ، وظهر أن فتواه بالمخالف البتة ،

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٦ الحديث ١٢١٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١ ذيل الحديث ٧٧.

(٢) لاحظ! علل الشرائع : ٢ / ٣٥٠ ذيل الحديث ٦.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٣.

(٤) أمالي الصدوق : ١٩ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٩ الحديث ٩٥٢١.


البتة ، فكيف يمكن أن يقال : إنّ تلك الرواية فتواه؟!

مع أنّ المسافر إذا قصد الإقامة ، أو زاد مكثه مترددا عن الثلاثين يكون حاله حال المقيم ، على ما صرّح به بعض الأصحاب (١) ، فربّما تكون الجمعة وجوبها عليه تخييريّا ، وثوابها أزيد من ثواب جمعة المقيم.

وهذا ، وإن كان خلاف الظاهر ، إلّا أنّ القاعدة أنّ الخبر الذي يعارض الأخبار أو الخبر الواحد الذي يكون حجة يؤوّل حتّى يوافقها ، صونا عن الطرح.

مع أنّ ذلك الخبر ليس بصحيح ، مع أنّه على فرض أن يكون قائلا بظاهرها ، يكون الحكم مختصّا بالمسافر.

وجعل حكم المسافر قرينة على إرادة سقوط السعي خاصّة ، قد عرفت فساده ، ومع ذلك انعقاد الجمعة به من أين؟ فإنّ ظاهرها انعقاد الجمعة بغيره ، ودخوله معهم ومتابعته إيّاهم ، ومع ذلك مقتضى الإجماع المنقول بخبر الواحد ، كون المريض والمحبوس بالمطر والخوف خاصّة ينعقد بهم الجمعة لا غيرهم.

فانظر أيّها العاقل إلى دعوى صاحب «المدارك» وموافقيه الإجماع هاهنا في مقابل الأخبار المستفيضة بالصحاح الظاهرة في عدم صحّة الجمعة ، مع طعنهم في رواية حفص بالضعف (٢) ، ونهاية اعتمادهم على هذا الإجماع.

مع ما عرفت من عدم ذكر الفتوى بذلك إلّا في كتاب بعض المتأخّرين ، ومخالفة القدماء لهم ، وفتواهم بتلك الصحاح المستفيضة.

ومع ذلك صدر منهم بالنسبة إلى الإجماعات المنقولة في كون الجمعة منصب الإمام عليه‌السلام ونائبه الخاصّ ما صدر ، مع زيادة عدد النقل عن الأربعين ، وموافقة

__________________

(١) منتهى المطلب : ٥ / ٣٧٢ ، جامع المقاصد : ٢ / ٤٢٠.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٥٥.


الباقين في الفتوى.

حتّى أنّ المحقّق السيّد الداماد ادّعى إطباق الفقهاء على دعوى الإجماع على عدم عينيّة وجوبها (١) ، مضافا إلى الأخبار. (٢) الدالّة على مضمون إجماعاتهم ، والاعتبارات القطعيّة ، والقرائن على حسب ما عرفت.

بل عرفت أنّه لم يوجد في مسألة من مسائل الفقه إجماع بهذه المثابة بلا شبهة.

مع أنّ ما صدر منهم إنّما صدر باعتبار ظاهر عبارة بعض القدماء في بعض مواضع كتبهم ، مع ما عرفت في ذلك الظاهر أيضا.

مع أنّ مدار هؤلاء على العمل بأمثال ما عرفت من الإجماع الذي لا يصير طرف النسبة أصلا بالنسبة إلى تلك الإجماعات في كونها منصب الإمام عليه‌السلام ، بل أين الثريا من الثرى!

مع أنّه على فرض ثبوت احتسابهم من العدد ، انعقاد الجمعة بهم جميعا من أين؟ ولذا ذكر المصنّف فيما سبق ما ذكر.

قوله : (ولذا من كان). إلى آخره.

قد عرفت ما فيه ، سيّما مع دعواه القطع ، مع أنّ من كان على رأس فرسخين وقع النزاع في وجوب حضوره ، واختلفت الأخبار أيضا فيه ، ومقتضى حسنة ابن مسلم خلاف ما ذكره ، لأنّه روى عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «تجب الجمعة على كلّ من كان منها على رأس فرسخين ، فإذا زاد على ذلك فليس عليه شي‌ء» (٣).

__________________

(١) نقل عنه في مفتاح الكرامة : ٣ / ٥٦.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤١ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦١٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ الحديث ٩٤٣٢.


وقيل : لا تجب عليه ، بل تجب على من نقص عن الفرسخين ، ونسب هذا إلى الصدوق وابن حمزة (١) ، كما نسب الأوّل إلى الشيخ والمرتضى وابن إدريس (٢).

ويدلّ عليه صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «وضعها عن تسعة». إلى قوله : «ومن كان منها على رأس فرسخين» (٣).

وهذه أقوى سندا وأوفق بالاصول ، ومع ذلك الوقوع على رأس فرسخين بحيث لا يزيد ولا ينقص من الفروض النادرة ، والمطلقات تنصرف إلى غيرها.

ويمكن أن يكون كلام الفقهاء هاهنا أيضا كذلك.

لكن نقل عن ابن أبي عقيل أنّه قال : تجب الجمعة على من إذا غدا من منزله بعد ما صلّى الغداة أدرك الجمعة (٤).

وعن ابن الجنيد أنّه قال بوجوب السعي إليها على من سمع النداء بها ، أو من كان يصل إلى منزله إذا راح منها قبل خروج نهاره (٥) ، وهو ما يقارب ما ذكره ابن أبي عقيل.

ولعلّ مستندهما صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيّام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجعوا إلى

__________________

(١) نسب إليهما في ذكرى الشيعة : ٤ / ١٢٢ ، لاحظ! الهداية : ١٤٤ ، الوسيلة الى نيل الفضيلة : ١٠٣.

(٢) نسب إليهما في ذخيرة المعاد : ٣٠٠ ، لاحظ! رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤١ ، المبسوط : ١ / ١٤٣ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٠٣ ، الخلاف : ١ / ٥٩٤ المسألة : ٣٥٧ ، السرائر : ١ / ٢٩٣.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٦ الحديث ١٢١٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١ الحديث ٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٥ الحديث ٩٣٨٢ مع اختلاف يسير.

(٤) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٢٧.

(٥) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٢٧.


رحالهم قبل الليل ، وذلك سنّة إلى يوم القيامة» (١).

وأجاب عنها في «الذكرى» بالحمل على الفرسخين (٢).

ولا يخلو عن قرب ، بقرينة اتّحاد راوي هذه الرواية والمروي عنه مع رواية الفرسخين عنه ، وأنّ بناء أمثال هذه التقادير (٣) على ملاحظة حال أضعف الناس في الأيّام ، فإنّ كلّ الناس ليس لهم دابّة فارهة.

بل ربّما لا يكون لهم دابّة أصلا ويمشون ، وربّما كانوا في المشي ضعفاء قاصري الخطوات ، والأيّام ربّما يكون تسع ساعات ، وربّما يكون في بعض البلاد أنقص من ذلك ، بل ربّما يكون ستّ ساعات.

ويؤيّده أيضا ظهور وجه المصلحة في وجوب السعي إليها على خصوص هؤلاء دون من يكون أبعد بقليل.

وهذه الصحيحة في غاية الظهور ـ كنظائرها ـ في كون الجمعة الواجبة عينيّا منصب شخص معيّن ، ويكون الواجب بالوجوب العينيّ على أهل أطرافه السعي إلى صلاته من كلّ طرف إلى الحدّ الذي إذا وجب عليهم السعي ويسعون بعد صلاة غداتهم يرجعون إلى منازلهم قبل إدراك الليل.

وأنّ في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان الأمر كذلك ، وأنّه سنة إلى يوم القيامة ، وأنّ أهل الأطراف ما كانوا يصلّون سوى خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان يجوز لهم التخلّف ، وأنّ هذه سنّته وطريقة دينه إلى يوم القيامة ، لا خصوصيّة له ولا لصلاته في ذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦٢١ ، وسائل الشيعة :

٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٧.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٢٣.

(٣) في (ز ١ ، ٢) و (ط) : هذه الروايات.


ومعلوم على سبيل اليقين أنّ أهل أطراف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يصلّون جماعة في فرائضهم بلا شبهة ، وما كانت صلاتهم مقصورة في الفرادى بلا شكّ ، وكان في القرى والجماعات ما يزيد عن الخمسة والسبعة بلا شبهة.

وفي غاية الظهور أيضا أنّ من زاد بعده عن القدر المذكور لم يكن عليه جمعة أصلا ، كما ينادي به قوله : «فلا شي‌ء عليه» (١) وأمثال هذه العبارة.

وأين هذا من القول بكون وجوبها عينا على كلّ سبعة أحدهم قابل لإمامة الجمعة ، قادر أن يقول : الحمد لله ، والصلاة على محمّد وآله ، واتّقوا الله ، ويقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مثلا؟

وأعجب من هذا أنّهم يستدلّون بأمثال هذه الأحاديث على مطلوبهم ، ولا يتفطّنون بأنّها عليهم لا لهم ، ولو أغمضنا عن هذا ، فلا يكون لا لهم ولا عليهم.

وأمّا أنّها لهم لا عليهم ، ففي غاية الغرابة ، مع أنّ استدلالهم ليس إلّا بأنّ هذه الأخبار مطلقة ، ولا يدرون أنّه لا بدّ لهم من التقييد.

والكلام إنّما هو في القيد ، بل ربّما لا يحتاج المشهور إلى قيد أصلا ، لأنّ نصب الإمام عليه‌السلام ـ غالبا ومتعارفا ـ لم يكن بحيث يحتاج إلى القيد وارتكاب خلاف الظاهر.

بل قال ابن أبي عقيل : صلاة الجمعة فرض على المؤمنين حضورها مع الإمام في المصر الذي هو فيه ، وحضورها مع امرائه في الأمصار والقرى النائية ، ومن كان خارجا من مصر أو قرية إذا غدا من أهله بعد ما يصلّي الغداة فيدرك الجمعة مع الإمام ، فإنّ الجمعة عليه فرض ، وإن لم يدركها فلا جمعة عليه (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ الحديث ٩٤٣٢ مع اختلاف يسير.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٢٧.


وهذا صريح في أنّها منصب حكّام (١) الإمام.

والمعهود المتعارف عدم نصب حاكمين في فرسخين ، بل أزيد منهما بكثير ، مع أنّ من قال : يجب على جميع الأطراف المزبورة أن تشهدها ، يكون النصب أيضا منه ، فلعلّه لا ينصب حاكمين حتّى يضرّ ذلك القول ، وما يستفاد منه حقيقة وظاهر أو الأصل حمل الكلام على الحقيقة والظاهر حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت ، بل ذلك القول منه في قوّة أن يقول : ما أنصب حاكمين فيهما ، مضافا إلى ما عرفت من القرائن.

وأمّا جواز الجمعتين إذا كان بينهما فرسخ ، فهو حكم نفس المسألة من حيث هي هي ، لا بملاحظة المعهود المتعارف في النصب ، إذ الجمعة غير منحصرة في الوجوب العيني.

ومع ذلك ربّما يتحرّك المنصوبون الذين هم الحكّام من مواضعهم المنصوبة فيها ، إذ لا شكّ في عدم نصب حاكمين عادة في فرسخ أو فرسخين ـ مضافا إلى ما عرفت ـ وإلّا ربّما يقع النزاع في تقديم أيّهما ، ويحصل الإشكال.

وقد عرفت أنّ النصب لحسم مادّة النزاع في هذه المرتبة العظيمة ، سيّما وإذا انضمّ إليها نفس الحكومة وباقي مناصبها.

فلعلّ الإيجابات بناء على المقرّر المعهود ، وصحّة الجمعتين إذا كان بينهما فرسخ بناء على ما إذا عرض ما يمنعه ، كما كان يعرض للحكّام كثيرا لنظم امور الحكومة وغيرها ، ويعرض للرعيّة أكثر ممّا يمنعهم عن إدراك جمعة حاكمهم وإمامهم.

ولذا وقع في الأخبار السؤال عنه ، وعن عدم درك صلاة عنده ، وأجابوا بما

__________________

(١) لم ترد في (ز ٣) : حكّام.


أجابوا ، فتأمّل ، على أنّه لو كان حاكمان في فرسخين ففي غاية الندرة ، والأخبار واردة على الفروض الشائعة المتعارفة ، كما هو محقّق ومسلّم.

وأمّا ما ورد من اشتراط الفاصلة بفرسخ ، فليس المراد خصوص الفرسخ بحيث لو زاد عنه لم يصحّ ، للقطع بصحّة ما زاد أيضا.

بل المراد أنّ أقلّها فرسخ ، فيشمل جميع صور الفاصلة الشرعيّة سواء كانت الأفراد الشائعة وغيرها ، كما هو الحال في أحاديث العدد بأنّه خمسة أو سبعة (١) ، وإن كانت الجمعة التي تكون عددها خمسة أو سبعة من غير زيادة من الأفراد النادرة إلى حدّ لم نر إلى الآن فردا منها أصلا ، ولعلّه لم يره غيرنا أيضا ، وهذا لا يقتضي ورود تلك الأخبار مورد النادر بالبديهة.

على أنّا نسلّم تحقّق حاكمين في فرسخين كثيرا ، ونقول : ليس مقتضى الأخبار سوى وجوب حضور الجمعة الشرعيّة ، متى تحقّقت ـ أيّ جمعة تكون ـ فوجوب حضورها عينيّ ، والتخيير إنّما هو في اختيار فرد من أفراد الكلّي لإيجاد الكلّي في ضمنه ، كاختيار عتق المملوك الرومي أو الزنجي لامتثال الأمر بعتق رقبة ، وكذا الحال في جميع التكاليف ، إذ كلّ فرد من التكليف إنّما هو بالكلّي ، والتكليف بالجزئي الحقيقي منتف قطعا ، وإيجاد الكلّي لا يكون إلّا باختيار فرد منه ، وليس هذا وجوبا تخييريّا بالبديهة ، وعند المصنّف وموافقيه تكون (٢) هذه الإيجابات الظاهرة في الوجوب العيني ـ كما هو ظاهر ومسلّم عندهم ، بل ويستدلون بها على عينيّة وجوب صلاة الجمعة من دون اشتراط إذن خاصّ ـ وجوبا تخييريّا في الغالب ، لندرة خلوّ جميع أطراف الجمعة عمّن يمكنه الجماعة

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة.

(٢) في (د ١) و (ز ٣) : تصير.


وأقلّ الخطبة ، لما عرفت من أنّ الأعجمي قادر عليها فضلا عن غيره.

وإن لم نقل بالندرة فلا أقلّ من التساوي ، وإن لم نقل بالتساوي فلا شكّ في أنّ خلافه ليس بنادر جزما ، مع أنّه على فرض الندرة فقد عرفت أنّ كلمة «من» في حديث «من إن صلّى الغداة» تفيد العموم لغة.

مع أنّ القطع حاصل بأنّ مثل الكوفة والمدينة من البلاد لا تخلو أطراف جمعتهم إلى فرسخين عمّن يمكنه الجماعة وأقل الخطبة قطعا ، بل وكان يتحقّق كثيرا ، خصوصا مثل الكوفة وبغداد وأمثالهما ، إذا كان تحققه فيهما في غاية الكثرة ، كما لا يخفى على المطّلع.

على أنّا نقول : لو سلّمنا أنّه يلزمنا القول بخروج بعض الصور من هذه العمومات بإجماع أو نصّ ، نقول : العام المخصّص حجّة في الباقي جزما ، ومسلّم عندهم ، وبناء استدلالاتهم ليس إلّا على ذلك.

فإن قلت : لعلّ ما ذكرت يكون مسلّما عندهم ، إلّا أنّهم أخرجوا ما قالوا بنصّ أو غيره.

قلت : أوّلا : إنّهم احتجّوا بهذه الأخبار لمطلوبهم ، مع أنّها بظاهرها عليهم لا لهم.

وثانيا : إذا خرج ما ذكروا ، يصير الخارج أكثر من الباقي ، ولا يرضون به كأكثر المحقّقين ، سيّما بعد عروض تخصيصات اخر في غاية الكثرة ، كل تخصيص بالنسبة إلى شرط من الشروط.

وثالثا : أنّ إرجاع هذه الأخبار إلى الفروض النادرة ، فيه ما فيه ، بل عرفت أنّه في معظم بلاد صدور هذه الأخبار فيها لا يبقى فرد نادر جزما.

ورابعا : أشرنا إلى أنّ في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لأطراف المدينة جماعات


في الفرائض.

وخامسا : أنّه كما يجوز التخصيص بالنحو الذي ارتكبوا ، كذا يجوز حمل الوجوب على ما هو أعم من العيني والتخييري ، بل هو أولى ، ثمّ أولى ، فكيف استدلّوا بها على عينيّة الوجوب؟!

وسادسا : أنّ بناء استدلالاتهم على إفادة العموم لهم ، وإخراج أفراد لا تحصى بالقياس إلى الشروط المسلّمة ، وكذا إخراج ما ذكر في المقام ، وقد عرفت سابقا التأمّل فيه أيضا.

وسابعا : لم نجد نصّا يكون لهم ، إذ عرفت أنّ كلّ نصّ تمسّكوا به لم يخلص عن أمثال ما ذكرنا هنا.

وثامنا : أنّه بعد اللتيّا والتي ، كيف يقاوم ذلك إجماعات الفقهاء وأدلّتهم الصريحة أو الظاهرة؟ سيّما وأن يغلب عليها.

ثمّ اعلم! أنّه قد ادّعى بعض العلماء أنّ قدماءنا كانوا يقولون بالوجوب العينيّ من دون اشتراط الإمام أو من نصبه (١).

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا فساد هذه الدعوى ، وكذا ما ادّعى صاحب «المدارك» (٢).

ووجه الفساد أنّهم ذكروا وجوب الحضور على كلّ من كان على رأس فرسخين من دون تخصيص.

وقد عرفت أنّه ظاهر في خلاف ما ادّعاه ، بل ربّما يحصل العلم ، كما عرفت.

وذكروا أيضا أنّه لا بدّ من الإمام ، وقد عرفت سابقا أنّه إمام الأصل بالتبادر

__________________

(١) منهم الشهيد في ذكرى الشيعة : ٤ / ١٠٤ و ١٠٥ ، البحراني في الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٧٨.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٢١.


وانصراف الإطلاق إلى الكامل ، فكما ينصرف الوجوب إلى العينيّ لأنّه الكامل فكذلك الإمام ، فلا وجه لتفكيك الذي ارتكب ، وبالأخبار منها : ما ذكرناه عن «العلل» (١) ، فإنّ الفضل بن شاذان ـ مع نهاية فضله ـ سأل الرضا عليه‌السلام عن علّة قصر الجمعة من بين الصلوات للحاضرين الآمنين.

مع أنّه كان يرى أنّ الصلوات تصلّى كثيرا خلف الأئمّة عليهم‌السلام من غير قصر جزما.

فكلامه في قوّة أنّ الفرائض التي تصلّى خلف الأئمّة عليهم‌السلام ليست بقصر ، فما بال الجمعة صارت قصرا؟

فأجاب عليه‌السلام لعلل ، منها : «إنّ الصلاة مع الإمام أتمّ وأكمل ، لعلمه وفقهه وعدله وفضله».

ولا يخفى أنّ المراد منه إمام العصر عليه‌السلام ، بقرينة ما يذكر بعد ذلك.

مع أنّه لا وجه لأن يكون إمام الجماعة ، لما عرفت من أنّ الفرائض الاخر تصلّى عادة خلف إمام الجماعة أربعا ، فلم يبق إلّا أن يكون المراد إمام العصر عليه‌السلام.

فإن قلت : فلم تصلّى خلفه الفرائض الاخر أربعا؟

قلت : إذا صار إمام الجماعة ، فهو حينئذ إمام الجماعة من حيث هو إمام الجماعة ، كما إذا باع شيئا ، فهو حينئذ بائع من حيث إنّه بائع ، وكذا إذا اشترى ، وكذا إذا فعل فعلا آخر.

وأما إذا صار إمام الجمعة فمن حيث إنها منصبه ، فهو إمام العصر من حيث إنّه إمام العصر ، ولذا صلح أن تكون الصلاة التي صلّى هو وصلّى المكلّفون معه بمرتبة من الكمال والتمامية ، بحيث تصير ركعتاه عدال الأربع وإلا فمن المعلوم أنّ

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٦٤ و ٢٦٥ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام : ٢ / ١١٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٢ الحديث ٩٤٤٠.


غيره عليه‌السلام ليس له هذه المرتبة والمزيّة (١) والشرافة والكرامة ، بلا شبهة ولا ريبة ، فلا جرم يكون هو من حيث هو هو.

ثمّ قال بعد ذلك : «لأنّ الجمعة مشهد عام». إلى آخر ما ذكرناه سابقا ، سيّما بملاحظة لفظ الأمير.

ثمّ قال بعد ذلك : «وليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة» ، وهذا أيضا صريح فيما ذكرناه.

هذا كلّه ، مضافا إلى ما ذكرناه من الإجماعات والأخبار ، مثل الحديث الوارد في «الأشعثيّات» : «الجمعة والحكومة لإمام المسلمين» (٢) وغير ذلك.

وروى العلّامة في «المنتهى» : أربع إلى الولاة : الفي‌ء ، والحدود ، والصدقات والجمعة (٣) ، والسند منجبر بعمل الأصحاب ، سيّما مثل هذا العمل.

وربّما يظهر من هذه الرواية أنّ ما رواه الشيخ في «التهذيب» بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود» (٤) أيضا من جملة تلك الروايات ، إذ عرفت من الرواية أنّ إقامة الحدود منصب الولاة ، كما قال به من قال من الفقهاء ، ويظهر من غيرها من الأخبار أيضا (٥).

فظهر أنّ ما في روايته إشارة إلى أنّ الجمعة منصب من يقيم الحدود ، فلا وجه لحملها على التقيّة.

__________________

(١) في (ز ٣) و (د ٢) : الرتبة والمرتبة ، وفي (د ١) : الرتبة والمزيّة.

(٢) قرب الإسناد (الأشعثيّات) : ٢٢٠ و ٢٢١ نقل بالمضمون.

(٣) منتهى المطلب : ٥ / ٣٣٥.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٩ الحديث ٦٣٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٢٠ الحديث ١٦١٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٥.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٥ الحديث ٩٤٢٠.


وأيضا القدماء يذكرون ما دلّ على أنّ إمام الجماعة غير إمام الجمعة البتة (١) ، وقد ذكرنا الروايات الدالّة عليها ، ونزيد هنا ونقول :

ويدلّ عليه أيضا ما رواه ابن بكير ـ في الموثّق كالصحيح ، بل الحقّ أنّه صحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم ، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال : «نعم إذا لم يخافوا» (٢).

وهذا نظير الأخبار الواردة في أنّ صلاة العيد إذا لم يكن إمام ، أو لم يدركوها مع الإمام ، هل يصلّون جماعة؟ فأجابوا عليهم‌السلام بـ «نعم» على ما سيجي‌ء.

وما رواه الشيخ بسنده عنه عليه‌السلام عن صلاة ظهر يوم الجمعة ، قال : «أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من صلّى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر ، يعني إذا كان الإمام يخطب ، فإذا لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات ، وإن صلّوا جماعة» (٣).

وفي «الكافي» روى ـ في الموثّق كالصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام هكذا : «أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من يصلى وحده فهي أربع ركعات ، وإن صلّوا جماعة» (٤).

فإذا رووا هذه الروايات ، فكيف يكونون قائلين بالوجوب العيني في صورة يكون إمام الجماعة القادر على قراءة أقلّ الواجب من الخطبة؟ وخصوصا مع أنّه ظهر أنّ غير إمام الجماعة هنا من هو؟ بالأدلّة الخارجة عن حدّ الإحصاء.

على أنّه روى في «الفقيه» ـ في الصحيح ـ عن ابن مسلم ما ذكرناه سابقا :

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٥١ ، إصباح الشيعة : ٨٥ ، السرائر : ١ / ٢٩٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥ الحديث ٥٥ ، الاستبصار : ١ / ٤١٧ الحديث ١٥٩٩ وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٧ الحديث ٩٤٩١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٩ الحديث ٧٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٠ الحديث ٩٤٣٥.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٤ الحديث ٩٤٤٥.


من أنّها «تجب [الجمعة] على سبعة : الإمام وقاضيه» (١). إلى آخر الحديث ، ولم يؤوّل أصلا وذكر في أوّل كتابه ما ذكر.

ومسلّم عند صاحب «المدارك» أنّ جميع ما يذكره فيه فتواه ، كما قال في أوّل كتابه (٢).

بل ذكره في كتابه «الهداية» : إذا اجتمع يوم الجمعة سبعة ولم يخافوا ، أمّهم بعضهم وخطبهم ، وقال بعده : والسبعة التي ذكرناهم : الإمام ، والمؤذّن ، والقاضي ، والمدّعي ، والمدّعى عليه ، والشاهدان (٣).

ويمكن أن يكون مؤذّن الإمام عليه‌السلام كان منصبه ضرب الحدّ بين يديه ، على أنّا نقول : لو كان القدماء قائلين بما ادّعاه ، فكيف يقول الشيخ : الفرقة لا يختلفون في أنّ شرط الجمعة الإمام عليه‌السلام أو من يأمره (٤) ، كما ذكرنا سابقا.

ويقول ابن إدريس في «سرائره» : عندنا بلا خلاف بين أصحابنا أنّ من شرط الجمعة الإمام عليه‌السلام أو من نصبه للصلاة (٥).

ويقول المحقّق في «المعتبر» : السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوب الجمعة ، وهو قول علمائنا (٦).

ويقول العلّامة رحمه‌الله في «التذكرة» : يشترط في وجوب الجمعة السلطان العادل أو نائبه عند علمائنا أجمع. إلى أن قال : أجمع علماؤنا كافّة على اشتراط

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٧ الحديث ١٢٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٥ الحديث ٩٤٢٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣.

(٣) الهداية : ١٤٥ و ١٤٦.

(٤) الخلاف : ١ / ٦٢٦ المسألة ٣٩٧.

(٥) السرائر : ١ / ٣٠٣.

(٦) المعتبر : ٢ / ٢٧٩.


عدالة السلطان ، وهو الإمام المعصوم عليه‌السلام أو من يأمره بذلك. إلى أن قال : أطبق علماؤنا على عدم الوجوب ـ أي الجمعة ـ في زمان الغيبة (١).

ويقول في «النهاية» : يشترط في وجوب الجمعة السلطان أو نائبه عند علمائنا أجمع. إلى أن قال : والسلطان عندنا هو الإمام المعصوم عليه‌السلام (٢).

ويقول في «المنتهى» : أمّا اشتراط الإمام عليه‌السلام أو إذنه ، فهو مذهب علمائنا أجمع (٣). إلى غير ذلك من أمثال هذه الأقوال عن العلماء الخبيرين الماهرين المطّلعين المتتبّعين المتقدّمين والمتأخّرين ، مثل قول ابن زهرة في غنيته : من شرائط وجوب الجمعة حضور الإمام العادل أو من نصبه وجرى مجراه ، ثمّ قال : كلّ ذلك بدليل الإجماع (٤).

وقول القاضي عبد العزيز بن البرّاج : من شروط الجمعة الإمام العادل ومن نصبه ، وجرى مجراه ، والدليل على صحّة ما ذهبنا إليه الإجماع (٥).

وقول الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» : شروطها ـ أي الجمعة ـ سبعة : الأوّل ، السلطان العادل ، وهو الإمام أو نائبه إجماعا منّا ، ثمّ قال : في حال زمان الغيبة عملت الطائفة على عدم الوجوب [العيني] في سائر الأعصار والأمصار (٦).

وقال الشيخ المقداد في «كنز العرفان» : السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوبها وهو إجماع علمائنا (٧).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٩ المسألة ٣٨١.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ١٣ و ١٤.

(٣) منتهى المطلب : ٥ / ٣٣٤.

(٤) غنية النزوع : ٩٠.

(٥) المهذّب : ١ / ١٠٠.

(٦) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٠٠ و ١٠٥.

(٧) كنز العرفان : ١ / ١٦٨.


وقال المحقّق الشيخ علي في «رسالته» : أجمع علماؤنا الإماميّة ـ طبقة بعد طبقة من عصر أئمّتنا عليهم‌السلام إلى عصرنا هذا ـ على انتفاء الوجوب العيني عن الجمعة ، أي في مثل زمان الغيبة (١).

وقال فيها أيضا : يشترط لصلاة الجمعة وجود الإمام المعصوم عليه‌السلام أو نائبه ، وعلى ذلك إجماع علمائنا قاطبة (٢).

وقال في «شرح القواعد» : يشترط لوجوب الجمعة السلطان العادل ، وهو الإمام المعصوم عليه‌السلام أو نائبه عموما ، أو في صلاة الجمعة بإجماعنا (٣).

وقال الشهيد الثاني في «شرح الألفيّة» : اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه ـ بالنسبة إلى وجوب العيني ـ موضع وفاق (٤).

وفي شرحه على «الإرشاد» : الوجوب العيني منفي حال الغيبة بالإجماع (٥).

وقال في «شرح اللمعة» : لو لا الإجماع على نفي الوجوب العيني في زمان الغيبة ، لكان القول به قويّا (٦).

وقال السيّد المحقّق الداماد في كتابه «عيون المسائل» : أجمع علماؤنا على أنّ النداء المشروط به وجوب السعي إلى الجمعة لا بدّ أن يكون من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام أو من يأذن له الإمام عليه‌السلام وينصبه لها ، وعلى ذلك إطباق الإماميّة ، وقال ـ في نفي الوجوب العيني في زمان الغيبة ـ : قد أطبق الأصحاب على نقل الإجماع

__________________

(١) رسائل المحقّق الكركي : ١ / ١٤٧ و ١٤٨.

(٢) رسائل المحقّق الكركي : ١ / ١٥٨.

(٣) جامع المقاصد : ٢ / ٣٧١.

(٤) المقاصد العليّة في شرح الألفيّة : ١٩٣.

(٥) روض الجنان : ٢٩١.

(٦) الروضة البهيّة : ١ / ٣٠١.


عليه ، ولا رادّ له في الأصحاب ، لاشتراط الجمعة بالإمام أو منصوب من قبله (١).

وفي «التنقيح» بعد ما نقل أنّ الجمعة في زمان الغيبة حرام عند جمع ، ومستحبّة عند آخرين ، قال : منشأ الخلاف أنّ حضور الإمام هل هو شرط في ماهيّة الجمعة أم في وجوبها؟ فالسيّد وسلّار وابن إدريس على الأوّل ، وباقي الأصحاب على الثاني (٢). إلى غير ذلك من الإجماعات المنقولة التي نقلها الثقات العدول ، الذين أمر الله تعالى بقبول خبرهم وتصديق قولهم ، كما أشرنا سابقا.

وأشرنا أيضا إلى أنّ الحديث ليس حجّة إلّا من جهة الأدلّة التي تشمل الإجماع المنقول ، والإجماع هو خبر في الحقيقة عندنا ، إلّا أنّه يصل إلينا بعنوان اليقين ، أو المنقول بخبر الواحد.

وأشرنا إلى أنّ الحديث لو وصل إلى منكري هذا الإجماع بعدد نقل الإجماع لجزموا به ، فضلا عن الحكم بالحجيّة.

مع أنّ سند الحديث لا يمكن أن يصير مثل الإجماع المنقول ، وأين هؤلاء من الراوي الذي لم يظهر حاله ، أقصى ما فيه ظنّ بعدالته وأين هو ممّن يكون عدالته وتقدّسه وجلالته يقينيّة؟ بل هو حجّة الله على الخلق ، والأئمّة عليهم‌السلام حجج الله عليه ، وهو مؤسّس مذهب الشيعة ، ومجدّد دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. إلى غير ذلك ممّا لا يفي لذكره الدفاتر.

هذا ، مع أنّ علو السند غاية العلو ، مضافا إلى الأخبار الدالّة على صدقهم ، والآثار اليقينيّة على حقيقة قولهم ، ممّا مرّت الإشارة إلى بعضها.

على أنّا نقول : من بقي منهم لا يظهر حاله ، حتّى يدّعى أنّه قال بعدم اشتراط

__________________

(١) عيون المسائل للسيّد الداماد : ٢١٦.

(٢) التنقيح الرائع : ١ / ٢٣١.


الإمام أو من نصبه أصلا ، وأنّه لا فرق بين إمام الجمعة والجماعة ، فإنّ ابن أبي عقيل عرفت كلامه ، وكذا الشيخ ، بل في كلّ واحد من كتبه أيضا نقل الإجماع كذلك ، أو أفتى كذلك ، مثل مبسوطه ، وجمله وعقوده ، وتبيانه ، ونهايته (١).

والمرتضى أيضا قال في «المسائل الميافارقيّات» : لا جمعة إلّا مع إمام عادل أو من نصبه الإمام العادل فإذا عدم صلّيت الظهر أربع ركعات (٢) ، وكذلك قال في جمله وغيره (٣).

وأمّا الصدوق رحمه‌الله فقد عرفت حاله في «الفقيه» وكتابه «الهداية» ، وفي مجالسه نقل صحيحة هشام عن الصادق عليه‌السلام : «احبّ للمؤمن أن لا يخرج من الدنيا إلّا وتمتّع ولو مرّة ويصلّي الجمعة ولو مرّة» (٤) ، نقلها على وجه يظهر منه أيضا ارتضاؤها عنده.

والشيخ في مصباحه بعد ما حكم باستحباب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ذكر هذه الصحيحة (٥) ، فلاحظ.

وقال ابن حمزة في وسيلته في جملة شرائط الجمعة : حضور السلطان العادل أو من نصبه (٦).

وقال سلّار في مراسمه : صلاة الجمعة فرض مع حضور الإمام الأصل أو من يقيمه ، وقال في رسالته : ولفقهاء الطائفة أن يصلّوا في الأعياد والاستسقاء ، وأمّا

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٤٣ ، الرسائل العشر (الجمل والعقود) : ١٩٠ ، التبيان : ١٠ / ٨ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٠٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى (المسائل الميافارقيّات) : ١ / ٢٧٢.

(٣) رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) : ٣ / ٤١ ، الناصريات : ٢٦٥ المسألة ١١١.

(٤) لم نعثر عليه في أمالي الصدوق ، نقل عنه في الوافي : ٨ / ١١١٥ ذيل الحديث ٧٨٥٥.

(٥) مصباح المتهجّد : ٣٦٤ ، وسائل الشيعة : ٢١ / ١٤ الحديث ٢٦٣٩٤.

(٦) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٠٣.


الجمعة فلا (١).

وقال يحيى بن سعيد في جامعه : الجمعة واجبة بشرط حضور الإمام الأصل أو من يأمره (٢).

وقال الكفعمي : في شروط الجمعة السلطان العادل أو من يأمره (٣).

وقال الطبرسي في تفسير سورة الجمعة : لا تجب ـ أي الجمعة ـ إلّا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه (٤) ، إلى غير ذلك من أقوالهم ، فهي كثيرة ، فلم يبق إلّا المفيد رحمه‌الله وقد عرفت حاله.

والكليني رحمه‌الله وهو روى في «الكافي» في تهيئة الإمام للجمعة ، بسنده عن سماعة أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الصلاة يوم الجمعة؟ فقال : «أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة» (٥) ، وقد عرفت الحال فيها.

وروى في باب قنوت الجمعة في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا كان إماما قنت في الركعة الاولى وإن كان يصلّي أربعا ففي الركعة الثانية قبل الركوع» (٦).

ولا شكّ في أنّ من يصلّي أربعا ربّما يكون إماما بسبب اختلال شرط من شرائط الجمعة ، ويظهر من أخبار كثيرة ـ مضافا إلى أنّك قد عرفت ـ أنّ المتبادر من الإمام ، الإمام الأصل (٧).

__________________

(١) المراسم : ٧٧ و ٢٦١ مع اختلاف يسير.

(٢) الجامع للشرائع : ٩٤.

(٣) المصباح للكفعمي : ٤١٠.

(٤) مجمع البيان : ٦ / ٧٦ (الجزء ٢٨).

(٥) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٠ الحديث ٩٤٣٥ ، ٣١٤ الحديث ٩٤٤٥.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٢٧ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٢٧٠ الحديث ٧٩٣٣.

(٧) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٧ الحديث ٩٣٨٩.


وهو رحمه‌الله روى فيه صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط : الإمام وأربعة» (١).

وقال رحمه‌الله بعد ذلك بقليل (٢) : باب من فاتته الجمعة مع الإمام (٣).

وهذا أيضا يؤيّد ، إذ كان يكفي أن يقول : باب من فاتته الجمعة ، إذ ذكره «مع الإمام» مشعر بأنّه منصبه ، وأنّه لا يتأتّى منه بعد ذلك ، كما ورد كذلك في صلاة العيدين (٤) ، فلاحظ وتأمّل!

وأيضا روى ما تضمّن وجوب حضورها على من كان على رأس فرسخين (٥) ، وقد عرفت حالها.

مع أنّه ليس عادته ذكر الإجماعات في «الكافي» وغيره ، إذ كثير من المسائل إجماعي عند الشيعة ، حتّى عند هؤلاء القائلين بعدم اشتراط الإمام أو من نصبه فيها بحيث لم يتأمّلوا ، ومع ذلك ليس في «الكافي» منها عين ولا أثر.

مع أنّه رحمه‌الله لم يذكر فيه كثيرا من ضروريّات الدين والمذهب ، بل وربّما لم يذكر ما هو من اصول الدين ، ومع ذلك يروي فيه روايات ظاهرة في خلافه ولا يتعرّض لتوجيهه أصلا ، مثل أنّه روى في كتاب الإيمان والكفر أخبارا ظاهرة في الجبر وغيره (٦) ممّا هو ليس مذهب الشيعة ، ولا يتعرّض للتوجيه ، مع أنّ عدالة إمام الجمعة لم يتعرّض لها في «الكافي» أصلا ، ولعلّ بعض الشروط أيضا كذلك ،

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الحديث ٩٤١٣.

(٢) في (ز ١ ، ٣ ، ٢) و (ط) : بقدر.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٢٧.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٥٩ الحديث ١ و ٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٤ ، ٤٢٣ الحديث ٩٧٥٣.

(٥) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٢ و ٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ الحديث ٩٤٣١ و ٩٤٣٢.

(٦) انظر! الكافي : ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٥.


ومرّ الكلام في أمثال ما ذكرنا.

فكلّ ما تقول بالنسبة إلى ما ذكرنا ، نقوله بالنسبة إلى اشتراط الإمام أو من نصبه ، مع أنّك عرفت وجود هذا الشرط فيه ، فتأمّل جدّا!

وأمّا الباقون من النافين إلى زمان الشهيد الثاني وباقي كتبهم الفتاوى ، مثل «الشرائع» و «النافع» وغيرهما ، فغير خفي في الصراحة في الاشتراط المذكور ، أو انحصار قول الشيعة في التخيير والحرمة (١) ، فلاحظ وتأمّل!

ومن هذا قال رئيس المحقّقين والمدقّقين جمال الملّة والدين : إنّ القول بالوجوب العيني في زمان الغيبة بدعة مخترعة (٢) حدث في هذه الأزمان (٣).

ويعضده أنّ في «المختلف» لم يذكر سوى هذين القولين (٤).

على أنّا نقول : لو كانوا يقولون بوجوب الجمعة عينيّا لكانوا يفعلونها ، وما كانوا يتّفقون على تركها ، ولو كانوا يفعلون أو يفعل بعضهم لكان يصل إلينا ويظهر علينا عادة ، كما ظهر علينا ـ وعلى أهل السنّة أيضا ـ أنّهم كانوا يتمتّعون النساء ، ويتمتّعون في الحجّ ، ويمسحون الرجل في الوضوء ، ويسبّون الشيخين وغيرهما ، ويتنزّهون عن مساورة أهل الذمّة والكفّار ، ويصلّون صلاة الغدير.

حتّى أنّ العامّة نقلوا أنّهم في بطن بغداد صلّوا هذه الصلاة جماعة في آلاف ألوف منهم (٥) ، بل ونقلوا أنّهم ضربوا الكوس في اليوم المذكور إظهارا للإجهار والبشاشة (٦).

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٩٤ ، المختصر النافع : ٣٥ ، إيضاح الفوائد : ١ / ١١٨.

(٢) في (د ٢) : محرّمة.

(٣) لاحظ! مستند الشيعة : ٦ / ١٨.

(٤) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٣٧.

(٥) شذرات الذهب : ٢ / ٩.

(٦) الكامل في التاريخ : ٨ / ٥٤٩ و ٥٥٠ ، البداية والنهاية : ١١ / ٢٧٦.


بل ووقع واقعات في بطن بغداد بين الشيعة وأهل السنّة في تعصّب الدين ، والواقعات مشهورة (١).

وكذا الواقعات والحكايات بالنسبة إلى قم وكاشان وسبزوار ، وطريقة سلوك أهل قم بالنسبة إلى السلاطين وعدم إطاعتهم لهم ، حتّى نصبوا حاكما شيعيّا فأطاعوه ، وأنّهم كانوا يمشون على طريقة الشيعة ، ويفتخرون ويباهون (٢).

ووقع بينهم وبين أهل أصفهان ما وقع (٣) ، وكذا بين غيرهم. إلى غير ذلك ممّا هو معروف مشهور ، ووقوعها عنهم جهارا علانية غير مستورة على العامّة ، فضلا عن الخاصّة حتّى السبّ الذي ذكرناه.

فإنّ أطفال العامّة ونساءهم في الخدور يعرفون يقينا صدور السبّ منهم ، وأنّهم يتمتّعون ، ويمسحون بالرجل ، ويكبّرون خمسا على الميّت. إلى غير ذلك ، بل المستحبّات أيضا ، مثل القنوت في الصلاة وصلاة الغدير ، وغير ذلك ، بل المباحات أيضا ، كما لا يخفى ، بل العقائد الخفيّة وإن كانت لبعضهم.

فكيف خفي على الخاصّة والعامّة فعل الجمعة بالمرّة؟ بل الظاهر ظهور خلافه عليهم ، فإنّ العامّة كان ديدنهم الطعن على الشيعة بتركهم الجمعة ، بل وربّما نسبوا إليهم القول بالتحريم ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّهم اتّفقوا على الترك ، بحيث يكون ظاهرا في التحريم عندهم ، وإلا فلا وجه في هذا المقدار من الاتّفاق في أنّهم كانوا يعلمون أنّهم في مقام عدم التقيّة يتركون بالمرّة.

ولهذا نسبوا إليهم القول بالحرمة ، وإلّا فهم يعلمون أنّ الشيعة مذهبهم

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ٩ / ٥٧٥ و ٥٩١ ـ ٥٩٣ ، ١٢ / ٤٢٤ ، البداية والنهاية : ١٢ / ٧٩ و ٨١.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) الكامل في التاريخ : ٨ / ٥١٧ ، البداية والنهاية : ١١ / ٢٦١.


التقية ، ويشنّعون هذا عليهم على حدة ، وينسبونهم إلى ترك الواجبات وفعل المحرّمات من جهة التقيّة التي لا تصير عذرا عندهم ، فلو كان تركهم الجمعة للتقيّة لكانوا يشنّعون عليهم بما كانوا يشنّعون عليهم من أنّهم يتركون الفريضة من جهة التقيّة التي ليست بعذر ، لا أنّهم لا يقولون بل ويحرّمون.

وينادي إلى ذلك أنّ علماء الشيعة في الأزمنة مع كونهم في غاية الاهتمام في دفع المطاعن عن الشيعة ، ما دفعوا عنهم بأنّهم كانوا يتركون الجمعة تقيّة ، وبأنّهم كانوا يصلّونها ، كما كان عادتهم الذبّ عنهم في موضع التقية بأنّهم يتّقون ، وكانوا يشرعون في تصحيح التقيّة ومشروعيّتها ، ويصرّون ويبالغون في ذلك.

وفي المقام الذي كانوا يكذبون على الشيعة ، كان علماؤنا يبالغون في تكذيبهم وإنكارهم ذلك ، وما كانوا يتّقون في أمثال المقامات ، كما أنّهم كانوا يظهرون بطلان مذهب أهل السنّة وإظهار نفاق الخلفاء الثلاثة وكفرهم ومطاعنهم ، وتشييد مذهب الشيعة ، وأنّهم هم الناجون ، إلى غير ذلك.

ومع ذلك في مقام دفع الطعن بترك الجمعة اتّفقوا على القبول وتصديقهم ، وأنّه ليس من جهة التقيّة ، بل من جهة أنّ الجمعة منصب الإمام عليه‌السلام ، مع أنّه لا يناسب أن يقال : إنّ تركهم للتقيّة ، مع أنّهم كانوا يرتكبون السبّ وأمثاله ، إلى أن ظهر عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم.

مع أنّ معظم العامّة لا يقولون باشتراط إذن السلطان ، كالمالكيّة والشافعيّة والحنابلة (١) ، فكيف كانوا في أمثال السبّ ما كانوا يتّقون؟ وفي هذا الذي معظم العامّة يقولون بجوازه وصحّته كانوا يتّقون.

وظهر ممّا ذكر أنّه يمكن أن يكون ما تضمّن وجوب الجمعة من دون اشتراط

__________________

(١) المجموع للنووي : ٤ / ٥٨٣.


إذن الإمام محمولا على التقيّة بأنّهم عليهم‌السلام كانوا يتّقون من هؤلاء.

مضافا إلى ما ورد منهم من الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب ، والأمر بترك ما خالف السنّة وطريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وقد عرفت طريقته صلى‌الله‌عليه‌وآله وطريقة الإمامين عليهما‌السلام ، وكذلك الأوامر الدالّة على متابعة العقل.

ومنه قوله عليه‌السلام : «عليكم بالدرايات دون الروايات» (٢) ، إلى غير ذلك.

مع أنّ القول باستحباب الجمعة من خصائص الشيعة ، بل هو المشتهر بينهم (٣).

والأخبار الدالّة عليه كثيرة صحيحة السند ، مضافا إلى معاضدة الشهرة وغيرها : منه أنّه ليس قول أحد من أهل السنّة ، وتضمّن بعضها حكاية حليّة المتعة (٤).

فما دلّ على الاستحباب أو ظاهر فيه مخالف لمذاهب العامّة بأجمعهم ، فتعيّن أن يكون هو الحقّ والرشد ، للأخبار المتواترة في الأمر بالأخذ بما خالف العامّة وأنّه الرشد والحقّ (٥) ، مضافا إلى الشهرة العظيمة.

وأمّا موافقتهم مع القائلين بالحرمة في الترك ، فلأنّ الظهر كانت عندهم

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٧ الحديث ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥ الحديث ١٨ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٣٠١ الحديث ٨٤٥ ، الاحتجاج : ٢ / ٣٥٥ و ٣٥٦ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ١٦٠ الحديث ١٢ مع اختلاف يسير.

(٣) شرائع الإسلام : ١ / ٩٨ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٢٧ المسألة ٣٨٩ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٠٥.

(٤) مصباح المتهجد : ٣٦٤ ، الوافي : ٨ / ١١١٥ ذيل الحديث ٧٨٥٥ ، وسائل الشيعة : ٢١ / ١٤ الحديث ٢٦٣٩٤.

(٥) الكافي : ١ / ٨ و ٦٨ / ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥ الحديث ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٩ الحديث ١٠ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٩٤ الحديث ٨٢٠ و ٣٠١ الحديث ٨٤٥ ، الاحتجاج : ٣٥٦.

وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤ ، بحار الأنوار : ٢ / ٢٣٥ الحديث ١٧ ـ ٢٠.


مبرئة للذمّة على سبيل اليقين (١) ، كما هو يقين أنّها كانت كذلك عندهم ، وأمّا الجمعة ، فلم تكن مبرئة على اليقين ، بل على الظنّ لظهور الرخصة والاستحباب من أخبار الآحاد (٢).

ولذا من أنكر حجيّة خبر الواحد لم يقل بالاستحباب ، بل وصرّح بعضهم بذلك (٣) ، بل لا شكّ في أنّ الأمر كان كذلك ، وأنّ من يقول بالاستحباب كان يقول بأنّه يظهر من الأخبار كذا وكذا ، فإنّ الصدوق والشيخين ومن تابعهم كانوا يقولون بحجيّة خبر الواحد (٤) ، فمن ثمّ قالوا بالاستحباب.

ولا شكّ في أنّهم في مقام تحصيل البراءة عن شغل الذمّة اليقيني كانوا يقدّمون اليقين على الظنّ ، كما هو شأن غيرهم من الفقهاء ، وهو الحقّ عقلا ونقلا ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٥) وغير ذلك ، ومسلّم عند الفقهاء ، مع أنّ تيسّر اليقين لا يجوز العمل بالظنّ إلّا في موضع تحصيل اليقين من الشرع بالاكتفاء بالظنّ.

ومع ذلك الأولى عندهم في ذلك الموضع أيضا العمل باليقين ، كما حقّق وأشرنا مكرّرا ، فعلى هذا لم يكن لهم الداعي إلى الاجتماع وإتيان الجمعة مع شرائطها الكثيرة التي لا بدّ من معرفتها وتحصيلها مع كثرتها ، وربّما يصعب تحصيل بعضها.

مع أنّ العدول عنها إلى الظهر كان أحسن عندهم لو لم يكن لازما ، سيّما في

__________________

(١) السرائر : ١ / ٣٠٣ ، الحدائق الناضرة : ٩ / ٤٣٦.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ الباب ٥ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٧٢ ، السرائر : ١ / ٣٠٣ ، منتهى المطلب : ٥ / ٤٦٠.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣ ، مصنّفات الشيخ المفيد (أوائل المقالات) : ٤ / ١٢٢ ، الاستبصار : ١ / ٤.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٦.


دولة المخالفين.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه أنّ في كلام القدماء : أنّ الجمعة مع الإمام واجبة (١).

وقلنا : إنّ المتبادر من لفظ «الإمام» هو الأولى بالتصرّف ، كما قال عزوجل : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) (٢) الآية ، وكذا غيره من الآيات (٣) ، والأخبار المتواترة الظاهرة (٤) ، مضافا إلى التبادر وأنّ الإطلاق ينصرف إلى الكامل ، وغير ذلك ممّا مرّ.

والعامّة نقلوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من ترك الجمعة وله إمام عادل أو جائر» (٥) ، حيث ذكروا «جائر» ، ولم يذكروا فاجر وفاسق ، فظهر أنّ الإمام كان مطلقا منصرفا إلى ما ذكرناه.

والشيعة نقلوا ذلك الحديث هكذا : وله إمام عادل (٦).

ويظهر من الفقهاء أنّ الإمام العادل كان اصطلاحا فيما ذكرنا.

ويظهر ذلك من الأخبار مثل ما رواه في «التهذيب» ، عن الباقر عليه‌السلام فيمن قتل ناصبيّا غضبا لله تعالى أنّه قال : «أمّا هؤلاء فيقتلونه ، ولو رفع إلى إمام عادل لم يقتله» (٧).

وفي «الكافي» و «الفقيه» ، عن الصادق عليه‌السلام في امرأة قتلت من قصدها

__________________

(١) المقنعة : ١٦٣ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤١ ، الخلاف : ١ / ٦٢٦ المسألة ٣٩٧ ، المراسم : ٧٧.

(٢) القصص (٢٨) : ٥.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤ ، الإسراء (١٧) : ٧١ ، الأنبياء (٢١) : ٧٣.

(٤) مناقب ابن المغازلي : ١١٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ١٦٧ و ١٦٨ ، الأربعين للفخر الرازي : ٢ / ٢٩٤ ، لاحظ! الغدير : ١ / ١٥٩ ـ ١٦٣.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٣٤٣ الحديث ١٠٨١.

(٦) رسالة في صلاة الجمعة للشهيد الثاني : ٦١ ، الوافي : ٨ / ١١٢٤ ذيل الحديث ٧٨٧٤.

(٧) تهذيب الأحكام : ١٠ / ٢١٣ الحديث ٨٤٣ ، وسائل الشيعة : ٢٩ / ١٣٢ الحديث ٣٥٣٢٣.


بحرام أنّه : «ليس عليها شي‌ء ، وإن قدمت إلى إمام عادل أهدر دمه» (١).

وفي «الكافي» ـ في باب التحديد ـ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة ، وحدّ يقام في أرضه أفضل من مطر أربعين صباحا» (٢).

وفي «الكافي» أنّه ذكر عن الصادق عليه‌السلام : «لا غزو إلّا مع إمام عادل» (٣).

وفي «التهذيب» ـ في باب قتال أهل البغي ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إن خرجوا على إمام عادل [أو جماعة] فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم» (٤).

وفيه أيضا الإشعار الذي ذكرنا عن رواية العامّة.

وفي «التهذيب» أيضا ـ في باب حدّ السرقة ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إذا سرق السارق من البيدر من إمام جائر فلا قطع عليه ، فإذا كان مع إمام عادل عليه القطع» (٥).

وفي «الكافي» ـ في باب أنّ الأرض لا تخلو عن حجة ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله أعزّ وأجلّ أن يترك الأرض بغير إمام عادل» (٦).

وفي «المحاسن» ، عن الباقر عليه‌السلام : «من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٢٩١ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٧٥ الحديث ٢٣٢ ، وسائل الشيعة : ٢٩ / ٦١ الحديث ٣٥١٥٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٧ / ١٧٥ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ٢٨ / ١٢ الحديث ٣٤٠٩٦ مع اختلاف يسير.

(٣) في الكافي : ٥ / ٢٠ الحديث ١ ، الكلام ليس عن الصادق عليه‌السلام ، وهو في تحف العقول : ١٧٥ ، بحار الأنوار : ٧٤ / ٢٧٤ الحديث ١ ، ٤١٦ الحديث ٣٨ من وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد.

(٤) تهذيب الأحكام : ٦ / ١٤٥ الحديث ٢٥٢ ، وسائل الشيعة : ١٥ / ٨٠ الحديث ٢٠٠٢٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ١٠ / ١٢٨ الحديث ٥١٠ ، وسائل الشيعة : ٢٨ / ٢٨٩ الحديث ٣٤٧٩١ مع اختلاف يسير.

(٦) الكافي : ١ / ١٧٨ الحديث ٦ مع اختلاف يسير.


عادل فهو غير مقبول» (١).

وفي ثواب زيارة الحسين عليه‌السلام : «من أتى الحسين عليه‌السلام عارفا بحقّه». إلى قوله : «عشرين حجّة وعمرة مع نبي مرسل أو إمام عادل» (٢).

وفي الاعتكاف عن الصادق عليه‌السلام : «لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة صلّى فيه إمام عادل» (٣) ، إلى غير ذلك.

وأمّا كلام المتقدّمين والمتأخّرين من الفقهاء ، فأكثر من أن يذكر ، انظر إلى كتاب الجهاد وغيره ، منها ما مرّ في الجمعة.

فإن قلت : القرائن المانعة عن الحمل على إمام الجماعة موجودة في كثير ممّا ذكرت ، بل أكثر.

قلت : نعم والغرض إظهار الاستعمال ونهاية كثرته ، بل أكثر استعمالا بالنسبة إلى إمام الجماعة بمراتب شتّى.

ومع ذلك يدّعي الموجبون تبادر إمام الجماعة من جهة كثرة الاستعمال فيه ، ومعلوم أنّ ذلك الاستعمال أيضا بمعونة القرينة ، وإلّا فمن أين يعرفون أنّ المراد إمام الجماعة؟!

بل في مقام صلاة الجمعة لا شكّ في أنّ المراد إمام الجمعة لا إمام الجماعة جزما ، وكونه إمام الجماعة واتّحاده معه من أين؟!

بل المستفاد من الأخبار وفتاوى الأصحاب والأدلّة العقليّة والشواهد والقرائن والمؤيّدات المغايرة قطعا ، كما لا يخفى.

__________________

(١) المحاسن : ١ / ١٧٦ الحديث ٢٧٤ ، وسائل الشيعة : ١ / ١١٨ الحديث ٢٩٧ مع اختلاف يسير.

(٢) كامل الزيارات : ٣١٦ الحديث ٥٣٦ ، وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٥٩ الحديث ١٩٥٩٧ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٤ / ١٧٦ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٢٠ الحديث ٥١٩ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٩٠ الحديث ٨٨٢ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٥٤٠ الحديث ١٤٠٦٩.


فلا بدّ من التنبيه على فهرست ما يوقع المغرور في القول بالوجوب العيني من جهة الغفلة والقصور ، كيلا يقع فيه بسبب عدم الاطّلاع ، أو عدم الشعور.

الأوّل : احتجّ القائلون به بالآية والأخبار (١) ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا أنكر عينيّة وجوب الجمعة.

وقد عرفت أنّها بديهي الدين يقطع كلّ أحد بأنّ الأمين نزل بها من عند ربّ العالمين ، كما هو مدلول القرآن والأخبار المتواترة ، ومحلّ النزاع أمر آخر ، وهو أنّ هذه الجمعة ما هي على قول؟ أو أنّ من شرائطها الإمام عليه‌السلام أو من نصبه أم لا؟ على قول آخر.

وبديهي أنّ محلّ النزاع غير محلّ الإجماع ، لأنّ محلّ الإجماع حكم صلاة الجمعة ، وهو الوجوب العيني ، ومحلّ النزاع معنى صلاة الجمعة أو زيادة شرط في شرائطها ، فما هو مضمون أدلّتهم لا نزاع فيه ، وما هو محلّ النزاع لا يأتون بدليل له ، وربّما يشيرون بإشارة إجماليّة فاسدة ، كما عرفت وستعرف.

الثاني : يقولون : إنّ المحرّمين يحرّمون صلاة الجمعة ، وحاشاهم عن ذلك ، بل ويقولون : صلاة الجمعة من الواجبات العينيّة ليس إلّا.

وأمّا ما يقولون بحرمته فليس إلّا ما أطلق عليه خصمهم لفظ صلاة الجمعة حقيقة ، وأمّا هؤلاء فإن كان يطلقون فعلى سبيل التوسّع ، كما يطلقون لفظ الأمر على الأمر التهديدي ، ويقولون : هذا الأمر أمر حرمة ، وإن كان الأمر عندهم حقيقة في الوجوب ، أو يطلقون على حسب اصطلاح هذه الأزمنة ، كما ستعرف.

وإنّما قلنا : يقولون بعينيّة وجوبها ليس إلّا ، لأنّ ابن البراج قال : فهذه الشروط إذا اجتمعت يثبت كون هذه الصلاة فريضة جمعة ، وإن لم تجتمع لم يثبت

__________________

(١) رسائل الشهيد : ٥١ ـ ٥٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٩٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٩٨ و ٤٠٨.


كونها كذلك (١).

ومثل هذا كلام السيّد بأنّ الجمعة حقيقة ما يكون مع مجموع الشرائط (٢).

وقال الفاضل التوني مولانا عبد الله في رسالته : إنّ صلاة الجمعة ما تصلّي خلف الإمام عليه‌السلام أو نائبه. إلى أن قال : والحقّ أنّ صلاة الجمعة عبارة عن تلك (٣) ، إلى غير ذلك.

مع أنّ المحقّق الثابت أنّ ألفاظ العبادات أسام للصحيحة ، للتبادر وعدم صحّة السلب ، ولعدم التبادر وصحّة السلب بالنسبة إلى فاقد الشرائط ، وغير ذلك من الأدلّة ، ولعلّه المشهور عند القدماء ، ومعظم (٤) المتأخّرين ، فصلاة الجمعة الباطلة لا تكون صلاة جمعة ، بل تكون غير صلاة الجمعة ، فالحرام غير صلاة الجمعة.

وكذلك يقولون : إنّ المخيّر يقول : إنّ صلاة الجمعة واجبة تخييرا ، فيشمئزّ منه المغرور ، بأنّ الفرض العيني القرآني والأخباري والإجماعي ، كيف يكون تخييريّا؟ لأنّ الشرائط إن كانت موجودة ، فالوجوب العيني ليس إلّا ، وإلّا فحرام ليس إلّا ، ولا يدري المغرور أنّ المخيّر قائل بما هو بديهي الدين وما يظهر من القرآن والأخبار ، وأنّ التخييري غيره قطعا عنده ، لأنّه مستحبّ ، وبديهي أنّ المستحبّ مغاير للواجب ، وإنّما يطلق عليه لفظ الوجوب التخييري ، من جهة أنّ بفعل هذا المستحبّ يسقط هذا الواجب عنه ، فتخيّر بين فعله وإسقاط الواجب عنه ، أو تركه والإتيان بالواجب.

__________________

(١) المهذّب : ١ / ١٠٠.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٧٢.

(٣) رسالة نفي الوجوب العيني لصلاة الجمعة في زمن الغيبة : ١٠ (مخطوط).

(٤) في (ز ٢) و (ط) : بعض.


ألا ترى أنّ صلاة العيد من الواجبات العينيّة قطعا ، إلّا أنّ لها شرائط ، فبعد انتفاء بعض الشرائط ينتفي ذلك الواجب ، إلّا أنّه يستحبّ الإتيان بها بفرادى أو جماعة ، ومعلوم أنّ صلاة الفرادى مثلا أمر آخر جزما.

وأيضا عرفت أنّ المطلق ينصرف إلى الكامل ، ولذا يستدلّ هؤلاء بمطلق الوجوب على عينيّته ، ومعلوم أنّ صلاة الجمعة أيضا مطلقها ينصرف إلى الكامل التي هي الواجب عينا.

وممّا يشير إلى أنّ هذا المستحبّ أمر على حدة ، أنّهم ما يعتبرون باقي الشرائط ، وإن تيسّر مثل الإمام ، والعدد ، والفاصلة بثلاثة أميال ، إمّا كلّهم ما يعتبرون ، أو بعضهم والباقي لا يستنكف ولا يتعجّب ، حتّى أنّ في الجمعة المستحبّة أيضا ، قال بعض الأصحاب بعدم وجوب الفاصلة بثلاثة أميال بين متعدّدها (١).

وقال الشيخ مفلح الصيمري في شرح قول المحقّق : إذا لم يكن الإمام أو من نصبه ، وأمكن الاجتماع استحبّ فعل الجمعة ، قال : هذا مذهب الشيخ والعلّامة والشهيد ، لعموم قوله تعالى ولروايات لهم على الاستحباب. والمنع مذهب ابن إدريس والسيّد ، لأنّ شرط الجمعة الإمام أو من نصبه ، ولأنّ الظهر ثابتة في الذمّة بيقين ، فلا يخرج عن العهدة إلّا بفعلها ، وأخبار الآحاد المظنونة لا يجوز التعويل عليها.

ثمّ قال : على القول بانعقادها حال الغيبة يجوز إيقاع جمعتين بينهما أقلّ من فرسخ ، قاله أبو العبّاس في موجزه ، وقال : الأقوى عدم الجواز (٢) ، انتهى.

ألا ترى أنّ واحدا منهم يجوّز عدم الفاصلة ، وغير المجوّز يقول : الأقوى

__________________

(١) انظر! مفتاح الكرامة : ٣ / ١٣٠ ، جواهر الكلام : ١١ / ٢٤٦.

(٢) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٧٥ و ١٧٦.


عدم الجواز ، لا أنّه كذلك قطعا.

ثمّ أطال الكلام في أنّه على القول باستحباب الجمعة ، هل يفعل بنيّة الاستحباب أو الوجوب؟ وإن فعل بنيّة الاستحباب ، هل تبرئ الذمّة أم لا؟ وأطال الكلام في ذلك.

الثالث : إنّ القائلين بالوجوب استدلّوا بإطلاق الآية والأخبار ، فالمغرور يتوهّم أنّ هذا الاستدلال نافع بأنّ الخصم منحصر في منكر الإطلاق.

وقد عرفت فساده ، لأنّ جمعا منهم صرّح بأنّ الجمعة حقيقة فيما فعل مع الإمام أو نائبه مع باقي الشرائط ليس إلّا.

فكيف يمكن أن يقال : إطلاق الآية والأخبار حجّة عليهم؟ مع أنّهم يقولون بإطلاقها وعمومها قطعا ، ولا يجوّزون التخصيص والتقييد أصلا ورأسا ، وكذا الكلام بالنسبة إلى من قال : الجمعة اسم للصحيحة فقط.

ولا شكّ في أنّ الجمعة المستجمعة لجميع شرائطها واجبة عينا ، إنّما النزاع في أنّها ما هي؟ فما أشاروا إلى بطلان مذهبهم أصلا.

لا يقال : لمّا تحقّق عندهم أنّ الجمعة اسم لمجرّد الأركان ، استدلّوا كذلك.

لأنّا نقول : إنّهم يعرفون أنّ جمعا من الفقهاء يعتقدون أنّه اسم للمستجمعة لجميع الشرائط ، كما هو حال في سائر ألفاظ العبادات.

فلعلّ المحرّم والمخيّر يقولون كذلك ، بل عرفت أنّ المحرّمين صرّحوا بذلك ، وعرفت الحال في المخيّرين أيضا.

فاللازم على المستدلّ إبطال هذا المعنى خاصّة ، لا إثبات وجوب الجمعة مع كونه مسلّما ، بل ضروري الدين ، فكيف يطوّلون في الكلام بما لا طائل تحته أصلا ويسكتون بالمرّة عمّا هو نزاع الخصم؟ فهل هذا إلّا الخلط بين المقامين؟!

فإن قلت : لعلّ مرادهم الردّ على المخيّرين فقط من حيث إنّ هذه الجمعة


صحيحة عندهم جزما ، فتكون داخلة في الآية والأخبار عندهم قطعا.

قلت : فكيف يقولون : أثبتنا الوجوب العيني؟ ويصرّون في ذلك ، ويشنّعون على المتأمّل ، بل وتشنيعهم على المحرّمين أزيد وأزيد (١).

ومع ذلك نقول : هذه الجمعة ليست داخلة فيها عندهم قطعا ، كما عرفت.

وعرفت أنّ الوجوب العيني للجمعة من ضروريّات الدين عندهم أيضا ، وأنّها كانت كذلك في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي والحسن عليهما‌السلام ، وكذا إلى يوم القيامة إذا حصل الإمام عليه‌السلام أو من ينصبه.

وكانوا يجزمون أنّ هذا الضروري لا مانع من ورودها في الآية والأخبار ، بل لا تأمّل في ورودها ، بل اعترفوا به ، فإذا كانت داخلة فكيف يمكنهم التأمّل؟! إذ ما كانوا بمجانين ـ العياذ بالله منه ـ إذ عرفت أنّ لفظ الوجوب حقيقة في الأعم من العيني قطعا ، والبناء على الانصراف إلى العيني خاصّة ليس إلّا من جهة انصراف الإطلاق إليه ، وهذا يستلزم أن يكون لفظ صلاة الجمعة كذلك أيضا ، إذ لا شكّ في أنّ الكاملة منها هي الواجبة عينا ، مع أنّها الأصل ، كما أنّ الكامل من الوجوب أيضا كذلك ، فبمجرّد كون المستحبّة والواجبة تخييرا من أفراد الجمعة حقيقة لا يستلزم انصراف الإطلاقات إليها أيضا.

فعلى هذا فكيف تصير الأخبار والآية ردّا عليهم؟ إلّا أن يكونوا يقولون : هذه الفرائض الواردة في الآية والأخبار هي عين المستحبّة.

وفيه ما فيه ، ولا شكّ في أنّهم قالوا بثبوت المستحبّة من حديث «أحبّ» ، و «حثّ» ، وأمثالهما (٢) ، ولذا قال السيّد وابن إدريس : إنّه أخبار آحاد (٣) ، وإلّا

__________________

(١) رسالة في صلاة الجمعة للشهيد الثاني : ٩٣ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٤٠٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٩ و ٣١٠ الحديث ٩٤٣٣ و ٩٤٣٤ ، ٢١ / ١٤ الحديث ٢٦٣٩٤.

(٣) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢١ و ٢٢ ، الذريعة إلى اصول الشريعة : ٢ / ٥١٧ ، السرائر : ١ / ٣٠٣.


فالقرآن عندهما من القطعيّات ، وكذلك الأخبار المتواترة.

الرابع : على تقدير تسليم كون الجمعة مجرّد الأركان ، ومرادهم الردّ على المحرّم والمخيّر جميعا أو اسما للصحيحة ، ومرادهم الردّ على المخيّر خاصّة.

نقول : الإطلاق يستعمل على ثلاث صور :

الأولى : أن يراد نفس وجوب الجمعة من غير مدخليّة الأفراد والشرائط ، مثل ما نقول : إنّ الجهاد من الواجبات الفروعيّة ، وهذا هو الأصل في مثل هذه الاستعمالات ، لأنّ الأصل عدم التقدير.

الثانية : أنّ المراد أنّها واجبة بشرط تحقّق شروطها بعنوان الإجمال من دون تفصيل وتعيين في الشروط ، وهذا أيضا لا بأس به ، لأنّ كون الجمعة مشروطة بشروط من جملة ضروريّات الدين ، فلا مانع من إرادته من دون إظهار بلفظ ـ لأنّ الضروري من جهة حضوره في الأذهان ربّما لا يحتاج إلى ذكره ـ فالمراد حينئذ أنّها واجبة بعد تحقّق شرائطها بعنوان الإجمال.

وهذه كالصورة الاولى لا ينفع للمستدلّ أصلا ، لأنّهما لا يزيدان على ما هو ضروري الدين أصلا ورأسا ، إذ ضروري نفس وجوب الجمعة ، كما عرفت ، وكذا عند استجماع جميع ما هو شرط من دون تعيين وتفصيل.

الثالثة : أن يكون المراد طلب إيجاد الجمعة بشرائطها المفصّلة ، وقد عرفت سابقا أنّها ليست مرادة بالضرورة ، من جهة التقيّة ومن جهة عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

مضافا إلى القطع بفساد دعوى تحقّق البيان التفصيلي بأنّ كذا وكذا شرط خاصّة ، فعدم ذكر شرط في هذا المقام لا يدلّ على عدم اشتراطه بالضرورة ، وجعل الوقت الأخير ـ غير وقت الخطاب ـ وقت حاجته وأنّه وصل إليه الشرائط


الوفاقيّة خاصّة دون الخلافيّة ليس إلّا من باب الرجم بالغيب ، إذ لم يوجد في الأخبار منه عين ولا أثر ، بل أيّ فرق بين ذلك ، وبين أن يقول : وقت الخطاب ذكر له الشرائط الوفاقيّة دون الخلاقيّة ، وإن لم نجد هناك ممّا ذكر عينا ولا أثرا؟

وكون بعض الشرائط وصل إلى بعض الرواة ، وبعض إلى بعض آخر ، وهكذا لا يسمن ولا يغني من جوع ، بل القطع حاصل بأنّ مجموع زمان الأئمّة عليهم‌السلام ما كان يمكن تحقّق مصداق تلك الروايات.

وبالجملة ، الصور الثلاثة صار منشأ للخلط والخبط على المغرور.

الخامس (١) : كما أنّ أخبار الجمعة مطلقة ، وكذلك أخبار الظهر أيضا مطلقة ، مثل ما روى في «الكافي» ـ في باب التفويض ـ عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زاد ركعتين في الظهر والعصر والعشاء فلا يجوز تركهنّ إلّا في سفر ، ولم يرخّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما [إلى ما فرض الله عزوجل] ، بل ألزمهم إلزاما واجبا لم يرخّص لأحد في شي‌ء من ذلك إلّا للمسافر» (٢) ، وأمثال هذه الروايات متواترة ، بل ربّما كانت أقوى دلالة.

مع أنّ الإطلاق كيف لا يكون مؤثّرا في أخبار الظهر أصلا؟ مع أنّهم يقولون : وجوب الجمعة مشروط بشرائط زائدة على شرائط الظهر ، ولا يقولون في الظهر ذلك.

ومعلوم أنّ الأمر كذلك ، فمع ذلك لعلّ إطلاق الظهر يصير أقوى لأنّه يصير أصلا بالنسبة إلى الجمعة.

سلّمنا التساوي ، فالترجيح من أين؟ سلّمنا الترجيح ، لكنّهم لم يتعرّضوا

__________________

(١) أي : الخامس ممّا يوقع المغرور في الغلط.

(٢) الكافي : ١ / ٢٦٦ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥ الحديث ٤٤٧٤ مع اختلاف يسير.


لذلك أصلا ، فكيف يقولون : ثبت الوجوب العيني ممّا لا مزيد؟!

مع أنّه لم نر ثبوتا بعد أصلا ، فالمغرور يتوهّم أنّ الإطلاق منحصر في الجمعة.

السادس : إنّ التمسّك بالإطلاق فرع معرفة معناه قطعا ، ومعناه لم يعلم بعد أصلا ، وإن كنّا نعرف إطلاقنا ومعناه ، فإنّ إطلاقنا لم يعلم بعد أنّه إطلاق المعصوم عليه‌السلام بعينه ، وهو ليس من الامور البيّنة ولا المبيّنة ولا المسلّمة ، مع أنّ المسلّمة لا تنفع إلّا في مقام الجدل ، فلا يناسب الفقيه.

ومعلوم ـ يقينا ـ أنّ الحجّة إنّما هي إطلاق المعصوم عليه‌السلام خاصّة ، ولمّا يرى المغرور أنّ في بعض المقامات نجعل إطلاقنا إطلاق المعصوم عليه‌السلام يتوهّم أنّ المدار على ذلك ، ولا يعلم أنّه ليس كذلك قطعا ، إذ لو كان كذلك لما وقع النزاع العظيم في أنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة أم لا؟ والنزاع في أنّ عرفنا العام مقدّم على اللغة أم لا؟ ولم يقع الوفاق في أنّ عرفنا الخاص لا عبرة به شرعا يقينا ، مثل الرطل وغيره ، إلى غير ذلك ، مع أنّ كون إطلاقنا إطلاق الشارع جزما غلط جزما.

وفي الموضع الذي يجعل إطلاقنا إطلاقه إنّما هو من دليل ، ولا يتمشّى ذلك الدليل في أمثال المقام قطعا ، لأنّه ليس إلّا أصالة عدم التغيير والتعدّد ، وفيما نحن فيه تحقّق التغيّر والتعدّد جزما ، لأنّ عرف اللغوي غير عرف المتشرّعة جزما.

والقرينة الصارفة عن اللغوي لا تغني للزوم تحقّق المعيّنة أيضا ، ولم يوجد عند المستدلّين أصلا ، لأنّهم لا يعتبرون مجرّد الصارفة ، ومن يعتبره لا بدّ أن يكون له دليل شرعي ، وعلى تقدير تماميّته ، فإنّما هو في المقام الذي علمنا أنّ الشارع استعمل فيه كثيرا إلى حدّ توهّم القائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة صيرورته حقيقة فيه ، وتحقّق ذلك في المقام غير معلوم ، لأنّه إنّما يتمّ في موضع يكون عند جميع


المتشرّعة حقيقة ، ولم يعلم أنّ المقام كذلك ، لما عرفت من أنّ جمعا من المتشرّعة يقولون : ليس ذلك صلاة الجمعة أصلا ، بل فعل آخر مغاير لصلاة الجمعة.

وجماعة آخرون يقولون : إنّ الجمعة اسم لمستجمعة لجميع شرائط الصحّة ليس إلّا (١).

مضافا إلى أنّ إطلاقنا ليس أزيد من استعمال ، والاستعمال أعم من الحقيقة فالمغرور الذي لا اطّلاع له بالفقه ، يتوهّم أنّ كلّ إطلاق يكون إنّما هو عين إطلاق المعصوم عليه‌السلام ، وقد عرفت فساده ، وليس غروره في هذا السادس من جهة ، بل من جهات.

السابع : أنّهم يستدلّون بأنّها واجبة على جميع المكلّفين (٢) ، وأنّ الأخبار عامة في ذلك ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا أنكر ذلك ، وليس كذلك بالبديهة ، فإنّ المحرّم والمخيّر يقولان أيضا : إنّ وجوبها العيني على المكلّفين ولا يخصّصانه بصنف منهم.

نعم ، يقولان : وجوبها مشروط بشروط ، كما أنّ المستدلّ أيضا يقول كذلك.

غاية ما في الباب أنّهما يزيدان شرطا آخر ، وهذا لا يمنع شمول جميع المكلّفين ، إذ هي واجبة على كلّ واحد واحد منهم ، ولكن ذلك الواجب له شروط ، وبين المقامين فرق واضح.

ألا ترى أنّ المستدلّ مع قوله بالعموم وشمول جميع المكلّفين ، يقول بأنّ لها شروطا كثيرة ، فكيف لا يصير ذلك منشأ لعدم العموم والشمول؟! وبمجرّد أن يقول الخصم لها شرط واحد آخر ، تخرج الأخبار من الشمول إلى عدم الشمول.

__________________

(١) انظر! المهذّب : ١ / ١٠٠.

(٢) رسائل الشهيد : ٥١ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٤٠٨.


ففي المقام لا بدّ من نفي الشرط فقط ، لأنّه محلّ النزاع فقط ، لا أن يثبت العموم ، لما عرفت من عدم تأمّل أحد في العموم.

الثامن : إنّهم حين الاستدلال يقولون : وجوبها باق إلى يوم القيامة ، وأمثال هذه العبارات ، فيتوهّم المغرور أنّ أحدا قال بأنّه منسوخ في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بعده ، حاشاهم عن ذلك ، للقطع بقولهم بالبقاء إلى يوم القيامة.

نعم بشروط وبانتفاء الشروط لا يجوز فعلها ، وهذا من المسلّمات ، إنّما النزاع في شرط زائد ليس إلّا.

فمنهم من يقول باختلاله لا يجوز فعلها (١) ، ومنهم من يقول : يستحبّ فعلها (٢) ، فلا معنى لنسبتهم إلى القول بعدم البقاء.

ألا ترى أنّ المستدلّ أيضا يقول بعدم وجوبها على من اختلّ شرط من الشرائط بالنسبة إليه ، وهذا لا يقتضي قوله بالنسخ حينئذ.

التاسع : إنّ بعض المستدلّين حين ما يعترض عليهم في استدلالهم بالآية والأخبار ، بأنّها دالة على ما لا نزاع لأحد فيه ، وهو القدر الضروري ، وأنّ الكلّ قائلون بإطلاق الآية والأخبار ، والكلّ قائلون بشمولها لجميع المكلّفين وبعدم النسخ ـ على حسب ما قرّرنا ـ إلّا أنّهم يقولون بزيادة شرط واحد ، وهذا هو محلّ نزاعهم لا غير ، يجيبون بأنّ الأصل عدم زيادة شرط زائد ، ولا يتفطّن أنّ الدليل على ذلك ليس سوى هذا الأصل ، فالإتيان بالآية والأخبار والتطويل فيها من أيّ جهة؟! فإنّ الكلّ يقولون بالوجوب العيني على النحو الذي قرّرنا ، فكان يكفي أن يقولوا : الأصل عدم زيادة الشرط ، وبه يتمّ مطلوبكم لو تمّ من دون حاجة أصلا

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٧٢ ، السرائر : ١ / ٣٠٣.

(٢) المعتبر : ٢ / ٢٩٧ ، روض الجنان : ٢٩٠.


إلى التمسّك بآية أو خبر.

فالمغرور يتوهّم الحاجة أو اطمئنانه من جهة الآية التي هي قول الله تعالى ، والأخبار المتواترة ، حتّى أنّ منهم من يقول : كما أنّ خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبت من التواتر بعنوان اليقين ، كذلك وجوب صلاة الجمعة.

والمغرور المسكين لا يتفطّن أنّ الأمر اليقيني حقّ البتة ، وهو الضروري ، لا ينكره أحد من المسلمين ، وأنّ منكره كافر بلا شبهة.

وأنّ ما قال ليس إلّا خبط النزاعي بالإجماعي ، وخلط النظري بالضروري واشتباه الظنّي باليقيني ، لأنّ أصل دليل الموجبين عينا ليس سوى الأصل المذكور السخيف المردود ، لما ستعرف.

العاشر : إنّ أصل العدم الذي ذكر لا خصوصيّة بالجمعة ، بل يجري أيضا في الظهر جزما ، فكيف في الجمعة يؤثّر وفي الظهر لا يؤثّر؟! مع أنّ الظهر هو الأصل بالنسبة إلى الجمعة ـ على حسب ما عرفت وستعرف ـ فيكون تأثيره فيه أولى ، على قياس ما قلنا في الإطلاق.

الحادي عشر : إنّ الأصل المذكور من أين ثبت كونه حجّة؟ حتّى صدر منكم ما صدر من الحكم الثابت الجازم المخالف لفتاوى القدماء والمتأخّرين والأدلّة العقليّة والنقليّة الكثيرة التي مرّت وسيجي‌ء.

مع أنّ الأصل ليس إلّا استصحاب العدم الأصلي ، والاستصحاب ليس حجّة عند المستدلّين (١).

بل وربّما يصرّحون بعدم جواز ابتناء الأحكام الشرعيّة على هذه الاصول السخيفة ، فالمغرور يتوهّم أنّ أصل العدم من الحجج الشرعيّة وأنّه غير

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٠٩ ، الدر النجفيّة : ٣٦ ـ ٤٠ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١ / ٥٢.


الاستصحاب.

الثاني عشر : إنّ أصل العدم إن كان حجّة ، فهو حجّة المحرّمين بلا شبهة ، لأنّ الفرض الإلهي من أوّل البعثة إلى مدّة مديدة كان هو الظهر خاصّة ، وبعد ذلك تغيّر التكليف إلى الجمعة ، لا بالنسبة إلى جميع المكلّفين جزما ، بل بالنسبة إلى من اجتمع له شرائط الجمعة خاصّة ، وهذا من القطعيّات.

وينادي بذلك كون الخطبتين بدل الركعتين وعوضهما ، على ما صرّحت به الأخبار الصحاح (١) ، وفرّع الفقهاء على ذلك تفريعات كثيرة تأتي.

ومعلوم بلا شبهة أنّ الحكم الشرعي إذا كان ثابتا يكون باقيا إلى يوم القيامة حتّى يثبت نسخه ، وما لم يثبت يحكم بالبقاء جزما ، من جهة الاستصحاب والإجماع والأخبار ، وهو مسلّم عند المستدلّين أيضا.

فالقدر الذي ثبت تغيّره إنّما هو بالنسبة إلى الجماعة الذين تحقّق فيهم شرائط الجمعة الوفاقيّة والخلافيّة ، يعني من كان عنده الإمام أو من نصبه مع باقي الشرائط.

وأمّا تغيّر حكم من عنده الشرائط سوى الإمام أو من نصبه فلم يثبت بعد لو لم نقل بثبوت عدم التغيّر ، فيكون حكمه السابق المعلوم باقيا إلى يوم القيامة ، وأيضا الأصل بقاء ما كان على ما كان.

وأيضا الأصل عدم كون ما فعل بغير إمام أو من نصبه صلاة الجمعة.

وأيضا الأصل عدم الخروج عن عهدة التكليف اليقيني بمجرّد الجمعة. إلى غير ذلك.

فالمغرور يتوهّم أنّ أصل العدم ليس إلّا واحدا ، وهو الذي يتمسّك به

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٢ و ٣١٣ الحديث ٩٤٤٠ و ٩٤٤١ ، ٣١٤ الحديث ٩٤٤٦.


المستدلّ.

الثالث عشر : يستدلّون بالآية ، مع أنّ الشيعة لا يجوّزون الخطاب بالمعدوم (١) ، ومثله كالغائب ، ويقولون بأنّه محال على الله تعالى وحججه عليهم‌السلام ، ويقولون بأنّ الخطاب يختصّ بالحاضرين ، والغائبين مشاركتهم معهم بالإجماع (٢).

والإجماع في المقام إنّما تم فيما إذا كان الغائب له إمام عليه‌السلام أو من نصبه ، وأمّا إذا لم يكن فليس شريك الحاضر في كون تكليفه الوجوب العيني ، وعلى فرض عدم تماميّة هذا الإجماع ، لا إجماع على أنّهم مع عدم الإمام أو نائبه يكونون شركاء ، ولا شبهة في ذلك.

مع أنّه على هذا يصير الغائب حكمه مخالفا لحكم الحاضرين ، إذ عرفت أنّ الحاضرين كانوا يصلّون خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من نصبه ، وهو مسلّم عند المستدلّين أيضا ، ظاهر من الأخبار والآثار والاعتبار ، كما عرفت.

فإنّ صحيحة زرارة المتضمّنة لـ «إنّ من صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة» (٣) في غاية الظهور كما مرّ ، وظهر من غيرها أيضا ، بل عرفت أنّه يقيني.

فالمغرور يتوهّم أنّ الشيعة رأيهم رأي الأشاعرة ، وحاشاهم عن ذلك ، أو يتوهّم الإجماع الفاسد بلا شبهة.

الرابع عشر : يستدلّون بكلمة «إذا» مثلا على العموم (٤) وكذا المطلقات ، مع أنّ المحقّق عندهم أنّ «إذا» من أداة الإهمال ، وأنّ المطلق ينصرف إلى الأفراد

__________________

(١) مبادئ الأصول : ١١٤ ، معالم الدين في الاصول : ١٠٨.

(٢) معالم الدين في الاصول : ١٠٩ ، الوافية : ١٢٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٧.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٠٩ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٩ / ٣٩٩.


الشائعة في زمان الخطاب خاصّة ، وكذا كلمة «إذا» ، وعمومها عموم عرفي لا لغوي ، والمستدلّون بناؤهم على العموم اللغوي.

فالمغرور يتوهّم أنّ عمومها عموم لغوي ، ولا شكّ في أنّه ليس كذلك ، أو يتوهّم عدم التفاوت بين العمومين ، ولا شكّ في أنّه ليس كذلك ، وأنّه فرق بين قولك : بع شيئا بالنقد ، وبين : بعه بأيّ نقد يكون ، والفرق في غاية الوضوح.

هذا كلّه ، مضافا إلى ما ظهر ممّا ذكرناه سابقا من الخلط والاشتباهات ، مثل أنّهم رووا ما دلّ على وجوب الجمعة عينيّا من الأخبار ، ورووا ما دلّ على طلب الجمعة (١) من دون ظهور وجوب ، بل وظهور خلافه ، فتوهّموا أنّ الكلّ على نسق واحد ، فحملوا الأخيرة أيضا على الوجوب بدلالة الأدلّة ، ولم يتفطّنوا بأنّ الأدلّة لم تكن على طريقة الطلب ، ولم تكن لها وقت حاجة. وغير ذلك ممّا عرفت مشروحا ، فهي ما أفادت أزيد من ضروري الدين ، ولم يتفطّنوا بأنّ الأخيرة لا يمكن إرجاعها إلى الأدلّة قطعا ، ولا وجه لحملها على الوجوب بل لا يستقيم.

وأيضا رووا أنّ الفقهاء يخصّصون العمومات ، فتوهّموا جريانه في المقام ، ولم يتفطّنوا بالموانع التي عرفت.

وأيضا خلطوا بين مدلول عبارة الآية والأخبار ، وكون الأصل عدم زيادة شرط ، فتوهّموا أحدهما الآخر. إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، ويظهر من التأمّل فيما ذكرناه.

واعلم! أنّ جميع ما ذكر بناء على عدم الدليل على اشتراط الإمام عليه‌السلام أو من نصبه ، وإلّا فقد عرفت الأدلّة على ذلك من جهة الإجماعات والأخبار والآثار

__________________

(١) رسائل الشهيد : ٥٤ ـ ٥٨ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٦ ـ ٨ ، ذخيرة المعاد : ٣٠٨ ، الحدائق الناضرة :

٩ / ٤٠٨ ـ ٤١٩.


والاعتبار ، بحيث لا يكاد يحصى ، ولا يمكن أن يخفى على ذي حجى ، بل يقينيّة أغلبها.


٩ ـ مفتاح

[بيان مقدار الفرسخ]

الفرسخ ثلاثة أميال بالإجماع والصحاح (١) ، والميل أربعة آلاف ذراع ، كما قالوه (٢) ، ويعضده اللغة (٣) ، بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا غالبا.

وفي رواية : «ثلاثة آلاف وخمسمائة» (٤) ، وفي اخرى : «ألف وخمسمائة» (٥) ، ويشبه هذه أن يكون سهوا وقع من النسّاخ ، لأنّ القصّة فيهما واحدة.

والإصبع سبع شعيرات عرضا (٦) ، وقيل : ستّ (٧).

والشعيرة سبع شعرات من البرذون (٨).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ١١ / ٣٦٦ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٠١.

(٣) مجمع البحرين : ٥ / ٤٧٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٠ الحديث ١١١٦٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦١ الحديث ١١١٧٢.

(٦) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٠.

(٧) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٣ ، المجموع للنووي : ٤ / ٢٣٢.

(٨) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٠.



قوله : (الفرسخ ثلاثة أميال بالإجماع). إلى آخره.

لا شبهة في أنّه يظهر من الأخبار أنّ الفرسخ ثلاثة أميال ، مثل صحيحة عمران بن محمّد عن الجواد عليه‌السلام أنّه قال له : «إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ» (١).

وموثّقة عبد الرحمن بن الحجّاج عن الصادق عليه‌السلام ـ وهي كالصحيحة ـ وفي آخرها : «ثمّ أومأ بيده أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ» (٢). إلى غير ذلك من الأخبار (٣).

وأمّا كون الميل ما ذكره ، فلأنّه من موضوعات الأحكام ، يرجع فيه إلى اللغة والعرف.

وفي «القاموس» : الميل قدر مدّ البصر. إلى أن قال : ومائة ألف إصبع إلّا أربعة آلاف إصبع (٤).

وجه الدلالة ، أنّ الذراع أربعة وعشرون إصبعا ، كما ذكره المصنّف.

وأمّا العرف ، فالظاهر أنّه مشهور.

والمحقّق في «الشرائع» ـ بعد جعل حدّ الميل ما ذكرناه ـ قال : تعويلا على المشهور بين الناس ، ثمّ قال : أو مدّ البصر من الأرض (٥) ، انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٢ الحديث ٦٤٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٥ الحديث ١١١٥٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦٠ ، ٤٦١ الحديث ١١١٧٢ ، ٤٦٢ الحديث ١١١٧٥.

(٤) القاموس المحيط : ٤ / ٥٤.

(٥) شرائع الإسلام : ١ / ١٣٢.


والحدّ الثاني : ذكره أيضا أهل اللغة ، وأكثرهم اقتصر عليه (١).

ولعلّ الحدّين مآلهما واحد ، إلّا أنّ الثاني فيه إجمال ، وإن ضبط ذلك بأنّ يتميّز الفارس عن الراجل للمبصر المتوسّط في الأرض المستوي ، إذ لا تأمّل في أنّه بعد لا يخلو عن إجمال وعدم انضباط تامّ.

ولعلّ لذلك اختار المشهور الأوّل ، والفقهاء أكثرهم اقتصر عليه (٢) ، وظاهر المحقّق أيضا أنّ تعويله على الأوّل أزيد حيث قدمه ، وقال : تعويلا على المشهور بين الناس.

ولا شبهة في أنّ هذا أقوى وأضبط ، سيّما على القول بتقديم العرف على اللغة عند التعارض ، بل على القول بتقديم اللغة أيضا ، لأنّ أهل اللغة أيضا ذكروا الأوّل ، فصار متّفقا عليه بين أهل العرف واللغة ، مضافا إلى الأضبطيّة ، بل الضبط ، لأنّ ما ذكر في الثاني لم يظهر بعد وجهه ، ومع ذلك لا ينفع ، لعدم الإخراج عن الإجمال بالمرّة.

وأمّا ما ذكر في الروايتين اللتين ذكرهما (٣) ، فمع ضعف السند لا يمكن الاحتجاج بهما ، لما حقّق من اشتراط العدالة ، أو ما يجبر ضعف السند ، حتّى يتحقّق التبيّن ، ولم يوجد جابر ، بل المخالفة لفتوى الفقهاء تجعلهما شاذّتين ، لا يجوز العمل بهما عقلا ونقلا.

هذا ، مضافا إلى المخالفة بينهما وعدم ظهور قائل بمضمونهما ، وعدم معلوميّة المراد من الذراع المذكور فيهما ، لأنّ الذراع الهاشمي ، والذراع المكسر ، وذراع

__________________

(١) مجمع البحرين : ٥ / ٤٧٦.

(٢) السرائر : ١ / ٣٢٨ ، المعتبر : ٢ / ٤٦٧ ، منتهى المطلب : ٦ / ٣٣٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٠.

(٣) مرّت الإشارة إليهما آنفا.


الكرباس ، لعلّ كلّ واحد مغاير الآخر ، ولا يدلّ دليل على تعيينه.

ومع ذلك لا توافقان الحدّ الآخر في مسافة القصر ، وهو بياض يوم بالنسبة إلى سير الأحمال والجمال المتعارف ، سيّما الرواية الثانية.

وكذا لا توافقان ما ذكر في صحيحة زرارة من أنّ الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة (١) ، والعلّة المذكورة في ذلك وإرجاعها إلى الفرسخين المذكورين في أكثر الأخبار. إلى غير ذلك من مبعداتهما.

ويمكن أن يكون الثانية سهوا ، كما ذكره المصنّف ، بل الظاهر ذلك ، لما ذكره المصنّف ، ولغاية منافرتها مع الامور التي أشرنا إليها وغيرها ، بحيث يحصل القطع بذلك ، إلّا أن يجعل المراد من الذراع أمرا آخر غير المعهود.

وأمّا الاولى ، فيمكن أن يكون المراد من الذراع فيها ما يساوي القدمين ، إذ في الأخبار يجعل الذراع والقدمان متّحدين ، معرّفا كلّ منهما الآخر ، منها الأخبار الواردة في أوقات الصلاة ، ونوافل الظهرين (٢).

ومعلوم أنّ القدمين يزيد على الذراع المحدود بأربعة وعشرين إصبعا بشي‌ء يسير ، كما لا يخفى ، بل لعلّه أقرب إلى مساحة ما بين ظلّ عائر وفي‌ء وعير المذكور في الروايتين (٣) ، فتأمّل جدّا!

وممّا يؤيّد ما ذكرناه ، أنّ الفقهاء المتأخّرين بأجمعهم اتّفقوا على الحدّ المذكور ، ولم يتعرّضوا حال الروايتين أصلا ورأسا.

بل لم يظهر من القدماء التعرّض والفتوى ، غير أنّ الصدوق رحمه‌الله لمّا نقل

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٠ الحديث ٦٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٢١ الحديث ١٦٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٧ الحديث ٩٤٢٧.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ١٤٠ الباب ٨ ، ١٥٦ الباب ١٠ من أبواب المواقيت.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٠ الحديث ١١١٦٨ و ١١١٦٩ مع اختلاف يسير.


الثانية (١) والكليني نقل الاولى في «الكافي» (٢) ، ربّما يظهر منهما الفتوى بمضمونهما.

لكن الفتوى بظاهر الثانية ممّا لا يمكن تجويز نسبته إلى الصدوق رحمه‌الله ، للقطع الحاصل من الأمارات الاخر بفساد ذلك ، فلا بدّ من أن يكون الاشتباه من النسّاخ ، كما ذكره ، أو يكون مراده من الذراع أمرا آخر.

وأمّا الاولى ، فقد عرفت أنّه لا منافاة بينها وبين ما أفتى به الفقهاء وما هو مستندهم.

وفي «شرح اللمعة» : كلّ إصبع سبع شعيرات متلاصقات بالسطح الأكبر. إلى أن قال : ويجمعها مسير يوم معتدل الوقت والمكان والسير لأثقال الإبل ، ومبدء التقدير من آخر خطّة البلد المعتدل وآخر محلّته في المتّسع عرفا (٣) ، انتهى.

هذا المبدأ بالنسبة إلى المسافر في التقصير والإفطار ، وأمّا بالنسبة إلى البعيد عن الجمعة ، فالظاهر موضع إيقاع الجمعة ، كما يظهر من الأخبار (٤) ، فتأمّل!

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٦ الحديث ١٣٠٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٣ الحديث ٤.

(٣) الروضة البهيّة : ١ / ٣٦٩.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٤ الباب ٧ من أبواب صلاة الجمعة.


١٠ ـ مفتاح

[أحكام الخطبتين]

يجب تقديم الخطبتين على الصلاة ، والطهارة فيهما ، والقيام إلّا مع العجز ، واشتمال كلّ منهما على حمد الله والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوعظ ، بل والقراءة ، وقيل باستحبابها (١) ، والأولى أن يعمل بالمأثور.

وفي وجوب عربيّتهما ورفع الصوت بهما بحيث يسمع العدد ، والفصل بينهما بجلسة خفيفة ، والإصغاء لهما ، وترك الكلام في أثنائهما ، أو استحباب ذلك كلّه خلاف.

أمّا استقبال الناس والسّلام عليهم أوّل ما يصعد ، والجلوس حتّى يفرغ المؤذّن ، والتعمّم شاتيا وقائظا ، والتردّي ببرد يمنيّة ، والاعتماد على عصا أو سيف أو قوس ، وبلاغة الخطيب واتّصافه بما يأمر به ، وانزجاره على عمّا ينهى عنه ، فكلّها مستحبّة.

وأكثر ما ذكر منصوص (٢) على أصله دون وجوبه واستحبابه.

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٤١ الباب ٢٤ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، ٣١٣ الحديث ٩٤٤٢.



قوله : (يجب تقديم الخطبتين على الصلاة). إلى آخره.

الأخبار في وجوب تقديم الخطبتين كادت تبلغ التواتر ، منها ما سيجي‌ء في بحث تقديمها على الزوال.

وأمّا الأصحاب ، فالمعروف منهم ذلك ، حتّى قال في «المنتهى» : لا نعرف فيه مخالفا (١).

لكنّ الصدوق رحمه‌الله في «العلل» صرّح بتأخيرهما عن الصلاة ، وأنّ أوّل من قدّمهما عثمان ، من جهة أنّ الناس ما كانوا يقفون لخطبته ، من جهة أنّه أحدث ما أحدث (٢).

وقال في «الفقيه» ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أوّل من قدّم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان ، لأنّه كان إذا صلّى لم يقف الناس على خطبته [وتفرّقوا] وقالوا : ما نصنع بمواعظه وهو لا يتّعظ بها وقد أحدث ما أحدث ، فلمّا رأى ذلك قدّم الخطبتين على صلاة الجمعة» (٣).

وقال في «العيون» : الخطبتان في الجمعة والعيدين بعد الصلاة ، لأنّهما بمنزلة الركعتين الاخراويين ، وأوّل من قدّمهما عثمان (٤). إلى آخره.

ولم أجد من أحد من الفقهاء تعرّض لذكر خلافه أصلا ، ولم يعتنوا به مطلقا.

وسيجي‌ء في بحث صلاة العيدين حكاية تقديم عثمان فيها ، فلعلّ راوي الرواية التي رواها في «الفقيه» وقع منه وهم سمع العيد فتوهّم الجمعة ، أو كتب في

__________________

(١) منتهى المطلب : ٥ / ٤٠٢.

(٢) علل الشرائع : ١ / ٢٦٥ و ٢٦٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٢ الحديث ٩٥٠٩ مع اختلاف يسير.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٨ و ١١٩ مع اختلاف يسير.


الأصل اشتباها ، فصار سبب فتوى الصدوق رحمه‌الله ، مع انضمام ما نقلنا عن «العيون».

وكيف كان ، لا تأمّل في عدم صحّة الرواية وعدم انجبارها أيضا ، بل تكون شاذّة ، فلا تصلح للحجّية ، فضلا عن أن تعارض الصحاح وغيرها المنجبرة بفتاوى الأصحاب ، وكذا الحال فيما نقلناه.

قوله : (والطهارة فيهما).

أقول : اختلف الأصحاب فيه ، وإن اتّفقوا على الرجحان ، فعن الشيخ في «المبسوط» و «الخلاف» أنّه شرط (١) ، وعن ابن إدريس ، والمحقّق ، والعلّامة : منعه (٢).

احتجّ الشيخ بالاحتياط ، لتوقّف يقين البراءة عليه (٣) ، وبفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين ، فهي صلاة حتّى ينزل الإمام» (٤) ، والاتّحاد لا معنى له ، فالمراد المماثلة في الأحكام والشرائط ، إلّا ما وقع عليه الإجماع.

واجيب عن الأوّل : بمنع كون الاحتياط دليلا شرعيّا ، ومنع الاحتياط أيضا ، فإنّ إلزام المكلّف بها بغير دليل إثم ، كما أنّ إسقاط الواجب أيضا إثم.

وعن الثاني : أنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعمّ من الواجب (٥).

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٤٧ ، الخلاف : ١ / ٦١٨ المسألة ٣٨٦.

(٢) السرائر : ١ / ٢٩١ ، شرائع الإسلام : ١ / ٩٥ ، المعتبر : ٢ / ٢٨٥ ، المختصر النافع : ٣٥ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٧ ، مختلف الشيعة : ٢ / ٢٠٩ ، تبصرة المتعلّمين : ٣١.

(٣) الخلاف : ١ / ٦١٨ المسألة ٣٨٦.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢ الحديث ٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١.

(٥) لاحظ! المعتبر : ٢ / ٢٨٦.


وعن الثالث : أنّ إثبات المماثلة بين شيئين لا يستلزم أن يكون من جميع الوجوه ، كما تقرّر في مسألة أنّ نفي المساواة لا يفيد العموم (١).

وهذه الأجوبة فاسدة ، لأنّ الاحتياط دليل شرعي ، لعموم الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام : «احتط لدينك بما شئت» (٢) وقولهم عليهم‌السلام : «عليك بالحائطة لدينك» (٣) وغيرهما ، ويدلّ عليه العقل أيضا ، وظاهرهما الوجوب أيضا ، إلّا أنّ أدلّة أصل البراءة تمنع عنه ، إذ الحكم إن كان ثابتا شرعا ، فلا معنى للقول بأنّه احتياط ، وإلّا فالأصل براءة الذمّة عن الوجوب ، فعلى هذا يكون الاحتياط راجحا.

والأمر كذلك عند المجتهدين ، إلّا أنّه فرق بين ابتداء ثبوت التكليف والخروج عن عهدة التكليف الثابت اليقيني ، كما حقّقناه في «ملحقات الفوائد» (٤) ، فإنّ الاحتياط في الأوّل مستحبّ ، كما عرفت ، وأمّا في الثاني فواجب جزما إذا توقّف تحصيل البراءة اليقينيّة والامتثال العرفي عليه.

أمّا الأوّل ، فلقولهم عليهم‌السلام : «لا ينقض اليقين إلّا بيقين مثله» (٥).

وأمّا الثاني ، فللآيات (٦) والأخبار الدالّة على وجوب إطاعة الله وحججه عليهم‌السلام (٧) ، فإنّ لفظ «الإطاعة» يرجع في معناه إلى العرف ، فلا بدّ من تحقّق الامتثال العرفي ، بل مجرّد الإيجاب والأمر الصادر من الله تعالى ومنهم يقتضي

__________________

(١) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) أمالي الطوسي : ١١٠ الحديث ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٧٣ الحديث ٣٣٥٢٨.

(٤) الفوائد الحائريّة : ٤٤٥ و ٤٤٦.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ مع اختلاف يسير.

(٦) آل عمران (٣) : ٣٢ ، ١٣٢ ، النساء (٤) : ٥٩ ، المائدة (٥) : ٩٢ ، النور (٢٤) : ٥٢.

(٧) لاحظ! الكافي : ١ / ١٨٥ باب فرض طاعة الأئمّة عليهم‌السلام.


وجوب الإطاعة عرفا.

ولا يخفى أنّ أهل العرف لا يعدّون أحدا ممتثلا إلّا بعد العلم بأنّه أتى بما أمر به ، فإنّ الظن بإتيانه ليس عندهم امتثالا ، فما ظنّك بالشكّ؟

ومن البديهيّات أنّ المكلّف في ظهر الجمعة مأمور بإتيان فريضة ، فإذا فرض أنّها الجمعة ، فلا شكّ في أنّه مأمور بإتيانها ، فإذا وقعت الخطبة مع الطهارة علم بأنّه ممتثل ، وإذا لم تقع بها لم يعلم ، بل لم يظن أيضا ، فيجب الطهارة من باب المقدّمة لتحصيل البراءة اليقينيّة والامتثال العرفي.

مع أنّ هذا إجماعي عند الفقهاء ، يظهر من تضاعيف أحكامهم ، ومن ناقش فيه فإنّما يكون مناقشته من باب الغفلة والاشتباه وعدم الفرق بين ابتداء التكليف والخروج عن عهدة اليقيني.

وبالجملة ، العبادة توقيفيّة ، ولم يعلم من الشرع أنّ الجمعة التي خطبتها بغير طهارة جمعة أو صحيحة ، على التفصيل الذي عرفت في بحث اشتراط الإمام عليه‌السلام أو من نصبه (١).

وظهر أيضا من هذا فساد قوله : فإنّ إلزام المكلّف. إلى آخره (٢).

وظهر منه أيضا حال فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه أيضا على قسمين :

فعل ابتدائي منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه مذاهب للفقهاء حقّقناه في «الفوائد» (٣) ، وأنّ الأقوى رجحان المتابعة.

وفعل في مقام الإتيان بالعبادة التوقيفيّة ، وحيث لم يكن قول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٢٩٩ (المجلد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٣١٥ الفائدة ٣٢.


يظهر منه مجموع ماهيّتها انحصر ثبوتها في الإجماع ، وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام بيانها ، أو في مقام إتيانها ، والجمعة الصحيحة بالإجماع ما إذا كانت خطبتها مع الطهارة.

وفعلها أيضا يدلّ على ذلك ، أمّا في مقام البيان فظاهر ، وأمّا في مقام الإتيان بها ، فلظهور أنّ هذه صلاة الجمعة جزما ، وأمّا غيرها فلم يظهر من الشرع أصلا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني اصلّي» (١).

وعرفت في بحث اشتراط الإمام أو نائبه عدم جريان الأصل في إثبات ماهيّة العبادات ، وصرّحوا في كتب الاصول أيضا بذلك.

وأمّا ما ذكره من أنّ إثبات المماثلة. إلى آخره (٢) ، ففيه إنّ الظاهر من أمثال هذه العبارة اتّحاد الماهيّة ، وهي حقيقة فيها ، كما يظهر من كلامه الاعتراف به ، ومن المسلّمات أنّه إذا تعذرت الحقيقة ، فأقرب المجازات متعيّن ، ومقتضاه المماثلة من جميع الوجوه ، إلّا ما وقع عليه الإجماع ، ولذا قال عليه‌السلام : هي هي بعينها (٣) ، فلا يكون إجمال.

وهذا هو الظاهر من قدماء فقهائنا ، بل المتأخّرين أيضا (٤) ، وفرق واضح بين نفي المساواة وإثباتها ، فإنّ نفي بعض الأحكام نفي المساواة ، بخلاف إثبات البعض ، فإنّه لا يحسن بمجرّد ذلك أن يقال : هما متّحدان ، وهو هو.

نعم ، يمكن أن يقال بعدم المماثلة في بعض الأحكام الذي ليس من الأحكام الظاهرة الشائعة المتداولة للمشبّه به ، كما حقّقناه في «الفوائد» (٥) ، ولا شكّ في أنّ

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ١٩٨ الحديث ٨.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١ نقل بالمعنى.

(٤) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٠٥ ، الهداية : ١٤٦ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٥ ، جامع المقاصد : ٢ / ٤٠٠.

(٥) الفوائد الحائريّة : ١٠٩ و ١١٠.


الطهارة ليست من الأحكام الخفيّة للصلاة.

وفي «المدارك» بعد ما أتى بالأجوبة المذكورة ، قال : الاشتراط لا يخلو عن رجحان تمسّكا بظاهر الرواية (١) ، انتهى.

ولا يخلو عن غرابة ، فإنّ عادته أن يقول : العبادة توقيفيّة ، والمنقول من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هكذا ، فلا بدّ من الاقتصار عليه ، وأمّا مثل تلك العبارة ، فيجعله مجملا وهو أعرف.

قوله : (والقيام إلّا مع العجز). إلى آخره.

نقل في «التذكرة» عليه الإجماع (٢) ، فهو دليله.

وفي «المدارك» : والمستند فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان الواجب ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن وهب : «إنّ أوّل من خطب وهو جالس معاوية واستأذن الناس في ذلك من وجع كان في ركبتيه» ، ثمّ قال : «الخطبة وهو قائم خطبتان» (٣) الحديث.

فلو منعه مانع عن القيام ، فالظاهر جواز الجلوس مع تعذّر الإمام الذي يخطب قائما ويصلّي قائما (٤) ، انتهى.

أمّا إذا تعذّر القيام في الصلاة ، فلا يجوز الجلوس مطلقا ، إلّا أن يكون المأمومون كلّهم جالسين ، لما سيجي‌ء في بحث الجماعة ، ولعدم معهوديّة مثل هذه الجمعة من الشرع ، بل المعهود منه خلافه.

وأيضا إطلاقات الأخبار لا تنصرف إليه ، فعلى هذا يشكل الحكم بالجواز

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠ الحديث ٧٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٤ الحديث ٩٥١١.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٨ مع اختلاف يسير.


على ما اخترنا من لزوم اتّحاد الخطيب والإمام ـ وقد مرّ ـ لأنّ العاجز عن القيام قدر الواجب من الخطبة ، عاجز عن قدر الواجب من القراءة البتّة.

فالجواز إنّما هو بناء على تجويز تعدّدهما ، وهو خلاف ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، والوظائف الشرعيّة يستفاد من الشرع ، فلعلّ هذا يمنع عن جواز الجلوس أيضا ، فتجويز التعدّد يقتضي تجويز الجلوس.

وأمّا الحكم بجوازه حينئذ ، فلعموم ما دلّ على وجوب الجمعة واشتراط الخطبة ، وأمّا وجوب القيام فيها ، فلم يثبت كونه بعنوان الشرطيّة لها ، لأنّ الإجماع لا يدلّ على أزيد من وجوبه حال التمكّن ، إذ لا يتمّ إلّا فيه.

وأمّا الحديث ؛ فلأنّ الإطلاق فيه ينصرف إلى الفروض الشائعة.

هذا ، مضافا إلى قاعدة البدليّة ومساواة الأحكام ، لأنّ وجوبه لها ليس بعنوان الشرطيّة ، والمأمومون لا يجب أن يكونوا قائمين حال الخطبة.

هذا ، لكنّ الإشكال الذي ذكرناه لم يرتفع من أصله.

ثمّ اعلم! أنّ جواز الجلوس إنّما يكون بعد العجز ، بل مع التمكّن يعتمد على قوس أو غيره ، كما سيجي‌ء ، وإن حدث العجز في الأثناء يخطب وهو شارع في الجلوس ، بخلاف ما إذا زال العذر فيه ، فلا يخطب إلّا بعد ما قام.

ولو خطب جالسا مع القدرة بطلت صلاته ، وصلاة المأمومين أيضا ، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

ونسب إلى المشهور القول بصحّة صلاة من لم يعلم بحال إمامه ، كما إذا كان إمامه محدثا (١). وهو مشكل ، لأنّ القياس حرام ، والتنظير لا بدّ لصحّته من دليل شرعي.

__________________

(١) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٣٨.


قوله : (اشتمال كلّ منهما على حمد الله والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله). إلى آخره.

يظهر من الفاضلين أنّ وجوب الحمد والصلاة على محمّد وآله والوعظ في كلّ منهما موضع وفاق بين علمائنا وأكثر العامّة (١).

وفي «المدارك» : وذلك لعدم تحقّق الخطبة بدونه عرفا (٢).

ولا يخلو من تأمّل ، لأنّ الوعظ غير مأخوذ فيما يتحقّق به عرفا ، إلّا أن يكون مراده خطبة صلاة الجمعة في عرف المتشرّعة ، لكنّه رحمه‌الله غير قائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، ومع ذلك كون (٣) عرف جميع المتشرّعة كذلك ربّما يكون محلّ مناقشة ، كيف لا؟ وهو رحمه‌الله نقل عن المرتضى رحمه‌الله : إنّ خطبة صلاة الجمعة عنده أنّه : يحمد الله ، [ويمجده] ويثني عليه ، ويشهد لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، ويوشح الخطبة بالقرآن ، ثمّ يفتتح الثانية بالحمد والاستغفار ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدعاء لأئمّة المسلمين (٤).

مع أنّه روى موثّقة سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ينبغي للإمام الذي يخطب بالناس يوم الجمعة أن يلبس عمامة في الشتاء والصيف ، ويتردّى ببرد يمنيّة أو عدنيّة ويخطب وهو قائم يحمد الله ويثني عليه ثمّ يوصي بتقوى الله ثمّ يقرأ سورة من القرآن قصيرة ثمّ يجلس ، ثمّ يقوم فيهما فيحمد الله ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة المسلمين ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات» (٥).

__________________

(١) نقل عنهما في مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢ ، ذخيرة المعاد : ٢٩٩.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢.

(٣) في جميع النسخ : يكون ، والصواب ما أثبتناه.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٣ الحديث ٦٥٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤١ و ٣٤٢


ثمّ قال : ولا ريب أنّ العمل بمضمونها يحصل معه الامتثال ، وإنّما الكلام في وجوب ما تضمّنته ممّا يزيد على مسمّى الخطبتين ، فإنّها قاصرة عن إفادة ذلك متنا وسندا (١).

هذا ، ونقل عن الشيخ في «المبسوط» : إنّ أقلّ ما يكون الخطبة أربعة أصناف : حمد الله [تعالى] ، والصلاة على النبي [وآله عليهم‌السلام] ، والوعظ ، و [قراءة] سورة خفيفة [من القرآن] ، ونحوه عن خلافه وعن ابن حمزة (٢).

ونقل عن «اقتصاد» الشيخ أنّه قال فيه أيضا : أربعة ، إلّا أنّه جعل قراءة سورة خفيفة بين الخطبتين (٣).

وعن أبي الصلاح : عدم وجوب القراءة في شي‌ء من الخطبة (٤).

إذا عرفت هذا ، فاعلم! أنّ لفظ «الخطبة» له معنى معروف لغة وعرفا ، ولم نعلم من الشارع تغييره إلى معنى آخر يكون من مستحدثاته ، حتّى يكون من قبيل العبادات توقيفيّة ، والأصل عدم النقل وعدم التغيير وعدم التعدّد ، وبقاء ما كان على ما كان ، فلهذا اتّفقت كلمات الأصحاب ـ سوى الشهيد الثاني في «شرح اللمعة» (٥) ـ في واجبات الخطبة ، في التحميد والصلاة وغيرهما ممّا ذكر ، من دون إشارة من أحد منهم إلى قصد القربة وغيرها أصلا ، مع كون عادتهم ذكر النيّة في

__________________

الحديث ٩٥٢٦ و ٩٥٢٨ مع اختلاف يسير.

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٣.

(٢) نقل عنهم في مدارك الأحكام : ٤ / ٣١ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٤٧ ، الخلاف : ١ / ٦١٦ المسألة ٣٨٤ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٠٣.

(٣) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٣١ ، لاحظ! الاقتصاد : ٢٦٧.

(٤) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٣٢ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥١.

(٥) الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٦ و ٢٩٧.


أوّل كلّ عبادة ، من دون تجويز الإخلال والإهمال والتأخير.

مع أنّه معلوم أنّ نيّة صلاة الجمعة غير نيّة الخطبة ، مع أنّ كونها من التوقيفيّات يتوقّف على ثبوت كون لفظها حقيقة عند جميع المتشرّعة في معنى مغاير لمعناه اللغوي والعرفي وصحّة سلبه عنه ، كما حقّقناه في «ملحقات الفوائد» (١) فلا بدّ من الرجوع في معرفتها إلى العرف ، إلّا أن يثبت من الإجماع أو الحديث وجوب شي‌ء زائد.

ومقتضى الإجماع المذكور وجوب الوعظ بعد الحمد والصلاة.

ولعلّه هو الظاهر من الأخبار ، من جهة أنّ فائدة الجمعة والمصلحة في إحداثها الوعظ والاتّعاظ ، وأنّ ذلك هو السبب في وجوب الاستماع والإصغاء ، ومنع الكلام وأمثاله ممّا سيجي‌ء.

والتزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام في مقام بيانه وفعله ، لاتّفاق الأخبار والآثار ، مضافا إلى شهادة الاعتبار في ذلك.

وفي «العلل» الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام : «فإن قال : فلم جعلت الخطبة؟ قيل : لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم» (٢). إلى آخره ، فلاحظ.

والأحوط والأولى مراعاة موثّقة سماعة المذكورة (٣) ، بل الخطب الواردة عن أمير المؤمنين والباقر عليهما‌السلام ، المرويّة في الكتب المعتبرة من كتب الأحاديث (٤)

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٤٧٧ الفائدة ٣٠.

(٢) علل الشرائع : ١ / ٢٦٥ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٤ الحديث ٩٥٣٣ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة ٧٤ من هذا الكتاب.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٢ الباب ٢٥ من أبواب صلاة الجمعة.


زائدا على الإجماع.

فروع :

الأوّل : نقل عن جماعة من الأصحاب أنّه يجب في الخطبتين التحميد بصيغة الحمد لله (١).

وفيه ، أنّها لو كانت من مقولة العبادة ، لكان الأمر كما ذكروا ، مع إمكان المناقشة حينئذ أيضا ، لعموم قوله عليه‌السلام : «يحمد الله» في مقام بيان الخطبة ، فتأمّل جدّا!

الثاني : نقل عن جمع منهم أنّه يجب الترتيب بين أجزاء الخطبة ، بتقديم الحمد ثمّ الصلاة ثمّ الوعظ ثمّ القراءة (٢) ، فلو خالف أعاد على ما يحصل معه الترتيب ، وهو أحوط ، لما يظهر من الأخبار (٣) ، وفتاوى الأخيار ، بل الظاهر أنّه المعهود والمتعارف في طريقة الخطبة ، والإطلاق ينصرف إليه ، كما هو ظاهر ، فيشكل الخروج عنه.

الثالث : نقل عن أكثرهم المنع من إجزاء الخطبة بغير العربيّة ، للتأسّي ، ولأنّ الإطلاق ينصرف إلى العربيّة (٤).

وفي «المدارك» استحسنه ، معلّلا بما ذكرنا من التأسّي ، مع أنّه رحمه‌الله كثيرا ما

__________________

(١) منهم المحقّق في شرائع الإسلام : ١ / ٩٥ ، العلّامة في قواعد الأحكام : ١ / ٣٧ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٦.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٢ الحديث ٩٥٢٨ و ٩٥٢٩.

(٤) نهاية الإحكام : ٢ / ٣٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٨ ، مسالك الأفهام : ١ / ٢٣٧.


يمنع وجوب التأسّي ، منه ما مرّ في اشتراط الإمام أو من نصبه.

ثمّ قال : ولو لم يفهم العدد العربيّة ، ولا أمكن التعلّم ، قيل : يجب العجميّة ، لأنّ مقصود الخطبة لا يتمّ بدون فهم معانيها (١) ، ويحتمل سقوط الجمعة ، لعدم ثبوت شرعيّتها على هذا الوجه (٢) ، انتهى.

انظر إلى مراعاته رحمه‌الله حكاية وجوب التأسّي إلى هذه المثابة ، وفي مبحث اشتراط المنصوب أنكر الوجوب رأسا (٣) ، وكذا في بعض المواضع الاخر ، كما مرّ.

الرابع : الأقرب أنّ الوعظ لا ينحصر في لفظ وكيفيّة ، بل يجزي كلّ ما يكون وعظا ، بل الأولى مراعاة خصوصيّات المقام ، وإجراء الكلام على وفق ما اقتضاه كلّ مقام ، والمبالغة في الترغيب والترهيب ، سيّما بالنسبة إلى المعاصي المتداولة عند الحاضرين للجمعة ، وكذا الواجبات التي يكثر تركها منهم أو يتكرّر.

وبالجملة ، لا بدّ أن يكون الواعظ طبيبا لأمراضهم ، حاذقا في المعالجة مبالغا فيها.

وهل تجزي الآية المشتملة على الوعظ عنها؟ فيه إشكال ، وكذا الكلام في الآية المشتملة على التحميد ونحوه.

والخروج عن عهدة شغل الذمّة اليقيني يقتضي عدم الاجتزاء ، سيّما بعد ظهور أنّ المطلق لا ينصرف إلى مثله ، أو الإشكال في ذلك ، لعدم ثبوت عموم ، فتأمّل جدّا!

الخامس : هل يجب رفع الصوت بحيث يسمع العدد المعتبر فصاعدا؟

__________________

(١) كما في جامع المقاصد : ٢ / ٣٩٧.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٣٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٢١.


الأظهر ذلك ، لأنّ الغرض من الخطبة لا يحصل إلّا بذلك ، بل عرفت أنّ الغرض من هذه الصلاة لعلّه الخطبة ، مع أنّ الخطبة لا شكّ في اعتبارها ، وللتأسّي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمامين عليهما‌السلام ، ولأنّ المدار في الأعصار والأمصار على ذلك ، ولأنّ مضمون الخطبة تفيد ذلك ، لما عرفت من وجوب الوعظ.

بل الظاهر أنّ الخطبة بنفسها تقتضي الإسماع ، وإلّا لا تكون خطبة ، ولأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، ولا يتحقّق بدونه.

وفي «المدارك» رجّح الوجوب ، للتأسّي ، وتحقّق الغرض به وغيرهما ، ثمّ قال : ولو حصل مانع من السمع سقط الوجوب ، مع احتمال سقوط الصلاة أيضا إذا كان المانع حاصلا للعدد المعتبر في الوجوب ، لعدم ثبوت التعبّد بالصلاة على هذا الوجه (١).

السادس : يجب الإصغاء أيّ الإنصات والاستماع لها ، لعين ما ذكرنا في الخامس.

فما نسب إلى الشيخ في «المبسوط» ، والمحقّق في «المعتبر» من القول بالاستحباب ، لأنّه مقتضى الأصل السالم عن المعارض (٢) ، فيه ما فيه.

وهل يختصّ الوجوب بالعدد المعتبر ، كما اختاره في «القواعد» (٣) أم يعمّ المأمومين كما اختاره في «المختلف» (٤)؟ الأظهر الثاني ، لعموم دليل عليه ، وكذا الكلام في تحريم الكلام الذي سنذكر ، والإخلال بهما لا يكون مبطلا للجمعة ، سواء وقع من الخطيب أو العدد أو سائر المأمومين ، للإجماع الذي ادّعاه في

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤١.

(٢) نسب إليهما في ذخيرة المعاد : ٣١٥ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٤٨ ، المعتبر : ٢ / ٢٩٤ و ٢٩٥.

(٣) قواعد الأحكام : ١ / ٣٧.

(٤) مختلف الشيعة : ٢ / ٢١٥ و ٢١٦.


«التحرير» (١).

ولأنّه إذا صدر عن المأموم ، فغاية ما يكون أنّ الخطبة باطلة بالنسبة إليه وأنّه أدرك الجمعة الخالية عنها ، وإذا أدرك الجمعة ولم يدرك الخطبة صحّ صلاته إجماعا ، فإذا صحّت صلاته مع الإخلال عمدا صحّت مع العذر في الإخلال بطريق أولى.

والظاهر أنّ وجوب الإصغاء وحرمة الكلام من أوّل الخطبة إلى آخرها ، لا أقلّ الواجب من الخطبة خاصّة ، كما هو ظاهر الروايات ، والله يعلم.

السابع : يحرم الكلام في أثنائها من الخطيب والسامع عند أكثر الأصحاب (٢) ، لكونهما في مقام الركعتين ، ولقوله عليه‌السلام : «هي صلاة حتّى ينزل الإمام» (٣) ، لما عرفت من أنّ الاتّحاد باطل ، فيكون المراد أقرب المجازات ، وهو التسوية في جميع الأحكام ، إلّا ما خرج بالدليل.

ولما رواه في «الفقيه» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث مناهيه : «نهى عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب» (٤).

ولما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا كلام والإمام يخطب ، ولا التفات» (٥) الحديث.

ولصحيحة ابن وهب السابقة أنّه : «يجلس بينهما جلسة لا يتكلّم فيها» (٦).

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٤٤.

(٢) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٦٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢ الحديث ٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٥ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣١ الحديث ٩٥٠٤.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٩ الحديث ١٢٢٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣١ الحديث ٩٥٠٢.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠ الحديث ٧٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٤ الحديث ٩٥١١.


وفي أمالي الصدوق رحمه‌الله ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا كان يوم الجمعة. إلى أن قال : فمن دنا إلى الإمام وأنصت واستمع ولم يلغ كان له كفلان من الأجر ، ومن تباعد عنه واستمع وأنصت ولم يلغ كان له كفل من الأجر ، ومن دنا من الإمام فلغى ولم يستمع كان له كفلان من الوزر ، ومن قال لصاحبه : «صه» فقد تكلّم ، ومن تكلّم فلا جمعة له» (١).

وأيضا فائدة الإصغاء يتمّ غالبا بعدم التكلّم.

ونقل عن أبي العبّاس في موجزه : أنّه يكره على الخطيب ، ويحرم على المستمع (٢).

وعن الشيخ و «المعتبر» القول بالكراهة مطلقا (٣) ، استضعافا لأدلّة التحريم ، وتعويلا على صحيحة ابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام : «إذا خطب الإمام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلّم حتّى يفرغ من خطبته ، فإذا فرغ تكلّم بينه وبين أن يقام إلى الصلاة» (٤).

قيل : «لا ينبغي» صريح في الكراهة (٥) ، وفيه تأمّل ، سيّما بملاحظة المعارض ، وقوله عليه‌السلام : «فإذا فرغ تكلّم بينه وبين أن يقام إلى الصلاة» لأنّه إباحة في مقام الحظر إلى أن يقام الصلاة ، ومعلوم أنّه بعد إقامة الصلاة حرام ، فتأمّل ، فظهر أنّ «لا ينبغي» فيها ليس للكراهة ، فتأمّل!

__________________

(١) لم نعثر عليها في الأمالي وغيره ، انظر! بحار الأنوار : ٨٦ / ١٨٣ الحديث ١٧.

(٢) نقل عنه في مفتاح الكرامة : ٣ / ١٢٤.

(٣) الخلاف : ١ / ٦٢٥ المسألة ٣٩٦ ، المعتبر : ٢ / ٢٩٥.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠ الحديث ٧١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٠ الحديث ٩٥٠١ مع اختلاف يسير.

(٥) المعتبر : ٢ / ٢٩٥.


ونقل عن المرتضى رحمه‌الله : أنّه حرم في الخطبتين كلّ ما يحرم في الصلاة (١) ، والأدلّة تساعده ، إلّا أن يثبت إجماع على خلافه ، ولم يثبت ، فتأمّل جدّا!

الثامن : يجب الفصل بينهما بجلسة خفيفة ـ على ما هو المشهور بين الأصحاب ـ للتأسّي ، ولصحيحة ابن وهب : «الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة لا يتكلّم فيها» (٢).

واحتمل في «المعتبر» الاستحباب ، لأنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يحتمل الوجوب يحتمل [أنّه] للاستراحة (٣).

وفيه ما عرفت مكرّرا من أنّ فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام الإتيان بالواجب يجب متابعته ، إلّا أن تثبت ماهيّة العبادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تثبت في موضع.

ويجب في هذا الجلوس الطمأنينة ، للتأسّي والأخبار (٤) ، وظاهر الصحيحة حرمة التكلّم أيضا ، واحتمال كون المراد النهي عن التكلّم بشي‌ء من الخطبة ، بعيد.

وينبغي كون الجلوس بقدر قراءة سورة التوحيد ، لحسنة ابن مسلم أنّه قال : «ثمّ يقعد الإمام على المنبر قدر ما يقرء (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، ثمّ يقوم فيفتتح خطبته» (٥).

ولو خطب جالسا للعجز ، فصّل بينهما بالسكتة مطلقا ، أو بقدر قراءة التوحيد ، واحتمال الاضطجاع بينهما حينئذ ـ كما ظهر من «التذكرة» (٦) ـ لا يخلو

__________________

(١) نقل عنه في المعتبر : ٢ / ٢٩٥ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٦.

(٢) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٣) المعتبر : ٢ / ٢٨٥.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٤ الحديث ٩٥١١ و ٩٥١٢.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٢٤ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤١ الحديث ٦٤٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٣ الحديث ٩٥٣٠.

(٦) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٧٢.


عن البعد.

التاسع : لا بدّ أن يكون الداعي على فعل الخطبة هو إطاعة الله ، لا الرياء والسمعة ، أو أخذ الاجرة مثلا ، حتّى تتحقّق الإطاعة ، ولعموم قولهم عليه‌السلام : «لا عمل إلّا بنيّة» (١) وأمثاله (٢) ، ولقوله عليه‌السلام : «هي صلاة حتّى ينزل الإمام» (٣) ، ولانصراف الإطلاق إلى ذلك ، ولا ينافيه كونها من قبيل المعاملات ، كما أنّ القيام والقعود وأمثالهما في الصلاة أيضا كذلك.

ومع عدم صحّتها بغير نيّة ، وكونها شرطا لها ـ لأنّ شرط الكلّ شرط لأجزائه جزما ، لأنّ الكلّ ليس إلّا الأجزاء ـ ليست بتوقيفيّة ، فكلّ ما يعدّ في العرف قياما وقعودا وطمأنينة وصبرا مثلا ، يكفي ، لأنّا نفهم المعنى من دون تأمّل ، وبناء المحاورات فيها على فهمنا جزما ، فتأمّل جدّا!

قوله : (أمّا استقبال الناس والسّلام عليهم). إلى آخره.

لا يخفى أنّ الخطبة والوعظ بغير استقبال الناس لا يتمشّى ، وفي كالصحيح عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ واعظ قبلة ، يعني إذا خطب الإمام الناس يوم الجمعة ينبغي للناس أن يستقبلوه» (٤).

وفي «الفقيه» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ واعظ قبلة ، وكلّ موعوظ قبلة للواعظ ـ يعني في الجمعة والعيدين و [صلاة] الاستسقاء ـ في الخطبة يستقبلهم [الإمام] ويستقبلونه حتّى يفرغ من خطبته» (٥).

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٨٤ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٦ الحديث ٨٣.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٤٦ الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٣ الحديث ٩٤٤١.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٢٤ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ الحديث ٩٧٠٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٥ الحديث ١٢٦١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ الحديث ٩٧٠٩.


وأمّا السّلام عليهم ، فرواه في «التهذيب» ، عن علي عليه‌السلام قال : «من السنّة إذا صعد الإمام المنبر أن يسلّم إذا استقبل الناس» (١).

وأمّا الجلوس حتّى يفرغ المؤذّن ، فرواه في «التهذيب» بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتّى يفرغ المؤذّن» (٢).

وأمّا التعمّم شاتيا وقائظا والتردّي ببرد يمنيّة ، فقد ذكرنا في بحث أوّل الخطبة رواية سماعة الدالّة عليه ، إلّا أنّ فيها التخيير بين البرد اليمني أو العدني (٣) ، لكن العدن أيضا من بلاد اليمن ، بلا شبهة.

وفي صحيحة عمر بن يزيد عن الصادق عليه‌السلام : «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة ، وليلبس البرد والعمامة ، ويتوكّأ على قوس أو عصا» (٤).

فيظهر مستند الاتّكاء ، وببالي ورود الرواية في الاتّكاء بالسيف أيضا (٥).

قيل : في الاتّكاء بالقوس والسيف إشعار بأنّ الإمام هو الأمير والحاكم ، لا إمام الجماعة.

وأمّا بلاغة الخطيب واتّصافه بما يأمر وانزجاره عمّا ينهى ، فلأن يؤثّر وعظه.

أمّا حكمه باستحباب الكلّ ـ مع عدم دلالة الروايات عليه ـ فإمّا للإجماع ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٤ الحديث ٦٦٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٩ الحديث ٩٥٤٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٤ الحديث ٦٦٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٩ الحديث ٩٥٤٦ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة : ٧٤ من هذا الكتاب.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٥ الحديث ٦٦٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤١ الحديث ٩٥٢٧.

(٥) لم نعثر على رواية تتضمّن الاتّكاء بالسيف ، ولكن قال في المبسوط : ١ / ١٤٨ : وينبغي أن يعتمد على سيف أو عصا أو قوس ، لأنّه روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل هكذا.


أو بضميمة أصل البراءة ، لكنّه موقوف على جريان الأصل في العبادات ، وقد عرفت الحال فيه ، ومع ذلك يجري فيما لا ظهور له في الوجوب.

ونقل عن الشيخ في خلافه أنّه قال : بعدم استحباب السّلام المذكور ، معلّلا بأنّ الاستحباب كالوجوب يتوقّف على دليل (١).

ولعلّه رحمه‌الله غفل عن الرواية التي أشرنا إليها ، واستجود في «المدارك» قوله ، لقصور سند تلك الرواية (٢).

وفيه ، أنّ الشيخ كغيره يعمل في المستحبّات بالأحاديث القاصرة سندا بلا شبهة ، ومصباحه وغيره من كتبه مشحونة من ذلك ، سيّما وعلى استحباب هذا السّلام عمل الأصحاب ، كما صرّح به في «الذكرى» (٣).

مع أنّ التسامح في أدلّة السنن ممّا حقّق في محلّه ، ومسلّم بين الأصحاب ، وبسطنا الكلام فيه في حاشيتنا على «المدارك» (٤).

__________________

(١) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٨٧ ، لاحظ! الخلاف : ١ / ٦٢٤ المسألة ٣٩٤.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٨٧.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٣٩.

(٤) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ١ / ٢٠ ـ ٢٤.



١١ ـ مفتاح

[مستحبّات يوم الجمعة]

يستحب يوم الجمعة البكور إلى المسجد ـ بعد حلق الرأس وقصّ الأظفار وأخذ الشارب ، والتجنّب عن كلّ ما ينفر ، والغسل ـ على سكينة ووقار ، متطيّبا ، لابسا أفضل الثياب ، داعيا بالمأثور ، كلّه للنصّ (١).

وقيل بوجوب الغسل (٢) ، لظواهر المعتبرة (٣) ، وحملت على التأكيد.

ووقته ما بين طلوع الفجر إلى زوال الشمس ، بل إلى أن يصلّى الجمعة.

والأفضل لمن أراد البكور إلى المسجد أن يقدّمه عليه ، ويجوز تقديمه يوم الخميس لمن خاف عوز الماء ، للقويّين (٤) ، بل مع خوف الفوات مطلقا ، كما قاله الشيخ (٥) ، وكذا قضاؤه يوم السبت لمن فاته ، للمؤثّقين (٦) ، ويأتي كيفيّته.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٥ الباب ٤٧ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٢) قاله الصدوق رحمه‌الله في من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦١ ذيل الحديث ٢٢٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٢ الحديث ٣٧٣٠ و ٣٧٣٢ و ٣٧٣٣ ، ٣١٥ و ٣١٦ الحديث ٣٧٤٠ و ٣٧٤٧.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٩ الحديث ٣٧٥٥ ، ٣٢٠ الحديث ٣٧٥٦.

(٥) المبسوط : ١ / ٤٠.

(٦) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢١ الحديث ٣٧٥٩ و ٣٧٦٠.



قوله : (يستحبّ). إلى آخره.

لما رواه في «الكافي» : أنّ الباقر عليه‌السلام كان يبكر إلى المسجد يوم الجمعة حين تكون الشمس قدر رمح (١).

ولما في رواية عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «فضّل الله الجمعة على غيرها من الأيّام ، وإن الجنان لتزخرف وتزيّن يوم الجمعة لمن أتاها ، وإنّكم تتسابقون إلى الجنّة على قدر سبقكم إلى الجمعة» (٢) ، الحديث.

وأمّا استحباب حلق الرّأس ، فلما ورد في بعض الأخبار : «أنّ الصادق عليه‌السلام كان يحلق رأسه في كلّ جمعة» (٣).

روى في «الكافي» و «الفقيه» عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّي لأحلق كلّ جمعة فيما بين الطلية إلى الطلية» (٤) ، فتأمّل!

ولما ورد من الأمر بالتزيّن يوم الجمعة (٥) ، والفقهاء أيضا أفتوا بذلك (٦).

وأمّا قصّ الأظفار وأخذ الشارب ، فلصحيحة حفص بن البختري عن الصادق عليه‌السلام قال : «أخذ الشارب والأظفار من الجمعة إلى الجمعة أمان من الجذام» (٧).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٢٩ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٨ الحديث ٩٥٤٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٤١٥ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٣ الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٨٥ الحديث ٩٦٤٨.

(٣) وسائل الشيعة : ٢ / ١٠٧ الحديث ١٦٢٩.

(٤) الكافي : ٦ / ٤٨٥ الحديث ٧ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٧١ الحديث ٢٨٦ ، وسائل الشيعة : ٢ / ١٠٧ الحديث ١٦٢٩.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٥ الباب ٤٧ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٦) المقنعة : ١٥٩ ، المبسوط : ١ / ١٥٠ ، الكافي في الفقه : ١٥٢ ، السرائر : ١ / ٢٩٤ ، شرائع الإسلام : ١ / ٩٩.

(٧) الكافي : ٣ / ٤١٨ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٦ الحديث ٦٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٥٧


وفي رواية اخرى : «أخذ الشارب والأظفار وغسل الرأس بالخطمي يوم الجمعة ينفي الفقر ويزيد في الرزق» (١).

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : «من أخذ شاربه وقلّم أظفاره وغسل رأسه بالخطمي يوم الجمعة كان كمن أعتق نسمة» (٢).

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : «من أخذ شاربه وقلّم أظفاره يوم الجمعة وقال : بسم الله وبالله وعلى سنّة محمّد وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب الله له بكلّ شعرة وكلّ قلامة عتق رقبة ولم يمرض مرضا يصيبه إلّا مرض الموت» (٣).

وأمّا التجنّب عن كلّ ما ينفر ، فروي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : «ليتزيّن أحدكم يوم الجمعة يغتسل ويتطيّب ويسرّح لحيته ويلبس أنظف ثيابه» (٤).

وورد أيضا المنع من أكل مثل الثوم ممّا يؤذي ريحه (٥).

وورد التنّور أيضا ، فروي في «الكافي» مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قيل له : يزعم بعض الناس أنّ النورة يوم الجمعة مكروهة ، فقال : «ليس حيث ذهبت ، أيّ طهور أطهر من النورة يوم الجمعة» (٦).

لكن روي أيضا : «أنّها [في] يوم الجمعة تورث البرص» (٧) ، وجمع بينها

__________________

الحديث ٩٥٦٩.

(١) الكافي : ٣ / ٤١٨ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٥٤ الحديث ٩٥٥٩.

(٢) الكافي : ٦ / ٥٠٤ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٦ الحديث ٦٢٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٥٤ الحديث ٩٥٥٨.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٠ الحديث ٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٦٢ الحديث ٩٥٨٥ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٠ الحديث ٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٥ الحديث ٩٦٧٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٥ / ٢٢٦ الباب ٢٢ من أبواب أحكام المساجد.

(٦) الكافي : ٦ / ٥٠٦ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٦٦ الحديث ٩٥٩٦.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦٨ الحديث ٢٦٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٦٧ الحديث ٩٥٩٩.


بأنّ من اعتقد أنّه يورث البرص.

وروى «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام يقول : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلي العانة وما تحت الأليين في كلّ جمعة» (١).

وأمّا الغسل ، فبالأخبار الكثيرة (٢) منها ما مرّ ، وللإجماع ، إلّا أنّه نسب إلى الصدوق القول بالوجوب (٣) ، وسيجي‌ء الكلام في ذلك مشروحا.

وأمّا كونه على سكينة ووقار ، فلما في آخر الصحيحة المذكورة : «وليتهيّأ للجمعة ، وليكن عليه في ذلك اليوم السكينة والوقار» (٤) ، الحديث.

وأمّا التطيّب ولبس أفضل الثياب ، فلما في الصحيحة المذكورة (٥) وغيرها (٦).

وأمّا الدعاء بالمأثور ، فرواه أبو حمزة الثمالي عن الباقر عليه‌السلام قال : «ادع في العيدين ويوم الجمعة إذا تهيأت للخروج بهذا الدعاء : اللهمّ من تهيّأ» (٧). إلى آخر الدعاء.

قوله : (وقيل بوجوب الغسل). إلى آخره.

مراده من القائل الصدوق رحمه‌الله فإنّه قال في «الفقيه» : وغسل الجمعة واجب على الرجال والنساء إلّا أنّه رخّص النساء في السفر لقلّة الماء ، ثمّ قال بعد ذلك : وغسل يوم الجمعة سنّة واجبة (٨).

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٥٠٧ الحديث ١٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٦٧ الحديث ٩٥٩٧.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٥ الباب ٤٧ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) نسبه المحقّق في المعتبر : ١ / ٣٥٣ ، العاملي في مدارك الأحكام : ٢ / ١٥٩ ، لاحظ! المقنع : ١٤٤.

(٤) مرّت الإشارة إلى مصادرها آنفا.

(٥) مرّت الإشارة إلى مصادرها آنفا.

(٦) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٦ الحديث ٩٦٧٨.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٤٢ الحديث ٣١٦ ، بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٢٩ الحديث ١.

(٨) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦١ ذيل الحديث ٢٢٦.


لكن قال في أماليه : من دين الإماميّة الإقرار بأنّ الغسل في سبعة عشر موطنا ، ليلة سبع عشر من شهر رمضان ، وليلة تسعة عشر منه ، وليلة إحدى وعشرين منه ، وليلة ثلاثة وعشرين منه والعيدين ، وعند دخول الحرمين ، [وعند الإحرام] وغسل الزيارة ، وغسل دخول البيت ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وغسل الميّت ، وغسل من غسل ميّتا وكفنه ومسه بعد ما يبرد بالموت وقبل تطهيره بالماء ، وهذه الأغسال الثلاثة فريضة ، وغسل يوم الجمعة ، وغسل قضاء الكسوف إذا احترق القرص كلّه ولم يعلم به الرجل ، وغسل الجنابة فريضة ، وكذلك غسل الحيض والاستحاضة والنفاس ، لأنّ الصادق عليه‌السلام قال : غسل الجنابة والحيض واحد (١) ، انتهى.

وهذه العبارة واضحة الدلالة في عدم قوله بوجوب غسل يوم الجمعة وأنّ ذلك من دين الإماميّة بحيث يجب الإقرار به.

وروى في عيونه عن الرضا عليه‌السلام ، فيما كتبه للمأمون من محض الإسلام : «وغسل يوم الجمعة سنّة ، وغسل العيدين ، ودخول مكّة والمدينة ، والزيارة ، والإحرام ، وأوّل ليلة من شهر رمضان ، وليلة سبعة عشر ، وليلة تسعة عشر ، وليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاثة وعشرين من شهر رمضان ، هذه الأغسال سنّة ، وغسل الجنابة فريضة ، وغسل الحيض مثله» (٢) ، انتهى.

ومن نقله هذا وعدم قدح ولا توجيه منه ، بل وظهور ارتضائه عنده ـ كما لا يخفى على الملاحظ المتأمّل ـ يظهر أيضا أنّ اعتقاده عدم وجوبه.

وفي «الفقيه» نقل مضمون ما قاله في أماليه رواية عن الباقر عليه‌السلام بأدنى

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٥ مع اختلاف.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٣٠ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٥ الحديث ٣٧١٣.


تفاوت (١) ، فيظهر أنّه رحمه‌الله في «الفقيه» أيضا فتواه على طريقة الاستحباب.

فما قيل من أنّ ظاهر الكليني وعلي بن بابويه أيضا هو الوجوب (٢) محلّ نظر ، لأنّ الصدوق رحمه‌الله أعرف بمذهبهما من غيره ، لأنّ أحد نسخ «الكافي» منه ، وأمّا والده فظاهر ، فكيف يقول من دين الإماميّة كذا وكذا؟

وسيجي‌ء أيضا ما يظهر منه أنّ الكليني لم يكن قائلا بالوجوب الاصطلاحي ، على أنّ الشيخ رحمه‌الله صرّح في «التهذيب» بأنّ الوجوب عندنا ضربين : ضرب على تركه العقاب ، وضرب على تركه اللوم والعتاب (٣).

مع أنّ كلامه في «الفقيه» إن بني على أنّ الوجوب عنده على طريقة المتشرّعة ، فالسنّة أيضا كذلك ، وإلّا فلم يظهر ثبوت هذه الحقيقة في زمانه واصطلاحه.

مع أنّه رحمه‌الله ربّما يفتي على طبق عبارة الحديث من دون توجيه ، بناء على أنّ مراده ما هو مراد المعصوم عليه‌السلام ، فمراده من لفظ «الوجوب» ما هو مراد المعصوم عليه‌السلام من هذا اللفظ ، بل ربّما كان غيره أيضا من القدماء يفعل كذلك.

مع أنّه لو كان مراده الوجوب الاصطلاحي الآن ، لما ناسبه الإتيان بلفظ السنّة ، لأنّه ربّما يوهم خلاف مقصوده لا أقلّ منه ، إذ لفظ «الوجوب» لو كان في زمانه حقيقة في المطلوب الذي لا يجوز تركه ـ وكان مراده من لفظه هو هذا المعنى ـ لما ناسبه قيد السنّة ، سيّما وأن يقدمه على لفظ «الوجوب» ويجعل الغسل سنّة ، إلّا أنّه يقيّده بالواجبة ، وخصوصا أنّه كتبه لمن لا يحضره الفقيه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٤ الحديث ١٧٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٤ الحديث ٣٧١١.

(٢) ذخيرة المعاد : ٦.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤١ ، ذيل الحديث ١٣٢.


فلو كان مراده الوجوب لناسبه التأكيد في الوجوب وعدم تجويز الترك ، سيّما إذا كان باقي الفقهاء في ذلك الزمان وقبله يقولون بالاستحباب ، هذا ظاهر في كون مراده شدّة تأكّد استحبابه.

ولو سلّمنا عدم الظهور ، فظهور خلافه من أين؟ بل الظاهر حينئذ أنّ مراده من السنّة ، هي السنّة الواردة في أحاديث هذا الغسل ، ومن الوجوب أيضا كذلك ، فهو رحمه‌الله جمع بين ما ورد في جميع الأخبار وأفتى به ، مع أنّ عبارته عين عبارة «الفقه الرضوي» ، وعادته الفتوى بعين عبارته.

وسيظهر لك أنّ المراد من السنّة في هذه الأحاديث هو الاستحباب.

هذا كلّه ، مضافا إلى ما عرفت من أماليه وغيره.

ويدلّ على استحبابه ما نقل الشيخ رحمه‌الله في «الخلاف» من الإجماع عليه (١).

والإجماع المنقول حجّة ، لشمول أدلّة حجّية خبر الواحد ، بل الظاهر أنّ هذا الإجماع واقعي ، بملاحظة ما نقلنا عن «الأمالي» وغيره (٢) واتّفاق فتاوى القدماء والمتأخّرين ، إذ غاية ما يظهر من المخالفة ما نسب إلى الصدوقين والكليني ، وقد عرفت الحال.

مع أنّه لو كان واجبا على الرجال والنساء ، كما هو مقتضى ما نسب إلى مدّعيه واقتضاه أدلّته ، لكان ممّا يعمّ به البلوى ، ويكثر الحاجة إلى ذكر وجوبه والأمر به ، فكان رواة تلك الأخبار يلتزمون ويلزمون ويأمرون ، وباقي الشيعة إمّا يقبلون منهم ، أو يراجعون إلى أئمّتهم في عصرهم ، فكانوا يأمرون ، فكانوا هم أيضا يلتزمون ويلزمون في كلّ جمعة ، وهذا يقتضي الشيوع والذيوع بين الرجال

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٦١١ المسألة ٣٧٦.

(٢) مرّت الإشارة إليه آنفا.


والنساء فعلا وقولا ، وكذا بين الأطفال أيضا المراهقين ، فكلّما يطول الزمان يشتدّ الشيوع ويزداد الظهور.

فكيف صار الأمر بالعكس؟ وظهر اتّفاق القدماء والمتأخّرين على البناء على الاستحباب فعلا ، حتّى أنّ صلحاء الشيعة ما التزموا به فضلا عن غيرهم ، سيّما مع كثرة الأخبار المتضمّنة لوجوبه.

ويدلّ على استحبابه أيضا أنّه لو كان واجبا ، لكان واجبا لنفسه ، بمقتضى الفتوى والأخبار.

والأخبار وردت بعنوان الكثرة في ضبط الواجبات الفرعيّة من أنّها الصلاة والصوم والزكاة وأمثالها ، وأنّ المكلّف لو امتثل بهذه المذكورات لم يسأل الله عن غيرها ، مع خلوّ الجميع عن الإشارة إلى غسل الجمعة ، فلاحظ.

ويدلّ عليه الأخبار أيضا مثل : صحيحة زرارة أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن غسل الجمعة؟ فقال : «سنّة في السفر والحضر ، إلّا أن يخاف المسافر على نفسه القرّ» (١).

وصحيحة علي بن يقطين أنّه سأل الكاظم عليه‌السلام عن الغسل في الجمعة والأضحى والفطر؟ قال : «سنّة ، وليس بفريضة» (٢).

واعترض بأنّ إطلاق لفظ «السنّة» على ما ثبت بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون الكتاب شائع ، فلا يتعيّن حملها على ما يقابل الواجب (٣).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٢ الحديث ٢٩٦ ، الاستبصار : ١ / ١٠٢ الحديث ٣٣٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٤ الحديث ٣٧٣٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٢ الحديث ٢٩٥ ، الاستبصار : ١ / ١٠٢ الحديث ٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٤ الحديث ٣٧٣٦.

(٣) ذخيرة المعاد : ٦.


وهذا الاعتراض ليس بشي‌ء ، لأنّ الأصل عدم الوجوب وبراءة الذمّة عنه حتّى يثبت ، فيفهم بضميمته وملاحظته الاستحباب.

مع أنّ المتعارف عدم تأدية الواجب بما يفيد مجرّد الرجحان والقدر المشترك بينه وبين المستحب مع عدم لزوم أصلا ، بل هذا يناسب المستحب.

مع أنّ المثبت ليس إلّا ما ورد في الأخبار من لفظ «الوجوب» ، فإن بني على ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فاللازم حمل السنة على المعنى الحقيقي ، ومجرّد الاستعمال بل وكثرة الاستعمال لا ضرر فيه ، ولذا لفظ العام حقيقة في العموم وإن كثر استعماله في الخصوص إلى أن قالوا : ما من عام إلّا وقد خصّ (١) ، وتلقّوه بالقبول ، وكذا الحال في استعمال الأمر في الاستحباب وغير ذلك ، وإطلاق لفظ «السنّة» الآن يتبادر منه ما يقابل الوجوب.

وإن بني على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فلا يكون دليل يظهر منه الوجوب الاصطلاحي ، فلا حاجة إلى الاستدلال على الاستحباب لمكان الأصل ، والاستدلال إنّما هو بناء على تسليم الثبوت ، إلّا أن يقال بثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ «الوجوب» دون «السنّة» ، فمع أنّه خلاف المعهود من المعترض والمستدلّ ، لا وجه للاعتراض بأنّه يستعمل في كذا ، فلعلّه مراد ، ومع ذلك فلا بدّ من التأمّل فيما ثبت.

على أنّا نقول : حمل السنّة هنا على ما ثبت من السنّة بعيد ، إذ الظاهر أنّ سؤال هذين الجليلين كان عن لزوم فعله وعدمه ، لا عن مأخذ حكمه.

مع أنّ السنّة إذا استعمل فيما ثبت من غير الكتاب ، يكون المراد من الكتاب ظاهر الكتاب بلا شبهة ، وإلّا فلا رطب ولا يابس إلّا فيه ، وجميع ما ثبت بالسنّة

__________________

(١) معالم الدين في الاصول : ١١٩.


داخل فيه.

وظاهر أنّه ليس في ظاهر الكتاب ما يفيد وجوب هذا الغسل فكيف يخفى على مثل هذين الفقيهين الجليلين؟

مع أنّ تقدير لفظ المأخذ في العبارة خلاف الأصل والظاهر ، مع أنّ الطريقة في جميع المواضع السؤال بمثل ذلك عن الحكم الشرعي.

مع أنّ السؤال يكون ظاهرا في كونه عن المأخذ فاسد قطعا ، والمعصوم عليه‌السلام في الجواب ما استفصل أنّ مرادك في السؤال ما ذا؟

مع أنّ المناسب في الجواب حينئذ أن يقول : مأخذه السنّة ، لا أن يقول : سنّة في السفر والحضر ، إلّا أن يخاف على نفسه القرّ ، إذ التعرّض لذكر السفر والحضر أيّ مناسبة له؟ خصوصا بعد ضمّ الاستثناء المذكور.

ويؤيّده أيضا ضمّ غسل الأضحى والفطر في رواية علي بن يقطين (١).

هذا كلّه ، مضافا إلى ما سبق من الأصل ، وظهور كون لفظ القدر المشترك في الاستحباب.

ويدلّ عليه أيضا مرسلة يونس ، عن الصادق عليه‌السلام : «الغسل في سبعة عشر موطنا : منها الفرض ثلاثة» وأراد منها «غسل الجنابة ومسّ الميّت والإحرام» (٢) ، ولا شكّ في أنّ الأخيرين غير ظاهرين من القرآن.

ويدلّ عليه أيضا الرواية التي نقلناها عن «العيون» (٣).

وما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن القاسم ـ وهو الجوهري ـ عن علي ـ

__________________

(١) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٥ الحديث ٢٧١ ، الاستبصار : ١ / ٩٨ الحديث ٣١٦ ، وسائل الشيعة : ٢ / ١٧٤ الحديث ١٨٥٥ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة : ٩٢ من هذا الكتاب.


وهو البطائني ـ عن الصادق عليه‌السلام : غسل العيدين أواجب هو؟ فقال : «[هو] سنّة» ، فقلت : فالجمعة؟ فقال : «[هو] سنّة» (١).

والدلالة في غاية الوضوح ، لأنّ السنّة هنا في مقابل الواجب ، والسند منجبر بالشهرة.

وما رواه الكليني والشيخ ـ في الصحيح ـ عن الحسين بن خالد ، عن الكاظم عليه‌السلام أنّه سأله كيف صار غسل يوم الجمعة واجبا؟ قال : «إنّ الله أتمّ صلاة الفريضة بصلاة النافلة ، و [أتمّ] صيام الفريضة بصيام النافلة ، و [أتمّ] وضوء النافلة بغسل [يوم] الجمعة ما كان [في ذلك] من سهو ، أو تقصير [أو نسيان] ، أو نقصان» (٢).

ورواه في موضع آخر : «وأتمّ وضوء الفريضة بغسل [يوم] الجمعة» (٣) ، ولا يخفى ظهورها في الاستحباب.

وما رواه الكليني والشيخ ، عن الأصبغ قال : كان علي عليه‌السلام إذا أراد أن يوبّخ الرجل قال : «والله. لأنت أعجز من تارك الغسل يوم الجمعة ، فإنّه لا يزال في طهر إلى يوم الجمعة الاخرى» (٤).

وهذه أيضا ظاهرة في الاستحباب ، بملاحظة التعليل المذكور في مقام التوبيخ ، فيظهر من هذه الرواية والرواية السابقة حال الكليني أيضا ، وأنّه ما كان

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٢ الحديث ٢٩٧ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٤ الحديث ٣٧٣٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٢ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١١١ الحديث ٢٩٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٣ الحديث ٣٧٣٤.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٩ الحديث ٢٩.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٢ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٩ الحديث ٣٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٨ الحديث ٣٧٥١ مع اختلاف يسير.


قائلا بالوجوب الحقيقي الاصطلاحي.

وما رواه الشيخ ـ في القوي ـ عن سهل بن اليسع الثقة ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : عن الرجل يدع الغسل يوم الجمعة ناسيا أو غير ذلك ، قال : «إن كان ناسيا فقد تمّت صلاته ، وإن كان متعمّدا فالغسل أحبّ إليّ ، وإن هو فعل فليستغفر الله ولا يعود» (١).

والاستغفار لتركه الأولى ، سيّما مثل هذا المستحبّ الشديد الاستحباب.

فأمّا ما يدلّ بظاهره على الوجوب مثل صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : «الغسل واجب يوم الجمعة» (٢) فقد عرفت أنّ راوي هذه الرواية روى ما دلّ على استحبابه (٣).

وروى هو أيضا عن الباقر عليه‌السلام أنّه : «لا تدع غسل يوم الجمعة فإنّه سنّة ، وشمّ الطيب ، وألبس صالح ثيابك ، وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال ، فإذا زالت فقم وعليك السكينة والوقار ، وقال : الغسل واجب يوم الجمعة» (٤) ، فتأمّل!

مضافا إلى أنّ ثبوت كون الوجوب حقيقة في المصطلح عليه الآن محلّ تأمّل ، وموجب لكون السنّة أيضا حقيقة في المصطلح عليه الآن ، والتفكيك بينهما يتوقّف على الثبوت ، وبعد الثبوت يتعيّن الحمل على الاستحباب جمعا بين الأدلّة.

لا يقال : كما يجوز الجمع هكذا ، يجوز حمل ما دلّ على السنّة على كون ثبوته من السنّة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٣ الحديث ٢٩٩ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٨ الحديث ٣٧٥٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٦٦ الحديث ١٢١٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٥ الحديث ٣٧٤٠ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة : ٩٥ من هذا الكتاب.

(٤) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٦ الحديث ٩٦٧٨.


لأنّا نقول : ظهر لك ما يأتي عن ذلك من وجوه متعدّدة ، سلّمنا ، لكن الأصل براءة الذمّة عن الوجوب ، ومنه ظهر أنّه لو لم يبن على الجمع ، يكون الأصل أيضا براءة الذمّة.

وممّا ذكر ظهر الجواب عن سائر الأخبار الواردة بلفظ «الوجوب» ، وهي كثيرة مثل : صحيحة منصور بن حازم (١) ، وصحيحة محمّد بن مسلم (٢) ، وحسنة ابن المغيرة (٣) ، وقويّة محمّد بن عبد الله (٤) وقويّة حريز (٥) ، وموثّقة سماعة (٦) ، وغيرها من الأخبار (٧).

لكن الأحوط عدم الترك ، لمكان الشبهة ، والحثّ العظيم على فعله ، وكثرة التعنيف بإهماله ، بل عبّر الأئمّة عليهم‌السلام بعبارات ملزمة كي لا يسامح في هذا الخطب الجسيم ، والفوز العظيم ، وإن لم يكن في تركه العقاب ، لكن يكون فيه العتاب وما يقرب العقاب من البعد عن رحمة الله تعالى.

ومراتب المطلوبيّة متفاوتة ضعفا وشدّة ، فربّما تصل إلى حدّ تقرب مطلوبيّة الواجب ، ولكن لا تصلها ، ومثل هذا ما كان الأئمّة عليهم‌السلام يرخّصون في تركه ، بل

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١١ الحديث ٣٧٢٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٧ الحديث ٦٢٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٤ الحديث ٣٧٣٨.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١١١ الحديث ٢٩١ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٢ الحديث ٣٧٣٠.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٢ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١١١ الحديث ٢٩٢ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٢ الحديث ٣٧٣٣.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٣ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٠ الحديث ٣٧٥٧.

(٦) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٣ الحديث ٣٠٠ ، الاستبصار : ١ / ١٠٤ الحديث ٣٤٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢١ الحديث ٣٧٥٩.

(٧) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣١١ الباب ٦ ، ٣٢٠ الباب ١٠ من أبواب الأغسال المسنونة.


وربّما كانوا يحذرون عنه ، كي لا تتحقّق المسامحة ، فتتحقّق المحروميّة عن نيل المصلحة العظيمة.

بل وربّما تكون المفسدة في تركه ، وإن لم تكن المفسدة عقابا ، وسيجي‌ء أيضا ما يدلّ على كونه مثل الواجب ، والله يعلم.

قوله : (ووقته). إلى آخره.

المعروف من الأصحاب أنّ قبل طلوع الفجر ليس من جملة أوقاته ، وأنّ ابتداء وقته بعد ما طلع ، وذلك لأنّه غسل يوم الجمعة ، كما عرفت ، وقبل الفجر ليس داخلا في يومه.

ولظاهر بعض الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك (١) ذلك عن الجنابة والجمعة وعرفة» (٢) ، إلى غير ذلك ممّا سيجي‌ء في بحث التداخل.

ولرواية بكير ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله : أيّ الليالي اغتسل في شهر رمضان. إلى أن قال : فإن نام بعد الغسل؟ قال : «هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأك» (٣).

وأمّا كون ابتدائه بعد الطلوع ، فلما ذكر هنا ، وما سيجي‌ء في بحث التداخل.

وما رواه زرارة والفضيل ـ في الحسن كالصحيح ، أو الصحيح ـ قالا : قلنا له : أيجزي إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة؟ قال : «نعم» (٤).

__________________

(١) في المصدر : أجزأك غسلك ذلك للجنابة.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٧ الحديث ٢٧٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٣٩ الحديث ٣٨١٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٧٣ الحديث ١١٤٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٢ الحديث ٣٧٦٣.

(٤) الكافي : ٣ / ٤١٨ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٦ الحديث ٦٢١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٢ الحديث ٣٧٦٢.


وأمّا التحديد إلى الزوال ، فلما مرّ في حسنة زرارة : «وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال» (١) ، ولموثّقة سماعة ـ كالصحيحة ـ عن الصادق عليه‌السلام : في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أوّل النهار ، قال : «يقضيه من آخر النهار ، فإن لم يجد فليقضه يوم السبت» (٢).

وادّعى في «المعتبر» إجماع الناس بتخصيصه بما قبل الزوال (٣) ، فتأمّل جدّا!

وأمّا التحديد إلى صلاة الجمعة ، فلحصول الغرض الذي صار سببا لغسل الجمعة ، فقد روي عن الصادق عليه‌السلام قال : «كانت الأنصار تعمل في نواضحها وأموالها ، فإذا كان يوم الجمعة جاءوا فتأذّى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل يوم الجمعة فجرت بذلك السنّة» (٤).

وفي الموثّق عن عمّار عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل ينسى الغسل يوم الجمعة حتّى صلّى ، قال : «إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد الصلاة ، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته» (٥).

وعن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : الرجل يدع غسل يوم الجمعة ناسيا أو متعمّدا ، فقال : «إذا كان ناسيا فقد تمّت صلاته ، وإن كان متعمّدا فليستغفر الله ولا يعد» (٦).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٦ الحديث ٩٦٧٨.

(٢) الاستبصار : ١ / ١٠٤ الحديث ٣٤٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢١ الحديث ٣٧٥٩.

(٣) المعتبر : ١ / ٣٥٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٦٦ الحديث ١١١٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٥ الحديث ٣٧٤٢.

(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٢ الحديث ٢٩٨ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٩ الحديث ٣٧٥٣.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦٤ الحديث ٢٤٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٩ الحديث ٣٧٥٤.


ومرّ رواية سهل بن اليسع ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «إن الرجل إذا ترك غسل يوم الجمعة ناسيا فقد تمّت صلاته ، وإن ترك متعمّدا فالغسل أحبّ إليّ» الحديث (١).

وما مرّ عن أبي الحسن عليه‌السلام في علّة غسل الجمعة من أنّه تعالى أتمّ صلاة الفريضة بصلاة النافلة ، ووضوء الفريضة بغسل يوم الجمعة (٢).

ويظهر من هذا استحباب وقوع صلاة الجمعة بهذا الغسل ومعه ، وعدم انتقاضه حين الصلاة.

فظهر ممّا ذكر امتداد وقت الغسل إلى الصلاة ، فيمكن حمل الحسنة على الاستحباب ، أو الورود مورد الغالب ، إذ الغالب أنّ درك الجمعة مغتسلا يكون كذلك ، وأنّه لو اغتسل بعد الزوال لعلّه لا يدرك الجمعة إلّا ما ندر.

وممّا ذكر ظهر الجواب عن الإجماع المذكور أيضا ، إن كان إجماعا واقعا ، فتأمّل!

ومقتضى هذه الحسنة تأكّد استحباب إيقاع الغسل قبل الزوال ، والمتبادر منه ما قارب الزوال ، ولذا أفتى في «الشرائع» بأنّه كلّما قرب من الزوال كان أفضل (٣).

ويؤيّدها أيضا ما روي عن الصادق عليه‌السلام في حكاية أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنصار بالغسل (٤).

وممّا ذكرنا ظهر ضعف ما قال في «الذخيرة» : ولو لم يكن الإجماع المنقول

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٣ الحديث ٢٩٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٨ الحديث ٣٧٥٢.

(٢) راجع! الصفحة : ٩٨ من هذا الكتاب.

(٣) شرائع الإسلام : ١ / ٤٤.

(٤) مرّت الإشارة إليه آنفا.


سابقا أمكن القول باتّساع وقت الغسل إلى آخر النهار ، لعدم ظهور كون القضاء في رواية سماعة بالمعنى المعروف بين الاصوليّين (١) ، انتهى. إذ لم يعهد التعبير عن الإجماع الاصطلاحي بإجماع الناس.

ومع ذلك ، الأخبار في غاية الكثرة في كون الغسل قبل الصلاة ولأجلها ، والسند معتبر ، والموثّق عنده حجّة ، والقضاء ظاهره تدارك ما فات ، على ما يظهر من الأخبار (٢). وحقيقة عند المتشرّعة ، والحقيقة الشرعيّة ثابتة في مثل زمان الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما ، فتأمّل!

وأمّا ما ذكره المصنّف من أنّ الأفضل لمن أراد البكور أن يقدّمه عليه ، فلأنّ الظاهر منه أنّه لا يخرج من المسجد إلى أن ينقضي أمر الصلاة ، ولرواية هشام عن الصادق عليه‌السلام : «ليتزيّن أحدكم يوم الجمعة ، يغتسل ويتطيّب ويسرّح لحيته ويلبس أنظف ثيابه ، وليتهيّأ للجمعة» (٣) الحديث.

ومرّ استحباب التبكير إلى المسجد في الجمعة (٤) ، لكن حسنة زرارة أقوى دلالة وسندا أيضا (٥).

مضافا إلى انضمام أخبار أخر ، فلا مانع من الخروج إلى الغسل إن لم يتيسّر فيه ، فتأمّل جدّا!

وأمّا جواز تقديمه يوم الخميس لخائف عوز الماء ، فلما رواه الشيخ في المرسل ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال لأصحابه : «إنّكم لتأتون غدا منزلا ليس فيه ماء

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٧.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٠ الباب ١٠ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٣) الكافي : ٣ / ٤١٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٠ الحديث ٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٥ الحديث ٩٦٧٧.

(٤) راجع! الصفحة : ٨٩ من هذا الكتاب.

(٥) راجع! الصفحة : ٩٩ من هذا الكتاب.


فاغتسلوا اليوم لغد فاغتسلنا يوم الخميس للجمعة» (١).

وما رواه هو والكليني والصدوق ، عن [أمّ الحسين و] بنت موسى بن جعفر عليه‌السلام قالتا : كنّا مع أبي الحسن عليه‌السلام بالبادية ونحن نريد بغداد ، فقال لنا يوم الخميس : «اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة ، فإنّ الماء غدا بها قليل» [قالتا] : «فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة» (٢).

وضعف الروايتين منجبر بالشهرة ، مع التسامح في أدلّة السنن ، ومقتضاهما عدم الماء أو عوزه.

وأمّا ما ذكره من قوله : بل مع خوف الفوات مطلقا ، كما قاله الشيخ (٣) ، ووافقه الشهيدان (٤) أيضا كالمصنّف ، فلعلّ المستند هو قول الشيخ ، بانضمام ما دلّ على أنّ «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (٥) بأنّه يشمل الثواب المذكور التزاما.

ويحتمل أنّهم فهموا من الروايتين أنّ المناط هو فوت الغسل من غير مدخليّة عوز الماء من باب تنقيح المناط ، وهو غير بعيد ، سيّما مع المسامحة في أدلّة السنن.

والظاهر أنّ ليلة الجمعة كيوم الخميس في جواز تقديم الغسل فيها ، إذا خيف عوز الماء أو فقده ، لادّعاء الشيخ الإجماع عليه (٦).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٣٦٥ الحديث ١١٠٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٩ الحديث ٣٧٥٥.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٢ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦١ الحديث ٢٢٧ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٣٦٥ الحديث ١١١٠ ، الوافي : ٦ / ٣٩١ الحديث ٤٥٢١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٠ الحديث ٣٧٥٦.

(٣) المبسوط : ١ / ٤٠.

(٤) الدروس الشرعيّة : ١ / ٨٧ ، مسالك الأفهام : ١ / ١٠٦.

(٥) الكافي : ٢ / ٨٧ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ١ / ٨٢ الحديث ١٨٨ مع اختلاف يسير.

(٦) الخلاف : ١ / ٦١١ المسألة ٣٧٧.


ولو تمكّن من الغسل يوم الجمعة كلّ من قدّم غسله عليه فالظاهر رجحان فعله ، لإطلاق الأدلّة مع العلّة المذكورة في الأخبار (١).

ومن فاته يوم الجمعة قضاه بعد الزوال إلى الغروب ، فإن لم يتمكّن قضاه يوم السبت.

أمّا الأوّل ، فقد مرّ ما يدلّ عليه.

وأمّا الثاني ، فكذلك ، ويدلّ عليهما أيضا موثّقة ابن بكير ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن رجل فاته الغسل يوم الجمعة؟ قال : «يغتسل ما بينه وبين الليل ، فإن فاته اغتسل يوم السبت» (٢).

ويدلّ على خصوص الثاني مرسلة حريز ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا بدّ من غسل يوم الجمعة في السفر والحضر ، فمن نسي فليعد من الغد» (٣).

وفي «الفقه الرضوي» : «فإن فاتك الغسل يوم الجمعة ، قضيت يوم السبت أو بعده من أيّام الجمعة» (٤).

ومقتضى الروايتين الاوليين والأخيرة ، استحباب القضاء لمطلق الفوت ، سواء كان من جهة النسيان ، أو عذر آخر أو عمدا ، كما أفتى به الأكثر.

ومقتضى الثالثة ، القضاء من جهة النسيان ، فهي دليل الصدوق رحمه‌الله (٥) ، منضمّة إلى عدم القول بالفصل ، حيث خصّصه بالفوت نسيانا أو لعذر ، مع إمكان حمل غيرها عليه ، لكونه أظهر أفراد الفوت.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٩ الباب ٩ من أبواب الأغسال المسنونة.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٣ الحديث ٣٠١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢١ الحديث ٣٧٦٠.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٣ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢٠ الحديث ٣٧٥٧.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٢٩ ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٥٠٧ الحديث ٢٥٧٨.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٦١ ذيل الحديث ٢٢٧.


وما عليه الأكثر أولى ، للعموم وعدم مقاومة الثالثة لغيرها سندا ودلالة من جهة العدد والكثرة في الفتوى ، سيّما مع التسامح في أدلّة السنن.

ويستفاد من مجموع الروايات عدم استحباب القضاء ليلة السبت ، وإن كانت أقرب إلى وقت الأداء ، ولعلّه من جهة كونه من وظائف يوم الجمعة ، فيكون وظيفة النهار. وتجويز تقديمه ليلة الجمعة ، لكونه أقرب إلى صلاة الجمعة ، وحصولها مع الغسل وهو الفرض ، فتأمّل!

فما قيل من إلحاق ليلة السبت بيومه في القضاء فيه (١) محلّ نظر.

ويستفاد من «الفقه الرضوي» استحباب القضاء في باقي الأيّام أيضا (٢) ، ولا بأس للتسامح.

وأمّا ما رواه ذريح ـ في الموثّق كالصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام : في الرجل [هل] يقضي غسل الجمعة؟ قال : «لا» (٣) ، فمحمول على نفي القضاء بعنوان الوجوب.

ويحتمل أن يكون المراد أنّ فعله خارج الجمعة أو بعد الزوال ليس بقضاء ، من قبيل ما ورد من «أنّ النافلة بمنزلة الهديّة متى اتي بها قبلت» (٤) ، فإذا فاته قبل الزوال اغتسل ما بينه وبين الليل ، فإن فاته اغتسل يوم السبت ، كما هو مضمون موثّقة ابن بكير (٥) ، لا أنّه قضاء حقيقة ، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أنّ من المستحبّات يوم الجمعة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف مرّة ،

__________________

(١) قال به العلّامة المجلسي رحمه‌الله في بحار الأنوار : ٧٨ / ١٢٦.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٢٩.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤١ الحديث ٦٤٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٢١ الحديث ٣٧٦١.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٥٤ الحديث ١٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٣٢ الحديث ٥٠٠٧.

(٥) مرّ آنفا.


وفي غيره مائة مرّة ، والإكثار من الصدقة ، والعمل الصالح ، وإطراف الأهل بشي‌ء من الفاكهة واللحم حتّى يفرحوا بالجمعة ، وكذا كلّ شي‌ء مباح يصير سبب فرحهم ، وغير ذلك من المستحبّات والأدعية والصلوات على ما هو في «المصباح» (١) ، وغيره من كتب الأدعية مذكورة (٢) ، ويكره فيه الحجامة وإنشاد الشعر.

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٢٨٣ ـ ٤٢٥.

(٢) المصباح للكفعمي : ٩٦ ، البلد الأمين : ٧١.


١٢ ـ مفتاح

[حرمة البيع والسفر بعد نداء صلاة الجمعة]

يحرم يوم الجمعة البيع والسفر بعد النداء وقبل الصلاة بالكتاب (١) والسنّة (٢) والإجماع ، وفي غير البيع من العقود وجهان ، والتحريم أصحّ.

ويكره السفر بعد طلوع الفجر قبل الزوال بالإجماع والخبر (٣).

ويحتمل التحريم ، لأنّه مأمور بالسعي إلى الجمعة من فرسخين فكيف يسعى عنها؟

__________________

(١) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ الباب ٥٣ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) بحار الأنوار : ٧٣ / ٢٢٤ الحديث ٨.



قوله : (يحرم يوم). إلى آخره.

حرمة البيع يوم الجمعة وقت النداء إلى صلاة الجمعة على المأمور بالسعي بعنوان الوجوب العيني إجماعي ، نقل الإجماع عليه غير واحد ، منهم العلّامة في «التذكرة» (١) ، و [الشيخ] مفلح في «شرح الشرائع» (٢).

وتدلّ عليه الآية (٣) أيضا ، فإنّ الأمر بترك البيع نهي عن فعله.

ويدلّ أيضا ما روي في «الفقيه» : «أنّه كان بالمدينة إذا أذّن [المؤذّن] يوم الجمعة نادى مناد : حرم البيع ، لقوله تعالى» (٤) الحديث.

وقوله : (وجهان). إلى آخره.

وجه عدم التحريم ، الأصل واختصاص الحرمة بالبيع ، وحرمة القياس عند الشيعة ، ومن هذا قال المحقّق في «المعتبر» : الأشبه بالمذهب لا (٥).

ووجه التحريم العلّة (٦) المنصوصة ، وهو قوله تعالى (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (٧) فإنّه في مقام التعليل.

قيل : ولأنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه ، والسعي مأمور به (٨).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٠٧ المسألة ٤٢٨.

(٢) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٧٤.

(٣) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٩٥ الحديث ٩١٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٨ الحديث ٩٧١٠.

(٥) المعتبر : ٢ / ٢٩٧.

(٦) في (ز ٣) : اختصاص العلّة.

(٧) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٨) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٤.


واجيب بمنع الاستلزام ـ على ما حقّق في الاصول ـ وبأنّه يستلزم النهي عن المنافي خاصّة ، لا مطلق المعاوضة (١).

وفيه ، أنّ الذي ثبت من الإجماع والآية هو حرمة المنافي خاصّة.

أمّا الآية ، فللعلّة المذكورة ، ولأنّ الإطلاق ينصرف إلى المتبادر ، والمتبادر هو المنافي.

وأمّا الإجماع ، فلم يظهر منه العموم ، لعدم تبادر أزيد من المنافي ، بل صرّح بعضهم بأنّ الحرام جزما هو المنافي خاصّة (٢).

قال [الشيخ] مفلح في «شرح الشرائع» : لو لم يمنع البيع حالة الأذان من السعي احتمل الجواز لعدم المنافاة ، والعدم لعموم المنع (٣).

وهذا ينادي بعدم تحقّق الإجماع عنده إلى هذا القدر ، والعموم قد عرفت حاله.

وربّما قيل : بأنّ معنى البيع بحسب الأصل مطلق المعاوضة ، فيشمل الآية جميع المعاوضات (٤).

وفيه ، منع ثبوت كون المعنى كذلك ، بل المستفاد عرفا وشرعا غيره ، والأصل عدم التغيّر والتعدّد والنقل.

سلّمنا ، لكن حمل الآية على هذا المعنى من أين لو لم نقل بتقديم العرف عليه؟ مع أنّ الشرع هنا على وفق العرف تكلّم.

والنداء الذي يحرم به البيع هو النداء المشروع لصلاة الجمعة ـ وسيجي‌ء

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣١٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٣٧٩.

(٣) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٧٥.

(٤) قاله الشهيد في ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٤.


تحقيقه ـ ولو كان بعيدا عن الجمعة بحيث لا يسمع النداء ، إلّا أنّه إذا وقع البيع لا يدرك الجمعة أو يظنّ ذلك ، يحرم عليه أيضا ، للعلّة المذكورة ، ولو كان أحد المتبايعين مخاطبا بالجمعة دون الآخر يحرم على المخاطب جزما ، وأمّا الآخر ، فقيل بأنّه يكره عليه (١) ، وقيل بالتحريم عليه أيضا ، للنهي عن معاونة الإثم (٢).

وهل يصحّ هذا البيع الحرام أم يبطل؟ المشهور الأوّل ، لأنّ النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد.

وفيه ، أنّه وإن كان لا يقتضي الفساد فيها ، إلّا أنّ الصحّة فرع دليل يدلّ عليها ، لأنّها عبارة عن ترتّب الأثر الشرعي ، فلو لم يرد نهي عن معاملة ولا يكون لها ما يقتضي الصحّة تكون فاسدة جزما ، فكيف إذا ورد النهي عنها أيضا؟

قيل : الدليل أنّه عقد صدر عن أهله في محلّه ، فيجب الوفاء به ، لعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقد اللازم (٣).

وفيه ، أنّ وجوب الوفاء شرعا بما هو حرام شرعا والواجب شرعا أن لا يكون ولا يتحقّق ، لعلّه من قبيل المتناقضات بحسب فهم العرف ، وكونه داخلا في عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٤) محلّ تأمّل ، فإنّ الإعانة في الإثم حرام شرعا قطعا ، فكيف يوجب الشرع الوفاء بالإثم ولا يجوز تركه أصلا؟

وممّا ذكر ظهر أنّه ليس داخلا في عموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٥) ، لأنّ الحرام لا يمكن أن يكون حلالا عند الشيعة ، ولذا قالوا بعدم جواز اجتماع الأحكام

__________________

(١) قاله الشيخ في المبسوط : ١ / ١٥٠.

(٢) لاحظ! ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٣ و ١٥٤.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٧٧.

(٤) المائدة (٥) : ١.

(٥) البقرة (٢) : ٢٧٥.


المتضادّة في فعل واحد ، وإن كان من جهتين وأزيد (١).

وفي «المدارك» (٢) جعل دليل الصحّة قوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (٣).

وفيه ، أنّه استثناء عن النهي ، وهو قوله تعالى (لا تَأْكُلُوا) فالكلام صريح في أنّ التجارة عن تراض منكم لا نهي فيها ، فإذا كان حراما جزما فكيف يكون داخلا فيما لا نهي فيها؟

وأمّا ما قال ـ أيضا ـ دليل الصحّة قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٤) فلم يعهد من الفقهاء الاستدلال به لتصحيح بيع ، لأنّ المفرد المحلّى باللام لا عموم له لغة ، وأمّا بحسب العرف ، وإن كانوا يفهمون العموم ، إلّا أنّه بالقياس إلى الأفراد الشائعة ، وكون الحرام من جملة الأفراد الشائعة في هذا الحديث محلّ نظر.

مع أنّ اتّحاد عموم البيع مع عموم المبيع محلّ مناقشة ، مع أنّ هذا الإطلاق إنّما اتي به لإفادة حكم آخر ، وهو كونهما بالخيار إلى الافتراق.

فلعلّ المراد من البيع ، البيع الصحيح بالخيار ما لم يفترقا ، لا أن يكون المراد كلّ بيع صحيح ، وبينهما فرق ظاهر.

ولعلّه لما ذكرنا قال بعض المحقّقين بأنّ النهي هنا يرجع في الحقيقة إلى خارج المعاملة ، وهو ترك السعي والمحروميّة عن صلاة الجمعة ، فلا مانع من الصحّة حينئذ إجماعا (٥).

__________________

(١) لاحظ! الوافية : ٩٣.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٧٨.

(٣) النساء (٤) : ٢٩.

(٤) الكافي : ٥ / ١٧٠ الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٦ الحديث ٢٣٠١٣.

(٥) قاله صاحب إرشاد الجعفريّة كما في مفتاح الكرامة : ٣ / ١٥٥ و ١٥٦.


ونقل عن «المبسوط» و «الخلاف» ، وعن ابن الجنيد أيضا القول بعدم الانعقاد (١).

ومال إليه المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله (٢) ، إلّا أنّ المنقول عن الشيخ أنّه قال بأنّ النهي يقتضي الفساد (٣).

وأمّا المقدّس رحمه‌الله ، فنظره إلى ما ذكرناه من أنّ المحرّم شرعا لم يثبت من دليل صحّته شرعا (٤) ، ويمكن إرجاع كلام الشيخ أيضا إليه ، ولا بدّ من ملاحظة كلامه.

قوله : (والسفر). إلى آخره.

نقل عن «التذكرة» و «المنتهى» حكاية إجماع الشيعة على حرمة إنشاء السفر بعد زوال الشمس يوم الجمعة على من وجب عليه الجمعة بالوجوب العيني قبل أن يصلّيها (٥).

واستدلّ عليها أيضا في «التذكرة» بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ، لا يصحب في سفره ، ولا يعان على حاجته» (٦) ، فإنّ الوعيد لا يترتّب على المباح ، وبأنّ ذمّته مشغولة بالفرض ، والسفر مستلزم للإخلال به ، فلا يكون سائغا (٧).

__________________

(١) نقل عنهم في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٣٦ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٥٠ ، الخلاف : ١ / ٦٣١ المسألة ٤٠٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٣٧٩.

(٣) المبسوط : ١ / ١٥٠.

(٤) راجع! الصفحة : ١١٣ من هذا الكتاب.

(٥) نقل عنهما في ذخيرة المعاد : ١١٣ ، لاحظ! تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٧ المسألة ٣٨٠ ، منتهى المطلب : ٥ / ٤٥٧.

(٦) كنز العمّال : ٦ / ٧١٥ الحديث ١٧٥٤٠.

(٧) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٧ مع اختلاف يسير.


ويتوجّه على الثاني ، أنّه لو تمّ لزم حرمة السفر يوم الجمعة مطلقا ، لا خصوص ما بعد الزوال ، وكذا حرمته على كلّ مكلّف ، لا خصوص من وجب عليه الجمعة ، إلّا أن يقال : خرج ما خرج بالإجماع وبقي الباقي ، لكنّه موقوف على ثبوت الإجماع ولم يثبت ، ومع ذلك تجويز التخصيص إلى هذا القدر محلّ نظر وإشكال.

وإرادة خصوص ما بعد الزوال قبل الجمعة من يوم الجمعة بعيد جدّا ، لكن الحديث ـ على ما نقله ـ إنّما هو على طريقة المخالفين.

وفي «المصباح» نقل هكذا : «ما يؤمن من سافر يوم الجمعة قبل الصلاة أن لا يحفظه الله تعالى في سفره ، ولا يخلفه في أهله ، ولا يرزقه من فضله» (١).

وفي «النهج» : «لا تسافر في يوم الجمعة حتّى تشهد الصلاة إلّا قاصدا في سبيل الله ، أو في أمر تعذر به» (٢) ، فتأمّل!

وعلى الثالث ، أنّه مبني على أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ ، وهو ممنوع ، كما حقّق في محلّه.

واعترض عليه أيضا ، أنّه يلزم على هذا من تحريم السفر عدم تحريمه ، وكلّ ما أدّى وجوده إلى عدمه فهو باطل ، أمّا الملازمة ، فلأنّه لا مقتضى لتحريم السفر إلّا استلزامه لفوات الجمعة ، كما هو المفروض ، ومتى حرم السفر لم تسقط الجمعة ، لأنّ سقوطها إنّما هو في السفر المباح ، كما تقدّم ، فلا يحرم السفر لانتفاء المقتضي (٣).

أقول : السفر إمّا أن يضادّ فعل الجمعة أو لا ، أمّا الأوّل وهو الغالب ، فمعلوم

__________________

(١) المصباح للكفعمي : ١٨٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٦ الحديث ٩٧٠٥.

(٢) نهج البلاغة : ٦٤٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ الحديث ٩٧٠٦ مع اختلاف يسير.

(٣) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٥٩ و ٦٠ مع اختلاف يسير.


أنّه بعد تحقّقه لا يمكن فعل الجمعة لوجود ضدّه ، فحرمة السفر إنّما هي من جهة فوت نفس الجمعة وعدم التمكّن منها ، فقوله : (ومتى حرم السفر لم تسقط الجمعة) فيه ما فيه ، لأنّه غير متمكّن منها فكيف تكون واجبة عليه؟

وعلى فرض وجوبها عليه مع عدم تمكّنه منها ـ بناء على أنّ التقصير منه ، فلا يمنع من التكليف بها ، وإن لم يتمكّن ، كما اختاره بعض ـ أيّ فائدة في هذا الوجوب؟ لأنّ الحرام كان ترك الجمعة ، لا عدم وجوبها عليه ، والسفر كان ضدّ فعل الجمعة ، لا ضدّ الخطاب به.

وأمّا الثاني ، وهو النادر ، فلا حرمة للسفر لعدم الضدّية ، أمّا إذا وقع فعلها قبل بلوغ حدّ الترخّص ، أو تمكّن منه ، فظاهر ، وأمّا إذا لم يتمكّن منه إلّا بعد ما تجاوز عنه ، فلأنّ مقتضى الأدلّة وجوب الإتيان بالجمعة متى تمكّن منها ـ وهو متمكّن منها ـ ولا يلزم عليه اختيار خصوص ما يقع قبل حدّ الترخّص ، لو لم يكن داخلا في عموم ما دلّ على أنّ المسافر يسقط عنه الجمعة من جهة إجماع أو استصحاب ، وأمّا لو كان داخلا فيه ، يكون من جملة من وضع الله تعالى عنهم الجمعة ، ومن وضعها عنهم سقطت عنهم ، فلا يكون مؤاخذا بتركها ، فلا يكون السفر ضدّا للواجب عليه ، بل مسقطا إيّاه عنه ، وسيجي‌ء تمام الكلام في ذلك.

فنظر المستدلّ إلى الفروض الغالبة والأفراد الشائعة ، لانحصار الضديّة المذكورة في استدلاله فيها ، كما عرفت.

لكن يتوجّه على استدلاله ما ذكر أوّلا من عدم الاستلزام ، للنهي عن الضدّ ، مضافا إلى أنّه لو تمّ لم يكن الحرام مقصورا في السفر والبيع ، ولا خصوصيّة له بهما ، بل لا فرق بينهما وبين غيرهما من الأضداد الخاصّة ، فلا وجه لجعله دليلا لهما خاصّة ، إلّا أن يكون المستدلّ يقول بحرمة الجميع من غير تفاوت بينهما وبين


غيرهما ، ولا خصوصيّة بهما ، وإن لم يكن معروفا مشهورا بين الأصحاب.

ولا يمكنه أن يقول : خرج ما خرج بالإجماع وبقي الباقي ، لأنّ ذلك لا يجري في الأدلّة العقليّة ، ويزيل الاستلزام ، لأنّ الأمر بالشي‌ء لو كان مستلزما للنهي عن الضدّ الخاصّ فلا معنى للتخلّف في موضع دون موضع ، بل لا يجري ذلك في غير العمومات من الأدلّة اللفظيّة ، ووجهه ظاهر (١) ، بل لا يجري في العمومات مطلقا ، بل لا بدّ من بقاء الأكثر وكون الباقي غير منحصر في الأفراد النادرة ، إلى غير ذلك من الشروط.

ويمكن الاستدلال بالعلّة المذكورة ، وهو قوله تعالى (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) ، ومقتضاه أيضا حرمة كلّ ما يجري فيه العلّة المذكورة ، وظاهر أنّ عدم حرمة غير البيع والسفر ليس إجماعيّا ، لما عرفت سابقا ، ولأنّ جماعة من الفقهاء يقولون بأنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه (٣).

واعلم! أنّ الشهيد في «الروض» قال : وكلّ من اشتغلت ذمّته بفريضة لا تتأتّى منه في السفر أو تحصل لكن بنقصان ، يكون ذلك السفر ممّا لم يترخّص المسافر في القصر فيه ، وإن كانت الفريضة تعلّم الواجبات (٤) ، وفيه كلام سيجي‌ء في محلّه ، فانتظر.

وهنا مباحث :

الأوّل : لو كان السفر واجبا كالحجّ ، أو مضطرّا إليه انتفى التحريم.

أمّا صورة الاضطرار ، فظاهر ، لأنّ الضرورات تبيح المحظورات جزما ،

__________________

(١) لم ترد في (ز ٢) : ووجهه ظاهر.

(٢) الجمعة (٦٢) : ٩.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٤ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٣٧٩ ، ذخيرة المعاد : ٣١٤.

(٤) روض الجنان : ٢٩٥ نقل بالمعنى.


ولنفي الضرر في الدين.

وأمّا السفر الواجب ، فلعدم عموم في وجوب السعي إلى الجمعة حينئذ تشمل هذه الصورة ، لما عرفت من أنّ «إذا» من كلمة الإهمال ، ولما ذكرنا عن «النهج» ، مع عدم إجماع على وجوب السعي إلى الجمعة حينئذ لو لم نقل بالإجماع على عدمه ، بل الظاهر الإجماع عليه ، سيّما بعد ملاحظة ما مرّ من سقوط الجمعة بالمطر واحتراق القرص ، وأمثال ذلك.

الثاني : لو كان بين يدي المسافر جمعة اخرى يعلم إدراكها في محلّ الترخّص ، فهل يكون السفر سائغا أم لا؟ اختار في «المدارك» العدم محتجّا بالعموم (١) ، ولم نجده ، إذ الآية قد عرفت حالها ، مع أنّ السعي إلى الجمعة غير مختصّ بما ذكره ، إذ الجمعة الاخرى أيضا جمعة.

وأمّا رواية «التذكرة» ، فقد عرفت حالها ، مضافا إلى ضعف السند ، مع أنّ السفر المذكور فيها مطلق ، فينصرف إلى الفروض الشائعة ، فلعلّ الدعاء عليه لأجل ترك الفريضة اللازمة ، كما نبّه عليه النحو الذي ذكره في «المصباح» ، وأيّده ما ذكرنا عن «النهج» (٢).

وأمّا ما رواه عن أبي بصير ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أردت الشخوص في يوم عيد فانفجر الصبح وأنت في البلد ، فلا تخرج حتّى تشهد ذلك العيد» (٣).

ثمّ قال : وإذا حرم السفر بعد الفجر في العيد حرم بعد زوال الجمعة بطريق

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٦١.

(٢) راجع! الصفحة : ١١٦ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٦ الحديث ٨٥٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الحديث ٩٨٨٦.


أولى ، لأنّ الجمعة آكد من العيد.

ففيه ، أنّه بعد تسليم ما ذكره ـ من القياس بطريق أولى ـ فإنّما هو فرع كون العلّة في المنع عن السفر هي المحروميّة عن الواجب ، فلا يقتضي المنع في المقام ، للتمكّن من الواجب وعدم المحروميّة منه.

وأمّا الإجماع الذي ذكره في «التذكرة» ، فلم يثبت منه أزيد من القدر المجمع عليه ، سيّما قوله رحمه‌الله : وبأنّ ذمّته مشغولة. إلى آخره ، الذي استدلّ به لمضمون ما ادّعى إجماعه عليه.

مع أنّه لا يعتمد على أمثال هذه الإجماعات المنقولة بخبر الواحد ، فضلا عن أن يحتج بعمومه الذي لم يظهر بعد.

مع أنّه رحمه‌الله عادته أن يقول : دعوى الإجماع في محلّ النزاع غير مسموع ، إذ بعض الأصحاب اختار الجواز حينئذ ، كما صرّح به.

ثمّ قال : واختاره المحقّق الشيخ علي في «شرح القواعد» (١) ، لحصول الغرض ، وهو فعل الجمعة ، بناء على أنّ السفر الطارئ على الوجوب لا يسقطه ، كما يجب الإتمام في الظهر على من خرج بعد الزوال.

ثمّ قال : ويضعف بإطلاق الأخبار المتضمّنة لسقوط الجمعة عن المسافر (٢) وبطلان القياس ، مع أنّ الحقّ تعيّن القصر في صورة الخروج بعد الزوال ، كما سيجي‌ء (٣) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ ما دلّ على وجوب الجمعة من الآية والأخبار عام يشمل

__________________

(١) جامع المقاصد : ٢ / ٤٢١.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٥ الحديث ٩٣٨٢ ، ٢٩٧ الحديث ٩٣٨٧ ، ٢٩٩ الحديث ٩٣٩٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٦١.


الجميع ، وخرج المسافر للأخبار الدالّة على أنّها ليست واجبة عليه ، بل الله تعالى وضعها عنه وإن تمكّن من فعلها ، بل لم يكن من المخاطبين بوجوب فعلها أصلا ، لأنّ الخاصّ خارج عن الحكم العام من أوّل الأمر ، كما هو المحقّق والمسلّم ، وليس مثل النسخ.

فعلى هذا لو كان هذا المسافر داخلا في تلك الأخبار ، فلا جرم لا يكون الجمعة واجبة عليه أصلا ، والله وضعها عنه مطلقا من دون إثم ، كما هو مقتضى تلك الأخبار.

وإن قال بأنّ ذلك مخالف للإجماع وغيره ، فمقتضى ذلك عدم شمول تلك الأخبار له ، فالمقتضي لوجوب الجمعة موجود ، والمانع مفقود ، فلم ينهض دليل على حرمة السفر حينئذ ، وأيضا وجوبها عليه مستصحب حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت ، لما عرفت (١).

كما أنّ الظهر لو كانت واجبة عليه بالإتمام ، يكون وجوبها كذلك حتّى يثبت خلافه ، وما دلّ على القصر في خصوص المقام معارض بمثله.

وأمّا العمومات ، فلعلّ المقام خارج عنها ، لأنّ الخاصّ مقدّم ، سيّما إذا لم يكن من الأفراد الشائعة للعام.

والظاهر أنّ نظر المحقّق الشيخ علي إلى هذا ، لا إلى القياس ، حاشاه عنه ، وإن أمكن التنظر فيه وتقوية كون المعيّن عليه هو القصر ، كما ذكره ، وسيجي‌ء إن شاء الله تعالى في موضعه.

الثالث : لو كان بعيدا عن الجمعة بفرسخين فما دون ، فخرج مسافرا في صوب الجمعة ، قيل : يجب عليه الحضور عينا وإن صار في محلّ الترخّص ، لأنّه

__________________

(١) في (ز ١ ، ٢) و (ط) : على حئ ما عرفت.


لولاه لحرم عليه السفر (١) ، ولأنّ من هذا شأنه يجب عليه السعي قبل الزوال ، فيكون سبب الوجوب سابقا على السفر ، كما في الإتمام لو خرج بعد الزوال.

واحتمل في «الذكرى» عدم كون هذا المقدار محسوبا من المسافة ، لوجوب قطعه على كلّ تقدير (٢).

ولعلّ مراده أنّ الله تعالى أمره بالسعي إلى الجمعة في كلّ جمعة ، وكان يفعل كذلك وما كان يحاسب من جملة السفر الشرعي أصلا ، وإن كان مسافرا لغة وعرفا ، ففي كلّ جمعة كان يسافر هذا السفر بأمر الله تعالى ، وما كان يقال بأنّه سافر بالسفر الشرعي.

فهذه الجمعة أيضا مثل الجمعات السابقة يجب عليه السعي إلى الجمعة ، لعموم ما دلّ عليه ، وبطريق عادته لا بدّ أن يسعى ويوجد ما لم يكن يقال فيه : إنّه سفر شرعي ، فالسفر الشرعي ، وما يقال : إنّه الذي يجب عليه القصر ابتداؤه ممّا زاد على ما امر به ، وما كان يسعى في طيّه بعنوان الوجوب لدرك الجمعة ، فلا يكون داخلا في السفر الذي وضع الجمعة عنه فيه ، فتأمّل!

واستقرب في «المدارك» كون وجوب السعي له في غير هذه الصورة ، بل في الصورة التي لم ينشأ من المكلّف سفر مسقط للجمعة (٣).

وفيه تأمّل ، لأنّ ما دلّ على وجوب السعي عام مقدّم على إنشاء السفر ، ومستصحب حتّى يثبت خلافه وهو الإسقاط ، فإنّ الإسقاط فرع الثبوت ويترتّب عليه ، ولم يعلم السقوط بعد ، إذ على تقدير تسليم عموم يشمل الفرض النادر ،

__________________

(١) لاحظ! ذكرى الشيعة : ٤ / ١١٥.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ١١٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٦٢.


يمكن أن يقال : إنّ الخاصّ مقدّم ، فتأمّل ، والاحتياط طريقه واضح ، بل لعلّه لا محيص عنه في أمثال المقام.

قوله : (ويكره). إلى آخره.

ادّعى في «التذكرة» إجماع علمائنا عليه (١) ، والخبر هو الذي ذكرنا عن «التذكرة» (٢) ، وتنزيله على الكراهة من جهة ضعف السند مع عدم الانجبار ، لما عرفت من أنّه ليس دليل علمائنا على حرمة السفر بعد الزوال ، فلا يثبت به الحرمة ، مع احتمال كونه حقّا ، لأنّ الحرمة لا تثبت بالاحتمال ، إلّا أنّه يحصل منه شبهة ما ، والتجنّب عن الشبهات مهما أمكن مطلوب شرعا ، على أنّه بملاحظة الإجماع ينتفي احتمال الحرمة ، فيحمل على الكراهة من جهة هذه القرينة ، وهو قابل للحمل على الكراهة بعد وجود القرينة.

وممّا ذكر ظهر التأمّل فيما ذكره المصنّف من قوله : (ويحتمل التحريم). إلى آخره ، إذ كيف يحتمل مع وجود الإجماع الذي استند إليه ، إلّا أن يكون متأمّلا فيه ، أو في كون المراد من الكراهة المعنى المصطلح عليه الآن عند الفقهاء ، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أن المشهور عند فقهائنا المسامحة في أدلّة السنن ، بل في أدلّة الكراهة أيضا على ما نجد.

ومنشأ المسامحة هو ما ذكرناه من أنّ المستند الضعيف وإن لم يثبت الوجوب أو الحرمة ، لعدم العلم ولا الظن المنتهي إلى العلم ، والأصل براءة الذمّة من التكاليف حتّى يعلم ويثبت ، إلّا أنّ التجنّب عن الشبهات ، ودفع الضرر المحتمل مهما أمكن

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨.

(٢) راجع! الصفحة : ١١٥ من هذا الكتاب.


وتيسّر مطلوب شرعا ، وكذلك الاحتياط ، لعموم أدلّتها (١).

وأيضا من خبر الفاسق ـ مثلا ـ وإن لم يثبت حكم شرعي ، بل وامرنا بالتثبّت فيه (٢) ، إلّا أنّه من جهة أنّه يحتمل أن يكون صادقا (٣) ، فيدخل في عموم ما دلّ على الاحتياط والاحتراز عن الشبهات ، أو ما فيه ريبة ما ، أو ضرر ما.

وأيضا العقل يحكم بدفع الضرر المحتمل ، أيّ ضرر كان ، بأيّ احتمال يكون ، إلّا أنّه تتفاوت مراتبه شدّة وضعفا ، بحسب الحسن عنده واهتمامه في الدفع.

وورد في الشرع متابعة العقل (٤) ، سيّما في أمثال هذه الامور ، مع أنّ الحسن والقبح عندنا عقليّان ، والشرع كاشف عنه ، وموافق إيّاه.

وأيضا ورد في غير واحد من الأخبار ، أنّ «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه ، وإن لم يكن الحديث على ما بلغه ، أو كما بلغه» (٥) وأمثال هذه العبارات.

والسند منجبر بالشهرة بين الأصحاب ، مع أنّ منها حسن كالصحيح ، بل ومنها صحيح على ما نقل ، وجعلوا هذا الثواب أعمّ من أن يذكر صريحا أو التزاما ، بأن ورد «افعل» أو «لا تفعل» ، أو مطلوب شرعا ، وأمثال ذلك ممّا يكون على امتثاله ثواب البتة شرعا إن ثبت منه.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٥٤ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) في (د ٢) : صادقا شرعا.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٣٩ الباب ٣ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٥) لاحظ! الكافي : ٢ / ٨٧ باب من بلغه ثواب من الله على عمل ، وسائل الشيعة : ١ / ٨٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.


وقيل بأنّ المستحبّ الشرعي أيضا حكم شرعي ، فيتوقّف على الثبوت من الشرع ، كسائر الأحكام.

وأجاب عن الأخبار المذكورة ، بأنّ المراد من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل شرعي ثبت شرعيّته ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه ، وإن لم يكن الحديث في الثواب كما بلغه (١).

وفيه ، أنّه تقييد من غير دليل ، سيّما مع أنّ الأصحاب فهموا على ما هو الظاهر منها ، فيقوى الظهور غاية القوّة ، مع أنّك عرفت أنّ وجه المسامحة غير منحصرة في هذه الأخبار.

واعترض آخر على المستدلّ بها ، بأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ الله تعالى يعطي الثواب ، وأين هذا من الاستحباب؟ لأنّه رجحان الفعل مع تجويز الترك (٢).

وهذا الاعتراض أيضا ليس بشي‌ء ، لأنّ الفعل إذا كان في فعله ثواب من الشرع ، فلا شكّ في أنّه ليس مساويا لتركه ، بحيث لا يكون فيه رجحان على الترك ، كيف وبإزائه الثواب الموعود من الشرع؟ فكيف لا يصلح هذا للرجحانيّة؟ وأيّ رجحان أولى منه في المستحبّات؟ بل الرجحان فيها مداره عليه.

واعترض آخر بأنّ هذه الأخبار وإن دلّت بظواهرها على قبول خبر ناقل المستحبّ أعمّ من أن يكون عادلا أو فاسقا ، إلّا أنّ الآية الشريفة (٣) دلّت على عدم قبول خبر الفاسق ، أعمّ من أن يكون في المستحبات أو غيرها ، فالتعارض بينهما ليس من باب الخاصّ والعام ، بل من باب العموم من وجه ، فكلّ منهما يصلح لأن

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٢) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٣) الحجرات (٤٩) : ٦.


يكون مخصّصا للآخر ، فلا بدّ في ترجيح مخصّصية أحدهما من مرجّح ، والرجحان في طرف الآية ، لقوّة السند والمتن ، واتّفاق الفتوى والعمل (١).

وهذا الاعتراض أيضا ليس بشي‌ء ، إذ يظهر بالتأمّل أنّ التعارض بينهما من باب العموم والخصوص المطلقين ، لأنّ المستفاد من الآية عدم قبول خبر الفاسق من جهة احتمال كذبه وعدم الوثوق بقوله ، إذ لعلّه يكذب على ما يشير إليه التعليل المذكور فيها ، وهو قوله تعالى (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٢).

ويظهر من هذه الأخبار أنّ الكذب غير مضرّ في نقل الثواب على عمل بأنّه تعالى يعطي الثواب وإن كان الحديث كذبا ، وأيضا لو كان قبول نقل الثواب مشروطا بكونه من العادل ـ كغيره من الأحكام الشرعيّة ـ فلعلّه لم يبق لهذه الأخبار فائدة ، مع أنّك عرفت أنّ الفقهاء الفحول فهموها بالاتّفاق ، كما فهمنا ، وحسبك هذا.

فإن قلت : ما ذكرت لا يتمّ في جميع موارد مسامحاتهم ، لأنّ الاحتياط والتجنّب عن الريبة والضرر ، إنّما يكون فيما احتمل في تركه الضرر ، مثل أن يرد بلفظ الأمر أو النهي وأمثالهما ممّا يدلّ على الضرر والحظر ، وأمّا الأخبار ، فالمتبادر منها ما إذا ذكر الثواب صريحا لا التزاما.

قلت : الاحتياط كما يتحقّق في دفع الضرر ، كذا يتحقّق في جلب المنفعة ، ولا تأمّل في تحقّقه بالنسبة إلى الدينار ، بل الدرهم ، بل وأدون منهما بحسب العرف والعقل ، وثواب الله أعظم ، ثمّ أعظم بمراتب لا تحصى ، سيّما والحسنات يذهبن السيّئات.

__________________

(١) الدرر النجفيّة : ٢٢٨.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.


بل من بذل جهده في إيجاد جميع ما هو مطلوب لمحبوبه ، ولو بعنوان الاحتمال ، وبمحض أنّه لعلّ المحبوب يحبّ هذا ، يرتكبه ليس مرتبته بحسب عرف العقلاء ، بل وبحسب الشرع أيضا ، مثل مرتبة المقتصر على القدر اليقيني من المطلوب ، كما أنّ مرتبة من ارتكب المستحبّات والواجبات ، ليس مثل مرتبة من اقتصر على الواجبات.

فإنّ الأوّل باحتمال أن يكون المحبوب يحبّه ولا مانع منه ، يرغب ويحرص في إيجاده ، فهو في غاية مرتبة من الإطاعة العرفيّة واللغويّة والشرعيّة ، حيث قال تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وغير ذلك ، وهي موكولة إلى اللغة والعرف بلا شبهة ، وكذا في غاية مرتبة من النصح للأئمّة عليهم‌السلام ، ورد فيه أيضا ما ورد (٢) ، وفي غاية مرتبة من المسارعة إلى تحقّق مطالب الشرع ومقاصده ، وورد فيه أيضا ما ورد (٣).

بل من ارتكب مباحا بملاحظة أنّ الله تعالى أباحه ، وفعله من هذه الجهة والحيثيّة ، لعلّه تصير حسنة ووسيلة إلى التقرّب ، وجالبة للمحبّة بلا شبهة ، وورد في تحصيل محبّة الله ما ورد (٤) ، وأيضا ربّما يرتكب من حيث أنّه نسب إلى الله تعالى أنّه أحبّه واستحسنه ، وهذا أيضا طريق آخر للمسامحة (٥).

ولعلّ ما ورد من أنّه من بلغه شي‌ء من الثواب من طرف الله تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب يعطيه الله تعالى (٦) من جهة أنّه عمل بما نسب

__________________

(١) النساء (٤) : ٥٩.

(٢) بحار الأنوار : ٢٧ / ٦٧ ـ ٧٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ١١١ الباب ٢٧ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٤) لاحظ! بحار الأنوار : ٦٧ / ١٣ باب حبّ الله تعالى.

(٥) في (ز ١) و (ط) : طريق آخر بل حجّة.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٨٠ الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.


إلى الله تعالى أنّه يعطيه الثواب ، فكرمه وفضله وجوده وإحسانه يقتضي إعطاء هذا الثواب حينئذ وإن لم يكن الحديث كما بلغه.

فيفهم من هذه الأخبار أنّ إعطاء هذا الثواب محض كرمه وجوده من جهة أنّه نسب إليه ، ففعله المكلّف طمعا فيه والتماسا إيّاه ، فلا يتفاوت أن يكون الثواب مذكورا صريحا ، أو ضمنا والتزاما ، ولا خصوصيّة للصراحة فيما ذكر ، بل لا مناسبة لجعل الصراحة لها مدخليّة ، لما عرفت من أنّ الإعطاء بمحض الكرم والتفضّل ، ولذا فهم الفقهاء الفحول أيضا العموم من دون تأمّل منهم ، فيقوى فهم العموم من هذه الجهة أيضا ، مع أنّ في لفظ الحديث ليس ما يشير إلى اعتبار الصراحة ، فتأمّل جدّا!

وممّا ذكرنا ظهر السرّ في المسامحة ورضاء الشارع فيها في خصوص المستحبّات فعلا أو تركا ، دون غيرها من الأحكام ، والله تعالى هو العالم بأحكامه ، ورسوله وحججه صلوات الله عليهم أجمعين.

وممّا ذكر ظهر حال الكراهة أيضا ، فتأمّل جدّا!


١٣ ـ مفتاح

[كراهة ترك صلاة الجمعة]

من ترك ثلاث جمع متوالية طبع الله على قلبه ، كذا في الصحيح (١) ، وغيره.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله قد فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي ، وله إمام عادل استخفافا بها أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حجّ له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا برّ له ، حتّى يتوب» ، نقله المخالف (٢) والمؤالف (٣).

١٤ ـ مفتاح

[أحكام المسافر]

يشترط في وجوب التقصير في السفر أن يكون مسافة ، وستعرفها ، وأن

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٦ / ١٦٥ الحديث ٥.

(٢) إتحاف السادة المتّقين : ٣ / ٢١٤.

(٣) بحار الأنوار : ٨٦ / ١٦٦.


يكون المسافر قاصدا لها ، مستمرّا إلى انتهائها ، وأن لا يقطع سفره بنيّة إقامة عشرة أيّام ، أو بمضي ثلاثين يوما عليه متردّدا في محلّ واحد ، أو بالوصول إلى وطنه ، وأن لا يكون السفر عمله إلّا إذا جدّ به [السير] ، وشقّ له مشقّة شديدة ، كما في الصحيحين (١) (٢) ، خلافا للمشهور ، وأن يكون جائزا له ، وأن يتوارى عن جدران البلد ، أو يخفى عليه أذانه.

وقيل : كلاهما معا (٣) ، وقيل : الثاني فقط (٤) ، والخلاف فيه قليل الجدوى ، لأنّهما متقاربان.

ومع اجتماع هذه الشروط لا يجوز الإتمام ولا يجزي ، كما لا يجزي القصر مع فقدها ، إلّا إذا كان جاهلا بالحكم ، أو كان ناسيا وقد خرج الوقت ، أو كان في أحد المواطن الأربعة : مكّة ، والمدينة ، ومسجد الجامع بالكوفة ، وحائر الحسين عليه‌السلام ، فإنّ الإتمام في هذه المواضع أفضل.

وقيل : الجاهل يعيد في الوقت (٥) ، وقيل : الناسي يعيد مطلقا (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الحديث ١١٢٥١ و ١١٢٥٢.

(٢) والأصحاب حملوا الصحيحين على محامل بعيدة أقلّها بعدا حمل الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» وهو أنّ المراد به ما إذا أنشأ المكاري والجمّال سفرا غير صنعتهما ، قال : ويكون المراد بجدّ السير أن يكون مسيرهما متّصلا كالحجّ ، والأسفار التي لا يصدق عليها صنعته (ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٧).

ولا ريب أنّ إبقاء هما على ظاهرهما وتخصيص الأخبار الدالّة على إتمام كثير السفر بهما ، كما احتمله قويّا في «المدارك» أولى ، لعدم باعث على التأويل (مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٤). «منه رحمه‌الله».

(٣) الخلاف : ١ / ٥٧٢ المسألة ٣٢٤ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٠٥.

(٤) المراسم : ٧٥ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٠٥.

(٥) الكافي في الفقه : ١١٦.

(٦) المبسوط : ١ / ١٤٠ ، لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٤.


وهذه الأحكام سوى ما ذكر فيه الخلاف مجمع عليها ، والصحاح بها مستفيضة (١).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الباب ١ ، ٤٥٦ الباب ٢ ، ٤٦٣ الباب ٣ ، ٤٦٨ الباب ٤ ، ٤٦٩ و ٤٧٠ الباب ٥ و ٦ ، ٤٩٨ الباب ١٥ ، ٥٠٥ الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر.



قوله : (يشترط في وجوب التقصير). إلى آخره.

اعلم! أنّ الأصل في الصلاة الإتمام ، وإنّما تقصر للسفر أو الخوف ، وكلّ منهما مستقلّ في العلّية.

أمّا الأوّل ، فبالإجماع والأخبار ، وأمّا الثاني ؛ فهو المشهور بين الأصحاب ، وسيجي‌ء تحقيقه ، فالآية الشريفة مأوّلة ، كما سيجي‌ء.

وهذا السفر أعمّ من أن يكون بالأصالة أو بالتبع ـ كسفر الزوجة والمملوك اتّباعا للزوج والمولى ، وكذا الخادم والأجير والأسير والمأمور بأمر الجائر ـ للعمومات والإطلاقات.

وليس الثاني من الأفراد النادرة ، حتّى يقال : المطلق ينصرف إلى غير النادر.

وأيضا المدار في الأعصار والأمصار على ذلك ، وأنّ التابعين كان حالهم حال المتبوعين في القصر يسلكون سلوكهم فيه.

وأيضا مولانا وسيّدنا الرضا عليه‌السلام كان في سفره إلى خراسان يقصر ، كما يظهر من رواية رجاء بن أبي ضحّاك المرويّة في «العيون» (١) المشتملة على أحكام كثيرة كلّها على وفق الحقّ والصواب ، وكان عليه‌السلام مكرها في هذا السفر.

وأيضا العلّة التي ذكرها الرضا عليه‌السلام لأجل القصر جارية فيه شاملة له ، ذكر الفضل ابن شاذان في العلل التي سمعها منه عليه‌السلام ، ورواها الصدوق رحمه‌الله في «الفقيه» (٢) ، مع أنّه ذكر في أوّله ما ذكر.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٦ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٩ الحديث ١١٣٨٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠ الحديث ١٣٢٠.


ورواها في «العيون» و «العلل» أيضا أنّه عليه‌السلام قال : «إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر ، لأنّ الصلاة المفروضة أوّلا إنّما هي عشر ركعات والسبع إنّما زيدت فيما بعد ، فخفّف الله عزوجل عن العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته ، لئلّا يشتغل عمّا لا بدّ له من معيشته رحمة من الله عزوجل وتعطّفا» (١) الحديث.

بل إذا كان السفر بعنوان الطوع والرغبة ، بل والاشتهاء والشوق يقصر فيه ، للعلّة المذكورة ، فالذي يكون بعنوان عدم الطوع والرغبة ، بل ويكون بالكره والنفرة يكون القصر فيه بالعلّة المذكورة بطريق أولى.

فإن قلت : التابع غير قاصد ، وسيجي‌ء أنّ قصد المسافة شرط.

قلت : هو قاصد بالضرورة ، كيف؟ وهو يمشي ويحرّك رجله إلى صوب المنزل ويطوي المسافة ، وإذا كان راكبا ، فهو يركب ويميل مركوبه إلى صوب المنزل ، ويحرّكه ويسوقه إلى أن يطوي المسافة ، ويصل المقصد وينزل فيه ، كالمتبوع ، غاية ما في الباب أنّ قصده بالتبع أو إلجاء أو اضطرار ، كالهارب من السبع والحيّة والعدوّ ، إذ لا شكّ في أنّه يقصد المشي ، وطيّ المسافة خوفا وإلجاء.

وبالجملة ، الفعل الصادر عن الفاعل المختار يكون بشعور ، وإذا كان بشعور فيكون بإرادة قطعا وإن كان كارها ، إلّا أن يصدر عنه بغير شعور ، كالنائم والمغمى عليه وأمثالهما.

وبالضرورة ليس فعل التابع من هذا القبيل ، بل يحرك رجله أو دابّته بشعور منه ، وإن كان تبعا أو خوفا أو كرها بل أكثر الأسفار يكون كرها ، فإنّ

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٩ الحديث ١ ، علل الشرائع ١ / ٢٦٦ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٠ الحديث ١١٣٣٧ مع اختلاف يسير.


السفر قطعة من السقر ، فيسافر العبد خوفا من الله ، أو من سلطان ، أو من ضيق معاش ، أو غير ذلك.

نعم ، إن لم يعرف التابع قصد متبوعه للمسافة ، أو عرف أنّه قاصد لها ، إلّا أنّه لا يعرف ولا يظن أنّه يتبعه أم لا ، لا يكون حينئذ قاصدا للمسافة أصلا لا بالأصالة ولا بالتبع ، فيكون اللازم عليه الإتمام.

وأمّا إذا عرف أنّ المتبوع قاصد للمسافة ، وظهر من قوله أو غيره أنّه أيضا تابع له في المسافة ، سواء حصل له العلم بذلك أو الظنّ يقصر ، لأنّه أيضا قاصد لها بالتبع.

لا يقال : المتبادر من قصد المسافة ـ الذي هو شرط ـ أن يكون بالأصالة والطوع والرغبة.

لأنّا نقول : هذا الشرط ثبت من إجماع العلماء والأخبار ، والفقهاء صرّح بعضهم بأنّه أعمّ ، ويظهر ذلك من كلام غيره أيضا (١) ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار قد عرفت ، وعرفت أيضا فعل الرضا عليه‌السلام وغير ذلك ، والخبر ستعرف أنّه أيضا ظاهر في العموم ، ولو لم يكن ظاهرا فيه لم يكن ظاهرا في اشتراط الخصوص ـ كما ستعرف ـ فيكون التابع داخلا في العمومات والإطلاقات الدالّة على وجوب القصر على حسب ما عرفت ، بل عرفت ما دلّ بعنوان الخصوص أيضا.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ القصر في السفر له شروط :

الأوّل : المسافة ، وهو إجماعي بين الشيعة ، ووافقهم العامّة إلّا النادر منهم (٢) ، والأخبار فيه متواترة ، وستعرف بعضها عند ذكر مقدارها.

__________________

(١) في (ز ١) و (ط) من كلامه أيضا.

(٢) شرح فتح القدير : ٢ / ٢٧ ، لاحظ! الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٧٣.


الثاني : أن يكون المسافر قاصدا لها ، فلو قصد دون المسافة ثمّ قصد دونها لم يقصر ولو قطع أضعاف المسافة ، وكذا لو خرج غير ناو للمسافة (١) وإن بلغ مسافات ، وهذا الشرط أيضا إجماعي.

ويدلّ عليه أنّ المسافة شرط ومعتبر قطعا ، كما عرفت ، واعتبارها إنّما يتحقّق بأحد أمرين : إمّا قصدها ابتداء ، وإمّا قطعها أجمع.

والثاني غير معتبر إجماعا ، ويدلّ على عدم اعتباره الأخبار أيضا ، حيث ورد فيها الأمر بالقصر والإفطار من ابتداء المسافة بعد بلوغ حدّ الترخّص إلى انتهائها (٢) ، وأنّه لا يجب لصحّة القصر والإفطار من الابتداء وما بعده تحقّق قطعها أجمع ، فإن بدا له في الأثناء تكون الصلاة المقصورة التي صلّاها صحيحة ، لا يجب إعادتها ولا قضاؤها ـ كما سيجي‌ء ـ وكذا الحال لو مات في الأثناء ، أو خرج عن التكليف ، فتعيّن الأوّل.

ويدلّ عليه أيضا الأخبار الآتية في الشرط الثالث ، وصحيحة صفوان أنّه سأل الرضا عليه‌السلام : عن الرجل خرج وليس يريد السفر ثمانية فراسخ ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه حتّى بلغ النهروان؟ فقال : «لا يقصّر ولا يفطر ، لأنّه خرج عن منزله ، وليس يريد السفر ثمانية فراسخ ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه» (٣).

وهذا يدلّ على أنّه إذا لم يرد السفر ثمانية فراسخ يكون عليه التمام من جهة أنّه لم يرد السفر أصلا ـ لا أصالة ولا تبعا ـ هذا المقدار ، فمفهومه أنّه إذا أراده في

__________________

(١) في (ز ١) و (ط) : وكذا لو خرج قاصد غير المسافة.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الباب ٦ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٥ الحديث ٦٦٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٨ الحديث ١١١٩٠ مع اختلاف يسير.


الجملة يكون عليه القصر.

مع أنّك عرفت أنّ الأصل في المسافر القصر مطلقا خرج من لم يقصد المسافة مطلقا ـ لا أصالة ولا تبعا ـ وبقي الباقي فيه.

الثالث : استمرار ذلك القصد إلى انتهاء المسافة ، فلو رجع عن قصده قبل بلوغها أتمّ من حين الرجوع.

وكذا لو تردّد عزمه في الذهاب والرجوع ، وهو أيضا رجوع ، وأمّا ما مضى من الصلاة التي صلّاها فسيجي‌ء حكمها.

ويدلّ على هذا الشرط صحيحة أبي ولّاد ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : إنّي خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة ، فسرت يومي ذلك اقصر الصلاة ثمّ بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة فلم أدر اصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام؟ فقال : «إن كنت سرت في يومك بريدا لكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالقصر ، لأنّك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك ، وإن كنت لم تسر بريدا فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام» (١).

وهذه الصحيحة وإن تضمّنت الأمر بقضاء الصلوات الواقعة قبل البداء الواقع قبل سير البريد ، مع أنّ هذا القضاء غير واجب على ما ستعرف ، فلا يكون هذا الأمر باقيا على حقيقته وظاهره ، إلّا أنّه غير مضرّ ، لأنّ بعض الخبر إن كان محمولا على خلاف الحقيقة والظاهر ، لا يصير منشأ للوهن في الباقي ، كما حقّق في محلّه.

ورواية سليمان بن حفص المروزي قال : قال الفقيه عليه‌السلام : «التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا ، والبريد ستّة أميال وهو فرسخان فالتقصير في

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٨ الحديث ٩٠٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٣ ، مع اختلاف.


أربعة فراسخ ، فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثنى عشر ميلا ، وذلك أربعة فراسخ ، ثمّ بلغ فرسخين ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر ، وإن رجع عمّا نوى عند ما بلغ فرسخين وأراد المقام فعليه التمام ، وإن كان قصر ثمّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة» (١).

وضعف السند منجبر بموافقة المشهور ، مع أنّ سليمان رجل فاضل شيعي بحسب الظاهر ، كما حقّق في الرجال (٢) ، وباقي السند ثقات.

وأمّا تضمنها الأمر بإعادة الصلاة فكما عرفت ، وأمّا تضمّنها كون البريد ستّة أميال والبريد فرسخين ، فمحمول على فراسخ الخراسانيّة ، لأنّ فرسخها يقارب فرسخين ، وربّما يكون الآن فرسخ مرو كذلك ، أو كان في ذلك الزمان كذلك.

وما رواه الكليني في «الكافي» والصدوق في «العلل» بسندهما عن إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا ، فلما صاروا على فرسخين أو ثلاثة أو أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلّا به فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلّا بمجيئه إليهم ، وأقاموا على ذلك أيّاما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون؟ هل ينبغي أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟

قال : «إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة أقاموا أم انصرفوا

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦٠ مع اختلاف يسير.

(٢) تنقيح المقال : ٢ / ٥٦.


فإذا مضوا قصّروا» (١).

ثمّ لا يخفى أنّ المسافة ـ على ما ستعرف ، وهي ثمانية فراسخ ـ أعم من أن يكون ذهابا فقط أو أربعة ذهابا وأربعة إيابا ، والتي قلنا : إنّه يشترط قصدها ، ويشترط استمرار قصدها هي هذا الأعم ، فإن قصده يكفي ، ولا يشترط قصد الخصوص والتعيين ، وإن كان صحيحا.

ولا يضرّ تبدّل الأشخاص قصدا وفعلا في الأثناء ، كمن كان قصده الثمانية ذهابا ، فتبدّل بالأربعة ذهابا والأربعة إيابا في أيّ وقت تبدّل من ابتداء الأربعة الذهابيّة إلى انتهاءها ، وكذا لو كان الأمر بالعكس ، كما أنّه لا يضرّ تبدّل طريق بطريق آخر في الأثناء ، مع كون كلّ واحد منهما مسافة ، سواء كان هذا التبديل في الذهابيّة فقط كتبديل طريق مسافته ثمانية ذهابا بطريق آخر مثله ، أو طريق مسافته أربعة ذهابا وأربعة إيابا بطريق آخر مثله.

فما في هذه الأخبار من عدّ الأربعة مسافة محمول على ضمّ الأربعة الإيابيّة أو الذهابيّة الاخرى ، كما سيجي‌ء التحقيق في ذلك.

ثمّ اعلم! أنّ استمرار النيّة الذي هو شرط معناه أن لا يرجع عن نيّته ، كما قلنا ، لا أنّه لا بدّ أن يكون ناويا إلى آخر المسافة ، إذ لا يضرّ النوم في المسافة ، ولا عدم الخطور بالبال مع كون الذهن مشغولا بامور اخر ولا فارغ البال.

بل قال في «المدارك» : ولا يقدح عروض الجنون في الأثناء ، وكذا الإغماء (٢) وذلك لأنّ القدر الذي ثبت من الأخبار وكلام الأخيار هو أن يرجع عن قصده

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٣ الحديث ٥ ، علل الشرائع : ٢ / ٣٦٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٥ و ١١١٨٦ مع اختلاف يسير.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٣٩ و ٤٤٠.


ـ على حسب ما ذكرنا وعرفت ـ لأنّ مقتضى العمومات القصر ، إلّا إذا رجع عن النيّة.

والظاهر من مفهوم العلّة المذكورة في الخبر أيضا ذلك ، فتأمّل جدّا!

قال في «المدارك» : ولو منع من السفر فكمنتظر الرفقة ، ولو كان قد صلّى قصرا قبل الرجوع أو التردّد ، فالأظهر أنّه لا يعيد مطلقا ، لأنّه صلّى صلاة مأمورا بها فكانت مجزية (١).

أقول : وجه الإجزاء أنّه قبل عروض الرجوع لا شكّ في كون القصر هو الفرض عليه ، فيكون بفعله ممتثلا لا محالة ، فيكون الامتثال مستصحبا حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت ، لأنّ المتبادر ممّا دلّ على وجوب التمام الصورة التي لم يقع الامتثال والخروج عن العهدة ، مضافا إلى أنّ الأصل براءة الذمّة.

ورواية المروزي من جهة عدم صحّة السند لا تفي لإثبات الوجوب ، والأخبار إنّما هو بالنسبة إلى القدر الذي وافق فتوى المشهور لا أزيد ، وفرق بين كون عمل الأصحاب بنفس الرواية ، أو كون الرواية موافقة لفتواهم ، فإنّ الأوّل يجبر ضعف سندها بخلاف الثاني ، كما حقّقت في «الفوائد» (٢).

وأمّا صحيحة أبي ولّاد ، فلم يظهر قائل بمضمونها ، لأنّ الشيخ يقول : بوجوب الإعادة مع بقاء الوقت لا القضاء (٣) ، مع أنّه رحمه‌الله في نهايته وافق المشهور (٤).

ومع ذلك يعارضها صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : في الرجل يخرج مع

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٠.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤٨٧.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤١.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٣.


القوم في السفر يريده ، فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا وانصرف بعضهم في حاجة فلم يقض له الخروج ، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين؟ قال : «تمّت صلاته ولا يعيد» (١).

ومعلوم أنّها أرجح من جهة مطابقة الاصول وفتوى المشهور ، ومع ذلك الأحوط الإعادة ، بل القضاء أيضا ، وإن كان الأظهر الاستحباب جمعا بين الأخبار وتسامحا في أدلّة السنن ، والله يعلم.

قوله : (وأن لا يقطع). إلى آخره.

أقول : هنا مقامان :

الأوّل : إنّ كلّ واحد من هذه الامور موجب للإتمام ، وعليه علماؤنا الكرام ووردت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم صلوات الله الملك الغفّار.

أمّا ما ورد في الإقامة ، فهي كثيرة :

منها : صحيحة معاوية بن وهب ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا دخلت بلدا وأنت تريد مقام عشرة أيّام فأتمّ الصلاة حين تقدّم» (٢).

ومنها : صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا دخلت أرضا فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيّام فأتمّ الصلاة» (٣).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٢ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٧ الحديث ٦٦٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٨ الحديث ٨٠٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢١ الحديث ١١٣٣٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٠ الحديث ١١٢٨٣.


وأمّا ما ورد في الوصول إلى الوطن ، فأخبار أيضا :

منها : رواية إسماعيل بن الفضل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل سافر من أرض إلى أرض وإنّما ينزل قراه وضيعته ، قال : «إذا نزلت قراك وضيعتك فأتمّ الصلاة ، وإذا كنت في غير أرضك فقصر» (١).

وقصور السند منجبر بعمل الأصحاب ، مع أنّ المسافر بعد الوصول إلى وطنه لا يصدق عليه لفظ «المسافر» لا لغة ولا عرفا ، بل هو حاضر ، والقصر مشروط بالسفر أو الخوف ، وبانتفاء هذين الأمرين يجب الإتمام.

وأمّا ما ورد في تردّد ثلاثين يوما عليه في محلّ واحد فأخبار أيضا :

منها : قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن وهب : «وإن أردت دون العشرة فقصّر ما بينك وبين شهر ، فإذا تمّ الشهر فأتمّ الصلاة» (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام في حسنة أبي أيّوب : «فإن لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعدّ ثلاثين يوما ثمّ ليتمّ» (٣).

الثاني : إنّ كلّ واحد منها قاطع للسفر ، بمعنى أنّه لا بدّ معه من إنشاء سفر جديد آخر حتّى يجوز له التقصير ، وأنّه لو كان من أوّل المسافة ناويا للإقامة ، أو الوصول إلى الوطن في أثناء المسافة (٤) لا يقصر إلى موضع الإقامة والوطن وانقطاع السفر بالوصول إلى الوطن ، أو قصد الإقامة في أثنائها هو المعروف من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٧ الحديث ١٣٠٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٨ الحديث ٨١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الحديث ١١٢٥٧ مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.

(٣) الكافي ٣ / ٤٣٦ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٤٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٦.

(٤) في (ز ١) و (ط) : في أثناء السفر.


الأصحاب ، وفي «المدارك» : لا خلاف بين الأصحاب في ذلك (١) ، انتهى.

وحكم مضي الثلاثين يوما متردّدا في محلّ واحد حكمه على النحو الذي ذكره المصنّف.

والدليل على جميع ما ذكرناه ما قدّمناه من أنّ الأصل في الصلاة الإتمام ، ولا يجوز العدول عنه إلى التقصير إلّا بعد قيام دليل عليه ، ولم يقم ، لأنّ الأدلّة الدالّة على اشتراط المسافة للقصر ومقدار المسافة المشترطة بأجمعها يقصّر فيها ، وأنّها ليست بحيث يقصّر في بعضها ، ويتمّ في البعض الآخر ، منها بعد البلوغ إلى حدّ الترخّص ، فإذا اقيم إقامة شرعيّة موجبة للإتمام ، أو وصل إلى وطنه ـ الذي يجب عليه الإتمام فيه ـ في أثنائها لم تكن تلك المسافة ، المسافة المشترطة للقصر ، لانحصارها في خصوص المسافة التي ذكرناها ، بل لا بدّ للتقصير حينئذ من إنشاء سفر على حدة ومسافة جديدة لا يتخلّل بينها ما يتخلّل في الأوّل ، ولا معنى للقطع إلّا هذا.

وصحيحة زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «من قدم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه التمام وهو بمنزلة أهل مكّة» (٢) الحديث.

وصحيحة صفوان ، عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن عليه‌السلام عن أهل مكّة إذا زاروا ، عليهم إتمام الصلاة؟ قال : «نعم ، والمقيم [بمكّة] إلى شهر بمنزلتهم» (٣).

وجه الدلالة عموم المنزلة من غير تخصيص ، وقد عرفت أنّ الحاضر إنّما يقصّر بعد إنشاء السفر الشرعي ، واجتماع شرائطه ، وأنّ من دخل وطنه يكون

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤١.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٨٨ الحديث ١٧٤٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٤ مع اختلاف يسير.

(٣) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٨٧ الحديث ١٧٤١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٥.


حاضرا لغة وعرفا ، وأنّ السفر إنّما هو بالخروج عن الوطن ، وأن لا يكون حاضرا.

وينبّه على ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام : من أنّ «الأعراب لا يقصّرون لأنّ منازلهم معهم» (١) ، وفي الخبر الآخر : «لا يقصّرون لأنّ بيوتهم معهم» (٢) ، فإذا كان مع الظعن والسير لا يقصّرون من جهة أنّ بيوتهم معهم ومنازلهم ، فإذا أنشئوا سفرا فمن حين خروجهم من بيتهم ، فكيف إذا كانوا في حال عدم الظعن وعدم السفر والسير في بيوتهم ومنازلهم لا يكون كذلك؟ فتأمّل جدّا! وموثّقة ابن بكير ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يخرج من منزله يريد منزلا له آخر أو ضيعة له اخرى ، قال : «إن كان بينه وبين منزله أو ضيعته التي يؤمّ بريدان قصّر ، وإن كان دون ذلك أتمّ» (٣).

وموثّقة سماعة الآتية في مبحث : أن يكون السفر جائزا ، وستقف على وجه دلالتها.

ويدلّ عليه أيضا ، أنّه إذا تعلّق الحكم بوجوب الإتمام حين الإقامة ، أو الوصول إلى البلد والكون في الوطن ، أو ثلاثين يوما ، يكون الحكم بوجوب الإتمام مستصحبا ، حتّى يثبت خلافه ، ولا يثبت إلّا بالسفر بعد ذلك سفرا مستجمعا لشرائط القصر (٤).

ويدلّ عليه أيضا صحيحة أبي ولّاد الدالّة على وجوب الإتمام على ناوي الإقامة ، الذي صلّى صلاة واحدة بتمام حتّى يخرج (٥) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد من

__________________

(١) الكافي ٣ / ٤٣٧ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٨ نقل بالمعنى.

(٢) الكافي ٣ / ٤٣٨ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧ نقل بالمعنى.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢١ الحديث ٦٤٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الحديث ١١٢٥٨.

(٤) في (ز ١) و (ط) : لشرائط الصحّة.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٣ ، الاستبصار :


الخروج السفر الشرعي ، كما لا يخفى.

ويدلّ عليه مطلقات الأخبار الواردة في وجوب الإتمام بعد نيّة الإقامة وكذا الحال في الوطن ، وبعد الثلاثين يوما (١) ، فتأمّل جدّا!

فائدتان :

الاولى : قصد الإقامة ، هو العزم عليها مع الوثوق بتحقّقها ، وربّما لا يكون للمكلّف قصد وإرادة في الإقامة ، إلّا أنّه يعلم أنّه يقيم عشرا ، وهذا أيضا داخل في قصد الإقامة الشرعي على ما دلّ عليه بعض الصحاح ، مثل صحيحتى زرارة (٢).

فالقصد هنا أيضا أعمّ من أن يكون بالأصالة ، أو بالتبع إلجاء واضطرارا.

وأمّا إذا حصل المظنّة بأنّه يقيم عشرا من دون عزم على الإقامة عشرا ، فلا يكون قصد الإقامة ، وسيجي‌ء تتمّة الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

الثانية : لا خلاف بين الأصحاب في أنّ العبرة في الشهر بالثلاثين (٣) مع حصول التردّد في غير أوّل يوم من الشهر ، سواء كان في أوائله ، أو في أواسطه ، أو في أواخره.

وإنّما اختلفوا في اعتباره ـ أيضا ـ مع حصول التردّد في أوّل يوم منه ، أو أنّ الاعتبار بالهلال وإن نقص عن الثلاثين ، فالأكثر على الثاني ، والأظهر الأوّل ، اتّكالا على الحسنة المتقدّمة ، حيث اشتملت على قوله عليه‌السلام : «فليعدّ ثلاثين يوما ثمّ ليتمّ» (٤).

__________________

١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥ ، مع اختلاف.

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) الكافي ٣ / ٤٣٥ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٦ ، ٥ / ٤٨٨ الحديث ١٧٤٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٠ و ٥٠١ الحديث ١١٢٨٣ و ١١٢٨٤.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٣ ، ذخيرة المعاد : ٤١٢ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٧٩.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٦.


حجّة الأكثر إطلاق الصحيحة المتقدّمة (١) ، وفيه نظر من وجهين :

أمّا أوّلا ، فبأنّ لفظ «الشهر» كالمجمل ، إذ لا يتبادر منه كونه ثلاثين بخصوصه ، أو تسعة وعشرين كذلك ، بل يحتمل الأمرين ، وورد الحسنة ـ التي هي حجّة عند الكلّ ـ حيث استندوا في خصوص الثلاثين إليها ، ولفظ «الثلاثين» في الحسنة كالمبيّن ، فيجب حمل المجمل على المبيّن ، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل المجمل على المبيّن بعد التقاوم ، وقد حصل هنا ، فتأمّل!

وأمّا ثانيا ، فلأنّ لفظ «الشهر» وإن كان مطلقا ، إلّا أنّ شموله لهذه الصورة محلّ تأمّل من حيث ندرتها ، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل المطلقات على الشائع دون النادر ، ولا شكّ أنّ المتعارف الكثير الوقوع حصول التردّد في عرض أيّام الشهر ، لا حصوله في خصوص اليوم الأوّل.

هذا ، بل ربّما كان المتبادر بحسب العرف من هذه الجهة من لفظ «الشهر» هنا ثلاثين يوما ، وإن فرضنا أنّ المتبادر من المطلق هو القدر المشترك بين الهلالي والعددي الذي هو ثلاثين يوما.

وبالجملة ، البناء على كون المراد من الشهر خصوص الهلالي فاسد ، لفساد حمل المطلق على خصوص الصورة النادرة ، فضلا عن المطلقات ، لأنّ ما دلّ على الشهر كثير ، ولأنّ الأصل عدم القيد ، فضلا عن القيود ، وهي قيد الهلاليّة ووقوع التردّد في أوّل الشهر لا غير ، مضافا إلى إشعاره حينئذ بأنّ الحكم مخصوص بهذه الصورة خاصّة ، وفيه ما فيه.

والبناء على أنّ المراد هو المعنى الأعم على فرض صحّته ، يلزم تجويز البناء على كلّ واحد منهما في جميع الصور ، وفيه أيضا ما فيه ، فتأمّل جدّا!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.


والبناء على أنّ المراد من الشهر خصوص الهلالي لا غير في صورة وقوع التردّد في أوّل الشهر ، والعددي خاصّة لا غير في صورة وقوع التردّد في غير أوّل يوم منه ، فيه أيضا ما فيه ، فضلا عن أن يستند بذلك على ذلك.

قوله : (وأن لا يكون السفر عمله). إلى آخره.

لا خلاف بين الأصحاب في اعتبار هذا الشرط للقصر ، بل هو مقطوع به في كلامهم ، وإنّما اختلفت عباراتهم في تأديته.

فقيل : أن لا يكون سفره زائدا على حضره (١).

وقيل : أن لا يكون ممّن يلزمه الإتمام سفرا (٢).

وقيل : أن لا يكون مكاريا ، ولا من سمّي في الأخبار ممّن يجب عليهم الإتمام (٣).

وقيل : أن لا يكون السفر عمله ، كما فعله صاحب «المدارك» (٤) ، وتبعه المصنّف أيضا ، والتعبير عنه به أجود ، وأجود منه ما فعله في «الوافي» من ضمّ «من كان بيته ومنزله معه» (٥) ، لورود ذلك في الأخبار ـ أيضا ـ بعنوان العلّة المنصوصة ، كما ورد ذلك أيضا في الخبر كذلك (٦) ، والعلّة المنصوصة حجّة ، مضافا إلى ورود كثير [من الأخبار] فيمن هو مورد العلّتين وفيمن جرتا فيه.

__________________

(١) الانتصار : ٥٣ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٤٤٩ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٥ ، ذخيرة المعاد : ٤٠٩.

(٢) قال به المحقّق الأوّل في المعتبر : ٢ / ٤٧٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٣ / ٣٨٧ و ٣٨٨.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٩ و ٤٥٠.

(٥) الوافي : ٧ / ١٦٥.

(٦) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ و ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٧ و ١١٢٣٨.


فالتعبير عن هذا الشرط بكون المكلّف ممّن لا يكون السفر عمله ولا يكون بيته ومنزله معه أجود ، نظرا إلى المنصوصيّة وخلوصه عن شائبة اعتراض يرد عليه ، بخلاف تلك التعابير ، فإنّها مع عدم منصوصيّتها مورد للاعتراض والنقض ، وفي ذكره ليس كثير فائدة ، فهو بالإعراض عنه جدير.

هذا ، ويمكن دفع النقض والاعتراض عنها بنحو من التوجيه ، بحيث يرجع حاصلها إلى ما قال المصنّف بأنّ مرادهم ممّا ذكروه في التعابير كون السفر عمله.

والمستند في المقام روايات ، منها صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «أربعة قد يجب عليهم التمام في السفر كانوا أو في الحضر : المكاري ، والكري ، والراعي والاشتقان (١) لأنّه عملهم» (٢).

وصحيحة يونس ، عن إسحاق بن عمّار قال : سألته عن الملّاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال : «لا ، بيوتهم معهم» (٣).

وما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : «الأعراب لا يقصرون وذلك لأنّ منازلهم معهم» (٤). والسند منجبر بالشهرة.

ومنها : صحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «ليس على الملّاحين في سفينتهم تقصير ، ولا على المكارين ، ولا على الجمّالين» (٥).

__________________

(١) الاشتقان : البريد. (مجمع البحرين : ٦ / ٢٧٢).

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٦ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٤.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٢٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٨ مع اختلاف يسير.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٤ الحديث ٥٢٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٤٠.


ومنها : صحيحة هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المكاري والجمّال الذي يختلف وليس له مقام ، يتمّ الصلاة ويصوم شهر رمضان» (١).

وصحيحة عبد الله بن المغيرة ، عن السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام : «سبعة لا يقصّرون الصلاة : الجابي الذي يدور في جبايته ، والأمير الذي يدور في إمارته ، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق ، [والراعي] ، والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر ، والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ، والمحارب الذي يقطع السبيل» (٢).

وصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «أصحاب السفن يتمّون الصلاة في سفينتهم» (٣).

وبالجملة ، المستفاد من مجموع الأخبار ، أنّ من كان السفر عمله يجب عليه الإتمام ، كما ذهب إليه العلّامة رحمه‌الله ، والشهيد رحمه‌الله (٤) ، لا أنّ كلّ من كثر سفره يجب عليه ، كما يظهر من كلام آخرين (٥) ، أو من كان سفره أكثر من حضره ، كما يظهر من المفيد (٦) ، والشيخ في «النهاية» (٧) وغيرهما (٨) ، إذ لم نجد دليلا عليهما.

__________________

(١) الكافي : ٤ / ١٢٨ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٨ الحديث ٦٣٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ الحديث ١١٢٣٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٢ الحديث ١٢٨٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٤ الحديث ٥٢٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٢ الحديث ٨٢٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٤١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٦ الحديث ٨٩٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٩ مع اختلاف يسير.

(٤) قواعد الأحكام : ١ / ٥٠ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٩٣ و ٣٩٤ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٦.

(٥) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١ ، المهذب البارع : ١ / ٤٨٤ ، الروضة البهية : ١ / ٢٧٣.

(٦) المقنعة : ٣٤٩.

(٧) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٨) الانتصار : ٥٣ ، المراسم : ٧٤ ، الكافي في الفقه : ١١٦ ، السرائر : ١ / ٣٣٨ ، شرائع الإسلام : ١ / ١٣٤.


ولذا قال في «المدارك» : المشتهر على ألسنة الفقهاء أنّ كثير السفر يجب عليه الإتمام ، والمراد به من كان السفر عمله كالمكاري والجمال ، فإنّ من هذا شأنه يصدق عليه أنّه كثير السفر عرفا (١) ، وفيه ما فيه.

سيّما ما نقله عن ابن إدريس أنّه اعتبر في تحقّق الكثرة ثلاث دفعات ، ثمّ ذكر عنه أنّه قال : إنّ صاحب الصنعة من المكاري والملّاحين يجب عليهم الإتمام بنفس خروجهم إلى السفر ، لأنّ صنعتهم تقوم مقام تكرّر من لا صنعة له ممّن سفره أكثر من حضره (٢).

ثمّ نقل عن العلّامة أنّه استقرب في «المختلف» تعلّق الإتمام في ذي الصنعة وغيره ممّن جعل السفر عادته بالدفعة الثانية ، بعد ما نقل عن الشهيد أنّه قال : إنّ ذلك ـ أي كون السفر عمل شخص ـ إنّما يحصل غالبا بالسفر الثالثة (٣).

ثمّ اختار هو رحمه‌الله الرجوع في ذلك إلى العرف ، وكذا في صدق اسم المكاري والجمال والملّاح (٤) ، والأمر كما ذكره ، لأنّ موضوعات الأحكام يرجع فيها إلى اللغة والعرف في أمثال هذه الألفاظ.

لكن المتبادر من المطلقات هو الأفراد الشائعة ، وليس منها من يكون السفر حال الصنعة سفره الأوّل أو الثاني ، سيّما مع ما ورد في صحيحة هشام من القيد ، أعني قوله عليه‌السلام : «الذي يختلف وليس له مقام» (٥).

وكذا رواية سندي بن الربيع (٦) ، والمراد مقام عشرة أيّام ، كما ستعرف

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٩.

(٢) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥١ ، لاحظ! السرائر : ١ / ٣٣٩ و ٣٤٠.

(٣) نقل عنهما في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥١ ، لاحظ! مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٩ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٦.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥١.

(٥) راجع! الصفحة : ١٤٩ من هذا الكتاب.

(٦) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٨ الحديث ٦٣٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٧ الحديث ١١٢٤٢.


وسيجي‌ء تمام الكلام إن شاء الله تعالى.

وقد عرفت أيضا أنّه ورد أيضا علّة اخرى منصوصة في بعض الأخبار المعتبرة ، وهي «أنّ بيوتهم ومنازلهم معهم» (١) ، فهي أيضا معتبرة وحجّة ، فلعلّه والمصنّف أيضا أدخلاها في العلّة الاولى وجعلاها أعم ، أو أنّهما لم يعتبرا بالثانية لعدم صحّة سند ما ورد فيه ، ولم يعتبرا اعتباره من موافقته لفتوى الأصحاب ، وغيره من الأخبار الاخر ، مع أنّه ذكر في أوّل «الكافي» ما ذكر.

مع أنّ سند إحدى الروايتين علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن إسحاق بن عمّار ، وعلي ومحمّد ثقتان ، ويونس ثقة وممّن أجمعت العصابة (٢). وقدح بعض القمّيين في مثل هذا السند لا عبرة به على المشهور والحقّ (٣).

مع أنّ إسحاق بن عمّار مشترك بين الثقة الجليل الإمامي والفطحي ، ولا يبعد أنّ المطلق منصرف إلى الجليل ، فتأمّل!

وسند الاخرى أيضا صحيح إلى سليمان بن جعفر الجعفري ، وهو في غاية الوثاقة والجلالة ، فلعلّه لا يضرّ إرساله ، فتأمّل!

مع أنّ نفس تلك العلّة في غاية المتانة والوضوح ، بل الظاهر أنّهم ليسوا بمسافرين ، بل في بيوتهم حاضرين ، لأنّه بيتهم دائما ومنزلهم من يوم تولّدهم إلى أن يموتوا ، فلو كان يجب عليهم القصر فيها فمن أوّل عمرهم إلى آخره ، فيحتمل أيضا أن يكون عدم تعرّضهما من جهة كونهم داخلين في الحاضرين ، فتأمّل!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧ و ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٨.

(٢) رجال الكشّي : ٢ / ٨٣٠ الرقم ١٠٥٠.

(٣) نقله الشيخ في الفهرست : ١٨١ الرقم ٧٨٩.


مع أنّه ورد في علّة السفر ما ذكرناه ، ولا يجري فيمن كان بيته ومنزله معه وهو فيه دائما ، فتأمّل جدّا!

ثمّ اعلم! أنّه نقل عن ابن أبي عقيل أنّه عمّم وجوب القصر على كلّ مسافر ولم يستثن أحدا (١).

والظاهر أنّ استثناء المكاري وغيره ممّا ذكرنا إجماعي في الجملة ، فهو خارج معلوم النسب.

ويظهر من «أمالي الصدوق» ذلك الإجماع أيضا ، إذ قال : إنّ من دين الإماميّة ، الإقرار بأنّ الذين يجب عليهم التمام في الصلاة والصوم في السفر المكاري ، والكري ، والاشتقان ـ وهو البريد ـ والراعي ، والملّاح ، لأنّه عملهم (٢) ، انتهى.

ولعلّه نظر ابن أبي عقيل إلى العمومات ، وخصوص ما رواه الشيخ بسنده عن إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظم عليه‌السلام : عن الذين يكرون الدوابّ يختلفون كلّ الأيّام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال : «نعم» (٣).

وبطريق آخر عنه عليه‌السلام : عن المكارين الذين يكرون الدوابّ ، وقلت : يختلفون كلّ أيّام كلّما جاءهم شي‌ء اختلفوا ، فقال عليه‌السلام : «عليهم التقصير إذا سافروا» (٤).

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٦.

(٢) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٦ الحديث ٥٣٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٣٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٦.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٦ الحديث ٥٣٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٤ الحديث ٨٣٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٧ مع اختلاف يسير.


والعمومات مخصّصة بما ذكرنا من الأدلّة ، والخصوص لا يقاومها من حيث العدد والسند والفتاوى والإجماع المذكور ، وحمل على ما إذا سافروا إلى غير ما يختلفون فيه ، أي : السفر الذي ليس صنعتهم وعملهم ، مثل : السفر إلى الحجّ أو الزيارة إذا كان المقصود بالذات هو الحجّ والزيارة لا ما هو الصنعة.

ويدلّ على ذلك رواية السكوني السابقة (١) ، والحقّ أنّها صحيحة ، لأنّ السكوني ثقة على ما حقّق في محلّه (٢) ، مع أنّ ابن المغيرة ممّن أجمعت العصابة (٣).

ووجه الدلالة أنّ الظاهر منها أنّ الجابي يتمّ في جبايته ، وقس عليه غيره من المذكورين.

ويدلّ عليه أيضا ما دلّ على أنّ الأعراب يتمّون ، لأنّ بيوتهم معهم (٤) ، إذ يفهم من العلّة أنّهم لو سافروا عن بيتهم لا يتمّون.

والصحيحة الدالّة على أنّ علّة الإتمام كون السفر عملهم (٥) ويدلّ مفهوم العلّة على أنّه لو لم يكن عملهم لا يتمّون ، والمفروض كون هذا السفر غير سفر عملهم ، مثلا يسافر إلى الحجّ وقصده أن يحجّ ، يخرج معه دوابّه أم لا يخرج؟ يكريها فيه أم لا يكري؟

بل لو لم تكن دابّته من دوابّه معه يسافر أيضا ، لأنّ الداعي هو الحجّ ، وهو المحرّك ، غاية ما في الباب أنّه يركب دابّته ، لأنّه أسهل عليه ، وربّما يكري باقي دوابّه أيضا ، لأنّه أنفع له وأولى ، لا أنّه المقصود بالذات ، والمحرّك له والموقع إيّاه فيه.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٤٩ من هذا الكتاب.

(٢) تعليقات على منهج المقال : ٥٥ ـ ٥٧.

(٣) رجال الكشّي : ٢ / ٨٣٠ الرقم ١٠٥٠.

(٤) راجع! الصفحة : ١٤٨ من هذا الكتاب.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٧ الحديث ١١٢٤٤.


ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة محمّد بن جزك المرويّة في «الكافي» و «الفقيه» و «التهذيب» قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : إنّ لي جمّالا ولي قوام عليها ولست أخرج فيها إلّا في طريق مكّة لرغبتي إلى الحجّ أو في الندرة إلى بعض المواضع ، فما يجب علي إذا أنا خرجت معها أن أعمل ، أيجب التقصير في الصلاة والصوم أو التمام؟ فوقّع عليه‌السلام : «إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كلّ سفر إلّا إلى مكّة فعليك تقصير وفطور» (١).

وجه التأييد أنّ المتبادر سفر يكون من جملة الأسفار التي يلزمها فيه ويخرج معها في كلّ منها ، ويعبّر عنها بما يختلفون فيه.

والمفروض أنّ هذا السفر إلى غير ما يختلفون فيه ، وأنّه لا يلزم جمالها فيه ، بل إن كان بجمالها وإن كان يغيّر جمالها يسافر البتّة ، كما قلنا.

ومع ذلك ربّما كان المتبادر ما دلّ على وجوب الإتمام هو سفر عملهم لا غير ، فتدخل الغير في العمومات الدالّة على وجوب القصر ، فالحكم المذكور لا غبار عليه ، وادّعى ابن [أبي] الجمهور في «العوالي» إجماع فقهائنا عليه (٢).

قوله : (كما في الصحيحين خلافا للمشهور). إلى آخره.

هما صحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام : «المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير فليقصّرا» (٣).

وصحيحة فضل بن عبد الملك أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن المكارين الذين

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ١١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٢ الحديث ١٢٨٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٦ الحديث ٥٣٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٨ ، مع اختلاف.

(٢) نقل عنه في جواهر الكلام : ١٤ / ٣٧٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الحديث ١١٢٥١.


يختلفون؟ فقال : «إذا جدّوا السير فليقصّروا» (١).

وهما وإن كانا صحيحين ، إلّا أنّ عدم عمل الأصحاب بهما يوجب شذوذهما ، وورد عنهم عليهم‌السلام : الأمر بترك الشاذّ (٢) ، والأصحاب أيضا متّفقون على ترك العمل بما هو شاذّ ، يظهر ذلك على المطّلع المتتبّع.

وإذا كان النقّادون (٣) الخبيرون المطّلعون الشاهدون اتّفقوا على ترك العمل فكيف يبقى وثوق؟ ولا دليل على حجيّة مثله.

وكما أنّ العدالة والفقاهة وأمثالهما ـ ممّا أمر الأئمّة عليهم‌السلام باعتباره في مقام ترجيحات الأخبار وغيره (٤) ـ إنّما يثبت لنا من أقوال الفقهاء وطريقتهم في الاصول ، فكذلك الشذوذ والاشتهار بين الأصحاب ، فتأمّل جدّا!

فلما ذكر ترك العمل بظاهرهما ـ مضافا إلى ما ستعرف ـ واختلفوا في تنزيلهما ، فقال الشيخ : الوجه فيهما ما ذكره الكليني رحمه‌الله من أنّهما محمولان على من يجعل المنزلين منزلا (٥) ، فيقصّر في الطريق ، ويتمّ في المنزل (٦).

واستشهد له بما رواه مرسلا ومرفوعا إلى الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الجمّال والمكاري إذا جدّ بهما السير فليقصّرا فيما بين المنزلين ويتما في المنزل» (٧).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٣١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الحديث ١١٢٥٢.

(٢) الكافي : ١ / ٦٧ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٣) في (ز ١) : الثقات.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٣٧ ذيل الحديث ٢.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ ذيل الحديث ٥٢٩.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٣٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٣٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩١ الحديث ١١٢٥٣.


ولا دلالة فيها على جعل المنزلين منزلا ، ولعلّهما فهماه من لفظ «جدّ بهما السير» فإنّه في الأكثر كذلك ، فإنّ المنزل معتبر عندهم متعيّن غالبا ، فإذا زاد سيرهم عن المنزل الأوّل يراعون الثاني ، فتأمّل!

وحملهما الشهيد على ما إذا سافرا سفرا غير صنعتهما ، بأن يكون مسيرهما متّصلا كسفر الحجّ (١) ، واستقربه في «المدارك» (٢) ، وفيه ، أنّ نفس الحكم قريب لا التوجيه.

واحتمل في «الذكرى» أن يكون المراد أنّ المكاري والجمال يتمّون ما داموا يتردّدون في أقلّ المسافة أو مسافة غير مقصودة (٣).

وفيه ، أنّ هذا رأي ابن أبي عقيل ، وقد عرفت حاله (٤) ، مضافا إلى بعد إرادته من «جدّ السير».

وفي «الروض» حملهما على ما إذا قصد المسافة قبل تحقّق الكثرة (٥) ، وهو بعيد أيضا.

والعلّامة في «المختلف» حملهما على ما إذا أقاما عشرة أيّام في الوطن ، أو الموضع الذي يذهب إليه (٦) ، على ما سنذكره.

ولعلّه أخذ «جدّ» في قوله عليه‌السلام : «جدّ به السير» (٧) من الجديد ، في

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٧.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٥ و ٤٥٦.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٧.

(٤) راجع! الصفحة : ١٥٢ من هذا الكتاب.

(٥) روض الجنان : ٣٩٠.

(٦) مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٧.

(٧) مرّت الإشارة إلى مصادرها آنفا.


«الصحاح» جدّ الشي‌ء يجدّ ـ بالكسر ـ صار جديدا (١) ، وكذا في غيره من كتب اللغة (٢).

فالمراد إذا انقطع السير السابق وتجدّد به سير لاحق ، وليس ذلك إلّا بحيلولة عشرة أيّام.

ويمكن أن يكون أخذه من الجدّ بمعنى الاجتهاد ، بأنّ يراد المشقّة التي هي فيه ، وذلك لأنّ علّة القصر هي المشقّة ، كما عرفت.

وإذا صار عادة تزول مشقّته أو تقلّ ، بخلاف ما إذا لم يكن ، ولذا من كان بيوتهم معهم لا يشقّ عليهم ، وكذا كثير السفر الذي صار كأنّه عادته من كثرة الاختلاف ، وإذا انعدمت الكثرة تتحقّق المشقّة ، وانعدامها بمكث عشرة أيّام ، وتصير في نظر الشرع بمنزلة الحاضر الذي ينشأ السفر ، لما عرفت من أنّه جعل المقيم عشرا بمنزلة المتوطّن.

فكما أنّ المتوطن إذا سافر يشقّ عليه السفر بمكثه ، فكذا المقيم عشرا في نظر الشرع ، وإذا لم يقم يكثر سفره ، وإذا كثر اعتاد بالتعب في نظر الشرع ، فلا يقصّر.

ولا يبعد حمله ـ سيّما بملاحظة أنّ الأخبار بعضها وردت بالأمر بالتمام مطلقا (٣) ، وبعضها بالقصر كذلك (٤) ، وبعضها بالتفصيل بأنّه إن أقام عشرا قصّر ، وإلّا أتمّ (٥) ، فهو وجه جمع منصوص منهم عليهم‌السلام ، والأصحاب أفتوا به ، كما ستعرف.

بل فهموا من ملاحظة هذه الأخبار وغيرها أنّ المعتبر في الإتمام هو كثرة

__________________

(١) الصحاح : ٢ / ٤٥٤.

(٢) المصباح المنير : ١ / ٩٢ ، لسان العرب : ٣ / ١١١ ، مجمع البحرين : ٣ / ٢٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ الباب ١١ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الباب ١٣ من أبواب صلاة المسافر.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الباب ١٢ من أبواب صلاة المسافر.


السفر وأكثريته ، وقلّة الحضر وأقلّيته بحيث يكون في جنبه كأنّه مضمحلّ وبمنزلة العدم على ما يشعر به قولهم عليهم‌السلام : «لأنّ السفر عملهم» الظاهر في الدوام والاستمرار.

وما في رواية السكوني من قوله عليه‌السلام : «يدور في تجارته ويدور في جبايته ويدور في إمارته» (١) الظاهر في الاستمرار ، وما في قوله عليه‌السلام : «لأنّ بيوتهم معهم ، ومنازلهم معهم» (٢) الظاهر في ذلك.

وكذا قوله عليه‌السلام : «يختلف» ، وقوله عليه‌السلام : «وليس له مقام» في صحيحة هشام (٣) ، ورواية السندي (٤).

ويظهر من صحيحة ابن سنان (٥) ، ومرسلة يونس (٦) الآتيتين أنّ المراد مقام عشرة أيّام.

ويظهر من صحيحة محمّد بن جزك (٧) أنّه لا يكفي في الإتمام كون الرجل صاحب الدوابّ والجمال ، ولا تسميته بالجمال والمكاري ما لم يلزم الدوابّ والجمال ، ويخرج معها في كلّ سفر ، فتأمّل!

وفي صحيحة زرارة : «أربعة قد يجب عليهم التمام» (٨) الحديث ، لأنّ لفظ «قد» في المضارع يفيد التقليل لا التحقيق ، ولعلّه أيضا إشارة إلى الشرط المذكور.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٦ الحديث ١١٢٤١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧ ، ٤٨٦ الحديث ١١٢٣٨.

(٣) راجع! الصفحة : ١٤٩ من هذا الكتاب.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٧ الحديث ١١٢٤٢.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٩.

(٦) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٥.

(٧) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٨.

(٨) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٤.


والفقهاء اتّفقوا على اعتبار الكثرة والأكثريّة ، بل وجعلوهما المعيار إلّا قليل منهم ، واعتبر كلّهم عدم تحقّق إقامة عشرة على ما دلّ عليه رواية يونس وابن سنان.

وبعد ملاحظة جميع ما ذكر ، لعلّه لم يبق استبعاد في كون المراد من «جدّ السير» بعد قول الراوي : يختلفون ، هو ما ذكرنا من الشروط ، نظير قوله عليه‌السلام : «ليس له مقام» بعد قوله عليه‌السلام : «يختلف» أو غيره ممّا ذكر.

مع أنّ أخبارهم : يفسّر بعضها بعضا ، فيكون المراد عدم إقامة عشرة ، كما هو الحال بالنسبة إلى الأحاديث السابقة.

مع أنّ جدّ السير ليس له حدّ مضبوط معيّن حتّى يستأهل لجعله المعيار في وجوب القصر والإفطار وحرمة الصوم والتمام ، فإنّه في نفسه أمر مقول بالتشكيك ، مع عدم ضبط في مقداره ، وعدم تعيين لآخره.

فلعلّه لما ذكر أعرض الفقهاء (١) عن الفتوى بالصحيحين بجعلهما وجها آخر للقصر ، واتّفق كلّهم في تأويلهما ، واختلفوا في كيفيّة التأويل.

قوله : (وأن يكون جائزا له). إلى آخره.

هذا أعمّ من أن يكون واجبا كحجّة الإسلام ، أو مندوبا كزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، أو مباحا كالتجارة المباحة ، أو مكروها كسفر يوم الجمعة بعد طلوع الفجر قبل النداء.

وهذا الشرط أيضا إجماعي ، نقل الإجماع المحقّق والعلّامة وغيرهما (٢).

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٧ ، ذكرى الشيعة ٤ / ٣١٧ ، روض الجنان : ٣٩٠ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٦.

(٢) المعتبر : ٢ / ٤٧٠ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٩٥ ، منتهى المطلب : ٦ / ٣٤٦ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٥ ، ذخيرة المعاد : ٤٠٩.


وفي «أمالي الصدوق» : من دين الإماميّة الذي يجب الإقرار به أنّ صاحب الصيد إذا كان صيده أشرا وبطرا يتمّ الصلاة ، وإن كان لقوت عياله يقصّر (١).

ويدلّ عليه الأخبار أيضا كصحيحة عمّار بن مروان ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه : «من سافر قصّر وأفطر إلّا أن يكون سفره إلى صيد ، أو في معصية الله تعالى ، أو رسولا لمن يعصي الله عزوجل ، أو طلب العدوّ ، أو شحناء ، أو سعاية ، أو ضرر على المسلمين» (٢).

وروى «الكافي» والشيخ بسندهما إلى ابن بكير أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يتصيّد اليوم واليومين والثلاث أيقصّر؟ قال : «لا ، إلّا أن يشيّع [الرجل] أخاه في الدين ، وأنّ التصيّد مسير باطل لا تقصّر الصلاة فيه» (٣).

وفي الموثّق ـ كالصحيح ـ عن عبيد بن زرارة أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أم يتمّ؟ قال : «يتمّ لأنّه ليس بمسير حقّ» (٤).

وفي كالصحيح ، عن حمّاد ، عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٥) ، قال : «الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا [. إلى أن قال :] وليس لهما أن يقصّرا الصلاة» (٦).

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٤ نقل بالمعنى.

(٢) الكافي : ٤ / ١٢٩ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٩٢ الحديث ٤٠٩ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٩ الحديث ٦٤٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٦ الحديث ١١٢١٢ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٥ الحديث ٨٤٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٠ الحديث ١١٢٢٢ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٦ الحديث ٨٤١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٩ الحديث ١١٢١٩.

(٥) البقرة (٢) : ١٧٣.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٦


وموثّقة سماعة قال : قال : «من سافر قصّر الصلاة وأفطر إلّا أن يكون [رجلا] مشيّعا لسلطان جائر ، أو خرج إلى صيد ، أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله» (١).

والظاهر أنّ المراد كون مجموع ذهابه إليها وعوده منها إلى أهله ثمانية فراسخ ، وأنّ القرية فيها منزل يستوطنه ـ كما سيجي‌ء ـ فينقطع سفره في أثناء المسافة بوصول القرية ، كما عرفت سابقا.

ورواية أبي سعيد الخراساني قال : دخل رجلان على الرضا عليه‌السلام فسألاه عن التقصير ، فقال لأحدهما : «وجب عليك التقصير ، لأنّك قصدتني» ، وقال للآخر : «وجب عليك التمام ، لأنّك قصدت السلطان» (٢) إلى غير ذلك من الأخبار.

وإطلاق النصّ والفتاوى يشمل من كان غاية سفره معصية ، كقاصد قطع الطريق ، وقاصد النشوز والإباق من المولى ، وأمثال ذلك ، ومن كان نفس سفره معصية ، كسالك الطريق المخوف ، والفارّ من الزحف وأمثالهما.

لكن قال في «الروض» : وإدخال هذه الأفراد يقتضي المنع من ترخّص كلّ تارك للواجب بسفره ، لاشتراكهما في العلّة الموجبة لعدم الترخّص ، إذ الغاية مباحة ، وإنّما عرض العصيان بسبب ترك الواجب ، فلا فرق بين استلزام سفر التجارة ترك صلاة الجمعة ونحوها ، وبين استلزامه ترك غيرها كتعلّم الواجب عينا وكفاية ، بل الأمر في هذا الوجوب أقوى ، وهذا يقتضي عدم الترخّص ، إلّا لأوحدي الناس ، لكن الموجود من النصوص لا يدلّ على إدخال هذا القسم ، ولا

__________________

الحديث ١١٢١١ مع اختلاف يسير.

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٢ الحديث ٦٥٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٢ الحديث ٧٨٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٧ الحديث ١١٢١٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٠ الحديث ٦٤٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٨ الحديث ١١٢١٥.


على مطلق العاصي ، وإنّما دلّ على السفر الذي غايته المعصية (١) ، انتهى.

وفيه ، أنّ صحيحة عمّار بن مروان تشمل مطلق العاصي بسفره ، وكذا العلل المنصوصة المنجبرة بفتاوى الأصحاب.

وأمّا ترك التعلّم وأمثاله ، فهو حرام في نفسه من غير مدخليّة السفر.

نعم ، لو كان بحيث لو لم يسافر لكان يأتي بالواجب من التعلّم وغيره البتة إلّا أنّ السفر مانع ، فحينئذ لو قلنا بأنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن الضدّ ، لكان السفر أيضا حراما ، إذا كان ضدّا للواجب ، والمحقّق في موضعه عدم الاقتضاء.

ثمّ اعلم! أنّ مقتضى الأخبار والفتاوى أنّ المسافر للصيد لهوا يتمّ الصلاة مطلقا ، إلّا ابن الجنيد ، فإنّه قال : يتمّ إلى ثلاثة أيّام (٢).

ومستنده صحيحة الحسن بن محبوب ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيّام ، وإذا جاوز الثلاثة لزمه» (٣).

والصدوق نقل هذه الرواية في «الفقيه» (٤) ، فيظهر أنّه رحمه‌الله أيضا لا يرى بأسا بالعمل بها.

وهو قدس‌سره ذكر في آخرها زيادة ، وهي قوله : (يعني الصيد للفضول) ، مع أنّه رحمه‌الله روى مقدّما عليها متّصلا بها ما يدلّ على المنع من التقصير ، إذا كان الصيد لطلب الفضول ، فحمل المطلق على المقيّد.

__________________

(١) روض الجنان : ٣٨٨ ، مع اختلاف.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٠١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٨ الحديث ٥٤٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٦ الحديث ٨٤٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٩ الحديث ١١٢١٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٣.


وهو مشكل علينا ، لعدم المقاومة التي هي شرط ـ كما حقّق في محلّه ـ وجه عدم المقاومة أنّ المطلق مفتى به عند فقهائنا ، مع أنّه رحمه‌الله في أماليه جعل ذلك من دين الإماميّة من دون تقييد (١) ، مع أنّ الأخبار المطلقة كثيرة ، وسند بعضها أقوى مع الموافقة للقاعدة من اشتراط إباحة السفر ، فالرواية المقيّدة لا تكون حجّة.

ويمكن حملها على التقيّة ، بناء على أنّ بتحقّق ثلاثة أيّام يتحقّق مسافة القصر عندهم ، أو يحمل على المعهود بأنّه يمكن أن يكون في ذلك الوقت ما كان التصيّد لهوا يبقى أزيد من ثلاثة ، فتأمّل ، هذا حال الصيد لهوا.

وأمّا الصيد لقوت العيال ، فيجب فيه التقصير بعد تحقّق باقي الشرائط بالنصّ والوفاق ، وقد مرّ الإشارة إلى الثاني.

وأمّا النصّ ، فهو رواية عمران القمّي ، عن بعض أصحابنا ، عن الصادق عليه‌السلام عن الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة يقصّر أو يتمّ؟ فقال : «إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر ، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة» (٢) ، ورواها في «الفقيه» (٣) أيضا.

مع أنّه سفر مأذون فيه ، بل ومأمور به ، فساوى غيره من الأسفار.

وأمّا إذا خرج له للتجارة ، فمقتضى القاعدة أنّه أيضا يقصّر ، لعدم المنع.

وقال الشيخ في «النهاية» و «المبسوط» : يقصر صومه ويتمّ صلاته (٤) ، ومستنده في قصر الصوم ، القاعدة والعمومات والإجماع الذي نقله مفلح في

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٦٠ من هذا الكتاب.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ١٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٦ الحديث ٨٤٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٠ الحديث ١١٢٢٠ مع اختلاف يسير.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٢.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢ ، المبسوط : ١٣٦.


«شرح الشرائع» (١).

وربّما يظهر من فتاوى الأصحاب أيضا الظنّ به ، لأنّهم أفتوا كذلك ، ولم ينقلوا خلافا فيه (٢) ، مع أنّهم نقلوا الخلاف في الصلاة ، ومستنده في إتمام الصلاة «الفقه الرضوي» (٣) حيث صرّح فيه بإتمام الصلاة مع قصر الصوم ، ورواية عمران المذكورة ، فإنّ طلب الفضول ظاهر في طلب زيادة المال.

وقال الفاضل مولانا مراد في شرح هذا الحديث : الفضول هو الذي لا يتعلّق به غرض يتقرّب إلى الله تعالى ، سواء كان أمرا دنيويّا واخرويّا (٤) ، انتهى.

وربّما يؤيّده جعله في مقابلة قوته وقوت عياله ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، حمله على اللهو والأشر والبطر بعيد ، والظاهر هو الحجّة ، لكن يشكل ، لأنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن وهب : «إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت» (٥) يقتضي المساواة بين الصوم والصلاة ، فيقتضي ذلك قصر الصلاة أيضا ، كما هو المشهور.

بل استدلّوا عليه بأنّ الصوم قصره إجماعي ، فكذا الصلاة ، لعموم صحيحة ابن وهب المذكورة.

ورواية عمران لا تقاوم العمومات المقتضية للقصر في الصلاة أيضا من جهة السند والعدد والفتاوى ، إلّا أن يقال : إنّها مستند الأصحاب في فتواهم بالقصر إذا كان لقوته وقوت عياله على ما هو الظاهر ، فيتحقّق المقاومة ، سيّما مع اعتضادها

__________________

(١) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٥.

(٢) مختلف الشيعة : ٣ / ٩٦ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٨ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٨٦.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٢.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.


برواية الصدوق إيّاها في «الفقيه» ، إلّا أنّ ظاهرها لم يقل به أحد ، وخلاف الظاهر لا ينفع ، سيّما إذا كان مخالفا لقاعدة مساواة الصوم والصلاة في القصر ، والقدر والمنجبر بفتوى الأصحاب هو خصوص كون صيد القوت موجبا للقصر مطلقا.

وأمّا صحيحة عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل موجبا يتصيّد فقال : «إن كان يدور حوله فلا يقصّر ، وإن كان تجاوز الوقت فليقصّر» (١). وصحيحة العيص بن القاسم مثلها (٢) ، فقد حملتا على ما إذا كان الصيد لقوته وقوت عياله ، فتأمّل!

واعلم! أيضا أنّ المعصية كما تمنع من القصر ابتداء تمنع استدامة ، فلو قصدها ابتداء أتمّ ، ولو رجع عنه في أثناء السفر اعتبرت المسافة فلو قصّرت أتمّ.

ولو قصد المعصية في أثناء السفر المباح رجع إلى التمام ، ولو عاد إلى الطاعة فهل يعتبر في رجوعه إلى القصر كون الباقي مسافة أم لا؟

اختار الأوّل العلّامة في قواعده ، لبطلان المسافة الاولى بقصد المعصية فافتقر في عوده إلى مسافة جديدة (٣).

واختار الثاني في «المنتهى» والمحقّق في «المعتبر» والشهيد في «الذكرى» لأنّ المانع من التقصير لم يكن سوى المعصية وقد زال (٤) ، واستجوده في «المدارك» (٥).

وفيه ، أنّ المسافة شرط قطعا ، فإن كانت المعصية تصير سببا لبطلانها

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٨ الحديث ٥٤١ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٦ الحديث ٨٤٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٩ الحديث ١١٢١٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨١ الحديث ١١٢٢٣.

(٣) قواعد الأحكام : ١ / ٥٠.

(٤) منتهى المطلب : ٦ / ٣٥١ ، المعتبر : ٢ / ٤٧٢ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٤ و ٣١٥.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٨.


وانقطاع السفر بها ، فالأمر كما ذكره في «القواعد» ، وإلّا فلا وجه لاعتبار المسافة في الصورة الاولى أيضا ، مع أنّه مسلّم عنده وعند غيره ، وأيّ فرق بينها وبين هذه الصورة؟ مع أنّه رحمه‌الله جعل مجرّد إتمام الصلاة والصوم في السفر قاطعا للسفر إذا وقع في أثنائه ، وقد عرفت وجهه.

نعم ، روى السياري ، عن بعض أهل العسكر ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «أنّ صاحب الصيد يقصّر ما دام على الجادّة ، فإذا عدل عن الجادّة أتمّ ، وإذا رجع إليها قصّر» (١).

وبمضمونها أفتى الصدوق في «الفقيه» (٢) ، فالاحتياط في أمثال ذلك ممّا لا ينبغي أن يترك.

قوله : (وأن يتوارى). إلى آخره.

في «المدارك» نسب الأوّل إلى أكثر الأصحاب ، والثاني إلى الشيخ في «الخلاف» والمرتضى وأكثر المتأخّرين (٣) ، والثالث إلى ابن إدريس (٤).

ونسب إلى علي بن بابويه أنّه ما اعتبر هذا الشرط أصلا ، بل قال : وإذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه (٥).

ثمّ قال : والمعتمد هو الأوّل ، لأنّ فيه جمعا بين صحيحة ابن مسلم ، عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٨ الحديث ٥٤٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٧ الحديث ٨٤٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٠ الحديث ١١٢٢١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ ذيل الحديث ١٣١٤.

(٣) لاحظ! الخلاف : ١ / ٥٧٢ المسألة ٣٢٤ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٧ ، إرشاد الأذهان : ١ / ٢٧٥ ، التنقيح الرائع : ١ / ٢٨٦ ، الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٥.

(٤) لاحظ! السرائر : ١ / ٣٣١.

(٥) لاحظ! مختلف الشيعة : ٣ / ١١٠.


الصادق عليه‌السلام : رجل يريد السفر فيخرج متى يقصّر؟ قال : «إذا توارى من البيوت» (١).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن التقصير؟ قال : «إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع [فيه] الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفرك مثل ذلك» (٢).

وهذا الجمع أعني الاكتفاء بخفاء الأذان أو الجدران أولى من الجمع بتقييد كلّ من الروايتين بالاخرى واعتبار خفائهما معا ، كما اختاره المتأخّرون ، فإنّه بعيد جدّا (٣) ، انتهى.

أقول : اختلاف الحكم باعتبار الأمرين مستبعد بحسب الواقع ، فإنّا لا نرضى بقول المصوّبة ، فكيف نرضى بكون حكم الله تابعا لمحض اعتبار؟

نعم ، لو كان حكم الله هو التخيير بين القصر والإتمام فلا مانع منه ، فتأمّل جدّا!

ومع ذلك هو خلاف ظاهر الحديثين ، إذ كيف يجب القصر إن اعتبرنا الأذان ، والإتمام إن اعتبرنا خفاء الجدران؟ أو بالعكس.

مع أنّ الظاهر من كلّ واحد من الخبرين وجوب الإتمام قبل الوصول إلى الحدّ المذكور فيه ، والقصر بعده.

فإذا كانت مسافة كلّ واحدة منهما واحدة ، والمقصود منهما أمرا واحدا وامتدادا واحدا ، فلا معنى لما ذكر من الاكتفاء في جواز التقصير. إلى آخره ، فإنّ

__________________

(١) الكافي ٣ / ٤٣٤ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٩ الحديث ١٢٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٣٠ الحديث ٦٧٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤ مع اختلاف يسير.

(٢) الاستبصار : ١ / ٢٤٢ الحديث ٨٦٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٢ الحديث ١١١٩٦.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٧.


كلّ واحد من الأمرين أمارة على أمر واحد وشي‌ء معيّن متّحد.

فالأظهر أن يكون المراد منهما شيئا واحدا ومقدارا مشخّصا ، سواء اعتبرنا خفاء الأذان ، أو خفاء الجدران ، لا يكون فرق بينهما.

نعم ، لما لم يكن المفهوم من كلّ واحد من الخبرين ذلك الأمر الواحد المشخّص اعتبر ضمّهما معا ، لتحصيل ذلك المشخّص ، وإن كان المراد الوسط الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط ، فإنّ الوسط أيضا لا يفيد ذلك المشخص ما لم يعتبر ضمّهما معا ، فتأمّل!

ولو فرض حصول المشخّص من كلّ واحد منهما على حدة لما يحتاج إلى الضمّ ، ومعلوم أنّ الأمر ليس كذلك ، بل الضمّ أضبط وأدلّ عليه ، ومع ذلك لا يكاد يتشخّص ، إلّا أنّ المكلّف عند شكه في وصوله حدّ الترخيص يتمّ ولا يقصّر ، استصحابا للحالة السابقة حتّى يثبت خلافه ، وربّما يثبت الخلاف بالضمّ ، ولا يثبت بالفرادى.

وبالجملة ، وجوب الإتمام مستصحب حتّى يثبت خلافه ، ولا يثبت بما ذكر من التخيير ، سيّما بعد ملاحظة ما ذكرناه.

نعم ، ثبت الخلاف بخفائهما معا بالإجماع والأخبار ، وبخفاء أحدهما لا يثبت الخلاف.

فإن قلت : المعصوم عليه‌السلام جوّز لكلّ واحد من الراويين الاكتفاء بما رواه ولو لم يكفه لما جوّز ، فالتقييد بعيد ، وكذا ما ذكرت.

قلت : أخبارنا كلّها أو جلّها متعارضة ، والبناء على التخصيص والتقييد وغيرهما من وجوه الحمل والمدار عليه ، وما ذكرت وارد على الجميع ، فما هو الجواب في غير المقام ـ ممّا هو من المسلّمات ـ يكون الجواب في المقام ، وارتكاب


البعيد للجمع ليس بأوّل قارورة كسرت.

مع أنّك أيضا ارتكبت البعيد والتقييد ، كما عرفت ، إلّا أن يكون المراد هو ما ذكرنا من اتّحاد المسافتين ، وأنّه يعرّفها كلّ واحد من الخفاءين من دون تفاوت فيها ، وهذا هو الظاهر الموافق لمدلول الصحيحين (١) ، من عدم الحاجة إلى ضميمة أصلا ، إلّا أن يكون بين الأمارتين تفاوت في الواقع ، ويعلم ذلك التفاوت ، ولعلّه لذلك ارتكب التقييد من ارتكبه واعتبر ضمّهما معا.

لكن العلم بالتفاوت مشكل ، لعدم معلوميّة المراد من التواري على سبيل التشخيص والتعيين ، بحيث لا يقبل الزيادة والنقيصة أصلا.

وكذا الكلام في طرف الأذان وإن قلنا : المراد الأذان المتوسّط ، فإنّ المتوسّط متفاوت أيضا ، وكذا كيفيّة الخفاء ، كما ستعرف.

ومع ذلك موضع الأذان في البلد والقرية أيضا متفاوت عادة بحسب القرب والبعد ، وكذا ارتفاع موضع الأذان وانخفاضه ، وكذا تحرّك الهواء وسكونه ، وتكلّم الناس وسكوتهم ، ولذا يتفاوت في الليل والنهار تفاوتا بيّنا.

وبالجملة ، أسباب التفاوت مختلفة موجودة عادة ، بحيث لا ينضبط على جهة التحقيق ، بل على جهة التخمين أيضا ، مع أنّه غير معتبر بالنظر إلى الأصل والقاعدة ، ولذا قلنا باعتبار ضمّهما.

ولعلّ أمر المعصوم عليه‌السلام كلّ واحد من الراويين بواحدة من الأمارتين لتمكّنه منها خاصّة ، وغير معلوم اتّحاد حال المتمكّن وغير المتمكّن في التكاليف ، بل الظاهر عدم الاتّحاد في موضع لم يثبت الاتّحاد.

بل ثبت من الأدلّة أنّ المتمكّن من الحديث الخاصّ أو المقيّد ، أو الدالّ على

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ و ٤٧٢ الحديث ١١١٩٤ و ١١١٩٦.


عدم وجوب ما ورد الأمر به من حديث آخر أو غير ذلك من القرائن الدالّة على المراد ـ من مضمون آية أو حديث ـ حاله ليس حال الفقيه الآخر الذي لم يتمكّن منها ، ومسلّم ذلك ، والبناء كان على ذلك في الأعصار والأمصار كما قلنا ، إلّا أن يقال : اكتفاء المعصوم عليه‌السلام بأمارة واحدة للراوي في غاية الوضوح في الاكتفاء ، وليس مثل الاكتفاء بالعام أو المطلق وأمثالهما للفهم العرفي بأنّ المراد من العام المخصّص والمطلق المقيّد ، وقس على هذا ، كما حقّقته في «الفوائد» (١).

وأنّ العام ـ مثلا ـ ورد قبل وقت الحاجة ، والخاصّ عنده أو كان العام حين الورود مخصّصا ، فذهب المخصّص من البين ، والخاص الآخر كاشف عن المخصّص ، لا أنّه هو ، فإن المطّلع على العام كان مكلّفا بالعموم بظاهر الشرع ، والمطّلع على الخاصّ كان مكلّفا بالمخصّص ، كما هو الحال عند الفقهاء.

وكيف كان ، الاحتياط ممّا لا ينبغي أن يترك في أمثال المقام.

ويدلّ على ما نسب إلى علي بن بابويه الأخبار المتضمّنة للقصر في بريد أو بريدين على الإطلاق (٢) ، وأمثال هذه الأخبار مثل ما ورد من «أنّ أهل مكّة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير» (٣). إلى غير ذلك من المطلقات.

وما روي عن الصادق عليه‌السلام بعنوان الإرسال أنّه قال : «إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه» (٤).

وما رواه الشيخ بسنده عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق ، عن أبيه ، عن

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٤١٠ الفائدة ١٢.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٤ الحديث ٧٩٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٨٠.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٩ الحديث ١٢٦٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٥ الحديث ١١٢٠٨.


علي عليهما‌السلام : «أنّه كان يقصّر حين يخرج من الكوفة في أوّل صلاة تحضره» (١).

والجواب أنّ المطلق يحمل على المقيّد بعد التكافؤ ، ومستند المشهور صحيح ، ومفتى به عند الأصحاب إلّا واحد منهم وربّما نسب إلى ابن الجنيد أيضا (٢).

بل لا يظهر أنّهما مخالفان ، إذ لعلّهما عبّرا كذلك في مقام الإهمال والإجمال ، كما هو الحال عندنا ، فإنّا كثيرا ما نعبّر هكذا ، إذا كان غرضنا إفادة أمر آخر فمستندهما أيضا كذلك ، فلا يخلو عن قصور في الدلالة بحيث لا يقاوم دلالته دلالة مستند القوم ، مع القصور في السند أيضا.

نعم ، سند المطلقات صحيح ، إلّا أنّه في غاية القصور عن الدلالة ، وممّا يؤيّد مستند المعظم الاستصحاب وعمومات الإتمام.

وما رواه في «الفقيه» بسنده عن العيص بن القاسم عنه عليه‌السلام أنّه سأل عن الرجل يتصيّد؟ فقال : «إن كان يدور حوله فلا يقصّر ، وإن كان تجاوز الوقت فليقصّر» (٣).

ولا يخفى أنّ المراد من الوقت حدّ الترخّص.

ورواية إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوم خرجوا فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم التقصير (٤) الحديث ، وقد مرّت في اشتراط استمرار القصد (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٥ الحديث ٦١٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٢ الحديث ١١١٩٨.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١١١ و ١١٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨١ الحديث ١١٢٢٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٥ و ١١١٨٦.

(٥) راجع! الصفحة : ١٣٨ و ١٣٩ من هذا الكتاب.


وربّما يؤيّده أيضا ما روي : أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سافر فرسخا قصّر [الصلاة] (١) ، وكذا ما روي : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يفعل كذلك (٢).

وأمّا مستند ابن إدريس في اعتبار الأذان المتوسّط فقد عرفت.

وأمّا عدم اعتباره خفاء الجدران ، فلأنّ الجدران ربّما لا يخفى في مسير يوم أو أزيد أو أنقص بفرسخ ، أو فرسخين أو أزيد ، لكن يظهر من فرسخين غالبا ، أو أنقص بقليل ، وأين هذا من خفاء الأذان؟ ولذا وقع الاضطراب في تفسيره ، كما ستعرف.

فرع

قال الشيخ مفلح : المراد بخفاء الأذان عدم التمييز بين فصوله فلو سمعه ولم يتميّز فصوله وجب القصر ، والمراد بخفاء الجدران عدم التميّز من البيوت ، فلو رآها وهو لا يميّز عن البيوت وجب القصر. إلى آخر ما قاله (٣).

أقول : المتبادر من قوله عليه‌السلام : «لا تسمع [فيه] الأذان» (٤) هو عدم السماع على وجه يظهر أنّه أذان ، بل عدم السماع مطلقا ، إذ لو سمع صوتا ، وقيل له : هذا أذان أو ظنّ أنّه أذان ، لم يظهر دخوله في قوله : «لا تسمع الأذان» بحيث يكون من

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٥٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٦ الحديث ٨٠٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٢ الحديث ١١١٩٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٦٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٦ الحديث ٨٠٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧١ الحديث ١١١٩٥.

(٣) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٨.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٢ الحديث ١١١٩٦.


أفراده المتبادرة ، والإتمام مستصحب حتّى يثبت خلافه ، بل صورة التردّد أيضا لا تخلو عن إشكال ، فتأمّل!

ولعلّ حكمه رحمه‌الله كذلك ، من جهة أنّ خفاء الجدران رأسا غير معتبر قطعا ، إذ ربّما لا يخفى في المسافة وأزيد منها ، فلذا حمله على ما ذكر.

وقال في «شرح اللمعة» : المعتبر. صورة الجدار والصوت ، لا الشبح والكلام (١) ، انتهى.

وفي كلام [الشيخ] مفلح نظر ، لأنّه قياس عبارة بعبارة ، وهو غير معتبر عند الكلّ.

مع أنّ الوارد في الصحيح هو التواري عن الجدران ، لا تواري الجدران عنه ، إلّا أنّ الأصحاب كلّهم سوى الشهيد في «اللمعة» (٢) اعتبروا تواري الجدران (٣).

ويمكن أن يكون منشأه أنّ المكلّف لا يدرك تواري نفسه عن الجدران إلّا بعض منهم على سبيل التخمين في بعض الأوقات ، فكيف يجعله الشارع معيار وجوب قصره وإتمامه لهم بأجمعهم؟ مع أنّ الاعتماد على التخمين خلاف الأصل وظاهر الحديث.

والتواري من باب التفاعل مأخوذ فيه كون التفاعل من الطرفين ، وإن كان أحدهما فاعلا والآخر مفعولا ، كما أنّ باب المفاعلة أيضا مأخوذ فيه كونها من الطرفين ، وإن كان أحدهما فاعلا والآخر مفعولا.

فالمراد من الصحيح أنّه «إذا توارى من البيوت» فلا جرم تكون البيوت

__________________

(١) الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٥.

(٢) لاحظ! اللمعة الدمشقيّة : ٣٩ ، تنبيه : أنّ الشهيد ليس منفردا في فتواه ، بل وافقه السبزواري في «ذخيرة المعاد : ٤١١» ، البحراني في «الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٠٥ و ٤٠٦» لاحظ! مفتاح الكرامة : ٣ / ٥٤٩.

(٣) المعتبر : ٢ / ٤٦٨ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٠ ، جامع المقاصد : ٢ / ٥١١.


أيضا متوارية فيعتبر المكلّف تواريها عنه ، وليس المراد تواري الشبح قطعا وإجماعا ، فتعيّن تواري الصورة ، فتأمّل!

وأيضا لو كان المراد تواريه عن البيوت لاحتاج إلى تقدير في الكلام ، وهو ناظر البيوت ، أو من في البيوت وأمثالهما ، والأصل عدم التقدير ، فإنّ من جعل الحدّ تواري المسافر عن البيوت كالمصنّف وموافقيه ، جعل الطرف الآخر في التواري هو ناظر البيوت لا نفس البيوت ، بخلاف الأصحاب فإنّهم جعلوه نفس البيوت ، كما هو الظاهر من الحديث ، فلذا اعتبروا تواريها.

مع أنّ المناسب حينئذ أن يقول عليه‌السلام : يتوارى من في البيوت عنه ، لما عرفت من أنّه تعريف له في بلوغه حدّ الترخّص ، لا أنّه تعريف لأهل البيوت ، فإنّ معرفتهم ذلك كيف ينفعه؟ إلّا أن يكون تخمين ، وقد عرفت حال التخمين.

مع أنّه على تقدير حصول المعرفة على سبيل التحقيق ، فلا وجه لحوالته على التخمين مع ما عرفت ، وستعرف أيضا ما هو في التخمين.

ووجه تمكّنه من المعرفة على سبيل التحقيق أنّه إذا نظر إلى البيوت ولم ير أحدا فيه ، علم أنّه أيضا توارى عنهم ، لأنّ الأنظار والأشخاص واحدة.

مع أنّك ستعرف أنّ المعتبر هو الخفاء عن نفس البيوت ، لا عن ناظرها لأنّ هذا القصر لا يجب إلّا على المسافر ، وهو في مقابل الحاضر ، والمعتبر حضور بيته ومنزله على ما عرفت.

وينبّه عليه أيضا قولهم عليهم‌السلام : «الأعراب يتمّون ، لأنّ بيوتهم ومنازلهم معهم» (١) ، فالمعتبر هو الغيبة عن نفس البيوت والمنازل ، لا عن أهلها ، إذ ربّما كان أهله معه في السفر ، مع أنّه غير حاضر ، والتواري هو الغيبة ، والغائب في مقابل

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧.


الحاضر ، ولهذا عبّر الشارع كذلك ، ولم يقل : يتوارى عنه البيوت ، وتغيب عنه ، وإن كانا بالمآل واحدا.

وممّا يؤكّد كون المعتبر هو التواري عن نفس البيوت ، أنّ مثل الهائم إذا قصد المسافة في أثناء سفره يقصّر من دون اعتبار حدّ الترخّص ، كما يظهر من الخبر (١) ، وكذلك المتصيّد لهوا إذا قصد في أثناء السفر المباح ، كما يظهر من خبر آخر (٢) ، كما ستعرف ، فتأمّل!

ويمكن أن يقال : لو كان خفاء الصوت معتبرا لكان المعصوم عليه‌السلام يقول : إذا لم يسمع صوت أهل البلد يقصّر ، فالتعليق على الأذان دليل على اعتبار صورة الصوت ، وعدم كفاية الصوت ، فيكون هذا شاهدا آخر على إرادة المعنى الالتزامي من تواريه عن الجدران ، لما عرفت من أنّه لا بدّ من اتّحاد المسافة في الأمارتين ، إذ خفاء شبح الشخص عن أهل البيوت لعلّه لا يناسب مسافته مسافة خفاء صورة الأذان لا مجرّد الصوت ، سيّما وأن يكون هذا على سبيل التخمين ، إذ كيف تطمئنّ النفس بأنّه خفي عن أهل البيوت ، سيّما وأن يكون المراد من البيوت ، البيوت التي في منتهى البلد والقرية ، وخصوصا بعد عدم معلوميّة كون ناظر البيوت على سطوح بيوتهم وفوق الجدران ، أو على الأرض ، وعدم مضبوطيّة قدر الارتفاع والانخفاض وغير ذلك ، مع عدم مناسبة التخمين مع التحقيق ، والصورة مع الشبح ، فتأمّل جدّا!

ويمكن أن يكون ما ورد من أنّ ابتداء القصر إذا توارى عن البيوت ، حكم ذلك بحسب نفس الأمر ، وبيان اللم والحكمة في اعتبار حدّ الترخّص هو أنّه متى لم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٠ الحديث ١١٢٢١ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٨٤ و ٣٨٥.


يتوار عن الوطن ، فهو بعد في الوطن ، وإذا توارى عنه وغاب فقد خرج عن حدّ الحضور ، ودخل في حدّ الغيبة عن الأهل والوطن ، إذ عرفت أنّ القصر لا يجب على الحاضر ، بل يجب على المسافر الذي هو في مقابل الحاضر.

وليس المراد أنّ المكلّف يعتبر هذا لابتداء قصره ، لأنّه لا يعرف أنّه متى توارى عن البيوت ، إنّما يعرف تواريه أهل البيوت ، فلا يكون هذا أمارة اخرى لحدّ الترخّص ، بل الأمارة منحصرة في خفاء الأذان ، كما قال به ابن إدريس (١) ، فإذا أراد المكلّف أن يعرف أنّه متى توارى عن البيوت اعتبره بعدم سماعه الأذان المتوسّط ، فهو المعرّف للتواري ، والتواري علّة ابتداء القصر وحدّ الترخّص.

ويمكن أن يستعلم ابتداء تواريه بأن يلاحظ طرف بيوته ، فإن كان يرى الشخص الذي يكون عند بيوته راكبا أو ماشيا ، علم أنّه لم يتوار بعد ، لأنّ ذلك الشخص أيضا يراه كما أنّه يراه ، إذ لو كانا من مستوي الخلقة لكان رؤيتهما ودركهما واحدا ، وإن لم ير شخصا عند بيوته ظهر له أنّ أهل بيوته أيضا لا يرونه.

فالعبرة إنّما هي بمستوى الخلقة ، فيكون هذا هو المراد من تواريه عن البيوت ، لا ما ذكره الفقهاء.

لكن عرفت فساد ذلك ، فإن المعتبر هي الغيبة عن البيوت ، لا عن من يكون فيها ، وبينهما بون بعيد ، فيشكل مخالفتهم بالمرّة ، سيّما بعد ملاحظة جميع ما ذكرنا.

وكيف كان ، لا إشكال علينا بعد اعتبار خفاء الأذان والقول باتّحاد مسافته مع مسافة خفاء الجدران ، أو خفائه عن أهل الجدران ، على ما هو الحقّ ، كما عرفت.

والعبرة بالبيوت لا بالأعلام ولا القباب ولا الأسوار ولا البساتين ، إلّا أن

__________________

(١) السرائر : ١ / ٣٣١.


يتخللها دور يسكن مدّة السنة ، وإن كان سكناها بعض السنة ، فالعبرة في مثله بوقت السكنى ، والمنزل المرتفع والمنخفض ومختلف الأرض فيهما يقدر فيه التساوي ، كما أنّ الأذان لا يعتبر فيه سوى المتوسّط.

ولو خرج البلد في العظم عن المتوسّط اعتبر أذان محلّته وجدرانها ، لأنّ الإطلاق ينصرف إلى الأفراد المتعارفة.

فما استقوى بعض المتأخّرين من الاكتفاء بالتواري عن المنخفضة كيف كان ، بناء على إطلاق الخبر (١) ، فيه ما فيه.

ولو كان طرف البلد خرابا لا عمارة وراءه لم يعتدّ بالخراب ، ولو لم يكن لمنازلهم جدار تعيّن الاعتبار بخفاء الأذان ، ولو لم يكن أذان تعيّن الاعتبار بخفاء الجدران على النهج الذي ذكرنا وعادمهما يقدر الوسط.

وعادم السمع والبصر يقدرهما إن أمكنه المعرفة بالتقدير ، وإلّا فيعوّل على قول غيره إن حصل منه الوثوق به ، وإلّا فلا يصلّي في موضع الاشتباه ، وإن اضطرّ إلى الصلاة فيه جمع بين القصر والإتمام ، مع احتمال الاقتصار على الإتمام إلى أن يثبت عليه القصر استصحابا للحالة السابقة ، فتأمّل جدّا!

وأيضا قد عرفت أنّ حدّ الترخّص إنّما يعتبر بالنسبة إلى من خرج عن بيته مسافرا ، فمثل الهائم لو قصد المسافة في أثناء سفره بعد بلوغ حدّ الترخّص فالظاهر أنّه يكون عليه القصر من دون اعتبار حدّ الترخّص.

وكذلك العاصي بسفره إذا رجع إلى المباح ، لعموم ما دلّ على وجوب القصر على المسافر (٢) ، وما دلّ على اشتراط حدّ الترخّص لا عموم له يشمل المقام.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٧ و ٤٥٨.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الباب ١ من أبواب صلاة المسافر.


ويدلّ عليه أيضا موثّقة عمّار ، ورواية إسحاق بن عمّار ـ وقد مرّتا في بحث اشتراط قصد المسافة (١) ـ ورواية السياري ، عن بعض أهل العسكر ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «أنّ صاحب الصيد يقصّر ما دام على الجادّة فإذا عدل عن الجادّة أتمّ فإذا رجع إليها قصّر» (٢) وبمضمونها أفتى الصدوق ، كما مرّ (٣).

وأمّا ناوي الإقامة عشرا والمتردّد ثلاثين يوما ، يمكن أن يكون حكمها حكم المتوطّن ، لعموم المنزلة ، كما عرفت ، وسيجي‌ء تمام التحقيق.

قوله : (لا يجوز الإتمام ولا يجزي). إلى آخره.

اتّفق فقهاء الشيعة على أنّ القصر عند تحقّق شرائطه واجب وفريضة ، لا أنّه رخصة ، كما هو المعروف من العامّة.

والدليل على ذلك بعد الإجماع الآية الشريفة (٤) بعد تفسيرها من أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أدرى بما في البيت ، وحجج الله تعالى بعد الرسول ـ صلوات الله عليهم ـ بالأدلّة اليقينيّة.

في الصحيح عن زرارة وابن مسلم أنّهما قالا للباقر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال : «إنّ الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٥) فصار القصر في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر».

فقالا له : إنّما قال الله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل : افعلوا [فكيف أوجب

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٣٨ و ١٣٩ من هذا الكتاب.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٨ الحديث ٥٤٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٠ الحديث ١١٢٢١.

(٣) راجع! الصفحة : ١٦٦ من هذا الكتاب.

(٤) النساء (٤) : ١٠١.

(٥) النساء (٤) : ١٠١.


ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟] ، فقال عليه‌السلام : «أو ليس قد قال عزوجل (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (١) ، ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، لأنّه تعالى ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، [و] كذلك التقصير [في السفر] شي‌ء صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر الله تعالى في كتابه».

فقالا : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ فقال عليه‌السلام : «إن [كان قد] قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإلّا فلا إعادة عليه ، والصلاة كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة ، إلّا المغرب فإنّها ثلاث ، ليس فيها تقصير ، تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحضر والسفر [ثلاث ركعات] ، وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذي خشب وهو مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا ، فقصّر وأفطر فصار سنّة ، وقد سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما صاموا حين أفطر العصاة قال : فهم العصاة إلى يوم القيامة وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبناءهم إلى يومنا هذا» (٢).

والظاهر أنّ مراده عليه‌السلام أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صنعه بعنوان اللزوم ، كما يدلّ عليه ما ذكره بعد ذلك بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سماهم العصاة.

روى العامّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ليس من البرّ الصيام في السفر» (٣) ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» (٤).

وروى الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٧ الحديث ١١٣٢٧ مع اختلاف يسير.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣٢ الحديث ١٦٦٤ و ١٦٦٥ ، سنن النسائي : ٤ / ١٧٦.

(٤) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣٢ الحديث ١٦٦٦ ، سنن النسائي : ٤ / ١٨٣.


المدينة ومعه عشرة آلاف على رأس ستّين ونصف من مقدّمة المدينة ، فكان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون يصومون حتّى بلغ الكديد ، فأفطر وأمر الناس بالإفطار (١).

وفيه ، عن جابر : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان ، فصام حتّى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، فدعى بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب فقيل بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اولئك العصاة ، اولئك العصاة» (٢).

ورووا أيضا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يقول الله تعالى : وضعت عن عبادي شطر الصلاة في سفرهم» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب الذي سأله بأن قال : ما بالنا نقصّر وقد أمنّا يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (٤).

وأمّا الأخبار الدالّة على وجوب القصر والإفطار من طرقنا ، فيزيد عن التواتر ، وبعض منها ذكر ، ويذكر في تضاعيف مبحث القصر والإتمام.

ويظهر منها عدم الإجزاء أيضا ، منها قوله عليه‌السلام في الصحيحة المذكورة : «أعاد» (٥).

مع أنّ الأصل عدم إجزاء غير المطلوب ، سواء وقع عمدا أو سهوا أو جهلا ، إلّا الجاهل بوجوب القصر ، فإنّه إذا صلّى تماما جهلا بالحكم تكون صلاته صحيحة مجزية ، للصحيحة المذكورة ، وبه قال معظم الأصحاب.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٤٣ الحديث ١٩٤٤ ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٤٤ الحديث ١١١٣ مع اختلاف يسير.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٦٤٥ الحديث ١١١٤ ، سنن النسائي : ٤ / ١٧٧ مع اختلاف يسير.

(٣) سنن النسائي : ٤ / ١٨٠ و ١٨٢ مع اختلاف يسير.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ٤٠٠ الحديث ٦٨٦ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ١٣٤.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٧ الحديث ١١٣٢٧.


ونقل عن أبي الصلاح القول بالإعادة في الوقت (١) ، ويدلّ على ذلك صحيحة العيص بن القاسم ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن رجل صلّى وهو مسافر فأتمّ ، قال : «إن كان في وقت فليعد ، وإن كان الوقت قد مضى فلا» (٢) ، إذ ترك الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم.

لكن لا يخفى أنّه لا يقاوم الصحيحة المذكورة لصراحتها في نفي وجوب الإعادة.

ومع ذلك معتضدة بفتاوى المعظم الذين كادوا أن يكونوا مجمعين ، وعدم صراحة هذه الصحيحة مع ندرة الفتوى ومخالفة الأصل ، فيمكن أن تحمل على صورة النسيان أو الاستحباب.

وحكى الشهيد رحمه‌الله في «الذكرى» عن السيّد الرضي رحمه‌الله أنّه سأل أخاه المرتضى رحمه‌الله عن هذه المسألة بأنّ الإجماع منعقد على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا تكون مجزية.

فأجاب المرتضى رحمه‌الله بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل ، وإن كان الجاهل غير معذور (٣).

ولعلّ مراده أنّ عدم معذوريّة الجاهل هو الأصل والقاعدة الثابتة شرعا ، فلا مانع من أن يكون الشارع يجعله معذورا في خصوص مقام ، فيكون معذورا فيه بخصوصه بعد الثبوت من الشرع ، فإنّ العام الشرعي ربّما يخصّص بلا مانع منه قطعا ، كما هو الحال في كثير من القواعد الشرعيّة ، ومنها هذه القاعدة بالقياس إلى

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٢ ، الكافي في الفقه : ١١٦.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٥ الحديث ٥٦٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٤١ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٥ الحديث ١١٢٩٧.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٢٥ و ٣٢٦ ، رسائل الشريف المرتضى : ٢ / ٣٨٤.


الجهر والإخفات.

ثمّ اعلم! أنّه ورد في بعض الأخبار : أنّ امرأة صلّت المغرب في السفر ركعتين جهلا بالحكم ، فأجاب المعصوم عليه‌السلام بعدم البأس وعدم لزوم الإعادة والقضاء (١).

وحكم الأصحاب بشذوذه (٢) ، فلا يكون حجّة.

وجه الشذوذ ، مخالفته للأخبار المتواترة الدالّة على أنّ المغرب ثلاث ركعات (٣) ، مضافا إلى فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، وإجماع المسلمين ، بل كونه ضروريّا ، ومقتضى ذلك عدم إجزاء الركعتين ، إلّا أن يثبت من الشرع الإجزاء ولم يثبت ، بل ثبت خلافه من الأخبار ، على أنّ المغرب لا قصر فيها أصلا ومطلقا ومضافا إلى الإجماع على ذلك ، هذا حال الجاهل بأصل الحكم.

وأمّا الجاهل بالشرائط ـ مثل المسافة ـ فقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عدم معذوريّة الجاهل ، إلّا أن يثبت من الشرع ، للإجماع الذي نقله السيّد الرضي رحمه‌الله وتلقّاه المرتضى رحمه‌الله بالقبول ، ولما حقّقناه في «الفوائد» (٤).

لكن في صحيحة منصور بن حازم ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أتيت بلدة وأزمعت المقام عشرة أيّام فأتمّ الصلاة ، فإن تركه جاهلا فليس عليه الإعادة» (٥) ، وبمضمونها أفتى الشيخ نجيب الدين (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٧ الحديث ١٣٠٦ و ١٣٠٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٦ الحديث ٥٧٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٠ الحديث ٧٧٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٧ الحديث ١١٣٠٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٥ ذيل الحديث ٦١٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٠ ذيل الحديث ٧٧٩.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٤ الباب ١٦ من أبواب الصلاة المسافر.

(٤) الفوائد الحائريّة : ٤١٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٩ الحديث ١١٢٧٨ ، ٥٠٦ الحديث ١١٢٩٩ مع اختلاف يسير.

(٦) الجامع للشرائع : ٩٣.


وقد عرفت أنّ القاعدة عامة ، وبمقتضاها عمل المشهور ، وبناؤهم على أنّ مثل هذا النصّ وإن كان صحيحا ، لا يقاوم القاعدة القطعيّة حتّى يخصّصها ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا بدّ في التخصيص من تكافؤ العام والخاص وتقاومهما.

وأمّا الشيخ نجيب الدين ، فعنده أنّه يقاومهما ، لكنّه مشكل ، لأنّه كان إلى زمانه شاذّا ، ومنه إلى الآن لا يفتي به غيره ، وكلّما ازداد هذا وهنا ازدادت القاعدة قوّة ، مع أنّ الاحتياط أيضا مع المشهور.

وألحق بجاهل الحكم المذكور ناسي الإقامة ، فحكم بأنّه لا إعادة عليه أيضا (١) ، وفيه ما فيه.

وأمّا النسيان ، فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت خاصّة وعرفت المستند.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : صلّيت الظهر أربع ركعات وأنا في سفر ، فقال : «أعد» (٢).

والظاهر أنّه فعل كذلك سهوا لا جهلا ، لأنّه كان أفقه فقهاء أصحاب الصادق عليه‌السلام ، مع أنّه كان يقرأ القرآن ، ولأنّه ترك الاستفصال في الحكم المذكور ، إذ في كثير من الصور يجب أربع ركعات ، فتأمّل جدّا!

وصحيحة أبي بصير عنه عليه‌السلام أيضا : أنّه سأله عن الرجل ينسى فيصلّي في السفر أربع ركعات؟ قال : «إن ذكر في ذلك اليوم فليعد ، وإن لم يذكر حتّى يمضي ذلك اليوم فلا إعادة عليه» (٣).

__________________

(١) الجامع للشرائع : ٩٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤ الحديث ٣٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٧ الحديث ١١٣٠٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٩ الحديث ٣٧٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٤١ الحديث ٨٦١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٦ الحديث ١١٢٩٨.


والظاهر أنّ المراد من «اليوم» هو النهار ، لأنّه يطلق عليه كثيرا ، بل المتبادر منه ما يقابل الليل.

وبالجملة ، الظاهر أنّه لا إشكال أصلا ، سيّما بعد ملاحظة الأخبار الاخر فضلا عن الفتاوى ، فتأمّل!

فما اعترض على الرواية الاولى بعدم صراحتها في الناسي ، وعلى الثانية بالضعف ، لاشتراك أبي بصير بين الثقة والضعيف ، وبإجمال متنها ـ لأنّ «اليوم» إن كان بياض النهار كان حكم العشاء غير مذكور ، وإن كان المراد النهار والليلة كان مضمونها مخالفا للمشهور (١) ـ ليس بشي‌ء ، إذ ترك الاستفصال يفيد العموم والصراحة غير لازمة في مقام الاستدلال.

مع أنّ النسيان أظهر أفراده ، بل متعيّن ، كما عرفت ، وأبو بصير مشترك بين ثقات ، إذ يحيى بن القاسم أيضا ثقة ، وكونه واقفيّا خطأ ، أثبتناه مشروحا في الرجال ، ويوسف بن الحارث غير ظاهر أنّه مكنّى بأبي بصير ، بل لعلّه مكنّى بأبي نصر (٢).

سلّمنا ، لكنّه من أصحاب الباقر عليه‌السلام لا الصادق عليه‌السلام ، ومع ذلك أنّه مجهول غير معروف في الإسناد نادر الرواية ، ومثل هذا لا يكتفون فيه بالإطلاق ، لانصرافه إلى الكامل والمشهور الحاضر في الأذهان لتبادرهما عند الإطلاق ، وعدم مذكوريّة العشاء لا ضرر فيه أصلا ، فإنّ أدلّة الفقه غالبا أخصّ من المدّعى ، تتمّ بعدم القول بالفصل ، أو حديث أو أصل والكلّ هنا موجود.

أمّا الأوّلان ، فمعلوم من الأقوال والأخبار ، وأمّا الثالث ، فلأنّ الناسي لم

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٤.

(٢) تعليقات على منهج المقال : ٣٨٤.


يأت بالمأمور به على وجهه ، فلا يكون ممتثلا ، وإن لم يكن آثما.

فإذا كان الوقت باقيا حال تذكّره ، علم أنّه لم يأت بما امر به (١) ، فعمومات التكليف باقية بالنسبة إليه ، وهو داخل فيها.

وأمّا إذا مضى الوقت ، فالعمومات الدالّة على أنّ من فاتته الفريضة يجب عليه قضاؤها (٢) ، يقتضي وجوب القضاء أيضا ، إلّا أن يثبت من الشرع عدم الوجوب ، كما ثبت ممّا ذكرناه من الأخبار.

وممّا ذكرناه ظهر ضعف القول بالإعادة والقضاء معا ، كما نسب إلى علي بن بابويه (٣) ، والشيخ في «المبسوط» (٤) ، ومستندهما تحقّق الزيادة ، يعني عدم الإتيان بالمأمور به ، فيجب الإعادة والقضاء ، للعمومات التي ذكرناها ، وقد عرفت الخاصّ ، وهو مقدّم ، لصحته وكونه مفتى به.

ولا يصحّ الاستدلال بصحيحة زرارة وابن مسلم (٥) ، وصحيحة الحلبي (٦) بأنّ الإعادة المأمور بها فيهما يشمل القضاء أيضا ، لمنع تبادره منها ، لاحتمال كون الإعادة مختصّة بما في الوقت ، لأنّ القضاء فرض جديد على حدة ـ على ما هو الحقّ ـ والإعادة تكرار ذلك الشي‌ء ، ومع تسليم عدم الاختصاص نقول : الخاصّ مقدّم.

وفي «المدارك» نقل عن الصدوق في «المقنع» أنّه قال بالإعادة إن ذكره في

__________________

(١) في (ز ٣) و (د ٢) : أمره به.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٥٣ الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٤.

(٤) المبسوط : ١ / ١٣٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٧ الحديث ١١٣٢٧.

(٦) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٧ الحديث ١١٣٠٢.


يومه ، وإن مضى اليوم فلا إعادة ، وقال : هو موافق للمشهور في الظهرين ، وأمّا العشاء فإن حملنا اليوم على النهار ـ كما هو الظاهر ـ يكون حكمهما مهملا ، وإن حملناه عليه وعلى الليلة الماضية كان مخالفا للمشهور منها قطعا. إلى آخر ما قال (١).

وفيه ، أنّ عادة الصدوق في «المقنع» ، نقل متون الأخبار مفتيا بها ، كما اعترف به في «المدارك» (٢) ، ففتواه عين رواية أبي بصير ، وإهمال ذكر العشاء ـ بناء على عدم القول بالفصل ـ اليقيني الظاهر ، كما هو حاله في غير الموضع ، وحال غيره أيضا.

ثمّ اعلم! أنّه إن ذكر الحال في أثناء الصلاة وأمكنه العدول إلى القصر يعدل إليه وتصحّ صلاته ، لأنّ زيادة غير الركن سهوا لا يضرّ ، كما ستعرف ، وإن لم يمكنه العدول ـ بأن دخل في الركوع في الركعة الثالثة ـ يستأنف الصلاة.

وكذلك الحال في صورة الجهل ، بأنّه إن دخل في الركوع وعلم بالحال يستأنف ، وإن لم يدخل فيه ـ سواء قرأ «الحمد» أو التسبيح أم لا ـ فلا يبعد أن يقال : يهدم القيام ويتمّ الصلاة ، لأنّه لو أتمّ الصلاة أربعا كان معذورا ، ففي المقام بطريق أولى.

ويحتمل عدم المعذوريّة ، وعدم جواز العدول بأنّه زاد في صلاته القيام وغيره عمدا وجهلا ، فلا يكون آتيا بالمأمور به على وجهه ، والجاهل غير معذور فيكون باقيا تحت عهدة التكليف ، إلّا أن يستأنف.

واعلم أيضا! أنّ في هذه الأخبار دلالة واضحة على عدم خروج المصلّي

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٤ و ٤٧٥ ، لاحظ! المقنع : ١٢٨.

(٢) مدارك الأحكام : ٦ / ٥٣.


بمجرّد التشهّد والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله ، كما توهّم بعضهم (١) ، بل المخرج منحصر في التسليم ، كما هو المشهور ، ومدلول غير واحد من الأخبار (٢) ، وسيجي‌ء تمام التحقيق في ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله : (أو كان في أحد المواطن الأربعة). إلى آخره.

ما ذكره المصنّف هو المشهور بين الأصحاب.

وقال الصدوق : يقصّر ما لم ينو المقام عشرة أيّام كغيرها ، إلّا أنّ الأفضل أن ينوي المقام بها ليوقع صلاته تماما فيها (٣).

ويظهر من صحيحة علي بن مهزيار (٤) أنّ رأي الصدوق كان رأيا مشهورا عند فقهاء أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، وربّما يظهر من غيرها أيضا (٥).

والصحيحة هكذا : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك عليهم‌السلام في الإتمام والقصر في الحرمين ، فمنها أنّه يتمّ ولو صلاة واحدة ، ومنها أن يقصّر ما لم ينو مقام عشرة ، ولم أزل على الإتمام فيها إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا ، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي المقام عشرة أيّام ، فصرت إلى التقصير حتّى أعرف رأيك. إلى آخر الحديث (٦).

وفي رواية علي بن حديد ، عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال له : إنّ أصحابنا اختلفوا في

__________________

(١) المقنعة : ١٣٧ و ١٣٩ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٣٤ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٨٩ ، السرائر : ١ / ٢٣١.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٤١٥ الباب ١ من أبواب التسليم.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ ذيل الحديث ١٢٨٤ ، الخصال : ١ / ٢٥٢ ذيل الحديث ١٢٣.

(٤) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦ ، ٥٢٧ الحديث ١١٣٥٤ ، ٥٣٣ الحديث ١١٣٧٥.

(٦) الكافي : ٤ / ٥٢٥ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١١٨٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.


الحرمين ، فبعضهم يقصّر ، وبعضهم يتمّ ، وأنا ممّن يتمّ على رواية رواها أصحابنا ، وذكرت عبد الله بن جندب أنّه كان يتمّ ، قال : «رحم الله ابن جندب : لا يكون الإتمام إلّا أن تكون تجمع على إقامة عشرة أيّام» (١) ، الحديث.

وفي «كامل الزيارة» : أنّ سعد بن عبد الله سأل أيّوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه الأماكن الأربعة ، والذي روي فيها؟ فقال : أنا اقصّر ، وكان صفوان يقصّر ، وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصّرون (٢) ، انتهى.

ونقل عن السيّد رحمه‌الله في «الجمل» : أنّه لا تقصير في مكّة ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومشاهد الأئمّة عليهم‌السلام القائمين مقامه (٣) ، ونسب ذلك إلى ابن الجنيد أيضا (٤).

وظاهرهما منع التقصير في الأربعة وغيرها من مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام.

واستدلّ للمشهور (٥) بأنّ في التخيير جمعا بين ما دلّ على وجوب الإتمام ـ كصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن التمام بمكّة والمدينة ، قال : «أتمّ وإن لم تصلّ فيهما إلّا صلاة واحدة» (٦).

وصحيحة علي بن مهزيار المتقدّمة ، فإنّ فيها بعد ما ذكرنا أنّه عليه‌السلام كتب بخطّه : «قد علمت ـ يرحمك الله ـ فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما فأنا احبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصّر وتكثر فيهما من الصلاة» ، فقلت له بعد ذلك بسنتين

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٦ الحديث ١٤٨٣ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣١ الحديث ١١٧٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٣ الحديث ١١٣٧٥.

(٢) كامل الزيارات : ٤٢٩ الحديث ٦٥٤ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٤٥ الحديث ٧٤٧٤.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٥ ، لاحظ! رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) : ٣ / ٤٧.

(٤) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٥.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٦ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٣٨.

(٦) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٦ الحديث ١٤٨١ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣١ الحديث ١١٧٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٧.


مشافهة : كتبت إليك بكذا وأجبت كذا ، فقال : «نعم» ، فقلت : في أيّ شي‌ء تعني بالحرمين؟ فقال : «مكّة والمدينة» (١).

وصحيحة عثمان أنّه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين؟ فقال : «أتمّهما ولو صلاة واحدة» (٢).

وصحيحة البزنطي ، عن إبراهيم بن شيبة أنّه كتب إلى الجواد عليه‌السلام عن إتمام الصلاة في الحرمين ، فكتب : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين فأكثر فيهما وأتمّ» (٣).

وصحيحة صفوان ، عن مسمع ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قال : «إذا دخلت مكّة فأتمّ الصلاة يوم تدخل» (٤).

وصحيحة صفوان ، عن عمر بن رياح أنّه قال لأبي الحسن عليه‌السلام : أقدم مكّة أتمّ أو اقصر؟ قال : «أتمّ» قال : أمرّ على المدينة فأتمّ الصلاة أو أقصّر؟ قال : «أتمّ» (٥). إلى غير ذلك ـ وبين ما دلّ على وجوب التقصير ، كصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع أنّه سأل الرضا عليه‌السلام عن الصلاة بمكّة والمدينة تقصير أو تمام؟ فقال : «قصّر ما لم تعزم على مقام عشرة أيّام» (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.

(٢) قرب الإسناد : ٣٠٠ الحديث ١١٨١ ، الكافي : ٤ / ٥٢٤ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٥ الحديث ١٤٧٧ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٠ الحديث ١١٧٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٩ الحديث ١١٣٥٩.

(٣) الكافي : ٤ / ٥٢٤ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٥ الحديث ١٤٧٦ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٠ الحديث ١١٧٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٩ الحديث ١١٣٦٠.

(٤) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٦ الحديث ١٤٨٠ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣١ الحديث ١١٧٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٦ الحديث ١١٣٤٩.

(٥) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٦ الحديث ١٤٧٩ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٠ الحديث ١١٧٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٦ الحديث ١١٣٥٠ و ١١٣٥١.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٢١ الحديث ٤٤ ، تهذيب


ورواية علي بن حديد المتقدّمة (١) ، وصحيحة علي بن مهزيار ، عن محمّد بن إبراهيم الحضيني قال : استأمرت أبا جعفر عليه‌السلام في الإتمام والتقصير ، فقال : «إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيّام وأتم الصلاة». فقلت : إنّي أقدم مكّة قبل التروية بيوم أو يومين ، قال : «انو مقام عشرة أيّام وأتمّ الصلاة» (٢) ، يعني ما لم تنو لا يمكنك الإتمام.

وصحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل قدم مكّة فأقام على إحرامه؟ قال : «فليقصّر ما دام على إحرامه» (٣).

وصحيحة أبي ولّاد الحنّاط (٤) ، وسنذكرها.

ورواية حمزة بن عبد الله الجعفري ، قال : لمّا نفرت من منى نويت المقام بمكّة فأتممت الصلاة حتّى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدّا من المصير إلى المنزل ولم أدر اقصّر أم أتمّ ، فأتيت أبا الحسن عليه‌السلام فقصصت عليه القصّة ، فقال : «ارجع إلى التقصير» (٥) ، وغير ذلك من الأخبار.

وأنّه يدلّ على التخيير صريحا صحيحة علي بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام في الصلاة بمكّة ، فقال : «من شاء أتمّ ومن شاء قصّر وليس بواجب إلّا أنّي احبّ لك

__________________

الأحكام : ٥ / ٤٢٦ الحديث ١٤٨٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٣ الحديث ١١٣٧٤.

(١) راجع! الصفحة : ١٨٧ و ١٨٨ من هذا الكتاب.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ الحديث ١٤٨٤ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٨ الحديث ١١٣٥٧ مع اختلاف.

(٣) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٧٤ الحديث ١٦٦٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٥ مع اختلاف يسير.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٩ الحديث ٨٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٩ الحديث ١١٣٠٦.


ما احبّ لنفسي» (١) وبضميمة عدم القائل بالفصل يتمّ في الأربعة.

ويدلّ على التخيير في مسجد الكوفة والحائر أيضا ، ما رواه الشيخ ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، بسنده إلى حمّاد بن عيسى ـ والظاهر أنّه صحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن : حرم الله ، وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحرم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحرم الحسين بن علي عليهما‌السلام» (٢).

وغير ذلك من الأخبار مثل رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : «تتمّ الصلاة في أربعة مواطن : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين عليه‌السلام» (٣).

ورواية خادم إسماعيل بن جعفر ، عن الصادق عليه‌السلام : «تتمّ الصلاة في أربعة مواطن : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين عليه‌السلام» (٤) وغيرهما.

وورد في غير واحد من الأخبار ما يفيد التخيير واستحباب التمام ، وأنّ الإتمام من الأمر المذخور (٥).

ويظهر من صحيحة علي بن مهزيار وغيرها أنّ هذا الاختلاف كان في عصر الأئمّة عليهم‌السلام منهم مشهورا معروفا ، والشيعة ربّما تحيّروا ، فمع كونهم أهل الشهود لم

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٥٢٤ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٩ الحديث ١٤٨٨ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١١٨٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٩ الحديث ١١٣٦١.

(٢) الخصال : ١ / ٢٥٢ الحديث ١٢٣ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٣٠ الحديث ١٤٩٤ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٤ الحديث ١١٩١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الحديث ١١٣٤٣.

(٣) الكافي : ٤ / ٥٨٦ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٣٢ الحديث ١٥٠٠ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٥ الحديث ١١٩٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣١ الحديث ١١٣٦٧.

(٤) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٣١ الحديث ١٤٩٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٨ الحديث ١١٣٥٦.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.


يفهموا التخيير ، بل كانوا باقين على اختلافهم وتحيّرهم واضطرابهم ـ لو لم نقل باتّفاقهم على التقصير ـ وسألوا الأئمّة عليهم‌السلام عن هذا الاختلاف ومنشأه ، فما أجابوا عليهم‌السلام أنّه لا أصل له وأنّ المعارض ليس منّا ، بل صدّقوا وأظهروا كون المعارض حقّا ، وما قالوا أيضا : إنّ مرادنا من الأخبار المختلفة التخيير ، بل أجابوا بأنّ مرادنا كان التقيّة ، والاستتار عن العامّة.

روى معاوية بن وهب ـ في الصحيح ـ أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن التقصير في الحرمين والتمام؟ قال : «لا تتمّ حتّى تجمع على مقام عشرة أيّام» ، فقلت : إنّ أصحابنا رووا عنك أنّك أمرتهم بالتمام ، فقال : «إنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون ويأخذون نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام» (١).

وفي «العلل» في الصحيح ، عن معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : مكّة والمدينة كسائر البلدان؟ قال : «نعم» ، قلت : روى عنك بعض أصحابنا أنّك قلت لهم : أتمّوا بالمدينة لخمس ، فقال : «إنّ أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند صلاتهم فكرهت ذلك لهم فلهذا قلته» (٢).

ورواية علي بن حديد قد عرفتها (٣) ، وأيضا صحيحة أبي ولّاد الحنّاط (٤) ، ـ التي هي الأصل للحكم المسلّم الوفاقي وهو أنّ ناوي الإقامة عشرا إن صلّى صلاة بتمام ، ثمّ بدا له ، يجب عليه الإتمام إلى أن يسافر ، وإلّا يجب عليه القصر على ما

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٥ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٤ الحديث ١١٣٧٦.

(٢) علل الشرائع : ٤٥٤ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣١ الحديث ١١٣٦٩ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! الصفحة : ١٨٧ و ١٨٨ من هذا الكتاب.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.


سيجي‌ء ـ واردة في ناوي الإقامة في المدينة ، وهي أحد المواطن الأربعة.

وحملها على إرادة غير تلك المدينة فاسد ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وحملها على صورة إيقاع الصلاة في غير المسجد أيضا فاسد ، لأنّ المستفاد من الأخبار ـ كلّا أو جلّا ـ كون الإتمام في مكّة والمدينة لا خصوص المسجدين ، وعلى تقدير الاختصاص ، لا شبهة في أنّ صلاتهم كانت في المسجد كلّا أو جلّا ، ولا يتركون المسجد ويصلّون في غيره.

وحملها على الفرض النادر باطل ، وترك الاستفصال في مقام الجواب عن السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم ، سيّما وأن يكون الفرد هو أظهر الأفراد ـ لو لم نقل بتعيين إرادته ـ لأنّ أهل المدينة صلاتهم في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ظنّك بالغرباء الذين في حال السفر يصلون إليها ، ويريدون تحصيل فضيلة المسجد؟ لأنّ الصلاة فيه بعشرة آلاف صلاة في غيره ، وغير ذلك من الفضائل.

وحمل هذه الصحيحة على التخيير فاسد قطعا ولا يرضى به أحد ، هذا حال المدينة.

وأمّا مكّة ، فقد عرفت الأخبار الدالّة على وجوب القصر فيها ، بل وتصريحهم بأنّ أمرهم بالتمام كان من جهة التقيّة.

مضافا إلى ظهور ذلك في الخارج أيضا ، فإنّ أعظم أسباب اختلاف الأخبار التقيّة ، يدلّ على ذلك العقل والنقل المتواتر (١) ، وكلّ واحد من الحرمين مشهد عام لا يمكن ترك التقيّة فيه ، وذلك مشاهد محسوس معلوم في الأعصار والأمصار ، وأنّ الإتمام موافق للتقيّة جزما.

وكذلك الحال في مسجد الكوفة ، فإنّه أيضا كان مشهدا عامّا للشيعة وأهل

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.


السنّة من جهة نهاية فضيلته ، ووفور الطائفتين فيها.

وكذلك الحال في الحائر ، لما نقل العامّة والخاصّة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام نهاية الفضيلة في زيارته (١) ، وكانوا يزدحمون فيها ، ولو كانت خاصّة الشيعة لكانوا يعرفون بها قطعا ، فكانوا يقتلون ويؤذون ، وكان الأئمّة عليهم‌السلام يمنعونهم عنها جزما ، كما هو الحال في سائر أمارات التشيّع ، مع أنّهم بالغوا فيها غاية المبالغة ، وحثّوا عليها شديدا.

ومن هذا ورد في زيارة الأربعين خاصّة أنّها من علامات المؤمن والشيعة (٢) ، وفي زيارة الرضا عليه‌السلام أنّه لا يزوره إلّا الخواصّ (٣) ، وصدر من المتوكّل ما صدر (٤) ، مع أنّه لو كان يعرف شخصا ، أنّه من الشيعة ما كان يمهله ساعة ولا دقيقة.

ويدلّ أيضا على وجوب القصر صحيحة ابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يدخل مكّة من سفره وقد دخل وقت الصلاة ، قال : «يصلّي ركعتين» (٥).

وفي الحسن ـ كالصحيح ـ : «إنّ أهل مكّة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا وإن لم يدخلوا منازلهم قصّروا» (٦).

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٠٩ الباب ٣٧ ، ٤٤٣ الباب ٤٤ من أبواب المزار ، فردوس الأخبار : ١ / ٢٧٧ الحديث ٨٦٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ٦ / ٥٢ الحديث ١٢٢ ، مصباح المتهجّد : ٧٨٨ ، وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٧٨ الحديث ١٩٦٤٣.

(٣) الكافي : ٤ / ٥٨٤ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٣٤٨ الحديث ١٥٩٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ٢٩٢ الحديث ٢٦ ، وسائل الشيعة : ١٤ / ٥٦٢ الحديث ١٩٨٢٩.

(٤) تاريخ حبيب السير : ٢ / ٢٦٩.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣ الحديث ٢٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٦ الحديث ١١٣٢٢.

(٦) الكافي : ٤ / ٥١٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٧٩.


وفي الحسن ـ كالصحيح ـ عن الحلبي : «إنّ أهل مكّة إذا خرجوا حجّاجا قصّروا ، وإذا زاروا البيت ورجعوا إلى منازلهم أتمّوا» (١).

هذه كلّها أدلّة الصدوق رحمه‌الله ، مضافا إلى أخبار اخر كثيرة ، والعمومات والأصل ، وما ورد في علّة القصر (٢) ، وما ورد من أنّ الله تصدّق بالركعتين ، ولا يرضى بأن يردّ عليه صدقته (٣) ، وغير ذلك.

وحمل الأخبار الدالّة على وجوب الإتمام على التخيير خلاف الظاهر ، إلّا أنّه ممكن ، ولا يأبى عنه.

لكن الروايات الدالّة على تحتّم القصر تأبى عن إرادة التخيير ، وقد ذكرنا تلك الروايات ، فلاحظ.

مع أنّ الإتمام أفضل فردى الواجب التخييرى ، فكيف كانوا عليهم‌السلام يأمرون بالقصر ويطلبونه من المكلفين؟ وأنّ أقصى مراتب الأمر الطلب ، فكيف يجوز أن يكون المرجوح راجحا ومطلوبا؟ سيّما بمثل الطلب الوارد في تلك الأخبار الظاهرة ، بل الصريحة في عدم تجويز التمام أصلا ورأسا.

وأيضا التخيير مع أفضليّة الإتمام هو عين مذهب أهل السنّة ، بل لا يرضون بالقصر ويجعلونه شعار الرفضة ، كترك التكتّف في الصلاة ، والصلاة على التربة الحسينيّة وأمثالهما.

والأئمّة عليهم‌السلام كانوا يأمرون الشيعة بالإتمام تقيّة ، والشيعة بناؤهم في الأعصار والأمصار التقيّة في إظهار عدم القصر ، بل كانوا يظهرون الإتمام.

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٥١٨ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٥ الحديث ١١١٨٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠ الحديث ١٣٢٠ ، علل الشرائع : ٢٦٦ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٠ الحديث ١١٣٣٧.

(٣) الكافي : ٤ / ١٢٧ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٩ الحديث ١١٣٣٢.


وبالجملة ، حمل الأخبار الكثيرة الصحيحة والمعتبرة الدالّة على لزوم القصر القويّة الدلالة عليه على كون المراد جواز القصر مع المرجوحيّة ممّا لا يمكن أن يرتكب.

والأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير مع رجحان الإتمام ، مع أنّه عين مذهب أهل السنة ، كيف يحكم بالبقاء على ظواهرها بحيث تكون عين مذهب الخاصّة؟ وأنّه الحقّ والصواب والموافق للواقع.

مع ورود الأخبار المتواترة في أنّ ما وافق العامّة هو التقيّة ، والرشد في خلافه (١) ، ويجب تركه في غير صورة التقيّة ، وأنّ ما خالف العامّة أو لم يوافقهم هو الرشد والصواب ويجب الأخذ به ، وقد عرفت أنّ ما دلّ على وجوب القصر هو المخالف للعامّة.

وكذا ما تضمّن الأمر بالتمام هو الموافق للعامّة والملائم للتقيّة ، سيّما مع تصريح الأئمّة عليهم‌السلام بذلك ، كما عرفت ، وعرفت أنّه الموافق للاعتبار والطريقة المرعية المشاهدة في الأعصار والأمصار.

على أنّا نقول : ما تضمّن الأمر بالتمام يمكن أن يكون المراد أن يقصد الإقامة ، وهذا أقرب من حمل ما دلّ على لزوم القصر على التخيير ومرجوحيّته وغير ذلك.

بل في صحيحة علي بن مهزيار المذكورة ما يشير إلى ذلك ، لأنّ في ذيلها ـ على ما في «التهذيب» ـ أنّه قال : وإذا توجّهت من منى فقصّر الصلاة ، فإذا انصرفت من عرفات إلى منى وزرت البيت ورجعت إلى منى فأتمّ الصلاة تلك الثلاثة أيّام (٢).

__________________

(١) الكافي : ١ / ٦٧ الحديث ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥ الحديث ١٨ ، تهذيب الأحكام : ٦ / ٣٠١ الحديث ٨٤٥ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٧ الحديث ١١٣٨٤.


إذ لو كان التمام من جهة التخيير والأفضليّة لما كان للإتمام وجه ، سيّما وأن يفرع على الإتمام في مكّة ، لأنّ الإتمام من جهة التخيير ليس من قواطع السفر ، بل الإتمام بقصد الإقامة ، أو الحضور قاطع ، كما عرفت ، وعرفت أيضا أنّ أهل منى إذا رجعوا إلى منازلهم يتمّون بعد ذلك ، وإذا لم يرجعوا يقصّرون مطلقا ، وسيجي‌ء تحقيق ذلك.

وأيضا الراجح أنّه ما كذّب أصحابه ، سيّما وأن يكذّبهم بالعلّة التي ذكرها ، وهي أنّ الصلاة في الحرمين لها فضل ، إذ محض هذا كيف يصلح لتكذيب أصحابهم وتغيير الحكم من وجوب القصر إلى جوازه؟ لأنّ المستحبّ لا يصير منشأ لرفع الوجوب ، مع أنّ الفضيلة غير منحصرة ، ولم يصر قطّ منشأ لتغيير حكم الله ، فالأولى والأظهر أنّه مصدق أصحابه وأظهر المراد بالنحو الذي ذكرنا ، ولذا قال : «قد علمت فضل الصلاة فيهما ، فأحبّ لك أن لا تقصر» ، إذ يظهر من هذا التعليل أيضا أنّ الإتمام أمر هو بيدك وتحت اختيارك ، وأنت تعلم فضل الصلاة فيها ، فاحبّ لك أن تختاره ، وأسند الحبّ إلى نفسه المقدّسة ، وقال : «أنا احبّ».

ولو كان المراد هو التخيير الإلهي ، كان المناسب أن يقول : الحقّ مع تلك الرواية ، والفقهاء أخطئوا ، وحكم الله التخيير مع الأفضليّة ، والله اختار لك الأفضل من دون تحتّم.

وأيضا ما ورد في كثير من الأخبار من أنّ الإتمام فيها من الأمر المذخور (١) يناسب هذا المعنى ، لا ما ذكره المشهور ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأيضا ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القصر يفعله الضعيف (٢) يناسب هذا ،

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٧ الحديث ١١٣٥٤.


لأنّ الضعفة ليس لهم استطاعة حتّى يقصدوا الإقامة ويتمّوا.

وليس معناه أنّهم ضعفاء في الدين ، إذ لا شكّ في أنّ من أمرهم بالقصر في غاية الجلالة والاستقامة في الدين ، مثل : ابن بزيع ، وابن وهب ، وهشام ، وغيرهم من الأعاظم ، مع أنّ فقهاءهم (١) كانوا يقصّرون ، كما عرفت.

نعم ، بعض الأخبار المتضمّنة للأمر بالإتمام ولو صلاة واحدة (٢) ، لا يناسب هذا ويناسب التقيّة.

ويمكن أن يكون المراد انو الإقامة وأتمّ الصلاة ، وإن لم يتيسّر لك إلّا صلاة واحدة لحصول المانع ، فإنّ إتمام الصلاة فيها أمر مذخور ، وهذا أيضا أولى من توجيههم الأمر بالقصر بكراهة القصر.

وأمّا ما رواه الشيخ ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج أنّه قال للكاظم عليه‌السلام : إنّ هشاما روى عنك أنّك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك لأجل الناس ، قال : «لا ، كنت أنا ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكّة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس» (٣).

قال في «الوافي» : إنّما استتروا عليهم‌السلام عنهم ذلك ، لأنّ تخصيص بعض البلاد دون بعض لم يكن معهودا بين الناس ، بل كان خلاف رأيهم ، فهم وإن رووا التخيير في السفر ، إلّا أنّهم لم يفرّقوا بين البلاد في ذلك ، وأمّا تحتّم القصر ، فكان معروفا بينهم من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام لا إنكار لهم عليهم (٤) ، انتهى.

ولا يخفى فساد ما ذكره ، لأنّ الناس ما كانوا يدورون معهم بحيث يلاحظون

__________________

(١) في (د ٢) زيادة : كلّهم.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٩ الحديث ١١٣٥٩.

(٣) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٦ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٦ الحديث ١١٣٤٨.

(٤) الوافي : ٧ / ١٨٦ ذيل الحديث ٥٧٣٧ مع اختلاف يسير.


أنّهم عليهم‌السلام كانوا يقصّرون في غير مكّة ويتمّون فيها من دون قصد إقامة ، وما كانوا يقصدون الإقامة في غيرها حتّى يتحقّق خلاف التقيّة.

بل المناسب للتقيّة كان الإتمام في أيّ مكان ومقام ، وعدم القصر أصلا ورأسا ، كما ذكرنا سابقا ، بل هو قطعي مشاهد ، فإنّ شعار العامّة اختيار الإتمام ، وإن كان يجوّزون القصر على مرجوحيّة ، كما أنّ شعارهم حجّ غير التمتّع وإن كانوا يجوّزون التمتّع ، إلى غير ذلك ممّا هو في غاية الكثرة ، ومنها التكتّف ، والصلاة على التربة ، وتخضير الأموات ، وغسلهم بغير الماء الحارّ ، إلى غير ذلك ممّا لا حدّ له ولا عدد.

والشيعة في جميع ذلك يتّقون بأمر الأئمّة عليهم‌السلام إيّاهم عموما ، وفي خصوص المواضع ، حتّى ورد منهم عليهم‌السلام : «إنّ ذلك لا يقبل منكم» (١) ، يعنون أنّ المخالفين وإن كانوا يحلّلون وربّما كانوا يفعلون ، إلّا أنّ ذلك لا يقبل منكم ، ويقتلونكم أو يؤذونكم إن فعلتم ، وذلك أيضا مشاهد محسوس.

وأهل البيت عليهم‌السلام وإن كان لهم مذاهب معروفة عند العامّة ، إلّا أنّهم عليهم‌السلام كانوا بأنفسهم يتّقون ويأمرون الشيعة بالتقيّة في ذلك ، وهذا أيضا معروف معلوم بغير خفاء.

نعم ، الباقر عليهم‌السلام بخصوصه من بين أهل البيت عليهم‌السلام قال : «ثلاث لا أتّقي فيهن أحدا : المسح على الخفّين ، وحجّ التمتّع ، وشرب المسكر» (٢).

ومع ذلك لم يقل للشيعة : لا تتّقوا فيها ، بل أمروا عليهم‌السلام إيّاهم بالتقيّة في هذه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٦ / ٢١٦ الحديث ٢١٣٩٧.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٢ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٠ الحديث ٩٥ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٣٦٢ الحديث ١٠٩٣ ، الاستبصار : ١ / ٧٦ الحديث ٢٣٧ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٥٧ الحديث ١٢٠٧.


الثلاثة جزما (١) ، ووجوب التقصير خلاف مذهب العامّة بلا شبهة.

وأهل البيت عليهم‌السلام كانوا في هذا بخصوصه يتّقون أيضا ، ويأمرون بالتقيّة ، ولا شبهة في أنّه يجب التقيّة فيه أيضا ، وهذا أيضا مشاهد.

على أنّ العامّة لو كانوا يرضون بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ولم يكن لهم إنكار عليهم ، فلم يكن مانع من إظهار التخيير الذي هو عين مذهب العامّة في خصوص الحرمين مثلا ، فلا وجه للاستتار حينئذ قطعا ، وليس الاستتار إلّا لأنّ العامّة ما كانوا يرضون بمذهب أهل البيت ، وكانوا ينكرون عليهم عليهم‌السلام ، ولأجل ذلك كان مدار أهل البيت عليهم‌السلام التقيّة بلا شكّ ولا شبهة ، إلّا من بعض علماء أهل السنّة في بعض مقامات مخصوصة ، وإلّا فتقيّتهم عليهم‌السلام من العوام منهم وبعض الخواصّ خصوصا السلطان وبعض القضاة منهم كانت في غاية الشدّة.

وأيضا لا شكّ في أنّ الروايات عنهم عليهم‌السلام في خصوص القصر أو الإتمام في الحرمين ومثلهما كانت في غاية الاختلاف ، ولأجل ذلك وقعوا في الاختلاف والاضطراب ، حتّى أنّه ورد منهم عليهم‌السلام : أنّ أمرنا بالإتمام من أجل الخوف من الناس (٢) ، كما عرفت.

مع أنّ هشاما لا شكّ في كونه ثقة جليلا مقدّسا عظيما لم يكن يكذب عليهم عليهم‌السلام.

وكيف؟ وقد عرفت أنّهم عليهم‌السلام ذكروا ذلك لمعاوية بن وهب الثقة الجليل ، وهشام أجلّ منه وأعظم ، ولذا ما ذكر المعصوم عليه‌السلام أنّه كاذب وما كذبّه.

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه ، لكن يؤمي إليه رواية زرارة ، لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٤٥٧ الحديث ١٢٠٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٦ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٦ الحديث ١١٣٤٨.


نعم ، ذكر ما ذكر ، وأظهر ما أظهر ، كما أنّهم عليهم‌السلام كانوا يأمرون بالإتمام في الحرمين بلا تأمّل ، ولم يكن ذلك إلّا لمصلحة دعتهم عليهم‌السلام إلى ذلك ، وأظهروا أنّها التقيّة.

ولعلّ تلك المصلحة كانت موجودة بالنسبة إلى عبد الرحمن ، وهو كان مثل سائر الرواة الأعاظم الذين أمروهم بالإتمام ، كيف لا؟ وعبد الرحمن هذا هو الذي قال له المعصوم عليه‌السلام : أتمّ الصلاة في الحرمين ، وإن لم تصلّ إلّا صلاة واحدة (١).

وأمّا هشام ، فإنّه كان مثل سائر الرواة الأعاظم الذين أمروهم بالقصر في الحرمين ، ولم يرخّصوا لهم أن يتمّوا.

وبالجملة ، لا شبهة في أنّ شعار العامّة الإتمام ولو في الحرمين ، والقصر في الحرمين لو كان فلا شكّ في كونه من خصائص الخاصّة ، والمقام مثل سائر المقامات التي صرّحوا عليهم‌السلام بأنّهم أوقعونا في الاختلاف ، وأنّه أبقى لهم عليهم‌السلام وأبقى للشيعة.

ومراعاة القاعدة في معرفة الموافق عن المخالف لهم ، لا شكّ في انحصاره في طريقة الصدوق رحمه‌الله وشركائه من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الظاهر من هذا الخبر أنّ المعصوم عليه‌السلام قال : أنا وآبائي كنّا نتمّ في حال الاستتار من الناس أيضا ، فكيف كان أمرنا هشاما بالإتمام من أجل الناس؟

فلعلّ مراده عليه‌السلام أنّهم كانوا يتمّون بعد قصد الإقامة في مكّة ، وهذا هو الظاهر ، إذ يبعد أنّهم كانوا لا يقيمون في مكّة ـ شرّفها الله تعالى ـ مقدار عشرة أيّام حتّى يكون إتمامهم بمجرّد التخيير ، مع أنّهم عليهم‌السلام أمروا غيرهم بقصد الإقامة ثمّ الإتمام ، ونهوا عليهم‌السلام إيّاهم عن الإتمام بغير قصد الإقامة ، وإنّما ذكر عليه‌السلام ذلك كلّه ،

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٨٨ من هذا الكتاب.


لأنّه لم ير المصلحة في أن يقول لعبد الرحمن ما قال لهشام ، وابن وهب ، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع ، وغيرهم من الأعاظم الذين عرفت أنّهم عليهم‌السلام أمروهم بالقصر ولم يقبل شي‌ء من أخبارهم التوجيه أصلا.

بل أظهروا لهم أنّ الأمر بالإتمام أيضا صدر منّا ، إلّا أنّه كان لأجل كذا وكذا.

ويحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : «لا ، كنت أنا». إلى آخره (١) استفهاما إنكاريّا أو تقريريّا ، ويكون مراده أنّه ألست كنت أنا وآبائي إذا دخلنا مكّة كنّا نتمّ ونستتر من الناس ، أي نستتر حالنا على الناس حتّى لا يعرفوا إنّا كنّا نقصّر في السفر ، فمعنى «استترنا من الناس» استترنا أنفسنا منهم ، لا أنّهم استتروا الإتمام من الناس.

وهذا هو الموافق لما ذكروه لهشام ، فيكون عليه‌السلام صدّق هشاما ، وهو الأنسب بالنسبة إلى مثل هذا الجليل الثقة ، مع أنّ عبد الرحمن كان من تلامذة هشام ، وكان في غاية الإخلاص له.

وهذا أيضا يؤيّد ما ذكرناه ، مضافا إلى أنّ هذه الرواية على هذا تصير موافقة لصحيحة ابن وهب (٢) وغيرها ممّا ذكر ، على أنّ الأمر بالتمام من أجل الناس ، ويؤيّده الاعتبار وغيره ممّا أشرنا.

وبالجملة (٣) ، الأئمّة عليهم‌السلام عالجوا تعارض أخبارهم وأوجبوا علينا الأخذ بكلّ علاج منها ، فكيف يجوز لنا رفع اليد عنها والقول بأهوائنا مع منعهم عليهم‌السلام عنه صريحا؟ ومعالجاتهم هي الأخذ بما خالف العامّة وما وافق الكتاب بعد تفسير أهل البيت عليهم‌السلام ـ كما مرّ في صحيحة زرارة وابن مسلم (٤) ـ وطريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٩٨ من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ١٩١ و ١٩٢ من هذا الكتاب.

(٣) لم ترد في : (د ٢) و (ز ٢) و (ز ٣) و (ط) من قوله : وبالجملة. إلى قوله : ولا يضايقون من الإكثار.

(٤) راجع! الصفحة : ١٧٨ و ١٧٩ من هذا الكتاب.


وسائر أحاديثهم ، أو المشتهر بين أصحابهم في زمانهم ، والشهرة في غيرهم إنّما تعتبر لكونها كاشفة عن شهرتهم ، واستصحاب الحالة السابقة ، أو القاعدة الثابتة عنهم عليهم‌السلام ، أو العقل والوجدان ، أو سائر أحكامهم عليهم‌السلام.

وجميع ما ذكر يوجب الأخذ بما دلّ على وجوب القصر لا غير ، كما لا يخفى.

والمراد من الاستصحاب أنّ المسافر قبل دخول هذه الأماكن يجب عليه القصر ، كما سيجي‌ء ، فكذا بعدها ، والقاعدة قولهم عليهم‌السلام : «إذا قصّرت أفطرت» (١) الحديث ، والحال أنّ الصوم غير جائز ، كما سيجي‌ء.

وكذا سائر أحكامهم عليهم‌السلام ، مثل : علّة القصر ، كذا وأنّ الله تصدق بركعتين ولا يرضى بأن يردّ عليه صدقته ، وغير ذلك ، والبواقي ظاهرة.

لا يقال : ما ورد من أنّ الإتمام في الأربعة من مخزون علم الله ، أو مذخور فيه ، مخالف أيضا لقول العامّة.

لأنا نقول : باقي العلامات تكفي لردّه ، بل واحد منها فضلا عن المجموع ، مع أنّ منطوقه موافق ، فهو أوفق ممّا دلّ على وجوب القصر ، والأوفقيّة معتبرة ، سيّما مع عدم ظهور مخالفة المفهوم.

ألا ترى أنّ بعض الأخبار الإتمام في الحرمين ، بل أكثره كذلك ، وبعضها في ثلاثة أماكن ، ولم يجعلا مخالفين للمشهور ، بل جعلا دليلين لهم.

مع أنّه لا يظهر منه أنّ التخيير في أربعة ، بل اختيار الإتمام فيها ، فإذا كان العامّة كلّهم لا يأبون عن فضيلة الصلاة فيها ، لا يظهر من المفهوم مخالفتهم ، لأنّ الفضيلة ترجّح إكثار الصلاة ، وهو ترجّح الإتمام ، ولذا في أخبارنا ورد هكذا ، فهذا يناسب العامّة لا الخاصّة ، لكون القصر عندهم عزيمة ، فكيف يصير الاستصحاب

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٣١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٣ الحديث ١١١٤٤.


منشأ لرفع الوجوب؟

ولا يناسب قولهم عليهم‌السلام : «فأنا احبّ أن تكثر وتتمّ الصلاة فيها» (١) مع أنّ المذخوريّة أيضا لا يناسب إلّا ذلك.

مع أنّ مرادنا من التقيّة هو الاتّقاء ، لأنّ هذه الأماكن لمّا كانت مشاهد عامّة عظيمة قالوا للشيعة كذلك ، حتّى يتمّوا وينجوا عن أعدائهم.

وزيارة الحسين عليه‌السلام ما كانت من خصائص الشيعة بالبديهة ، كما أنّها الآن أيضا كذلك ، ولو كانت منها ، لعرفوا وقتلوا أو تركوا زيارته عليه‌السلام بالمرّة ، ونهوا عنها الأئمّة عليهم‌السلام ، مع أنّه ورد منهم عليهم‌السلام ما ورد ، واشتهر حكاية المتوكّل ما اشتهر (٢) ، ونرى العامّة يزدحمون في الزيارة ، ويكثرون الصلاة فيها ، ولا يضايقون من الإكثار.

والحاصل ، أنّه لو لا الشهرة بين الفقهاء ووفور الأخبار الظاهرة في مذهبهم ، لكان القول بما قال الصدوق وشركاؤه متعيّنا متحتّما.

ومع ذلك لا شكّ في أنّ الاحتياط اختيار القصر ، بل البراءة اليقينيّة منحصرة فيه ، لاتّفاق الفقهاء على صحّته واتّفاق الأخبار عليه ، إذ ما ظهر منه الإتمام قد ظهر حاله ، وأن المراد منه إمّا التخيير أو التقيّة ، أو شرط قصد الإقامة ، وأنّ أحد ما ذكر معتبر فيه قطعا.

وأمّا ما نسب إلى السيّد وابن الجنيد (٣) ، فظاهره في غاية الضعف والبطلان بالنظر إلى الأدلّة ، ولذا عدّ المشهور السيّد من المخيّرين ، مع عدم اختصاصه

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٥٢٥ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١١٨٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.

(٢) تاريخ حبيب السير : ٢ / ٢٦٩ ، تاريخ الخلفاء : ٣٤٧.

(٣) راجع! الصفحة : ١٨٨ من هذا الكتاب.


بالمواطن الأربعة ، مع أنّ الاحتياط منه بالنسبة إلى غير الأربعة لا عبرة به أصلا.

وما ورد من الإتمام في هذه الأربعة من مخزون علم الله (١) ، لعلّه إشارة إلى حكاية التقيّة التي صرّحوا بها.

وممّا يؤيّد الصدوق ومشاركيه وقوع الاختلاف في الأخبار الدالّة على التمام أو التخيير (٢) ، في أنّ مجموع مكّة والمدينة كذلك ، أو خصوص مسجديهما ، فبعضها في غاية الظهور في الأوّل ، وبعضها في غاية الظهور في الثاني بحيث لا يمكن الجمع بوجه مقبول ، ولذا وقع الاختلاف بين القائلين أيضا.

فأكثرهم على الأوّل ، منهم الشيخ ، وابن إدريس اختار الثاني (٣) ، ومستند الأوّلين أقوى سندا وأكثر عددا.

نعم ، مستند الآخر من الأخبار القطعيّة عند ابن إدريس ، لأنّه لا يتمسّك بالخبر الظنّي ، فتأمّل!

وأمّا مسجد الكوفة والحائر ، فقد وقع فيهما الخلاف أيضا بحسب الأخبار والفتاوى.

فبعض الأخبار ورد بلفظ مسجد الكوفة والحائر.

وبعضها ورد بلفظ حرم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحرم الحسين عليه‌السلام.

وبعضها ورد بلفظ الكوفة ، وعند قبر الحسين عليه‌السلام.

وبعضها بلفظ مسجد الكوفة ، وحرم الحسين عليه‌السلام.

وبعضها ورد ثلاثة مواطن : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) الخلاف : ١ / ٥٧٦ المسألة ٣٣٠ ، السرائر : ١ / ٣٤٢.


قبر الحسين عليه‌السلام (١).

أمّا الفتاوى ، فبعض الأصحاب اقتصر على مسجد الكوفة أخذا بالمتيقّن ، ولم يتعرّض لحرم الحسين عليه‌السلام (٢).

وابن إدريس اقتصر على مسجد الكوفة ، وقال بالحائر (٣).

والشيخ عمّم الحكم في بلد الكوفة ، كما عمّم في مكّة والمدينة (٤).

وحكى في «الذكرى» عن المحقّق أنّه حكم ـ في كتاب له في السفر ـ بالتخيير في البلدان الأربعة ، حتّى في الحائر المقدّس ، لورود الحديث بحرم الحسين عليه‌السلام ، وقدّره بأربعة فراسخ وخمسة فراسخ (٥) لما ورد في بعض الأخبار من تحديد حرم الحسين عليه‌السلام بالقدر المذكور (٦).

وتأمّل في «المدارك» في ذلك ، بناء على أنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة (٧).

ويمكن أن يقال : على تقدير المجازيّة أيضا يتمّ ذلك ، لأنّ الاتّحاد لو لم يكن مرادا يكون المراد المشاركة في الحكم ، وأقرب المجازات هو المشاركة في جميع الأحكام ، إلّا ما أخرجه الدليل ، كما مرّ في بحث الطهارة لخطبة صلاة الجمعة (٨).

ثمّ اختار هو الحائر موافقا لابن إدريس وغيره ، وذكر عن ابن إدريس أنّ

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) المعتبر : ٢ / ٤٧٧.

(٣) السرائر : ١ / ٣٤٢.

(٤) الخلاف : ١ / ٥٧٦ المسألة ٣٣٠ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٣٢ ذيل الحديث ١٥٠٠ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٦ ذيل الحديث ١١٩٦.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٩١.

(٦) وسائل الشيعة : ١٤ / ٥١٠ و ٥١١ الحديث ١٩٧١٠ و ١٩٧١١.

(٧) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٩.

(٨) راجع! الصفحة : ٦٨ ـ ٧٠ من هذا الكتاب.


الحائر ما دار سور المشهد والمسجد عليه ، قال : لأنّ ذلك هو الحائر حقيقة ، لأنّ الحائر في لسان العرب : الموضع المطمئنّ الذي يحار فيه الماء (١).

وذكر في «الذكرى» : أنّ هذا الموضع حار الماء ، لما أمر المتوكّل بإطلاقه على قبر الحسين عليه‌السلام ليعفيه ، فكان لا يبلغه (٢) ، انتهى.

وحيث عرفت أنّ البراءة اليقينيّة تحصل بالقصر ، وورد عنهم عليهم‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٣) ، وغير ذلك من الأخبار المتضمّنة للأمر بالتجنّب عن الشبهات والاحتياط في الدين مهما أمكن ، والأخذ بالثقة (٤) ، فلا حاجة لنا إلى تعيين المواضع الأربعة.

وممّا يؤيّد الصدوق وموافقيه ما أشرنا سابقا من أنّ التخيير إن كان ففي الصلاة خاصّة ، على ما يظهر من الأخبار وفتاوى الأخيار ، فإنّ الظاهر أنّ المشهور لا يجوّزون التخيير في الصوم ، بل يحكمون بوجوب الإفطار تمسّكا بمقتضى الأدلّة الدالّة عليه السالمة عن المعارض.

ووجه التأييد ما عرفت من صحيحة ابن وهب : «إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت» (٥).

وهذا الحديث من المسلّمات أفتى الجميع بمضمونه ، وبنوا على صحّة هذه القاعدة ، مع أنّ تتبع تضاعيف أحكام القصر والإتمام في الصلاة والصيام يكشف عن صحّة هذه القاعدة.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٨ ـ ٤٧٠ ، السرائر : ١ / ٣٤٢.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٩١.

(٣) كنز الفوائد : ١ / ١٦٤ ، وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٦٧ الحديث ٣٣٥٠٦.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١ ، راجع! الصفحة : ١٤٠ و ١٤١ من هذا الكتاب.


فروع

الأوّل : صرّح في «المعتبر» بأنّه لا يعتبر التعرّض لنيّة القصر والإتمام لصلاة هذه الأماكن ، وعلى تقدير التبرّع بالنيّة لا يتعيّن ما نوى ، فيجوز العدول عن القصر إلى الإتمام ، وبالعكس إذا أمكن (١).

وهو حسن ، بل على القول بوجوب النيّة المذكورة يجوز العدول ، لعموم الأخبار الدالّة على التخيير (٢) ، وفاقا للشهيد ، وأبي العبّاس (٣).

الثاني : الأظهر جواز الإتمام في هذه الأماكن على القول به ، وإن كانت الذمّة مشغولة بواجب.

ونقل العلّامة عن والده أنّه كان يمنع عن ذلك (٤) ، ولعلّه من جهة قوله بالمضايقة في القضاء ـ وسيجي‌ء الكلام فيها ـ أو عدم تجويزه النافلة مع شغل ذمّته بالفريضة.

الثالث : لو ضاق الوقت إلّا عن أربع ، فالأظهر وجوب القصر فيهما ، لتقع الصلاتان في وقتهما ، لعموم ما دلّ على ذلك.

واحتمل في «المدارك» جواز الإتمام في العصر ، لعموم «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الصلاة» (٥) ، وضعّفه بأنّ ذلك لا يقتضي تجويز تعمّده اختيارا ، لاقتضائه تأخير الصلاة عن الوقت المعيّن لها شرعا (٦).

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ١٥٠.

(٢) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٤ الباب ٢٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٤٩ ، الرسائل العشر (الموجز الحاوي) : ٧٣.

(٤) منتهى المطلب : ٦ / ٣٦٧.

(٥) ذكرى الشيعة : ٢ / ٣٥٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢١٨ الحديث ٤٩٦٢ مع اختلاف يسير.

(٦) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٠.


قلت : ويؤيّده أيضا أنّ ما دلّ على التخيير على تقدير التماميّة نسلّم شموله لهذه الصورة.

ثمّ نقل عن بعض الأصحاب جواز الإتيان بالعصر تماما في الوقت ، وقضاء الظهر ، لاختصاص العصر من آخر الوقت بمقدار أدائها ، قال رحمه‌الله : وهو أضعف من الأوّل (١).

أقول : لا شبهة في فساده.

الرابع : لو شكّ المصلّي في هذه الأماكن بين الاثنين والأربع بعد إكمال السجدتين تشهد وسلّم ، ولم يجب عليه الاحتياط ، بل يستحب على القول باستحباب التمام ، أمّا على طريقة الصدوق تبطل.

وأمّا لو شكّ بين الثلاث والأربع بنى على الأكثر ، ووجب عليه الاحتياط قطعا ، إمّا بركعتين جالسا أو ركعة قائما ، كما سيجي‌ء في حكم هذا الشكّ مطلقا.

ولو شكّ بين الاثنين والثلاث والأربع بعد الإكمال ، وجب عليه الاحتياط بركعة قائما ، أو ركعتين جالسا ، ولا يجب الاحتياط بركعتين قائما قبل الركعة قائما أو بدلها.

نعم ، يستحبّ الاحتياط بركعتين أيضا ، إلّا أنّ وجوب تقديمهما على الركعة قائما أو بدلها ربّما لا يخلو عن إشكال ، لوجوبه واستحبابهما ، وإن كان الأظهر الوجوب بعد الاختيار ، فتأمّل جدّا!

الخامس : لو نوى الإقامة وصلّى فريضة بتمام ثمّ بدا له يجب عليه أن يصلّي بتمام إلى أن يخرج ، كما هو الحال في غير هذه الأماكن.

ولو بدا له في الأثناء ، فإن كان قبل الدخول في الثالثة يتشهد ويسلّم ويقصّر

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧١.


وجوبا على قول الصدوق (١) ، وجوازا على قول المشهور ، ويستحبّ الإتمام على قولهم ، ولا يصير هذا منشأ لوجوب الإتمام عليه بعد ذلك.

وأمّا لو دخل في الثالثة أو الرابعة ، فالأظهر وجوب هدم هذه الصلاة ، والإعادة على قول الصدوق ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا على القول المشهور ، فالأظهر وجوب الإتمام عليه ، للنهي عن إبطال الصلاة من دون ضرورة وحاجة ، كما ستعرف.

ولا يصير هذا أيضا منشأ لوجوب الإتمام عليه بعد ذلك ، لعموم ما دلّ على وجوب القصر تخييرا ، والاستصحاب ، وعدم شمول ما دلّ على أنّ من صلّى صلاة فريضة بتمام حال قصد الإقامة يجب عليه التمام بعد ذلك ، ووجهه ظاهر لا يخفى.

السادس : ألحق ابن الجنيد والمرتضى (٢) بهذه الأماكن جميع مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام. والظاهر أنّ ابن الجنيد قال بذلك من جهة قوله بالقياس حين ما كان قائلا به ، إلّا أنّه رجع عنه ، فيلزمه رجوعه عن هذا الحكم أيضا.

وأمّا السيّد رحمه‌الله فقوله بذلك في غاية الغرابة ، لأنّه ما كان قائلا بحجّية القياس المنصوص العلّة ، مع كونه حجّة ، فكيف غيره؟ مضافا إلى أنّهما قالا بوجوب الإتمام ، كما ذكرنا.

فهذا أيضا تعجّب آخر ، فإنّ الأخبار الدالّة على وجوب القصر أو التخيير بينه وبين الإتمام بلغ حدّ التواتر ، بل عرفت أنّ مضمون بعضها مجمع عليه بين الأصحاب.

مع أنّ ما دلّ على الوجوب بالنسبة إلى هذه الأخبار في غاية الضعف من

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) نقل عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٥ و ١٣٦ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٧.


الدلالة [و] من جهة العدد ، ومن جهة موافقة التقيّة ، وعدم فتوى أحد بظاهره ، فلعلّ مراده رحمه‌الله أمر آخر ، وليس كتابه عندنا حتّى نتأمّل فيه ، وكذا الحال في ابن الجنيد.

وبالجملة ، ما يظهر منهما خلاف الآية والأخبار المتواترة والاصول والقاعدة وطريقة الشيعة ، بل المسلمين في الأعصار والأمصار.

نعم ، عبارة «الفقه الرضوي» ربّما يدلّ على قولهما ، إذ فيها : «وإذا بلغت موضع قصدك من الحجّ والزيارة والمشاهد ، وغير ذلك ممّا قد بيّنته لك ، فقد سقط عنك السفر ، ووجب عليك الإتمام» (١).

وقياس المنصوص العلّة التي في صحيحة علي بن مهزيار حيث قال عليه‌السلام : «قد علمت فضل الصلاة في الحرمين» (٢) في مقام التعليل للإتمام في الحرمين.

والحقّ أنّه حجّة ، لكن يلزم التمام في كلّ موضع للصلاة فيه فضل ، كما أنّ عبارة «الفقه الرضوي» أيضا ظاهرها كذلك ، وهما لا يقولان به ، ومع ذلك لا يفيان لإثبات ما يخالف الأخبار المتواترة ، والخبر المجمع عليه ، والإجماعات.

السابع : إذا أتمّ الصلاة استحبّ الإتيان بنوافل الظهرين أيضا ، لما يظهر من الأخبار من قولهم عليهم‌السلام : وأكثر الصلاة ، وتفريعهم عليهم‌السلام الإتمام على فضيلة الصلاة ، وعموم ما دلّ على الإتيان بالنوافل ، وعدم ظهور دخول الأماكن الأربعة في عموم ما يدلّ على الإسقاط ، لأنّ مقتضاه أنّ الصلاة ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء ، وفيها يكون المستحبّ أربع ركعات على قولهم.

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٠.

(٢) الكافي : ٤ / ٥٢٥ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١١٨٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.


وينبّه عليه ـ أيضا ـ ما ورد في بعض الأخبار المانعة عن النافلة من قولهم عليهم‌السلام : «لو صلحت النافلة [في السفر] تمّت الفريضة» (١).

بل يحتمل على تقدير اختيار القصر أيضا أن لا يكون مانع عن النافلة ، كما أنّ المكلّف يمكنه أن يختار إحدى الفرائض قصرا ، واخرى منها تماما وهكذا ، خصوصا مع التسامح في أدلّة السنن ، فتأمّل جدّا!

الثامن : إذا فاتت الفريضة في هذه الأماكن تخيّر في القضاء أيضا لو كان فيها.

ولو كان في غيرها احتمل بقاء التخيير لعموم قولهم عليهم‌السلام : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتت» (٢) ، واحتمل تحتّم القصر للعمومات ، وكون شمول ذلك العموم للمقام غير خال عن وهن ما ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وكيف كان ، هو أحوط البتة.

التاسع : الموضع الذي يتردّد في دخوله في هذه الأماكن ولم يثبت الدخول ولا الخروج يتعيّن فيه القصر ، لما عرفت.

ولو حصل بالدخول ظن ، فهل يكفي لجواز الإتمام فيه؟ وإن لم يكن في اعتباره دليل شرعي ـ مثل : أنّه يحصل ظنّ أنّ الحائر مجموع ما أحاط به سور المشهد على حسب ما مرّ ـ لأنّ البناء في الموضوعات على الظنون أولا ، لأنّ اعتبار أيّ ظنّ يكون إنّما هو للمجتهد بعد عجزه عن اليقين وعمّا هو أقوى ، كما هو بيّن ومبيّن ومسلّم.

العاشر : من لا يجتهد ولا يقلّد لا يجوز له اختيار الإتمام مطلقا ، وإن كان على

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦ الحديث ٤٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢١ الحديث ٧٨٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٨٢ الحديث ٤٥٦٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.


القول بكونه أفضل ، أو كونه واجبا ، لما عرفت في أوّل الكتاب ، وفي مسألة صلاة الجمعة.

وهل يجوز له الاقتصار على القصر ـ بناء على أنّ صحّته إجماعيّة ، وما نسب إلى السيّد وابن الجنيد في غاية ظهور الفساد ، بأنّ العامي يجزم أنّ الصلاة في البقيع أو طوس وأمثالهما قصر جزما ، والبناء عليه في الأعصار والأمصار عند جميع المسلمين على ما اطّلع عليه ـ أو يجب عليه الإتمام مع القصر من باب المقدّمة لتحصيل براءة الذمّة؟ الأحوط الثاني ، وإن كان الأقوى هو الأوّل إن كان بالنحو الذي ذكرنا.

وأمّا المجتهد المتوقف ، فتعين عليه اختيار القصر ، لانحصار براءة ذمّته فيه ، من دون حاجة إلى الجمع ، بل ليس احتياطا أيضا ، لما عرفت.

وأمّا المجتهد الظان بصحّة التخيير وأولويّة الإتمام ، فاختياره للقصر أحوط فيها (١) وأولى البتة ، ثمّ أولى من جهة شدّة الشبهة ، كما عرفت.

بل عرفت أنّ مع هذه الشبهات يشكل الاقتصار على الإتمام ، ويتعيّن الخروج عن عهدة التكليف في اختيار القصر ، سيّما مع ظهور أنّ ظنّ المجتهد حجّة في مقام العجز عن اليقين ، كما هو من المسلّمات عند المجتهدين.

فإذا كان يفعل القصر يتيقّن براءة ذمّته والخروج عن عهدة التكليف ، بخلاف اختيار التمام ، فإنّه يحتمل أن يكون بعد ما أتى بالمطلوب ، وإن كان الظاهر عنده أنّه أتى به ، وأين الظهور من اليقين؟ وتحقيق الحال مرّ في مبحث صلاة الجمعة.

وأشدّ ممّا ذكر بحسب الإشكال لو اقتصر بالإتمام في غير المسجدين

__________________

(١) في (د ٢) : أحوط فيها جزما وأولى.


الحرامين من مواضع مكّة والمدينة.

وأشدّ من هذا إشكالا الاقتصار بالإتمام في الموضع الذي لا يدري أنّه داخل في الحائر.

وأشدّ من هذا إشكالا لو اقتصر على الإتمام في بيوت الكوفة ، أو غير مسجد الكوفة من مساجدها.


١٥ ـ مفتاح

[المسافة المعتبرة في التقصير]

المسافة المعتبرة في التقصير ثمانية فراسخ ، أو مسيرة يوم تامّ للإبل القطار ، أو بريدان سواء كان هذا المقدار في الذهاب فقط أو مع الإياب ، وقع الإياب في يومه أولا ، ما لم يقطع سفره بإحدى القواطع الثلاث المذكورة ، وفاقا للشيخ (١) والعماني (٢) ، لما ألهمني الله عزوجل به وجعله من قسطي في الجمع بين الصحاح المستفيضة (٣).

وخلافا للمشهور ، حيث خصّوا ذلك بالذهاب ، أو مع الإياب الواقع في يومه ، ولجماعة ، حيث خصّوه بالذهاب فقط ، وخيّروا في نصف هذا المقدار بين القصر والإتمام (٤) ، وكلاهما نشأ من عدم استنباط المراد من الحديث كما ينبغي ، كما يظهر للمتدبّر ، وقد بيّناه في كتابنا الكبير.

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢ ، المبسوط : ١ / ١٤١.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٢.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) لاحظ! السرائر : ١ / ٣٢٩ ، روض الجنان : ٣٨٤.



قوله : (المسافة المعتبرة). إلى آخره.

قد عرفت أنّ القصر لا يجوز إلّا للخوف أو السفر ، والخوف سيجي‌ء.

وأمّا السفر ، فلا شكّ أنّه لغة وعرفا هو أن يطوي مسافة بعنوان امتداد ذهابي ، يذهب ويغيب عن الوطن ، فلا بدّ من قيدين :

أحدهما : الإبعاد عن الوطن ، فلو كان يطوي المسافة ويمشي ويسير في البلد الذي وطنه لا يكون مسافرا ، وإن كان يمشي ويدور دائما ، أو يدور حوله كذلك.

والثاني : أن يكون الامتداد الذهابي عن الوطن بعنوان طيّ مسافة معتدّ بها ، فلو كان يبعد عن الوطن بقليل ويرجع لا يسمّى مسافرا.

فإذا عرفت اعتبار القيدين فاعلم أنّ المسافة المعتبرة في وجوب القصر والإفطار هي ثمانية فراسخ ، أو بياض يوم بالإجماع والأخبار (١) ، ومسافتهما واحدة ، كما يظهر منها.

وأمّا الامتداد الذهابي ، فلا بدّ أن يكون ثمانية فراسخ أيضا عند بعض القدماء ـ على ما هو ببالي ـ وأنّه لا يجوز القصر في الأربعة مطلقا (٢).

وأمّا المشهور ، فقد جعلوا ذلك أعمّ من الذهابي ، فيكون الامتداد واحدا ، أو أربعة ذهابيّة وأربعة إيابيّة ، فيكون امتدادين ، ولا يجوّز أحد امتدادا ذهابيّا عن الوطن أقلّ من الأربعة ، إلّا ما سنذكر عن العلّامة ونضعّفه.

فكما أنّ كون المسافة ثمانية لوجوب القصر وفاقي ، كذا كون الذهاب عن الوطن لا يكون أقلّ من أربعة لمطلق القصر وفاقي أيضا ، وما سنذكر عن العلّامة

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الباب ١ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) غنية النزوع : ٧٣ و ٧٤ ، السرائر : ١ / ٣٢٩.


وهم منه ، كما ستعرف.

ولم يشترط أحد من الفقهاء في طيّ المسافة الثمانية الذهابيّة كيفيّة وخصوصيّة وزمانا ، بل بأيّ نحو يطوي ، وفي أيّ قدر من الزمان يقع يكفي بشرط أن لا يقطعه بإحدى القواطع التي ذكرها المصنّف ، فلو كان طيّ المسافة الثمانية في ظرف عشرة أيّام وأزيد يكفي بشرط أن لا يخرج عن اسم المسافر والسفر عرفا.

وأمّا الأربعة الذهابيّة والإيابيّة التي تصير ثمانية بالانضمام ، فالمشهور بين المتأخّرين أنّه يشترط في القصر والإفطار قصد طيّهما معا في يوم واحد (١) ، يعني أنّ المسافر في ابتداء السفر عند قصده المسافة لا بدّ أن يكون قصده الرجوع ليومه ، فلو لم يقصد ذلك لا يجوز له القصر ، ووافقهم السيّد ، وابن إدريس ، وابن البرّاج (٢).

والظاهر أنّ المراد من اليوم نهاره وبياضه ، وقيل بدخول الليلة فيه مدّعيا تبادر ذلك من الأخبار (٣) ، ولذا يعبّر هكذا : إذا قصد الرجوع ليومه أو ليلته يقصّر وإلّا فلا ، ووافقه الشهيد (٤) ، و [الشيخ] مفلح (٥).

وقال الصدوق في أماليه : من دين الإماميّة الإقرار بأنّ حدّ السفر الذي يجب فيه القصر في الصلاة والإفطار في الصوم ثمانية فراسخ ، فإن كان سفر الرجل أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه ، فهو بالخيار إن شاء أتمّ ، وإن شاء قصّر ، وإن أراد الرجوع من يومه فالتقصير عليه واجب (٦).

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٣ / ١٠١ ، جامع المقاصد : ٢ / ٥١١ ، روض الجنان : ٣٨٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٧ ، السرائر : ١ / ٣٢٩ ، المهذّب : ١ / ١٠٦.

(٣) التنقيح الرائع : ١ / ٢٨٥ ، روض الجنان : ٣٨٣ و ٣٨٤.

(٤) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢٠٩.

(٥) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٩.

(٦) أمالي الصدوق : ٥١٤.


ويظهر من هذا أنّ الفتوى بما ذكره كان مشهورا بين القدماء ، ويشير إلى ذلك موافقة المفيد ، والشيخ له في «المبسوط» و «النهاية» (١) ، وكذا سلّار (٢) ، وفتواه في «الفقيه» أيضا كذلك (٣) ، وكذا في كتابه «الهداية» (٤).

وهذا التخيير إنّما هو في قصر الصلاة على ما يظهر من كلام الصدوق والشيخ ، وإن كان المفيد يعمّم في الصوم أيضا على ما نقل عنه (٥).

وقال الشيخ في كتابي الأخبار : إنّ المسافر إذا أراد الرجوع من يومه ، فقد وجب التقصير عليه في أربعة فراسخ (٦).

ثمّ قال : على أنّ الذي نقوله في ذلك أنّه إنّما يجب التقصير إذا كان مسافة ثمانية فراسخ ، وإن كان أربعة فراسخ فهو بالخيار إن شاء أتمّ وإن شاء قصّر (٧) ، انتهى.

والظاهر من قوله : (على أنّ الذي نقوله) .. إلى آخره ، كون هذا القول علاوة لما ذكره من التوجيه وتتمّة له ، كما هو رأيه في «النهاية» و «المبسوط» ، وكتابه «النهاية» فتاويه على طبق ما في كتابيه في الحديث ، وموافق لشيخه ، والصدوق ، وغيرهما من الإماميّة ، مع أنّ «التهذيب» شرح كلام شيخه ، وهذه أيضا قرينة اخرى.

فما قيل من أنّ مذهبه في كتابي الحديث هو التخيير مطلقا (٨) فيه ما فيه.

__________________

(١) المقنعة : ٣٤٩ ، المبسوط : ١ / ١٤١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٢) المراسم : ٧٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٦٩.

(٤) الهداية : ١٤٢.

(٥) السرائر : ١ / ٣٢٩ ، التنقيح الرائع : ١ / ٢٨٦.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٧ ذيل الحديث ٤٩٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ ذيل الحديث ٧٩١.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ ذيل الحديث ٤٩٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٤ ذيل الحديث ٧٩٢.

(٨) ذخيرة المعاد : ٤٠٥.


هذا ، مع ما عرفت من اشتهار ما ذكر بين الإماميّة ، وأنّ مراده هو وشيخه وغيرهما من الإماميّة.

وقول الشيخ : (على أنّ الذي نقوله) ، إشارة إلى ذلك ، لأنّ (نقوله) إنّما هو بصيغة المتكلّم مع الغير ، الظاهرة في عدم اختصاص القول بالمتكلّم ، بل الظاهرة في إرادة فقهاء الشيعة في أمثال المقامات ، لا الذي لم يقل به هو في كتب فتاويه فضلا عن غيره ، ولم يشاركه أحد لو كان قائلا به في كتابيه الحديث ، بل مخالف لفتوى نفسه وغيره من الفقهاء ، مضافا إلى عدم ظهوره من كتابيه.

ويؤيّده ـ أيضا ـ أنّه استشهد برواية ابن مسلم (١) وابن وهب (٢) وغيرهما ممّا هو نصّ في أنّ المراد من البريد والأربعة هو الثمانية بناء على ضمّ الرجوع واعتباره ، ولم يتوجّه إلى توجيه أصلا لهذه الروايات.

ويظهر من كلامه وكلام الصدوق أنّ الكليني رحمه‌الله أيضا رأيه كذلك ، لأنّه الرأس والرئيس والمؤسّس ، ولهذا لم يذكر في كتابه سوى أحاديث البريد والأربعة فراسخ (٣) ، ونظره إلى قيد الذهاب عن الوطن الذي هو الأصل في تحقّق ماهيّة السفر.

وقد عرفت أنّ الامتداد الذهابي عنه هو الأربعة عند الجلّ ، بل عند الكلّ ، إذ لم نجد في «المختلف» ـ وغيره ـ من الكتب المعتبرة الموجودة عندي ـ مخالفا في هذا ، وإن كان ببالي نقل مخالف شاذّ من القدماء ، كما أشرت.

وأمّا كون السير مقدار ثمانية فراسخ ، فليس شرطا ، إلّا في القصر بعنوان

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٥٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٩ الحديث ١١١٦٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ الحديث ٧٩٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الحديث ١١١٥٨.

(٣) انظر! الكافي : ٣ / ٤٣٢.


الوجوب العيني ، لا مطلق الوجوب على ما هو مسلّم عند جميع القدماء والمتأخّرين.

فمن أنكر الوجوب التخييري هنا ـ كالمشهور بين المتأخّرين وجمع من القدماء ـ اعتبر سير ثمانية فراسخ بضمّ الأربعة الإيابيّة على حسب ما عرفت ، ومن أقرّ به لا يعتبره لنفس القصر ، بل يعتبره لقسم منه.

وابن أبي عقيل أيضا أنكر الوجوب التخييري هنا ، فاعتبر أيضا ضمّ الإياب ، لكن لم يشترط وقوعه ليومه ، بل اشترط وقوعه في ضمن العشرة مع الذهاب ، ولم يزد على هذا شيئا آخر ، إلّا أنّ المصنّف حمل كلامه على ما ذكره ، وجعله قسطه وشريكه.

فإنّه رحمه‌الله قال : كلّ سفر كان مبلغه بريدين ـ وهو ثمانية فراسخ ـ أو بريدا ذاهبا وجائيا ـ وهو أربعة فراسخ ـ في يوم واحد ، أو ما دون عشرة أيام ، فعلى من سافره عند آل الرسول ـ صلوات الله عليهم ـ إذا خلّف حيطان مصره أو قريته وراء ظهره وغاب عنه فيها صوت الأذان ، أن يصلّي صلاة السفر ركعتين (١) ، انتهى.

فقد عرفت أنّ عبارته لا تفي بما ذكره المصنّف من وجوه يظهر ذلك على المتأمّل ، إلّا أن يتمسّك بامور خارجة ، وأنّها المصحّح للقول بما ذكره ، فلا معنى لأن يكون قائلا بظاهر عبارته ، ولا ربط له بالأدلّة ، فلا بدّ أن يكون قائلا بما ذكره المصنّف ، حتّى يتأتّى الارتباط ، فتأمّل. هذا حال الأقوال.

وأمّا الأدلّة ، فالأصل والعمومات يقتضي التمام إلّا أن يثبت خلافه ، لكنّ العمومات الدالّة على أنّ فرض المسافر هو التقصير يقتضي خلاف ذلك.

منها : الآية الشريفة بتفسير أهل البيت عليهم‌السلام ، كما مرّت (٢).

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٢.

(٢) راجع! الصفحة : ١٧٨ و ١٧٩ من هذا الكتاب.


ومنها : الأخبار ، فهي أيضا كثيرة مرّت الإشارة إليها ، إلّا أنّها مخصّصة بشروط من جملتها المسافة وقصدها بالإجماع والأخبار ، كما مرّت (١).

بقي الكلام في تعيين المسافة ، ففي كثير من الأخبار أنّها بريدان وبياض يوم.

منها : صحيحة زرارة ، وابن مسلم ـ التي ذكرناها في تفسير الآية لإثبات وجوب القصر ـ إذ فيها : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّر وأفطر في مسيرة يوم من المدينة يكون إليها أربعة وعشرون ميلا فصارت سنّة» (٢).

والمستفاد من قوله عليه‌السلام : «فصارت سنّة» اعتبار ثمانية فراسخ في الامتداد الذهابي ، وعدم الاكتفاء بالأربعة ، كما نسب إلى الشاذّ (٣).

ومنها : صحيحة أبي أيّوب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن التقصير؟ فقال : «في بريدين أو بياض يوم» (٤).

وصحيحة علي بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام : الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم؟ قال : «يجب عليه [التقصير] إذا كان مسيرة يوم وإن كان يدور في عمله» (٥).

والظاهر أنّ مراده : إن كان هذا الدوران على سبيل الاتّفاق لا أن يكون عمله.

وفي علل الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام : «إنّما يجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ منه ولا أكثر ، لأنّ ثمانية فراسخ مسير يوم للعامة والقوافل ، ولو لم

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٣٧ و ١٣٨ من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ١٧٨ و ١٧٩ من هذا الكتاب.

(٣) غنية النزوع : ٧٣ و ٧٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٥ الحديث ٨٠٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٣ الحديث ١١١٤٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٩ الحديث ٥٠٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٥ الحديث ٧٩٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٥ الحديث ١١١٥٤.


يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة سنة ، لأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا فإنّما هو نظير هذا اليوم ، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار ، منها : ما في «الكشّي» ـ في ترجمة محمّد بن مسلم ـ حيث يظهر منه شيوع ذلك بينهم (٢).

وفي كثير من الأخبار أنّها بريد ، أربعة فراسخ.

منها : صحيحة زيد الشحّام ، عن الصادق عليه‌السلام : «يقصّر الرجل [الصلاة] في مسيرة اثنا عشر ميلا» (٣).

وصحيحة إسماعيل بن الفضل ، عنه عليه‌السلام عن التقصير ، فقال : «في أربعة فراسخ» (٤).

وصحيحة معاوية بن عمّار ، عنه عليه‌السلام أنّه قال له : أهل مكّة يتمّون الصلاة بعرفات ، فقال : «ويحهم أيّ سفر أشدّ منه لا يتمّ» (٥).

وصحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «التقصير في بريد ، والبريد أربعة فراسخ» (٦).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٩ ، علل الشرائع : ٢٦٦ ضمن الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الحديث ١١١٣٩ ، مع اختلاف.

(٢) رجال الكشّي : ١ / ٣٩٠ الرقم ٢٧٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٥ الحديث ١١١٥٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٤ الحديث ٧٩٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الحديث ١١١٥٩.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٥٠٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٤ الحديث ٧٩٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦١.

(٥) الكافي : ٤ / ٥١٩ الحديث ٥ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٦ الحديث ١٣٠٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٣ الحديث ١١١٧٦ مع اختلاف يسير.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٣٢ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٣ الحديث ٦٥٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ الحديث


وصحيحة أبي أيّوب : أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال : «بريد» (١).

وفي كالصحيح ، عن ابن عمّار أنّه قال للصادق عليه‌السلام : في كم اقصّر؟ فقال : «في بريد : ألا ترى أهل مكّة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير» (٢).

وفي رواية إسحاق بن عمّار : أنّه سأل الصادق عليه‌السلام في كم التقصير؟ فقال : «في بريد ، ويحهم كأنّهم لم يحجّوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقصّروا» (٣).

وفي كالصحيح ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «أنّه حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقام بمنى ثلاثا يصلّي ركعتين ، ثمّ صنع ذلك أبو بكر ، ثمّ صنع ذلك عمر ، ثمّ صنع ذلك عثمان ستّ سنين ، ثمّ أكملها عثمان أربعا فصلّى الظهر أربعا ، ثمّ تمارض ليشيّد ذلك بدعته ، فقال للمؤذّن : اذهب إلى علي عليه‌السلام فقال له : فليصلّ بالناس العصر ، فأتى المؤذّن عليّا عليه‌السلام ، فقال : إنّ أمير المؤمنين عثمان يأمرك أن تصلّي بالناس العصر ، فقال : إذن لا اصلّي إلّا ركعتين كما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذهب المؤذن فأخبر عثمان ، فقال : اذهب إليه وقل له : إنّك لست من هذا في شي‌ء اذهب فصلّ كما تؤمر ، فقال علي عليه‌السلام : لا والله لا أفعل ، فخرج عثمان فصلّى بهم أربعا» (٤). إلى آخر الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

٧٩٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الحديث ١١١٥٧.

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٢ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٣ الحديث ٦٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ الحديث ٧٩١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٠ الحديث ١١١٦٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٤ الحديث ٧٩٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٨٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٩ الحديث ٥٠٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٥ الحديث ٧٩٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٨١.

(٤) الكافي : ٤ / ٥١٨ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٥ الحديث ١١١٨٤ ، مع اختلاف يسير.


ويدلّ على المذهب المشهور في القدماء الإجماع الذي نقله الصدوق (١).

وعبارة «الفقه الرضوي» : «التقصير واجب ، إذا كان السفر ثمانية فراسخ ، وإن كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصّرت ، لأنّ ذهابك ومجيئك بريدان ، وإن عزمت على المقام ، وكان سفرك بريدا واحدا ، ثمّ تجدّد لك الرجوع من يومك فلا تقصّر». إلى أن قال : «وإن سافرت إلى موضع مقدار أربع فراسخ ، ولم ترد الرجوع من يومك ، فأنت بالخيار فإن شئت أتممت ، وإن شئت قصّرت ، وإن كان سفرك دون أربع فالتمام عليك واجب» (٢).

ولا يخفى على المطّلع بحال الصدوق والمفيد أنّ معظم فتاويهما من «الفقه الرضوي».

وطريقة الجمع بين جميع الأخبار كما ستعرف ، ومستند المشهور بين المتأخّرين ومن وافقهم من القدماء معتبرة محمّد بن مسلم أنّه سأل الباقر عليه‌السلام عن التقصير؟ فقال : «في بريد» ، فقال : «إذا ذهب بريدا ورجع بريدا شغل يومه» (٣).

وصحيحة جميل ، عن زرارة ، عنه عليه‌السلام عن التقصير؟ فقال : «بريد ذاهبا وبريد جائيا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتى ذباب قصّر ، وذباب على بريد ، وإنّما فعل ذلك ، لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ» (٤).

وصحيحة معاوية بن وهب : أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال : «بريد ذاهبا وبريد جائيا» (٥).

__________________

(١) أمالى الصدوق : ٥١٤.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٩ و ١٦١ ، مع اختلاف.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٥٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٩ الحديث ١١١٦٥ مع اختلاف يسير.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٧ الحديث ١٣٠٤ وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦١ الحديث ١١١٧٠ و ١١١٧١.

(٥) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٥٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ الحديث ٧٩٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الحديث ١١١٥٨.


ويظهر من هذه الأخبار أنّ أخبار البريد كلّها مقيّدة بإرادة الرجوع أيضا ، كما هو الغالب المتعارف أنّهم إذا سافروا رجعوا ، فيصير سفرهم ثمانية ، وهذا قسم من الثمانية.

ويدلّ على ذلك أخبار اخر أيضا ، مثل ما في «العلل» ، عن الرضا عليه‌السلام : «إنّ التقصير في بريدين ولا يكون في أقلّ من ذلك ، فإن كانوا ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد سافروا سفر التقصير ، وإن كانوا ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلّا إتمام الصلاة» (١).

وقريب منها صحيحة أبي ولّاد ، عن الصادق عليه‌السلام (٢) ، ورواية المروزي عن الفقيه عليه‌السلام (٣) ، وصحيحة صفوان (٤).

ورواية إسحاق بن عمّار حيث قال في آخرها : «هل تدري كيف صار هكذا؟» قال : لا ، قال : «لأنّ القصر في بريدين ولا يكون التقصير في أقلّ من ذلك ، فلمّا كانوا قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا كانوا قد سافروا سفر التقصير ، وإن كانوا قد ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلّا إتمام الصلاة» (٥).

وقد مرّت الكلّ في بحث قصد المسافة واستمراره ، لكن لا دلالة في شي‌ء منها على كون الرجوع ليومه.

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٦٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٦ مع اختلاف.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٧ الحديث ١١١٦٠.

(٤) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٥ الحديث ٦٦٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٨ الحديث ١١١٦٤.

(٥) المحاسن : ٢ / ٢٧ الحديث ١١٠٠ ، علل الشرائع : ٣٦٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٦ ، مع اختلاف.


بل ربّما كان الظاهر منها خلافه ، لأنّ الظاهر منها أنّ بضمّ الإياب يصير الأربعة داخلة في الثمانية وفي مسيرة يوم.

ألا ترى أنّ محمّد بن مسلم لمّا سمع أنّ المسافة بريد تعجّب وقال : بريد! (١) وذلك لأنّه رحمه‌الله كان سمع كونها مسيرة يوم بريدين على وجه اعتمد عليه وكان يفتي به ، كما يظهر من ترجمته في «الكشّي» (٢) ، ولمّا تعجّب وسأل كيف يكون بريدا مع أنّها بريدان؟ أجاب عليه‌السلام بأنّها أيضا بريدان مسيرة يوم (٣) ، لأنّ المسافرين بحسب التعارف يرجعون إلى أوطانهم ، والرجوع أيضا سير ومسافة ، فلا يكون الأربعة مغايرة للثمانية.

ومن المعلوم أنّ مسيرة يوم لا يجب أن يكون طيّها في يوم واحد بالإجماع وغيره ، فيجب أن تكون الأربعة مع الإياب أيضا كذلك.

وبالجملة ، حال هذه الأربعة حال الثمانية ، بل هي ثمانية ، فكلّما يعتبر فيها يعتبر فيها ، وإن كان قوله عليه‌السلام : «شغل يومه» ربّما يشعر بكون مجموع الذهاب والإياب في يوم واحد ، إلّا أنّ هذا الإشعار اضمحلّ في جنب ما ذكرناه ، سيّما بملاحظة أنّ السائل ما سأل إلّا عن مسافة القصر ، والجواب أيضا ما كان إلّا أنّها بريد مطابقا لسؤاله.

ثمّ لمّا تعجّب عن الجواب من الجهة التي ذكرناها ، أجاب المعصوم عليه‌السلام بأنّه لا وجه لتعجّبك ، لأنّ المسافر عن الوطن لا يهاجره ، بل يقضي غرضه ويرجع إليه.

ومع الرجوع ، كيف لا يكون بريدين مسيرة يوم؟ إلّا أنّك توهّمت كونهما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٩ الحديث ١١١٦٥.

(٢) رجال الكشي : ١ / ٣٩٠ الرقم ٢٧٩.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٤ الحديث ٦٥٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٩ الحديث ١١١٦٥.


بالامتداد الذهابي فقط ، وليس كذلك ، بل أعمّ منه ومن الامتدادين الذهابي والإيابي بالنحو الذي ذكر عليه‌السلام.

فجواب سؤاله هكذا ليس إلّا لتنبيهه وتعليمه وإخراجه عن وهمه.

ومعلوم أنّ الثمانية التي كانت مطّلعا عليها لم تكن مأخوذا فيها قبل الوقوع في يومه ، بل المأخوذ فيها كونها مسافة يوم للمسافر ، بحيث لو اشتغل في طيّها وقطع جميعها ، يكون القطع والطيّ مستوعبا لمجموع يومه.

فالظاهر أنّ هذا هو معنى «شغل يومه» لا أنّه لا بدّ من فعليّة القطع والشغل ، كما أنّ معنى مسيرة يوم أيضا كذلك جزما ، لا فعليّة السير في اليوم.

ويدلّ على ما ذكرناه التعليل المذكور في صحيحة جميل ، عن زرارة ، عنه عليه‌السلام (١) ، ورواية «العلل» (٢) وغيرهما ، فلاحظ وتأمّل!

وممّا ذكرنا وقرّرنا ظهر أنّ كلّ خبر ورد بلفظ البريد أو الأربعة يكون المراد مع الرجوع ، لأنّه المتعارف في السفر ، والإطلاق يحمل على المتعارف ، فلعلّ مراد الكليني رحمه‌الله أيضا ذلك (٣) ، فتأمّل!

مع أنّه معلوم أنّ كلّ تعليل بعلّة لشخص يكون ظاهرا غاية الظهور في أنّ الشخص يعرف حال العلّة ، وإلّا لكان التعليل لغوا ، بل ظاهره ظهور حال العلّة مطلقا وعند الكلّ ، فتأمّل جدّا!

وبالجملة ، لم نجد مستندهم على وجه يكون مستندا.

نعم ، عبارة «الفقه الرضوي» صريحة في مطلوبهم ، إلّا أنّها تتضمّن التخيير مع عدم الرجوع ليومه ، فهي دليل أكثر القدماء لا هؤلاء ، إلّا أن يكون لهؤلاء مانع

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦١ الحديث ١١١٧٠ و ١١١٧١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٦ الحديث ١١١٨٦.

(٣) لاحظ! الكافي : ٣ / ٤٣٢.


عن العمل بما تضمّنه من التخيير خاصّة ، فلا يصير سببا لعدم العمل بما بقي ، ولا يخرجه عن الحجيّة ، كما هو طريقتهم ، وبيّنا حقيقة طريقتهم في موضعه ، ومرّت الإشارة إليها (١).

ولعلّ المانع أنّ المستفاد من أخبار العامّة والخاصّة ، كون القصر على سبيل العزيمة مطلقا ، إلّا ما أخرجه الدليل.

ومنها : رواية إسحاق بن عمّار السابقة (٢) ، وما ماثلها من ظاهر الآية ، وما ذكرناه في تفسير قوله تعالى لا جناح (٣) وما لم نذكره ممّا لا تحصى.

وكذا الأخبار الدالّة على انحصار القصر في الثمانية (٤) ، إلّا ما أخرجه الدليل ، وهذه العبارة لا تفي للإخراج عندهم ، لعدم تحقّق المقاومة ، مضافا إلى أنّ مقتضى الأخبار التي ذكرناها أنّ مع عدم الرجوع يتمّ.

وظهر من عبارة «الفقه الرضوي» أنّ المراد من الرجوع في هذه الأخبار أيضا الرجوع ليومه.

وكذا موثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فيأتي قرية فينزل فيها ثمّ يخرج منها فيسير خمسة أو ستّة لا يجوز ذلك ، ثمّ ينزل في ذلك الموضع ، قال : «لا يكون مسافرا حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم» (٥).

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٢٢٥ من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ٢٢٦ و ٢٢٧ من هذا الكتاب.

(٣) النساء (٤) : ١٠١ ، راجع! الصفحة : ١٧٨ و ١٧٩ من هذا الكتاب.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥١ الباب ١ ، ٤٥٦ الباب ٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٥) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٥ الحديث ٦٦١ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٦ الحديث ٨٠٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٢.


إذ صريحها أنّ خروجه عن وطنه لأجل حاجة ، فيسير خمسة أو ستّة لا أزيد ، فينزل ولا يرجع من يومه ولا ليلته ، بل يسير خمسة أو ستّة اخرى ، والمعصوم عليه‌السلام حكم بالإتمام وعدم كونه مسافرا من دون استفصال في أنّه وإن كان لا يريد الرجوع ليومه ، إلّا أنّه هل له إرادة الرجوع إلى وطنه بعد سير الخمسة أو الستّة الثانية ، أم ليس له قصد الرجوع أصلا ورأسا؟ أو أنّه مع قصده الرجوع ، هل له قصد إقامة عشرة في ظرف المسافة أم لا؟ مضافا إلى أنّ عدم قصده الرجوع أصلا ورأسا ، بعيد غاية البعد.

بل عرفت من الأخبار وغيرها أنّ الأربعة المطلقة تنصرف إلى ما هو الغالب المتعارف ، وهو عدم هجر الوطن وقصد التوطّن في موضع آخر ، أو مطلقا.

بل عرفت صراحة هذه الرواية في أنّ خروجها لأجل حاجة لا لأجل الهجر والإعراض عن وطنه.

وحملها على أنّ وجوب إتمامه وعدم كونه مسافرا من جهة قطعه سفره بأحد القواطع ، وجعله سفرين متعدّدين ، فيه ما فيه.

فتعيّن أنّ عدم كونه مسافرا ، وأنّ عليه الإتمام ، ليس إلّا من جهة عدم تحقّق ثمانية ذهابيّة ، أو ملفّقة من الذهاب والإياب الواقعين في يوم واحد.

والموثّق حجّة على المشهور ، سيّما مع انجباره بموافقته لفتوى المشهور ، مع أنّ ما نقلناه من الإجماع عن «الأمالي» (١) ، لا يقصر عن خبر واحد صحيح لو لم يزد عليه ، بل لا خفاء في أنّه يزيد عليه بالقياس إلى مثل ما ذكرناه ، والأخبار بعضها يقيّد بعضا ، ويصير قرينة على بعض.

وعلى ذلك المدار في الآيات والأخبار ، فإشعار رواية ابن مسلم أيضا يتقوّى

__________________

(١) أمالى الصدوق : ٥١٤.


من تلك العبارة وغيرها وتمنعه عن الاضمحلال ، ولهذا ترى الفحول تلقّوا بالقبول.

لا يقال : يمكن أن يكون المراد في موثّقة عمّار هو الهائم (١) ، بقرينة موثقته الاخرى الواردة في الهائم (٢).

لأنّا نقول : موثّقته الاخرى أمر فيها بالقصر بعد ثمانية فراسخ ، فكيف هنا أمر عليه‌السلام بالإتمام بعد اثني عشر فرسخا؟

مع أنّ الضمير في قوله عليه‌السلام : «لا يكون مسافرا» يرجع إلى الرجل الذي سأل عن حاله ، فيلزم منه أنّه لو سار ثمانية لكان مسافرا عليه القصر ، كما في موثّقته الاخرى ، فلم أمر بالإتمام بعد اثني عشر؟

وأيضا لو كان هائما ، لكان يقول : لا يكون مسافرا حتّى يكون ما سألت من السير عن قصده ، لما عرفت من أنّ قصد الأربعة يكفي ، فكيف إذا قصد ستّة؟

هذا ، مضافا إلى ترك الاستفصال المفيد للعموم.

هذا غاية ما يمكنني الاعتذار لهم ، ويمكن أن يكون مستندهم أمرا آخر به فهموا من الأخبار التي ذكرناها الرجوع ليومه ، ولذا استدلّوا بها ، والعلم عند الله تعالى.

وممّا ذكرنا ظهر مستند ابن أبي عقيل على ما ذكره المصنّف ووافقه ، فإنّهما ما عملا بـ «الفقه الرضوي» (٣).

وعرفت أنّ المستفاد من الأخبار التي ذكرناها أنّ البريدين وثمانية فراسخ أعمّ من أن يكون بامتداد واحد أو بامتدادين كلّ واحد منهما أربعة ، أحدهما

__________________

(١) الهائم : هو الذاهب على وجهه ، النهاية لابن الأثير : ٥ / ٢٨٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٨ الحديث ١١١٩٠.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٩.


الذهابي ، والآخر إياب ذلك الذهاب ، فحال هذه الأربعة وحال الثمانية واحد من جميع الوجوه ، بل هي أيضا ثمانية.

لكن يرد عليهما أنّ الإجماع الذي نقلناه عن الصدوق رحمه‌الله (١) ردّه مشكل.

وكذا ردّ مستنده الذي هو عبارة «الفقه الرضوي» مع انجبارها بفتاوى القدماء ، بل وإجماعهم على ما قاله.

ومع ذلك بعض أخبار «الثمانية» ربّما لا يتمشّى فيه هذا التوجيه ، وهو صحيحة زرارة وابن مسلم التي ذكرناها أوّلا (٢) ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أهل المدينة قصّر وأفطر في مسيرة يوم من المدينة فصارت سنّة ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرجع إلى المدينة البتة. وتقييدها بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قصده الإقامة في منتهى المسافة.

قلنا : جعل مسيرة يوم موضع القصر وجعله سنة ، يعني مع قصد الإقامة في المنتهى ، فيه ما فيه ، فتأمّل!

وقريب منها صحيحة أبي بصير أنّه قال للصادق عليه‌السلام : في كم يقصّر الرجل؟ قال : «في بياض يوم أو بريدين» ، قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذي خشب فقصّر» ، قيل : وكم ذي خشب؟ فقال : «بريدان» (٣).

وأيضا بعض أخبار الأربعة لا يلائمها ، مثل صحيحة عمران بن محمّد ، عن الجواد عليه‌السلام أنّه قال له : لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ ربّما أخرج إليها فأقيم فيها ثلاثة أيّام أو خمسة أيّام أو سبعة ، فأتمّ الصلاة أم أقصّر؟ فقال : «قصّر في الطريق وأتمّ في الضيعة» (٤).

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٢٢٥ من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ١٧٨ و ١٧٩ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٢ الحديث ٦٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٤ الحديث ١١١٤٩ و ١١١٥٠ مع اختلاف.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١١ ، وسائل الشيعة :


وأيضا القادسيّة موضع قريب من الكوفة في بعض الأخبار أمروا عليهم‌السلام أهل الكوفة بالقصر إذا سافروا إليها (١) ، و [في] بعض الأخبار أمروهم بالتمام (٢).

وأيضا في أحاديث عرفة أمروا بالقصر (٣) ، وفي بعض الأخبار أمروا بالتمام ، مثل موثّقة عمّار (٤).

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ أخبار البريد والأربعة ، يكون المراد ما يرجع فيه قبل العشرة ، لا يخلو عن مخالفة الظاهر ، مع أنّ الظاهر من ثمانية فراسخ كونها بامتداد واحد.

وحملها على خصوص ما يكون بامتداد واحد أو امتدادين فقط لا أزيد ربّما لا يخلو عن بعد ، لأنّ المراد من الثمانية إن كان هو الذهاب عن الوطن ، فلا يمكن إرادة الأربعة منه ، لأنّ الرجوع في الأربعة ليس بذهاب بل إياب ، وإن كان المراد هو السير كيف كان ، فالحقّ مع العلّامة حيث جوّز كون الامتداد أقلّ من الأربعة (٥) ، كما ستعرف.

ومن هذا احتمل بعض المتأخّرين كون أخبار الثمانية واردة مورد التقيّة ، لكونها مذهب بعض العامّة (٦) ، وهو أيضا مشكل لمخالفة آراء المتقدّمين والمتأخّرين ، فتعيّن القول بما هو المشهور بين القدماء ، بل الصدوق ادّعى إجماعهم ،

__________________

٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٨ الحديث ١١١٦٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٢ الحديث ٦٤٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الحديث ١١٢٥٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٣ الحديث ١١١٧٦ ، ٤٦٤ الحديث ١١١٨٠ ، ٤٦٧ الحديث ١١١٨٧.

(٤) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٥ الحديث ٦٦١ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٦ الحديث ٨٠٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٢.

(٥) تحرير الأحكام : ١ / ٥٥.

(٦) لاحظ! الحدائق الناضرة : ١١ / ٣١٦.


بل قال : هو مذهب الإماميّة الذي يجب الإقرار به (١) ، مع أنّ القدماء هم أهل الشهود ، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب ، مع خلوّ مذهبهم عن الاعتراضات السابقة.

نعم ، يتوجّه عليهم أنّ قولهم عليهم‌السلام في أهل عرفات : ويلهم أو ويحهم لم يتمّون ولا يقصّرون (٢) ، ظاهر في وجوب القصر لا التخيير ، إذ على التخيير يكون اختيار الإتمام جائزا ، فكيف يناسبهم الويل والويح وأمثالهما؟ إلّا أن يقال : إنّ هذا التوبيخ والتقريع من جهة عدم اعتقادهم بكون عرفة مسافة القصر ، لا من جهة أنّ رأيهم التخيير لا التحتّم ، كيف وهم في مسيرة أيّام أيضا لا يقصّرون ، من جهة أنّ القصر عندهم رخصة ، وقالوا عليهم‌السلام : هم العصاة.

لكن في المقام قالوا : «وأيّ سفر أشدّ منه؟» (٣) أو «كأنّهم ما سافروا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيرون أنّه قصّر» (٤) ، فيعلمون أنّه مسافة القصر ، فلم يكن هذا التوبيخ متوجّها إلى من يعتقد أنّه سفر القصر وأشدّ منه سفره ، إلّا أنّ قصره ليس بلازم ، سيّما وأنّ يكون هذا الاعتقاد حصل له من قول أئمّته عليهم‌السلام بعد بذل جهده واستفراغ وسعه.

وكيف كان ، لا إشكال بحسب العمل ، إذ الأحوط اختيار القصر جزما ولا غبار عليه ، إنّما الغبار على اختيار الإتمام ، وهو ليس بلازم ، وليس له داع أصلا من ضيق وقت ، أو حصول حاجة ضروريّة ، أو غير ذلك ، وثمرة الفتوى إنّما هو العمل لا غير.

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٣ الحديث ١١١٧٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٣ الحديث ١١١٧٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٨١ نقل بالمضمون.


فإن قلت : كيف تقول لا غبار في اختيار القصر؟ مع أنّه مخالف لما عليه الأكثر من وجوب الإتمام مع عدم قصد الرجوع ليومه أو ليلته ، ومخالف لأدلّتهم أيضا.

قلت : معظم القدماء على القصر جوازا أو وجوبا ، بل ربّما كان زمان الصدوق والمتقدّم عليه كلّ الشيعة على القصر جوازا ـ كما عرفت ـ وهم أهل الشهود.

وأمّا أدلّة الأكثر ، فهي ما دلّ على كون القصر عزيمة ، وأنّه لا يكون في أقلّ من ثمانية فلا يضرّنا ، إذ يؤيّد مذهب ابن أبي عقيل (١) ، ويوافق أحاديث عرفة (٢).

وأمّا موثّقة عمّار (٣) ، فلا يقاوم أحاديث عرفة والإجماع المنقول ، وغير ذلك ممّا دلّ على تحقّق القصر في الأربعة ، بل هو متواتر موافق للكتاب ، ومخالف للعامّة ، ومشتهر بين الأصحاب.

وحمل الجميع على ما إذا قصد الرجوع ليومه ووقع أيضا فيه ما فيه ، لأنّه فرض نادر لا يحمل خبر واحد عليه ، فضلا عن المتواتر ، بل قصد الرجوع وإن لم يقع الرجوع ، أو وقع الرجوع وإن لم يقع قصده ، كلّ واحد منهما نادر وإن لم يجتمعا ، فكيف إذا اجتمعا؟ وكان الاجتماع شرطا للقصر ، لأنّهم يقولون : اجتماعهما شرط للقصر.

فلو كان من نيّته الرجوع ليومه ، وبعد بلوغ الأربعة بدا له في الرجوع ، أو حصل مانع ، يتمّ حينئذ إلى أن يصل إلى بيته ، وكذا لو صار متردّدا في أنّه يرجع

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٢.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٣ الباب ٣ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩٢.


ليومه أم لا.

هذا ، وكما لا إشكال في القصر في الأربعة بضمّ الإياب مطلقا ـ أي وإن لم يكن ليومه أو ليلته ما لم يحصل القاطع ـ كذا لا إشكال في الإتمام والصيام في الأربعة ، وما زاد ما لم يبلغ ثمانية وما لم يضمّ إليها الإياب ، لتواتر الأخبار في عدم جواز القصر ما لم يبلغ ثمانية.

وصحيحة عمران (١) عندي محمولة على الاتّقاء ، لما سيجي‌ء من أنّ الضيعة ليست موضع الإتمام ، وحملها على وطنه بعيد جدّا. وكيف كان لا يقاوم الأخبار المتواترة مع دلالتها الواضحة.

وممّا ذكر ظهر فساد ما اختاره في «الوافي» من التخيير في الأربعة الخالية عن الإياب مطلقا (٢).

ثمّ اعلم! أنّ الرجوع ليومه قيّده في «شرح اللمعة» بكونه مع اتّصال السير عرفا (٣) ، ولم نجد مأخذه.

وحيث عرفت أنّ المسافة هي الثمانية الذهابيّة ، أو الأربعة الذهابيّة منضمّة إلى الأربعة الإيابيّة ، فلو نقص عن الأربعة لا يقصّر مطلقا ، وإن كانت ثلاثة فراسخ فما فوقها ووقع التردّد ثلاث مرّات فما فوقها في يوم واحد ولم ينته في الرجوع إلى حدّ عدم الترخّص.

وخالف في ذلك في «التحرير» ، فإنّه قال : أمّا لو قصد التردّد في ثلاثة فراسخ ثلاث مرّات لم يقصّر ، إلّا أن لا يبلغ في الرجوع الأوّل مشاهدة الجدران

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.

(٢) الوافي : ٧ / ١٣٣ و ١٣٤.

(٣) الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٠.


ولا سماع الأذان (١).

ولعلّ نظره رحمه‌الله إلى العلّة المنصوصة في أخبار الأربعة من أنّه إذا رجع صارت ثمانية ، ويكون ذكر ثلاثة فراسخ من باب المثال ، بأنّ الحكم يكون كذلك في فرسخين وأقلّ منهما أيضا ، إذا زاد التردّد بحيث يتحقّق ثمانية من مجموعه.

وفيه ما عرفت من أنّ المعتبر ليس مجرّد سير ثمانية ، بل لا بدّ من الذهاب عن البلد والبعد عنه ، وأنّه ليس معتبرا إلّا بمقدار أربعة فراسخ لا أقلّ منها ، كما هو صريح الأخبار في أنّه لا بدّ من الأربعة ، ولو لم يكن لا يجوز القصر.

وعرفت أنّ أحد شرائط القصر هو المسافة ، وعرفت أنّ المسافة التي شرط هي الثمانية ، أو الأربعة المذكورة باتّفاق الأخبار والفتاوى.

فلو كان سير الثمانية كيف كان كافيا ، لما كان لذكر الأربعة والبريد وجه ، بل كان اللازم أن يقول : أقلّ مسافة القصر ثمانية ، بأيّ نحو يطوي ، وإن كان ذهابها ربع فرسخ وأقلّ منه ، ولما قالوا عليهم‌السلام : «بريد ذاهبا وبريد جائيا» (٢).

وأمثال هذه العبارة ، بل الأخبار كالصريحة في اعتبار البريد والأربعة ، بل بعضها صريح.

فعلى هذا لو سافر الهائم أقلّ من ثمانية لا يقصر وإن أراد الرجوع إلى بيته ومشى أزيد من سبعة فراسخ ثمّ قصد ذهاب قدر إذا انضمّ إلى إيابه المقصود يتحقّق الثمانية.

وكذا لو سافر بريدا هائما ثمّ نوى ذهاب بريد إلّا شيئا يتمّ ، وإن كان قصده

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٥٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٣ الحديث ٧٩٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٦ الحديث ١١١٥٨.


الرجوع إلى بيته.

ولو سافر هائما ثمانية فراسخ مع قصد الرجوع لا يقصر ، إلّا إذا أخذ في الشروع ، ولا يشترط حدّ الترخّص ، كما عرفت ، وظاهر رواية عمّار القصر بعد بلوغ ثمانية حينئذ.

ولو كان لبلد طريقان ، والأبعد منهما مسافة فسلكه قصّر وإن كان لأجل القصر ، لعموم ما دلّ على وجوب القصر على المسافر ، وعدم ثبوت ما تخرج هذه الصورة منه ، وقال ابن البرّاج : يتمّ (١) ، لأنّه كاللاهي بصيده.

وفيه ، أنّ صيد اللهو حرام ظاهرا لظاهر الأخبار (٢) ، إمّا للتشبّه بالجائرين ، أو لغير ذلك ممّا لا نعلمه.

وأكثر الأصحاب ظاهرهم التحريم ، لما ورد في تفسير قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٣) «أنّ الباغي طالب الصيد والعادي السارق» (٤).

وفي كتاب زيد النرسي ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الصيد سفر باطل وإنّما أحلّ الله الصيد لمن اضطرّ إلى الصيد» (٥) ، إلى غير ذلك.

وعلى تقدير القول بالكراهة ، فكراهته في غاية الغلظة والشدّة ، ونهاية القرب إلى الحرمة ، مضافا إلى أنّ القياس عندنا حرام ، على أنّه ربّما كان قصد القصر أمرا محمودا عند العقلاء ، وأمّا كونه مذموما ، فلم يظهر بعد ، وإذا سلك

__________________

(١) المهذّب : ١ / ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٨ الباب ٩ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) البقرة (٢) : ١٧٣.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٦ الحديث ١١٢١١ مع اختلاف يسير.

(٥) بحار الأنوار : ٨٦ / ٦٩ الحديث ٣٩ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٣٢ الحديث ٧٤٤١ مع اختلاف يسير.


الأقصر أتمّ في الذهاب ، وإن كان قصده الرجوع بالأبعد ، لما عرفت.

ثمّ اعلم! أيضا أنّ معرفة بلوغ المسافة شرط ، لأنّ الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط ، فإن حصلت فهي ، وإلّا فإن حصل الظنّ به من قول مخبر أو غيره فالأقرب اعتباره ، لعموم البلوى وشدّة الحاجة ، وكون المدار عليه بحسب الظاهر في الأعصار الماضية ، لعسر العلم واليقين غالبا.

ويحتمل كون حكمه حكم الشكّ ، ولو شكّ فيه فالمقطوع به في كلام الأصحاب الإتمام ، ولعلّ منشأه استصحاب الحالة السابقة حتىّ يحصل اليقين بخلافه ، وأنّ الأصل عدم تحقّق الشرط ، لأنّه من الحوادث ، أو التغليب جانب العموم ، لأنّ الظنّ يلحق بالأغلب ، والأحوط الجمع بين القصر والإتمام.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ معرفة المسافة بطريقتين.

الاولى : مسيرة يوم إلى الليل وبياض النهار بالسير المتوسّط والأثقال والجمال المتوسّط في النهار المتوسّط ، لانصراف الإطلاق إلى ذلك.

وثانيتهما : بالفراسخ والميل والذراع وغيرها ، على النهج الذي تقدّم.

فالمكلّف إن تمكّن من الاولى ، يتعيّن عليه اعتبارها ، وإن تمكّن من الثانية فالثانية ، وإن تمكّن منهما يتخيّر ، ويحتمل تعيين أقواهما وأضبطهما.

ولو اتّفق أنّه اعتبرهما فإن اتّفقتا ـ كما هو الأظهر والظاهر من بعض ـ فلا إشكال ، وإن اختلفتا اعتبر الأقلّ وقصّر ، لعموم الدليل وتحقّق الشرط وعدم مانع ، مع احتمال كون المعتبر هو الأقوى والأضبط (١) وهو الثانية ، وهذا هو الأقوى عندي في المسألتين.

ولو رجع إلى منزله لأخذ شي‌ء أو علّة اخرى ، قصّر في الطريق إن كانت

__________________

(١) في (ط) : والأحوط.


مسافة ، وهي أربع فراسخ ونصف يوم ، كما عرفت سابقا ، وأتمّ في المنزل وانقطع سفره بالوصول ، وإن لم يكن مسافة أتمّ مطلقا وانقطع سفره ، وحكم الصلاة التي صلّاها قصرا قبل ذلك قد عرفته.

وكذا الحال لو رجع إلى ما قبل حدّ الترخّص ، لما عرفت وستعرف من اعتبار حدّ الترخّص مع الإياب أيضا ، وكذا الحال لو ردّه الريح.

ولو قصّر وأفطر في الذهاب قبل بلوغ الترخّص أعاد الصلاة ، لعدم الامتثال ، سواء فعل عمدا أو سهوا أو جهلا على حسب ما مرّ.

وكذا الحال لو قصّر في العود قبل حدّ الترخّص ، وأمّا الصوم والكفّارة فيجي‌ء في محلّها.


١٦ ـ مفتاح

[من رجع عن نيّة الإقامة]

لو نوى الإقامة ثمّ بدا له رجع إلى التقصير ما لم يصلّ صلاة فريضة ، وإلّا يتمّ حتّى يخرج ، وكذا لو دخل في الصلاة بنيّة القصر فعنّ له الإقامة أتمّ ، كلاهما للنصّ (١) والإجماع.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥ ، ٥١١ الحديث ١١٣١٠ و ١١٣١١.



قوله : (لو نوى الإقامة). إلى آخره.

قد ظهر لك أنّ قصد الإقامة عشرا يوجب الإتمام والصيام وانقطاع السفر.

ونقل عن ابن الجنيد أنّه اكتفى بإقامة خمسة (١) ، ولعلّ مستنده حسنة ابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام أنّه سأله عن المسافر إن حدّث نفسه بإقامة عشرة أيّام؟ قال : «يتمّ الصلاة ، وإن لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعد ثلاثين يوما ثمّ ليتمّ ، وإن أقام يوما أو صلاة واحدة» ، فقال له : بلغني أنّك قلت : خمسا ، قال : «قد قلت ذلك» فقال أبو أيّوب : يكون أقلّ من خمسة أيّام؟ قال : «لا» (٢).

وهذا لا يدلّ على مطلوبه ، لأنّه عليه‌السلام حكم بالعشرة على وجه ظاهره لزوم اعتباره ، ولذا قال : بلغني أنّك قلت : خمسا ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه قال ذلك ، فلعلّ مراده العشرة لا الخمس ، إذ لو كان مراده الخمس ، لكان يقول : نعم ، كما هو المتعارف في جواب السؤال ، إذ العدول والتطويل لا يكون إلّا لجهة ، فيكون أبو أيّوب ما تفطّن وتوهّم ، والمعصوم عليه‌السلام لم ير المصلحة في ردّه عن توهّمه.

والأظهر أنّ المراد المعصوم عليه‌السلام إنّي قلت ذلك أيضا لكن في مقام خاصّ ولخصوصيّة ، ولذا لم يقل : نعم ، بل قال ما قال ، ولذا لم يسأله أبو أيّوب ولا ابن مسلم ، فكيف قلت الآن عشرا؟ بل فهما منه عليه‌السلام أنّ الأصل هو العشر ، وأنّه يصير أقلّ لجهة وخصوصيّة ، لكنّه مقدار خمس ، ثمّ سأله أبو أيّوب أنّه يصير أقلّ من خمسة بعروض خصوصيّة اخرى ، كما أنّ بعد العشر قلت خمسا أيضا ، فيكون الخمس الذي قلت من قبيل العشرة التي قلت ، أم لا ، بل لا يصير أقلّ منه.

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٦ مع اختلاف يسير.


والحاصل ، أنّ هذه في غاية الوضوح في أنّ قصد الإقامة يصير بقدر عشر ، ويصير بقدر خمس أيضا إن كان «ذلك» إشارة إلى الخمس ، وأبو أيّوب فهم هكذا ، وعلم أنّ قصد الإقامة أمر يتفاوت كثرة وقلّة ، ولذا سأل ما سأل ، ولو فهم أنّ المعصوم عليه‌السلام رجع عمّا ذكره أوّلا وبنى على كونه خطأ لا أصل له ، وأنّ المتعيّن هو الخمس لا غير وأنّه الحقّ ، فكيف كان يسأله يكون أقلّ من خمس؟

مع أنّ ابن مسلم هذا روى عنه عليه‌السلام بطريق صحيح : أنّ المسافر يقدم الأرض ، فقال : «إن حدّث نفسه أن يقيم عشرا فليتمّ ، ولا يتمّ في أقلّ من عشرة إلّا بمكّة والمدينة ، وإن أقام بمكّة والمدينة خمسا فليتمّ» (١).

فظهر من اتّحاد الراوي والحكم والواقعة ، بل اتّحاد متن الرواية أيضا ـ وهو قول : «إن حدّث نفسه بإقامة عشرة أيّام» ـ اتّحاد الروايتين ، سيّما بملاحظة أنّه لم يعهد التعبير عن قصد الإقامة بحديث النفس في غير هذه الرواية.

فظهر أنّ المراد إقامة الخمس أيّام في خصوص مكّة والمدينة. وصرّح بذلك الشهيد رحمه‌الله في «الدروس» (٢) ، وغيره من الفقهاء ، ومنهم المصنّف في «الوافي» (٣) ، مع أنّه على فرض دلالتها على رأي ابن الجنيد تصير شاذّة مخالفة للإجماع ، والأخبار الكثيرة المفتى بها المشتهرة بين الأصحاب ، مع أنّها ليست كذلك ، بل ظاهرة في خلاف ذلك ، والأخبار الكثيرة قد أشرنا إليها في الجملة فيما سبق.

وممّا ذكر ظهر فساد حمل هذه الرواية على الاستحباب على ما فعله بعض الفقهاء ، بأنّ قصد إقامة العشرة موجب للإتمام ، وإقامة الخمسة يستحب به

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٤٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٢ الحديث ١١٢٩٠.

(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢.

(٣) الوافي : ٧ / ١٥٠ ذيل الحديث ٥٦٥٣.


الإتمام (١).

وذلك لأنّ مقتضى الإجماع المنقول والأخبار الصحاح والمعتبرة المفتى بها وجوب القصر ، فكيف يكون الإتمام مستحبّا؟

وحمل خالي العلّامة المجلسي رحمه‌الله هذه الرواية على التقيّة ، لأنّ الشافعي وجماعة منهم قائلون بإقامة الأربعة من دون احتساب يوم الدخول والخروج ، فيصير خمسة أيّام عادة (٢) ، لأنّ كلّا من الدخول والخروج يصير ببعض اليوم ، فيحصل خمسة ملفّقة ، وسياق الخبر يدلّ عليها ، كما لا يخفى على الخبير (٣).

أقول : ويؤيّده إعراض الأصحاب جميعا عنه سوى ابن الجنيد ، فإنّه رحمه‌الله في كثير من المواضع اختار مذهب العامّة ، وليس ذلك إلّا لأنّ مستندهم مقبول لديه ، حجّة عنده أيضا ، فربّما كان مستندهم مستند ابن الجنيد لا هذه الرواية ، إذ عرفت دلالتها على خلاف رأيه.

ومن هذا ظهر أيضا أنّ كون الإتمام في الحرمين أو الأربعة من مخزون علم الله وأمثاله ، لا ينافي التقيّة ، فتأمّل جدّا!

وهل يشترط التوالي في هذه العشرة أم لا؟ سيجي‌ء التحقيق فيه.

وأمّا أنّه لو بدا له قبل أن يصلّي فريضة واحدة بتمام عاد إلى التقصير ، وإن بدا له بعد ما صلّاها بتمام لم يرجع إليه ، بل يجب عليه الإتمام حتّى يخرج ، فهو إجماعي أيضا.

ويدلّ عليه صحيحة أبي ولّاد الحنّاط أنّه قال للصادق عليه‌السلام : إنّي كنت نويت

__________________

(١) الاستبصار : ١ / ٢٣٨ ذيل الحديث ٨٤٩.

(٢) لاحظ! الامّ : ١ / ١٨٨.

(٣) بحار الأنوار : ٨٦ / ٤٠.


حين دخلت المدينة أن اقيم عشرة أيّام فأتمّ الصلاة ثمّ بدا لي بعد أن لا اقيم بها ، فما ترى أتمّ أم اقصّر؟ فقال عليه‌السلام : «إن كنت دخلت المدينة وصلّيت بها فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتّى تخرج منها ، وإن كنت حين دخلتها على نيّتك التمام ولم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتّى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانو المقام عشرا وأتمّ ، وإن لم تنو المقام عشرا فقصّر ما بينك وبين شهر فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة» (١).

وفي «الفقه الرضوي» أيضا ما يدلّ على هذا (٢) ، وهذا الحكم وقع معلّقا على من صلّى فريضة بتمام ، فلو لم يصلّ أو صلّى نافلة أو فريضة لكن ليس بتمام لم يتحقّق هذا الحكم.

فلو لم يصلّ عمدا أو نسيانا حتّى خرج الوقت ، ولمّا يتحقّق البدا له ، فقال [الشيخ] مفلح : يتمّ (٣) ، لأنّه في حكم المصلّي (٤).

وقال في «التذكرة» : يبقى على التمام ، لاستقرار الفائت في الذمّة (٥). واستضعفه في «المدارك» ، لأنّ ظاهر الرواية تعلّق الحكم بفعلها تماما (٦).

ولعلّ مراده في «المدارك» أنّ الصلاة فاتته حال خطابه بالتمام ، فتكون ذمّته مشغولة بالإتمام ، فإن صلّاها خارج الوقت بتمام قضاء ثمّ بدا له يجب عليه التمام أبدا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥ مع اختلاف يسير.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦١.

(٣) في (د ٢) : لا يتمّ.

(٤) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٣٢.

(٥) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٤١٠ ، لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٤.

(٦) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٦٤ و ٤٦٥.


حتّى يخرج ، وإن لم يصلّها بعد ثمّ بدا له يرجع إلى التقصير حتّى في هذه الفريضة التي صارت قضاء.

ويحتمل أن يكون مراده الرجوع إلى القصر في غير هذه القضيّة ، لأنّ ذمّته اشتغلت بها تماما ، فهو مستصحب حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت الخلاف إلّا في غيرها ، لكنّه ربّما يكون بعيدا ، فتأمّل جدّا!

والمستفاد من الفتاوى وظاهر الرواية ، أنّ المراد من «الفريضة بتمام» هي المقصورة التي تصلّي بتمام من جهة قصد الإقامة ، لا من جهة فقد شرط ، ولا قضاء الفريضة الحضريّة ، ولا مثل صلاة الصبح أيضا.

وقال العلّامة : من دخل في الفريضة وتعدّى عن موضع القصر ، بأنّ دخل في الثالثة أو الرابعة فبدا له يجب عليه الإتمام صونا لها عن الإبطال المنهي عنه ، وإذا أتمّ دخل في مضمون هذه الرواية (١) بأن صلّى فريضة بتمام ، فيجب عليه الإتمام حتّى يخرج (٢).

وفيه منع كونه إبطالا ، بل صار باطلا ، لأنه إذا بدا له حينئذ صدق عليه أنّه لم يصلّ فريضة بتمام ، فإن لم ينو المقام عشرا ، يجب عليه القصر ما بينه وبين شهر ، فإذا زاد الصلاة عمّا كلّف به تصير باطلة ، إلّا أن يكون مراده المنع عن البداء.

وفيه منع ، مع أنّ الكلام على فرضه ـ أي فرض تحقّق البداء ـ مع أنّه ربّما لا يكون اختياريّا.

نعم ، إن لم يدخل في الركوع ، أمكن أنّ يقال بهدم القيام ثمّ يسلم ، كما اختاره في «الدروس» (٣) ، ثمّ القصر إلى أنّ يخرج أو ينوي الإقامة مع الإشكال في صحّتها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٢) مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٩ و ١٤٠.

(٣) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١.


حينئذ أيضا ، لأنّ الزيادات أفعال واجبة صدرت عنه عمدا لا سهوا ، وكذا لو كان الزائد هو القيام فقط ، إلّا أن يقال : ما استدلّ به على عدم الضرر سهوا يشمل المقام ، ولا بدّ من التأمّل في ذلك.

وكيف كان ، الأحوط الإتمام بالنحو الذي ذكر ثمّ الإعادة ، وبعد تسليم ما ذكره لا نسلّم كونه من الأفراد المتبادرة لمضمون الرواية.

وألحق العلّامة رحمه‌الله بالصلاة الشروع في الصوم الواجب المشروط بالحضر (١) ، ووافقه في «روض الجنان» ، لكن قيّده بما إذا زالت الشمس قبل الرجوع عن ذلك القصد ، محتجّا بأنّه يجب عليه الإتمام لو سافر ، لعموم ما دلّ على أنّ المسافر إذا خرج بعد الزوال يجب عليه إتمام الصوم.

فإن قلنا بانقطاع قصد الإقامة بالرجوع عنه بعد الزوال ، لزم القول بوجوب الصوم سفرا مع عدم قصد الإقامة ، وهو باطل إجماعا ، إلّا فيما استثني ، وليس هذا منه ، فلزم القول بعدم انقطاع قصد الإقامة حينئذ ، سواء سافر بالفعل حينئذ أم لم يسافر ، إذ لا مدخل لفعليّة السفر في تحقّق الإقامة وصحة الصوم ، بل حقّه أن يتحقّق عدمها (٢) ، وقد عرفت عدم تأثيره فيها ، فإذا لم يسافر بقي على التمام إلى أن يخرج إلى المسافة ، وهو المطلوب (٣) ، انتهى.

وفيه ، إنّا لا نسلّم شمول ما دلّ على وجوب إتمام الصوم للمقام ، لأنّ المتبادر الصوم الحضري ، أو ما هو بمنزلته ، وكون المقام منهما أوّل الكلام ، فإنّ قصد الإقامة الذي هو بمنزلته هو الذي لم يتحقّق رجوع منه مطلقا ، أو قبل أن يصلّي

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٤١٠.

(٢) في المصدر : مع عدمه.

(٣) روض الجنان : ٣٩٥.


فريضة بتمام.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم كون الوجوب في غير السفر والإجماع عليه ، كيف؟ وهو مسافر لغة وعرفا وشرعا لاستجماع جميع شرائط القصر من المسافة وقصدها ، واستمراره ، وغير ذلك ، فكيف يجوز أن يقال : إنّه حاضر وغير مسافر؟ من جهة أنّه يجب عليه إتمام صومه ، والإتيان بما بقي منه.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم اتّحاد حكم الصلاة والصوم هنا ، إذ هو أوّل الكلام ، كيف؟ والمعصوم عليه‌السلام جعل الشرط هو إتمام الصلاة الفريضة خاصّة ، لأنّ مفهوم الشرط حجّة ، والأصحاب أيضا أفتوا كذلك.

وممّا ذكر ظهر حال دليل العلّامة ، لأنّه علّل بوجود أثر قصد الإقامة.

وممّا ذكر ظهر أيضا فساد القول بكفاية خروج الوقت على العزم ، أو بإتمام الصلاة ناسيا ، أو بالإتمام في أحد الأماكن الأربعة تخييرا.

أمّا الأخير ، فقد عرفته ممّا ذكرنا في مسألة التخيير في الأماكن.

وأمّا الوسط ، فلعدم التبادر.

وأمّا الأوّل ، فلأنّ بقاء القصد إلى آخر الوقت ، غير فعل الصلاة الفريضة بتمام ، وهو الشرط ، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.

وإذا دخل في الفريضة بقصد القصر فبدا له في أثنائها أتمّ ، ولا يضرّ كون الدخول وبعض أجزائها بقصد القصر ، لما سيجي‌ء في بحث النيّة.

ثمّ اعلم! أنّه في صورة الرجوع إلى القصر لا يشترط كون ما بقي من المسافة مقدار المسافة الشرعيّة ، لما ظهر لك من عدم انقطاع سفره بمجرّد قصد الإقامة الذي لم يؤثّر ، وهو الظاهر من هذه الرواية أيضا.

وأمّا إذا وجب عليه الإتمام وانقطع سفره على ما عرفت سابقا فلا يقصّر ، إلّا


إذا سافر بعد ذلك سفرا مستجمعا لجميع شرائط القصر من المسافة وقصدها واستمراره ، فهل يشترط خفاء الأذان والجدران أم لا؟ للأوّل : عموم المنزلة ، لما عرفت في مسألة قاطعيّة القواطع الثلاث ، ولعموم صحيحة ابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام رجل يريد السفر متى يقصّر؟ فقال : «إذا توارى من البيوت» (١) ، فتأمّل!

وللثاني : قوله عليه‌السلام : «حتّى تخرج» في صحيحة أبي ولّاد (٢).

ويمكن أن يقال : المتبادر الخروج الشرعي ، كما سيجي‌ء ، والاحتياط طريقه واضح ، وهو أسلم.

وينبغي التنبيه لأمور :

الأوّل : الإتمام إنّما هو بنيّة إقامة عشرة أيّام تامّات بلياليها ، كلّ يوم أربعة وعشرون ساعة ، لأنّ ذلك هو المتبادر في أمثال المقام.

فلو نقصت ـ ولو قليلا ـ بقي التقصير بحاله ، استصحابا للحالة السابقة وللعمومات ، مع احتمال كفاية الناقص بمثل نصف ساعة أو دقيقة ، لإطلاق لفظ عشرة أيّام عليه جزما ، لكنّه ضعيف ، لأنّ المعتبر هو المتبادر ، لا ما يطلق عليه اللفظ ، وإن كان الإطلاق في غاية الكثرة ، كإطلاق العامّ على الخاصّ وأمثاله.

وفي الاجتزاء باليوم الملفّق من يومي الدخول والخروج وجهان ، أقربهما عندي الاجتزاء ، لأنّه من الأفراد المتبادرة عرفا ، وعدم الاجتزاء في الاعتكاف

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٢٧٩ ، الحديث ١٢٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٣٠ الحديث ٦٧٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.


والعدّة ـ لو كان ـ فمن مانع خارجي من إجماع أو غيره.

الثاني : لا فرق في وجوب الإتمام بقصد الإقامة بين أن يقع في بلد أو قرية أو بادية ، ولا بين العازم على السفر بعد المقام وغيره ، للعموم.

الثالث : قال في «المنتهى» : لو عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من قرية إلى قرية ، ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها المدّة التي يبطل حكم السفر فيها لم يبطل حكم سفره ، لأنّه لم ينو الإقامة في بلد بعينه ، وكان كالمنتقل في سفره من منزل إلى منزل (١).

وهو حسن ، لأنّ المتبادر من الأخبار الواردة في هذا الحكم هو ما ذكره ، بل بعض الأخبار بلفظ بلدة ، ومكّة والمدينة ، والأخبار بعضها يكشف عن بعض بأنّ لفظ الأرض وما ماثله اريد منه أمثال هذا المقدار ، فتأمّل جدّا!

الرابع : هل يشترط التوالي في هذه العشرة بحيث لا يخرج بينها إلى حدّ الترخّص أم لا؟

فالشهيدان على اشتراط ذلك (٢) ، حتّى قال الثاني رحمه‌الله : وما يوجد في بعض القيود ـ من أنّ الخروج إلى خارج الحدود مع العود إلى موضع الإقامة ليومه أو ليلته ، لا يؤثّر في نيّة الإقامة ، وإن لم ينو إقامة عشرة مستأنفة ـ لا حقيقة له ، ولم نقف عليه مستندا إلى أحد ممّن يعتبر فتواه ، فيجب الحكم باطّراحه ، حتّى لو كان ذلك من نيّته من أوّل الإقامة ، بحيث صاحبت هذه النيّة ، نيّة الإقامة ، لم يعتدّ بتلك النيّة ، وكان باقيا على القصر ، لعدم الجزم بإقامة العشرة المتوالية ، لأنّ الخروج إلى ما يوجب الخفاء يقطعها ، ونيّته في ابتدائها يبطلها (٣) ، انتهى.

__________________

(١) منتهى المطلب : ٦ / ٣٨٥ و ٣٨٦.

(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٤ ، الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٢.

(٣) رسائل الشهيد : ١٩٠ و ١٩١.


أقول : قد عرفت أنّ قصد الإقامة والصلاة بعده على الإتمام من قواطع السفر ، فلو نوى الإقامة وصلّى بتمام انقطع سفره ، واحتاج القصر إلى سفر جديد بشرائط القصر ، وإلّا يتمّ.

فلعلّ المراد من الشرط أنّه شرط إلى أن يصلّي بتمام ، وبعده لا يحتاج إلى هذا الشرط ، لكن عبارة الشهيدين تأبى عن ذلك ، أو يكون المراد أنّ حين قصد الإقامة لا بدّ أن ينوي إقامة متوالية لا يخرج إلى حدّ الترخّص ، فلو كان نوى الإقامة لا بهذه الخصوصيّة وهذا القيد يبطل ، ولا ينفع.

ولكن قوله رحمه‌الله : حتّى لو كان ذلك من نيّته من أوّل الإقامة. إلى آخره ، لا يلائم هذا ، ومع ذلك من أين ظهر أنّ قصد الإقامة بعنوان اللابشرط لا يكفي ، بل لا بدّ من شرط العدم؟

فالظاهر من عبارتهما عدم كفاية قصد الإقامة ، بل لا بدّ معه من عدم الخروج إلى حدّ الترخّص ، وعدم قصد ذلك في أوّل قصد الإقامة.

وقد عرفت أنّ مقتضى الأخبار والفتاوى تحقّق القاطع بقصد الإقامة اللابشرط وحصول الصلاة على التمام.

مع أنّ إفادة عبارة قصد إقامة العشرة العرفيّة ما ذكراه لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ خفاء الأذان والجدران حكم شرعي ، فلا مدخليّة له في العرف.

وموضوعات الأحكام يرجع فيها إلى العرف ، واعتباره في الخروج أو الدخول من السفر لا يستلزم اعتباره حال قصد الإقامة.

بل عرفت اتّحاد حال قصد الإقامة مع الكون في الوطن لعموم المنزلة ، وحين ما يكون الإنسان في وطنه ولم يسافر لا عبرة بالخروج إلى حدّ الترخّص وما فوقه قطعا ، إلّا مع قصد المسافة المعتبرة في السفر والخروج إليه ، فلا بدّ أن يكون ناوي الإقامة أيضا كذلك ، مع أنّه ربّما لا يعدّ قبل حدّ الترخّص من جملة ما


قصد الإقامة فيه ، وربّما يعدّ الزائد عنه بكثير وهو الأكثر ، سيّما في البلدان الكبيرة والمتوسّطة ، فإنّ الخروج إلى بعض البساتين والمزارع المتّصلات والمقابر وأمثال ذلك لا يقدح في صدق الإقامة فيها عرفا ، وأيضا لزيادة المكث وقلّته تفاوت عرفا ، فربّما يقلّ ـ غاية القلّة ـ في البعيد ولا يقدح ، وربّما يكثر في القريب ويقدح.

وروى زرارة ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قدم مكّة قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكّة» (١) الحديث.

حكم عليه‌السلام بوجوب الإتمام مطلقا ، سواء خرج من مكّة بجهة من الجهات أم لا ، فلو كان عدم الخروج شرطا لذكره ، إلّا أن يقال : العادة عدم الخروج ، فصار بمنزلة الشرط ، وهو كما ترى ، ولأنّه عليه‌السلام ما نقل حالهم ، لكنّه جعله بمنزلة أهل مكّة ، وأهل مكّة لو خرجوا إلى ما دون المسافة لم يكن عليهم إلّا الإتمام ، فتأمّل جدّا!

ثمّ قال عليه‌السلام : «فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير ، وإذا زار البيت أتمّ الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر» (٢).

قال في «الوافي» : إنّما يجب الإتمام عليه ، لأنّه لا بدّ له من إقامة عشرة حتّى يحجّ ، وإنّما وجب القصر إذا خرج إلى منى ، لأنّه يذهب إلى عرفات ، ويبلغ سفره بريدين ، وإنّما أتمّ إذا زار البيت ، لأنّ الإتمام بمكّة أحبّ من التقصير ، وإنّما لزمه الإتمام إذا رجع إلى منى ، لأنّه كان من عزمه الإقامة بمكّة بعد الفراغ من الحجّ ، كما يكون في الأكثر ، ومنى من مكّة أقلّ من بريد.

ثمّ قال : وفيه نظر ، لأنّ سفره إلى عرفات هدم إقامته الاولى ، وإقامته الثانية

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٨٨ الحديث ١٧٤٢ ، الوافي : ٧ / ١٥٤ الحديث ٥٦٦٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٧٨ مع اختلاف يسير.

(٢) مرّ آنفا.


لا يحصل بعد ، إلّا أن يقال : إرادة ما دون المسافة لا ينافي عزم الإقامة ، وعليه الاعتماد ، يأتي ما يؤيّده في باب إتمام الصلاة في الحرم الأربعة (١).

وذكر في ذلك الباب صحيحة علي بن مهزيار التي تضمّنت أنّ من توجّه من منى إلى عرفات فعليه التقصير ، وإذا رجع وزار البيت ورجع إلى منى فعليه الإتمام (٢) ، وقد ذكرناها في الصلاة في الأماكن الأربعة (٣) ، وفي تقدير قصد الإقامة ثانيا ، تأمّل ، إذ ليس منه عين ولا أثر ولا عادة.

ويمكن أن يقال : سفر عرفات ليس بمسافة القصر على سبيل الوجوب العيني ـ كما عرفت ـ ومثل هذا لا يهدم قصد إقامة العشرة ، كما يظهر من الصحيحين من عدم نيّته إقامة مستأنفة ، وكون الإتمام بعد الرجوع مترتّبا على الإتمام السابق ، ومن جهة أنّه صار بمنزلة أهل مكّة ، ففيهما شهادة على أنّ سفر عرفات سفر رخصة في القصر ، لعدم كونه سفرا تامّا ، بسبب عدم الرجوع ليومه الذي هو شرط على حسب ما عرفت ، فتأمّل جدّا!

ومرّ في صحيحة ابن مهزيار ، عن إبراهيم الحضيني أنّه استأمر الجواد عليه‌السلام في الإتمام والتقصير في مكّة ، فقال عليه‌السلام : «إذا دخلت الحرمين فانو المقام عشرة أيّام وأتمّ الصلاة» فقال : إنّي أقدم مكّة قبل التروية بيوم أو بيومين [أو ثلاثة أيّام] ، فقال : «انو مقام عشرة أيّام وأتمّ الصلاة» (٤).

__________________

(١) الوافي : ٧ / ١٥٤ ذيل الحديث : ٥٦٦٦ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٤ / ٥٢٥ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١١٨٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.

(٣) راجع! الصفحة : ١٨٧ و ١٨٨ من هذا الكتاب.

(٤) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ الحديث ١٤٨٤ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٨ الحديث ١١٣٥٧.


فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّ سفر عرفات لا ينافي قصد الإقامة ، فيكون ظاهرها عدم اشتراط التوالي ، وظاهرها دليل المشهور من عدم كونه سفر القصر.

وعلى ما اختاره معظم القدماء من كونه سفر القصر على سبيل الرخصة ، فلعدم ثبوت منافاة مثله لقصد الإقامة ، بل ثبوت العدم وظهوره ، لما ظهر من الصحاح المذكورة ، فتأمّل جدّا!

وببالي أنّ العلّامة قائل بعدم المنافاة (١) ، وأنّه نقل ذلك لي بعض مشايخي.

الخامس : قد عرفت أنّ قصد الإقامة من قواطع السفر ، فلا بدّ للعود إلى التقصير بعد الصلاة على التمام من قصد مسافة جديدة ، مع باقي الشرائط للقصر.

وبهذا أفتى المحقّقون حتّى الشهيدان (٢) ، فلو رجع إلى موضع الإقامة بعد إنشاء السفر الجديد وحصول الشرائط لطلب حاجة أو أخذ شي‌ء لم يتمّ فيه ، مع عدم عدوله عن السفر ، بخلاف ما لو رجع إلى الوطن.

والفارق مع كونه بمنزلته أنّه أعرض عن قصد الإقامة وسافر وناوي الإقامة الذي هو بمنزلة المتوطّن ، هو الذي لم يعرض عن قصد الإقامة ولم يسافر ، إذ بعد الإعراض ليس بناوي الإقامة والمقيم عشرا ، فليس بمنزلة أهل ذلك البلد.

السادس : إذا سبق نيّة الإقامة ببلد عشرة أيّام على الوصول إليه ، ففي انقطاع السفر بما ينقطع بالوصول إلى الوطن ، من مشاهدة الجدران وسماع الأذان وجهان ، من أنّ المقيم عشرا بمنزلة المتوطّن ، ومن أنّه الآن مسافر ، فيتعلّق به حكمه إلى أنّ يحصل ما يقتضي الإتمام ، وبعد لم يصر بمنزلة أهل البلد ، لأنّ الحديث الدالّ على المنزلة لا يشمل المقام.

__________________

(١) لاحظ! منتهى المطلب : ٦ / ٣٩٠.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٣ ، الروضة البهيّة ١ / ٣٧٢.


نعم ، بعد الدخول ناويا يصير بمنزلتهم ، فلاحظ الحديث (١) ، فلهذا لو خرج إلى السفر اعتبر حدّ الترخّص ، لأنّه صار بمنزلتهم.

السابع : إذا عزم على إقامة العشرة في غير بلده ، ثمّ خرج إلى ما دون المسافة ، فإن عزم العود والإقامة أتمّ ذاهبا وعائدا وفي البلد.

هذا إذا كان الخروج بعد فعل الصلاة على التمام واضح ، لما عرفت من أنّه صار بمنزلة المتوطّن ، ولأنّه انقطع سفره ، فلا بدّ للقصر من مسافة جديدة بشرائطها.

وأمّا إذا لم يصلّ على التمام ، ففيه إشكال من جهة عدم معلوميّة تحقّق القاطع ، فبعد الحركة من موضع القصد لا يكون محتاجا إلى قصد مسافة مستأنفة بشرائط القصر ، بل سفره الأوّل بعد باق ، ومن جهة أنّ ما في صحيحة زرارة المذكورة ، من أنّ «من قدم قبل التروية بعشرة ، فهو بمنزلة أهل مكّة» (٢) بإطلاقه يشمل المقام ، ولذا لا يكون الإتمام له موقوفا على حصول الفريضة بتمام ، مع لزوم الدور أيضا لو كان موقوفا.

نعم ، لو رجع عن عزم الإقامة ، ولم يصلّ فريضة بتمام يرجع إلى حالته الاولى ، فتأمّل ، فإنّه مشكل ، وإن كان الأظهر الثاني ، بل لا إشكال ، لأنّ بمجرّد قصد الإقامة في موضع يكون مكلّفا بالتمام ، فانقطع سفره القصري ، فيكون مكلّفا بالإتمام حتّى يثبت خلافه ، ولغير ذلك ممّا مرّ.

وأمّا أنّ البداء موجب للعود ، فهو مثبت الخلاف. نعم ، الإشكال فيما إذا كان حين قصد الإقامة قصده الخروج ، والاحتياط واضح.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٤ الحديث ١١١٧٨.


ولو عزم العود ، ولم يعزم الإقامة المستأنفة قيل : وجب التقصير بمجرّد خروجه ، ونسب هذا القول إلى الشيخ والعلّامة وغيرهما ، محتجّين بأنّه نقض المقام بالمفارقة ، فيعود إلى حكم السفر المستأنف (١).

وفيه ، أنّ هذا ينافي ما هو مسلّم عندهم وثابت بالأدلّة من أنّ قصد الإقامة من جملة قواطع السفر.

وقد ظهر لك الأدلّة فيما سبق ، عند شرح قول المصنّف : (وأن لا يقطع سفره) (٢) واشير في المقام إلى بعضها ، فإذا انقطع لا جرم يكون اللازم الإتمام والصيام ، وهذا مستصحب حتّى يثبت خلافه ، ولا يثبت إلّا بإنشاء سفر جديد مستجمع لجميع شرائط القصر من مسافة ثمانية بالنحو الذي ذكرت وغيرها.

وأيضا هذا مناف لما علّلوا به في المسألة السابقة المسلّمة عندهم ، حيث علّلوا بأنّ الصلاة على التمام بعد نيّة الإقامة توجب البقاء على الإتمام إلى أن يتحقّق السفر المقتضي للقصر ، ومع ذلك نقض المقام والعود إلى السفر ممنوعان بل هما عين الدعوى.

واستدلّ لهم بأنّ صلاة المسافر قصر إلّا فيما يثبت التمام ، والمتبادر من الأخبار الدالّة على أنّ ناوي الإقامة يتمّ الصلاة أنّه يتمّ في موضع إقامته خاصّة (٣).

وفيه ، أنّ هذا مناف لما ثبت من الأدلّة ، ومسلّم أيضا عندهم من أنّ قصد الإقامة من القواطع ، ومناف أيضا لتعليلهم الذي علّلوا في المسألة السابقة.

وفي «المدارك» بعد ما ذكر قولهم ، قال : وهو مشكل ، إذ المفروض كون

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٣٨ ، منتهى المطلب : ٦ / ٣٩٠ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٤١٣ ، تحرير الأحكام : ١ / ٥٧ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٣ / ٤٤١.

(٢) راجع! الصفحة : ١٤١ ـ ١٤٥ من هذا الكتاب.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.


الخروج إلى ما دون المسافة والعود لا يضمّ إلى الذهاب إجماعا ، كما نقله الشارح وغيره (١) ، انتهى.

ووجه الإجماع قد عرفت من أنّه لا بدّ من تحقّق أربعة فراسخ ذهابا في تحقّق مسافة القصر ، وأنّه لو نقص منها شي‌ء قليل لا تتحقّق مسافة القصر ، إلّا أن يكون الإياب فقط قدر ثمانية أو ما زاد ، فيكون الإياب فقط سفر القصر ، ولا مدخليّة للذهاب فيه ، فيكون الشروع في القصر بعد الشروع في الإياب.

وبناء الشيخ وموافقيه على عدم انقطاع السفر بقصد الإقامة أو الانضمام ، وقد عرفت فسادهما ، وستعرف.

وأيضا التبادر الذي ادّعيت ، إن أردت أنّه يتمّ فيه ولا يتمّ في غيره ، فلا شكّ في أنّه ليس كذلك ، مع أنّ الممنوعيّة لا أقلّ منها.

وإن أردت المعنى اللابشرط فمسلّم ولا يضرّنا ، فإنّ إثبات الشي‌ء لا ينفي ما عداه ، بل هو مستصحب حتّى يثبت خلافه.

هذا ، مضافا إلى الأدلّة الاخر على التمام في الغير.

على أنّا نقول : صحيحة أبي ولّاد ظاهرة في وجوب الإتمام إلى أن يسافر السفر الذي يستجمع شرائط القصر ، لأنّه عليه‌السلام قال : «إن كنت دخلت المدينة وصلّيت بها فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتّى تخرج منها» (٢).

فإنّ المتبادر من الخروج ما هو في مقابل دخوله في المدينة ، وقبل دخوله كان مسافرا بالسفر المستجمع ، ولذا كان يقصّر.

وليس المراد مطلق الخروج بقرينة المقابلة ، ولأنّه لو كان المراد هو المطلق

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٨١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.


يلزم أن يقصّر بمجرّد الخروج ـ أيّ خروج يكون عن البلد ولو كان قليلا ـ وهو باطل وفاقا ، ولأنّه كان المناسب حينئذ أن يقول عليه‌السلام : إلّا أن يخرج ، أو ما يؤدّي مؤدّى هذا ، لا أن يقول : «حتّى يخرج» الظاهر في إرادة الخروج المترقّب الوقوع مثل : السفر إلى الكوفة أو مكّة ، ولم يكن المترقّب الخروج فرسخين أو ثلاثة ، و «أبو ولّاد» كان من أهل الكوفة ، وذهب إلى المدينة للحجّ أو الزيارة وما ماثلهما.

وأيضا في غير واحد من الصحاح ، حكم فيها بوجوب الإتمام بعد قصد الإقامة على سبيل الإطلاق (١) ، فلاحظ وتأمّل!

وأيضا جعلوا الإتمام في مقابل القصر ، بأن قالوا : إن عزمت الإقامة أتممت ، وإلّا قصّرت إلى ثلاثين.

وظاهر أنّ القصر مطلق ، سواء كان في موضع الإقامة ، أو خارجا عنه ، فكذا الإتمام.

وأيضا الإتمام بعد ثلاثين مطلق ، كما هو الظاهر من أخباره (٢) ، وكذا المتبادر من لفظ الخروج فيها هو السفر ، فكذلك الحال في حكاية قصد الإقامة ، فلاحظ الأخبار وتأمّل فيها.

وأيضا قد عرفت دعوى جماعة من الفقهاء الإجماع على عدم ضمّ الإياب بالذهاب في هذه الصورة ، ومن هذا اقتصر الشهيد على التقصير في العود خاصّة (٣).

والظاهر أنّ مرادهم ما إذا حصل بالعود قصد مسافة القصر ، فلو عاد إلى موضع الإقامة من دون قصد المسافة ـ بأن لا يكون عازما على السفر ، ولا يكون

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٣.


عازما على الإقامة ، بل يكون متردّدا أو ذاهلا ـ يكون عليه التمام ، لانقطاع السفر الأوّل ، وعدم تحقّق سفر القصر ثانيا.

وممّا ذكرنا ظهر حال جميع صور هذه المسألة ، إذ بعد ما علمت من أنّ نيّة الإقامة فقط ، أو مع حصول فريضة على التمام قاطعة للسفر ، وتجعل السفر سفرين لو تحقّق بعده سفر ، فلا بدّ للقصر في السفر الثاني من تحقّق المسافة مع جميع الشرائط ، ومنها أن يكون الامتداد الذهابي مقدار أربعة فراسخ لا أقلّ ، والإيابي أيضا يكون هذا المقدار البتة ، وقس عليه لو كان عزمه المسافة الذهابي فقط ، إذ لا بدّ أن يكون ثمانية حتّى يقصّر.

وكذا لو كان عزمه الذهاب إلى أربعة فراسخ وما زاد ، ولم يبلغ ثمانية ، لكن ليس عزمه الرجوع ، بل متردّدا أو ذاهلا عنه ، فإنّه يتمّ ، مثل الذي عزمه الإقامة في رأس الأربعة مثلا ، بل مع مظنّة العود أيضا يتمّ ، لعدم العزم والقصد بمجرّد المظنّة ، إلّا أن يكون قاصدا للرجوع مريدا إيّاه.

وكذا لو كان قصده الذهاب إلى ما دون الأربعة ، والرجوع إلى ما هو بجنب موضع إقامته ، وقصده الإقامة فيه ، أو ذاهل عنه أو متردّد ، فإنّه يتمّ ، لعدم قصد المسافة.

ولو كان قصده الأربعة الذهابيّة والإيابيّة ، فإنّه يقصّر في الطريق البتة ، لكن في المقام (١) يتمّ إن كان قصده الإقامة ، وإلّا يقصّر سواء كان متردّدا ، أو ناويا عدم الإقامة ، أو ذاهلا عن الإقامة وعدمها ، إلى غير ذلك من صور المسألة.

الثامن : المسافة للقصر في سفر البحر مثلها في سفر البرّ وكذا الشرائط وإن كان طيّ المسافة في البحر ربّما يكون بأنقص من ساعة ، وربّما يكون بأيّام كثيرة.

__________________

(١) في (د) و (ط) : في موضع الإقامة.


ولو ردّته الريح ، فإن بلغ سماع الأذان ورؤية صورة الجدران أتمّ ، وإلّا قصّر ، وكذا الحال في ردّ القاسر الآدمي في كلّ سفر يكون ، أو من استعصاء الدابة ، وأمثال ذلك.

التاسع : قد عرفت أنّ المسافر لا يقصّر إذا شكّ في بلوغ سفره حدّ المسافة الشرعيّة ، فإذا صام وأتمّ الصلاة ، ثمّ ظهر عليه بلوغه حدّ المسافة أو ما زاد عنه ، حكم العلّامة في «التحرير» بعدم الإعادة (١).

ولعلّه لأنّه صلّى صلاة مأمورا بها ، وكذا الصيام ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ، ولأنّه قبل ظهور البلوغ كان ممتثلا مطيعا ، لأنّ الشارع ما كلّفه إلّا بذلك ـ على ما عرفت ـ وكان يكفيه لامتثاله البتة.

والاحتياط الذي ذكرناه لم يكن واجبا عليه ، بل كان احتياطا ، طلب منه على سبيل الاحتياط لا الوجوب ، كما حقّق في محلّه ، ومرّ في بحث صلاة الجمعة وغيره.

ويمكن أن يقال : إنّ تكليفه وامتثاله إنّما كان بناء على أنّ مسافته لم تبلغ في أمثال المقام شرعا حدّ القصر ، بل كانت على حدّ التمام والصيام ، فإذا ظهر خلاف ذلك كشف عن كون الواجب عليه القصر والإفطار ، فإذا حصل اليقين بالبلوغ ، حصل العلم ـ من عمومات الأخبار وغيرها ـ بأنّه ما أتى بما امر به وكلّف عليه ، لأنّ فرضه القصر والإفطار بمقتضى العمومات ، سيّما إذا كان الوقت باقيا ـ مثل أن يكون في يوم صومه ظهر عليه جزما ـ أنّه مسافر ـ يجب عليه الإفطار ، وكذا لو صلّى في أوّل الوقت ، وظهر عليه بعد الفراغ.

نعم ، إن ثبت معذوريّته شرعا ـ كما ثبت في المتمّم الجاهل بوجوب القصر ـ

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٥٧.


ثبت براءة ذمّته ، وصحّة ما فعله ، وإلّا فإنّه لم يأت بالمأمور به على وجهه ، أو لم يعلم أنّه أتى به على وجهه أم لا؟ فربّما كان باقيا تحت العهدة ، فتأمّل!

وبالجملة ، الاحتياط ظاهر ومطلوب ، بل الإفطار في الصوم متعيّن ، لا يجوز البقاء عليه بعد ظهور كونه حراما عليه ، بل الصلاة أيضا كذلك ، بأن ظهر عليه ، وهو في الصلاة ولم يدخل في ركوع الركعة الثالثة ، لا يجوز الإتمام مع ظهور وجوب القصر عليه.

بل بعد الدخول أيضا لا يجوز الإتيان بباقي الأربعة ركعات ، مع ظهور كون الواجب عليه الركعتين ليس إلّا ، وأنّ التعدّي حرام ، لما ورد منهم عليهم‌السلام : «أنّ من صلّى في السفر أربعا فأنا منه بري‌ء» (١) ، وأنّه عاص (٢) ، وأمثال ذلك (٣).

بل إذا فرغ عن الإتمام ، فظهر عليه أنّ اللازم على من بلغ سفره المسافة هو القصر ليس إلّا ، ويتأتّى منه ما هو اللازم على البالغ ـ لأنّ الوقت باق ـ كيف يتيسّر له إخراج نفسه عن الأدلّة الدالة على تحتّم القصر وعدم جواز غيره وحرمته عليه؟

ثمّ اعلم! أنّه مثل ما ذكرناه ما هو عكس ذلك ، بأنّ صلّى قصرا باعتقاده بلوغ المسافة ثمانية ثمّ ظهر عدم البلوغ ، وأمّا لزوم الكفّارة في إفطاره أم لا فسيجي‌ء تحقيقه.

العاشر : قد عرفت أنّ كلّ سفر يوجب القصر بعد اجتماع الشرائط ، منها

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٣ ، المقنع : ١٢٨ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٨ الحديث ٦٣٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٨ و ٥١٩ الحديث ١١٣٢٨ و ١١٣٣٣.

(٢) الكافي : ٤ / ١٢٧ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٦ و ٢ / ٩١ الحديث ٤٠٦ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٧ الحديث ٦٣١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٨ الحديث ١١٣٣٠.

(٣) الخصال : ١٢ الحديث ٤٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٠ الحديث ١١٣٣٦.


عدم كونه حراما ، فلازم ذلك أنّ السفر لمحض الإفطار أو القصر يوجبهما ويصحّ ، وإن كان الأولى ترك السفر في شهر رمضان إلى انقضاء ثلاث وعشرين منه ، على ما سيجي‌ء.

وعرفت أنّ القصر والإفطار واحد إذا قصّر أفطر وإذا أفطر قصّر على ما ورد في صحيحة ابن وهب (١) وغيرها من الأخبار (٢).

وما استثناه الشيخ من سفر الصيد للتجارة ـ بأنّ اللازم فيه الإفطار دون قصر الصلاة ، بل يتمّها (٣) ، فإنّما دعاه إلى ذلك «الفقه الرضوي» (٤) ، فإنّه صريح فيما ذكره الشيخ ـ كما أشرنا سابقا ـ وإن ذكرنا للشيخ وجها آخر أيضا فيما سبق.

الحادي عشر : قال الفقهاء : إذا قصّر المسافر اتّفاقا لم يصحّ ، ويجب الإعادة قصرا ، يعني أنّه من جهله بأنّه يجب عليه القصر يصلّي تماما باعتقاد أنّه كالحاضر ، تكليفه هكذا ، ومرّ أنّه يصحّ صلاته حينئذ ، ولا إعادة عليه بعد معرفته أنّ اللازم كان عليه القصر ، لكن لو اتّفق أنّه صلّى قصرا أو أفطر ناسيا أو عامدا ، لم تكن صلاته صحيحة ، لأنّها إن كانت عن عمد يكون عاصيا ، ولا يتأتّى منه نيّة القربة وقصد الامتثال والإطاعة ، فيبطل من الجهتين : أمّا الثانية فظاهرة ، وأمّا الاولى ، فلعدم جواز كون الفعل الواحد إطاعة وعصيانا ، حراما وعبادة ، فضلا عن كونه واجبا.

وأمّا إذا كان ناسيا ، فلعدم العبرة بالنسيان في مقام لزوم الإطاعة وقصد

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥٢ الحديث ١١١٤٢ ، ٤٦٢ الحديث ١١١٧٣ و ١١١٧٥.

(٣) المبسوط : ١ / ١٣٦ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٢ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٣٣ الحديث ٧٤٤٢.


الامتثال والقربة ، فإنّ النسيان والغفلة ليس بإرادة حقيقة ، وما كان ذلك قصد المكلّف ومنظوره ومراده ، بل صدر عنه غفلة ، ونسي ما كان يريد أن يأتي به لامتثاله.

غاية ما في الباب أنّه اتّفق المطابقة للواقع ، ومجرّد الاتّفاق لا يكفي ، لأنّه ما كان يريده ويشتهيه ، بل كان يتنفّر عنه ، وما كان يريده ، إلّا أنّه اتّفق أنّه صدر عنه خطأ وغفلة ، مثل سائر غفلاته ، ومثل ذلك لا يعدّ في العرف إطاعة وامتثالا ، فلا يكون صحيحة ، لعدم تحقّق قصد الامتثال حقيقة ، فيكون عليه الإعادة قصرا ، للخروج عن العهدة.

وقيل بصحّة مثل هذه العبادة (١) ، لأنّ الصحّة هي المطابقة للمطلوب ، واتّفق أنّها طابقت المطلوب ، وكون ذلك عن معرفته وعلمه غير لازم.

وفيه ، أنّ مثل هذا لا يقال في العرف : إنّه أطاع المولى ، بل يقال : صدر منه غفلة ما هو مطابق لطلب المولى ، وبينهما فرق ، إلّا أن يمنع وجوب تحقّق الإطاعة بالنحو المذكور ، وقد بسطنا الكلام في المقام في «الفوائد الحائريّة» فليلاحظ (٢).

ثمّ اعلم! أنّ حال الإتمام اتّفاقا مثل حال القصر اتّفاقا من دون تفاوت أصلا.

الثاني عشر : لو خرج وينتظر رفقة إن حصلت سافر وإلّا فلا ، أتمّ ما لم يبلغ خروجه حدّ المسافة ، وهي الثمانية ، أو الأربعة مع الإياب ، أو الذهاب بقدرها على أيّ حال ، وإلّا فيقصّر في طريقه ذهابا وإيابا وموضعه وقدر انتظاره ما لم يتجاوز شهرا.

__________________

(١) قال به المقدّس البغدادي ، كما في جواهر الكلام : ١٤ / ٣٥٢.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤١٥.


هذا إذا كان الحدّ قصده من أوّل سفره ، وإذا لم يكن ذلك قصده أوّلا ، يتمّ إلى أن يقصد مسافة القصر ، أو يمضي ثمانية فراسخ.

ثمّ بعد بلوغ الثمانية يقصّر على رأي الشيخ (١) ، والمصنّف رحمه‌الله في «الوافي» (٢) ، كما هو الظاهر من موثّقة عمّار (٣).

وربّما كان رأي بعض آخر أنّ القصر إنّما هو بعد الشروع في الإياب.

هذا إذا كان قصده الإياب إلى وطنه ، وإلّا يكون عليه التمام ما دام هائما بأن لا يكون له عزم الرجوع إلى الوطن أصلا ، ولا الذهاب قدر المسافة ، وكذا الحال في كلّ هائم.

ولو كان عزمه السفر ـ إن جاءت رفقة أو لم يجيئوا ـ أتمّ إذا لم يخف عليه الأذان وصورة الجدران ، وقصّر بعد خفائهما ـ على النحو الذي مرّ ـ ما لم يتجاوز شهرا ، وقد مرّ أنّ الشهر عندي هو الثلاثون يوما (٤).

الثالث عشر : لو قصد الصبي مسافة فبلغ في أثنائها ، فالأقرب وجوب القصر عليه وإن لم يكن الباقي مسافة ، لعموم الأدلّة ، وعدم ثبوت مانع ومخرج.

وكذا لو عرض المسافر جنون أو إغماء أو سكر أو نوم أو ذهول أو غفلة أو نسيان ، على حسب ما مرّ ، فلاحظ وتأمّل جدّا!

وحكم القصر موضع الإتمام أو عكسه ـ جهلا أو عمدا أو نسيانا ـ قد مرّ.

الرابع عشر : قد مرّ أنّ ناوي الإقامة لو بدا له ، يرجع إلى التقصير والإفطار

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤ ، تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ ذيل الحديث ٦٦٣.

(٢) الوافي : ٧ / ١٣٨ ذيل الحديث ٥٦٢٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢٢٦ الحديث ٦٦٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٧ الحديث ٨٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٩ الحديث ١١١٩١.

(٤) راجع! الصفحة ١٤٥ و ١٤٦ من هذا الكتاب.


ما لم يصلّ فريضة مقصورة على التمام ، فقبل البداء لا يجوز له القصر والإفطار بوجه من الوجوه ، فلو قصّر بغير بداء له ورجوع عن قصده تكون باطلة ، عليه الإعادة في الوقت وفي خارجه ، سواء كان القصر عمدا أو جهلا أو نسيانا ، مع أنّه في صورة العمد آثم عاص ، وربّما يصير كافرا.

وأمّا الجاهل ، فغير معذور إجماعا ، بل مؤاخذ في تركه تحصيل المعرفة.

وأمّا الناسي ، فإن تذكّر خارج الوقت قضى ، وإن تذكّر في الوقت ـ بعد استدبار القبلة ، أو انتقاض الطهارة ، أو فعل ما لو وقع بعد السهو عن الركعتين لكان مبطلا لصلاته مانعا عن البناء ـ يعيد ، وأمّا لو تذكّر بعد فراغه قبل حدوث الامور المذكورة يقوم ويأتي بالباقي من غير تكبيرة الافتتاح والنيّة ، ويسجد سجدتي السهو ، للتسليم السهوي والتكلّم لو اتّفق ، كما إذا سهى عن الركعتين ، وسلّم بعد التشهّد الأوّل ، هذا إذا نسي عن قصده الإقامة.

وإذا بدا له التسليم السهوي ، لم يجب عليه الإتيان بالباقي ، بل يحرم ، وهل يكتفي بالتسليم السهوي أم يجب إعادته على القول بوجوبه؟ ظاهر الفقهاء الثاني ، لما مرّ في بحث ما إذا قصّر المسافر اتّفاقا ، ولأنّه حين التسليم ما كان مكلّفا بالتسليم ، بل كان مكلّفا بعدمه ، فيسجد سجدتي السهو من جهة التسليم السهوي ، ولا شكّ في أنّ ذلك أحوط أيضا.

وأمّا إذا تذكّر قبل التسليم عدل إلى الأربع وأتمّها أربعا ، ولا يضرّ قصده القصر ، لعدم وجوب نيّة القصر والإتمام ، فضلا أن يكون شرطا للصحّة.

وأمّا الإفطار العمدي ، فهو إثم وعصيان ، وربّما يكون كفرا ، وموجب للقضاء والكفّارة ، وأمّا إذا كان جهلا فموجب للقضاء ، وأمّا الكفّارة فسيجي‌ء.

وأمّا إذا كان نسيانا وناويا للصوم ، فلا يضرّ ، ولا يكون إفطارا إن تذكّر في يومه ، بل كلّ ما يكون في فيه من اللقمة يرميه وجوبا ، ولا يبلغ منه شيئا حتّى من


لعابه ومائه وما بقي تحت أسنانه.

ولو لم يكن ناويا للصوم ، يمسك عن الأكل وغيره من المفطرات على ما سيجي‌ء.

ثمّ اعلم! أنّه إذا صلّى الفريضة بتمام قبل البداء ، فالتماميّة لا تتحقّق إلّا بالإتيان بالسلام المخرج عن الصلاة ، والفراغ من ذلك التسليم ، فلا يكفي ما نقل عن الشيخ من اكتفائه بالدخول في تلك الفريضة (١) ، ولا ما نقلنا عن العلّامة من الدخول في الثالثة (٢) ، لما عرفت سابقا.

وأمّا إذا كان التسليم المخرج قبل السّلام الآخر ـ كما هو المتعارف الآن من تقديم «السّلام علينا» على «السّلام عليكم» ، وسيجي‌ء أنّ الأوّل يخرج عن الصلاة ، وإن كان «السلام عليكم» جزءا أيضا مستحبّا ـ فالظاهر تحقّق الإتمام بالفراغ من «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» وإن كان عزم المكلّف ذكر «السلام عليكم» بعد ذلك ، لأنّه إمّا مستحبّ وجزء لها ، أو واجب خارج عنها ، على ما اخترناه من الخروج عنها بـ «السلام علينا».

ومثل هذا ما إذا قيل باستحباب التسليم ، والخروج عن الصلاة بالفراغ عن التشهّد ، أو عن الصلاة على محمّد وآله بعد التشهّد ، مع احتمال أن يكون التمام لم يتحقّق إلّا بالفراغ عن السلام الآخر على القول بكونه جزءا للصلاة مستحبّا إذا كان المكلّف كان عزمه أن يقول ، لصدق عدم التمام حينئذ ، مع أنّ كونه مسافرا سفر القصر مستصحب حتّى يثبت خلافه ، لقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا بيقين» (٣). والأوّل أقوى وأظهر.

__________________

(١) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١٣٩ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٣٩.

(٢) راجع! الصفحة : ٢٤٧ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ نقل بالمضمون.


وأمّا الاكتفاء برفع الرأس عن السجدتين في الركعة الرابعة ، بناء على تماميّة أركان الصلاة التي هي العمدة ، ويتحقّق أربع ركعات ، ففيه ما فيه.

الخامس عشر : إذا شكّ بعد الفراغ من الفريضة التي بدا له بعدها ، فلا شكّ في أنّه عليه أن يبني على كونها تامّة لا نقص فيها ، لكون الشكّ بعد الفراغ ، ولا يمكنه غير هذا ، فالظاهر أنّها داخلة في قوله عليه‌السلام : وإن صلّى فريضة بتمام ، فعليه التمام والصيام حتّى يخرج (١).

وكذا إذا كان كثير الشكّ ، وشكّ في الأثناء ، كما إذا كان ظانّا بالتمام ، فإنّ التماميّة والنقيصة في العبادة باعتبار الشرع ، فتأمّل ، مع احتمال عوده إلى القصر ، لأنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : «صلّى فريضة بتمام» ، أن يفعلها كذلك ، لا أن يبني على التمام.

ولعلّ الأوّل أقرب ، لأنّها فرضه بتمام شرعا ، فتأمّل. والاحتياط في مثل ذلك لازم.

وأمّا إذا سها في هذه الفريضة ، فترك سجدة أو تشهّدا ، فبدا له بعد التسليم قبل أن يأتي بالمنسي ، فهل يرجع إلى التقصير ، لأنّه لم يصلّ فريضة بتمام أو لا ، لأنّه صلّى بتمام وفرغ ممّا هو الأصل في الفريضة؟ ولعلّ الأوّل أظهر ، فإنّه مثل ما إذا سهى فترك بعض الركعات ، فبدا له قبل فعله.

وأمّا إذا سها سهوا لا يوجب إلّا سجدة السهو خاصّة ، فالظاهر هو الثاني لأنّها ليست جزءا للصلاة ، بل واجب على حدة.

مع احتمال الفرق بين ما إذا كانت لأجل ترك جزء للصلاة مثل «الحمد»

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٠ الحديث ١٢٧٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥ نقل بالمعنى.


والسورة وغيرهما ، أو لأجل زيادة وقعت ، أو لتبديل جزء بآخر على القول بوجوبها ، لما ذكر بأنّ ما في الأوّل موضع الجزء ، فلا يصدق قبل فعلها أنّه صلّى الفريضة بتمام ، فتأمّل فيه!

ولو شكّ في كون بدائه قبل فعل الفريضة بتمام أو بعده ، وأنّ الفريضة بتمام هل صدر منه في حال الغفلة عن البداء أو في حال عدم البداء؟ فالظاهر بقاء سفر القصر على حاله للاستصحاب ، مع احتمال ثبوت خلاف الاستصحاب ، بأنّ الأصل في أفعال المسلم الحمل على الصحّة وبعد وقوعها (١) غفلة ، ولعلّ الأوّل أقوى.

ولو صلّى الفريضة قصرا سهوا ، مع كون إرادته الإتمام ، لكونه ناوي الإقامة ، ثمّ بدا له وصلّى صلاة أو صلوات تامّات باعتقاد كونه ممّن يجب أن يصلّي تماما وأنّه بمنزلة المتوطّن ، فتذكّر أنّ صلاته التي صلّى أوّلا في حال قصده الإقامة كانت قصرا لسهوه ، فهل يرجع إلى القصر ، لأنّه ما صلّى فريضته بتمام قبل أن يبدو له ، أو أنّه يتمّ ، لأنّ ذمّته كانت مشغولة بالإتمام ، لكون الخطاب بالنسبة إليه كان هو الإتمام وإن كان قد صلّى قصرا؟ والأوّل أظهر ، بل هو متعيّن.

السادس عشر : قد عرفت أنّ ناوي الإقامة يجب عليه الإتمام والصيام ، وكلّ واحد منهما واجب عليه على حدة ، من دون توقّف على الآخر واشتراط به ، كما هو الحال في الحاضر ، فلو صام ولم يصلّ عمدا لفقد الطهور أو عصيانا ، أو صلى قصرا نسيانا أو جهلا ، أو لعدم المبالاة ـ لا من جهة البداء ـ يكون ما صام صحيحا ـ وإن صام جميع العشرة ، بل وكلّ الشهر ، بل وأزيد ـ ما لم يحصل له البداء في أثناء العشرة على حسب ما عرفت ، لأنّه صام صوما واجبا عليه ، ولا يمكنه شرعا

__________________

(١) في (ز ٣) : واستبعاد وقوعها.


تركه ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء.

وأمّا إذا بدا له في أثناء العشرة ، فمقتضى ما ذكرناه صحّة صومه الذي وقع قبل البداء جزما ، لأنّه قبل البداء كان مخاطبا بالصوم جزما ، وما كان مرخّصا شرعا في تركه بمقتضى الأخبار والإجماع ، وقد عرفتهما ، والتكليف به مع عدم القبول منه وعدم صحّته تكليف بما لا يطاق.

أمّا في صورة عدم التمكّن من الصلاة ، أو عدم التمكّن من إتمامها فظاهر.

وأمّا في صورة التمكّن ، فلما عرفت من عدم كون أحدهما شرطا لصحّة الآخر ، بل كلّ واحد منهما واجب مستقلّ برأسه ، إلّا أن يقال : أنّ الصوم الذي ارتكبه قبل البداء وإن كان صحيحا بما ذكر من الدليل ، إلّا أنّه بعد ما بدا له قبل أن يصلّي فريضة بتمام بطل جميع ما كان صحيحا بمقتضى ما يظهر من صحيحة أبي ولّاد (١) التي هي حجّة إجماعا ، يعني هذا البداء صار كاشفا عن بطلانه من أوّل الأمر ، وعدم كون المسافر مكلّفا به من أوّله إلى الآن.

وفيه ، أنّ ثبوت فساد ما كان الواجب على المكلّف فعله على سبيل التعيين ـ بحيث لم يكن مرخّصا أصلا في الترك ولا المساهلة والمسامحة بوجه من الوجوه ـ أمر في نفسه مشكل ، فضلا أن يكون ثابتا من صحيحة أبي ولّاد ، إذ قبيح على الحكيم عدم قبول مثله من المكلّف ، وردّه عليه مع إيجابه عليه من دون توقّف على شي‌ء سامح المكلّف فيه ، ولا اشتراط بشي‌ء لم يراعه.

مع أنّ جميع ما ذكرناه فروض نادرة ، فكيف يتبادر من صحيحة أبي ولّاد؟ فضلا أن يكون بحيث يغلب على ما ذكر ، سيّما مع ما ورد منهم من أنّ المتيقّن لا يجوز تركه إلّا بيقين (٢) ، وإلى حين البداء كان صحيحا على اليقين ، لأنّه لو كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ نقل بالمضمون.


يسافر أو يموت أو يجنّ كان ممتثلا ، وصومه كان صحيحا.

وصحيحة أبي ولّاد مبنيّة على الفروض المتعارفة ، فإذا ثبت كونه مقيما غير مسافر فيما تقدّم على البداء ثبت فيما تأخّر أيضا ، لعدم القول بالفصل ، ولما عرفت سابقا في بحث انقطاع السفر بالقواطع الثلاث.

السابع عشر : قد مرّ مرارا أنّ من نوى الإقامة وصلّى صلاة بتمام انقطع سفره قطعا ، ولا يجوز له التقصير إلّا بعد أن يسافر سفرا جديدا مستجمعا لشرائط القصر ، فإذا خرج إلى ما دون المسافة يتمّ في الذهاب وموضع قصده ، والإياب وموضع إقامته.

وكذا لو خرج إلى المسافة وما فوقها غير قاصد ، أو يقصد ما دون المسافة ثمّ قصد ما دونها ، وهكذا ، لكن في الإياب إلى موضع الإقامة لو كان قاصدا له يقصّر إذا كانت ثمانية أو ما فوقها ، وأمّا في موضع الإقامة يتمّ ، إذا كان قاصدا لإقامة عشرة اخرى فيه ، لأنّ قصد الإقامة السابق انقطع بقصد المسافة بعده ، وإن لم تكن ثمانية ، أو كان لكن لا يكون قاصدا لها ، يتمّ أيضا فيه وفي موضع الإقامة إلى أن يقصد مسافة جديدة.

هذا إذا كان قصده الإقامة السابق موافقا للعرف من دون تزلزل ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كان قصده الذهاب في ضمن العشرة إلى مواضع خارجة عن موضع إقامته ، بحيث لا يصدق في العرف أنّه قصد إقامة العشرة المتوالية فيه ، فالظاهر عدم تحقّق قصد الإقامة الشرعيّة ، لأنّ الوارد في الأخبار مقام عشرة أيّام (١) ، والمتبادر منه التوالي العرفي والمقام العرفي ، وإن كان الظاهر من بعض الأخبار عدم اعتبار التوالي مطلقا ، وهو رواية محمّد بن إبراهيم الحضيني (٢) ، ولم

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ الحديث ١٤٨٤ ، الاستبصار : ٢ / ٣٣٢ الحديث ١١٨٠ ، وسائل الشيعة :


أطّلع على من أفتى بظاهرها سوى الشيخ ، وجعل ذلك من خواصّ الحرمين (١) ، فلاحظ كلامه وتأمّل!

وأمّا ما ظهر ممّا سبق من القول بعدم اعتبار التوالي ، فهو أن يخرج إلى خارج الحدود مع العود إلى موضع الإقامة ليومه أو ليلته ، فيشكل العمل بالرواية المذكورة ، ورفع اليد عمّا ظهر من الأخبار الصحاح الكثيرة المفتى بها المعوّل عليها.

نعم ، ما لا يضرّ التوالي العرفي ، أو المقام العرفي ، فهو غير مضرّ بقصد الإقامة الشرعيّة ، فمن نوى الإقامة في النجف الأشرف ـ على مشرّفه ألف صلاة وسلام ـ مثلا ، مريدا للذهاب إلى مسجد الكوفة في ضمن إقامته ، والرجوع من يومه أو ليلته إلى النجف ، يحتمل أن يكون ناوي إقامة العشرة المتوالية عرفا ، لاحتمال كون مسجد الكوفة من توابع النجف الأشرف ، والنجف الأشرف من توابع الكوفة ، بحيث لا يقدح في قصد الإقامة فيهما الخروج من كلّ منهما إلى الآخر ، كما أنّ الحال في بغداد والكاظمين عليهما‌السلام أيضا كذلك. وقس عليهما حال غيرهما.

سيّما وفي بعض الأخبار : «إذا دخلت أرضا ، فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة فأتمّ» (٢).

مع أنّه على تقدير الخروج وعدم التابعيّة ، فلعلّ هذا المقدار من الذهاب والإياب إليه لا يكون قادحا في الصدق ، مع كون رحله فيه ومنامه ومقرّه ومقامه إذ يقال عرفا : إنّه ناوي الإقامة فيه ، لكن الاحتياط في أمثال هذا ممّا لا ينبغي أن يترك ، بأن يكون نيّة الإقامة من دون قصد الخروج في ضمن العشرة في حال

__________________

٨ / ٥٢٨ الحديث ١١٣٥٧.

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٧ ذيل الحديث ١٤٨٣.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٩ الحديث ٥٤٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٧ الحديث ٨٤٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٠ الحديث ١١٢٨٣.


قصد الإقامة.

نعم ، إذا كان من دون قصد الخروج في ضمن العشرة ، لا يجب عليه الصبر إلى انقضاء العشرة ، بل بعد ما صلّى صلاة واحدة بتمام ثمّ بدا له ، فلا غبار ولا شبهة أصلا في أنّه يتمّ الصلاة ويصوم إلى أن ينشأ سفرا جديدا مستجمعا للشرائط ، وقبل إنشاء مثل هذا السفر يتمّ ويصوم ، كما قلنا.

الثامن عشر : قد قلنا سابقا أنّ قصد الإقامة يتحقّق بشيئين :

أحدهما : اليقين بكونه في المقام مدّة عشرة أيّام ، وإن لم يكن ذلك مشتهى نفسه ولم يكن هو قاصدا للقيام فيه.

وثانيهما : أن يكون هو قاصدا للإقامة فيه عازما لها ، وإن لم يحصل له اليقين السابق ، ولذا ربّما يبدو له من دون داع يضطرّ بسببه إلى البداء ، وربّما تحصل الدواعي التي تلجئه إلى البداء.

نعم ، لا بدّ أن يكون في حال قصده على وثوق من أنّه يقيم عشرة أيّام ، بأن لا يخطر بخاطره احتمال الخلاف والدواعي له ، أو يخطر لكنّه من جهة بعده في نظره يكون واثقا وإن كان ظانّا.

وإن كان يشتهي المقام ، لكن من جهة أنّه لا يدري أنّه يتيسّر له أم لا؟ لا يقصد ولا يعزم ـ وإن كان الراجح عنده أنّه يقيم هذا القدر ـ فهذا ليس بقصد الإقامة ، كما أنّه إذا كان يظنّ ـ بظنّ قوى ـ أنّه يقيم عشرا ، لكن لا يقصد ولا يريد ، ليس ذلك بقصد الإقامة.

وإن كان إرادته الإقامة مع حصول ظن بها ـ ليس بقوي ـ ففي كونه قصد الإقامة إشكال ، بل الظاهر أنّه ليس قصد الإقامة ، سيّما مع ما في بعض الصحاح من اشتراط العزم على الإقامة (١).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٨ الباب ١٥ من أبواب صلاة المسافر.


التاسع عشر : روي عن حمزة بن عبد الله الجعفري قال : لمّا أن نفرت من منى نويت المقام بمكّة فأتممت الصلاة حتّى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدا من المصير إلى المنزل ولم أدر أتمّ أم اقصّر ، وأبو الحسن عليه‌السلام يومئذ بمكّة فأتيته فقصصت عليه القصّة ، فقال : «ارجع إلى التقصير» (١).

حملها في «التهذيب» على ما إذا حصل مسافرا وخرج (٢).

ويحتمل أن يكون قوله : فأتممت الصلاة ، مثل قول أبي ولّاد : فأتمّ الصلاة ، بعد قوله : نويت حين دخلت المدينة أن اقيم بها عشرا (٣).

ويحتمل أن يكون نوى المقام مطلقا من دون تقييد بعشرة أيّام ، أو الدوام ، أو غير ذلك ، كما هو منطوق الخبر.

وتبادر إقامة العشرة في أمثال زماننا ، إنّما هو بسبب الفتاوى واشتهارها عند المتشرّعة ، فلا يلزم أن يكون ذلك الزمان أيضا كذلك ، سيّما عند كلّ أحد ـ حتّى عند هذا الراوي أيضا ـ حتّى يلزم الإشكال ، سيّما أنّ الأصل عدم التقدير ، وعدم الزيادة.

مع أنّه على تقدير التقدير ، فيحتمل أن يكون المقدّر خمسة ، لما مرّ في صحيحتي ابن مسلم من أنّ إقامة الخمسة بالحرمين يوجب الإتمام (٤) ، مع أنّ الشيخ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٩ الحديث ٨٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٩ الحديث ١١٣٠٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ ذيل الحديث ٥٥٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٨ الحديث ١١٣٠٥.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٤٨ و ٥٤٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٨ الحديث ٨٤٩ و ٨٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٦ ، ٥٠٢ الحديث ١١٢٩٠.


والشهيد وغيرهما يقولون بكفاية الخمسة في الحرمين (١) ، أو من جهة مستند ابن الجنيد القائل بالخمسة مطلقا (٢).

فلعلّ حال الراوي ، حال ابن الجنيد والشيخ وشركائه ، وأنّه سمع حديث الخمسة في الحرمين ، المفتى به عند المشايخ ، فلا حاجة إلى ارتكاب البعيد.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ ذيل الحديث ٥٤٨ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١١٤ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٣ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٣٠.



١٧ ـ مفتاح

[ما يتحقّق به الوطن]

الوطن ما يكون له فيه منزل يقيم فيه ستّة أشهر ، فإذا كان كذلك يتمّ فيه متى يدخله ، كذا في الصحيح (١).

وللأصحاب هنا اختلاف شديد وأقوال شتّى ، وكذا النصوص مع اعتبار سند أكثرها. لكنّ العمل على ما ذكر ، وفاقا للصدوق (٢) ، لعلوّ السند ووضوحه واعتضاده بالعمومات.

وللتخيير فيما اختلفت الروايات فيه وجه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.

(٢) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣.



قوله : (والوطن ما يكون). إلى آخره.

لا يخفى أنّ الأصل في الصلاة هو الإتمام ، وهو الذي وضع الله تعالى الصلاة عليه ، والقصر لا يكون إلّا لعروض السفر أو الخوف ، وبمجرّد السفر أيضا لا يجوز القصر حتّى يتحقّق شرائطه ، كما عرفت.

فالمكلّف لا يجوز له القصر إلّا أن يثبت له أنّه مسافر بلا شكّ ولا شبهة ، ولا يكون مسافرا إلّا إذا كان خارجا عن وطنه ومنزله ومسكنه جزما ، والكائن في الوطن الحاضر فيه حاضر غير مسافر بالبديهة.

مع أنّك عرفت أنّه لا بدّ من ثبوت كونه مسافرا حتّى يجوز له القصر ، فلا معنى لأنّ يقال : الوطن ما يكون. إلى آخره ، إذ المسافر لفظ يرجع فيه إلى اللغة والعرف ، وليس في اللغة والعرف إلّا من هو خارج عن موضع حضوره ووطنه ، ولا دخل للملك في هذا المعنى أصلا ورأسا ، كما أنّه ليس كلّ من هو في ملكه حاضرا ، بل غالبهم مسافرون ـ لغة وعرفا ـ حين ما كانوا في أملاكهم.

كما أنّ غالب الحاضرين وغير المسافرين ليسوا في ملكهم جزما ، بل الذين ليسوا بمسافرين ـ لغة وعرفا ـ ربّما لا يكون لهم ملك أصلا ، وربّما يكون لهم ملك ليس قابلا للسكنى ، وربّما يكون قابلا ، لكنّهم ليسوا بساكنين فيه ، وعلى ذلك المدار في الأعصار والأمصار ، فكيف يمكن أن يقال : من لم يكن له ملك قد استوطنه ستّة أشهر يكون دائما في السفر؟ بل لا يمكن أن يصير حاضرا أصلا ، لعدم ذلك الوطن له ، بل يكون لازم السفر محال الانفكاك منه ، وأعجب من هذا أن يكون كثير السفر.

ومن كان السفر عمله يجب عليه الإتمام ، ومن كان لازم السفر ، محال


الانفكاك عنه يجب عليه القصر من يوم تولّدهم إلى أن يموتوا ، إلّا أن يكونوا أرباب ملك يستوطنون فيه كلّ سنة ستّة أشهر ، ولا بدّ أن يكون ذلك منزلا له ، وأين هذا ممّا ذكر من أنّ الأصل هو الإتمام ولا يمكن القصر إلّا بعد ثبوت كونه مسافرا؟ ولا يكفي هذا أيضا ، بل لا بدّ من شرائط كثيرة لا يكفي واحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة ، وهكذا.

فالظاهر أنّ مراد الفقهاء ـ ومنهم المصنّف رحمه‌الله ـ من هذا ، تعريف الوطن الذي عدّوه من القواطع للسفر ، كما لا يخفى على من تأمّل كلامهم ، وليس مرادهم أنّ الإتمام والصيام مطلقا منحصر في ما ذكر ، بل مرادهم تعريف الوطن الذي يكون المسافر يتمّ فيه إذا دخله مع كونه على سفر ، لا حال كونه متوطنا فيه ، وهو وقت ستّة أشهر الذي استوطنه في ذلك الوقت ، بل حال وقت الاستيطان وكلوه إلى الظهور ، كسائر أوقات التوطّن والحضور ، وعدم السفر الذي لا غبار ولا شبهة فيها ، ولا يحتاج إلى التنبيه. كما أنّهم ما عرفوا معنى الحاضر ، ولا معنى المسافر ، ولا معنى الخروج عن البلد أو البيت أو الدار أو الأهل ، وأمثال ذلك.

ويؤيّد ذلك أيضا أنّ مستندهم في هذا الحكم لا يدلّ إلّا على ما ذكرناه من أنّه موضع يتمّ فيه الصلاة والصيام ، لا أنّ إتمام الصلاة والصيام منحصر فيه محال في غيره ، على النهج الذي ذكر.

وبالجملة ، كون ما ذكرناه هو مراد الفقهاء ومقتضى أدلّتهم ممّا لا شبهة فيه بعد التأمّل وإمعان النظر ، فمن لم يتأمّل يتوهّم الانحصار ، ويدّعي أنّ الإتمام لا يمكن شرعا إلّا في الوطن الشرعي ، ومن لم يكن له وطن شرعي أو كان لكنّه ليس فيه يقصّر إلى أن يموت ، ويجعل فرض جميع المكلّفين هو القصر ليس إلّا ، ويخرج من هذه الكلّية من له ملك يكون ذلك الملك منزلا له ، ومع ذلك استوطنه ستّة أشهر


كلّ سنة أو سنة واحدة ، ويأمرون غير من ذكر بقصد الإقامة في بيته ووطنه ، ويجرون عليه أحكام ناوي الإقامة.

ولو لم يقصدوا إقامة يوجبون عليه القصر والإفطار إلى أن ينقضي ثلاثون يوما ، ولا يتأمّلون في أنّ القصر والإفطار لا يجوزان إلّا لمن ثبت أنّه مسافر وغير حاضر.

مع أنّ الأعراب مع كونهم يدورون ولا يسكنون ، بل ظاعنون ، ومع ذلك حكم الشارع بوجوب الصوم والإتمام عليهم ، من جهة أنّ بيوتهم معهم ، وهم في منازلهم ، أو معهم المنازل ، فكيف يكون الساكن المطمئنّ الذي هو في بيته أو منزله معه يفطر ويقصّر؟ مع عدم تحرّك بيته ومنزله وعدم تحرّك نفسه ، وإنّما تعرّضنا لما ذكرنا وطوّلنا الكلام تنبيها للغافل ، وتعليما للجاهل العامل بما يفهمه من كتب الفقهاء.

لا يقال : لعلّ المصنّف رحمه‌الله لا يقول باعتبار الملك.

لأنّا نقول : ليس المراد الاعتراض ، بل لمّا رأيت الاتّفاق على اعتبار الملك واستيطان ستّة أشهر ـ وإن اختلفوا في اعتبار كونه منزلا ، وفي اتّصال ذلك الاستيطان ، وفي دوامه كلّ سنة (١) ، وفي أنّه هل يلحق بالملك ما لو اتّخذ البلد دار إقامة على الدوام أم لا؟ ـ شرعت في تحقيق الحال في الكلّ.

مع أنّ «المفاتيح» مختصر «المدارك» و «المسالك» ، وفي «المدارك» أظهر الاتّفاق على اعتبار دوام الملك (٢) ، فلو كان المصنّف مخالفا لأظهر وأنكر عليهم وأصرّ ، كما هو دأبه.

__________________

(١) في (ف) و (ط) : ستّة أشهر.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٤.


مع أنّه في معتصمه الذي هو شرح لهذا الكتاب ، كما صرّح به هكذا : وقيل : لا بدّ من دوام الاستيطان ستّة أشهر كلّ سنة ، كما يعتبر دوام الملك ، لظاهر صحيحة محمّد بن إسماعيل (١). (٢) وهي بعينها الصحيح الذي ذكره في المتن متمسّكا به ، والقائل بعينه هو الصدوق (٣).

وفي «الوافي» أيضا صرّح بذلك (٤) ، مع أنّ كثيرا من الأخبار تدلّ على اعتبار الملك (٥) ، ولم يطرحها ولا أظهر لها وجها.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّه ورد في كثير من أخبارنا الأمر بالإتمام في الملك والضيعة ، من دون اعتبار استيطان أصلا (٦) ، وفي كثير من الأخبار الأمر بالإتمام في الوطن والمستوطن ، من دون اعتبار ملك أصلا (٧).

وجماعة من المتأخّرين ، ومنهم المصنّف رحمه‌الله ـ اعتبروا الأمرين ، جمعا بين الأخبار ، وقالوا : لا بدّ من الملك والاستيطان ستّة أشهر (٨). وهو مشكل. لأنّ ما دلّ على اشتراط الملك واعتباره مطلقا ـ من دون اشتراط الاستيطان ـ وارد على سبيل التقيّة بحسب الظاهر.

قال خالي العلّامة المجلسي رحمه‌الله : هو قول جماعة من العامّة (٩).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.

(٢) معتصم الشيعة : (مخطوط).

(٣) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣.

(٤) الوافي : ٧ / ١٦٢ ذيل الحديث ٥٦٨٦.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.

(٧) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الباب ١٤ من أبواب صلاة المسافر.

(٨) قواعد الأحكام : ١ / ٥٠ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٨ ، بداية الهداية : ١ / ١٥٥ ، الوافي : ٧ / ١٦٣ ذيل الحديث ٥٦٨٦.

(٩) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٧.


ومذهب مالك : أنّ من مرّ بقرية فيها أهله أو ماله أتمّ ، إذا أراد أن يقيم فيها يوما أو ليلة (١) ومذهب مالك كان هو المشهور المتداول في زمان صدور الروايات.

ونقل عن شارح «السنّة» ، عن ابن عبّاس ، وأحمد : أنّ المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتمّ الصلاة ، وهو أحد قولي الشافعي (٢) ، انتهى.

أمّا ما دلّ على اعتبار الملك ، فهو صحيحة عمران بن محمّد السابقة (٣) ، وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج أنّه قال للصادق عليه‌السلام : الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض يخرج فيطوف فيها ، أيتمّ أو يقصّر؟ قال : «يتمّ» (٤).

وفي سند فيه أبان ، عن إسماعيل بن الفضل ، عن الصادق عليه‌السلام : عن رجل سافر. إلى أن قال : «إذا نزلت قراك وضيعتك فأتمّ الصلاة ، وإن كنت في غير أرضك فقصّر» (٥).

وفي ضعيفة البزنطي بسهل عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «يتمّ الصلاة كلّما أتى ضيعة من ضياعه» (٦).

وفي موثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ٢ / ٦٦.

(٢) نقل عنه في بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٧ ، لاحظ! شرح السنّة : ٢ / ٥٣٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٦ الحديث ١١٢٦٩.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٦ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٢ الحديث ١٢٨١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٥ الحديث ١١٢٦٧.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٠٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٨ الحديث ٨١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٢ الحديث ١١٢٥٧.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٤ الحديث ٥٢٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٧ الحديث ١١٢٧٢.


دار فينزل فيها ، قال : «يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة» (١) الحديث.

وهذه الأخبار كما ترى في غاية الظهور في عدم اشتراط الاستيطان أصلا ، وأنّ العبرة بالملك من حيث هو ملك ، وقد عرفت أنّ المناسب أن يكون تقيّة ، بل بعضها يبعد ـ غاية البعد ـ حمله على الاستيطان ، بل ربّما يأبى عنه مثل : صحيحة عبد الرحمن والموثّقة ، سيّما ولم يذهب إلى ذلك أحد من الخاصّة ، لأنّ المشهور بين المتأخّرين وإن كان اعتبار الملك ، إلّا أنّه مع اعتبار الاستيطان.

ومنهم من اعتبر المنزل الذي يكون ملكه مع الاستيطان ، وما اكتفى بالملك ، نقل ذلك عن الشيخ في نهايته ، وابن البرّاج ، وأبي الصلاح ، والمحقّق في «النافع» (٢).

فمثل ما ذكر من الأخبار ورد من الأئمّة عليهم‌السلام الأمر بترك العمل به من جهتين.

سيّما مع ورود الأخبار الكثيرة على عدم اعتبار الملك أصلا مثل : كالصحيح عن موسى بن حمزة بن بزيع أنّه قال للكاظم عليه‌السلام : «إنّ لي ضيعة. إلى أن قال : اقصّر أم أتمّ؟ فقال : «إن لم تنو المقام عشرا فقصّر» (٣).

وفي كالصحيح بـ ـ إسماعيل بن مرار ـ عن الصادق عليه‌السلام : «من أتى ضيعته ثمّ لم يرد المقام عشرة أيّام قصّر ، وإن أراد المقام عشرة أيّام أتمّ [الصلاة]» (٤).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٠.

(٢) نقل عنهم في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٣ ، لاحظ! النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤ ، المهذّب : ١ / ١٠٦ ، الكافي في الفقه : ١١٧ ، المختصر النافع : ٥١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٩ الحديث ١١٢٨١.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٩ الحديث ٨١٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٩ الحديث ١١٢٨٠.


وصحيحة علي بن يقطين أنّه سأل الكاظم عليه‌السلام عن رجل يمرّ ببعض الأمصار وله بالمصر دار وليس المصر وطنه ، أيتمّ صلاته أم يقصّر؟ قال : «يقصّر ، والضياع كذلك إذا مرّ بها» (١).

وفي الصحيح ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا عليه‌السلام : عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ قال : «لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام إلّا أن يكون له منزل يستوطنه» ، فقلت : فما الاستيطان؟ فقال : «أن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر» (٢).

والأخبار الدالّة على أنّه ما لم يستوطن الضيعة أو المنزل لا يتمّ كثيرة وصحيحة ومعتبرة ، مثل : صحيحة علي بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال : «كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتمّ فيه» (٣).

وصحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام عن الرجل يسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يتمّ أم يقصّر؟ قال : «يقصّر إنّما هو المنزل الذي توطّنه» (٤). إلى غير ذلك.

فظهر لك أنّ ما دلّ على اعتبار الملك خاصّة لا بدّ من حملها على التقيّة ، وأمّا ما دلّ على الاستيطان ، أو نيّة الإقامة عشرا ، لا يدلّ على اشتراط الملك أصلا ـ كما لا يخفى ـ فإنّ قول المعصوم عليه‌السلام : «لا تقصّر في الضيعة ما لم تنو مقام عشرة» لا

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٣ الحديث ٥٢٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦١.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٣.


يدلّ على اشتراط الملكيّة لقصد إقامة العشرة ، فكما لا يدلّ عليه ، كذا لا يدلّ قوله عليه‌السلام : «لا تتمّ في الضيعة والمنزل حتّى تستوطنه» على اشتراط الملكيّة في الاستيطان ، فلا داعي إلى اعتبار الملكيّة ، لأجل اعتبار الاستيطان أصلا.

وليس في الأخبار الدالّة على اعتبار الاستيطان ما يشير إلى ذلك أصلا ، مضافا إلى ما عرفت من عدم مدخليّة الملك في السفر والحضر مطلقا بالبديهة.

وأمّا ما دلّ على اعتبار ستّة أشهر ، فيمكن أن يكون اعتبارها لأنّ يتحقّق التوطّن العرفي الذي يقال عرفا : إنّه في وطنه ، وأنّه حاضر ، بأن يكون عرض السنة ستّة أشهر في موضع متوطّنا وستّة أشهر في موضع آخر ، بأن يكون له بيت وأهل ومنزل في الأوّل ، وبيت وأهل ومنزل في الثاني ، فأيّ وقت دخل في أحد منزليه وأحد بيتيه صدق عرفا أنّه في بيته وفي منزله.

فيكون المراد من قوله عليه‌السلام : «يستوطنه» أنّه يستوطنه كلّ سنة ستّة أشهر ـ كما اختاره الصدوق والمصنّف وغيرهما (١) ـ لأنّ فعل المضارع يفيد الاستمرار التجددي.

ولعلّ مراد الصدوق رحمه‌الله ـ أيضا ـ هو ما ذكرناه ، لا أنّ الملكيّة شرط ، إذ لا يظهر ذلك من عبارته.

والحاصل ، أنّ الكلام في القواطع ، والأصل في المسافر القصر حتّى يثبت القاطع ، وهو ثلاثة ـ بالنصّ والإجماع ـ : الوطن ، وما هو بمنزلته شرعا من قصد الإقامة ، والتردّد ثلاثين يوما ، والوطن هو الوطن العرفي جزما ، لا ما هو بمنزلته شرعا ، ولذا لم يذكروا في الأخبار سوى لفظ الوطن والاستيطان ، من دون إظهار كونه بمنزلة الوطن ، كما فعلوا في الأخيرين.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٨ الحديث ١٣١٠ ، الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٢.


ومع أنّه لا يفهم منه سوى العرفي ، مع أنّك عرفت من القاعدة أنّه لا بدّ من الوطن العرفي حتّى يتحقّق خلاف السفر فيتمّ.

وفي صحيحة ابن بزيع ـ أيضا ـ قال عليه‌السلام : «إلّا أن يكون له منزل يستوطنه» (١) وسكت ، فلا شكّ في أنّه مراده أيضا هو العرفي ، وإلّا لزم الإغراء بالجهل وغيره ممّا هو قبيح على الحكيم.

ثمّ لمّا رأى ابن بزيع أنّ الوطن العرفي لا يكاد يتحقّق في الضيعة ـ لما ستعرف من أنّه مأخوذ في معناه اللزوم ، وهو متحقّق في وطن الشخص ، لا في ضيعته ـ سأل ما الاستيطان؟ فأجاب بـ «أن يكون فيها له منزل يقيم دائما ستّة أشهر» ، فالدوام وإن كان مأخوذا فيه ، لكن غير مأخوذ فيه وحدة الموضع ، بل يكفي كونهما اثنين ، فالدوام في موضعين يقتضي دوام ستة أشهر في موضع على التوالي أو التفرقة ، لأنّ الدوام في موضعين مع كون المتوطّن واحدا شخصيّا يقتضي عدم قابليّته أزيد من ستّة أشهر في موضع.

فإن قلت : يجوز أن يكون الموضع أزيد من اثنين ، أو يكون اثنين لكنّهما بعيدان بقدر لا يمكن الاستيطان في واحد منهما ستّة أشهر ، أو يكون بناء توطّنه على سبيل الدوام في موضع أزيد من الستّة ، وفي موضع أقلّ ، فعلى أيّ تقدير لا وجه لاعتبار خصوص الستّة في كلّ سنة.

قلت : قد عرفت أنّه لا بدّ من ثبوت القاطع ، والوطن لا يثبت بمجرّد الفرض والتجويز ، بل لا بدّ من المعروفيّة والمعهوديّة عن العرف ، والقدر الثابت هو ما ذكر ، لأنّه غالبا يتحقّق منزل شتاء ومنزل صيف في بلاد كثيرة والوطن فيهما ، وليس أحدهما أولى بالوطنيّة من الآخر ، والفروض الاخر ـ لو كانت ـ فليست بمتعارفة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.


شائعة ، وفي الغالب لم يعتبر غير الغالب ، لأنّ الإطلاقات الشرعيّة منصرفة إلى الغالب ، فلعلّ المقام أيضا كذلك.

مع أنّ فعليّة الكون في الوطن غير معتبر ، وإلّا لم يتحقّق وطن ، بل المعتبر كونه معدّا للتوطّن ، بأنّه متى شاء يستقرّ ويسكن فيه ، فالمناط هو التهيئة والاستعداد والقابليّة ، كما أشرنا.

سلّمنا تعارف الكلّ ، لكن الشارع ربّما لم يعتبر للقاطعيّة إلّا ما هو استيطان ستّة أشهر دائما لا أقلّ ، كما أنّه اعتبر في المسافة ثمانية وغير ذلك ، مع أنّ السفر معناه عرفي.

مع أنّ المتبادر من لفظ الوطن ليس إلّا الموضع الواحد ، أو الموضعين ـ أيضا ـ في بعض الأمكنة ، فتأمّل جدّا!

وأمّا ما رواه علي بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام عن الدار تكون للرجل [بمصر] أو الضيعة فيمرّ بها ، قال : «إن كان ممّا قد سكنه أتمّ فيه الصلاة ، وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر» (١) ، فظاهر أنّ السكون من حيث هو سكون لا عبرة به عند أحد من الفقهاء ، بل العبرة بالتوطّن ، فالمراد إن كان ممّا قد توطّنه ، ومعنى الوطن كونه المقرّ على الدوام ، فالمعنى جعله دار سكناه على الدوام ، وما فيه النزاع ـ وهو الاستيطان بقدر ستّة أشهر فقط ـ خلاف المتبادر من هذا الخبر ، فلا حجّة في هذا الخبر لهم ، ولا يعارض الأخبار الدالّة على الاستمرار التجدّدي.

وعلى تقدير شمول هذا الخبر لمحلّ النزاع ، فمعلوم أنّه من الأفراد النادرة ، لا ينصرف الإطلاق إليها ، سيّما وأن يعارض ويقاوم ما دلّ على الاستمرار المذكور.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٢ الحديث ٥١٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٠ الحديث ٨١٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٤.


على أنّه يمكن أن يكون المراد أن يكون ساكنا ، بقرينة أنّ الرواية عن علي بن يقطين ، فإنّه يروي مكرّرا بعنوان المضارع أو النفي المفيد للاستمرار.

مع أنّ المقام في هذا الحديث مقام إجمال ، لعدم معلوميّة (١) كونه بعنوان التوطّن ، وعدم مقدار السكون ولذا لم يتعرّض لمقدار السكون ، ولا كونه بعنوان التوطّن ، فلا يعارض المفصّل المتكرّر.

وهذا هو الجواب عن صحيحة الحلبي حيث قال : «إنّما هو المنزل الذي توطنه» (٢) ، مع احتمال كونه بصيغة المضارع من باب الإفعال أو التفعّل بحذف أحد التاءين ، بل غير خفي أنّ الماضي لا يناسب الحصر المذكور ، بل لا شكّ في أنّ الوطن الحالي وطن ، وكون الشرط أن لا يكون الآن وطنه ، بل لا بدّ أن يكون سابقا وطنه فاسد بالبديهة ، فكيف يجعله المعصوم عليه‌السلام شرطا في رواية علي بن يقطين ومنحصرا فيه في هذه الرواية؟

وهذان قرينتان قطعيّتان على عدم إرادة الماضي في الروايتين ، وأنّ المراد هو وجود التوطّن وفعليّته ، وأنّ عدم التوطّن مضرّ بأن لا يكون المنزل وطنه.

مع أنّ الظاهر أنّ «توطّن» لم يجي‌ء بمعنى اتّخذه وطنا ، لكونه لازما مطاوعا ، ويظهر ذلك من «القاموس» أيضا (٣) ، مع أنّه لا تأمّل في أنّ المقام ، مقام إظهار عدم الاكتفاء بالمنزليّة وأنّه لا بدّ من الوطنيّة ، لا أنّه لا بدّ من خصوص وطنيّته السابقة ، وإنّما هي المعتبرة ، وإن لم يكن الآن وطنا ، إذ لا تأمّل في أنّه ليس المراد ذلك ، على أنّه ليس في هذين الخبرين قيد «ستّة أشهر» أصلا ، والمراد أنّ الرواية المتضمّنة

__________________

(١) لم ترد في (د ٢) و (ز ٢ ، ٣) من قوله : لعدم معلوميّة. إلى قوله : مقدار السكون.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٣ الحديث ١١٢٦٣.

(٣) القاموس المحيط : ٤ / ٢٧٨.


لاستيطان ستة أشهر المتبادر منها الاستمرار ، فظهر أنّ هذين الخبرين لا يظهر منهما ما يخالف الأخبار الاخر ، ولذا حصر المحقّقون الخبر في فعل المضارع ، منهم خالي العلّامة المجلسي في «البحار» (١) ومنهم المصنّف (٢).

ثمّ اعلم! أنّه ألحق العلّامة رحمه‌الله في بعض كتبه ، وبعض من تأخّر عنه ، بالوطن المذكور الموضع الذي اتّخذه دار وطن ومقام على الدوام (٣).

ووجهه ظهر ممّا سبق ، بل عرفت أنّ العبرة بالتوطّن ، ولا دخل للملك أصلا ، فهذا داخل في الأخبار الدالّة على اعتبار التوطّن والاستيطان في المنزل الذي يتمّ فيه إذا دخله ، لا أنّه ملحق بالملك ، إذ عرفت عدم دلالة خبر من الأخبار على اعتبار الملك.

فإذا كان الموضع اتّخذ للوطن بأن يكون في كلّ سنة ستّة أشهر فيه فهو وطنه مطلقا عرفا على حسب ما ذكر ، وإن كان وطنه الأصلي الذي سافر منه إلى هذا لم يعرض عنه بعد لم يتأمّل أحد فيه ، وفي أنّه غير مسافر إذا كان فيه.

وأمّا هذا الوطن ، فقد ألحقه بعض الفقهاء بالوطن القاطع للسفر ، وأمّا باقي الفقهاء فما ألحقوا به أيضا ، وفي «الدروس» إلحاقه به (٤) ، وهو أقرب ، فإنّ هذا ممّا لا يتأمّل فيه وإن علّل الإلحاق بصدق عدم المسافريّة عرفا بالدخول فيه ، فهذا وطن ما دام متّخذا ، فلو أعرض عن التوطّن فيه لا يكون وطنه ، فإذا دخله يقصّر إلّا أن ينوي الإقامة ، كما هو الحال في المنزل الذي هو ملكه ، فإنّه لو أعرض عن التوطّن فيه لم يكن وطنه ، فيكون إذا دخله لم يكن في بيته ولم يكن حاضرا ، بل هو غائب

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٦.

(٢) الوافي : ٧ / ١٦٢ ذيل الحديث ٥٦٨٦.

(٣) نهاية الإحكام : ٢ / ١٧٨ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.

(٤) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١.


عن وطنه فهو مسافر ، والمسافر يقصّر بالأخبار المتواترة.

وينبّه على ذلك الأخبار الواردة في أنّ الأعراب والملّاحين يتمّون ، لأنّ بيوتهم معهم ، ولأنّ منازلهم معهم (١).

وكذا الأخبار في حدّ الترخّص من اعتبار البيت والبلد والأهل (٢) ، من دون إشارة إلى اعتبار ملكيّة بوجه من الوجوه.

وكذا ما ورد فيمن سافر بعد دخول الوقت ، وهو في منزله أو بيته أو بلده ، ولم يصلّ حتّى خرج أو دخل كذلك (٣) ، وكذا الأخبار الدالّة على علّة التقصير ، وغير ذلك ، فتأمّل!

قال في «الذكرى» : وهل يشترط استيطان ستّة أشهر؟ الأقرب ذلك ، لتحقّق الاستيطان الشرعي ، مضافا إلى العرفي (٤).

ونفي عنه في «المدارك» البعد ، معلّلا بأنّ الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبرا مع وجود الملك فمع عدمه أولى (٥) ، انتهى.

وفيهما نظر ظهر لك وجهه ، مع أنّه اختار في «المدارك» استيطان ستّة أشهر في كلّ سنة ، فعلى هذا يكون هذا المنزل وطنه عرفا مطلقا ، سواء كان نوبة توطّنه فيه أولا ، إذ الظاهر أنّه بحسب العرف يصدق على أيّ تقدير في كلّ مرتبة دخله أنّه في وطنه ، فراجع وتأمّل ، فلا يكون استيطان شرعي مغايرا للعرف.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٧ و ٤٣٨ الحديث ٥ و ٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٥ الحديث ٥٢٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٣ الحديث ٨٢٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٥ الحديث ١١٢٣٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤ ، ٤٧٣ الحديث ١١٢٠٢ و ١١٢٠٣.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٢ الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٤٥.


نعم ، إذا بني على كفاية استيطان ستّة أشهر واحد ـ كما هو المشهور عند المتأخّرين ـ يتحقّق استيطان شرعي مغاير للعرفي ، والعرفي إنّما يكون متوطّنا إذا لم يعرض عن توطّنه ، ويكون متوطّنا فيه بالفعل ، فإذا أعرض وتوطّن في غيره لا جرم يكون مسافرا ، إذا دخله يكون عليه القصر ، إلّا أن ينوي إقامة عشرة ، وهذا هو مراد المشهور.

وعلى هذا لا وجه لاشتراط استيطان ستّة أشهر في العرفي ، لأنّ العرفي دائر مع فعليّة الاستيطان ، لا أنّه مع الإعراض عن توطّنه صادق ـ أيضا ـ متوطّن فيه عرفا ، بل هو فاسد بالبديهة ، وحين فعليّة الاستيطان لا شكّ في كونه في وطنه كلّما دخله ، وإن اتّفق أنّه بدا له في استيطانه فيه قبل تماميّة ستّة أشهر ، بل في الشهر الأوّل أيضا ، بل وأقلّ منه ، إذا كان عزمه التوطّن فيه دائما ثمّ بدا له. فإذا صدق أنّه في منزله وأهله ووطنه عرفا لا جرم لا يجوز له أن يقصّر ، كما أنّه عند استيطانه فعلا في منزله الذي هو ملكه في ظرف ستّة أشهر يجب عليه كلّما دخله أن يتمّ الصلاة فيه ، لما ذكر من أنّه في وطنه ومنزله وأهله الآن.

وإن كان مراد الشهيد وصاحب «المدارك» أنّه إذا اتّخذ البلد دار مقامة على الدوام فحكمه حكم الوطن الشرعي ، حتّى في صورة الإعراض أيضا ، فمع أنّه لا شبهة في فساده ـ سيّما مع تعليلهما الإلحاق بأنّ المسافر بالوصول إليها يخرج عن كونه مسافرا عرفا ـ فاسد من جهة اخرى أيضا ، وهي أنّه على هذا لا يبقى لاشتراط الملكيّة وجه أصلا.

ثمّ اعلم! أنّ المشهور لا يشترطون التوالي في استيطان ستّة أشهر ، وهذا أيضا بعد آخر ، لأنّ المتبادر هو التوالي.

نعم ، لا يقدح الخروج إلى مواضع اخر حتّى إلى السفر ، لأنّه لا ينافي الاستيطان ، بل المنافي إنّما هو ترك الاستيطان.


وأيضا ، الصحاح تدلّ على اشتراط الاستيطان حال الإتمام ، وإنّه لا يكفي الاستيطان السابق ، وما ورد بصيغة الماضي قد ظهر حاله.

وأيضا ، الصحاح تدلّ على كفاية كون المنزل وطنا من دون اشتراط ملكيّته أصلا ، وتوهّم اشتراط الملكيّة عن رواية ابن بزيع فاسد ، لتصريح المعصوم عليه‌السلام بالقصر في الضيعة مطلقا مع كونها ملكا ، واستثنى من المطلق صورتين :

الاولى : قصد الإقامة ، ومعلوم أنّه علّة مستقلّة في الإتمام من دون توقّف على ملكيّة.

والثانية : الاستيطان ، وهو أيضا علّة مستقلّة ، لأنّ الوطن إذا كان متوطّنه فيه ، فهو غير مسافر ، لأنّ المسافر من سافر عن الوطن ، لا من دخل الوطن.

وأمّا اعتبار المنزل ، فهو لأن يكون القيام فيه استيطانا ، إذ ما لم يكن الإقامة في المنزل ودار السكنى لم يصدق عليه الاستيطان.

على أنّا نقول : أقصى ما يستفاد منها اشتراط المنزل ، وأين هذا من اشتراط الملك؟ إذ لو كان الشرط هو الملكيّة لقال المعصوم عليه‌السلام : لا بدّ أن يكون موضع استيطانه ملكه ، مع أنّ الراوي فرض كونه في ضيعته ، والضيعة هي الملك ، ومع ذلك لم يعتبره المعصوم عليه‌السلام في الإتمام مطلقا ، بل أمر بالقصر مطلقا ، ولم يستثن سوى الصورتين اللتين ذكرناهما.

وما دلّ على الإتمام في الضيعة والنخلة ، لا يدلّ على كونهما شرطا للإتمام بالبديهة ، فدعوى فهم الملك من المنزل فاسد ، وكذا خارج المنزل.

وتوهّم الإجماع على اشتراط الملك فاسد ـ كما ستعرف ـ مضافا إلى أنّه كيف يجوّز عاقل أنّ من لم يكن مسافرا يقصّر بغير خوف؟

وأيضا كثير منهم لا يشترطون السكنى في ملكه ، بل يكتفون بالاستيطان في البلد أو القرية ، وأمثالهما ممّا يكون ملكه فيه ، وهذا أيضا بعد آخر بالنظر إلى دلالة


الأخبار ، إذ ليست مستقيمة إذا كان المراد من المنزل هو الملك على ما فهموا.

ولا يكفي عندهم استيطان الوقوف العامّة كالمدارس ، وذهب جماعة إلى الاكتفاء بالوقف الخاصّ (١).

واشترط الشهيد ملك الرقبة ، فلا يجزي عنده الإجارة (٢) ، وقد ظهر لك أنّ الملك ليس بشرط.

واشترط جماعة في الستّة أن يكون مقيما فيها ومتمّا للصلاة فيها للإقامة (٣) ، فلا يكفي عندهم مطلق الإقامة ، كما لو أقام ثلاثين متردّدا ثمّ أتمّ ، ولا الإتمام بسبب كثرة السفر أو المعصية أو شرف البقعة ، نعم لا يضرّ مجامعتها لها.

وهذه الشروط من جهة أنّ الوارد في الأخبار استيطان ستّة أشهر ، ولا يصدق ذلك إلّا بأن يقصد التوطّن ويقيم فيه من جهة أنّه وطنه ، لكن عرفت أنّ الخروج منه لا ينافي استيطانه.

وبالجملة ، المعتبر ما يصدق عليه أنّه استيطان ستّة أشهر عرفا ، وعرفت أيضا وجه اعتبار الاستيطان ، فلا يكفي اتّفاق الإقامة في موضع ، ولو كانت سنين عديدة.

وكذا لا يكفي قصد الإقامة ولو كان قصد إقامة سنين كثيرة حتّى يتحقّق قصد الاستيطان ، فإنّ التوطّن أمر على حدة ، وقصد الإقامة أمر مغاير له.

وعرفت أيضا أنّه لا بدّ من أن يكون ستّة أشهر لأجل الصلاة والصوم فيما بعدها وفي غيرها ، لا في نفس هذه الستة أشهر.

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١١ ، روض الجنان : ٣٨٦ ، ذخيرة المعاد : ٤٠٨.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.

(٣) الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٢ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٧٣.


وعرفت أيضا وجه اعتبار هذا المقدار ، وأنّه ليس أمرا تعبّديا محضا ، وعلى فرض كونه كذلك يكون ستّة أشهر في كلّ سنة ، إلّا أن يبدو له في الاستيطان ، ويمنع مانع عنه ، لا كلّ سنة من مدّة عمره ، وقبل عروض المانع وحصول البداء لا بدّ أن يكون القصد دوام التوطّن ، إذ التوطّن على ما نقل عن الشهيد هو أن يجعل الموضع دار إقامته دائما على سبيل الوطنيّة (١).

ولعلّ مراده أنّ الوطن يزيد بالقيد المذكور عن المقام والتوطّن عن الإقامة ، ولا بدّ من الرجوع إلى اللغة والعرف ، فإن كان المتبادر من اللفظ الخالي عن القرينة هو الذي ذكره ، فالأمر كما ذكره.

وانظر هل يحسن أن يقال : اريد أن أتوطّن سنة أو سنتين ـ مثلا ـ ثمّ أخرج إلى موضع آخر؟ وإذا قيل : فلان يريد التوطّن في بلد كذا ، فهل يتبادر منه الدوام أم لا؟ والظاهر التبادر ، وعدم حسن السابق ، فراجع واستعلم.

فعلى هذا يكون المراد من استيطان ستّة أشهر الوارد في خصوص خبر ابن بزيع ، أنّه يكون قصده الدوام ، إلّا أنّه اتّفق البداء بعد ستّة أشهر ـ كما قاله المشهور ـ أو أنّ المراد اختيار كونه فيه في عرض السنة بعد مقدار ستّة أشهر دائما ، كما هو حال من له بيتان وأهلان في موضعين ، كما قلنا.

وممّا ذكر ظهر وجه آخر لإفادة الاستمرار وأنّه لا يكفي سنة واحدة ، كما قلنا ، وفي باقي الأخبار ـ مع كثرتها ـ لم يقيّد بستّة أشهر.

وفي خبر ابن بزيع إظهار لأقصى ما يتحقّق به التوطّن عرفا ، كما هو ظاهر ، وأنّه إذا تحقّق الإقامة فيه دائما ستّة أشهر يصدق عليه أنّه وطنه عرفا ، سواء كان فيه أم لم يكن ، فمتى دخله يتمّ ، لكونه في وطنه.

__________________

(١) نقل عنه في روض الجنان : ٣٨٦ ، لاحظ! ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٠٩.


وممّا يؤمي إلى ذلك أنّ المعصوم عليه‌السلام قال : «إلّا أن يكون فيها منزل يستوطنه» ، فلمّا سأله الراوي أنّ الاستيطان ما هو؟ أجابه عليه‌السلام : «أن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر» (١) فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها ، فظهر الإيماء من التأمّل التامّ في السؤال والجواب.

مع أنّ ما ذكرناه هو الموافق للأخبار المتواترة الدالّة على أنّ الحاضر يتمّ والمسافر يقصّر ، وما ورد في علّة القصر وعلّة إتمام الأعراب ، وغير ذلك ممّا ذكرنا لعدم اعتبار الملك.

ومع ذلك الأحوط مراعاة المشهور أيضا ، وإن كانت الشهرة عند المتأخّرين خاصّة.

قال الشيخ في «النهاية» : من خرج إلى ضيعة له ، وكان له فيها موضع ينزله ويستوطنه وجب عليه التمام ، فإن لم يكن فيها مسكن فإنّه يجب عليه التقصير (٢).

وهذا ينادي بأنّه رحمه‌الله فهم الأخبار كما فهمنا ، إذ لم يعتبر استيطان ستّة أشهر في سنة ، بل اعتبر الدوام والاستمرار والمنزليّة والمسكنيّة.

قال خالي العلّامة المجلسي رحمه‌الله : وقريب منه عبارة ابن البرّاج ، وقال أبو الصلاح : إن دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام ، والظاهر منه المنزل الذي يستوطنه ، وإن لم يكن ملكا له. ثمّ نقل قولا عن ابن البرّاج وقال : وهو ينفي القول المشهور مطلقا ، كما حكي عنه (٣) ، انتهى. وعبارة الصدوق قد عرفت.

ثمّ انظر إلى جميع العبارات في المقام ، فإنّها تنادي بأنّ نظرهم إلى المنزل الذي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٤ الحديث ١١٢٦٦.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٤.

(٣) بحار الأنوار : ٨٦ / ٣٥.


يكون في طريق سفره ، لا كلّ منزل ووطن يكون.

ثمّ نقول : لم يظهر من كثير من عبارات المتأخّرين أيضا اعتبار الملكيّة مثل «المنتهى» و «النافع» و «اللمعة» أصلا (١) ، فنسبة اعتبار الملكيّة إلى المشهور محلّ تأمّل ، مضافا إلى أنّ من ألحق الوطن العرفي الدائمي لا يشترط الملكيّة مطلقا وفي جميع الصور.

وكذا من اكتفى بملكيّة المنافع كالإجارة وغيرها ، فهو أيضا لا يشترط الملكيّة مطلقا.

هذا ، والظاهر من الكليني أنّه كان يقول بالتمام في الضيعة من دون اشتراط الاستيطان (٢).

ثمّ اعلم! أنّ المنزل والوطن لو لم يكن منزله ووطنه يقصّر فيه ، إلّا أن ينوي الإقامة وإن كان منزل أبيه أو أخيه وأمثالهما ، خلافا لابن الجنيد في منزل أبيه وابنه أو زوجته أو أخيه مع كونهم لا يزعجونه (٣).

ومستنده «الفقه الرضوي» إذ فيه : «وإن كنت مسافرا فدخلت منزل أخيك ، أتممت الصلاة والصوم ما دمت عنده ، لأنّ منزل أخيك مثل منزلك» (٤).

فإذا حكم بهذا في منزل الأخ ، ففي منزل الأب والابن والزوجة بطريق أولى.

وروى في «التهذيب» في الموثّق ، عن البقباق ، عن الصادق عليه‌السلام في المسافر ينزل على بعض أهله يوما [أو ليلة] أو ثلاثا ، قال : «ما احبّ أن يقصّر

__________________

(١) منتهى المطلب : ٦ / ٣٥٦ ، المختصر النافع : ٥١ ، اللمعة الدمشقيّة : ٣٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٧ الحديث ٣ و ٤٣٨ الحديث ٦.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١٤٤.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٠ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٤٨ الحديث ٧٤٨٥.


الصلاة» (١) ، والتقييد بعدم الإزعاج ظاهر.

والظاهر أنّ ما في «الفقه الرضوي» محمول على التقيّة ، لموافقته لمذهب جماعة من العامّة (٢) ، وكذلك الحال فيما روى عن البقباق ، وما في «التهذيب» من الخبر الدالّ على الإتمام والصيام في ضياع بني العمّ (٣) ، إذ عرفت أنّ عدم القصر في الضيعة مذهب العامّة ، مع عدم صحّة سنده واحتمال توجيه آخر.

مع أنّ البقباق روى عنه بسند آخر أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن المسافر ينزل على بعض أهله يوما وليلة؟ قال : «يقصّر الصلاة» (٤).

وهذا السند صحيح ، إذ ليس فيه سوى أبان وهو ثقة عند جماعة من المحقّقين (٥) ، وبسطنا الكلام في توثيقه في «التعليقة» (٦).

مع احتمال أن يكون المراد ممّا هو في الموثّق ما هو في الصحيح ، إذ الظاهر اتّحاد الروايتين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

فيكون المعنى : الذي أحبّه أن يقصّر الصلاة ، أو يكون أفعل تعجّب ، أو غير ذلك ، أو توهّم الراوي الآخر عن البقباق. وكيف كان ، لا يقاوم الحجج ، وإن سلّمنا كونه حجّة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٣ الحديث ٦٠٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٩.

(٢) لاحظ! المغني لابن قدامة : ٢ / ٦٦.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١١ الحديث ٥١١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٨.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٧ الحديث ٥٣٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٣١ الحديث ٨٢٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٠ الحديث ١١٣٠٧ ، ولا يخفى أنّ المراد من فضل بن عبد الملك في هذه الرواية هو البقباق ، لاحظ! تنقيح المقال : ٣ / ٢٣.

(٥) خلاصة الرجال للحلّي : ٢١ ، جامع الرواة : ١ / ٩.

(٦) تعليقات على منهج المقال : ١٥.


١٨ ـ مفتاح

[وجوب الإتمام على كثير السفر]

اشترط في وجوب الإتمام على كثير السفر أن لا يقيم في بلده عشرة أيّام ، فلو أقام عشرة ثمّ أنشأ سفرا قصّر.

وألحق بعضهم أن لا ينوي الإقامة عشرا في غير بلده أيضا (١) ، وبعضهم العشرة الحاصلة بعد التردّد في ثلاثين (٢) ، ثمّ لو أقام خمسة في بلده قيل : يقصّر نهارا صلاته دون صومه ويتمّ ليلا (٣) للخبر (٤) ، وعندي في هذا الاشتراط من أصله توقّف ، لضعف المستند ومتروكيّته ومعارضته للصحاح (٥) ، اللهمّ إلّا إذا ثبت عليه الإجماع.

__________________

(١) المختصر النافع : ٥١ ، قواعد الأحكام : ١ / ٥٠.

(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢ ، جامع المقاصد : ٢ / ٥١٣ ، روض الجنان : ٣٩١.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤١ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٤.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ ـ ٤٨٨ الباب ١١ من أبواب صلاة المسافر.



قوله : (يشترط في وجوب). إلى آخره.

مرّ في شرح قول المصنّف رحمه‌الله : ([لا يكون السفر عمله] إلّا إذا جدّ به السير) ما ذكرنا ممّا يشير إلى اعتبار الكثرة وقادحيّة إقامة العشرة (١) ، مثل صحيحة هشام (٢) ، ورواية السندي بن الربيع (٣) ، الدالّتين على أنّ المكاري والجمّال يتمان ويصومان إذا كانا يختلفان وليس لهما مقام لا مطلقا ، للتقييد بذلك ، ومفهوم القيد حجّة إذا كان للاحتراز ، ولا يخفى أنّ المتبادر كونه للاحتراز هنا ، وحجّية هذا المفهوم لا تأمّل فيه ، كما حقّقنا في محلّه.

مع أنّ الاحتراز معناه أنّه بهذا القيد كذلك ، وأنّ التقييد لإخراج ما ليس كذلك في هذا الحكم ، وهذا بعينه عبارة عن حجّية المفهوم.

وغير خفي أنّ المتبادر من لفظ المقام ـ في أمثال المقام ـ مقام عشرة ، كما هو بناء الفقهاء في كلّ موضع ، والمدار عليه في كلّ مقام.

ولهذا استشكل الكلّ في رواية حمزة بن عبد الله الجعفري ، وتوجّهوا إلى توجيهها (٤).

وما ذكرناه ـ من أنّ هذا الراوي لعلّه ما كان الظاهر عليه كون المقام في مكّة خصوص العشرة لكذا وكذا ـ إنّما هو توجيه لرفع الإشكال ، والتوجيه هو ارتكاب خلاف ظاهر لرفع الإشكال ، وإلّا لم يكن توجيها ولا إشكالا.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١٤٧ ـ ١٥١ من هذا الكتاب.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ الحديث ١١٢٣٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٧ الحديث ١١٢٤٢.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢١ الحديث ٥٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٩ الحديث ٨٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٩ الحديث ١١٣٠٦.


مع أنّ اشتراط عدم مقام العشرة في المقام مقطوع به في كلام الأصحاب ، وفهمهم معتبر ، لأنّ الشاهد يرى ما لا يراه الغائب وهم الخبيرون ـ «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» ـ إلّا أن يظهر أنّهم أخطئوا ، وظهوره ـ لو كان ـ ففي غاية الندرة ونهاية الصعوبة ، وبالجملة ، هو أيضا من المرجّحات.

ويظهر من رواية عبد الله (١) ورواية يونس أيضا ، أنّه مقام عشرة أيّام (٢).

وقس على صحيحة هشام ورواية السندي حال باقي ما أشرنا إليه هناك وتأمّل.

مع أنّ اشتراط عدم مقام خمسة أيّام في إتمام المكاري مثلا ـ لو كان المراد من المقام مقام خمسة أيّام على الاحتمال المذكور في ذلك التوجيه ـ ممّا لم يقل به أحد ، بل خلاف الإجماع وغيره. فتعيّن كون المراد مقام العشرة المعروفة المتبادرة المعهودة عند الشيعة.

وأيضا لو قلنا بأنّ المفهوم ليس مفهوم القيد ، فلا شكّ في كونه مفهوم الشرط على قياس قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٣) فإنّ المفهوم في قيد الفاسق ، هو مفهوم الشرط عند المحقّقين ، لأنّه من جملة ما دخل عليه أداة الشرط ، فعموم مفهوم الشرط يقتضي عدم حجّية خبر الفاسق ، كما هو مسلّم ولا تأمّل فيه عندهم. ومعلوم أن المقام مثله ، بل أولى منه كما لا يخفى.

وممّا ذكر ظهر ما في كلام المحقّق في «المعتبر» من أنّ ظاهر الروايات لزوم

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٦ الحديث ٥٣١ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٤ الحديث ٨٣٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٩٠ الحديث ١١٢٥٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٥.

(٣) الحجرات (٤٩) : ٦.


الإتمام للمكاري والجمّال ومن شاركهما في الحكم كيف كان (١) ، إلّا أنّ الشيخ رحمه‌الله يشترط أن لا يقيموا في بلدهم عشرة أيّام (٢) ، إذ الشرط غير مختصّ بالشيخ ، بل الأصحاب قاطعون به ، وكذا ليس خاليا عن الدليل ، بل الدليل عليه كثير.

وممّا ذكر ظهر ما في «المدارك» من أنّهم ـ يعني الأصحاب القاطعين بذلك ـ استدلّوا بما رواه الشيخ ، عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «المكاري إن لم يستقرّ في منزله إلّا خمسة أيّام وأقلّ قصّر في سفره بالنهار وأتمّ بالليل ، وعليه صوم شهر رمضان ، وإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيّام وأكثر قصّر في سفره وأفطر» (٣).

ثمّ طعن في السند ومتروكيّة الظاهر ، لعدم قول بأقلّ من الخمسة مطلقا ، وطعن أيضا في الدلالة ، بعدم الصراحة في كون المراد من البلد الذي يذهب إليه هو المنزل.

ثمّ قال : ولكن الصدوق رحمه‌الله روى هذه الرواية بطريق صحيح ومتنها مغاير ، فإنّه قال : «المكاري إن لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيّام أو أقلّ قصّر في سفره بالنهار ، وأتمّ صلاة الليل ، وعليه صوم شهر رمضان ، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيّام أو أكثر ، وينصرف إلى منزله ، ويكون له مقام عشرة أيّام أو أكثر ، قصّر في السفر وأفطر» (٤).

ومقتضى هذه الرواية اعتبار إقامة العشرة في المنزل والمكان الذي يذهب

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ٤٧٣.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١٦ الحديث ٥٣١ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٤ الحديث ٨٣٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٩ مع اختلاف يسير.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨١ الحديث ١٢٧٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٩ الحديث ١١٢٤٩ مع اختلاف يسير.


إليه ، ولا أعلم بذلك قائلا ، ومع ذلك اشتمالها على ما لا يقول به الأصحاب باق على حاله. والمسألة محلّ إشكال ، إلّا أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ إقامة العشرة في البلد قاطعة لكثرة السفر (١) ، انتهى.

لأنّ الأصحاب إذا اتّفقوا على الاشتراط ـ على ما اعترف مرارا ـ لا يلزم أن يكونوا متّفقين على الاستدلال بوجه فاسد ظاهر الفساد ، بل لا يرضى نسبة ذلك إلى واحد منهم فكيف إلى جميعهم؟ مع أنّ دأبهم ليس الاستدلال ، بل مجرّد الفتوى ، وهذا ظاهر مقطوع به منهم بملاحظة كتبهم.

نعم ، قليل منهم يتعرّض للاستدلال ، ومع ذلك لا يلتزم أن يأتي بما هو مستند الأصحاب بعينه ، بل كثيرا ما يأتي الدليل من قبل نفسه ، وهذا مقطوع به ، بل وصرّح بذلك.

وعرفت أنّ المستند غير منحصر في خصوص ما ذكره من الرواية ، سيّما بعد ما ستعرف من رواية يونس.

وعلى تقدير التسليم ، الضعف منجبر بالشهرة ، فكيف إذا كان متّفقا عليه؟ وحقّق في محلّه صحّة الانجبار بالشهرة ، وهو من المسلّمات عند الفقهاء.

مع أنّ طعنه ليس إلّا من جهة إسماعيل بن مرار بأنّه مجهول. وقد حقّقنا في محلّه عدم قدح فيه ، لأنّ القمّيين استثنوا من روايات يونس ما رواه محمّد بن عيسى عنه خاصّة (٢) مع أنّه ثقة على المشهور والظاهر.

مع أنّ إسماعيل هذا ، وصالح بن السندي دائما يرويان عن يونس ، وكانا من تلامذته ، والقمّيون ما استثنوا رواياتهما عنه ، بل يروون رواياتهما عنه ، ويفتون

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٢.

(٢) انظر! تعليقة على منهج المقال : ٣١٣.


بها ، ويعملون من دون تأمّل.

وهذا ينادي بكونهما أوثق من ابن عيسى عندهم على وجه اتّفقوا ، ووافقنا على ما ذكرنا جماعة من المحقّقين.

وأمّا الاشتمال على ما لا يقول به الأصحاب ، فهو غير مضرّ بالنسبة إلى باقي الحديث ، كما حقّق.

مع أنّه يمكن أن يقال : المراد من الأقلّ ليس الأقلّ من خمسة ، بل من العشرة ، يعني الخمسة وما فوقها ممّا هو أقلّ من العشرة ، بقرينة جعل ذلك في مقابل العشرة وما فوقها ، والخمسة فما دونها لا يصير في مقابل العشرة ممّا فوقها ، بل الخمسة فما دون العشرة تصير في مقابل ذلك.

وذكر أقلّ من العشرة (١) ، لإظهار أنّ الستّة والسبعة والثمانية والتسعة حالها حال الخمسة من دون تفاوت ، سيّما مع حزازة جعل الأقلّ ، أقلّ من خمسة من وجوه ، إذ من جملة أقلّها ما لا يكون استقرارا ، فكيف يدخل في الاستقرار؟

وأيضا لا حدّ ولا ضبط فيه ، فكيف يناسب مقام تعيين الحكم الواجبي الغريب لمخالفته لحكم المكاري على ما كان المعروف عند المسلمين والشيعة.

وأيضا أقلّ من الخمسة مخالف لإجماع الشيعة والمسلمين ، فضلا عن أن لا يكون له حدّ ، ومجرّد الإجماع يكفي لحمل الحديث وبناء معناه ، ألا ترى أنّ جلّ المستحبّات بلفظ الأمر وأمثاله ، وهكذا الحال في أكثر أحكامنا المستنبطة من الأحاديث ، فإنّه بمعونة الإجماع.

فإذا كان الإجماع يكفي ، فكيف إذا انضمّ إليه قرينة المقابلة وغيرها ممّا ذكر؟ فإنّ المقابلة كثيرا ما تصير قرينة ، فكيف إذا انضمّ إلى أمر آخر؟ فتأمّل فيما ذكرنا

__________________

(١) في (د ٢) و (ز ٣) : من العشرة بعد الخمسة.


من القرائن ، وتدبّر حتّى يظهر لك أنّ الأمر على ما ذكرنا.

ولا معنى لجعل الأقلّ ، أقلّ من الخمسة على أيّ حال ، لما عرفت من إباء نفس الحديث إيّاه ، فضلا عن الامور الخارجة.

وأمّا ما ذكره من عدم الصراحة فيشعر بقبول ظهور ، ولعلّه من جهة المقابلة ، فإنّه قال عليه‌السلام : «إن لم يستقرّ في منزله إلّا خمسة» فالمقابل لا بدّ أن يكون المنزل والظهور يكفي.

مع أنّ الاتّفاق على أنّ الاستقرار في المنزل عشرة يكفي أيضا قرينة ، لما عرفت ، وإن كان الظاهر سقوط القدر الذي في رواية الصدوق مذكور.

وعلى أيّ حال ، يكفي للاستدلال ، إذ في صدر الرواية اشترط للقصر نهارا لا ليلا ، الاستقرار في منزله خمسة أيّام. ومفهوم ذلك أنّه لو لا هذا لم يكن هذا الحكم ، فإذا كان في منزله عشرة ، لم يكن الحكم المذكور البتة ، فإمّا الإتمام مطلقا ، أو القصر كذلك ، لا وجه للأوّل ، لأنّ استقرار الخمس لو صار منشأ للقصر نهارا ، فاستقرار العشر بطريق أولى ، فحيث ظهر أنّ حكم استقرار العشرة مخالف لحكم الخمسة ، تعيّن كونه القصر مطلقا ، لعدم القول بالفصل ، ولعدم قائل بأنّ الحكم أمر آخر.

مع أنّ أخبارهم عليهم‌السلام يكشف بعضها عن بعض ، وقد عرفت صحيحة هشام وغيرها ، فتأمّل جدّا!

وممّا ذكرنا ظهر أنّ كلمة الواو في رواية الصدوق رحمه‌الله بمعنى (أو) ، إذ لا وجه لجعل ذلك في مقابل استقرار الخمس في المنزل ، واشتراط ذلك في القصر نهارا وأنّه يكفي للقصر نهارا ، فمفهومه أنّ استقرار العشر ليس حكمه كذلك ، بل حكمه غير ذلك ، فلم يبق إلّا القصر مطلقا ، لما عرفت.


مع أنّه لا وجه للاقتصار في المفهوم على خصوص ما ذكر ، لو كان المراد انضمام كلّ واحدة من العشرتين مع الاخرى بالنحو الذي ذكر ، وهو أنّه يقيم في البلد الذي يذهب إليه عشرا ، ثمّ بعد ما ينصرف إلى منزله يقيم عشرا فيه أو أكثر ، من دون تعرّض لذكر حاله قبل الخروج وعدم اعتباره أصلا ، مع أنّه عليه‌السلام في صدد بيان أحكام صلاة المكاري والتفصيل فيه.

مع أنّك ستعرف أنّ الظاهر اتّحاد هذه الرواية مع المرسلة ، مع أنّ اتّفاقهم ـ الذي اعترف به مكرّرا ـ يكشف عن الاتّفاق على عدم اشتراط انضمام استقرار العشرة في المنزل باستقرار العشرة فيما ذهب إليه ، فعدم القائل أصلا بالاشتراط يكفي ، مع أنّه لا قائل بالفصل ، وهو رحمه‌الله يعتبر ذلك في الاستدلال بالأحاديث ، ومداره على ذلك ، فتأمّل جدّا!

على أنّا نقول : روى الشيخ ، عن محمّد بن أحمد ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن بعض رجاله ، عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن حدّ المكاري الذي يصوم ويتمّ ، قال : «أيّما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقلّ من عشرة أيّام وجب عليه التمام والصيام أبدا ، وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيّام فعليه التقصير والإفطار» (١).

وهذه الرواية مستندهم ، لأنّهم يكتفون بالعشرة في المنزل ، أو العشرة المنويّة في غير بلده ، صرّح بذلك المحقّق في «النافع» والعلّامة (٢) ، وكلّ من تأخّر

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٤ / ٢١٩ الحديث ٦٣٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٤ الحديث ٨٣٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٥ مع اختلاف يسير.

(٢) المختصر النافع : ٥١ ، قواعد الأحكام : ١ / ٥٠.


عنه (١) ، والشيخ أيضا (٢) ، وغيره ممّن تقدّم (٣) ، وقال [ـ وا] بكفاية احدى العشرتين.

بل غير خفي على المنصف المتأمّل أنّ هذه الرواية متّحدة مع الروايتين المتقدّمتين ، وإنّما وقع الاختلاف من الرواة من جهة النقل بالمعنى وبحسب ما اقتضاه مقام روايتهم.

بل سند الرواية الاولى هكذا : سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، والثانية ، رواها الصدوق ، عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام (٤) ، والثالثة ، قد عرفت (٥) ، والحكاية واحدة.

فظهر أنّ بعض رجاله هو عبد الله بن سنان ، فاستقام ـ على هذه ـ الروايتان الأوّلتان.

وظهر أنّ كلمة الواو في الرواية الثانية بمعنى (أو) ، بل كانت (أو) نقلت بالمعنى بلفظ الواو ، ولأنّ المقام ما كان يقتضي إظهار كفاية احدى العشرتين ، كما أنّ في الثالثة ما كان المقام يقتضي ذكر إقامة الخمسة مطلقا.

وصرّح بعض المحقّقين باتّحاد الروايات الثلاث ، وبالغ في ذلك (٦).

ويعضده أيضا ما ذكرناه من موانع عدم كون الواو بمعنى (أو) ، ومقتضيات

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٦ ، الروضة البهيّة : ١ / ٣٧٣ ، جامع المقاصد : ٢ / ٥١٣.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢.

(٣) المهذّب : ١٠٦ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٠٨ ، المهذّب البارع : ١ / ٤٨٦ ، الحدائق الناضرة : ١١ / ٣٩٥.

(٤) راجع! الصفحة : ٣٠٣ من هذا الكتاب.

(٥) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٦) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٣ / ٥٧٢.


كونها بمعناها. مع أنّ الكلّ عن يونس بن عبد الرحمن ، وباقي السند أيضا متّحد إلّا قليلا ، وعبد الله بن سنان من مشايخه ورجاله.

والحكاية مع كونها واحدة في الكلّ منحصرة فيها. إلى غير ذلك من مقرّبات الاتّحاد ، ومنها أنّها لو لم تكن متّحدة ، فكيف كانت تقتصر في كلّ واحدة منها على ذكر نفسها؟ مع أنّه سمع الصورتين الاخريين ، مع مخالفتهما لها ، بل الارتباط في الجملة داع إلى الذكر ، فضلا عن مثل هذا.

مع أنّك عرفت أنّ السند واحد إلّا واحدا فكيف يجوّز العقل صدور هذا الأمر العجيب الغريب بل القبيح الفضيح عن كلّ واحد واحد؟ سيّما مع وثاقته وعدالته واعتباره وجلالته ، مع أنّ كلّهم كذلك حتّى إسماعيل بن مرار ، كما عرفت.

فظهر أنّ مستندهم لا غبار عليه تامّ من وجوه متعدّدة ، صحيح على قانون الفقهاء ، وظهر أيضا أنّ معظمهم على عدم الفرق بين العشرة في المنزل ، والعشرة المنويّة في غيره.

وظهر أيضا ممّا ذكرنا ضعف ما قوّاه بعض المتأخّرين من العمل بمقتضى ما يظهر عنده من الصحيحة من جهة صحّة السند ، وعدم العمل بالروايتين (١) ، لما ذكرناه في الرواية الاولى وأجبنا عنه ، ولضعف الأخيرة بالإرسال ، وكون إسماعيل بن مرار مجهولا ، وقد عرفت أنّه ليس بمجهول ، وأمّا الإرسال ، فمن يونس بن عبد الرحمن ، وهو ممّن أجمعت العصابة (٢) ، مع ما عرفت من ظهور كون بعض رجاله عبد الله. مع أنّ الانجبار بموافقة المشهور لو لم نقل بالإجماع يكفي ، بل ظهر أنّها مستندهم ، بل ظهر اتّحاد الثلاث ، فظهر صحّتها سندا أيضا ، إلى غير ذلك من

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٤١٠.

(٢) رجال الكشّي : ٢ / ٨٣٠ الرقم ١٠٥٠.


أسباب ضعفه ، وقوّة فتوى المشهور ، بل تعيّنها.

وأمّا كون المراد من العشرة في غير المنزل العشرة المنويّة ، فللإجماع المنقول على عدم تأثير غير المنويّة ، نقله خالي العلّامة (١) ، وربّما يظهر ذلك ويظنّ به من اتّفاق فتاواهم ، فليلاحظ.

مع أنّه ظهر ـ ممّا تقدّم ـ أنّ العشرة إذا صارت منويّة تصير بمنزلة الحضور وعدم السفر ، وإن لم تكن منويّة لا تصير كذلك ، إلّا بعد مضيّ ثلاثين.

وربّما يظهر ـ ممّا ذكرنا ـ أنّ اعتبار هذه الإقامة للإخراج عن كثير السفر ، والعشرة غير المنويّة أيضا ، فتأمّل جدّا!

والشهيد ألحق العشرة الحاصلة بعد التردّد ثلاثين يوما بها (٢) ، ولعلّه لعموم المنزلة التي ظهرت لك ، إذ بعد الثلاثين المتردّد تصير بمنزلة الوطن ، فإذا أقام في الوطن عشرة صارت إقامته موجبة للقصر ، فكذا هنا ، ومقتضى عموم المنزلة عدم اعتبار قصد الإقامة في هذه العشرة ، ولذا أفتى كذلك.

وألحق بعض الأصحاب بإقامة العشرة إقامة ثلاثين يوما متردّدا (٣) ، ولعلّه لكونه حينئذ حضريّا وبمنزلته ، لعموم المنزلة الذي عرفت.

وفيه ، أنّ هذا لا يوجب انقطاع كثرة السفر ، إذ أقصى ما يقتضي أن يكون بمنزلة من هو في وطنه كما عرفت ، وبمجرّد الكون في الوطن لا ينقطع الكثرة حتّى يتمّ عشرة ، كما هو مقتضى الروايات ، بل ستعرف أن الخمسة لا تكفي للقصر في خصوص النهار ، فضلا أن تكون ملحقة بالعشرة ، فما ظنّك بما نقص عن الخمسة؟

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٦ / ٢٥.

(٢) الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٢.

(٣) جامع المقاصد : ٢ / ٥١٣.


فإن قلت : مرسلة يونس هكذا : «وإن كان مقامه في منزله ، أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيّام ، فعليه التقصير والإفطار» (١) ، فالشرط فيه كون المقام أكثر من عشرة ، وأنّه لا يكفي العشرة ، وفتوى الفقهاء كفايتها ، وعدم اشتراط أزيد منها.

قلت : ذكر ذلك في مقابل قوله عليه‌السلام : «أيّما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقلّ من عشرة» ، ومعلوم أنّ مفهومه مقابل له وهو العشرة فما زاد ، فالمراد ذلك بقرينة المقابلة.

وإنّما عبّر كذلك من جهة أنّ إقامة العشرة ، بحيث لا يزيد عنها أصلا ولا ينقص عنها مطلقا من الفروض النادرة ، وفي مقام الإطلاقات ربّما لا ينظر إليها ، كما في مسألة البعيد عن صلاة الجمعة بفرسخين ، وسيجي‌ء في مسألة أقلّ الدرهم من الدم ، وغير ذلك.

هذا ، مع أنّك عرفت أنّ الروايات الثلاث كلّها واحدة ، فالروايتان المسندتان تكشفان عن كون المراد من المرسلة ما ذا؟

مع أنّك عرفت أنّ عدم القول بالفصل والإجماع البسيط يصيران قرينة لفهم الحديث.

ثمّ اعلم! أنّه متى وجب القصر على كثير السفر بسبب إقامة العشرة ، ثمّ سافر مرّة ثانية بدون الإقامة ، فالأظهر وجوب الإتمام عليه ، لعمومات الأخبار ، كما نقل عن ابن إدريس وغيره (٢).

واعتبر الشهيد في العود إلى الإتمام هنا المرّة الثالثة ، لأنّ الاسم قد زال

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الحديث ١١٢٤٥ مع اختلاف يسير.

(٢) السرائر : ١ / ٣٣٨ و ٣٣٩ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٣.


بالإقامة فيكون كالمبتدأ (١).

أقول : قد عرفت الكلام في المبتدأ ، وأنّ اعتبار الثلاث ليس من جهة ما ذكره ـ فلاحظ وتأمّل ـ ومع ذلك زوال الاسم بمجرّد الإقامة محلّ نظر.

ومع ذلك لو تمّ ما ذكره ، لزم عدم تحقّق إتمام الصلاة والصيام في المكاري وموافقيه إلّا نادرا غاية الندرة ، لو لم نقل بالعدم مطلقا.

وحمل الأخبار الكثيرة الواضحة سندا ودلالة ، المفتى بها عند المتقدّمين والمتأخّرين على الفروض النادرة ممّا يأبى عنه الفقيه ، بل كثيرا ما يقيم المكاري ومشاركوه عشرة ، وفي القليل يصيرون بحيث لا يقيمون.

ومن هذا يحصل استبعاد ما بالنسبة إلى ما يظهر من الأخبار والفتاوى ، ولذا استبعد خالي العلّامة المجلسي (٢) ، والسيّد السند الاستاذ رحمهما‌الله تحقّق المكاري وموافقيه الذين لا يقيمون عشرة ، ومن هذا استشكلا ، وأمر خالي بالاحتياط.

ولعلّ الاستاذ رحمه‌الله أيضا كان يرى الاحتياط فيه ، إلّا أنّ الإجماع المنقول ، واتّفاق الفتاوى والروايات يعيّنون في رفع الاستبعاد.

واحتمال أنّ في ذلك الزمان من جهة زيادة الأمنيّة والأمان ، ربّما يصير المكاري وأمثاله بحيث لا يصبرون إلى العشرة في الغالب ، للحرص العادي في تحصيل المال وجمعه وتزييده ، أو غير الحرص من دواعي تحصيل المال ، ولأنّ مئونة الدوابّ ضرر عليهم ـ لو جلسوا ـ وتثقل عليهم ، ولذا نراهم في حال الأمنيّة ما يصبرون إلى العشرة البتّة ، وإن صبروا يكون دوابّهم في الاختلاف مع أجير أو شريك ، والله يعلم.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣١٦ و ٣١٧.

(٢) بحار الأنوار : ٨٦ / ٢٤ و ٢٥.


ثمّ اعلم! أنّ الوارد في هذه الروايات هو المكاري ، وظاهر الأصحاب عدم الفرق. ولعلّه لعدم القول بالفصل ، كما يظهر من فتاواهم.

قال في «المعتبر» ـ بعد أن أورد رواية ابن سنان ـ : وهذه تتضمّن المكاري ، فلقائل أن يخصّ هذا الحكم به دون غيره ممّن يلزمه الإتمام في السفر ، إلّا أنّ الشيخ قيّد الباقين بهذه الشرطيّة ، وهو قريب من الصواب (١) ، انتهى.

وظاهره أنّ المنشأ ليس عدم القول بالفصل وتحقّق الإجماع.

بل في «الشرائع» قال : وقيل : يختصّ ذلك بالمكاري ، فيدخل في جملته الأجير والجمال ، والأوّل أظهر (٢) ، انتهى.

فوجه الأظهريّة اتّحاد حكم كلّ من اتّخذ السفر عمله في مثل هذا الحكم ، لأنّ الوارد في النصّ أو منشأ وجوب الإتمام على المكاري ـ مثلا ـ ليس إلّا كون السفر عملهم.

وفي هذه الروايات قالوا عليهم‌السلام : المقام عشرة أيّام يوجب القصر على المكاري (٣) ، فظهر أنّ المراد من التعليل بكون السفر عمله ، أنّه لا يتحقّق المقام عشرة أيّام.

وورد منهم عليهم‌السلام : أنّ المقيم عشرة أيّام بمنزلة الحاضر في وطنه (٤) ، والحاضر في مقابل المسافر ، فكلّ مقيم عشرة أيّام لا يكون فيه العلّة المنصوصة التي هي المنشأ للحكم بوجوب الإتمام.

والمدار في الحكم إنّما هو على العلّة المنصوصة ، والبناء صار عليها في وجوب

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ٤٧٣ مع اختلاف يسير.

(٢) شرائع الإسلام : ١ / ١٣٤ مع اختلاف يسير.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٨ الباب ١٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠١ الحديث ١١٢٨٤.


الإتمام ، كما عرفت سابقا في شرح قول المصنّف : (إذا جدّ به السير) ، وغيره.

فظهر أنّ الإتمام في الجميع مشروط بالشرط المذكور.

وممّا ذكر ظهر حال إقامة الخمسة ، فإنّ الشيخ رحمه‌الله وأتباعه قالوا بأنّ المكاري ومشاركيه في الحكم إذا أقاموا خمسة يقصّرون نهارا ويتمّون ليلا (١).

وأنكره ابن إدريس وأكثر المتأخّرين من أنّ العمومات تقتضي أنّهم يتمّون ، وقصرها على من لا يقيم خمسة ـ أيضا ـ بعيد ، لأنّه نادر (٢).

وأمّا رواية ابن سنان التي هي مستند الشيخ ، فمتضمّنة لإقامة أقلّ من خمسة أيضا ، وهم لا يقولون به.

ومع ذلك الصحيح من تلك الروايات يتضمّن ما لا يقول به أحد من جهة اخرى أيضا ، والضعيفة منها ضعيفة ، ومع ذلك لا يخلو عن حزازة اخرى ـ وقد ذكر الكلّ ، والجواب عنه مع بسط ـ إلّا أنّ الإشكال متحقّق في أنّ مثل هذه الرواية ـ مع ما فيها من القيل والقال ، وارتكاب التوجيهات لدفع الحزازات ـ هل يكفي للخروج عن القاعدة الثابتة من الصحيحة وغيرها المجمع عليها؟ وهي أنّه إذا قصّر المكلّف أفطر وبالعكس.

مضافا إلى العمومات الدالّة على أنّ هؤلاء يتمّون ، مع صحّتها وكثرتها وشهرتها ، وكونها متلقّاه بالقبول عند جميع الفقهاء ، واستبعاد قصرها فيمن لا يقيم خمسة أيضا ، مضافا إلى أنّهم قبل أن يصير إقامتهم خمسة كان اللازم عليهم الإتمام ، فكذا بعده استصحابا للحالة السابقة ، ولا ينقض اليقين إلّا بيقين ، مع عدم الانجبار باتّفاق الفتاوى عليها ، ولا شهرة عظيمة بل ولا شهرة أصلا.

والأظهر عدم المقاومة ، والاحتياط فيه واضح ، والله يعلم.

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٤١ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٢ و ١٢٣ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١٠٨ ، المهذّب : ١ / ١٠٦.

(٢) السرائر : ١ / ٣٤١ ، شرائع الإسلام : ١ / ١٣٤ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١٠٨ ، إيضاح الفوائد : ١ / ١٦٤.


والمعتبر في الخمسة هو الإقامة في خصوص المنزل لا بلد آخر ، فلا يعتبر فيها القصد والنيّة.

ونقل عن ابن الجنيد أنّه اكتفى لانقطاع كثرة السفر بإقامة الخمسة المنويّة في غير بلده (١) ، وفي بلده بإقامة الخمسة مطلقا سواء كانت منويّة أو لا ، كما قال باقي الأصحاب في إقامة العشرة.

فجعل ابن الجنيد إقامة الخمسة هنا أيضا مقام إقامة العشرة ، بناء على أصله من أنّ المسافر إذا أقام الخمسة في غير بلده مع قصدها يخرج عن حكم المسافر ، ويدخل في حكم الحاضر ، كما قاله باقي الأصحاب في إقامة العشرة.

وفيه ، أنّ مستند انقطاع كثرة السفر هو الروايات الثلاث المذكورة ، وهي تتضمّن العشرة ، بل يحكم بنفي اعتبار أقلّ من العشرة للانقطاع مطلقا.

نعم ، في روايتي ابن سنان اعتبر إقامة الخمسة للقصر في خصوص النهار في خصوص الوطن من دون اعتبار القصد فيها (٢) ، كما قاله الشيخ (٣) ، ونسبه [الشيخ] مفلح إلى ابن البرّاج أيضا (٤) ، إلّا أن يكون نظر ابن الجنيد إلى ما ذكرناه من أنّ مقتضى الروايات أنّ كثير السفر إنّما يتمّ إذا لم تنقطع كثرته ولم تزل بسبب عروض الإقامة المقتضية للدخول في حدّ الحضور وحكمه ومنزلته ، كما يظهر من صحيحة هشام ورواية سندي وغيرهما (٥) ، ولمّا كان تلك الإقامة عنده هي إقامة الخمسة ـ كما مرّ سابقا ـ اعتبر في المقام إقامة الخمسة خاصّة.

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٣.

(٢) راجع! الصفحة : ٣٠٣ من هذا الكتاب.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤١.

(٤) نقل عنه في غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٧ ، لاحظ! المهذب لابن البرّاج : ١ / ١٠٦.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٨٤ الحديث ١١٢٣٣ ، ٤٨٧ الحديث ١١٢٤٢.


ومن هذا ظهر ظهورا تامّا أنّ مستند هذا الحكم ليس منحصرا في هذه الروايات الثلاث ، كما ذكرنا سابقا.

بل يظهر أنّ في مثل زمان ابن الجنيد ، كان غير هذه الروايات من المستندات الاخر أعرف وأشهر. ولهذا تمسّك بها ابن الجنيد ، وأعرض عن هذه الروايات بالمرّة ، ولم يعتن بها أصلا ، كما أنّ الكليني رحمه‌الله أيضا أعرض عنها ، ولم يشر إليها بالمرّة.

ولم يقدح ذلك فيما ادّعاه صاحب «المدارك» وغيره من اتّفاق الأصحاب على الحكم المذكور (١) ، ولم يقدحه أيضا ما نقل عن ابن الجنيد ، إذ عرفت أنّه مبني على أصله من أنّ القاطع وما يجعل في حكم الحاضر شرعا هو الخمسة لا غير.

وصرّح [الشيخ] مفلح بأنّ ما قاله ابن الجنيد هنا مبني على أصله ، فجعل الخمسة في غير بلده ما يكون مع النيّة (٢) ، والخمسة في بلده أعمّ من أن يكون مع النيّة أولا.

فظهر أنّ الانقطاع بالقاطع لا تأمّل لأحد منهم ، إنّما نزاعهم في خصوص القاطع ، وأنّه ما هو؟ ولمّا كان المشهور والظاهر من الأخبار هو العشرة لا الخمسة ، نسب المشهور ذلك إلى العشرة ، ولمّا كان الظاهر عند ابن الجنيد هو الخمسة ، نسبه إلى الخمسة.

فظهر اعتضاد هذه الروايات بغيرها من الروايات المتضمّنة لكون قصد إقامة العشرة موجبا للإتمام وجاعلا المسافر بمنزلة الحاضر ، وهي من الكثرة والصحّة والاعتبار ـ سيّما بفتاوى الأخيار ـ بمكان.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٢ ، منتهى المطلب : ٦ / ٣٧٧.

(٢) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ٢٢٧.


١٩ ـ مفتاح

[اعتبار التواري عن الجدران وعدمه]

في اعتبار التواري عن الجدران أو خفاء الأذان في حالة العود من السفر خلاف ، والأصحّ عدم الاعتبار ، للمعتبرة (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٤ الحديث ١١٢٠٥.



قوله : (في اعتبار التواري). إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب أنّ الإياب مثل الذهاب يعتبر فيه حدّ الترخّص للقصر ، فيقصّر إلى أن يبلغ سماع الأذان ورؤية الجدران ، لقوله عليه‌السلام ـ في صحيحة ابن سنان التي أوردناها لحدّ الترخّص في الذهاب والإياب ـ : «وإذا قدمت من سفرك مثل ذلك» (١).

فإذا كانت مستند القوم في الذهاب ـ حتّى المنكرين لما ذهب إليه المشهور ـ وجعلت حجّة له ، فلا وجه للتفكيك ، وعدم جعلها حجّة للإياب ، مضافا إلى ما عرفت من أنّ الظاهر أنّ اعتبار هذا الحدّ لتحقّق الغيبة عن الوطن وعدم الحضور فيه الموجب للإتمام.

وهذه الصحيحة وإن وردت في سماع الأذان ، إلّا أنّك عرفت أنّه لا فرق بينه وبين خفاء الجدران ، وأنّ كليهما أمارتان لمقدار واحد ومسافة واحدة.

مع أنّك عرفت أنّه لا إشكال علينا ، لتمكّننا من سماع الأذان ولو لم نتمكّن نقدّر ، كما إذا لم نتمكّن من رؤية الجدران أيضا ، وما قاله في «الشرائع» من قوله : وكذا في عوده يقصّر حتّى يبلغ سماع الأذان من مصره (٢) ، ليس مراده أنّ رؤية الجدران ليست معتبرة في الإياب ، كما بيّناه في الحاشية على «المدارك» (٣).

ونقل عن المرتضى ، وابن الجنيد أنّهما يقولان : المسافر يقصّر في العود حتّى يبلغ منزله (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٢ الحديث ١١١٩٦.

(٢) شرائع الإسلام : ١ / ١٣٤.

(٣) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ٣ / ٤١٣.

(٤) نقل عنهما في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٨.


وربّما كان مستندهما صحيحة العيص بن القاسم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا يزال المسافر مقصّرا حتّى يدخل أهله» (١).

وموثّقة إسحاق بن عمّار ، عن الكاظم عليه‌السلام : أنّه سأله عن الرجل يكون مسافرا ثمّ يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتمّ الصلاة أم يكون مقصّرا حتّى يدخل أهله؟ قال : «بل يكون مقصّرا حتّى يدخل بيته» (٢).

وأجاب عنهما في «المختلف» بأنّ المراد الوصول إلى موضع يسمع الأذان أو يرى الجدران ، فإنّ من دخل هذا الحدّ خرج عن حكم المسافر (٣).

وفيه إشارة إلى ما ذكرنا ، من أنّ من لم يتوار عن وطنه يكون حاضرا فيه غير غائب عنه.

ويؤيّده أيضا أنّه ورد في غير واحد من الأخبار ، أنّ المسافر يقصّر إذا خرج عن بيته (٤). مع أنّ المراد ليس مجرّد الخروج عن مجرّد البيت جزما ، بل المتداول عندنا في المحاورات أيضا كذلك.

مع أنّك عرفت أنّ صحيحة ابن سنان (٥) حجّتهم في الذهاب ، فكيف يتأتّى التفكيك بين الذهاب والإياب؟

مع أنّه متعارف أيضا التسامح في التعبير كذلك ، كما هو غير خفي.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ الحديث ٥٥٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٢ الحديث ٨٦٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٥ الحديث ١١٢٠٧.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ٥ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٤ الحديث ١٢٩١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ الحديث ٥٥٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٢ الحديث ٨٦٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٤ الحديث ١١٢٠٦.

(٣) مختلف الشيعة : ٣ / ١١٢.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٣ الحديث ١١٢٠٢ و ١١٢٠٣ ، ٤٧٥ الحديث ١١٢٠٨.

(٥) مرّت الإشارة إليها آنفا.


ويؤيّده ، بل يدلّ عليه أنّه إذا كان في بلده أو توابع بلده ـ بحيث يقال عرفا : إنّه في بلده ، إذا كان في تلك التوابع يقال : إنّه حاضر وغير مسافر وفي الوطن وفي البلد ، وأمثال ذلك وإن لم يدخل بعد أهله ، ويقال أيضا : إنّه رجع من سفره ، أو يريد أن يذهب إلى السفر وأمثال ذلك.

ويلزم أنّه لو بقي مدّة مديدة في بلده ووطنه ، ولم يدخل أهله ، بل دخل بيوت جيرانه أن يكون مسافرا عرفا ، وفيه ما فيه.

ثمّ على تقدير تسليم الدلالة والظهور ، لا شكّ في عدم مقاومتها لصحيحة ابن سنان ، لنهاية قوّة دلالتها ، بل لصراحتها وعدم القوّة في الروايتين (١) ، مضافا إلى ما ذكرنا من كونها مستند الكلّ في الذهاب ، ومستند المشهور ـ بل الجلّ ـ في الإياب ، والروايتان مستند النادر ، مع عدم دلالة وظهور ، أو مع وهن وفتور ، مع تأيّد الصحيحة بمؤيّدات ذكرت.

وما ذكر من التأويل في غاية القرب لو لم نقل بالظهور ، بل لا يوجد تأويل أقرب.

مع أنّ بيوت الكوفة في ذلك الزمان كانت ممتدّة إلى مقدار مسافة أربعة أو ما قاربها ، ولا أقل من الفرسخين أو ما قاربها.

وما استوجه في «المدارك» من القول بالتخيير فيما بين حدّ الترخّص إلى أن يدخل البلد (٢) ـ أبعد ثمّ أبعد ، لعدم قائل ، ولمخالفته لجميع الأخبار ، مع تحقّق المرجّح الشرعي والجمع القريب المرضي ، مع أنّ مقتضى الروايتين القصر إلى دخول البيت لا البلد ، فتأمّل جدّا!

__________________

(١) أي : صحيحة العيص بن القاسم وموثّقة إسحاق بن عمّار ، وقد مرّت الإشارة إلى مصادرهما آنفا.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٥٩.


نعم ، ورد في الموثّق : «أنّ أهل مكّة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا ، وإن لم يدخلوا منازلهم قصّروا» (١) ، لكنّه من حيث السند لا يقاوم صحيحة ابن سنان ، مع قطع النظر عن المرجّحات الكثيرة ، سيّما الإجماع والشهرة.

ويمكن حملها على أنّ قوله عليه‌السلام : «ودخلوا منازلهم» عطف تفسير لقوله عليه‌السلام : «إذا زاروا البيت» ، فيكون المراد من قوله : «وإذا لم يدخلوا منازلهم» لم يزوروا البيت.

وربّما يقرب هذا التوجيه ، وينفي البعد عنه ما في الرواية الاخرى : «إنّ أهل مكّة إذا خرجوا حجّاجا قصّروا ، وإذا زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتمّوا» (٢) ، وهي كالصحيحة ، وعلى تقدير ظهورها فيما يظهر من الموثّقة ، فالجواب عنهما واحد.

ويمكن أن يقال : إنّ ظاهرهما أنّ من مرّ ببلده ووطنه في حال سفره يقصّر ما لم يدخل بيته ، كما ورد في الموثّق ـ كالصحيح ـ عن ابن بكير ، عن الصادق عليه‌السلام عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة ، له بها دار ومنزل ، فيمرّ بالكوفة وإنّما هو مجتاز لا يريد المقام إلّا بقدر ما يتجهّز يوما أو يومين ، قال : «يقيم في جانب المصر ويقصّر» ، قلت : فإن دخل أهله ، قال : «عليه التمام» (٣).

ومعلوم أنّ هذا غير الإياب عن السفر إلى وطنه ، كما هو المفروض ، والحجّاج بزيارتهم البيت يمرّون بمكّة ، لأنّهم يريدون منى ويبيتون فيه أيّاما ثلاثة ، أو يومين لا أقلّ منهما.

وربّما كان هذا التفصيل الذي ذكرنا رأي ابن الجنيد ، فتأمّل!

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٥١٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٤ الحديث ١١٢٠٤.

(٢) الكافي : ٤ / ٥١٨ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦٥ الحديث ١١١٨٣.

(٣) قرب الإسناد : ١٧٢ الحديث ٦٣٠ ، الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٤ الحديث ١١٢٠٥.


٢٠ ـ مفتاح

[حكم صلاة المسافر بعد دخول الوقت و ..]

لو دخل الوقت وهو حاضر ، ثمّ سافر والوقت باق ، قيل : يتمّ بناء على وقت الوجوب ، وقيل : يقصّر اعتبارا بحال الأداء ، وقيل : يتخيّر ، وقيل : يتمّ مع السعة ويقصّر مع الضيق.

وكذا الخلاف لو دخل الوقت وهو مسافر فحضر والوقت باق (١) ، والمعتمد اعتبار حال الأداء في الحالين ، للعمومات وخصوص الصحاح (٢) ، سيّما ما تأكّد بالحلف ومخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلافه (٣).

__________________

(١) لاحظ! مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٧ ـ ٤٧٩.

(٢) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٢ الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) وهو ما رواه إسماعيل بن جابر عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : يدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في السفر فلا اصلّي حتّى أدخل أهلي ، فقال : «صلّ وأتمّ الصلاة» ، قلت : فدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في أهلي اريد السفر فلا اصلّي حتّى أخرج ، فقال : «فصلّ وقصّر ، فإن لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». (منه رحمه‌الله) ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ الحديث ٥٥٨.



قوله : (لو دخل الوقت وهو). إلى آخره.

الأصحّ ما اختاره المصنّف ، لما ذكر من العمومات الدالّة على وجوب القصر على من هو مسافر ، والإتمام على من هو في بيته وحاضر ، وخصوص صحيحة إسماعيل بن جابر أنّه قال للصادق عليه‌السلام : يدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في السفر فلا اصلّي حتّى أدخل أهلي ، فقال : «صلّ وأتمّ الصلاة» ، قال : فدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في أهلي اريد السفر فلا اصلّي حتّى أخرج ، فقال : «صلّ وقصّر ، فإن لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وقال في «المعتبر» : هذه الرواية أشهر وأظهر في العمل (٢) ، ففيها مرجّحات ، ومنها ، أنّ مضمونها هو المشهور بين الأصحاب.

وأمّا القول بالإتمام ـ بناء على اعتبار وقت الوجوب ـ فنسب إلى الصدوق في «المقنع» ، وابن أبي عقيل ، والعلّامة في «المختلف» (٣).

ومستندهم صحيحة ابن مسلم ، أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يدخل من سفره وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق؟ فقال : «يصلّي ركعتين ، وإن خرج إلى سفره وقد دخل وقت الصلاة فليصلّ أربعا» (٤).

والجواب أنّ الاولى راجحة من وجوه كثيرة :

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ الحديث ٥٥٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٠ الحديث ٨٥٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٢ الحديث ١١٣١٣.

(٢) المعتبر : ٢ / ٤٨٠.

(٣) نقل عنهم في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٧ ، لاحظ! المقنع : ١٢٥ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١١٧.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٤ الحديث ١٢٨٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ الحديث ٥٥٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٣٩ الحديث ٨٥٣ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٣ الحديث ١١٣١٦.


ومنها : ظاهر القرآن ـ على ما عرفت سابقا ـ وطريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن مؤيّداتها «الفقه الرضوي» ، فإنّ عبارته موافقة لها صريحة في اعتبار حال الأداء (١).

وكذا صحيحة عيص بن القاسم ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ثمّ يدخل بيته قبل أن يصلّي ، قال : «يصلّيها أربعا» (٢).

فالثانية مرجوحة من تلك الوجوه ، مضافا إلى عدم مقاومتها في الدلالة أيضا ، لأنّ الاولى صريحة مع قطع النظر عن التأكيد والحلف ، بخلاف هذه ، لاحتمال أن يكون المراد الإتيان بالركعتين في السفر قبل الدخول ، وبالأربع قبل الخروج والوصول إلى حدّ الترخّص.

مع أنّ محمّد بن مسلم روى عن أحدهما عليهما‌السلام : في الرجل يقدم من الغيبة فيدخل عليه وقت الصلاة ، قال : «إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل وليتمّ الصلاة ، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصلّ وليقصّر» (٣).

ومنها : رواية الحكم بن مسكين ، عن رجل ، عن الصادق عليه‌السلام (٤). وكلّ واحد مرجّح قوى معيّن للعمل ، بل فيهما تأكيد واضح.

مع أنّ ابن مسلم الراوي لروايتكم هو بعينه روى ضدّ ما رواه ، كما عرفت ، مع زيادة التأكيد فيه ، حيث أمر عليه‌السلام بالدخول والإتمام بعده متى ما لم يخف فوت الصلاة ، وأنّ جواز قصره في الطريق مشروط بخوف فوت الوقت.

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٢ و ١٦٣ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥٤١ الحديث ٧٤٦١.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٢ الحديث ٣٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٣ الحديث ١١٣١٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٤ الحديث ٣٥٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٤ الحديث ١١٣١٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٤ الحديث ١٢٩٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٣ الحديث ٥٦٠ ، الاستبصار : ١ / ٢٤١ الحديث ٨٥٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٤ الحديث ١١٣١٨.


فيحصل من هذا وهن عظيم في روايتكم واستدلالكم بها ، بل ربّما كانت روايتاه واحدة وقع الإخلال في متن إحداهما من جهة النقل بالمعنى.

فيتعيّن حينئذ أن يكون المراد هو الاحتمال الذي ذكرناه لرفع التعارض بين الأخبار.

بل عرفت سابقا أن الأظهر اتّحاد أمثال هذه الروايات إذا كانت من راو واحد ، إذ كيف يقتصر في كلّ واحد من روايتيه بواحدة منها لراو من دون إظهار روايته التي رواها ضدّا لها ومخالفة أشدّ المخالفة ، مع قطع النظر عن كونه خيانة وغشّا وتدليسا ، حاشا عن العدل أن يرتكبها ، سيّما مثل ابن مسلم الذي هو أحد الأوتاد من الذين لولاهم لاندرس آثار النبوّة (١). إلى غير ذلك من مدائحه العظيمة التي لا تحصى.

مع أنّه أيضا روى في الصحيح ، عن الصادق عليه‌السلام عن الرجل يريد السفر متى يقصّر؟ قال : «إذا توارى عن البيوت» ، قلت : الرجل يريد السفر فيخرج حين زوال الشمس ، قال : «إذا خرجت فقصّر» (٢).

ومن المرجّحات أيضا ما ذكره بعض المحقّقين من أنّ أكثر العامّة قائلون باعتبار حال الوجوب (٣) ، فيكون ما دلّ عليه محمولا على التقيّة.

وممّا ذكر ظهر الجواب عن غير رواية محمّد بن مسلم أيضا ، مثل رواية النبّال قال : خرجت مع أبي عبد الله عليه‌السلام حتّى أتينا الشجرة ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري

__________________

(١) رجال الكشّي : ١ / ٣٩٨ الرقم ٢٨٦.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٩ الحديث ١٢٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٤ الحديث ٥٦٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤ و ٥١٢ الحديث ١١٣١٢ مع اختلاف يسير.

(٣) الحدائق الناضرة : ١١ / ٤٨٠.


وغيرك ، وذلك أنّه دخل وقت الصلاة قبل أن نخرج» (١).

ويمكن أن يكون هذا اتّقاء منه عليه‌السلام ، قال كذا حتّى يصلّي النبّال أربعا ، لأنّ العامّة لا يقصّرون ، والقصر شعار الشيعة ، كما مرّت الإشارة إليه.

وأمّا من قال بالبناء على اعتبار وقت الوجوب (٢) ، فلعلّه رجّح ما دلّ بظاهره عليه بأصالة الاستصحاب ، وظهر لك الجواب عن ذلك بما لا مزيد عليه ، فلاحظ وتأمّل!

وأمّا من قال بالتخيير (٣) فبناؤه على عدم رجحان يعتمد عليه ، وقد عرفت الرجحان المعتدّ به المعتمد عليه.

وأمّا القول بالتمام مع السعة والقصر مع الضيق ، فنسب إلى الصدوق (٤) والشيخ في كتابيه (٥).

والصدوق في «الفقيه» روى رواية إسماعيل بن جابر السابقة (٦) ، ثمّ روى رواية ابن مسلم المعارضة لها ، ثمّ قال : يعني [بذلك] إذا كان لا يخاف فوات [خروج] الوقت أتمّ ، وإن خاف خروج الوقت قصر ، وتصديق ذلك في كتاب الحكم بن مسكين ، [قال :] قال أبو عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يقدم من سفره في وقت صلاة ، فقال : «إن كان لا يخاف خروج الوقت فليتمّ ، وإن كان يخاف خروج الوقت

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٤ الحديث ٥٦٣ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٠ الحديث ٨٥٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٥ الحديث ١١٣٢١.

(٢) مختلف الشيعة : ٣ / ١١٧.

(٣) الخلاف : ١ / ٥٧٧ المسألة ٣٣٢.

(٤) نسب إليه في مختلف الشيعة : ٣ / ١١٩ ، لاحظ! من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٤ ذيل الحديث ١٢٨٩.

(٥) نسب إليه في مدارك الأحكام : ٤ / ٤٧٩ ، لاحظ! تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ ذيل الحديث ٥٥٨ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٠ ذيل الحديث ٨٥٦.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٨.


فليقصّر» ، وهذا موافق لحديث إسماعيل بن جابر (١) ، انتهى.

ويحتمل أن يكون مراده : أنّ الذي يقدم من سفره متى ما لم يخف خروج وقت الصلاة يجي‌ء حتّى يدخل وطنه فيتمّ الصلاة ، ولا يصلّي في الطريق قصرا ، إلّا أن يخاف خروج وقت الصلاة ، فحينئذ يصلّي في الطريق قصرا ، كما يظهر من قوله : هذا هو موافق لحديث إسماعيل بن جابر ، إذ لو لم يكن مراده ما ذكرنا لم يكن لما ذكره وجه ، ولم يكن لرواية إسماعيل على رواية ابن مسلم مزيّة أصلا ، إذ لخوف خروج الوقت يقصّر.

وهذا موافق لرواية ابن مسلم ، بل ظهر من ذلك أنّه وجّه رواية ابن مسلم أيضا على ما ذكرناه من أنّه يصلّي ركعتين في الطريق في القدوم وأربعا في المنزل فيه. وجعل الأمر بالإتمام كناية عن الصلاة في وطنه ، والأمر بالقصر كناية عن الصلاة في السفر ، فتأمّل كلامه جدّا!

وأمّا الشيخ ، فبعد ما روى المتعارضين المذكورين ، قال : لا تنافي بينهما. لأنّ الوجه في الجمع أنّ من دخل من سفره وكان الوقت باقيا بمقدار ما يتمّ صلاته كان عليه التمام ، وإن خاف الفوت كان عليه القصر ، وكذلك من خرج إلى سفره. إلى أن قال : والذي يدلّ على ذلك ما رواه سعد ، عن محمّد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن حمّاد بن عثمان ، عن إسحاق بن عمّار قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة ، فقال : «إن كان لا يخاف فوت الوقت فليتمّ ، وإن كان يخاف خروج الوقت فليقصّر».

وعنه عن محمّد بن الحسين ، عن الحكم بن مسكين ، عن رجل ، عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة ، فقال : «إن كان لا يخاف

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٤ ذيل الحديث ١٢٨٩ والحديث ١٢٩٠.


خروج الوقت فليتمّ ، وإن كان يخاف خروج الوقت فليقصّر».

ثمّ احتمل أن يكون الإتمام توجّه إلى من دخل عليه الوقت وهو مسافر ، فدخل أهله على وجه الاستحباب دون الفرض والإيجاب ، وقال : ويدلّ على ذلك ما رواه محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن سيف بن عميرة ، عن منصور بن حازم ، قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : «إذا كان في سفر فدخل وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله [فسار حتّى يدخل أهله] ، فإن شاء قصّر وإن شاء أتمّ ، وإن أتمّ أحبّ إليّ» (١).

فظهر أنّ نسبة هذا القول إلى الشيخ أيضا لا يخلو عن مناقشة وتأمّل ، لأنّ الظاهر منه رحمه‌الله الإتيان بالاحتمالين المذكورين جمعا بين الأخبار ، لا أنّ الأوّل بخصوصه وأنّه في كتابي الحديث ، كما نسب إليه.

وهاتان الروايتان لا تقاومان صحيحة إسماعيل بن جابر وغيرها (٢) من الصحاح والمعتبرة المعتضدة بالمرجّحات التي عرفت ، ومنها فتوى المشهور بها ، وندرة القائل بهما ـ فإنّ الشيخ وإن لم يظهر منه في كتابي الحديث قوله بهما ، إلّا أنّه في «النهاية» أفتى بظاهر رواية إسحاق (٣) ، وفي «الخلاف» أفتى بظاهر رواية منصور بن حازم (٤) ـ وصراحة دلالتها وضعف دلالتهما ، لما عرفت من احتمال إرادة الصلاة في الوطن من الإتمام ، والصلاة في السفر من القصر.

وهذا احتمال قريب في مقام الجمع بين الأخبار المتعارضة ، إذ لا شكّ في أنّه أقرب من حمل الصحاح والمعتبرة على كون القصر فيها في صورة ضيق الوقت عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٢ و ٢٢٣ الحديث ٥٥٩ و ٥٦١ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ الحديث ٨٥٧ و ٨٥٩.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٢ الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) النهاية للشيخ الطوسي : ١٢٣.

(٤) الخلاف : ١ / ٥٧٧ المسألة ٣٣٢.


الأربع خاصّة ، سواء كان في الخروج إلى السفر أو القدوم منه ، بل لا يكاد يتمشّى هذا التوجيه فيها.

بل وفي الأربع ، والإتمام لا يكاد يتمشّى هذا التوجيه بأنّه ليس إلّا من جهة سعة الوقت ، في الذهاب والمجي‌ء جميعا ، وأنّ الأصل هو الإتمام في الخروج إلى السفر ، والقدوم منه جميعا ، وأنّ القصر ليس إلّا من جهة عدم سعة الوقت ، فلاحظ جميع الأخبار وتأمّل فيها وفي أنّه هل يتمشّى التوجيه المذكور أم لا؟

وممّا يقرب عدول السائل من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في كلتا الروايتين حيث قال : الرجل يقدم من سفره ، ولم يقل : قدم من سفره ، وجواب المعصوم عليه‌السلام فيهما بأن يتمّ إن لم يخف ، ويقصّر إن خاف ، من دون استفصال وتفصيل وتقييد أصلا ، ومبادرته عليه‌السلام بالجواب كذلك ، مع أنّ الأصل عدم التقدير في الكلام.

وممّا يقرب أيضا صحيحة ابن مسلم السابقة المرويّة عن أحدهما عليهما‌السلام (١) وما ذكرنا هناك ، فتأمّل جدّا!

وبمثل ذلك يمكن الجواب بالنسبة إلى الرواية الأخيرة أيضا ، إذ صحيحة إسماعيل وغيرها تأبى عن الحمل على التخيير أيضا ، فلاحظ.

مضافا إلى ما عرفت سابقا من تواتر الأخبار في كون القصر عزيمة (٢) بعد الآية (٣) ، فتعيّن العمل بصحيحة إسماعيل وما وافقها.

ثمّ اعلم! أن المذهب غير منحصر فيما ذكر ، لأنّ العلّامة رحمه‌الله اختار البناء على

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٤ الحديث ١١٣١٩ ، راجع! الصفحة : ٣٢٦ و ٣٢٧ من هذا الكتاب.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٧ الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) النساء (٤) : ١٠١.


وقت الوجوب فيما إذا خرج إلى السفر ، والبناء على وقت الأداء فيما إذا قدم من السفر (١).

أمّا الصورة الثانية ، فلصحيحة إسماعيل وغيرها على حسب ما عرفت.

وأمّا الاولى ، فلأنّ الركعتين الأخيرتين عنده مثل صلاة مستقلّة ، فإذا وجبتا وقت الوجوب ، لزم الامتثال والخروج عن العهدة بالنسبة إليهما ، ولا يتحقّق إلّا بفعلهما ولو في السفر وفي وقت الأداء ، ففي الصورتين جميعا اختار الإتمام.

وفي «المختلف» أطال الكلام ، وأتى بأدلّة كثيرة ـ وهي عشرة ـ لاختيار وقت الوجوب في الاولى (٢). وصرّح بأنّ ما دلّ على اعتبار وقت الأداء في الثانية وإن كان يشمل الاولى أيضا من دون تفاوت ، إلّا أنّ هذه الأدلّة العشرة منعت عن اعتباره في الاولى وأدلّة العشرة ليست بحيث تقاوم ما دلّ على اعتبار وقت الأداء (٣) فضلا أن تغلب عليه.

فإنّ دليله الأوّل أثبت به أنّ الواجب عليه وقت الوجوب هو الأربع ، فلا يسقط بالعذر المتجدّد ، كالحيض والموت.

والثاني : صحيحة ابن مسلم ، ورواية بشير النبّال السابقتان ، ورواية الوشّاء أنّه سمع الرضا عليه‌السلام يقول : «إذا زالت الشمس وأنت في المصر و [أنت] تريد السفر فأتمّ ، فإذا خرجت بعد الزوال قصّر العصر» (٤).

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٥٧ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٥٢ و ٣٥٤ المسألة ٦١٠ ، مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٠ و ١٢٦.

(٢) مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٠ ـ ١٢٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الحديث ١١١٩٤ ، ٥١٢ الحديث ١١٣١٢ و ١١٣١٣.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٣٤ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٤ الحديث ٥٦٢ ، الاستبصار : ١ / ٢٤٠ الحديث ٨٥٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥١٦ الحديث ١١٣٢٣.


والثالث : الاحتياط ، لأنّ القصر غير مبرئ للذمّة بخلاف التمام ، لاشتماله على القصر وزيادة.

والرابع : الاستصحاب.

والخامس : إنّ القول بالقصر والقول بالقضاء على الحائض إذا فرطت في الأداء ممّا لا يجتمعان ، والثاني ثابت بالإجماع ، فينفى الأوّل ، وجه التنافي أنّ العذر المسقط إن أسقط ـ فكذلك الحائض ـ وإلّا فكذلك الركعتين الأخيرتين.

السادس : إنّ القضاء تابع للأداء ، والمخالف هو ابن إدريس (١) ، والشيخ سلّم وجوب الإتمام في القضاء (٢).

السابع : القول بالقصر ينافي القول بوجوب الصوم مع الخروج بعد الزوال ، إذا لم يبيّت النيّة ، والثاني ثابت ، وجه التنافي أنّ القصر إنّما هو للسفر وهو المقتضي ، ومضي بعض الوقت لا يصلح للمانعيّة على هذا التقدير ، وهذا المقتضي ثابت في فعل الصوم.

الثامن : إنّ من صلّى في السفينة قبل مفارقة المنزل يجب عليه الإتمام ، فإذا غاب عنه الجدران والأذان قبل الفراغ لم يسقط فرض الإتمام ، لأنّ الصلاة على حسب ما افتتحت عليه ، فوجب الإتمام مطلقا ، لعدم القائل بالفرق.

التاسع : إنّ الإفطار لازم للقصر ، لعموم قوله عليه‌السلام : «هما واحد» (٣) ، الحديث ، وفي محلّ النزاع يكون الإفطار منتفيا.

العاشر : إنّ القصر لا يكون إلّا للمقتضي له ، أو لعدم المقتضي للإتمام ،

__________________

(١) السرائر : ١ / ٣٣٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٣ ذيل الحديث ٣٥٣.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٠ الحديث ٥٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٣ الحديث ١١٢٩١.


والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لو ثبت لزم تقدّم الحكم على العلّة ، لأنّ المقتضي للقصر ليس إلّا السفر ، وهو متأخّر عن وجوب الصلاة ، فلو اقتضى قصر الصلاة المتقدّم ثبوتها ، لزم تقدّم المعلول على العلّة وهو باطل قطعا.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لا يلزم من عدم دليل الثبوت تحقّق الضدّ ، ولأنّ المقتضي للإتمام وهو الحضر موجود حالة الوجوب ، فلا يمكن القول بنفيه وإلّا لزم اجتماع الضدّين.

ولا يخفى ما في الكلّ من الخدشة.

أمّا في الأوّل ، فإن كان مراده الاستصحاب فيرجع إلى الرابع ، وإن كان غيره ، فلا وجه له ، لأنّ مقتضى الأدلّة أنّ غير المسافر يتمّ ، والمسافر يقصّر إلّا أن يثبت أنّه يتمّ ، ولم يثبت هنا ، بل ثبت أنّه يقصّر ، كما مرّ.

وقياس المسافر في المقام بالحائض والميّت قياس مع الفارق الواضح ، إذ بالحيض والموت وأمثالهما تفوت الصلاة فيجب القضاء ، لعموم قوله عليه‌السلام : «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» (١) ، ـ على حسب ما سيجي‌ء ـ ولو لا هذا العموم لم يجب القضاء إلّا بنصّ خاصّ ، لأنّه فرض جديد على ما هو الحقّ ، والقضاء تابع للأداء ، كما اعترف به ، والمسافر لم تفت صلاته ، بل انتقل فرضه الحاضر بفرض المسافر ، إلّا أن يدلّ دليل على عدم الانتقال وليس ، بل ثبت الانتقال من الأدلّة الخاصّة أيضا.

وأمّا الثاني ، فقد مرّ الكلام في أمثال هذه الأخبار ، وأنّها لا تعارض ما دلّ على كون العبرة بوقت الأداء مطلقا.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.


وأمّا الثالث ، فكون القصر غير مبرئ للذمّة أوّل الكلام ، بل ثبت أنّه المبرئ خاصّة.

وأمّا كون الإتمام شاملا له وللزيادة ، ففيه ما فيه ، إذ بعد احتمال كون شغل الذمّة بالقصر كيف ينفع الإتمام بالعلّة التي ذكرت؟ لأنّ القصر هيئة اخرى ، والهيئة جزء الصلاة قطعا. مع أنّه ـ مثل السابق ـ لو تمّ لزم الإتمام في الصورة الثانية أيضا ، فتكون العبرة بوقت الوجوب مطلقا ـ كما قاله بعض الأصحاب (١) ـ لا ما ذكره ، لأنّه صرّح بأنّ العبرة في الصورة الثانية بوقت الأداء ، مع أنّه جعل الاحتياط ـ الذي ذكره ـ دليلا على كون العبرة بوقت الوجوب ، وهذا الاحتياط يتمشّى في الصورة الثانية أيضا من دون تفاوت أصلا ، فيصير الإتمام في الصورة الثانية أيضا من جهة الاحتياط المذكور ، فيكون في الثانية أيضا العبرة بوقت الوجوب ، فتأمّل!

ومنه يظهر الجواب عن الرابع وغيره ممّا هو مختصّ بالصورة الاولى ، بل جار في الثانية أيضا ، لأنّ الاستصحاب دليل القائل باعتبار وقت الوجوب مطلقا ـ كما عرفت ـ فإن كان غالبا على ما دلّ على كون العبرة بوقت الأداء ، يتعيّن القول بكون العبرة بوقت الوجوب مطلقا ، وإلّا يتعيّن كون العبرة بوقت الأداء مطلقا ، كما عليه الأكثر ، وقد عرفت أنّه الحقّ ، وأمّا ما اختاره من التفصيل فلا وجه له أصلا.

وأمّا الجواب عن الخامس ، فقد ظهر من الجواب عن الأوّل.

وأمّا الجواب عن السادس ، فبأنّ المخالف الذي ذكره هو الشيخ وابن إدريس ، والشيخ له مذهب على حدة ـ كما عرفت ـ وأمّا ابن إدريس فستعرف قوله ، ومع ذلك المخالف غير منحصر فيهما ، إذ المشهور يقولون بأنّ الاعتبار بوقت الأداء ، ومصرّحون بأنّ القضاء تابع للأداء.

__________________

(١) لاحظ! نهاية الإحكام : ٢ / ١٦٥ ، مفتاح الكرامة : ٣ / ٤٩٠.


وكذا الحال بالنسبة إلى غير المشهور ، ومع ذلك ذكر في «المختلف» على حدة مسألة كون القضاء في المقام تابعا لوقت الوجوب أم لوقت الأداء ، والخلاف في ذلك مطلقا من غير خصوصيّة بالصورة الاولى ، بل صرّح بالتعميم (١).

ونقل عن ابن إدريس أنّه قال : إن كان الوقت دخل وهو مسافر ، ثمّ دخل البلد والوقت باق ، ولم يصلّ حتّى خرج الوقت ، وجب القصر ، وبالعكس الإتمام (٢) ، ثمّ اختار هو الإتمام ، واحتجّ بما احتجّ. وظهر من كلامه انحصار المخالف فيه وفي الشيخ.

والمحقّق أيضا ذكر هذا الخلاف على حدة بالتعميم المذكور ، واختار كون القضاء تابعا لوقت الفوت لا وقت الوجوب (٣) ، وكذلك غير المحقّق (٤).

وفي «المدارك» ذكر أنّ المخالف في هذه المسألة هو السيّد وابن الجنيد (٥) ، فلاحظ.

فعلى هذا نقول : دليله السادس ليس مبنيّا على مقدّمة بيّنة أو مبيّنة أو مسلّمة ، فلا يكون دليلا ، غاية ما يكون أنّه جدل بالنسبة إلى خصوص ابن إدريس ، وهذا كيف يصلح أن يكون دليلا للفقيه في فتواه؟ ولو كان يصلح لكان الأمر في الصورة الثانية أيضا كذلك ، لما عرفت. فيلزم العلّامة القول بكون العبرة بوقت الوجوب مطلقا بلا شبهة ، فما الوجه في تفكيكه وتفصيله؟

ومع ذلك نقول : من قال بأن الاعتبار في الفوات بحال وقت الوجوب لا

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٩.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٩ ، لاحظ! السرائر : ١ / ٣٣٥.

(٣) شرائع الإسلام : ١ / ١٣٦ ، المعتبر : ٢ / ٤٨٠.

(٤) كالشهيد في الدروس الشرعيّة : ١ / ٢١٣.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٤٨٤.


وقت الفوت ، استدلّ برواية زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام إنّه سأله عن رجل دخل وقت الصلاة وهو في السفر فأخّر الصلاة حتّى قدم فنسي حين قدم أن يصلّيها حتّى ذهب وقتها؟ قال : «يصلّيها ركعتين صلاة المسافر ، لأنّ الوقت دخل وهو مسافر ، كان ينبغي أن يصلّيها عند ذلك» (١).

ومقتضى العلّة المنصوصة إتمام الصلاة فيما إذا كان حاضرا فسافر.

وهذه الرواية وإن كان في طريقها موسى بن بكر ، إلّا أنّ الظاهر أنّها من كتابه ، وكتابه معتبر.

ومن (٢) كان اعتماده على هذه الرواية فلا مانع أن يكون قائلا بأنّ العبرة في القضاء بوقت الوجوب من جهة اعتماده على هذه الرواية ، فلا نقض عليه ، لأنّ الأحاديث تخصّص بعضها بعضا ، إذا حصل التقاوم ، وعلى ذلك المدار في الفقه.

ومن لم يعتمد عليها اعتمادا أصلا ، أو لم يكن عنده مقاومة لما دلّ على كون العبرة بوقت الفوات ، فهو في سعة.

ولهذا لم يعمل بها إلّا واحد أو اثنان ، بل إلّا واحد على ما ذكره في «المختلف» (٣) ، لأنّ الشيخ وإن كان قائلا بها أيضا ، إلّا أنّها لعلّها مطابقة للقاعدة عنده ، لأنّه قائل بالتمام عند السعة ، والقصر عند الضيق ، والفوت لا يكون إلّا بعد ضيق ، ومن هذا أجاب في «المعتبر» عن هذه الرواية باحتمال أن يكون دخل مع ضيق الوقت عن أداء الصلاة أربعا ، فيقضي على وقت إمكان الأداء (٤) ، فتأمّل!

والأظهر أنّ هذه الرواية ظاهرة في كون الاعتبار في الأداء أيضا بحال وقت

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٢ الحديث ٣٥١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الحديث ١٠٦٢٣ مع اختلاف يسير.

(٢) في النسخ : وكيف ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٩.

(٤) المعتبر : ٢ / ٤٨١.


الوجوب ، بملاحظة العلّة المذكورة. فالجواب عنها هو الجواب الذي ذكرنا عن الأخبار الظاهرة في ذلك.

وكيف كان ، الظاهر أنّها لا تقاوم ما دلّ على كون العبرة بحال الأداء ، وأنّ القضاء تابع لحال الفوات ، مثل ما في صحيحة زرارة : «يقضي ما فاته كما فاته» (١).

وممّا ذكر ظهر مذهب آخر أيضا زائدا عمّا ذكره المصنّف رحمه‌الله وهو كون العبرة بوقت الأداء في الأداء دون القضاء.

والجواب عن السابع أنّه أيضا جدل ونقض بالنسبة إلى خصوص من يقول بوجوب الصوم حينئذ.

ومع ذلك قياس مع الفارق ، لأنّ مقتضى العمومات والخصوصات التي لا شبهة في كونها ـ حجّة على ما عرفت ـ وجوب القصر في الصلاة حينئذ. ومقتضى العمومات والخصوصات التي هي حجّة وجوب الصوم حينئذ.

أمّا الخصوصات ، فظاهرة ، وأمّا العمومات ، فلأنّ معظم هذا اليوم وغالبه كان المكلّف حاضرا ، والحاضر يجب الصوم عليه ، والغلبة من جملة المرجّحات ، فتأمّل!

مع أنّ هذه المنافاة حاصلة في الصورة الثانية أيضا ، إذ ربّما كان المكلّف مضطرّا فيها ولا يجب عليه الصوم ، ويجب عليه إتمام الصلاة.

مع أنّ العلّامة يقول بكون العبرة فيها بحال الأداء ، فيجب عليه التمام إذا قدم بعد الزوال ولم يصلّ في الطريق ، ومع ذلك يقول بوجوب الإفطار وعدم وجوب صوم ذلك اليوم ، وعدم الاعتداد بصومه سيّما إذا أفطر في الطريق (٢) فما هو جوابه

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٥ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٦٢ الحديث ٣٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الحديث ١٠٦٢١.

(٢) مختلف الشيعة : ٣ / ١٢٦ و ٤٨٠.


فهو جوابنا.

وممّا ذكر يظهر الجواب عن الثامن والتاسع أيضا ، كما لا يخفى.

وأمّا العاشر ، فظاهر الفساد ، لأنّ السفر مقتض لخصوص هيئة القصر ، لا لنفس وجوب الصلاة المتقدّم ، فهو متقدّم على معلوله ، كما أنّ الحضر مقتض لخصوص هيئة التمام في الصورة الثانية عنده أيضا ، لا لنفس وجوب الصلاة المتقدّم ، كما أنّ مقتضى خصوص هيئة التمام في الاولى هو الحضر ، وهيئة القصر في الثانية هو السفر.

وكذلك قوله : وأمّا الثاني. إلى آخره ممّا لا نفهمه ، وهو أعرف بما قال.

ثمّ اعلم! أنّه نقل في «المختلف» عن «المبسوط» قولا آخر ، وعن خلافه قولا آخر وتفصيلا ، وعن ابن الجنيد أيضا قولا آخر وتفصيلا (١) ، من أراد الاطّلاع فليلاحظ ، وعندي أنّه ليس في نقلها كثير فائدة.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٣ / ١١٨ و ١٢٠ ، لاحظ! المبسوط : ١ / ١٤١ ، الخلاف : ١ / ٥٧٧ و ٥٧٨ المسألة ٣٣٢.



القول في بقيّة الفرائض

قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى) (١) يعني : في الفطر ، كما في الصحيح (٢).

وقال عزوجل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٣) قيل : أي في الأضحى ، كما في الخبر (٤).

وقال سبحانه (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (٥) يعني : بعد الطواف.

وقال سبحانه (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) (٦) أي : أيّا ما كان.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكسوفين : «إذا رأيتم ذلك فصلّوا» (٧).

__________________

(١) الأعلى (٨٧) : ١٤ ، ١٥.

(٢) تفسير نور الثقلين : ٥ / ٥٥٦ الحديث ٢١ ، تفسير الصافي : ٥ / ٣١٧ الحديث ١٥.

(٣) الكوثر (١٠٨) : ٢.

(٤) مجمع البيان : ٦ / ٢٥٢ (الجزء ٣٠).

(٥) البقرة (٢) : ١٢٥.

(٦) الأنعام (٦) : ١٥٢.

(٧) سنن النسائي : ٣ / ١٢٦ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ٣٢٠ مع اختلاف يسير.


٢١ ـ مفتاح

[وجوب صلاة العيدين]

تجب الصلاة في العيدين الفطر والأضحى على الأعيان للكتاب والسنّة والإجماع.

وهي ركعتان بالصحاح والإجماع ، ويشترط فيهما ما يشترط في اليوميّة بالإجماع ، بل ما يشترط في الجمعة أيضا ، كما يستفاد من المعتبرة (١) سوى الخطبتين ، فإنّ الأصحّ عدم اشتراطهما فيهما ، وفاقا للعلّامة (٢) لاستحبابهما هاهنا ، وعدم وجوب استماعهما إجماعا ، والقول بوجوبهما (٣) ضعيف.

وهما بعد الصلاة هاهنا ، وتقديمهما بدعة بإجماعنا والمعتبرة (٤) ، وكيفيّتهما مثل كيفيّة خطبتي الجمعة ، غير أنّ الإمام يذكر في خطبة الفطر ما يتعلّق بالفطرة من الشرائط والقدر والوقت ، وفي الأضحى ما يتعلّق بالأضحية.

والروايات في اشتراط وجوب صلاة العيدين بحضور المعصوم متشابهة ، ومع اختلال الشرائط يستحبّ الإتيان بها فرادى ، لدلالة بعض الروايات عليه ، وفي جواز الجماعة فيها حينئذ قولان [الأحوط المنع].

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٢ الباب ٣٩ من أبواب صلاة العيد.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٥٥ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٨.

(٣) المبسوط : ١ / ١٦٩ ، السرائر : ١ / ٣١٧ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٣٨ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٦١ ، لاحظ! مفتاح الكرامة : ٣ / ١٧٧ ـ ١٨٠.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٠ الباب ١١ من أبواب صلاة العيد.


قوله : (للكتاب). إلى آخره.

وهو الذي ذكره المصنّف من قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ) (١) الآيتان ، فإنّ المراد زكاة الفطرة وصلاة العيد ، على ما ذكره جمع من المفسّرين (٢) ، بعد ما ثبت من الصحيح عن الصادق عليه‌السلام (٣).

وقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٤) قيل : المراد صلاة العيد الأضحى ونحر البدن ، كما ورد في الخبر (٥).

وورد أيضا أنّ المراد رفع اليدين حال التكبير في الصلاة إلى ما يحاذي اللبة ، وغير ذلك (٦).

وأمّا السنّة ، فهي كثيرة ، منها صحيحة جميل ، عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ صلاة العيدين فريضة» (٧). إلى غير ذلك من الأخبار.

وأمّا الإجماع ، فقد نقله جماعة ، منهم المحقّق والعلّامة (٨) ، وهو كذلك.

__________________

(١) الأعلى (٨٧) : ١٤.

(٢) تفسير الصافي : ٥ / ٣١٧ الرقم ١٥ ، تفسير القمّي : ٢ / ٤١٧ ، مجمع البيان : ٦ / ١٠٩ (الجزء ٣٠) ، تفسير الكشّاف : ٤ / ٧٤٠ ، البرهان في تفسير القرآن : ٤ / ٤٥٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٣ الحديث ١٤٧٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٠ الحديث ٩٨٣٣ ، وسائل الشيعة : ٩ / ٣٥٥ الحديث ١٢٢٢١.

(٤) الكوثر (١٠٨) : ٢.

(٥) التبيان : ١٠ / ٤١٨ ، مجمع البيان : ٦ / ٢٥٢ (الجزء ٣٠) ، تفسير الطبري : ٣٠ / ٢١١.

(٦) مجمع البيان : ٦ / ٢٥٣ (الجزء ٣٠) ، لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٢٦ الباب ٩ من أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٧ الحديث ٢٦٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٣ الحديث ١٧١١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤١٩ الحديث ٩٧٣٩.

(٨) المعتبر : ٢ / ٣٠٨ ، مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥١ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ١١٩ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٥٥.


وأمّا كونها ركعتين ، فبالإجماع ، بل الضرورة من الدين والصحاح وسنذكرها ، وعن معاوية ، قال : سألته عليه‌السلام عن صلاة العيدين؟ فقال : «ركعتان» (١) ، الحديث.

وأمّا كون شرائط اليوميّة شرائطها ، فدليله الإجماع كما ذكره ، كما أنّ الجمعة أيضا كذلك ، وكذا أجزاؤها كالجمعة بالإجماع ، فإنّ العبادات توقيفيّة ، لا بدّ من ثبوت ماهيّتها من الشرع ، ومرّ الكلام مفصّلا في صلاة الجمعة.

وأمّا أنّه يشترط فيها ما يشترط في الجمعة إلّا ما أخرجه الدليل ، فظاهر الأصحاب اتّفاقهم عليه ، بل قال في «التذكرة» : إنّما تجب العيد على من تجب عليه الجمعة عند علمائنا أجمع (٢) ، وفي «المنتهى» قال : لا نعرف فيه خلافا (٣).

مع أنّ الشرائط المعتبرة في الجمعة من جملتها العدد ، وقد أجمع الأصحاب على اشتراطه هنا أيضا ، حكاه في «المنتهى» (٤) ، ويظهر صدقه من ملاحظة فتاوى الفقهاء.

وروى الصدوق ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال في صلاة العيدين : «إذا كان القوم خمسة أو سبعة فإنّهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم الجمعة» وقال : «تقنت في الركعة الثانية» ، قال : قلت : يجوز بغير عمامة؟ قال : «نعم ، والعمامة أحبّ إليّ» (٥).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٨ الحديث ١٧٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٠ الحديث ٩٧٧٢.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٢١ المسألة ٤٣٥.

(٣) منتهى المطلب : ٦ / ٢٧.

(٤) منتهى المطلب : ٦ / ٣٠.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٣١ الحديث ١٤٨٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٢ الحديث ٩٩١٣.


ولعلّ قوله عليه‌السلام : «تقنت». إلى آخره ، لأجل صلاة الجمعة لا هذه ، وعلى تقدير كون المراد هذه ، فدفع توهّم حاصل من قوله : «كما يصنعون يوم الجمعة» ، إذ ورد في الأخبار الكثيرة أنّ القنوت في الجمعة في الركعة الاولى (١) ، فتوهّم في هذه الصلاة أيضا كذلك ، فدفعه بأنّه يقنت في الركعة الثانية أيضا ، لأنّ فيها قنوت موظّف معروف ، كما ستعرف ، فتأمّل!

والظاهر من هذه الصحيحة كون العدد المعتبر هنا ، هو العدد المعتبر في الجمعة.

وورد في صلاة الجمعة أيضا ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «أدنى ما يجزي في الجمعة سبعة أو خمسة أدناه» (٢) ، وبيّنا في بحث الجمعة أنّ المراد في هذا الخبر أنّ كلّ واحد من العددين شرط ، السبعة شرط في الوجوب العيني ، والخمسة في الوجوب التخييري (٣).

فالظاهر من هذه الصحيحة أنّ الأمر هنا أيضا مثل الجمعة ، وإلّا فلا وجه للتعبير بهذه العبارة هنا أيضا ، ففيها إشارة إلى ما أشار عليه‌السلام في الجمعة إليه على ما بيناه في الجمعة ، فلاحظ.

ونقل عن ابن أبي عقيل أنّه ذهب إلى اشتراط السبعة هنا مع اكتفائه بالخمسة في الجمعة ، وقال : لو كان إلى القياس ، لكان جميعا سواء ، لكنّه تعبّد من الخالق سبحانه (٤).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٢٧٠ الباب ٥ من أبواب القنوت.

(٢) الكافي : ٣ / ٤١٩ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢١ الحديث ٧٦ ، الاستبصار : ١ / ٤١٩ الحديث ١٦٠٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الحديث ٩٤١٢.

(٣) راجع! الصفحة : ٣١٠ و ٣١١ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٤) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥١.


وعبارته هذه في غاية الظهور في اتّحاد صلاة الجمعة مع هذه الصلاة في الشرائط ، كما ادّعى عليه الإجماع (١).

ولعلّ نظره رحمه‌الله إلى الأخبار الواردة في الجمعة المتضمّنة بظواهرها لاعتبار خصوص الخمسة فإنّها صحاح كثيرة (٢) ، ولذا اختار أكثر الأصحاب الخمسة في الجمعة ، ويكون حاله فيها حال الأكثر.

وأمّا في المقام ، فلمّا لم يرد سوى هذه الصحيحة بحسب الظاهر ، وظاهر عدم الضيق وعدم عينيّة الوجوب في الخمسة ـ كما بيّناه ـ فاختار السبعة ، والحقّ اتّحادها مع الجمعة فيه ، كما قلنا.

ومن جملتها : الجماعة ، واشتراطها هنا ـ أيضا ـ إجماعي منصوص ، كما عرفت.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «من لم يصلّ مع الإمام في جماعة يوم العيد فلا صلاة له ولا قضاء عليه» (٣).

ومن جملتها : الوحدة ، وظاهر الأصحاب اشتراطها أيضا. لأنّهم أطلقوا مساواتها للجمعة في الشرائط.

ونقل عن الحلبي تصريحه بذلك (٤) ، محتجّا بأنّه لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صلّى في زمانه عيدان في بلد ، كما لم ينقل أنّه صلّيت جمعتان ، وبصحيحة ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : «قال الناس لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ألا تخلف رجلا يصلّي

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٤٤ من هذا الكتاب.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٣) ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٣ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٥.

(٤) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ٩٥ و ٩٦ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥٤.


العيدين؟ قال : لا اخالف السنّة» (١).

قال في «المدارك» : وهما لا يدلّان على المنع ، ومن ثمّ توقّف العلّامة في «التذكرة» و «النهاية» في اشتراط ذلك (٢) وهو في محلّه (٣) ، انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ العبادات توقيفيّة موقوفة على الثبوت من الشرع ، وقد عرفت النزاع في كون ألفاظها أسامي للصحيحة أو الأعم ، وأنّه لم يثبت كونها أسامي للأعم لو لم نقل ثبوت كونها أسامي للصحيحة ، والثبوت إمّا من القول أو الفعل ، والأوّل منعدم ، والثابت من الفعل هو الوحدة. لأنّه ثابت جزما ، والتعدّد غير ثابت ، وهو رحمه‌الله كثيرا ما يثبت الشرط بهذا النحو ، كما لا يخفى.

والإجماع أيضا إنّما تمّ في الوحدة خاصّة لو لم نقل بالإجماع على اتّحاد الجمعة مع هذه الصلاة في الشرائط.

مع أنّ الواجب العيني على كلّ أحد كيف يجعله الشارع مقصورا خلف الواحد؟ ولو لم يجعله مقصورا لاقتضى العادة شيوع تحقّقها متعدّدة ، واشتهاره وظهوره بحيث لا يقبل (٤) الخفاء ، فكيف صار الأمر بالعكس حتّى ظهر من الفقهاء ما ظهر؟ إلى غير ذلك ممّا مرّ في صلاة الجمعة ، فلاحظ.

ثمّ قال : وذكر الشهيد رحمه‌الله (٥) ومن تأخّر (٦) أنّ هذا الشرط إنّما يعتبر مع وجوب الصلاتين ، فلو كانتا مندوبتين أو أحدهما لم يمنع التعدّد (٧) ، انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٧ الحديث ٣٠٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥١ الحديث ٩٨٣٨.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٢٣ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٥٦.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٦.

(٤) في (ز ٣) : لم يقبل.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٧٣ ، البيان : ٢٠١ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٩٢.

(٦) روض الجنان : ٢٩٩.

(٧) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٦.


لا يخفى أنّ هذه الشرائط إنّما هي شرائط وجوبها ، وأمّا إذا اختلّت الشرائط وسقط الوجوب ، فسيجي‌ء حالها.

ومن جملتها : الخطبتان. وقد صرّح في «المبسوط» باشتراطهما ، وقال : شرائطهما شرائط الجمعة سواء في العدد والخطبة (١) ، وكذا الحال بالنسبة إلى عبارة غيره من الفقهاء كما أشرنا.

ويدلّ عليه ما أشرنا من أنّ العبادة لا بدّ من ثبوتها من الشرع ، حتّى يحكم بأنّها المطلوبة شرعا ، وأنّ الثبوت منحصر في الأخبار والإجماع وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، ولا شبهة في أنّهم عليهم‌السلام كانوا يخطبون ، فالإجماع وفعلهم عليهم‌السلام قد عرفت.

وأمّا الأخبار ، فيظهر منها أيضا حيث ذكروا عليهم‌السلام في مقام بيان هذه الصلاة أنّ الخطبة بعدها ، مثل : صحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام في صلاة العيدين ، قال : «الصلاة قبل الخطبتين والتكبير بعد القراءة سبع في الاولى وخمس في الأخيرة» (٢).

وصحيحة معاوية قال : سألته عليه‌السلام عن صلاة العيدين؟ فقال : «ركعتان». إلى أن قال : «والخطبة بعد الصلاة» (٣).

وقويّة سليمان بن خالد ، عن الصادق عليه‌السلام في صلاة العيدين ، قال : «كبّر ستّ تكبيرات واركع بالسابعة ، ثمّ قم في الثانية فاقرأ ، ثمّ كبّر أربعا واركع بالخامسة ،

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٦٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤١ الحديث ٩٨٠٣.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٠ الحديث ٩٨٠٢.


والخطبة بعد الصلاة» (١). إلى غير ذلك.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : أدركت الإمام على الخطبة؟ قال : «تجلس حتّى يفرغ [من خطبته] ، ثمّ تقوم وتصلّي» ، قلت : القضاء أوّل صلاتي أو آخرها؟ قال : «لا ، بل أوّلها وليس ذلك إلّا في هذه الصلاة» ، قلت : فما أدركت مع الإمام من الفريضة وما قضيت ، قال : «أمّا ما أدركت من الفريضة فهو أوّل صلاتك وما قضيت فآخرها» (٢).

ولا يخفى دلالتها على وجوب الخطبة ، وكونها من تتمّة الفريضة وآخرها ، وأنّه لا يجوز الصلاة حتّى يفرغ الإمام من الخطبة.

وقال في «المدارك» : وجزم العلّامة في جملة من كتبه بعدم اعتبار هذا الشرط هنا (٣) ، وهو كذلك تمسّكا بمقتضى الأصل ، والتفاتا إلى أنّ الخطبتين متأخّرتان عن الصلاة ، ولا يجب استماعهما إجماعا ، فلا يكونان شرطا (٤) ، انتهى. وفيه ما عرفت وستعرف.

ومن جملتها : الحضور ، فلا يجب على المسافر مثل الجمعة ، لما عرفت ، ولصحيحة زرارة : «إنّما صلاة العيدين على المقيم» (٥) ، وصحيحة الفضيل ـ وغيرهما من الأخبار (٦) ـ : «وليس في السفر جمعة ، ولا فطر ولا أضحى» (٧).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٠ الحديث ٢٨١ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٨ الحديث ١٧٣٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٦ الحديث ٩٧٨٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٣٠١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٥ الحديث ٩٧٥٨.

(٣) نهاية الإحكام : ٢ / ٥٥ و ٥٦.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٦.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٤٩ ، ٤٣١ الحديث ٩٧٧٥.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣١ الباب ٨ من أبواب صلاة العيد.

(٧) المحاسن : ٢ / ١٢٢ الحديث ١٣٣٩ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٣ الحديث ١٢٨٧ ، وسائل الشيعة :


ومن جملتها : الذكورة ، كما هو الحال في صلاة الجمعة ، لما عرفت ، ولصحيحة عبد الله بن سنان ، قال : «إنّما رخّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للنساء العواتق في الخروج إلى العيدين للتعرّض للرزق» (١).

ورواية يونس بن يعقوب أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن خروج النساء في العيدين والجمعة؟ فقال : «لا ، إلّا امرأة مسنّة» (٢).

ورواية محمّد بن شريح عنه عليه‌السلام عن خروج النساء في العيدين ، فقال : «لا ، إلّا عجوز عليها منقلاها ، يعني الخفّين» (٣) ، وغيرها من الأخبار (٤).

ومن جملتها : الصحّة ، لما عرفت ، ولرواية هارون بن حمزة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله إن كان مريضا لا يستطيع أن يخرج أيصلّي في بيته؟ قال : «لا» (٥).

ومن جملتها : الإمام ، لما عرفت ، ولصحيحة زرارة : «ومن لم يصلّ مع إمام في جماعة فلا صلاة له ولا قضاء عليه» (٦).

وصحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن صلاة يوم الفطر

__________________

٧ / ٤٣١ الحديث ٩٧٧٤.

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٥٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الحديث ٩٨٨٧.

(٢) الكافي : ٥ / ٥٣٨ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٣٨ الحديث ٢٥٥٢٩.

(٣) الكافي : ٥ / ٥٣٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٢ الحديث ٩٨٨٩.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الباب ٢٨ من أبواب صلاة العيد.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢١ الحديث ١٤٦٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٨٦٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٥٠.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٥٩ الحديث ١ ، ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٣ الحديث ٩٧٥٢.


والأضحى؟ فقال : «ليس صلاة إلّا مع إمام» (١).

وصحيحة زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام : «إنّما صلاة العيدين على المقيم ولا صلاة إلّا بإمام» (٢) وموثّقة سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام ، وإن صلّيت وحدك فلا بأس» (٣). إلى غير ذلك.

ومن جملتها : كون هذا الإمام هو السلطان العادل أو من نصبه للصلاة ، لما عرفت هنا ، وفي مبحث الجمعة ، ولما ذكره في «المنتهى» من اتّفاق الأصحاب على هذا الشرط (٤) ، ولما مرّ في صلاة الجمعة ممّا يدلّ عليه من الأخبار (٥) مثل «الصحيفة السجّاديّة» (٦) وغيرها ، وما دلّ عليه من العقل ، مثل استحالة تحقّق الواجب العيني عادة من جميع المكلّفين على وفق الصواب من دون نصب من الشرع ، وغير ذلك.

وأيضا عرفت ورود الخبر بأنّه : «ما من يوم عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلّا وهو يجدّد لآل محمّد ـ صلوات الله عليهم ـ حزنا» ، قال الراوي : ولم؟ قال : «إنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم» (٧).

وهذا الخبر رواه الكليني في الموثّق ـ كالصحيح ـ عن علي بن الحسن ، عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٤٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧١٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٧.

(٤) منتهى المطلب : ٥ / ٣٣٤ ، ٦ / ٢٧.

(٥) راجع! الصفحة : ٢٩٦ ـ ٢٩٨ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٦) الصحيفة السجّاديّة الجامعة : ٣٥١.

(٧) علل الشرائع : ٣٨٩ الحديث ١ الباب ١٢٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٥ الحديث ٩٨٩٨.


حنّان بن سدير ، عن عبد الله بن دينار ، عن الباقر عليه‌السلام (١) ، وكذلك الصدوق في «الفقيه» (٢) ، مع أنّهما قالا في صدر كتابهما ما قالا ، والشيخ رواه عن الحسن بن محبوب ـ في الصحيح ، وهو ممّن أجمعت العصابة على قول (٣) ـ عن حنّان ، عن عبد الله ، عن الباقر عليه‌السلام (٤) ، فالرواية في غاية الاعتبار ، مع أنّها منجبرة بفتاوى الأصحاب ، بل الإجماعات المنقولة ، وغيرها ممّا عرفت وستعرف.

ويؤيّدها أيضا ، ما ورد : «من أنّ هذه الامة المتحيّرة الضالّة لا يوفّقون لفطر ولا أضحى بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، فلا جرم والله ما وفّقوا ولا يوفّقون حتّى يثأر بثأر الحسين عليه‌السلام» (٥) فتأمّل في وجه التأييد!

وورد أيضا : «إنّ على الإمام عليه‌السلام أن يخرج من السجن من هو محبوس فيه ، ويوكّل عليهم حتّى إذا قضوا الصلاة ردّهم إليه» (٦).

وأيضا عرفت من أخبار صحاح ومعتبرة أنّ الإمام شرط (٧) ، ومرّ في بحث الجمعة أنّ المتبادر من لفظ «الإمام» على الإطلاق إمام العصر (٨) ، ولذا استدلّ الفقهاء الماهرون في الجمعة وفي المقام كذلك ، ومنهم العلّامة في «المنتهى»

__________________

(١) الكافي : ٤ / ١٦٩ الحديث ٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٤ الحديث ١٤٨٤.

(٣) رجال الكشّي : ٢ / ٨٣٠ الرقم ١٠٥٠.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٩ الحديث ٨٧٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٥ الحديث ٩٨٩٨.

(٥) الكافي : ٤ / ١٧٠ الحديث ٣ ، علل الشرائع : ٣٨٩ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ١٠ / ٢٩٥ الحديث ١٣٤٥٥ نقل بالمضمون.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٨٥٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٠ الحديث ٩٥٢٣ ، مع اختلاف.

(٧) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٠٣ الباب ٢ من أبواب صلاة الجمعة.

(٨) راجع! الصفحة : ٣٤١ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.


وغيره (١).

قال في «المدارك» : وعندي في هذا الاستدلال نظر ، إذ الظاهر من «الإمام» هنا إمام الجماعة لا الإمام عليه‌السلام ، كما يظهر من تنكير الإمام ولفظ الجماعة ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن سنان : «من لم يشهد جماعة الناس في العيدين فليغتسل وليتطيّب بما وجد وليصلّ وحده كما يصلّي في الجماعة» (٢).

وفي موثّقة سماعة : «لا صلاة في العيدين إلّا مع إمام ، وإن صلّيت وحدك فلا بأس (٣)» (٤).

أقول : يظهر من الموثّقة أنّ الإمام ليس إمام الجماعة حيث قال للصادق عليه‌السلام : متى يذبح؟ قال : «إذا انصرف الإمام» قلت : فإن كنت في أرض ليس فيها إمام فاصلّي بهم جماعة؟ فقال : «إذا استقبلت الشمس» فقال : «لا بأس أن تصلّي وحدك ولا صلاة إلّا مع إمام» (٥).

وقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا مع إمام» لعلّ الظاهر منه أنّ صلاة العيد لا يتحقّق ماهيّتها بغير إمام أو صحّتها ، وأنّ الحكم هكذا شرعا واقعا ، إلّا أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا لم يكن مبسوط اليد ودائما مع التقيّة والخوف ، ومن هذه الجهة لا يمكن تحقّقها منه إلى أن يخرج القائم عليه‌السلام أجاز الله تعالى صدورها منكم وحدكم ، كي لا تكونون

__________________

(١) منتهى المطلب : ٥ / ٣٣٤ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٢٠ و ٢١ المسألة : ٣٨٢ ، الروضة البهيّة : ١ / ٢٩٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٢٩٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الحديث ٩٧٥٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧١٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٧.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٤ مع اختلاف يسير.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٤٨ مع اختلاف يسير.


محرومين من هذه الفضيلة العظمى ، لكن هذه الصلاة ليست صلاة العيد حقيقة. كيف؟ وهي فريضة ، بل ومن الفرائض الشديدة ، فكيف تكون مستحبّة؟ فهي من قبيل اليوميّة المعادة وأمثالها ، كما مرّ في صلاة الجمعة (١). وعلى فرض صحّة وقوعها جماعة أيضا ، فهي في حكم الفرادى ، كما ظهر من بعض الأخبار في الجمعة (٢) ، وسيجي‌ء التحقيق في ذلك.

فقوله عليه‌السلام : «لا بأس أن تصلّي وحدك» لا ينافي قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا مع إمام» ، لأنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، ومرّ التحقيق في بحث الجمعة.

ويظهر منها أنّ سماعة كان يفهم من لفظ إمام هذه الصلاة إمام الأصل عليه‌السلام أو المنصوب لذلك ، ولذا سأل ما سأل ، فمراده أنّه إذا كنت في أرض ليس فيها إمام فاصلّي بهم جماعة ثمّ نذبح؟ لأنّ سؤاله أوّلا كان عن وقت الذبح ، ولمّا قال المعصوم عليه‌السلام : «بعد انصراف الإمام» سأل ثانيا ما سأل ، يعني لأجل وقوع الذبح بعد الصلاة ، كما أمرتم به.

وربّما يظهر من الجواب أنّه ما رخّصه للصلاة بهم ، لأنّه ما زاد في الجواب عن قوله : «إذا استقبلت الشمس» ، والسائل ما سأل عن وقت الصلاة ، بل سأل عن وقت الذبح.

بل الظاهر من قوله : «فاصلّي بهم» أنّه كان يعرف وقت الصلاة ، وما كان متحيّرا فيه ، مضافا إلى ظهوره قطعا ، لأنّه كان يرى متى يصلّي الأئمّة وينصرفون ويعلم هذا ، ولذا أجاب عليه‌السلام في الجواب الأوّل : «إذا انصرف الإمام» ولم يقل : متى ينصرف ، ولم يسأل الراوي عنه أيضا.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٣٢ ـ ٣٣٤ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٢ الباب ٦ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.


مع أنّ وقت الصلاة ليس استقبال الشمس ، بل طلوع الشمس بالنصّ (١) والإجماع ، كما سيجي‌ء ، ووقت الذبح متأخّر عن ابتداء وقت الصلاة ، كما قاله المعصوم عليه‌السلام ، فظهر أنّ قوله عليه‌السلام في الجواب الثاني : «إذا استقبلت الشمس» أنّه عليه‌السلام جعل الاستقبال وقت ذبحه.

والاكتفاء بذلك في الجواب من دون التعرّض لتجويز صلاته بهم أو عدمه ، ثمّ قاله بعد ذلك : «ولا بأس أن تصلّي وحدك ، ولا صلاة إلّا مع إمام» مجموعه ظاهر في عدم رضائه عليه‌السلام في صلاته بهم ، وأنّه فيه البأس ، مضافا إلى ظهور ذلك من الخارج ، لأنّهم كانوا في شدّة من التقيّة ، وصلاة العيد كانت منصب السلطان لا يفعلها إلّا منصوبه ، فكيف كان المعصوم عليه‌السلام يرضى بأن يرتكب منصب السلطان من دون نصبه؟ وقوله : «ولا صلاة» في مقام التعليل لذلك.

فيظهر أنّ المراد من «إمام» هنا أيضا هو المنصوب ، كما كان يفهم سماعة ، وما ذكرنا ظاهر على المتأمّل.

ولعلّه ممّا ذكر منع السيّد وغيره عن الجماعة عند فقد المنصوب ، وجوّزوا الفرادى (٢) كما سيجي‌ء ، إلّا أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «وحدك» أعمّ من الجماعة والفرادى التي لا يكون مع المنصوب ، كما روى سماعة في الجماعة : «أمّا مع الإمام فركعتان ، وأمّا من يصلّي وحده فأربع ، وإن صلّوا جماعة» (٣).

وما ذكره من أنّ تنكير لفظ «الإمام» و «الجماعة» ، شاهد على عدم إرادة المعصوم عليه‌السلام بخصوصه حقّ ، إلّا أنّه لا يظهر أنّه إمام الجماعة في الفريضة اليوميّة ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٦.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٤ ، الكافي في الفقه : ١٥٤.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٢١ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣١٤ الحديث ٩٤٤٥ مع اختلاف يسير.


بل الظاهر ، بل الصريح أنّه إمام العيد ـ كما قلنا في بحث الجمعة ـ ومصلّي العيد هو النائب المنصوب في جميع البلاد سوى الموضع الذي يكون محلّ المنوب عنه ، وربّما كان في ذلك الموضع أيضا يصلّي النائب ، لعروض مانع له عليه‌السلام.

وعرفت أيضا أنّ جميع امور الحكومة للإمام عليه‌السلام هكذا ، إذ محال أن يباشر بنفسه إلّا ما قلّ ، والقليل أيضا ربّما لا يكون لازم الصدور من المعصوم عليه‌السلام ، لأنّ فعل النائب هو فعل المنوب عنه بعينه ، وتمام التحقيق مرّ في بحث الجمعة (١).

وممّا ذكر ظهر عدم الفرق بين المعرفة والنكرة ، ولذا ورد في الأخبار كلاهما ، وزرارة يروي عن الباقر عليه‌السلام بعنوان المعرفة ، كما ذكرنا سابقا (٢) ، وبعنوان التنكير كما ذكرنا هنا (٣) ، والحكم والراوي والمروي عنه متّحد فيهما ـ وقد عرفت الحال في أنّ هذا دليل وحدة الروايتين ـ فعلى هذا يكون الظاهر منها عدم مشروعيّة الانفراد فيها ، كما نقل عن ظاهر الصدوق في «المقنع» (٤) وابن أبي عقيل (٥) ، فيكون مطابقة لصحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام عن صلاة يوم الفطر والأضحى ، قال : «ليس صلاة إلّا مع إمام» (٦).

وصحيحة الغنوي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الخروج في يوم الفطر والأضحى إلى الجبانة حسن لمن استطاع الخروج إليها» ، فقلت : إن كان مريضا

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٣٥ ـ ٣٣٩ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٥ ، راجع! الصفحة : ٣٥٢ من هذا الكتاب.

(٣) راجع! الصفحة : ٣٥٠ من هذا الكتاب.

(٤) المقنع : ١٤٩.

(٥) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥١.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٦.


لا يستطيع الخروج أيصلّي في بيته؟ قال : «لا» (١).

ورواية محمّد بن قيس ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّما الصلاة يوم العيد على من خرج إلى الجبانة ، ومن لم يخرج فليس عليه صلاة» (٢).

وكذا صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام : «لا صلاة إلّا بإمام» (٣).

وصحيحته الاخرى : «صلاة العيدين مع الإمام سنّة» (٤) ، وغير ذلك ممّا مرّ.

ولا يعارضها صحيحة عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من لم يشهد جماعة الناس في العيدين فليغتسل وليتطيّب بما وجد وليصلّ وحده كما يصلّي في الجماعة» (٥) ، لاحتمال إرادة ما ذكر في رواية سماعة في هذه الصحيحة أيضا.

وكذا الكلام في مرسلة ابن المغيرة عن بعض أصحابنا ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الفطر والأضحى؟ فقال : «صلّهما ركعتين في جماعة وغير جماعة وكبّر سبعا وخمسا» (٦).

ورواية منصور بن حازم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «مرض أبي يوم الأضحى

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢١ الحديث ١٤٦٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٨٦٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧٢١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٥٠.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٨٥١ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧٢٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٣ الحديث ٩٧٥١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٤٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٤ الحديث ٢٩٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٣ الحديث ١٧١٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤١٩ الحديث ٩٧٤٠.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٢٩٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الحديث ٩٧٥٤.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٥ الحديث ٢٩٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٥٩.


فصلّى في بيته ركعتين ثمّ ضحى» (١) ، لكن حمل الكلّ على ما ذكر لا يخلو عن بعد ظاهر.

ويشهد أيضا على ما ذكر وعلى أنّ الإمام ليس بإمام الجماعة صحيحة الحلبي أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الإمام لا يخرج يوم الفطر والأضحى ، [أ] عليه صلاة وحده؟ فقال : «نعم» (٢).

وصحيحة محمّد بن قيس ، عن الباقر عليه‌السلام : «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار في ذلك اليوم إن شهدا قبل الزوال ، وإن شهدا بعد الزوال أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم» (٣).

ورواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليهم‌السلام أنّه كان يقول : «إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول في خطبته [الاولى] : قد اجتمع عيدان فأنا اصلّيهما جميعا ، فمن كان مكانه قاصيا فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له» (٤) حيث أسند الإذن إلى نفسه ، إذ معلوم أنّ العادل من حيث أنّه عادل أي اختيار له بحسب الشرع في الإذن للناس في الانصراف عن الفريضة ، ولا يشترط في إمام الجماعة أن يكون حاكم الشرع بالبديهة ، وهذا الإذن منصب حاكم الشرع بالبديهة لا منصب أيّ عادل يكون؟ ..

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٨٦٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٥ الحديث ١٧١٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٥ الحديث ٩٧٥٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٢٩٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الحديث ٩٧٥٥ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٤ / ١٦٩ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٢ الحديث ٩٧٧٩ مع اختلاف يسير.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٧ الحديث ٣٠٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٨ الحديث ٩٨٢٨.


إلى غير ذلك ممّا مرّ في بحث الجمعة.

وبعد ما لاحظت جميع ما ذكرناه في الجمعة ، لعلّه لا يبقى لك تأمّل فيما ذكره الفقهاء من اشتراط الإمام أو من نصبه لوجوب هذه الصلاة.

ومن جملة الشرائط : الحريّة ، وعدم البعد بفرسخين أو أزيد ، وغير ذلك ممّا هو شرط في الجمعة ، لما عرفت من الإجماعات المنقولة المطابقة للفتاوى.

وفي «المدارك» : ويدلّ عليه ـ أي على ما ذكرنا ـ أصالة براءة الذمّة من وجوب هذه الصلاة على من لا تجب عليه الجمعة السالمة عمّا يصلح للمعارضة ، لانتفاء ما يدلّ على العموم فيمن تجب عليه (١) ، انتهى.

قال في «روض الجنان» : لعلّ السرّ في عدم وجوبها حال الغيبة مطلقا بخلاف الجمعة ، أنّ الواجب الثابت في الجمعة إنّما هو التخييرى كما مرّ ، أمّا العيني ، فهو منتف بالإجماع ، والتخييرى في العيد غير متصوّر ، إذ ليس معها فردا آخر يتخيّر بينها وبينه ، فلو وجبت لوجبت عينا ، وهو خلاف الإجماع (٢) ، انتهى.

وفي «المدارك» : أنّ هذا كلام ظاهري ، إذ لا منافاة بين كون الوجوب في الجمعة تخييريّا ، وفي العيد عينيّا ، إذا اقتضته الأدلّة.

وبالجملة ، تخصيص الأدلّة الدالّة على الوجوب بمثل هذه الروايات ، لا يخلو عن إشكال ، وما ادّعوه من الإجماع غير صالح ، لما بيّناه مرارا أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم عليه‌السلام في أقوال المجمعين ، وهو غير متحقّق هاهنا ، ومع ذلك الخروج من كلامهم مشكل ، واتّباعهم بغير دليل أشكل (٣) ، انتهى.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٦.

(٢) روض الجنان : ٢٩٩.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٥.


وقد عرفت أنّه رحمه‌الله قال لانتفاء ما يدلّ على العموم فيمن يجب عليه ، فكيف يدّعي العموم هنا بحيث لا يقبل تخصيصه بمثل الروايات المذكورة والإجماع الذي ادّعوه؟ إذ ظهر لك أنّ الإمام في مثل هذه الروايات ليس إمام الجماعة. ومع ذلك ، ظهور كونه إمام الجماعة في اليوميّة من أين؟ إذ الجماعة في المقام في مقابل الفرادى في المقام لا اليوميّة ، وهو ظاهر. واتّحاد المقام مع اليوميّة فرع الثبوت ، وإلّا فقد عرفت أنّ العبادة توقيفيّة ، لا مرجع فيها إلّا ببيان الشارع والثبوت منه ، ومن أين ثبت أنّ صلاة العيد هي مجرّد الأركان التي تكون في اليوميّة؟ إذ الإجماع لو لم يدلّ على كون العيد ـ الذي هو واجب عينا ، ووارد في الأخبار الدالّة على كونها فريضة ما يكون خلف السلطان المعصوم عليه‌السلام أو من نصبه ـ لا يدلّ على كونها أعم ، يعني أنّ الفرض منها ، والصحيح المطلوب بعنوان الوجوب هو الأعم ، إذ لا شكّ في فساده ، بل يصير القدر الثابت من طرف الإجماع هو الذي ذكره الفقهاء وإن سلّمنا عدم ثبوت ما ادّعوه من الإجماع.

مع أنّ قوله : الإجماع حجّة ، مع العلم القطعي بدخول المعصوم عليه‌السلام إن أراد القطع للمدّعين والناقلين ، فلا شكّ في حصوله لهم إذ لا شكّ في أنّهم ما كانوا فسّاقا ، بل ليسوا مدلّسين كذّابين.

مع أنّ المسلم إذا ادّعى شيئا ، فالأصل صحّة دعواه شرعا حتّى يثبت خلافه ، والعادل إذا أخبر لا يجوز التثبّت في خبره ، بل يجب قبوله ، كما هو المعروف في خبر الواحد الصادر منه. ولا شكّ في أنّ الإجماع عندنا هو الخبر ، لأنّه اتّفاق يحصل القطع منه بقول المعصوم عليه‌السلام ، كما اعترف به. وقول المعصوم عليه‌السلام هو الخبر بعينه ، كما عرفت.

وإن أراد حصول القطع له فكيف يقبل أخبار الآحاد ويقول بحجّيتها؟ مع


تصريحه بعدم حصول القطع له ، ولذا تكون أخبار الآحاد حجّة عنده ، ويعمل بها.

وبالجملة ، مرّ في صدر الكتاب وفي بحث الجمعة ما يزيد على ما ذكرنا هنا توضيحا.

مع أنّ القول بوجوب الجمعة تخييرا في زمان الغيبة ، والعيد عينا ، بالنسبة إلى الأدلّة شي‌ء عجيب! كيف؟ وهو رحمه‌الله في صلاة الجمعة أصرّ ما أصرّ وأنكر ما أنكر؟ وفي المقام يقول : الخروج عمّا عليه الأصحاب مشكل لأنّ في بحث الجمعة أتى بأقوال من الفقهاء ظاهرة في الوجوب العيني عنده.

وفي المقام يظهر منه عدم قائل بعينيّة وجوبها وأنّ السلطان أو من نصبه ليس بشرط ، إذ لو كان مطّلعا ، لكان يفعل ما فعله في الجمعة ، ولا أقلّ كان يشير إلى مخالف ، لا أنّه يسكت في مقام دعواهم الإجماع ، ويكتفي بعدم حصول القطع له في دعواهم ومع ذلك يقول : الخروج عن كلام الأصحاب مشكل ، الظاهر في عموم الأصحاب.

مع أنّك عرفت أنّ عدم وجود المخالف في المقام يكشف عن عدم المخالف في الجمعة ، لاعترافه بأنّ مقتضى عبارات الأصحاب اتّحاد الجمعة مع صلاة العيد في الشرائط ، ومعلوم أيضا أنّ الأمر كما اعترف به.

على أنّه في «روض الجنان» ادّعى الإجماع ، وبنى أمره عليه (١) ، فهو معتقد بالإجماع بلا شكّ ، وبناء كلامه إنّما هو على ذلك ، إلّا أنّه في مقام النكتة لعدم اختيار أحد من الأصحاب الوجوب في المقام ، مع اختيار المشهور والمعظم الوجوب التخييري في الجمعة.

مع كون الجمعة والعيدين متّحدين في الشرائط عند جميع الأصحاب ، وكون

__________________

(١) روض الجنان : ٢٩٩.


حالهما واحدا بحسب فتاواهم واتّفاقهم في هذه الفتوى ، بل وإجماعهم ، فكلامه رحمه‌الله محض الحقّ والصواب.

بل لا شبهة في أنّ الأمر كما قاله ، وأنّه السرّ في عدم اختيار أحد منهم الوجوب في المقام. لأنّ الوجوب يصير عينيّا فيلزم منه مخالفة الجمعة مع المقام بحسب الشرائط ، ومخالفتهما فيمن يجب عليه.

مع أنّه رحمه‌الله أيضا نقل الإجماع ، حيث قال : وإنّما وجبت على من تجب الجمعة عند علمائنا أجمع ووافقهم ، واستدلّ على ذلك بأصالة البراءة ، وانتفاء ما يدلّ على العموم فيمن تجب عليه ، كما عرفت (١).

ثمّ اعلم! أنّه رحمه‌الله قال في «الروض» : ولا مدخل للفقيه حال الغيبة في وجوبها وإن كان ما في الجمعة من الدليل قد يتمشّى هنا ، إلّا أنّه قد يحتاج إلى القائل ، ثمّ قال : ولعلّ السرّ في عدم وجوبها. إلى آخره ، كما ذكرناه (٢).

ومقتضى كلامه رحمه‌الله إنّ الفقاهة شرط في وجوب الجمعة ـ يعني الوجوب التخييري عند بعض الأصحاب ـ لكن في المقام لم يشترط أحد منهم مع تمشّي الدليل فيه أيضا ، إلّا أنّه لم يقل أحد بالوجوب هنا للسرّ المذكور ، فلذا لم يعتبر أحد منهم الفقاهة.

قوله : (سوى الخطبتين). إلى آخره.

فيه ، أنّ العلّامة في جميع كتبه صرّح بوجوب الخطبتين (٣) ، بل الظاهر من

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٩٦.

(٢) روض الجنان : ٢٩٩ ، راجع! الصفحة : ٣٥٩ من هذا الكتاب.

(٣) تحرير الأحكام : ١ / ٤٦ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٨ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٥٥.


«المنتهى» عدم الخلاف فيه (١) ، بل «المختلف» أيضا (٢).

وهو الظاهر من الشيخ في كتبه ، سيّما في «النهاية» (٣). وكذلك الصدوق (٤) ، بل الكليني أيضا (٥).

وابن إدريس أيضا صرّح بالوجوب (٦) ، واختاره المحقّق الشيخ علي في «شرح القواعد» (٧).

وجعل الشهيدان القول بالوجوب أحوط (٨) ، بل الشيخ في «المبسوط» حكم باشتراطهما أيضا (٩).

والحاصل ، إنّي لم أجد قائلا باستحبابهما ، غير ما نقل أنّ المحقّق في «المعتبر» ادّعى الإجماع على الاستحباب (١٠) ، فادّعى الشهيدان اشتهاره (١١).

وليس عندي نسخة «المعتبر» ، إذ الظاهر من «الشرائع» و «النافع» أيضا الوجوب لا الاستحباب ، لأنّه قال : استماعهما غير واجب (١٢) ، ولم يتعرّض

__________________

(١) منتهى المطلب : ٦ / ٥٠.

(٢) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧.

(٣) النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٥.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ، لاحظ! مفتاح الكرامة : ٣ / ١٧٨.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣.

(٦) السرائر : ١ / ٣١٧.

(٧) جامع المقاصد : ٢ / ٤٤١.

(٨) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٧٣ ، مسالك الأفهام : ١ / ٢٥٤ و ٢٥٥.

(٩) المبسوط : ١ / ١٦٩.

(١٠) المعتبر : ٢ / ٣٢٤.

(١١) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٧٣ ، روض الجنان : ٣٠٠.

(١٢) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٢ ، المختصر النافع : ٣٨.


لاستحبابهما أصلا.

والعلّامة مع التصريح بالوجوب ادّعى الإجماع على عدم وجوب الاستماع (١) ، مع أنّ الفقهاء ظهر منهم اتّحاد صلاة الجمعة وصلاة العيد من دون إظهار المخالفة في الخطبة ، وعرفت من الأخبار والفتاوى سابقا لو لم نقل بالإجماع. فقوله : (لاستحبابهما) مصادرة.

قوله : (وعدم وجوب استماعهما إجماعا).

ففيه أنّه مع وجود تلك الأخبار وفتاوى الأخيار ، كيف يثبت عليه هذا الإجماع بمجرّد دعوى العلّامة إيّاه في مقام الردّ على سائر الفقهاء؟! واختيار عدم الوجوب وعدم اشتراطهما ، واختيارهم اشتراطهما أيضا من جهة الأخبار ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي والحسن عليهما‌السلام ، إذ لا شكّ في أنّهم كانوا يخطبون في صلاة العيدين ، وثبت من الأخبار أيضا (٢).

وقد عرفت أنّ فعلهم عليهم‌السلام في مقام بيان الواجب التوقيفي حجّة ومبيّن ، ومداره على ذلك ، وإن كان في بعض المقامات يمنع ذلك ـ كما قلنا في بحث الجمعة ، وكون وجوبها غير عيني ، وفي بحث شرائط الجمعة ، فلاحظ ـ مع أنّك عرفت أنّ توقيفيّة العبادة تقتضي ذلك.

مع أنّه مرّ في صحيحة زرارة ، أن المعصوم عليه‌السلام أمره بالجلوس حتّى يفرغ الإمام حين سأله عليه‌السلام أنّه أدرك الإمام في خطبته (٣).

وظاهر ذلك وجوب الاستماع ، وإلّا لما كان جلوسه حتّى يفرغ واجبا ، مع

__________________

(١) منتهى المطلب : ٦ / ٥٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٢ الحديث ٩٨٠٨ و ٩٨١٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٣٠١.


أنّها صريحة في أنّ الخطبتين من جملة الصلاة وتتمّتها وآخرها ، وهذا في غاية الظهور في اشتراطهما ، وعدم صحّة الصلاة بدونهما ، فلاحظ وتأمّل!

وفي «الفقه الرضوي» قال عليه‌السلام : «فإنّ صلاة العيدين مع الإمام فريضة ، ولا تكون إلّا بإمام وخطبة» (١).

ويؤيّده ما رواه الصدوق في «العلل» و «العيون» ، عن الفضل ، عن الرضا عليه‌السلام قال : «إنّما جعلت الخطبة في يوم الجمعة في أوّل الصلاة وجعلت في العيدين بعد الصلاة ، لأنّ الجمعة أمر دائم ، وإذا كثر على الناس ملّوا وتفرّقوا عنه ، والعيد إنّما هو في السنة مرّتين ، والناس فيه أرغب ، وإن تفرّق بعض الناس بقي عامتهم» (٢).

مع أنّ اشتراط الخطبة في الجمعة إجماعي منصوص.

مع أنّ جمعا من الأصحاب قالوا بعدم وجوب استماعهما في الجمعة أيضا (٣).

مع أنّ العلّامة في «التذكرة» و «المنتهى» ادّعى الإجماع على عدم وجوب الاستماع (٤) ، مع تصريحه في الكتابين بوجوب الخطبتين (٥).

وروى العلّامة عن عبد الله بن السائب قال : شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة العيد ، فلمّا قضى الصلاة قال : «إنّما نخطب ، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب» (٦).

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا ٧ : ١٣١ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٢٢ الحديث ٦٥٨٨ مع اختلاف يسير.

(٢) علل الشرائع : ٢٦٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١١٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٣ الحديث ٩٨١٣.

(٣) المبسوط : ١ / ١٤٨ ، المعتبر : ٢ / ٢٩٤ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٧ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٣٨٤ و ٣٨٥.

(٤) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٣٨ ، منتهى المطلب : ٦ / ٥٢.

(٥) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٦١ و ٦٢ المسألة ٤٠٤ و ٤٠٥ ، منتهى المطلب : ٥ / ٣٤٣.

(٦) سنن الدار قطني : ٢ / ٣٨ الحديث ١٧٢٢ ، سنن النسائي : ٣ / ١٨٥.


مع أنّه ربّما يظهر من المعتبرة الآتية المتضمّنة لكون الخطبتين بعد الصلاة ، إلّا أنّ عثمان جعلهما قبلها ، وأحبس الناس لأن يستمعوا خطبته ، وأنّ الاستماع كان لازما (١) ، فتأمّل!

مع أنّ دلالة عدم وجوب الاستماع على عدم الوجوب ليس إلّا من جهة أنّ الفائدة والغرض من الخطبة منحصر في الاستماع والاتّعاظ ، وإلّا كان لغوا عبثا أن يقول : أيّها الناس اتّقوا الله ، ويعظ ويبالغ ، بل إظهار حمد الله تعالى ، والشهادة بالوحدانيّة والرسالة وأمثالهما ، قائما على رجله في محضر الناس متوجها إلى الناس على سبيل الإجهار لا الإخفات ، بعد أن يسلّم على الناس ، ومدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بينهم في الحالة المذكورة ، يكون كلّها مثل موعظته وترغيبه وترهيبه ونصيحته وتعليمه للناس أحكام الفطر ووقتها ومقدارها ، وكذلك الحال في أحكام الأضحية ، على ما سيقوله المصنّف رحمه‌الله في بيان كيفيّة الخطبتين في العيدين.

وبالجملة ، لا شبهة في أنّ الاستماع لو لم يكن واجبا ، لكان جميع ما ذكر لغوا ظاهرا ، بعيدا عن الحكيم ارتكابه والأمر به ، سيّما أحكم الحاكمين ، وخصوصا على رأي الشيعة.

ومعلوم أنّ ما ذكر كما ينفي الوجوب كذلك ينفي الاستحباب والطلب والترغيب والحثّ ، بل يقتضي الوجوب الشرطي بأنّهم إن كانوا يستمعون يرتكب ، وإلّا فلا ، ولم يقل أحد به.

والبناء على أنّهم في مقام الخطبة والموعظة يستمعون عادة ، وإن لم يستمع الكلّ فجمع منهم يستمع ، ولا أقلّ من استماع بعضهم ، وأنّه يكفي ، كما ينفع الاستحباب ينفع الوجوب أيضا ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤١ الحديث ٩٨٠٣.


قوله : (والمعتبرة). إلى آخره.

مثل صحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام في صلاة العيدين قال : «الصلاة قبل الخطبتين». إلى أن قال : «وكان أوّل من أحدثها بعد الخطبة عثمان لمّا أحدث أحداثه كان إذا فرغ من الصلاة قام الناس ليرجعوا ، فلمّا رأى ذلك قدّم الخطبتين على الصلاة واحتبس الناس للصلاة» (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : «أوّل من قدّم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان ، لأنّه كان إذا صلّى لم يقف الناس على خطبته وتفرّقوا ، وقالوا : ما نصنع بمواعظه وهو لا يتّعظ بها [وقد أحدث ما أحدث] ، فلمّا رأى ذلك قدّم الخطبتين على الصلاة» (٢).

وقد عرفت سابقا أنّ لفظة «يوم الجمعة» توهّم ، بل هو العيد ، ومسلّم هذا عند المصنّف رحمه‌الله وغيره.

وفي صحيحة معاوية أيضا : «أنّ الخطبة بعد الصلاة ، وإنّما أحدث الخطبة قبل الصلاة عثمان» (٣).

قوله : (وكيفيّتهما). إلى آخره.

لم يذكر كيفيّة أصل الصلاة أصلا اتّكالا على الإجماع في كونهما ركعتين ، مثل الصلاة اليوميّة بحسب الأجزاء والماهيّة ، غير أنّه زيد فيها تكبيرات وقنوتات على

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤١ الحديث ٩٨٠٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٢ الحديث ٩٥٠٩.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٠ الحديث ٩٨٠٢.


سبيل الوجوب أو الاستحباب ، ويذكر ذلك بعد هذا في مبحث القنوت للفرائض والمناسب التعرّض لجميع ما ذكر في المقام ، كما فعله الأصحاب.

وكيفيّتها أن يكبّر للإحرام ، ثمّ يقرأ «الحمد» وسورة ، والأفضل أن يقرأ «وَالشَّمْسِ وَضُحاها» وما شابهها ، ثمّ يكبّر بعد قراءتها ، ويقنت بعد التكبيرة بالمرسوم ثمّ يكبّر ثمّ يقنت ، وهكذا حتّى يتمّ خمس تكبيرات وخمس قنوتات ، ثمّ يكبّر للركوع ويركع ، ثمّ يرفع رأسه عن الركوع ، ثمّ يسجد سجدتين على طريقة ما كان يفعل في اليوميّة ، فإذا سجد سجدتين قام بغير تكبيرة ، فيقرأ «الحمد» ثمّ سورة ، والأفضل أن يقرأ «الغاشية» وأشباهها ، ثمّ يكبّر ، ثمّ يقنت بعد التكبيرة ، ثمّ يكبّر ، ثمّ يقنت بعدها ، وهكذا حتّى يتمّ أربع تكبيرات وأربع قنوتات ، ثمّ يكبّر للركوع ، ثمّ يركع ويسجد سجدتين ، ويتشهّد بعدهما ، ثمّ يسلّم على طريقة اليوميّة ، فيكون الزائد على المعتاد في اليوميّة تسع تكبيرات بعد كلّ تكبيرة قنوت.

والمستند في هذه الكيفيّة صحيحة يعقوب بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام عن التكبير في العيدين قبل القراءة أو بعدها؟ وكم عدد التكبير في الاولى وفي الثانية والدعاء فيهما؟ وهل فيهما قنوت أم لا؟ فقال : «تكبير العيدين للصلاة قبل الخطبة ، تكبّر تكبيرة تفتتح بها الصلاة ، ثمّ تقرأ وتكبّر خمسا وتدعو بينها ، ثمّ تكبّر اخرى وتركع بها ، فذلك سبع تكبيرات بالتي تفتتح بها ، ثمّ تكبّر في الثانية خمسا ، تقوم فتقرأ ، ثمّ تكبّر أربعا وتدعو بينهنّ ، ثمّ تكبّر التكبيرة الخامسة» (١).

وصحيحة معاوية ، قال : سألته عليه‌السلام عن صلاة العيدين؟ فقال : «ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء ، وليس فيهما أذان ولا إقامة ، تكبّر فيهما اثنتي عشر

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٨٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٩ الحديث ١٧٣٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٨ ، مع اختلاف.


تكبيرة ، تبدأ فتكبّر وتفتتح الصلاة ، ثمّ تقرأ «فاتحة الكتاب» ، ثمّ تقرأ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، ثمّ تكبّر خمس تكبيرات ، ثمّ تكبّر وتركع فتكون تركع بالسابعة وتسجد سجدتين ، ثمّ تقوم فتقرأ «فاتحة الكتاب» و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) ، ثمّ تكبّر أربع تكبيرات وتسجد سجدتين ، وتشهد وتسلّم» (١) ، الحديث.

وصحيحة محمّد عن أحدهما عليهما‌السلام في صلاة العيدين ، قال : «الصلاة قبل الخطبتين ، والتكبير بعد القراءة ، سبع في الاولى ، وخمس في الأخيرة» (٢).

وصحيحة جميل ، أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن التكبير في العيدين؟ قال : «سبع وخمس» ، وقال : «صلاة العيدين فريضة» ، وسألته ما يقرأ فيهما؟ قال :(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وأشباههما» (٣).

وصحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سأله عن الكلام الذي يتكلّم به فيما بين التكبيرتين في العيدين؟ فقال : «ما شئت من الكلام الحسن» (٤).

وظاهر كون ما بين التكبيرتين القنوت ـ كما يظهر منها ـ يفيد ما ذكرنا من أنّ القنوت خمس في الاولى وأربع في الأخيرة ، كما هو فتوى الفقهاء.

ويدلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام في «الفقه الرضوي» : «ويكبّر في الركعة الاولى بسبع تكبيرات ، وفي الثانية خمس تكبيرات ، يقنت بين كلّ تكبيرتين» (٥).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٨ الحديث ١٧٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٤ الحديث ٩٧٨٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٧ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٧ الحديث ٢٧٠ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٧ الحديث ١٧٢٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٨٦٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٧ الحديث ٩٨٨٠.

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٣١ و ١٣٢ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٢٦ الحديث ٦٦٠٣.


وفي القوي كالصحيح ، عن محمّد بن عيسى بن أبي منصور ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «تقول بين كلّ تكبيرتين [في صلاة العيدين] : اللهمّ أهل الكبرياء والعظمة ، وأهل الجود والجبروت ، وأهل العفو والرحمة ، وأهل التقوى والمغفرة ، أسألك في هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ذخرا ومزيدا أن تصلّي على محمّد وآل محمّد كأفضل ما صلّيت على عبد من عبادك ، وصلّ على ملائكتك [المقرّبين] ورسلك ، واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، اللهمّ إنّي أسألك خير ما سألك عبادك المرسلون ، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ بك منه عبادك المرسلون» (١).

وفي رواية جابر ، عن الباقر عليه‌السلام : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان إذا كبّر في العيدين قال بين كلّ تكبيرتين : أشهد أن لا إله إلّا الله» (٢). إلى آخره.

وفي رواية بشير بن سعد ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «تقول في دعاء العيدين بين كلّ تكبيرتين : الله ربّي» (٣). إلى آخره.

وفي قويّة محمّد بن الفضيل ، عن أبي الصباح ـ الصحيحة عندي ، لنقل التوثيق في محمّد بن الفضيل الراوي عن أبي الصباح (٤) ـ أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن التكبير في العيدين؟ فقال : «اثنتي عشرة : سبعة في الاولى ، وخمسة في الأخيرة ، فإذا قمت في الصلاة فكبّر واحدة ، تقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، اللهمّ أنت أهل الكبرياء والعظمة». إلى قوله : «وأعوذ بك من شرّ ما عاذ منه عبادك المخلصون ، الله أكبر أوّل كلّ شي‌ء». إلى

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٩ الحديث ٣١٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٨ الحديث ٩٨٨١.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٤٠ الحديث ٣١٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٨ الحديث ٩٨٨٢.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٦ الحديث ٨٥٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٩ الحديث ٩٨٨٣.

(٤) تعليقات على منهج المقال : ٣١٤ ـ ٣١٦.


قوله : «معلن السرائر ، الله أكبر عظيم الملكوت». إلى قوله : «كن فيكون ، الله أكبر خضعت لك الأصوات». إلى قوله : «ولا يتمّ منها شي‌ء دونك الله أكبر أحاط بكلّ شي‌ء». إلى قوله : «وخضع كلّ شي‌ء لملكك ، الله أكبر ، وتقرأ «الحمد» و «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ، وتكبّر السابعة وتركع وتسجد وتقوم ، وتقرأ : «الحمد» و «وَالشَّمْسِ وَضُحاها» ، وتقول : الله أكبر أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله تتمّه كلّه كما قلت أوّل التكبير ، يكون هذا القول في كلّ تكبيرة حتّى تتمّ خمس تكبيرات» (١).

وهذه الرواية صريحة فيما ذكرناه ، إلّا أنّه ربّما يتراءى كونها على طريقة ابن الجنيد ، لكنّه ليس فيها إلّا التقديم الذكري ، وليس فيها لفظ يفيد الترتيب ، لأنّ كلمة الواو لا تفيد الترتيب ، والترتيب الذكري ليس معتبرا ، سيّما وأن يعارض الأخبار الواضحة الدلالة ، وخصوصا أن يغلب عليها ، فالحمل على ما يوافقها متعيّن ، وأخبارهم يكشف بعضها عن بعض ، وتصير قرينة له ، خصوصا إذا لم يكن ظهور كامل.

وفي علل الفضل ، عن الرضا عليه‌السلام : «فإن قيل : فلم جعل اثنتا عشرة تكبيرة؟ قيل : لأنّه يكون في الركعتين اثنتا عشرة تكبيرة. فإن قيل : فلم جعل في الاولى سبع وفي الثانية خمس ولم يسوّ بينهما؟ قيل : لأنّ السنّة في صلاة الفريضة أن يستفتح بسبع تكبيرات فلذا بدأ هنا بسبع تكبيرات ، وجعل في الثانية خمس ، لأنّ التحريم من التكبير في اليوم والليلة خمس تكبيرات (٢).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٤ الحديث ١٤٨٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٩٠ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٩ الحديث ٩٨٨٤ مع اختلاف يسير.

(٢) علل الشرائع : ٢٧٠ الحديث ٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٢٢ و ١٢٣ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٣ الحديث ٩٧٨١ مع اختلاف يسير.


ويشهد على ما ذكرنا أيضا أنّ صلاة الاستسقاء مثل صلاة العيدين نصّا ووفاقا على الكيفيّة التي ذكرناها عند الفقهاء.

وورد في الأخبار أنّ صلاة الاستسقاء تكبّر فيها كما تكبّر في العيدين في الاولى سبعا ، وفي الثانية خمسا ، وتصلّي قبل الخطبة ويجهر فيها القراءة (١).

قال في «المختلف» : لا خلاف في عدد التكبير الزائد ، وأنّه تسع تكبيرات ، خمس في الاولى ، وأربع في الثانية (٢) ، انتهى.

وقد وقع الخلاف في هذه المسألة في مواضع.

الأوّل : إنّ التكبيرات التسع هل هي واجبة أم مستحبّة؟ الأكثر على الوجوب.

بل قال في «المختلف» : الأصحاب نصّوا على وجوبها ، بعد ما ذكر عن الشيخ في «التهذيب» : أنّ من أخلّ بها لم يكن مأثوما (٣).

وفي «المدارك» نقل عن المفيد خاصّة في مقنعه : أنّ من أخلّ بها لم يكن مأثوما (٤).

واستدلّ عليه في «التهذيب» بصحيحة زرارة : أنّ عبد الملك بن أعين سأل الباقر عليه‌السلام عن الصلاة في العيدين؟ فقال عليه‌السلام : «الصلاة فيهما [سواء] يكبّر الإمام تكبير الصلاة قائما كما يصنع في الفريضة ، ثمّ يزيد في [الركعة] الاولى ثلاث تكبيرات ، وفي الاخرى ثلاثا سوى تكبيرة الصلاة والركوع والسجود ، وإن شاء

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥ الباب ١ من أبواب صلاة الاستسقاء.

(٢) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٥.

(٣) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٧.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٤.


ثلاثا وخمسا ، وإن شاء خمسا وسبعا بعد أن يلحق ذلك إلى الوتر» (١).

وأجاب عنه في «الاستبصار» بالحمل على التقيّة ، لموافقتها لمذهب كثير من العامّة ، قال : ولسنا نعمل به ، وإجماع الفرقة المحقّة على ما قدّمناه (٢).

ومراده أنّ كون التكبير تسعا إجماع الفرقة المحقّة ، فلا نعمل بأمثال هذه الرواية ، فظهر منه أنّ ما ذكر ليس مذهب الشيخ ، وأنّ المفيد لا دليل له على ما وصل إلينا.

وأمّا دليل باقي الفقهاء توقيفيّة العبادة ، ولا يثبت كون الصلاة الخالية عن التكبيرات صلاة العيد شرعا ، فانحصر في الكائنة بالتكبيرات ، وللتأسّي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذكرها في مقام بيان هذه الصلاة ، كما عرفت هنا ، وفي بحث اشتراط الخطبة ولظاهر الأمر وهو لفظ «كبّر» الواردة في قويّة سليمان ، ولفظ «تكبّر» الوارد في الصحاح والمعتبرة الكثيرة.

ولما يظهر من علل الفضل ، عن الرضا عليه‌السلام حيث قال عليه‌السلام : وإنّما جعل التكبير فيها أكثر. إلى أن قال : وإنّما جعل التكبير فيها اثنتي عشرة (٣). إلى آخر ما قال ، فلاحظ وتأمّل!

الثاني : الأصحاب على أنّ التكبير في الركعتين معا بعد القراءة ، سوى ابن الجنيد حيث ذهب إلى أنّ التكبير في الاولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها (٤) ، لصحيحة ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «التكبير في العيدين في الاولى سبع قبل

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٤ الحديث ٢٩١ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٧ الحديث ١٧٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٨ الحديث ٩٧٩٧.

(٢) الاستبصار : ١ / ٤٤٨ ذيل الحديث ١٧٣٢.

(٣) علل الشرائع : ٢٧٠ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٣ الحديث ٩٧٨١.

(٤) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٢.


القراءة ، وفي الأخيرة خمس بعد القراءة» (١).

وصحيحة إسماعيل بن سعد ، أنّه سأل الرضا عليه‌السلام عن التكبير في العيدين؟ قال : «التكبير في الاولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الأخيرة خمس [تكبيرات] بعد القراءة» (٢).

ومثلها صحيحة هشام بن الحكم ، عن الصادق عليه‌السلام (٣) ، وموثّقة سماعة المضمرة (٤).

وأمّا مستند باقي الأصحاب ، باقي الأخبار الواردة في كيفيّة هذه الصلاة ، وهي من الكثرة بمكان ، وكثير منها صحاح والبواقي معتبرة ، وقد ذكر بعض منها في بحث اشتراط الخطبة وكيفيّة هذه الصلاة ، فلاحظ.

وأجاب الشيخ عن مستند ابن الجنيد بالحمل على التقيّة ، لموافقته لمذهب بعض العامّة (٥) ، ولم يرتضه في «المعتبر» ، معلّلا بأنّ الصدوق ذكر ذلك في كتابه ، بعد أن ذكر في خطبته ، أن لا يودعه إلّا ما هو حجّة له ، قال : فالأولى أن يقال : فيه روايتان أشهرهما ما اختاره الشيخ (٦) ، انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣١ الحديث ٢٨٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٩ الحديث ٩٧٩٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣١ الحديث ٢٨٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٩ الحديث ٩٨٠٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٤ الحديث ٨٤٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٨ الحديث ٩٧٩٦.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٠ الحديث ٢٨٣ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٩ الحديث ٩٧٩٩.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣١ ذيل الحديث ٢٨٥.

(٦) المعتبر : ٢ / ٣١٣.


ولا يخفى فساد ما ذكره ، إذ كم من خبر في «الفقيه» مبني على التقيّة بحيث لا تأمّل فيه ، مع أنّ مجرّد ما ذكره في الخطبة لا يمنع الحمل على التقيّة ، ولا يوجب منع هذا الحمل بعد ما ظهر على مجتهد آخر ، سيّما مثل الشيخ ممّن ليس له نظير في معرفة مذاهب العامّة وما هو مناسب مذهبهم ، سيّما مع عدم ظهور قول الصدوق بمضمونها ، إذ في «الفقيه» كثيرا ما يأتي بالخبر الذي لا يفتي به ، بل يفتي بخلافه ولذا قال جدّي العلّامة المجلسي رحمه‌الله في شرحه على ذلك الكتاب : أنّه رحمه‌الله رجع عمّا ذكره في الخطبة بعد ما دخل في كتابه (١).

مع أنّ فتواه في «الفقيه» ليس إلّا على وفق ما ذهب إليه باقي الأصحاب (٢) ، وخالف ابن الجنيد صريحا ، بحيث لا يبقى مجال للشبهة أصلا.

نعم ، بعد ما أفتى صريحا بأنّ التكبير في الاولى أيضا بعد القراءة ، روى رواية أبي الصباح ، وقد عرفت عدم دلالتها على مذهب ابن الجنيد (٣) ، لأنّ كلمة الواو لا تفيد الترتيب ، كما أنّ الترتيب الذكري أيضا لا يفيد الترتيب على ما عليه المحقّقون.

مع أنّ الظاهر حملها على ما أفتى به ، ولذا ما نسبه أحد إلى موافقته لابن الجنيد ، بل صرّح في «المدارك» بموافقة الصدوق للمشهور (٤).

مع أنّ غالب ما حمل على التقيّة وحمله عليها من المسلّمات والمقبولات ليس بحيث اتّفق الشيعة على خلافه ، بل وافقهم بعضه ، حتّى حلّية القياس وافقهم ابن

__________________

(١) روضة المتّقين : ١ / ١٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٤ ذيل الحديث ١٤٨٤.

(٣) راجع! الصفحة : ٣٧٠ و ٣٧١ من هذا الكتاب.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٥.


الجنيد (١).

وليس شرط الحمل على التقيّة أن لا يختاره أحد من الشيعة ، ولم يقل أحد باشتراطه ، وعدم ذهاب أحد من الأصحاب إلى القول بمضمونها سوى ابن الجنيد من أقوى الشهود على كون تلك الأخبار محمولة على التقيّة ، كما لا يخفى على المطّلع.

على أنّه ورد في الأخبار أنّ المشتهر بين الأصحاب يرجّح على غير المشتهر ، ويؤخذ به البتة (٢) ، كما ذكرنا في «الفوائد» (٣) ، ومدار الفقهاء أيضا على ذلك ، ولا شكّ في كون المذهب المشهور هو المشتهر ، كما هو محقّق وظاهر ، بل ادّعي في المقام الإجماع ، مع أنّ مستند المعظم في غاية الكثرة ، وهو أيضا مرجّح آخر مقبول عندهم ، مع أنّ الأشهريّة أيضا مرجّح آخر مقبول عقلا ونقلا ، فلا وجه للتأمّل بالنحو الذي ذكره ، فتأمّل!

الثالث : نقل عن المفيد أنّه يكبّر للقيام إلى الثانية ويقرأ ، ثمّ يكبّر ثلاثا ويقنت ثلاثا (٤) ، وفي «المدارك» : ولم نقف له على شاهد (٥) ، انتهى.

أقول : المفيد رحمه‌الله أفتى بالتكبير للقيام إلى الثانية في اليوميّة ، لحديث رواه وسنذكره ، ولا شكّ في أنّ هذه الصلاة على كيفيّة اليوميّة إجماعا مع زيادة التكبيرات ، وأمّا كون التكبير بعد القراءة ثلاثا ، فلصحيحة عبد الملك المذكورة

__________________

(١) لاحظ! رجال النجاشي : ٣٨٨ الرقم ١٠٤٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٢١٩.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٦ ، لاحظ! المقنعة : ١٩٥.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٦.


التي كانت مستنده (١) ـ فلاحظ وتأمّل ـ إذ يظهر منها استحباب الثلاث على أيّ تقدير ، وأنّه المقرّر شرعا ، والزائد عنها موكول على مشيّة المكلّف ، لكن ظهر لك ضعف ما اختاره.

الرابع : المشهور عند الفقهاء أنّ القنوتات أيضا تسعة : خمسة في الاولى ، وأربعة في الأخيرة ، كما سيذكره المصنّف رحمه‌الله من غير نقل خلاف فيه (٢).

لكن نقل في «المختلف» عن المفيد أنّه يكبّر في الاولى سبع تكبيرات مع تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع ، ويقنت خمس مرّات ، فإذا نهض إلى الثانية كبّر وقرأ ، ثمّ كبّر أربع تكبيرات يركع بالرابعة ، ويقنت ثلاث مرّات ، وهو اختيار المرتضى وابن بابويه وأبي الصلاح وابن البرّاج وسلّار ، والأقوى عندي الأوّل لنا. إلى أن قال : ولأنّها ثنائيّة فلا يكبّر قبل القراءة في الثنائيّة كالصبح (٣) ، انتهى.

ويظهر من هذا أنّ المفيد رحمه‌الله يقول بأن إحدى التكبيرات الزائدة مقدّمة على القراءة ، وإن كان نقل عنه : أنّه يقول في الثانية بالتكبير للقيام ، كما ذكرنا سابقا. فعلى هذا لم نقف له على شاهد ، كما قال في «المدارك» ، ومع ذلك قال : وهو اختيار المرتضى وابن بابويه وغيرهما (٤).

ولعلّ مراده خصوص كون القنوت ثلاث مرّات في الثانية ، لأنّه ما نسب الأوّل إلّا إلى المفيد ، كما فعله في «المدارك» أيضا.

لكن الذي يظهر من «المدارك» أنّه لم يتحقّق خلاف في القنوتات إلّا ما ظهر من الصدوق ، وقال : إنّ المستفاد من الروايات سقوط القنوت بعد الخامسة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٨ الحديث ٩٧٩٧ ، راجع! الصفحة : ٣٧٢ و ٣٧٣ من هذا الكتاب.

(٢) مفاتيح الشرائع : ١ / ١٤٩.

(٣) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٦.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٥ و ١٠٦.


والسابعة ، كما في صحيحة يعقوب المتقدّمة : «ثمّ يكبّر خمسا ويدعو بينها ، ثمّ يكبّر اخرى ويركع بها» (١) وفي رواية إسماعيل الجعفي : «ثمّ يكبّر أربعا يقنت بينهنّ» (٢).

وهو الظاهر من كلام الصدوق رحمه‌الله ، فإنّه قال : يبدأ الإمام فيكبّر واحدة ، ثمّ يقرأ «الحمد» و «سبّح اسم» ثمّ يكبّر خمسا يقنت بين كلّ تكبيرتين ، ثمّ يركع بالسابعة (٣) ، انتهى (٤).

أقول : قد عرفت أنّ الظاهر من كثير من الروايات كون القنوت تسعا (٥) ، وهو المفتى به.

ويظهر منها أنّ المراد من كلمة (بين) معنى (بعد) أو (مع) فيما ذكره من الأخبار ، أي بعد كلّ تكبيرة منها أو معها ، كما هو المعهود ، فإنّ الإضافة هنا تفيد العهد ، لأنّه لمّا صار في شرف البينونة أطلق عليه لفظ (بين) ، أو الضمير يكون راجعا إلى مجموع التكبيرات على سبيل الاستخدام.

ولذا في «الشرائع» ذكر هذا على وفق ما ذكره من الأخبار مع تصريحه بكون القنوت تسعا (٦).

ولذا قال في «المدارك» : إنّه تجوّز (٧) ، فمراده رحمه‌الله إظهار المراد ممّا هو في هذه الأخبار من جهة فهم الفقهاء وفتاواهم ، بسبب ما يظهر من أخبار اخر كثيرة ، وقد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٨٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٩ الحديث ١٧٣٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٦ الحديث ٩٧٩٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٤ ذيل الحديث ١٤٨٤.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٩.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٣ الباب ١٠ من أبواب صلاة العيد.

(٦) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٠.

(٧) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٩.


ذكرنا قدرا منها.

فربّما كان الصدوق مثل المحقّق في «الشرائع» ، ويشهد على ذلك أنّه نقل بعد ذلك ـ بلا فصل ـ رواية أبي الصباح الصريحة في كون القنوت في الاولى خمسا وفي الثانية أربعا ، وقد ذكرنا الرواية بطولها (١).

الخامس : اختلف الأصحاب في وجوب تلك القنوتات واستحبابها ، فأكثرهم على الوجوب ، ونقل عن «الخلاف» أنّه مستحبّ (٢) ، ووافقه المحقّق (٣).

مستند الأكثر الأخبار الدالّة على الأمر به ، مثل صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدّمة ، حيث سأل الكاظم عليه‌السلام عن التكبير في العيدين ، قبل القراءة أو بعدها؟. إلى أن قال : وهل فيها قنوت أم لا؟ فقال : «تكبير العيدين للصلاة قبل الخطبة تكبّر تكبيرة تفتتح بها الصلاة ، ثمّ تقرأ وتكبّر خمسا ، وتدعو بينها ، ثمّ تكبّر اخرى وتركع بها ، فذلك سبع تكبيرات بالتي افتتح بها ، ثمّ تكبّر في الثانية خمسا ، تقوم وتقرأ ، ثمّ تكبّر أربعا وتدعو بينهنّ ، ثمّ تكبّر التكبيرة الخامسة» (٤).

والدلالة من وجوه متعدّدة :

منها : الأمر بها ، وهو حقيقة في الوجوب.

ومنها : أنّه سأل هل فيها قنوت أم لا؟ فقال : نعم ، وظاهر السؤال ، أنّه مأخوذ في ماهيتها القنوت أم لا ، والسياق ظاهر في إرادته الوجوب.

ومنها : ذكره على نهج الواجبات الاخر.

ومنها : كون السؤال والجواب في بيان هذه الصلاة ، فتأمّل!

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٧٠ و ٣٧١ من هذا الكتاب.

(٢) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٧ ، لاحظ! الخلاف : ١ / ٦٦١ المسألة ٤٣٣.

(٣) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٢ ، المختصر النافع : ٣٨.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٨.


ويدلّ عليه أيضا رواية علي بن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام ـ وادّعى الشيخ الإجماع على العمل بروايته (١) ـ أنّه سأل الصادق عليه‌السلام ، فقال : «تكبّر ثمّ تقرأ ثمّ تكبّر خمسا ، فتقنت بين كلّ تكبيرتين». إلى أن قال : «تكبّر أربعا فتقنت بين كلّ تكبيرتين» (٢).

ومثلها رواية إسماعيل بن جابر عن الباقر عليه‌السلام (٣) ، إلى غير ذلك من الروايات التي ذكرت في بحث عدد القنوت.

والوجوه الثلاث من الدلالة موجودة في كثير منها ، وفي بعضها من وجهين ، وفي بعضها من الأمر به.

وحجّة الشيخ ـ على ما نقل عنه ـ أصل البراءة (٤).

وفيه ، أنّ الأصل لا يعارض الدليل ، فكيف الأدلّة الكثيرة الظاهرة الدلالة ، المتعدّدة الدلالة ، المطابقة لفتوى الأصحاب ، حتّى الشيخ في غير «الخلاف» (٥).

وفي «المدارك» : وقد يقال : هاتان الروايتان ـ يعني صحيحة يعقوب وقويّة إسماعيل بن جابر ـ لا تنهضان حجّة في إثبات مخالف الأصل ، خصوصا مع معارضتها لعدة أخبار واردة في مقام البيان ، خالية عن ذكر القنوت (٦) ، انتهى.

قد ظهر لك عدم انحصار الدليل في الروايتين المذكورتين ، بل الروايات في

__________________

(١) لاحظ! عدّة الاصول : ١ / ١٥٠.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٠ الحديث ٢٧٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٨ الحديث ١٧٣٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٤ الحديث ٩٧٨٣ مع اختلاف يسير.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٨٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٩ الحديث ١٧٣٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٦ الحديث ٩٧٩٠.

(٤) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٧.

(٥) المبسوط : ١ / ١٧٠ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٥.

(٦) مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٧.


غاية الكثرة ، مع صحّة بعضها ، واعتبار البعض الآخر.

سلّمنا ، لكن صحيحة يعقوب تكفي للخروج عن الأصل بلا شبهة ، ومداره على ذلك ، وغير الصحيحة المنجبرة بالشهرة أيضا كذلك ، سيّما مثل هذه الشهرة ، وسيّما مع الانضمام بالصحيحة.

وقوله : (خصوصا). إلى آخره ، فيه ، أنّ التعارض فرع التقاوم ، ولم نجد ما يقاوم ما ذكر سندا ودلالة ، إذ المعارض هو صحيحة معاوية التي ذكرناها في بحث اشتراط الخطبة (١) ، وهي مضمرة ، والمضمر لا يقاوم المصرّح باسم المعصوم عليه‌السلام.

ومع ذلك فيها محمّد بن عيسى ، عن يونس ، وصاحب «المدارك» لا يعتبر رواية سندها كذلك ، سيّما في مقام التعارض (٢).

ومع ذلك في تلك الرواية بعد القدر الذي ذكرناه ، قال : «وكذلك صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى آخر الرواية (٣).

ولا شبهة في أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقنت ، وكذلك أمير المؤمنين والحسن عليهما‌السلام ، مع أنّهم عليهم‌السلام أمروا بالقنوت ، فكيف يكونون ممّن يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم؟ حاشاهم ، وكذا ممّن يقول ما لا يفعل حاشاهم عليهم‌السلام.

بل في موثّقة سماعة : «أنّه ينبغي للإمام أن يتضرّع بين كلّ تكبيرتين ويدعو الله» (٤) الحديث.

وبالجملة ، ظهر غاية الظهور أنّ المقام ما كان يقتضي التعرّض لذكر القنوت.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٦٨ و ٣٦٩ من هذا الكتاب.

(٢) مدارك الأحكام : ٣ / ٣٥٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٤ الحديث ٩٧٨٢.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٠ الحديث ٢٨٣ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٠ الحديث ١٧٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٩ الحديث ٩٧٩٩.


مع أنّه ذكر في رواية معاوية مستحبات ومكروهات ، مثل كون الإمام يلبس بردا ويعمم ، ويخرج إلى البرّ ، ولا يصلّي على حصير ، ولا يسجد عليه ، وأنّه يقرأ و «الشمس» و «الغاشية» ، وغير ذلك.

ولا شبهة في كون القنوت أهمّ ممّا ذكر أو بعضه على ما يظهر من الأخبار (١) ، وكون الفقهاء على الوجوب (٢) ، وعلى فرض التساوي لم لم يتعرّض لذكره مع التعرّض لتلك المستحبّات؟ فظهر أنّ المقام ما اقتضى ، هذا حال رواية معاوية.

وأمّا غيرها فلم نجد ما يعارض أصلا ، فضلا عن أن يقاوم ، إذ ربّما كانوا يسألون عن خصوص التكبير أو غيره ، وما سألوا عن بيان صلاة العيد ، ولا تعرّضوا عليهم‌السلام له ، ولم يذكروا القنوت ، حتّى يقول في «المدارك» ما يقول.

نعم ، في صحيحة ابن مسلم ـ التي ذكرناها في بحث اشتراط الخطبة ـ عن أحدهما عليهما‌السلام في صلاة العيد قال : «الصلاة قبل الخطبة» (٣) ، الحديث.

وغير خفي أنّه سأل عن أمر في صلاة العيد لا عن ماهيّتها ، ولذا لم يذكر بمجموع الماهيّة ، بل بعضه.

فظهر أنّ السؤال ما كان عن الامور المذكورة ، وربّما يظهر منها أنّ المهمّ بيان أنّ الخطبة قبل الصلاة أو بعدها.

وبالجملة ، لا شبهة في عدم وجود معارض سوى هاتين الروايتين ، وقد عرفت عدم المعارضة فضلا عن المقاومة ، لأنّ الروايتين كيف تقاوم الأخبار التي لا تحصى؟ مع وضوح دلالتها وضعف دلالتهما لو سلّم الدلالة ، وكونها مطابقة

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٢ الحديث ٢٨٧ و ٢٨٨ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٩ الحديث ١٧٣٧ و ١٧٣٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٨ ، ٤٣٦ الحديث ٩٧٩٠.

(٢) الانتصار : ٥٧ ، مدارك الأحكام : ٤ / ١٠٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤١ الحديث ٩٨٠٣ ، راجع! الصفحة : ٣٦٧ من هذا الكتاب.


للفتاوى التي لا تحصى لو لم نقل بالإجماع ، وكونهما مخالفة لها ، بل الشيخ في «الخلاف» أيضا ما استدلّ بهما ، كما عرفت.

السادس : الأقوى أنّه لا يتعيّن في القنوت لفظ مخصوص ، لما ورد في الأخبار من الاختلاف عند ذكر كيفيّته ، ولصحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام عن الكلام الذي يتكلّم به فيما بين التكبيرتين في العيدين ، فقال : «ما شئت من الكلام الحسن» (١).

وربّما يظهر عن أبي الصلاح وجوب الدعاء بالمرسوم (٢) ، وهو أولى وأحوط ، بل الأولى المرسوم المعهود بين الفقهاء.

السابع : أجمع الأصحاب على وجوب قراءة سورة بعد «الحمد» ، وأنّه لا يتعيّن سورة مخصوصة ، قاله في «التذكرة» (٣).

وفي «المختلف» أيضا نفي الخلاف (٤).

والظاهر من المصنّف عدم وجوبها ، لأنّه حكم باستحبابها في الفرائض اليوميّة ، ولم يذكر أنّها واجبة في صلاة العيدين ، وقد عرفت أنّه اكتفى بما ذكره في اليوميّة في بيان هيئة هذه الصلاة وأجزائها.

وقد عرفت أنّ الإجماع المنقول حجّة ، ومع ذلك الأخبار ربّما كانت ظاهرة في الوجوب ، مثل قويّة إسماعيل بن جابر السابقة ، عن الباقر عليه‌السلام في صلاة العيدين ، قال : «يكبّر واحدة يفتتح بها ثمّ يقرأ أمّ الكتاب وسورة». إلى أن قال : «ويقرأ أمّ القرآن وسورة ، يقرأ في الاولى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، وفي الثانية

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٧ الحديث ٩٨٨٠.

(٢) الكافي في الفقه : ١٥٤.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٣٤ المسألة ٤٤٥.

(٤) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٥٤.


(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) ، الحديث.

وكون هذه على الاستحباب لا يقتضي أن تكون السابقة محمولة عليه ، لما عرفت من أنّ خروج بعض الخبر عن الظاهر لا يقتضي خروج الباقي ، مضافا إلى أنّه ما قال : يقرأ أمّ الكتاب ويقرأ سورة ، بل قال : «يقرأ أمّ الكتاب وسورة» ، وقراءة أمّ الكتاب واجبة قطعا فكذا السورة ، لأنّ لفظة «يقرأ» كلمة واحدة تعلّقت بهما معا ، فيكون وجوب قراءة «الحمد» كاشفا عن وجوب قراءة السورة أيضا ، والكلمة الواحدة لا تكون لها معنيان متضادّان.

وحملها على إرادة الطلب خلاف الأصل والظاهر ، لا يصار إليه إلّا بقرينة ، وهي منتفية لو لم نقل بالقرينة على إرادة المعنى الحقيقي ، وهي إجماع الأصحاب.

وباقي الأخبار وردت بلفظ «يقرأ» أو «فيقرأ» ، ولا خفاء في إرادة الوجوب منه ، وعدم القصر في قراءة «الحمد» وحده ، لكون قراءة السورة أيضا مطلوبة في المقام ، متداولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام والمسلمين في الأعصار والأمصار لو لم نقل بالإجماع على وجوبها.

مع أنّك عرفت الإجماع المنقول ، مع أنّ الفتاوى متّفقة على ذلك بحسب الظاهر ، ولم يخالف أحد من المتقدّمين والمتأخّرين ، وإلّا لذكر البتة.

وبالجملة ، لا تأمّل في كون المراد من القراءة قراءة «الحمد» والسورة جميعا لا خصوص «الحمد» ، فتأمّل في الأخبار تجد ، سيّما بملاحظة أنّ المجملات من الأخبار تحمل على المفصّلات ، والمطلقات على المقيّدات.

ثمّ إنّهم اختلفوا في الأفضل ، فأكثرهم اختاروا «الشمس» في الاولى ، و «الغاشية» في الثانية ، ودلّ عليه صحيحة جميل السابقة (٢) ، لكن فيها :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٦ الحديث ٩٧٩٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٥ الحديث ٩٧٨٤ ، راجع! الصفحة : ٣٦٩ من هذا الكتاب.


«وأشباههما».

وقيل : في الاولى «الأعلى» وفي الثانية «والشمس» (١) ، لرواية إسماعيل بن جابر السابقة (٢) ، والكلّ حسن ، وإن كان الأوّل أحسن.

وينبغي التنبيه لأمور.

الأوّل : يستحبّ رفع اليدين مع كلّ تكبيرة لرواية يونس ، قال : سألته عن تكبير العيدين أيرفع يده مع كلّ تكبيرة أم يجزيه أن يرفع في أوّل التكبير؟ فقال : «[يرفع] مع كلّ تكبيرة» (٣).

الثاني : إذا نسي التكبيرات الزائدة أو بعضها حتّى ركع ، قيل : يمضي ولا شي‌ء عليه ، لأنّها ليست أركانا (٤).

أقول : قد حقّق في «الفوائد» أنّ الأصل في كلّ جزء الركنيّة حتّى يثبت خلافه ، لأنّ الشارع إذا كان لمطلوبه جزء فنسي لم يكن ذلك الذي فعله مطلوبه ، ولا يكون الآتي بما بقي ممتثلا ، لأنّه لم يأت بتمام مطلوبه بل لم يأت بمطلوبه ، لأنّ الخالي عن الجزء ليس مطلوبه ، وقضاء ذلك الجزء أيضا لا ينفع ، لأنّ مطلوبه لم يكن بهذا النحو (٥).

وأمّا في صحيحة ابن سنان : «إذا نسيت شيئا من الصلاة ركوعا أو سجودا أو تكبيرا ثمّ ذكرت فاصنع الذي فاتك سهوا» (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٤ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٥ ، المبسوط : ١ / ١٧٠ ، المختصر النافع : ٣٧ ، قواعد الأحكام : ٣٨.

(٢) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٨٦٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٤ الحديث ٩٨٩٦.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٢٢.

(٥) الفوائد الحائريّة : ٣٥١.

(٦) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥٠ الحديث ١٤٥٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٨ الحديث ١٠٥٣٠.


ففيه ، أنّ الركوع والتكبير لا يقضيان ، وكذلك السجدتان عند الأصحاب ، ومع ذلك شمولها للمقام لا بدّ فيه من تأمّل ، ومقتضى الركنيّة الإعادة ، اللهمّ إلّا أن يكون إجماع على عدم الركنيّة ، وستعرف باقي الأحكام.

الثالث : لو شكّ في عدد التكبير بنى على الأقلّ ، لأنّه المتيقّن ، والأصل عدم الزائد ، فلو أتى بالمشكوك ، ثمّ ذكر أنّه كان قد أتى به أوّلا ، قيل : لم يضرّه لعدم الركنيّة (١) ، وفيه ما عرفت.

الرابع : كلّ ما ذكر في التكبير فهو جار في القنوت أيضا ، لما عرفت ، فمقتضى ذلك كون القنوتات أيضا في هذه الصلاة أركانا تبطل بترك واحد منها سهوا ، كما ذكر في ترك التكبيرات الزائدة ، أو واحدة منها سهوا.

لكن ورد في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام : «إنّ الصلاة لا تعاد إلّا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» ، ثمّ قال : «القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، [والتكبير سنّة] ، فلا تنقض السنّة الفريضة» (٢).

ولا شكّ في أنّ المراد حال عدم التعمّد للإجماع والأخبار.

وفي الصحيح أيضا عن الباقر عليه‌السلام عن الفرض في الصلاة ، فقال : «الوقت ، والطهور ، والقبلة ، والتوجّه ، والركوع ، والسجود ، والدعاء» وما سوى ذلك «فسنّة في فريضة» (٣).

ولعلّ السنّة حالها حال غير الركن على ما أظن ، لصحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام : «إنّ الله فرض الركوع والسجود ، والقراءة سنّة ، فمن ترك القراءة

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٢٢.

(٢) الخصال : ١ / ٢٨٤ الحديث ٣٥ ، وسائل الشيعة : ٥ / ٤٧١ الحديث ٧٠٩٠.

(٣) الكافي : ٣ / ٢٧٢ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٤١ الحديث ٩٥٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٥ الحديث ٥١٩٣ مع اختلاف يسير.


متعمّدا أعاد الصلاة ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته» (١).

ومثلها صحيحة زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام (٢).

وصحيحة ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله فرض من الصلاة الركوع والسجود ألا ترى لو أنّ رجلا دخل في الإسلام ، لا يحسن أن يقرأ القرآن أجزأه أن يكبّر ويسبّح ويصلّي» (٣) ، وسيجي‌ء التحقيق في ذلك في محلّه.

فعلى هذا تكون الصلاة صحيحة ، لا يجب إعادتها بسبب ترك التكبيرات ، أو واحدة منها (٤) سهوا أو نسيانا ، إلّا أنّه ربّما يخدش أنّ المتبادر من لفظ الصلاة لعلّه الفريضة اليوميّة ، لأنّ المطلق ينصرف إلى الأفراد الشائعة لا النادرة ، إلّا أن يقال : العلّة المنصوصة في صحيحة ابن سنان يقتضي الشمول للمقام.

مع أنّ الفقهاء يستدلّون بالأخبار المذكورة وأمثالها على العموم ، ويجرون أحكامها في كلّ فريضة ، مع أنّ الإجماع على اتّحادها مع الفريضة اليوميّة ، إلّا ما ثبت من التفاوت ، وغير معلوم تحقّق التفاوت إلى هذا القدر بأن تكون التكبيرات والقنوتات أو إحداهما ركنا ، والله يعلم.

ولعلّ التحقيق في محلّه يزيد عمّا ذكر ، بحيث يظهر الحال ، ولا يبقى تأمّل وتزلزل أصلا ، وظاهر الفقهاء أيضا عدم ركنيّة شي‌ء من التكبيرات والقنوتات ، إذ وقع منهم الاختلاف في نسيان التكبيرات ، أو شي‌ء منها ، في أنّ المنسي هل يجب قضاؤه بعد الفراغ عن الصلاة أم لا؟

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٤٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤٦ الحديث ٥٦٩ ، الاستبصار : ١ / ٣٥٣ الحديث ١٣٣٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٧ الحديث ٧٤١٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢٧ الحديث ١٠٠٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٨٧ الحديث ٧٤١٤.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤٧ الحديث ٥٧٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٣١١ الحديث ٨٠٥١.

(٤) في (د ٢) زيادة : أو القنوتات أو واحدا منها.


أثبت القضاء الشيخ رحمه‌الله (١) لصحيحة ابن سنان : «إذا نسيت شيئا من الصلاة» (٢). إلى آخر الحديث ، وقد ذكر ، خرج من الحديث ما خرج بالإجماع ، وبقي الباقي (٣).

والمحقّق نفاه في «المعتبر» (٤) ووافقه من تأخّر عنه (٥) ، لأنّه ذكر تجاوز محلّه ، فيسقط ، للأصل السالم عن معارضته الصحيحة المذكورة من الجهة التي ذكرناها ، ولا بدّ من تأمّل تامّ في ذلك.

ويؤيّدهم صحيحة ابن مسلم (٦).

وكيف كان ، الاحتياط في القضاء ، بل الإعادة أيضا.

الخامس : لا يتحمّل الإمام شيئا منها سوى القراءة ، كما هو الحال في سائر الصلوات ، للأصل والعمومات الواردة في طلب الأذكار والتكبيرات والقنوتات (٧) ، واحتمل الشهيد تحمّل القنوت (٨) ، وهو بعيد.

السادس : لو أدرك بعض التكبير مع الإمام ، قال في «المدارك» : دخل معه ، فإذا ركع الإمام أتى بالتكبير الفائت والقنوت مخفّفا ـ إن أمكن ـ ولحق به ، وإلّا قضاه بعد التسليم عند الشيخ ومن قال بمقالته ، وسقط عند المحقّق ومن تبعه. ويحتمل المنع من الاقتداء ، إذا علم التخلّف بما يعتدّ به ، إذ الأصل عدم سقوط

__________________

(١) نقل عنه في المعتبر : ٢ / ٣١٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٨ الحديث ١٠٥٣٠.

(٣) راجع! الصفحة : ٣٨٥ و ٣٨٦ من هذا الكتاب.

(٤) المعتبر : ٢ / ٣١٥.

(٥) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٣١ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٨٨ ، ذخيرة المعاد : ٣٢٢.

(٦) وسائل الشيعة : ٦ / ٨٧ الحديث ٧٤١٥.

(٧) وسائل الشيعة : ٦ / ١٩ الباب ٦ من أبواب تكبيرة الإحرام ، ٢٦١ الباب ٦ من أبواب القنوت.

(٨) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٩٠ و ١٩١.


فرض مكلّف بفعل آخر إلّا فيما دلّ الدليل عليه (١) ، انتهى.

وأمّا ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من أنّ كيفيّة الخطبتين هنا كيفيّة الخطبتين في الجمعة. إلى آخر ما ذكره ، فلما يظهر من الفتاوى ، بل الإجماع والأخبار الواردة هنا.

قوله : (والروايات). إلى آخره.

قد عرفت الروايات وكيفيّة دلالتها على كون وجوبها مشروطا بالإمام أو من نصبه ، فلاحظ وتأمّل!

وعرفت أيضا أنّ مع الاشتباه في اشتراط المذكور لا يمكن فعلها وجوبا بدون الشرط المذكور ، لأنّ العبادات توقيفيّة موقوفة على الثبوت من الشرع ، ولم تثبت بدون الشرط المذكور لا من الروايات ولا من الإجماع ولا من دليل آخر وإن سلّمنا عدم ثبوت الشرط المذكور أصلا ، لا من الروايات ولا من الإجماع ولا غير ذلك ، مثل الاعتبار ، ومثل أنّ التوقيفى موقوف على الثبوت والمثبت منحصر في الإجماع ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إن لم يكن قول منهم ، إلى غير ذلك ممّا مرّ منه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كذا ، وقال : «صلّوا كما رأيتموني اصلّي» (٢).

وبالجملة ، بعد الشكّ الذي ذكره المصنّف ينحصر ـ لا محالة ـ ثبوت الوجوب فيما إذا حصل الشرط وهو الإمام أو المنصوب ، مع أنّك عرفت أنّ كلّ واحد من الإجماع والأخبار والاعتبار وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوقيفيّة العبادة تكفي لارتفاع الشكّ ، فضلا عن المجموع.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ١١٠.

(٢) عوالي اللآلي : ١ / ١٩٧ الحديث ٨ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٢ / ١٢٤ ، سنن الدارقطني : ١ / ٣٣٨ الحديث ١٢٩٤.


قوله : (ومع اختلاف الشرائط). إلى آخره.

لا شكّ في أنّه مع اختلال الشرائط يرتفع الوجوب البتة ، وإلّا فلا معنى للشرطيّة واختلال الشرط ، وإذا ارتفع الوجوب تكون مستحبة في الجملة البتة إذا كان الشرط المفقود هو السلطان أو من نصبه وما ماثله ، ولا يكون حراما عند أحد من فقهائنا. وهذا من الفارق بين الجمعة وهذه الصلاة. لأنّ الجمعة ، ذهب جمع من المتقدّمين وجمع من المتأخّرين إلى حرمتها إن لم يكن الإمام أو المنصوب حاضرا بأن تكون الصلاة خلفهما بخلاف هذه الصلاة ، فإنّ الكلّ قائلون بالاستحباب ، إلّا أنّ السيّد رحمه‌الله قائل بالمنع عن الجماعة حينئذ ، وأنّ الاستحباب منحصر في الفرادى (١).

ووافقه على ذلك أبو الصلاح ، بل قال : يقبح الجمع فيها مع اختلال الشرائط (٢).

وقال المفيد رحمه‌الله هذه الصلاة ـ يعني صلاة العيد ـ فرض لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام. إلى أن قال : ومن فاتته صلاة العيد جماعة صلّاها وحده ، كما يصلّي في الجماعة ندبا ومستحبا (٣).

وقال الشيخ في «المبسوط» : متى تأخّر عن الحضور لعارض صلّاها في المنزل منفردا سنّة وفضيلة ، ثمّ قال : ومن لا يجب صلاة العيد عليه من المسافر والعبد وغيرهما يجوز لهم إقامتها منفردين سنّة (٤).

وقال القطب الراوندي : من أصحابنا من ينكر الجماعة في صلاة العيد سنّة

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٤ ، الناصريّات : ٢٦٥ المسألة ١١١.

(٢) الكافي في الفقه : ١٥٤.

(٣) المقنعة : ١٩٤ و ٢٠٠.

(٤) المبسوط : ١ / ١٦٩.


بلا خطبة (١).

فظهر من هذا أنّ جماعة من الفقهاء كانوا يمنعون عن الجماعة حينئذ ، بل صرّح بعضهم بأنّها مع اختلال الشرائط تكون نافلة ، ولا جماعة في النافلة (٢).

وظاهر أبي الصلاح ، أنّها من جهة كونها منصب الإمام بفعله بنفسه أو بنائبه تقبح الجماعة حينئذ ، لأنّها أخذ منصب الإمام بغير رخصة منه ، وقبيح أن ينصب أحد نفسه مقام إمامه من دون نصب منه.

ويدلّ على المنع الأخبار أيضا ، مثل : موثّقة سماعة السابقة (٣) بالتقريب الأوّل الأقرب.

والصحيح عن ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «من لم يشهد جماعة الناس في العيد فليغتسل وليتطيّب وليصلّ في بيته وحده ، كما يصلّي في الجماعة» (٤).

وموثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : هل يؤمّ الرجل بأهله في صلاة العيد في السطح أو بيت؟ قال : «لا يؤمّ بهنّ ولا يخرجن» (٥).

ولو كانت الجماعة مستحبة لاستحبّ هنا أيضا ، إذ المستحبّ في حقّ الرجل مستحبّ في حقّ المرأة ـ أيضا ـ إلّا ما خرج بالدليل.

هذا ، لكن ابن إدريس أوّل كلام هؤلاء الفقهاء ، بأنّ مرادهم من الانفراد ، الانفراد عن الشرائط (٦) ، وهو بعيد.

__________________

(١) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٣.

(٢) لاحظ! السرائر : ١ / ٣١٥ و ٣١٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٧ ، راجع! الصفحة : ٣٥٣ و ٣٥٤ من هذا الكتاب.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٦ الحديث ٢٩٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الحديث ٩٧٥٤ مع اختلاف يسير.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٩ الحديث ٨٧٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الحديث ٩٨٨٨.

(٦) السرائر : ١ / ٣١٦.


وقال القطب الراوندي رحمه‌الله : الإماميّة يصلّون هاتين الصلاتين جماعة ، وعملهم حجّة (١).

وذكرنا عن «المقنع» وابن أبي عقيل : المنع عن الفرادى ، فإنّ الصدوق قال : ولا يصلّيان إلّا مع الإمام في جماعة (٢). وقال ابن أبي عقيل : من فاتته الصلاة مع الإمام لم يصلّها وحده (٣).

وفي «المختلف» ـ بعد ما ذكر عنهما ما ذكر ـ قال : والمشهور الاستحباب ، لنا ما رواه ابن سنان ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام ، وروى الصحيحة المذكورة عنه ، ثمّ قال : احتجّا بصحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام عن صلاة الفطر والأضحى ، فقال : «ليس صلاة إلّا مع إمام» (٤).

والجواب : أنّ نفي الحقيقة غير ممكن ، فلا بدّ من الإضمار ، وليس إضمار الصحّة أولى من إضمار الفضل ، فتحمل على نفي الفضل ، أو نفي الوجوب جمعا بين الأدلّة (٥) ، انتهى.

وفيه ، أنّه على القول الأقوى ـ بأنّ لفظ العبادة اسم لخصوص الصحيحة ـ نفي الحقيقة ممكن ، والأصل الحمل على المعنى الحقيقي ، وعلى القول الآخر لا شكّ في أنّ نفي الصحّة أقرب المجازات ، والواجب عند تعذّر الحقيقة الحمل على أقرب المجازات.

__________________

(١) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٣ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٩.

(٢) المقنع : ١٤٩.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٣.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٤ الحديث ١٧١٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٦.

(٥) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٤.


وأمّا نفي الوجوب ، ففيه أنّ (١) الصلاة أعم من الواجبة والمستحبة ، لكن الحقّ أنّها اسم للفريضة ـ كالجمعة ـ فحقيقة فيها ، فالمستحبة ليست بصلاة حقيقة ، بل مثل المعادة اليوميّة وعبادة الطفل وأمثالهما.

وبالجملة ، مرّ الكلام مفصّلا ، فظهر أنّ ما دلّ على المنع من الفرادى مؤوّلة موجّهة ، بخلاف ما دلّ على المنع من الجماعة.

وورد في بعض الأخبار أنّه سئل عن صلاة الأضحى والفطر؟ فقال : «صلّهما ركعتين في جماعة وغير جماعة وكبّر سبعا وخمسا» (٢).

ولعلّ المراد أنّها ركعتان في الفرادى كالجماعة ، ولا يدلّ على جواز الجماعة فيها مطلقا.

وأمّا ما دلّ على المنع من الجماعة ، فهو باق على حاله ، مضافا إلى ما سيجي‌ء في مبحث الجماعة من الأخبار الدالّة على المنع من الجماعة في نافلة شهر رمضان ، وغيرها من النوافل ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليه‌السلام ، ورواية سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في نافلة رمضان : «أيّها الناس إنّ هذه الصلاة نافلة ولن نجمع النافلة ، وليصلّ كلّ رجل منكم وحده ، واعلموا أنّه لا جماعة في نافلة» (٣).

نعم ، قال الراوندي : الإماميّة يصلّونها جماعة وعملهم حجّة (٤) ، فإن كان

__________________

(١) في (ف) : أنّ نفي الصلاة.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٥ الحديث ٢٩٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٥٩.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٦٤ الحديث ٢١٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٦٤ الحديث ١٨٠١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٢ الحديث ١٠٠٤٠ مع اختلاف يسير.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٣ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٥٩.


هذا إجماع منقول بخبر الواحد ، فيمكن الاكتفاء به في إخراجها عمّا دلّ على المنع عموما ، ويوجّه ما دلّ عليه خصوصا ، إلّا أنّ ذلك موقوف على ثبوت التقاوم ، ولا يخلو عن إشكال ، والفرادى لا إشكال فيها ، كما عرفت.

والأكثر اختار جواز الجماعة والفرادى واستحبابهما (١) جميعا (٢) ، والظاهر من بعضهم أنّ الفرادى مع تعذّر الجماعة (٣) ، وظهر لك الحال في المناط من الأخبار ، فلا حاجة إلى التكرار.

__________________

(١) نسبه إلى المشهور في ذخيرة المعاد : ٣١٩.

(٢) في (د ١) و (د ٢) و (ط) : جمعا.

(٣) لاحظ! ذخيرة المعاد : ٣١٩.


٢٢ ـ مفتاح

[مستحبّات صلاة العيدين]

يستحبّ الإصحار بهذه الصلاة في غير مكّة ، ومباشرة الأرض والسجود عليها ، وأن لا ينقل المنبر من الجامع ، وأن يطعم قبل خروجه في الفطر ، وبعد عوده في الأضحى ممّا يضحّي به إجماعا ، وأن يخرج بعد الغسل متطيّبا ، غير العجائز فإنّهن يخرجن تفلات ، لابسا أحسن ثيابه ، ماشيا حافيا على سكينة ووقار ، ذاكرا لله تعالى داعيا بالمأثور ، متعمّما متردّيا ، وهما هنا آكد ، ذاهبا من طريق عائدا بآخر ، وأن يقول المؤذّن بأرفع صوته عند القيام إليها : «الصلاة» ثلاثا ، كلّ ذلك للرواية (١).

وأن يكبّر في الفطر عقيب أربع صلاة ، أوليهما المغرب وأخراهما صلاة العيد ، وفي الأضحى عقيب خمس عشرة ، اوليهما الظهر يوم النحر لمن كان بمنى ، وعشر لغيره بالمأثور ، كما في «المعتبر» (٢).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٣ الباب ١٢ ، ٤٤٦ الباب ١٤ ، ٤٤٩ الباب ١٧ ، ٤٥٣ الباب ١٩ ، ٤٧٦ الباب ٣٣ ، ٤٧٩ الباب ٣٦ من أبواب صلاة العيد.

(٢) المعتبر : ٢ / ٣٢٠ و ٣٢٢.


وأوجبه السيّد مدّعيا عليه الإجماع (١) لآيتي (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) (٢) ، (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٣) ، فإنّ الاولى إشارة إليه في الفطر ، والثانية في الأضحى ، كما في النصوص (٤) وهو شاذّ ، مع أنّ النصّ في الأوّل أنّه مسنون ، ويأتي كيفيّته في مباحث التعقيب.

ويكره الخروج بالسلاح إلّا أن يكون عدوّ ظاهر ، والتنفّل في ذلك اليوم إلى الزوال ، للنهي عنه إلّا ركعتين في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، كما في الخبر (٥) ، والسفر بعد طلوع الفجر للنهي ، أمّا بعد طلوع الشمس ، فحرام لاستلزامه الإخلال بالواجب.

__________________

(١) الانتصار : ٥٧.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) البقرة (٢) : ٢٠٣.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٥ الباب ٢٠ ، ٤٥٧ الباب ٢١ من أبواب صلاة العيد.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٦١ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٠ الحديث ٩٧٧١.


قوله : (ويستحبّ الإصحار). إلى آخره.

أي فعلها في الصحراء ، أجمع علماؤنا على ذلك ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلّيها خارج المدينة ، ومتابعته راجحة لا أقلّ منه.

وفي الصحيح ، عن معاوية بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخرج حتّى ينظر إلى آفاق السماء» (١).

وفي رواية اخرى عنه : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخرج إلى البقيع فيصلّي بالناس» (٢).

وفي الصحيح ، عن ابن رئاب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا ينبغي أن تصلّي صلاة العيد في مسجد مسقّف ولا في بيت ، إنّما تصلّي في الصحراء أو في مكان بارز» (٣). إلى غير ذلك من الأخبار.

وأمّا استثناء مكّة بخصوصها ، فلمرفوعة محمّد بن يحيى ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «السنّة على أهل الأمصار أن يبرزوا من أمصارهم في العيد إلّا أهل مكّة فإنّهم يصلّون في المسجد الحرام» (٤).

ورواه ابن بابويه ، عن حفص بن غياث ، عن الصادق عليه‌السلام (٥).

وألحق ابن الجنيد مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) ، وفيه ما فيه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٨٤٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥١ الحديث ٩٨٣٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٠ الحديث ٩٨٣٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٢ الحديث ١٤٧١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٩ الحديث ٩٨٣١.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٦١ الحديث ١٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٨ الحديث ٣٠٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥١ الحديث ٩٨٣٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢١ الحديث ١٤٧٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٩ الحديث ٩٨٣٢.

(٦) نقل عنه في السرائر : ١ / ٣١٨ ، مختلف الشيعة : ٢ / ٢٧١.


ولو كان عذر من مطر أو غيره ، فلا حرج في الصلاة في البلد بلا شكّ.

وأمّا مباشرة الأرض والسجود عليها ، فلصحيحة معاوية : «لا تصلّين يومئذ على بساط ولا بارية» (١).

وفي صحيحة الفضل : «هذا يوم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ أن ينظر إلى آفاق السماء ويضع جبهته على الأرض» (٢).

وأمّا عدم نقل المنبر ، فللإجماع والأخبار ، كصحيحة إسماعيل بن جابر ، عن الصادق عليه‌السلام صلاة العيدين هل فيهما أذان وإقامة؟ قال : «ليس فيهما أذان ولا إقامة ، ولكن ينادى الصلاة ثلاث مرّات ، وليس فيها منبر ، والمنبر لا يحرّك من موضعه ، ولكن يصنع للإمام شبه المنبر من طين يقوم عليه فيخطب بالناس ثمّ ينزل» (٣).

وعمل شبه المنبر ـ كما ذكر ـ إجماعي.

وأمّا الإطعام قبل الخروج في الفطر وبعد العود في الأضحى ممّا يضحي ، فللأخبار بعد الإجماع ، مثل رواية جرّاح المدائني ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «يطعم في الفطر قبل أن يصلّي ولا يطعم في الأضحى حتّى ينصرف الإمام» (٤).

وحسنة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «أطعم يوم الفطر قبل أن تخرج إلى المصلّى» (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٨٤٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥١ الحديث ٩٨٣٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٤ الحديث ٨٤٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٠ الحديث ٩٨٣٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٢ الحديث ١٤٧٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٠ الحديث ٨٧٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٨ الحديث ٩٧٦٢ ، ٤٧٧ الحديث ٩٩٠١ ، مع اختلاف.

(٤) الكافي : ٤ / ١٦٨ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١١٣ الحديث ٤٨٣ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٨ الحديث ٣١٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٤ الحديث ٩٨١٨ مع اختلاف يسير.

(٥) الكافي : ٤ / ١٦٨ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٨ الحديث ٣٠٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٤


فظهر أنّ ما ذكر مستحبّ على حدة ، وليس شرط كون الإطعام ممّا يضحي.

نعم ، كون الإطعام ممّا يضحى مستحبّ أيضا على حدة ، لرواية زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا تأكل يوم الأضحى إلّا من أضحيتك إن قويت ، وإن لم تقو فمعذور» (١).

ويستحبّ في يوم الفطر الإفطار على الحلو ، لما روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأكل قبل خروجه تمرات ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، أو أقلّ أو أكثر (٢).

وهذا يدلّ على خصوص التمر وهذا القدر منه ، إلّا أن يضم إليه عدم القول بالفصل وتنقيح المناط ، ولا بدّ من التأمّل في ذلك.

وجعل في «الذكرى» أفضله السكّر (٣) ، ولعلّه لما ورد فيه من الفضل عموما (٤) ، ولما ورد في «الفقه الرضوي» خصوصا (٥).

وورد في بعض الأخبار الضعيفة استحباب الإفطار على التربة الحسينيّة (٦) ـ على مقدّسها ألف صلاة وسلام وتحيّة ـ لكن لا يجوز العمل ، لأنّ الضعيف ليس بحجّة ، ولا يجوز العمل به في مثل المقام ، لعموم ما ورد من حرمة أكل التراب (٧) ، وخصوصا التربة المقدّسة بغير قصد الاستشفاء ، ولم ينجبر بالشهرة ولا غيرها من الجوابر للضعيف ، فلا يكون حجّة أصلا ، فكيف يقاوم ما دلّ على الحرمة من

__________________

الحديث ٩٨١٧.

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢١ الحديث ١٤٦٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٣ الحديث ٩٨١٤ مع اختلاف يسير.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ٢٨٣.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٧٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٥ / ١٠١ ـ ١٠٥ الباب ٥٠ ـ ٥٢ من أبواب الأطعمة المباحة.

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٢١٠ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٣٠ الحديث ٦٦١٨.

(٦) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٥ الحديث ٩٨٢١.

(٧) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٤ / ٢٢٦ الباب ٥٩ من أبواب الأطعمة المحرّمة.


الأخبار المتعدّدة المفتى بها خصوصا أن يغلب عليها؟

وأمّا الخروج بعد الغسل ، فلما ورد في استحباب غسل العيدين ، مثل صحيحة ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «الغسل من الجنابة ، ويوم الجمعة ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى ، ويوم عرفة» (١) الحديث.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «الغسل في سبعة عشر». إلى أن قال : «ويومي العيدين» (٢).

وموثّقة سماعة الطويلة ، إذ فيها : «وغسل يوم الفطر ويوم الأضحى سنة لا احبّ تركهما» (٣).

ورواية علي بن أبي حمزة ، عن الصادق عليه‌السلام غسل العيدين واجب هو؟ فقال : «هو سنّة» ، فقلت : فالجمعة؟ فقال : «سنّة» (٤). إلى غير ذلك من الأخبار.

وأمّا كون الغسل مقدّما على الصلاة ، فلموثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام عن الرجل ينسى أن يغتسل يوم العيد حتّى يصلّي ، قال : «إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد الصلاة ، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته» (٥).

وحملت على الاستحباب ، للإجماع والأخبار في نفي وجوب الإعادة ، والقضاء عمّن فاتته صلاة العيد ، وممّا يؤيّد مشاركة العيد والجمعة في الشرائط.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٠ الحديث ٢٩٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٦ الحديث ٣٧١٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٤ الحديث ٣٠٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٧ الحديث ٣٧١٨.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٠ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٥ الحديث ١٧٦ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٤ الحديث ٢٧٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٣ الحديث ٣٧١٠.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٢ الحديث ٢٩٧ ، الاستبصار : ١ / ١٠٣ الحديث ٣٣٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣١٤ الحديث ٣٧٣٩ مع اختلاف يسير.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٨٥٠ ، الاستبصار : ١ / ٤٥١ الحديث ١٧٤٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٣٠ الحديث ٣٧٩١.


وأمّا التطيّب ، فللعمومات ، وخصوص رواية إسحاق بن عمّار [أ] وغيره ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اتي بطيب يوم الفطر بدأ بنسائه» (١) ، وصحيحة ابن سنان المتقدّمة (٢).

والمراد من قوله : (تفلات) أي غير متطيّبات ، لعدم استحباب الطيب بالنسبة إليها خاصّة عند خروجها مع الرجال.

وأمّا لبس أحسن الثياب ، فلما في آخر صحيحة ابن سنان المتقدّمة وقال : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٣) قال : العيدان والجمعة» (٤).

وأمّا كونه ماشيا حافيا على سكينة ووقار ذاكرا لله تعالى ، فلما فعله الرضا عليه‌السلام عند خروجه إليها ، وقال : «أخرج كما خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٥).

وأمّا الدعاء بالمأثور عند خروجه ، فهو الدعاء المشهور المعروف : «اللهمّ من تهيّأ في هذا اليوم أو تعبّأ» (٦). إلى آخر الدعاء.

وأمّا كون الإمام متعمّما متردّيا شاتيا كان أو قائظا ، فلصحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة ، حيث قال فيها : «وينبغي للإمام أن يلبس يوم العيدين بردا ويعتمّ شاتيا كان أو قائظا» (٧).

وأمّا الذهاب من طريق والإياب من طريق آخر وتغيير الطريقين ، فلما ورد

__________________

(١) الكافي : ٤ / ١٧٠ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٦ الحديث ٩٨٢٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٦ الحديث ٩٨٢٣ ، راجع! الصفحة : ٣٩١ من هذا الكتاب.

(٣) الأعراف (٧) : ٣١.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٦ الحديث ٩٨٢٣.

(٥) الكافي : ١ / ٤٨٨ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٣ الحديث ٩٨٤٤ مع اختلاف يسير.

(٦) إقبال الأعمال : ٢٨٠.

(٧) الكافي : ٣ / ٤٦٠ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٠ الحديث ٩٨٠٢.


من أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يفعل في الخروج إلى العيدين هكذا (١) ، مضافا إلى ورود الأمر بذلك بعنوان الاستحباب مطلقا (٢) ـ أي في كلّ خروج ودخول وذهاب إلى موضع وإياب منه ـ وأنّه أرزق لكم (٣).

وأمّا قول المؤذّن : الصلاة ـ ثلاث مرّات ـ رافعا صوته ، فلما ورد في صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة (٤).

قال في «الذكرى» : وظاهر الأصحاب أنّ هذا النداء ليعلم الناس بالخروج (٥) ، ومقتضى ذلك كون محلّه قبل القيام إلى الصلاة.

وعن أبي الصلاح : أنّ محلّه بعد القيام إلى الصلاة ، إذا أذّن المؤذّن ذلك كبّر الإمام تكبيرة الافتتاح ، ودخل بهم في الصلاة (٦).

وفي «المدارك» بعد ما ذكر قال : والظاهر تأدّى السنّة بكلا الأمرين (٧) ، انتهى. لاحظ الأخبار وتأمّل فيها! والأظهر أنّها بمنزلة الأذان والإقامة ، حيث قال عليه‌السلام ـ في رواية إسماعيل بن جابر ـ : «ليس فيهما أذان ولا إقامة ، ولكن ينادى : الصلاة ، ثلاث مرّات» (٨) ، ولعلّ هذا هو مراد المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا التكبير عقيب أربع صلوات ، فمستحبّ عند الأصحاب ، سوى ما نقل

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٣ الحديث ١٤٧٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٩ الحديث ٩٩٠٦.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٩ الباب ٣٦ من أبواب صلاة العيد.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٩ الحديث ٩٩٠٧.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٨ الحديث ٩٧٦٢.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٧٢.

(٦) الكافي في الفقه : ١٥٣.

(٧) مدارك الأحكام : ٤ / ١١٣.

(٨) مرّت الإشارة إليها آنفا.


عن ظاهر المرتضى في «الانتصار» من أنّه واجب (١).

ولعلّه أسنده إلى الإماميّة ـ على ما هو ببالي ـ فربّما يكون مراده من الوجوب غير المعنى الاصطلاحي ، لما عرفت سابقا من أنّ الشيخ قال : الوجوب عندنا على ضربين : ضرب على تركه العقاب ، وضرب على تركه اللوم والعتاب (٢) ، إذ كيف يكون الإماميّة مجمعة على الوجوب بالمعنى الاصطلاحي الآن من دون إظهار قرينة؟ بل كيف يكون واجبا يكون تركه موجبا للعقاب؟ مع اتّفاق الشيعة في الأعصار والأمصار على عدم الالتزام ـ الخاصّ منهم والعامّ والعلماء والعوام ـ وكذلك عدم الإلزام على أحد من الأنام بلا شبهة ولا كلام ، مع عموم البلوى وشدّة الحاجة.

ومن هذا يظهر التأمّل في دليله أيضا ، وهو قوله تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) بعد قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٣) إذ ظاهر الأمر الوجوب ، ولا يتصوّر إلّا في هذا التكبير ، للاتّفاق على عدم الوجوب في غيره.

وفي رواية سعيد النقّاش ، عن الصادق عليه‌السلام : «أمّا إنّ في الفطر تكبيرا ولكنّه مسنون» قلت : وأين هو؟ قال : «في ليلة الفطر في المغرب والعشاء وصلاة الفجر وصلاة العيد ثمّ يقطع» قلت : كيف أقول؟ قال : «تقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا ، وهو قول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) (٤)» (٥).

__________________

(١) الانتصار : ٥٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤١ ذيل الحديث ١٣٢.

(٣) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٤) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٥) الكافي : ٤ / ١٦٦ الحديث ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٠٨ الحديث ٤٦٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٨


ويظهر من هذا الخبر أنّ الرواة ما كانوا يعرفونها أصلا ، والعام البلوى وشديد الحاجة إليه يبعد أن يصير كذلك في زمان الصادق عليه‌السلام ، لعدم داع على الإخفاء ظاهرا ، ولعدم ظهور ذلك من الأخبار التي كان الأئمّة عليهم‌السلام يشكون عن المغيّرين لحكم الشرع والمبدّلين لشرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشنعون عليهم ، ويظهرون بدعهم (١) ، مع أنّ العادة تقتضي ذلك.

ولأنّ قوله عليه‌السلام : «ولكنّه مسنون» في غاية الظهور في إرادة الاستحباب ، إذ لا معنى لاستدراك معنى آخر ـ وهو أنّ وجوبه يظهر من السنّة لا الكتاب ، إذ لا معنى له ـ سيّما مع تصريحه عليه‌السلام بأنّ الأمر في قوله تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) إنّما هو طلب هذا التكبير ، مع ظهور ذلك من الخارج أيضا.

وأيضا في غير واحد من الأخبار تعرّضوا لذكر الواجبات ، ولم يعدّوا ذلك منها.

وأيضا الصدوق في أماليه قال : من دين الإماميّة الذي يجب الإقرار به ، أنّه جرت السنّة في الإفطار يوم النحر بعد الرجوع عن الصلاة ، وفي الفطر في الخروج إليها ، والتكبير في أيام التشريق بمنى. إلى آخر ما قال ، وفيه : التكبير في ليلة الفطر عقيب أربع صلوات (٢). ولا يخفى ظهوره في الاستحباب غاية الظهور.

وأيضا في «التهذيب» بسنده إلى علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليهما‌السلام ، قال : سألته عن تكبير أيّام التشريق أواجب أم لا؟ قال : «مستحبّ وإن نسي فلا شي‌ء عليه» ، وقال : هل النساء عليهنّ التكبير في أيّام التشريق؟ قال : «نعم ،

__________________

الحديث ٣١١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٥ الحديث ٩٨٤٧ مع اختلاف يسير.

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٦ / ٢٦٧ الباب ٣٩ من أبواب الأمر والنهي.

(٢) أمالي الصدوق : ٥١٧ و ٥١٨.


ولا يجهرن» (١).

وممّا ذكر ظهر الجواب عمّا ذكر في «العيون» ممّا كتب الرضا عليه‌السلام للمأمون من محض الإسلام : «والتكبير في العيدين واجب في الفطر عقيب خمس صلوات أوّلها المغرب ، وفي الأضحى عقيب عشر صلوات بغير منى ، وبمنى عقيب خمس عشرة» (٢).

ومع ذلك ذكر عقيب خمس صلوات ، ولم يقل به أحد.

وفي «الفقيه» قال ـ بعد رواية سعيد النقّاش ـ : وفي غير رواية سعيد ، وفي صلاة الظهر والعصر (٣).

وفي «المدارك» نسب إلى «الفقيه» ضمّ صلاة الظهرين ، وإلى ابن الجنيد النوافل (٤) أيضا ، فتأمّل!

وممّا ذكرنا ظهر حال ما ذكره المصنّف رحمه‌الله : (وفي الأضحى عقيب). إلى آخره.

لكن في «المدارك» نسب القول بالوجوب في خصوص هذا إلى ابن الجنيد والشيخ في «الاستبصار» بعد ما نسبه إلى المرتضى أيضا.

ثمّ قال : لما رواه ابن مسلم في الحسن أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٥)؟ قال : «التكبير في أيّام التشريق

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٨٨ الحديث ١٧٤٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦١ الحديث ٩٨٦١ ، ٤٦٣ الحديث ٩٨٦٧ مع اختلاف.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٠ الحديث ٩٨٥٨ نقل بالمضمون.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٠٨ ذيل الحديث ٤٦٤.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١١٤ و ١١٥.

(٥) البقرة (٢) : ٢٠٣.


من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث ، وفي الأمصار عشر صلوات ، فإذا نفر الناس النفر الأوّل أمسك أهل الأمصار» (١).

ثمّ قال : اختلف الأصحاب في كيفيّة التكبير في الأضحى ، والأجود العمل بما رواه معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : «التكبير أن تقول : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر [الله أكبر] ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا» (٢).

وفي الصحيح عن ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن التكبير بعد كلّ صلاة؟ فقال : «كم شئت ، إنّه ليس شي‌ء موقّت ، يعني في الكلام» (٣).

وقال في تكبير الفطر : وينبغي العمل في كيفيّة تكبيرة على رواية سعيد النقّاش ـ أي روايته المتقدّمة ، وإن ضعف سندها ـ لأنّها الأصل في هذا الحكم (٤) ، انتهى.

قوله : (شاذّ). إلى آخره.

لقائل أن يقول : هو ادّعى الإجماع على الوجوب ، فكيف كان كلام جميعهم يخفى عليه بحيث يفهم خلاف مرامهم ويقطع به؟ مع أنّ رؤساء الإماميّة المفيد والشيخ وأمثالهما ممّن كان يجالس السيّد رحمه‌الله ويخاطبه شفاها ، وهو قال : ممّا انفردت به الإماميّة الوجوب (٥) ، فمن أين ثبت لك الشذوذ؟ وأنّه ما شاركه أحد من

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٥١٦ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٧ الحديث ٩٨٥٢ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٤ / ٥١٧ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ٢٦٩ الحديث ٩٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٩ الحديث ٩٨٥٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٤ / ٤٨٧ الحديث ١٧٣٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٦٥ الحديث ٩٨٧٤.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١١٥ و ١١٦.

(٥) الانتصار : ٥٧.


القدماء (١) في الحكم بالوجوب ، بل لا أقلّ من كون الحكم مشهورا في زمانه ، أو ما تقدّم عليه ، بل لا أقلّ من كون جمع قال كذلك ، بل لا أقلّ من قول اثنين زائدا على قوله ، إذ لا شكّ في أنّه رحمه‌الله ما كان كذّابا مدلّسا ، حاشاه ، ثمّ حاشاه من كان ملقّبا بـ «علم الهدى» لقّبه به جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل فضائله لا تحصى.

سلّمنا ، لكن ندرة القائل لا ضرر فيها بعد ظهور الأدلّة وقوّتها. لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب مسلّم ذلك عنده ، وورد في القرآن (٢) والأخبار المعتبرة (٣) أوامر كثيرة (٤) ، ورواية سعيد ضعيفة ، والضعيف ليس بحجّة عنده ، سيّما وأن يكون مخالفا لظاهر القرآن والأخبار المعتبرة.

على أنّا نقول : إن كانت أدلّة السيّد ضعيفة ، فلا بدّ من الطعن عليها ـ لا عليه ـ بالشذوذ ، لأنّ معظم المسائل التي يعدّها خلافيّة ويصرّح بكونها محلّ الخلاف ، لا يكون الخلاف إلّا من واحد من الفقهاء ، وكثيرا ما يختار مختار ذلك الواحد ، كما اختار رأي ابن أبي عقيل في عدم انفعال الماء القليل (٥) ، وفي مسافة القصر والإفطار (٦). إلى غير ذلك ، وكذا يوافق غيره ممّا لا يحصى كثرة ، بل ربّما يختار ما لم يقل به أحد ، مثل حرمة كتابة القرآن على المحدث (٧) ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

__________________

(١) في (ف) و (ط) : الفقهاء.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥ و ٢٠٣.

(٣) في (ط) : المتواترة.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٥٥ الباب ٢٠ ، ٤٥٧ الباب ٢١ من أبواب صلاة العيد.

(٥) مفاتيح الشرائع : ١ / ٨١.

(٦) مفاتيح الشرائع : ١ / ٢٥.

(٧) مفاتيح الشرائع : ١ / ٣٨.


فالصواب أنّ يوجه كلامه بما ذكرنا ، بل من اطّلع على ما سنذكر في مسألة انفعال ماء القليل وأمثالها جزم بأنّها لا يصير طرف النسبة بالنسبة إلى المقام ، فكيف لا يجعل القائل فيها شاذّا؟! بل ربّما يقول : (ألهمني الله موافقته) (١) ، وفي المقام يقول : (وهو شاذ).

قوله : (ويكره الخروج). إلى آخره.

لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يخرج بالسلاح في العيد [ين] إلّا أن يكون عدوّ ظاهر» (٢).

ولفظ النهي ظاهر في الحرمة ، كما حقّق ، إلّا أنّ الإجماع قرينة على الكراهة ، مع أنّ السند غير صحيح ، ومرّ أنّ الفقهاء يسامحون في أدلّة الندب والكراهة ، وعلّة المسامحة وصحّتها وشهرة الفتوى لا تجبر عدم صحّة السند ، لأنّ الفقهاء ربّما يكون عملهم وفتواهم بالرواية من جهة المسامحة ، بل الظاهر أنّه كذلك.

قوله : (والتنفّل في ذلك اليوم). إلى آخره.

لقوله في صحيحة زرارة : «صلاة العيد مع الإمام سنّة ، وليس قبلها ولا بعدها صلاة ذلك اليوم إلى الزوال» (٣).

ومثلها رواية ضعيفة ، عن زرارة ، عنه عليه‌السلام ، وفي آخرها : «وإن فاتك الوتر في ليلتك قضيته بعد الزوال» (٤).

__________________

(١) مفاتيح الشرائع : ١ / ٢٥ مع اختلاف يسير.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٧ الحديث ٣٠٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٨ الحديث ٩٨٢٩ مع اختلاف يسير.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٤ الحديث ٢٩٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٣ الحديث ١٧١٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤١٩ الحديث ٩٧٤٠ مع اختلاف يسير.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٠ الحديث ٩٧٤١.


وفي رواية اخرى صحيحة ، عنه عليه‌السلام : «لا تقض وتر ليلتك إن كان فاتك حتّى تصلّي الزوال في يوم العيدين» (١).

ومرّ في صحيحة ابن سنان السابقة : «صلاة العيد ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء» (٢) الحديث ، فتأمّل!

ولا يخفى أنّ الظاهر من الروايات هو المنع وعدم الجواز ، كما نقل عن أبي الصلاح ، وابن البرّاج ، وابن حمزة (٣) ، والمشهور اختاروا الكراهة ، لأصالة البراءة والعدم.

ولا يخفى أنّ الأصل لا يعارض الدليل ، وقد عرفت صحّة السند ، أمّا دلالة الرواية الاولى ، فلأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ونفي الصلاة حقيقة في نفي ماهيّة تلك العبادة. فعلى القول بأنّ لفظ العبادة اسم للصحيحة ـ كما هو الأظهر ـ فالأمر ظاهر ، وعلى القول بأنّه اسم للأعم ، فأقرب المجازات نفي الصحّة (٤) ، وغير الصحيحة حرام ، لكونها بدعة.

وأمّا الصحيحة الاخرى ، فقد رواها الصدوق في «الفقيه» ، والشيخ في «التهذيب» في آخر باب المواقيت وقبل باب الأذان والإقامة ، عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن العبّاس ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا تقض وتر ليلتك إن كان فاتك حتّى تصلّي الزوال في يومي العيدين» (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٧٤ الحديث ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٠ الحديث ٩٧٧٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٨.

(٣) نقل عنهم في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥٥ ، المهذّب : ١ / ١٢٣ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١١١.

(٤) في (ف) و (ط) : نفي الصحيحة.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٢ الحديث ١٤٧٤ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٧٤ الحديث ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٠ الحديث ٩٧٧٠.


والنهي حقيقة في الحرمة ، ولا قائل بالفصل بين الوتر الفائتة وغيرها لو لم نقل بالطريق الأولويّة ، والضعيفة مؤيّدة أيضا ، وكذا الصحيحة الاخرى.

بل بملاحظة الأخبار والفتاوى يظهر أنّ المراد من «الشي‌ء» هنا الصلاة ، وعلى القول بجواز التخصيص إلى واحد ، فهو أيضا دليل واضح ، غير متوقّف على الاستعانة بالظهور من الأخبار والفتاوى.

وممّا يدلّ عليه ما رواه في «ثواب الأعمال» في القوى ، عن ابن سنان ، عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن صلاة العيدين هل قبلهما صلاة أو بعدهما؟ قال : «ليس بعدهما ولا قبلهما شي‌ء» (١) ولا يبعد اتّحادها مع صحيحة ابن سنان المذكورة.

وفي الصحيح ، عن ابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام (٢) : «أنّه ليس في صلاة الفطر والأضحى أذان ولا إقامة ، وليس بعد الركعتين ولا قبلهما صلاة» (٣).

وفي الصحيح ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام مثله (٤).

وفي «المختلف» لم يأت بحجّة للمحرّمين (٥) سوى صحيحة ابن سنان السابقة ، وأجاب بمنع الدلالة بعد ما اختار الكراهة ، معتمدا على أصالة الإباحة (٦).

وقد ظهر لك ما فيه ، إلّا أن يكون اعتماده حقيقة في أصالة الإباحة هنا على

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٧.

(٢) في المصدر : عن الصادق عليه‌السلام.

(٣) ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٨ الحديث ٩٧٦٥.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٥٩ الحديث ١ ، ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٦.

(٥) في (ز ٣) : بحجّة المحرّمين.

(٦) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧ و ٢٦٨.


أنّ المسألة ممّا يعمّ به البلوى ، ويشتدّ به الحاجة ، فلو كان حراما لما اشتهر في خلافه. ويكون هذا قرينة على عدم إرادة الحرمة ممّا هو ظاهر فيها في الأخبار ، فتأمّل ، إذ كون ذلك إجماعا أو كافيا في القرينة الصارفة يحتاج إلى تأمّل كامل.

وكيف كان ، لا شكّ في أنّ مقام العمل يختار الترك البتة.

وأمّا عدم المنع من الركعتين في مسجد المدينة ، فيدلّ عليه ما رواه محمّد بن الفضل الهاشمي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ركعتان من السنّة ليس تصلّيان في موضع إلّا بالمدينة» قال : «تصلّي في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في العيد قبل أن يخرج إلى المصلّي ، ليس ذلك إلّا بالمدينة لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله» (١).

فظهر منها استحبابهما أيضا ، مضافا إلى أنّ العبادة الصحيحة لا تخلو عن الرجحان ، والظاهر أنّ الشهرة جابرة لضعف السند هنا حتّى أنّ ابن الجنيد ألحق مسجد مكّة وكلّ مكان شريف بمسجد المدينة ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال في الكلّ : يصلّي الركعتين فيه قبل الخروج وبعده إذا كان يجتاز به ، واحتجّ على ذلك بمساواة مسجد الحرام لمسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومساواة الابتداء والرجوع (٢).

والظاهر أنّ نظره إلى القياس ، لأنّه رحمه‌الله كان قائلا به ، وإن كان رجع عن القول به ، فجوابه واضح.

وأبو الصلاح القائل بالحرمة استثنى مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صريحا (٣).

والظاهر أنّ من شاركه وافقه في الاستثناء أيضا ، إذ في «المختلف» لم ينقل

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦١ الحديث ١١ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٢ الحديث ١٤٧٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٨ الحديث ٣٠٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٠ الحديث ٩٧٧١.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٨ و ٢٦٩.

(٣) الكافي في الفقه : ١٥٥.


«الخلاف» في الاستثناء المذكور ، إلّا عن الشيخ في «الخلاف» (١) ، والصدوق في «المقنع» (٢) ، وهما من القائلين بالكراهة (٣). إنّما الإشكال في صورة القول بالحرمة ، إذ كيف يجوز ارتكاب الصلاة المذكورة من دون دليل شرعي يقاوم أدلّة المنع؟ وبعد الانجبار بما ذكرنا يرتفع الإشكال ، إذ كلّ من قال بالحرمة ـ استثنى ، وغير المستثنى إن كان فشاذّ ـ قائل بالكراهة. ومع ذلك قائل بالاستثناء في سائر كتبه ، فربّما كان إطلاق كلامه في «الخلاف» لعدم اقتضاء المقام التعرّض للاستثناء ، وكذا الحال بالنسبة إلى «المقنع».

وكيف كان ، بعد ملاحظة الاشتهار التام لعلّه لا يبقى كلام ، فتأمّل جدّا!

ثمّ اعلم! أنّ مقتضى كلام المصنّف رحمه‌الله أنّ كراهة التنفّل من خواصّ يوم العيد ، لا خصوصيّة لها بصلاة العيد.

وقال الصدوق رحمه‌الله في «ثواب الأعمال» عند ما روى حديثا في ثواب من صلّى أربع ركعات يوم الفطر بهيئة ذكرت فيه : إنّ هذا الثواب لمن كان إمامه مخالفا لمذهبه ، فيصلّي معه تقيّة ، ثمّ يصلّي هذه الأربع ركعات للعيد ، ولا يعتدّ بما صلّى خلف مخالفه ، فأمّا إذا كان إمامه إماما من الله عزوجل واجب الطاعة على العباد ، فصلّى خلفه صلاة العيد ، لم يكن له أن يصلّي بعد ذلك صلاة حتّى تزول الشمس [. إلى أن قال :] والمعتمد أنّه لا صلاة في العيدين إلّا مع إمام ، فمن أحبّ أن يصلّي وحده فلا بأس ، وتصديق ذلك ما حدّثني محمّد بن الحسن ، عن الحسين بن الحسن ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اذينة ، عن زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «من لم يصلّ مع الإمام [في جماعة يوم العيد] فلا صلاة له ولا قضاء

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٦٦٥ المسألة ٤٣٨.

(٢) المقنع : ١٤٨.

(٣) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٨.


عليه» (١) انتهى.

وإنّما نقلناه بطوله ، لأنّ فيه فوائد للمتأمّل ، منها : أنّ كراهة التنفّل من خواصّ صلاة العيد خلف الإمام المفترض الطاعة أو نائبه ، وكلام باقي الفقهاء صريح في أنّ كراهة التنفّل إنّما هي قبل صلاة العيد أو بعدها إلى الزوال ، ومقتضاه أيضا اختصاص الكراهة بما قبل تلك الصلاة وما بعدها ، وأكثر الأخبار أيضا كذلك (٢).

نعم ، في بعض الأخبار الكراهة يوم العيدين ، كما عرفت ، ولا يبعد حمله على المعهود المفتى به عند الأصحاب.

قوله : (والسفر). إلى آخره.

لا نزاع في جواز السفر والخروج قبل الفجر الصادق ، وادّعي عليه الإجماع (٣).

وأمّا الخروج بعد ذلك وقبل الصلاة ـ كما ذكره المصنّف ـ فدليله مساواة العيدين والجمعة في أمثال ذلك إلّا فيما استثنى ، ومرّ في الجمعة الكراهة بعد طلوع الفجر قبل النداء والزوال ، والحرمة بعد ذلك قبل الصلاة.

وأيضا الحرمة بعد ما طلعت الشمس مقطوع بها عند الأصحاب ، لاستلزامه الإخلال بالواجب على حسب ما مرّ في الجمعة (٤).

وأمّا قبله وبعد الفجر ، فلصحيحة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : «إذا أردت

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١٠٢ و ١٠٣ الحديث ١.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٨ الباب ٧ من أبواب صلاة العيد.

(٣) جامع المقاصد : ٢ / ٤٥٧.

(٤) راجع! الصفحة : ١١٥ ـ ١٢٢ من هذا الكتاب.


الشخوص في يوم عيد فانفجر الصبح وأنت بالبلد ، فلا تخرج حتّى تشهد ذلك العيد» (١).

قال في «الذكرى» : ولمّا لم يثبت الوجوب حمل النهي على الكراهة (٢).

واعترض عليه بعدم المنافاة بين الأمرين حتّى يحتاج إلى التوجيه ، إذ يجوز أن يكون السفر حراما ولم يدخل وقت وجوب الصلاة ، وربّما كان الشارع حرّم السفر تحصيلا للواجب ، وحفظا إيّاه عن الفوت (٣).

وفي «المدارك» بعد الاعتراض المذكور قال : لكن الراوي ـ وهو أبو بصير ـ مشترك بين الثقة والضعيف ، فلا يصحّ التعلّق بروايته والخروج بها عن مقتضى الأصل (٤).

وفيه ما نبّهنا مرارا أنّ أبا بصير الراوي عن الصادق عليه‌السلام مشترك بين ثقات ، وتوهّم كون يحيى بن القاسم غير موثّق فاسد ، وبسطنا الكلام في ذلك في الرجال (٥).

ويمكن أن يقال : مشاركة الجمعة والعيدين الثابتة من الأخبار والإجماع تصير قرينة على كون النهي هنا على سبيل الكراهة ، بعد ما ثبت في الجمعة أنّ السفر قبل النداء مكروه ، فلاحظ ذلك وتأمّل ، وكيف كان ، الترك يختار في مقام العمل.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٣ الحديث ١٤٨٠ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٨٦ الحديث ٨٥٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الحديث ٩٨٨٦.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٦٥.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ١٢٣.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٢٣.

(٥) تعليقات على منهج المقال : ٣٨٤.


٢٣ ـ مفتاح

[ما لو اجتمع عيد وجمعة]

إذا اجتمع عيد وجمعة ، وتخيّر من صلّى العيد في حضور الجمعة وعدمه للصحيح (١).

وقيل : بل يجب الحضور (٢) لقطعيّة دليله (٣).

وقيل : يختصّ التخيير بمن كان قاصي المنزل (٤) للخبر (٥) ، والأوّل أصحّ ، وفاقا للأكثر.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٧ الحديث ٩٨٢٦.

(٢) الكافي في الفقه : ١٥٥ ، غنيّة النزوع : ٩٦.

(٣) اشارة إلى ما في مدارك الأحكام : ٤ / ١١٩ و ١٢٠ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ١٠ / ٢٣٧.

(٤) لاحظ! مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٠.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٨ الحديث ٩٨٢٨.



قوله : (إذا اجتمع). إلى آخره.

اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فالشيخ رحمه‌الله في جملة من كتبه قال : إذا اجتمعا تخيّر من صلّى العيد في حضور الجمعة (١) ، ونحوه قال المفيد (٢) ، ورواه الصدوق في كتابه (٣) ، واختاره ابن إدريس ، والعلّامة أيضا (٤).

وقال ابن الجنيد : إذا اجتمعا أذّن الإمام الناس في خطبة العيد الاولى بأن يصلّي بهم الصلاتين ، فمن أحبّ أن ينصرف جاز له ممّن كان قاصي المنزل ، واستحبّ له حضورها إن لم يكن عليه في ذلك ضرر ولا على غيره (٥).

وظاهره اختصاص التخيير بمن كان نائي المنزل ، واختاره المحقّق (٦) وأبو العبّاس في موجزه (٧).

وقال أبو الصلاح : قد وردت الرواية : «إذا اجتمع عيد وجمعة أنّ المكلّف مخيّر في حضور أيّهما شاء». والظاهر من المسألة وجوب عقد الصلاتين وحضورهما على من خوطب بذلك (٨).

وقال ابن البرّاج : قد ذكر أنّه إذا اتّفق عيد وجمعة ، كان من صلّى العيد مخيّرا

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٦٧٣ المسألة ٤٤٨ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٤ ، المبسوط : ١ / ١٧٠.

(٢) المقنعة : ٢٠١.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٣ الحديث ١٣٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٧ الحديث ٩٨٢٦.

(٤) السرائر : ١ / ٣٠١ ، مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٠.

(٥) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٠.

(٦) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٢.

(٧) الرسائل العشر (الموجز الحاوي) : ٩١.

(٨) الكافي في الفقه : ١٥٥.


بين أن لا يحضرها ، والظاهر هو وجوب حضور الصلاتين (١).

وأمّا الأخبار ، فقد روي في «الفقيه» ، عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام عن الفطر والأضحى إذا اجتمعا يوم الجمعة ، فقال : «اجتمعا في زمان علي عليه‌السلام ، فقال : من شاء أن يأتي الجمعة فليأت ، ومن قعد فلا يضرّه ، وليصلّ الظهر» (٢).

وهذه صحيحة ، مضافا إلى روايته إيّاها في «الفقيه» ، إلّا أنّه يعارضها عمومات الآيات والأخبار المتواترة في العيد والجمعة.

فهل يجوز تخصيصها بمثل هذه الصحيحة أم لا؟ فيه النزاع المشهور ، فمن اختار العدم يلزمه في المقام أيضا.

وإلى هذا نظر أبو الصلاح وابن البرّاج ، إذ صرّحا بأنّ الظني لا يعارض القطعي ، وهو دليل وجوبهما ، والمسألة اصوليّة ، والبناء على التقاوم.

ومع كثرة الأدلّة اليقينيّة سندا ومتنا في طرف العام وموافقة المتواتر إيّاها وكذا الإجماعات ، ووحدة الخاص الذي فيه وهن العمومات اليقينيّة ، وعدم تحقّق شهرة كاملة بالغة ، وتحقّق معارض لذلك الخاص ـ وهو مستند ابن الجنيد الآتي ـ ربّما يوجب التأمّل في المقاومة ، فإنّ الخاص الظني إنّما يقاوم العام من جهة كونه قطعي الدلالة ـ على ما قالوا ـ وقد عرفت أنّ هذا الخاص أيضا ظنّي الدلالة من جهة عمومه وشموله لغير القاضي.

وأمّا مستند ابن الجنيد ، فهو رواية «الكافي» بإسناده ـ كالصحيح ، إلى أبان ، وهو ممّن أجمعت العصابة (٣) ، مضافا إلى أنّه قال في صدر «الكافي» ما قال ـ

__________________

(١) المهذّب : ١ / ١٢٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٣ الحديث ١٣٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٧ الحديث ٩٨٢٦.

(٣) رجال الكشّي : ٢ / ٦٧٣ الرقم ٧٠٥.


عن سلمة ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّه اجتمع عيدان على عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام فخطب الناس فقال : هذا يوم اجتمع فيه عيدان ، فمن أحبّ أن يجمع معنا فليفعل ، ومن لم يفعل فإنّ له رخصة ، يعني من كان متنحّيا» (١) أي بعيدا.

ورواية إسحاق بن عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : إذا اجتمع عيدان [للناس في يوم واحد] فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للناس في خطبة الاولى : وقد اجتمع لكم عيدان فأنا أصلّيهما جميعا ، فمن كان مكانه قاصيا فأحبّ أن ينصرف عن الآخر فقد أذنت له» ، قال محمّد بن أحمد : وأخذت هذا الحديث من كتاب محمّد بن حمزة بن اليسع ، رواه عن محمّد بن الفضيل ، ولم أسمع منه (٢).

وفي «دعائم الإسلام» أيضا عن علي عليه‌السلام أنّه قال : «أذنت لمن كان مكانه قاصيا أن ينصرف» حين اجتمع في خلافته عيد وجمعة (٣).

ويؤيّده قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (٤) مع أنّه ربّما يتحقّق الحرج.

وبالجملة ، الأخبار المذكورة معتبرة على حسب ما عرفت ، مضافا إلى أنّ القائلين بعدم جواز العمل بخبر الواحد ـ مثل ابن إدريس وغيره (٥) ـ عملوا بها ، فهي يقينيّة عندهم أو بعضها ، مع ندرة المنكر لها رأسا ، إذ عرفت أنّ المنكر رجلان من الفقهاء ، وفقهاؤنا لا يحصون عددا ، فبملاحظة جميع ما ذكر يمكن القول بالرخصة للقاصي ، بل ومطلقا على إشكال فيه ، وإن قال الشهيد : القرب والبعد من الامور الإضافيّة ، فيصدق القاصي على من بعد بأدنى بعد ، فيدخل الجميع إلّا

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦١ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٧ الحديث ٩٨٢٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٧ الحديث ٣٠٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٤٨ الحديث ٩٨٢٨.

(٣) دعائم الإسلام : ١ / ١٨٧ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٣٢ الحديث ٦٦٢٣.

(٤) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٥) السرائر : ١ / ٤٧ ، وسائل الشريف المرتضى : ١ / ٢٠٢.


مجاور المسجد (١) ، انتهى. إلّا أنّه بعيد جدّا ، والاحتياط طريقه واضح.

وكيف كان ، لا نزاع في وجوب الحضور على الإمام ، فإن اجتمع المأمومون قدر ما يتحقّق به الفريضة فهو ، وإلّا فسقط عنه أيضا.

وأبو الصلاح وابن البرّاج استدلّا بوجوب الحضور على الإمام أيضا على مذهبهم (٢) بأنّ وجوب الحضور عليه يدلّ على وجوب الحضور على غيره أيضا ، وإلّا لقبح تكليف الإمام ، لتوقّفه على فعل لا يعلم إيقاعه من الغير.

وفيه ، أنّ الواجب هو الحضور ، وهو لا يتوقّف على فعل الغير ، فإن حضر العدد وجبت الفريضة ، وإلّا فلا.

وقيل : ظاهر الشيخ في «الخلاف» ثبوت التخيير للإمام أيضا (٣) ، ولا بدّ من ملاحظة قوله ، والتأمّل فيه.

ثمّ إنّ المحقّق وجماعة قالوا : على الإمام أن يعلمهم (٤) ، وفي «المنتهى» : يستحبّ أن يعلمهم (٥) ، والأخبار لا تفيد الوجوب.

فروع :

ذكرها [الشيخ] مفلح (٦).

الأوّل : يحرم البيع وشبهه بعد الأذان كالجمعة.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ١٩٤.

(٢) نقل عنهما في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦١ و ٢٦٢.

(٣) نقل عنه في ذكرى الشيعة : ٤ / ١٩٥ ، لاحظ! الخلاف : ١ / ٦٧٣ المسألة ٤٤.

(٤) المعتبر : ٢ / ٣٢٦ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٥ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ١٩٣.

(٥) منتهى المطلب : ٦ / ٧٥.

(٦) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٨٣ و ١٨٤.


ولعلّ مراده من الأذان ما ذكرنا من قول : الصلاة ، ثلاثا. ويحتمل التحريم إذا كان منشأ لفوت الفريضة أيّ وقت كان.

وبالجملة ، دليله ما مرّ في الجمعة (١) ، فليلاحظ.

الثاني : لو قنت قبل القراءة ناسيا ، تدارك القراءة واستأنف التكبير والقنوت الذي فعله قبلها ما لم يركع ، فإذا ركع مضى في صلاته وسجد للسهو.

هذا مبني على كون التكبير والقراءة غير ركن ، وقد مرّ الكلام في ذلك (٢).

الثالث : لو نسي التكبيرات أو بعضها ولم يذكر حتّى يركع ، لم يكن عليه إلّا سجود السهو ، وقال الشيخ : يقضيها بعد الصلاة (٣).

ومرّ الكلام في هذا أيضا ، وكذا في القنوت (٤).

الرابع : لو شكّ في عدد التكبيرات بنى على الأقلّ.

وهذا لا يخلو عن إشكال ، لأنّ أصل العدم لا يجري في ماهيّة العبادة.

وما ورد من قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين» (٥) وأنّ هذا أصل سيجي‌ء ما فيه ـ من أنّه على طريقة العامّة ـ مع التأمّل في شموله للمقام ، لأنّ «إذا» من أداة الإهمال.

ويمكن أن يأتي بالمشكوك بنيّة القربة ، وأنّه إن كان جزء للصلاة فبها ، وإلّا فيكون ذكرا ودعاء في وسط الصلاة ، لعدم مانع عنهما.

والأحوط الإعادة ، إلّا أن يكون كثير الشكّ فتصحّ صلاته ، ويبني على أنّه

__________________

(١) راجع! الصفحة : ١١١ من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ٣٨٥ ـ ٣٨٧ من هذا الكتاب.

(٣) نقل عنه في المعتبر : ٢ / ٣١٥ ، منتهى المطلب : ٦ / ٤٠.

(٤) راجع! الصفحة : ٣٨٥ ـ ٣٨٧ من هذا الكتاب.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٣١ الحديث ١٠٢٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢١٢ الحديث ١٠٤٥٢.


أتى بالمشكوك ، على أنّه سيجي‌ء في الفريضة اليوميّة أنّ من شكّ في شي‌ء من أفعالها وهو في موضعه أتى به ، وإن دخل فيما بعده فشكّه ليس بشي‌ء ، وهو جار في المقام ، لظاهر الإجماع وبعض الأخبار (١) ، مع أنّ شغل الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، فتأمّل!

الخامس : لو أدرك بعض التكبيرات مع الإمام أتمّ وأتى بالباقي بنفسه ، فإذا خاف فوت الركوع مع الإمام ، أتى من التكبيرات من غير قنوت.

وهذا أيضا مشكل ، لعدم دليل على الصحّة حينئذ على القول بوجوب القنوت.

نعم ، لو أتى بقنوت ما بعد كلّ تكبيرة أمكن القول بالصحّة ، مع الإشكال في ذلك أيضا ، لأنّ المستفاد من الأخبار كون القنوت على قدره المعهود المعروف وما قاربه ، والاحتياط واضح.

السادس : لو شكّ بين الركعتين بطلت صلاته.

وكذا بينهما وبين ما زاد عنهما.

السابع : لو سافر بعد طلوع الشمس قبل صلاة العيد مع وجوبها عليه ، وجب عليه العود واللحوق بها إن أمكنه ذلك ، وإن لم يمكنه لم يعتبر المسافة من البلد إلى الموضع الذي انتفى فيه إمكان العود واللحوق بالصلاة ، لكونه عاصيا في سفره ، ثمّ يعتبر المسافة من ذلك المكان ، فإن كان الباقي مسافة وجب التقصير حينئذ ، وإلّا فلا ، وكذلك لو سافر يوم الجمعة بعد الزوال.

وفي «المختلف» : أنّ الظاهر من كلام المفيد وابن البرّاج ، أنّ الخروج إلى

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٧ الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.


المصلّى قبل طلوع الشمس (١) ، وقال الشيخ في «الخلاف» : وقت الخروج بعد طلوعها (٢) ، واختاره ، واحتجّ بحسنة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «ليس في الفطر والأضحى أذان ولا إقامة ، أذانهما طلوع الشمس ، إذا طلعت خرجوا» (٣) واحتجّ المفيد رحمه‌الله بأنّ فيه المبادرة إلى فعل الطاعة ، وأجاب بأنّ التعقيب أيضا مبادرة وقال أيضا : لو لم يثبت الهلال إلّا بعد الزوال أفطر وسقطت الصلاة فرضا ونفلا. وقال ابن الجنيد : افطروا واغدوا إلى العيد ، واختار الأوّل.

وقال : لنا أنّ الوقت قد فات ، والقضاء بفرض جديد ، والأصل عدمه حتّى يثبت ، ولم يثبت ، بل قد ورد أنّ من فاتته مع الإمام فلا قضاء عليه ، ولأنّ شرطهما شرط الجمعة ، ومن شروط الجمعة بقاء وقتها ، واحتجّ ابن الجنيد بعموم «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (٤) ، وأجاب بأنّ المراد منه اليوميّة. لأنّها المتبادر عند الإطلاق (٥).

ولا يخفى أنّ دليل ابن الجنيد هو صحيحة محمّد بن قيس ، عن الباقر عليه‌السلام : «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار في ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل الزوال ، فإن شهدا بعد الزوال أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلى بهم» (٦) ومع الصحّة رواها «الكافي»

__________________

(١) المقنعة : ١٩٤ ، نقل عن ابن البرّاج في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٤.

(٢) الخلاف : ١ / ٦٧٥ المسألة ٤٤٩.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٥٩ الحديث ١ ، ثواب الأعمال : ١٠٣ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٩ الحديث ٢٧٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٦٨ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

(٥) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦ مع اختلاف يسير.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٠٩ الحديث ٤٦٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٢ الحديث ٩٧٧٩.


أيضا (١).

وروى أيضا بسنده إلى محمّد بن أحمد ـ رفعه ـ قال : «إذا أصبح الناس صياما ولم يروا الهلال وجاء قوم عدول يشهدون على الرؤية فليفطروا وليخرجوا من الغد أوّل النهار إلى عيدهم» (٢) ورواه في «الفقيه» مرسلا مقطوعا (٣).

فظهر اعتبارها أيضا من رواية «الكافي» ورواية «الفقيه» إيّاها ، مع أنّهما قالا في صدر الكتابين ما قالا.

ويظهر أيضا أنّ الكليني والصدوق أيضا وافقا ابن الجنيد ، فلا غبار على الفتوى ، لصحّة السند واعتضاده بما ذكرنا من «الكافي» والصدوق وغير ذلك.

وعموم «من فاتته» لو لم يكن شاملا كان مؤيّدا ، للتعليق بالوصف المشعر بالعلّية.

ويؤيّده أيضا عمومات ما دلّ على لزوم الصلاة للعيدين وعلّة ذلك ، ولا يضرّ ما ورد من أنّ من فاتته الصلاة مع الإمام ليس عليه قضاء (٤) ، للفرق الواضح بين المقامين.

نعم ، جماعة من العامّة عملوا بمضمون الروايتين ، واختلفوا ، وقال بعضهم : إنّها قضاء ، لكونها من الغد (٥) ، وبعضهم : إنّها أداء ، لكون الغد وقتها في هذه الصورة (٦) ومجرّد هذا يكون مضرّا لا بدّ فيه من تأمّل. وبعض العامّة نفوا هذه الصلاة مطلقا (٧) ، كما هو المشهور عندنا.

__________________

(١) الكافي : ٤ / ١٦٩ الحديث ١.

(٢) الكافي : ٤ / ١٦٩ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٣٣ الحديث ٩٧٨٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١١٠ الحديث ٤٦٨.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الحديث ٩٧٤٥ ، ٤٢٣ الحديث ٩٧٥٢.

(٥) المجموع للنووى : ٥ / ٢٨ و ٢٩.

(٦) المجموع للنووى : ٥ / ٢٨ و ٢٩.

(٧) المجموع للنووى : ٥ / ٢٨ و ٢٩.


ثمّ قال : مسألة ، المشهور أنّ مع اختلال الشرائط يستحبّ الإتيان بها كما لو صلّى مع الشرائط. وقال ابن الجنيد : يصلّي مع الشرائط ركعتين ، ومع اختلالها أربعا ، وبه قال علي بن بابويه (١).

وقال الشيخ في «التهذيب» : من فاتته الصلاة يوم العيد ، لا يجب عليه القضاء ، ويجوز له أن يصلّي إن شاء ركعتين ، وإن شاء أربعا من غير أن يقصد القضاء (٢).

لنا : عموم قول الصادق عليه‌السلام : «صلاة العيد ركعتان» (٣) ، وما روى عبد الله بن المغيرة ، عن بعض أصحابنا ، عن الصادق عليه‌السلام عن صلاة الفطر والأضحى ، فقال : «صلّهما ركعتين في جماعة وغير جماعة وكبّر سبعا وخمسا» (٤).

احتجّ بما رواه أبو البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليهم‌السلام : «فإن فاتته العيد فليصلّ أربعا» (٥) ولأنّها عوض عن مساوي الجمعة ، فكان عدده كعدد مساويها. والجواب الطعن في سند الحديث ، والجمعة بدل الظهر ، فإن فاتت وجب البدل بخلاف العيد [ين] (٦) ، [انتهى].

ثمّ اعلم! أنّ ابن الجنيد قال : أربع مفصولات ، محتجّا بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

__________________

(١) نقل عنهما في مفتاح الكرامة : ٣ / ١٩٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٤ و ١٣٥ ذيل الحديث ٢٩٢.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢٨ الحديث ٢٧١ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٩ الحديث ٩٧٦٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٦١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٥ الحديث ٢٩٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٥٩.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٥ الحديث ٢٩٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٦٠ مع اختلاف يسير.

(٦) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٦ و ٢٦٧.


صلاة النهار مثنى مثنى (١) ، خرج اليوميّة بالإجماع (٢).

وعلي بن بابويه قال : موصولات بتسليمة في آخرها ، محتجّا بأصالة براءة الذمّة من التسليم وتكبيرة الافتتاح (٣).

وفي «المختلف» : هذان القولان ساقطان عندنا (٤). وهذا الكلام منه مشعر بخرقهما الإجماع ، والظاهر أنّه كذلك ، مضافا إلى ضعف دليلهما مطلقا إن كان ما ذكره.

ونقل عن ابن إدريس أنّه استحبّ القضاء ، وعن ابن حمزة أنّه فصل القضاء ، وقال بعدم لزوم القضاء إلّا إذا وصل حال الخطبة وجلس مستمعا لها (٥) ، لصحيحة زرارة المتقدّمة في بحث اشتراط الخطبة (٦).

وفيه ، أنّ الظاهر منها القضاء مطلقا ، لا أنّ المستمع خاصّة يقضي ، لأنّ المعصوم عليه‌السلام أمره بالجلوس حتّى يفرغ الإمام.

مع أنّ القضاء بالمعنى الظاهر من هذه الصحيحة لعلّه ليس محلّ تأمّل أحد ، لما عرفت سابقا من أنّ هذه الصلاة مستحبّة عند عدم الإمام ومن نصبه وفاقا ، وإنّما التأمّل في كونها جماعة أو فرادى أو كليهما ، وأنّها ركعتان أو أربع.

وقال الصدوق في «الهداية» في بيان صلاة العيدين : وكبّر [سبع] تكبيرات تقول بين كلّ تكبيرتين ما شئت من كلام حسن. إلى أن قال : وإن صلّيت جماعة بخطبة صلّيت ركعتين ، وإن صلّيت بغير الخطبة صلّيت أربعا بتسليمة واحدة.

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل : ٢ / ١٤٨ الحديث ٥١٠١ مع اختلاف يسير.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧.

(٤) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٧.

(٥) نقل عنهما في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٧٠ ، لاحظ! السرائر : ١ / ٣١٨ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١١١.

(٦) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٣ الحديث ٩٧٥٢.


وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من فاتته [صلاة] العيد فليصلّ أربعا» (١). إلى أن قال : ولا صلاة يوم العيد بعد صلاة العيد حتّى تزول الشمس (٢).

وفي «دعائم الإسلام» أيضا : إنّه سأل الصادق عليه‌السلام : عن الرجل [الذي] لا يشهد العيد هل عليه أن يصلّي في بيته؟ قال : «نعم ولا صلاة إلّا مع إمام عدل ومن لم يشهد من رجل او امرأة صلّى أربع ركعات [في بيته] ركعتين للعيد وركعتين للخطبة ، وكذلك من لم يشهد [العيد] من أهل البوادي فيصلّون لأنفسهم أربعا» (٣).

فعلى هذا يحتمل أن تكون الركعتان الاخريان أيضا مستحبّتين على حدة ، كما مرّ عن الشيخ ، سيّما مع التسامح في أدلّة السنن ، لكن الوصل مشكل ، لمخالفته لهيئة الصلاة ، فإنّها على ركعتين ، سوى الظهرين والعشاء وصلاة الأعرابي إن صحّت ، مضافا إلى أنّ الأصل كان ركعتين ، ولا ينافي ذلك إطلاق لفظ الأربع على الإطلاق ، لأنّ تتبّع تضاعيف موارد الاستعمالات يكشف عن كونها ركعتين.

ثمّ اعلم! أنّه ورد في بعض الأخبار : أنّ صلاة العيد يجهر فيها بالقراءة (٤) ، وفي بعض آخر : لا يجهر إلّا الإمام ، لكن انضمّ بها صلاة الجمعة (٥) ، وسيجي‌ء الكلام فيها.

وقال في «التذكرة» : يستحبّ الجهر بالقراءة في صلاة العيدين إجماعا (٦).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٥ الحديث ٢٩٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٤٦ الحديث ١٧٢٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٦٠.

(٢) الهداية : ٢١١ ـ ٢١٣ مع اختلاف يسير.

(٣) دعائم الإسلام : ١ / ١٨٦ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٢٢ الحديث ٦٥٨٩ ، ١٢٣ الحديث ٦٥٩٣.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٣٠ الحديث ٢٨٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧٦ الباب ٣٢ من أبواب صلاة العيد.

(٥) قرب الإسناد : ٢١٥ الحديث ٨٤٢ ، وسائل الشيعة : ٦ / ١٦٢ الحديث ٧٦٢٩.

(٦) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٣٥ المسألة ٤٤٦ مع اختلاف يسير.


ثمّ اعلم! أنّه يظهر ممّا نقلنا عن الصدوق هنا وفيما سبق ، أنّه أيضا قائل بالمنع عن النوافل بعد صلاة العيدين إلى الزوال ، ولفظة «الصلاة» وإن كانت مطلقا ، إلّا أنّ المتبادر لعلّه النافلة في أمثال المقام ، ولذا نسب إلى الفقهاء كذلك.

نعم ، نقل في «المختلف» عن أبي الصلاح أنّه قال : لا يجوز التطوّع ولا القضاء قبل صلاة العيد ولا بعدها ، لكن قال : هذه عبارة رديّة ، لأنّها توهّم المنع من قضاء الفرائض. إلى أن قال : وما أظنّه يريد سوى ما قصدناه ، يعني قضاء النوافل (١) ، واستدلّ على جواز قضاء الفرائض بالعمومات (٢) الدالّة عليه.

لا يقال : العمومات معارضة بما دلّ على المنع من الصلاة مطلقا.

لأنّا نقول : هذه العمومات أقوى دلالة ، سيّما بملاحظة الفتاوى وأفهام الفقهاء ، وعلى تقدير التقاوم فالأصل الجواز ، لأنّ التعارض بينهما من باب العموم من وجه ، يصحّ أن يكون كلّ منهما مخصّصا للآخر ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٦٩ و ٢٧٠ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥٥.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٥٣ الباب ١ ، ٢٥٦ الباب ٢ ، ٢٥٨ الباب ٣ من أبواب قضاء الصلوات.


٢٤ ـ مفتاح

[وجوب صلاة الآيات]

تجب الصلاة بكسوف أحد النيّرين والزلزلة على المشهور ، للصحيح : «صلاة الكسوف فريضة» (١). وفي رواية : «فإذا انكسفتا أو إحداهما فصلّوا» (٢).

وفي الزلزلة : فإذا كان ذلك فما أصنع؟ قال : «صلّ صلاة الكسوف» (٣).

وقيل باستحبابها في الزلزلة (٤) ، والأكثر على وجوبها للرياح المظلمة وغيرها من أخاويف السماء المخوّفة لعامّة الناس ، وفاقا للأكثر (٥) ، لظاهر الصحاح (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٣ الحديث ٩٩١٥.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٦٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٤ الحديث ٣٢٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٥ الحديث ٩٩٢٣ مع اختلاف يسير.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٣ الحديث ١٥١٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٦.

(٤) لم نعثر على هذا القول ، لكن قال البحراني رحمه‌الله ـ بعد ما نقل هذا عن المصنّف رحمه‌الله ـ : (ولم نقف على قائل بذلك) ، الحدائق الناضرة : ١٠ / ٣٠٠.

(٥) المقنع : ١٤١ ، الخلاف : ١ / ٦٨٢ ، المهذّب : ١ / ١٢٤.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٣ الباب ١ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.


وقيل : بل تستحبّ لذلك (١) ، وقيل : بل تجب للريح المخوّفة والظلمة الشديدة خاصّة (٢).

__________________

(١) نقله المحقّق في شرائع الإسلام : ١ / ١٠٣.

(٢) نقله المحقّق في شرائع الإسلام : ١ / ١٠٣.


قوله : (تجب الصلاة بكسوف). إلى آخره.

يطلق على خسوف القمر أيضا لفظ الكسوف لغة وعرفا وشرعا ، بل ورد في صحيحة زرارة وابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام : «كلّ أخاويف السماء من ظلمة أو فزع أو ريح فصلّ له صلاة الكسوف حتّى يسكن» (١).

وربّما ورد في غيرها أيضا ، والفقهاء أيضا ربّما يطلقون على الصلاة التي للأخاويف أيضا صلاة الكسوف.

أجمع علماؤنا كافّة على وجوب هذه الصلاة بكسوف الشمس والقمر والزلزلة على الأعيان ، نقله في «التذكرة» (٢) ، وفي «المعتبر» أيضا نسبه إلى الأصحاب (٣).

ويدلّ على ذلك صحيحة جميل ، عن الصادق عليه‌السلام : أنّها فريضة لكسوف الشمس (٤).

وصحيحة ابن اذينة ، عن رهط ـ وهم الفضيل وزرارة وابن مسلم وبريد ـ عن أحدهما عليهما‌السلام ، ومنهم من روى عنهما عليهما‌السلام جميعا : «إنّ صلاة كسوف الشمس والقمر والرجفة والزلزلة عشر ركعات وأربع سجدات ، صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والناس خلفه في كسوف الشمس ، ففرغ حين فرغ وقد انجلى كسوفها» (٥).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٤.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٦٧ المسألة ٤٧٠.

(٣) المعتبر : ٢ / ٣٢٨.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٣ الحديث ٨٨٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٣ الحديث ٩٩١٤ و ٩٩١٥.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٢ الحديث ٩٩٤١.


وصحيحة اخرى ، عن جميل : «صلاة العيدين فريضة وصلاة الكسوف فريضة» (١).

والرواية النبويّة المشهورة ـ التي ذكرها المصنّف ، إذ يظهر من سياقها كون هذه الصلاة موظّفة شرعا للكلّ على نهج واحد ـ : «إذا انكسفتا أو إحداهما فصلّوا» (٢). إلى غير ذلك.

ورواية سليمان الديلمي ، عن الصادق عليه‌السلام : «إذا أراد الله أن يزلزل الأرض أمر الملك أن يحرّك عروقها فيحرّك بأهلها» قلت : فإذا كان كذلك فما أصنع؟ قال : «صلّ صلاة الكسوف» (٣) ، وضعفها منجبر بالشهرة ، بل الإجماع.

وصحيحة الفضلاء السابقة (٤) ، وغيرها مثل ما رواه في «دعائم الإسلام» عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «تصلّي في الرجفة والزلزلة والريح العظيمة والظلمة والآية تحدث وما كان مثل ذلك ، كما يصلّي في كسوف الشمس والقمر سواء» (٥).

ولعلّ مراد المصنّف من القائل بالاستحباب أبو الصلاح ، إذ نقل عنه أنّه لم يتعرّض لغير الكسوفين (٦).

لكن لم يذكر أحد أنّه تعرّض لاستحبابه ، ومع ذلك في «المختلف» : إنّ أبا الصلاح لم يتعرّض لذكر غير الكسوفين (٧) ، وإن كان خالي رحمه‌الله نقل ، كما ذكرت

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٢٠ الحديث ١٤٥٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤١٩ الحديث ٩٧٣٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٤ الحديث ٣٢٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٥ الحديث ٩٩٢٣ مع اختلاف يسير.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٣ الحديث ١٥١٧ ، علل الشرائع : ٥٥٦ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٦.

(٤) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٥) دعائم الإسلام : ١ / ٢٠٢ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٦٥ الحديث ٦٦٨٥.

(٦) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٧٨ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥٥.

(٧) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٧٨ ، لاحظ! الكافي في الفقه : ١٥٥.


أوّلا (١) ، ولعلّه كان سقط في مختلفه.

لكن في «المدارك» أيضا كما ذكره خالي رحمه‌الله (٢) ، ولعلّه أخذه من «المدارك» ، وظاهر «المدارك» ، اعتماده على الإجماع ورواية الديلمي بالنسبة إلى الزلزلة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وفي «مجالس الصدوق» بسنده إلى الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام : «إنّ الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات الساعة ، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فتذكّروا قيام القيامة وافزعوا إلى مساجدكم» (٣).

قوله : (والأكثر على وجوبها). إلى آخره.

وهم الشيخ والمفيد والمرتضى وابن الجنيد وابن أبي عقيل وابن إدريس من القدماء (٤) ، مضافا إلى المتأخّرين (٥) والصحاح ، منها صحيحة زرارة وابن مسلم السابقة (٦).

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام عن الريح والظلمة التي تكون في السماء والكسوف؟ فقال عليه‌السلام : «صلاتهما سواء» (٧).

وصحيحة ابن مسلم وبريد بن معاوية ، عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : «إذا وقع

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٨ / ١٤٥.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٢٧.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٧٥ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٧ الحديث ٩٩٢٧.

(٤) المقنعة : ٢١٠ ، رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٤٦ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٦ ، نقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٧٨ ، السرائر : ١ / ٣٢٠ و ٣٢١.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٠٢ ، روض الجنان : ٣٠٣ ، مدارك الأحكام : ٤ / ١٢٧.

(٦) راجع! الصفحة : ٤٣١ من هذا الكتاب.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤١ الحديث ١٥١٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٥.


الكسوف أو بعض هذه الآيات فصلّها ما لم تتخوف أن يذهب وقت الفريضة ، فإن تخوّفت فابدأ بالفريضة ، فإذا فرغت فارجع إلى حيث كنت قطعت واحتسب بما مضى» (١) ، الحديث.

وصحيحة الفضلاء السابقة (٢) ربّما يكون دليل المنكر ، إذ يظهر من السياق لزومها وكونها موظّفة للأمور المذكورة خاصّة ، وكونها بالنسبة إلى الكلّ على نهج واحد.

وأمّا القائل بالاستحباب فيها ، فلم نطّلع عليه سوى ما ذكرنا عن أبي الصلاح (٣) ، وقد عرفت ما فيه.

نعم ، في «الشرائع» : وقيل : لا ، بل يستحبّ للريح المخوفة والظلمة الشديدة حسب (٤) ، فتأمّل!

ويمكن أن يكون مراد المصنّف من القول بالاستحباب القول بعدم الوجوب ، لكنّه بعيد عن عبارته.

فيحتمل أن يكون حكمه بقوله بالاستحباب من جهة أنّه بعيد يرد هذه الصحاح بالمرّة ، فيكون قائلا بالاستحباب ، فتأمّل!

وأمّا القائل بالوجوب في الرياح المخوفة والظلمة الشديدة خاصّة زائدا على الوجوب للكسوفين والزلزلة ، فهو الشيخ في «النهاية» (٥). وينسب إلى جمله القول بالوجوب للرياح المظلمة السود خاصّة زائدا على الوجوب المذكور (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩١ الحديث ٩٩٣٧ ، مع اختلاف.

(٢) راجع! الصفحة : ٤٣١ من هذا الكتاب.

(٣) مرّ آنفا.

(٤) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٣.

(٥) النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٦.

(٦) نسب إليه في الحدائق الناضرة : ١ / ٣٠٢ ، لاحظ! الرسائل العشر (الجمل والعقود) : ١٩٤.


والذي وجدت في نهايته ، أنّه على وفق ما نسب إليه في جمله (١). ولعلّ ذكره خصوص الرياح السود من باب المثل ، لأنّ طريقته رحمه‌الله في نهايته أنّه يفتي بنفس مضامين الأخبار التي ذكرها في «التهذيب» و «الاستبصار» ، كما لا يخفى على المطّلع ، مع أنّه لا وجه لاقتصاره عليها من جهة الأخبار والأدلّة.

واحتجّ في «المختلف» للمانعين بالأصل ، وأنّه لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلها لغير الكسوف (٢). والأصل لا يعارض الدليل ، وعدم النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستلزم العدم واقعا ، سلّمنا ، لكنّها ذات سبب ، فلعلّه لم يتحقّق سببه له.

وقوله : (المخوفة لعامّة الناس).

يقتضي أن يكون الخوف الحاصل لبعض الناس غير مضرّ ، إذ ربّما كان جبانا يخاف من شي‌ء سهل ، وإطلاق لفظ «الأخاويف» ينصرف إلى الفروض الشائعة.

فعلى هذا ، لو كسف بعض الكواكب جرم أحد النيرين ، لم يكن فيه صلاة ، لأنّ أغلب الناس لا يخافون من مثله ، إلّا أن يقال : عدم خوفهم ، لعدم اطّلاعهم ، ولو كانوا يطّلعون لكانوا يخافون ، كما هو الحال في الأخاويف المسلّمة ، فإنّ غير المطّلع بها لا يخاف البتة ، والخوف فرع الاطّلاع ، لكن كون العامّة يخافون من مثله إن اطّلعوا محلّ تأمّل ، وكذا كون الأخاويف التي لا يطّلع عليها إلّا نادر موجبا للصلاة ، والأحوط أن يصلّي المطّلع عليه.

__________________

(١) لم ترد في (ز ٣) : في جمله.

(٢) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨٠.



٢٥ ـ مفتاح

[كيفيّة صلاة الآيات]

هذه الصلاة عشر ركعات وأربع سجدات بالإجماع والصحاح (١) ، ويشترط فيها زيادة على ما يشترط في اليوميّة ، العلم بالآية لاستحالة تكليف الغافل.

نعم ، يجب القضاء في الكسوفين مع الاستيعاب وعدم العلم ، ولكنّه فرض مستأنف ، كما يأتي.

واشترط بعضهم في غير الزلزلة اتّساع الوقت (٢) ، وفيه نظر.

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٢ الباب ٧ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٠.



قوله : (هذه الصلاة). إلى آخره.

وكيفيّة هذه الصلاة أن ينوي ، ثمّ يكبّر للإحرام ، ثمّ يقرأ «الحمد» وسورة ، ثمّ يركع ، ثمّ يرفع رأسه ، فإن كان لم يتمّ السورة قرأ (١) من حيث قطع تلك السورة من دون أن يقرأ الحمد ، وإن كان أتمّ قرأ (٢) «الحمد» ، ثمّ يقرأ سورة ، حتّى يتمّ خمس ركعات على هذا الترتيب ، ثمّ يركع ويسجد سجدتين ، ثمّ يقوم ويقرأ «الحمد» وسورة معتمدا ترتيبه الأوّل ، ثمّ يركع ويسجد سجدتين ويتشهّد ويسلّم ، فيكون عشر ركعات بحسب الركوع ومن جهته ، وركعتين بحسب السجود ومن جهته.

يدلّ على ذلك صحيحة ابن اذينة ، عن رهط ـ وهم الفضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية ـ عن كليهما عليهما‌السلام ، ومنهم من رواه عن أحدهما عليهما‌السلام : «إنّ صلاة كسوف الشمس والقمر والرجفة والزلزلة عشر ركعات وأربع سجدات ، صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والناس خلفه في كسوف الشمس ، ففرغ حين فرغ وقد انجلى كسوفها».

ورووا : «أنّ الصلاة في هذه الآيات كلّها سواء ، وأشدّها وأطولها كسوف الشمس ، تبدأ فتكبّر بافتتاح الصلاة ، ثمّ تقرأ أمّ الكتاب وسورة ، ثمّ تركع ، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقرأ أمّ الكتاب وسورة ، ثمّ تركع الثانية ، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقرأ أمّ الكتاب وسورة ، ثمّ تركع الثالثة ، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقرأ أمّ الكتاب وسورة ، ثمّ تركع الرابعة ، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقرأ أمّ الكتاب وسورة ، ثمّ تركع الخامسة ، فإذا رفعت رأسك قلت : سمع الله لمن حمده ، ثمّ تخرّ

__________________

(١) في (د ٢) و (ز ٣) : قرأ الآن.

(٢) في (د ٢) و (ز ٣) : قرأ الآن.


ساجدا فتسجد سجدتين ، ثمّ تقوم فتصنع مثل ما صنعت في الاولى» ، قال : قلت : وإن هو قرأ سورة واحدة في الخمس ركعات ففرقها بينها؟ قال : «أجزأه أمّ القرآن في أوّل مرّة ، فإن قرأ خمس سور فمع كلّ سورة أمّ القرآن والقنوت في الركعة الثانية قبل الركوع إذا فرغت من القراءة ، ثمّ تقنت في الرابعة مثل ذلك ، ثمّ في السادسة ، ثمّ في الثامنة ، ثمّ في العاشرة» (١).

وصحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم المرويّة في «الكافي» قالا : سألنا أبا جعفر عليه‌السلام عن صلاة الكسوف كم هي ركعة وكيف نصلّيها؟ فقال : «هي عشر ركعات وأربع سجدات ، تفتتح الصلاة بتكبيرة ، وتركع بتكبيرة ، وترفع رأسك بتكبيرة إلّا في الخامسة التي تسجد فيها ، وتقول : سمع الله لمن حمده ، وتقنت في كلّ ركعتين قبل الركوع ، وتطيل القنوت والركوع على قدر القراءة والركوع والسجود ، فإن فرغت قبل أن ينجلي فاقعد وادع الله حتّى ينجلي ، إن انجلى قبل أن تفرغ من صلاتك فأتمّ ما بقي ، وتجهر بالقراءة».

قال : قلت : كيف القراءة فيها؟ قال : «إن قرأت سورة في كلّ ركعة فاقرأ فاتحة الكتاب ، وإن نقصت من السورة شيئا فاقرأ من حيث نقصت ولا تقرأ فاتحة الكتاب» ، قال : «وكان يستحبّ أن يقرأ فيها «الكهف» و «الحجر» إلّا أن يكون إماما يشقّ على من خلفه ، وإن استطعت أن تكون صلاتك بارزا لا يخبيك بيت فافعل ، وصلاة كسوف الشمس أطول من صلاة كسوف القمر ، وهما سواء في القراءة والركوع والسجود» (٢).

ويستفاد من هاتين الصحيحتين التخيير الذي ذكرنا بين قراءة سورة كاملة

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٢ الحديث ٩٩٤١.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٦٣ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦.


بعد «الحمد» في كلّ قيام ، وبين تفريق سورتين على العشر في كلّ خمس سورة ، وأنّه متى أتمّ السورة وجب قراءة «الحمد» ، وإن لم يتمّ فلا يقرأ «الحمد» ، ولا يعدل إلى سورة اخرى ، بأن يقرأ كلّها أو بعضها ، بل عليه أن يقرأ من موضع القطع ، لقوله عليه‌السلام : «فإن نقصت من السورة فاقرأ من حيث نقصت».

وربّما يظهر من إطلاق الرواية الثانية جواز التفريق بأن يبعّض سورة في إحدى الخمس ويقرأ في الاخرى خمس سور ، أو أن يجمع في إحدى الخمسين بين الإتمام والتبعيض بأن يقرأ «الحمد» بعد كلّ إتمام ، وأن لا يقرأها ، بل يقرأ في موضع القطع في كلّ تبعيض.

واحتمل في «الذكرى» انحصار المجزي في سورة واحدة ، أو خمس سور (١) ، ولم نعرف وجهه ، إلّا أنّه لعلّه أحوط ، كما سنذكر عن «المدارك».

وهل يجب إكمال سورة في الخمس؟ قال العلّامة في «النهاية» : الأقرب ذلك (٢) ، ولعلّه أيضا أحوط بل وأقرب ، وهو المشهور.

ولو جمع في ركعة بين الإتمام والتبعيض ، فهل له أن يسجد قبل إتمام السورة؟ فيه وجهان.

وكذا في جواز إتمامها بعد القيام من السجود ، لكن لا بدّ حينئذ من قراءة «الحمد» ، والأحوط عدم اختيارهما أيضا بل الأقرب أيضا.

ولو رفض السورة التي قرأ بعضها ، فهل تجب قراءة «الحمد» حينئذ من أنّه في حكم الإكمال أو لا تجب؟ لأنّ قراءته مشروطة بإكمال السورة قبلها ، والأحوط عدم الاكتفاء بمثل هذه الصلاة وعدم الرفض ، بل الأقرب أيضا ، بل يفعل كما

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١٠.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٧٣.


ذكرنا.

وممّا نقلنا من الأخبار ظهر ما في كلام الشهيدين : من أنّه متى ركع عن بعض سورة تخيّر في القيام بعده بين القراءة من موضع القطع ، وبين القراءة من أيّ موضع شاء من السورة متقدّما أو متأخّرا ، وبين رفضها وقراءة غيرها (١) ، وما احتمل في «الذكرى» من أمر رابع ، وهو أنّ له إعادة البعض الذي قرأ من السورة بعينه ، فقال : فحينئذ هل يجب قراءة الحمد؟ يحتمل ذلك لابتدائه ، ويحتمل عدمه ، لأنّ قراءة بعضها يجزي ، فقراءة جميعها أولى ، هذا ، إن قرأ جميعها ، وإن قرأ بعضها فأشدّ إشكالا (٢).

وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام ابن إدريس أيضا ـ من أنّه إذا أكمل السورة استحبّ له قراءة «الحمد» ، واحتجّ لذلك بأنّ الركعات كركعة واحدة (٣) ـ إذ عرفت أنّه خلاف ما ورد في النصوص ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وفتاوى الأصحاب ، مع أنّ العبادات توقيفيّة وهيئة متلقّاة من الشرع ، فأيّ معنى لما ذكره؟ إذ لا بدّ فيها من الاقتصار على ما ثبت من الشرع قولا أو فعلا.

وفي «المدارك» : لا ريب أنّ الاحتياط يقتضي الاقتصار على قراءة خمس سور في كلّ ركعة ـ أي خمس ركعات ـ أو تفريق سورة على الخمس ، والله يعلم (٤) ، انتهى.

هذا ، وفي «الفقيه» : سأل الحلبي أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الكسوف ، كسوف الشمس والقمر؟ قال : «عشر ركعات وأربع سجدات يركع خمسا ثمّ

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١٠ ، روض الجنان : ٣٠٣.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١١.

(٣) السرائر : ١ / ٣٢٤.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٤٠.


يسجد في الخامسة ، ثمّ يركع خمسا ويسجد في العاشرة ، وإن شئت قرأت سورة في كلّ ركعة ، وإن شئت قرأت نصف سورة في كلّ ركعة ، فإذا قرأت سورة في كلّ ركعة فاقرأ فاتحة الكتاب ، وإن قرأت نصف السورة أجزأك أن لا تقرأ فاتحة الكتاب إلّا في أوّل ركعة حتّى تستأنف اخرى ، ولا تقل : سمع الله لمن حمده في رفع رأسك من الركوع إلّا في الركعة التي تريد أن تسجد فيها» (١).

وهذه تدلّ على جواز قراءة «الحمد» عند اختيار تبعيض السورة ، وأنّه مخيّر بين السورة وتبعيضها ، أي بعض من أيّ سورة ، ولعلّها دليل الشهيدين ـ فتأمّل في ذلك ـ لكن بملاحظة قوله عليه‌السلام : «حتّى تستأنف اخرى» ترتفع دلالتها موافقا لما سنذكر عن «قرب الإسناد».

وفي «دعائم الإسلام» : أنّ الصادق عليه‌السلام : رخّص في تبعيض السورة أن يقرأ ببعض السورة ثمّ يركع ، ثمّ يرجع إلى الموضع الذي وقف عليه فيقرأ منه. إلى أن قال : «وأن يقرأ السورة في كلّ ركعة أفضل» (٢).

وممّا يعضد الصحيحتين قويّة أبي بصير قال : سألته عن صلاة الكسوف؟ فقال : «عشر ركعات وأربع سجدات ، يقرأ في كلّ ركعة مثل «يس» و «النور» ، ويكون ركوعك مثل قراءتك ، وسجودك مثل ركوعك» ، قلت : فمن لم يحسن «يس» وأشباهها؟ قال : «فليقرأ ستّين آية في كلّ ركعة ، فإذا رفع رأسه من الركوع فلا يقرأ بفاتحة الكتاب ، قال : فإن أغفلها أو كان نائما فليقضها» (٣).

إذ نهى عن قراءة الفاتحة ، بناء على أنّه لا يحسن سورة يكون بهذه المقادير

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٥ الحديث ٩٩٤٧.

(٢) دعائم الإسلام : ١ / ٢٠١ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٧٠ الحديث ٦٦٩٨ مع اختلاف يسير.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٤ الحديث ٨٩٠ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٢ الحديث ١٧٥١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٣ الحديث ٩٩٤٢.


من الآيات ، فلم يكن الستّون سورة تامّة ، لكن ربّما يظهر منها جواز التبعيض مطلقا.

وفي «قرب الإسناد» بسنده عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليهما‌السلام ، قال : سألته عن صلاة الكسوف ما حدّه؟ قال : «متى أحبّ ، ويقرأ ما أحبّ غير أنّه يقرأ ويركع أربع ركعات ثمّ يسجد في الخامسة ، ثمّ يقوم فيفعل مثل ذلك». إلى أن قال : ـ «يقرأ في كلّ ركعة بفاتحة الكتاب ، فإذا ختمت سورة وقرأت في أخرى فأقرأ فاتحة الكتاب ، وإن قرأت سورة في ركعتين أو ثلاث فلا تقرأ فاتحة الكتاب حتّى تختم السورة ، ولا تقول : سمع الله لمن حمده إلّا الركعة التي تسجد» ، قال : وسألته هل على من تركها قضاء؟ قال : «إذا فاتتك فليس عليك فيها قضاء» (١).

وكيف كان ، الأحوط العمل ، كما ذكرنا ، بل كما ذكره في «المدارك» أيضا (٢).

قوله : (ويشترط فيها). إلى آخره.

أي الشرائط الخارجة من الطهارة عن الحدث والخبث وستر العورة بما يصحّ ، وإباحة المكان وغيرها ممّا يتعلّق بمكانها واستقبال القبلة ، والوقت وغير ذلك ، بل النيّة أيضا من الشرائط ـ كما سيجي‌ء ـ والأجزاء الداخلة من تكبيرة الافتتاح و «الحمد» والسورة والركوع والسجود والتشهّد والسّلام ، على حسب ما يكون في اليوميّة ، سوى ما زاد عنه من زيادة الركعات ركوعا.

والدليل على اعتبار الكلّ الإجماع ، وما في «العلل» : «وإنّما جعلت عشر

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢١٩ الحديث ٨٥٦ ـ ٨٥٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٦ و ٤٩٧ الحديث ٩٩٥٢ و ٩٩٥٣ مع اختلاف يسير.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٤٠.


ركعات ، لأنّ أصل الصلاة التي نزل فرضها من السماء أوّلا في اليوم والليلة إنّما هي عشر ركعات ، فجمعت تلك الركعات هاهنا» (١).

وما سيجي‌ء في مباحث الامور المذكورة في اليوميّة ، بحيث لا يحتاج إلى التعرّض للذكر في المقام ، لكن لا بدّ من التعرّض لبعضها هنا.

فنقول : ظهر من كلام المصنّف أنّ صلاة الآيات كلّها موقّتة بوقت ، فلا بدّ من التعرّض لذلك ولذكر الأوقات ، فنقول : وقت صلاة الكسوف أوّله من حين ابتدائه ، قال في «المنتهى» : إنّه مذهب علماء الإسلام (٢) ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإذا رأيتم ذلك فصلّوا» (٣) ، وقول الصادق عليه‌السلام : «وقت صلاة الكسوف في الساعة التي تنكسف» (٤). (٥)

قلت : ويدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإذا انكسفتا أو إحداهما فصلّوا» (٦).

وأمّا آخر وقتها ، فذهب جماعة ـ منهم المحقّق ـ إلى أنّه تمام الانجلاء (٧). ونقل عن الشيخين وابن حمزة وابن إدريس أنّه الأخذ في الانجلاء (٨).

والأوّل أصحّ للاستصحاب ، وموثّقة عمّار : «إن صلّيت الكسوف فإلى أن

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٦٩ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٣ الحديث ٩٩١٦.

(٢) منتهى المطلب : ٦ / ٩٨.

(٣) سنن النسائي : ٣ / ١٣١ ، السنن الكبرى للبيهقي : ٣ / ٣٢٠ مع اختلاف يسير.

(٤) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٣ الحديث ٨٨٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٨ الحديث ٩٩٣٠.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ١٢٨.

(٦) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٥ الحديث ٩٩٢٣.

(٧) شرائع الإسلام : ١ / ١٠٣ ، المعتبر : ٢ / ٣٣٠ ، منتهى المطلب : ٦ / ٩٩ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٩٥.

(٨) المقنعة : ٣٥ ، المبسوط : ١ / ١٧٢ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١١٢ ، السرائر : ١ / ٣٢٢.


يذهب الكسوف» (١) والذهاب ظاهره الانجلاء التام ، وصحيحة معاوية بن عمّار : «إذا فرغت قبل الانجلاء فأعد» (٢).

ولو خرج الوقت بالأخذ فيه لما استحبّ الإعادة بعده ، كما لا يستحبّ الإعادة بعد الانجلاء التام.

ولما ورد في «العلل» ـ من أنّ الانكساف يشبه آيات الساعة ، فأمرنا بتذكّر القيامة عند مشاهدتها ، والرجوع إلى الله ، والفزع إلى المساجد ـ «لأنّه من آيات الله تعالى لا يدري الرحمة ظهرت أم لعذاب ، فأحبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تفزع امّته إلى خالقها ليصرف عنهم شرّها ، ويقيهم مكروهها ، كما صرف عن قوم يونس عليه‌السلام» (٣).

وأيضا ربّما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في فوت تلك الصلاة ووجوب القضاء وعدم وجوبه ، وسنذكرها ، ومرّ ما ذكرناه عن «قرب الإسناد» (٤) ، ويؤيّده أيضا رواية «المجالس» التي ذكرناها (٥).

واستدلّ للقائلين بالأخذ في الانجلاء ، بما رواه جماعة ، عن الصادق عليه‌السلام قال : ذكر عنده انكساف الشمس وما يلقي الناس من شدّته ، فقال : «إذا انجلى منه شي‌ء فقد انجلى» (٦).

والدلالة لا تخلو عن ضعف ، لاحتمال إرادة تساوي الحالين في زوال الشدّة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٦ الحديث ٣٣٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٥ مع اختلاف يسير.

(٣) علل الشرائع : ٢٦٩ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٣ الحديث ٩٩١٦ مع اختلاف يسير.

(٤) راجع! الصفحة : ٤٤٤ من هذا الكتاب.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٧ الحديث ٩٩٢٧ ، راجع! الصفحة : ٤٣٣ من هذا الكتاب.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٧ الحديث ١٥٣٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٨ الحديث ٩٩٣١ مع اختلاف يسير.


وتظهر الفائدة في نيّة القضاء أو الأداء لو شرع في الانجلاء ، وفي ظرف زمان التكليف الذي يسع الصلاة ، ولو غابت الشمس والقمر بعد الكسوف وقبل الانجلاء وجبت الصلاة أداء إلى أن يتيقّن الانجلاء ، وكذا لو سترهما غيم ، أو طلعت الشمس على القمر ، استصحابا للحالة السابقة.

وما استدلّ منكر الاستصحاب من أنّ الأمر بالصلاة مطلق مع عدم العلم بانقضاء الوقت المقتضي لفوات الأداء ، فيه ما فيه ، لأنّ الأصل عدم التكليف حتّى يتحقّق التكليف ، والأمر ورد بالصلاة في وقت الانكساف لا بعده ، إلّا أن يصير قضاء ويكون واجبا.

قال في «الذكرى» : ولو اتّفق إخبار رصديين عدلين بمدّة المكث أمكن العود إليهما ، ولو أخبرا بالكسوف في وقت مترقّب ، فالأقرب أنّهما ومن أخبراه بمثابة العالم ، وكذا لو اتّفق العلم بخبر الواحد للقرائن (١).

ولا ريب في أنّه متى حصل العلم ـ بأيّ نحو حصل ـ يجب ، لعموم ما دلّ عليه.

وأمّا شهادة العدلين ، فلو كانت مستندة إلى الحس ، فهي حجّة عند العلماء ، ولعلّه للاستقراء وبعض العمومات ، فتأمّل!

وأمّا إذا اسندت إلى الحدس ، فعندهم خلاف في حجّيته ، فيمكن أن يكون حجّة ، لعموم قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) (٢) الآية ، ولحديث : «المؤمن وحده حجّة» (٣) ، لكن هذا يقتضي حجيّة خبر الواحد من العدل أيضا ، والأحوط مراعاته.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٠٨.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٤٦ الحديث ١٠٩٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٩٧ الحديث ١٠٧١٣.


ولو لم يتّسع الوقت لأقلّ الواجب من هذه الصلاة فهل تجب ـ بناء على أنّها غير موقّتة بل من قبيل المسببيّة كالزلزلة ـ أو لم تجب؟ لكونها موقّتة ، والتكليف بالموقّت الذي لا يسع الوقت له ، تكليف بالمحال.

ولعلّ الظاهر من بعض الأخبار هو الثاني ، مثل صحيحة جميل ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «وقت صلاة الكسوف في الساعة التي تنكسف عند طلوع الشمس وعند غروبها» (١).

ومثل الأخبار التي سنذكرها في بحث القضاء ، لأنّها تدلّ على عدم القضاء في بعض الصور والقضاء في بعض الصور ، وكلّ منهما يدلّ ، لأنّ عدم القضاء ظاهر في ذلك ، وكذا القضاء ، فلاحظ وتأمّل!

ولرواية ابن الفضيل أنّه كتب إلى الرضا عليه‌السلام : فإذا انكسفت الشمس [والقمر] وأنا راكب لا أقدر على النزول ، فكتب : «صلّ على مركبك.» (٢) ، ولو لم تكن موقّتة لما أمره كذلك ، بل كان يأمره بها عند ما حصل الاطمينان والاستقرار والقيام والركوع والسجود ، لوجوب كلّ واحد ممّا ذكر ، بل وركنيّة كثير منها على المشهور ، ولذلك لا يجوّزون (٣) هذه الصلاة ماشيا ، وعلى الراحلة اختيارا.

نعم ، ذهب ابن الجنيد إلى جوازه (٤) ، كما هو رأي العامّة (٥).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٣ الحديث ٨٨٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٨ الحديث ٩٩٣٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٦٥ الحديث ٧ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٢ الحديث ٩٩٧١.

(٣) في (ف) و (ط) زيادة : الفقهاء.

(٤) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٩١.

(٥) لاحظ! الامّ : ١ / ٢٤٤.


ولما في صحيحة زرارة وابن مسلم : «كلّ أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصلّ له صلاة الكسوف حتّى يسكن» (١).

ولموثّقة عمّار السابقة : «فإن صلّيت الكسوف فإلى أن يذهب الكسوف» (٢).

ولعدم عموم يشمل غير المتّسع ، لأنّ غاية ما ورد إنّما هو بكلمة «إذا» وهي من أداة الإهمال ، والمطلق منصرف إلى الأفراد الشائعة لا النادرة.

وفي «دعائم الإسلام» : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأل عن الكسوف يحدث بعد العصر أو في وقت يكره فيه الصلاة؟ قال : «يصلّي في أيّ وقت كان الكسوف» (٣) فتأمّل!

هذا ، مع أنّ الأصل براءة الذمّة حتّى يثبت شغل الذمّة ، مع أنّ هذا هو المشهور بحسب الظاهر ، لأنّ الأكثر ذهبوا إلى سقوطها حينئذ.

وقيل : تجب مطلقا ، لإطلاق الأمر بها ، وعدم ثبوت الموقتيّة من الأخبار (٤).

واستوجه في «المنتهى» الوجوب ، مع إدراك ركعة منها في الوقت ، لعموم «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (٥) (٦).

وناقش في ذلك بعض الفقهاء بأنّ المتبادر منه اليوميّة ، وكون ما نحن فيه مثلها أوّل الكلام (٧).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٤.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٦.

(٣) دعائم الإسلام : ١ / ٢٠٢ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٦٦ الحديث ٦٦٨٨.

(٤) ذخيرة المعاد : ٣٢٥.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٢١٨ الحديث ٤٩٦٢.

(٦) منتهى المطلب : ٦ / ١١٠.

(٧) ذخيرة المعاد : ٣٢٥.


والأحوط الفعل حينئذ بلا شبهة ، بل الأحوط الفعل مطلقا ، وإن كان الكسوف قليلا من الوقت غاية القلّة ، وتحقّق مسماه ، وكذا الكلام في الرياح المخوفة وسائر الأخاويف.

واختار في «المدارك» كونها موقّتة ، وأنّه لا بدّ في وجوبها من وقت يسعها ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع فصلّ له صلاة الكسوف حتّى يسكن» (١).

قال : وجه الدلالة أنّ «حتّى» إمّا أن تكون لانتهاء الغاية أو للتعليل ، وعلى الأوّل يثبت التوقيت صريحا ، وكذا على الثاني ، لأنّ انتفاء العلّة يقتضي انتفاء المعلول (٢).

قال خالي العلّامة رحمه‌الله : ويمكن المناقشة في الوجهين ، أمّا الأوّل ؛ فباحتمال كون التوقيت لتكرار الصلاة لا لأصلها ، إذ يقال : ضربته حتّى قتلته ، ولا يقال : ضربت عنقه حتّى قتلته. وأمّا الثاني ؛ فبإمكان كون العلّة للشروع في الصلاة لا لأصلها (٣) ، انتهى.

وفيه ؛ أنّ تقدير التكرّر خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلّا لدلالة من قرينة ، كما في ضربته حتّى قتلته ، بخلاف قوله : صلّ إلى أن يسكن ، مع أنّه لم يقل بوجوب التكرار هنا ، بل ولا باستحبابه أيضا بلا خفاء ، مع أنّ الاستحباب أيضا مجاز وخلاف الأصل ، والأمر حقيقة في الوجوب ، فالمراد أنّ غاية وجوب هذه الصلاة وطلبها شرعا أن يسكن ، مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى

__________________

(١) مرّت الإشارة إلى مصادره آنفا.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣١ و ١٣٢.

(٣) بحار الأنوار : ٨٨ / ١٥٩.


غَسَقِ اللَّيْلِ) (١) ، وغيره ممّا استدلّوا به على التوقيت ، وليس غاية للفعل حتّى يلزم المحذورات.

مع أنّه على هذا أيضا لا وجه لارتكاب مخالفة الاصول والفتاوى ، لاحتمال إرادة الطول والامتداد الذي فيها ، بأن تكون الصلاة في ظرف ابتدائه ابتداء الآية وانتهائه سكونها.

مع أنّ تكرارها إذا كان في هذا الظرف ولا يتعدّاه ، فنفس الصلاة بطريق أولى ؛ لأنّ الأمر المكرّر إذا اشترط أن يكون في ظرف زمان فلا جرم يكون جزؤه وبعضه ـ هو المرّة الاولى ـ في ذلك الظرف البتة ، فتأمّل!

مع أنّه على تقدير كون التكرار مقدّرا تصير العبارة هكذا : صلّ مكرّرا حتّى يسكن ، إن لم يسكن بالاولى فالثانية. وهكذا ، فتكون العبارة حينئذ ظاهرة في كون «حتّى» للتعليل ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فتأمّل جدّا!

بل الظاهر ؛ أنّها للتعليل في جعلها للغاية أيضا ؛ لأنّ ما بعد «حتّى» داخل في ما قبلها ، وكونها بمعنى إلى مجاز خلاف الأصل ، هذا ؛ مع ما عرفت من العناية في جعلها للغاية.

وكون العلّة للشروع في الصلاة ـ لا لنفس الصلاة ـ لا شبهة في فساده ، لجعل العلّة لنفس الصلاة ، والأصل عدم التقدير ، وللعلم بأنّ الذي يسكن الأخاويف هو نفس الصلاة والجزع والتضرّع الذي فيها ، بل إلى آخرها علّة ، وللآخر أيضا مدخليّة في العلّية البتة.

وما قال رحمه‌الله : لعلّ إتمام الصلاة علّة لزوال الآية قبل إتمامها ، كما إذا قيل : صلّ الصلاة الفلانية حتّى يغفر الله لك عند الشروع فيها ، ومثلها في الأخبار كثير (٢) ، انتهى.

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٧٨.

(٢) بحار الأنوار : ٨٨ / ١٥٩.


فيه ما لا يخفى ، إذ لم يعتبر أحد خصوص الشروع هنا ، مع أنّ الشارع جعل الصلاة علّة للزوال ، والصلاة اسم لمجموع الأفعال والأجزاء ، ونسبة كلّ جزء منها إلى العلّية كنسبة الجزء الآخر من دون تفاوت.

ولو قال : عند الشروع يسكن أو بمجرّد الشروع ، ظهر التفاوت وكون ما بقي من باب المقدّمة.

ومع ذلك هذا إذا ثبت لزوم الإتمام ووجوبه وهو أوّل الكلام ، إذ السكون إذا حصل لا يحتاج بعد ذلك إلى مسكن بالبديهة ، لاستحالة تحصيل الحاصل.

مع أنّه لو اتّفق السكون بمجرّد الشروع ظهر عدم كون ما بقي علّته ، إذ لعلّ المكلّف لا يقصد ذلك أو يقصد لكن يبدو له ، فما الملزم للإتمام حينئذ؟ وإطلاق لفظ «صلّ» لعلّه يكون محمولا على ما إذا لم يسكن ، بقرينة قوله : «حتّى يسكن» وبضميمته ، وإلّا لم يكن لقوله : «حتّى يسكن» فائدة ؛ لأنّ هذه الصلاة من الواجبات والفرائض بلا شكّ.

فلو كان مجرّد حدوث الآية سببا لوجوبها على المكلّف سواء سكنت الآية أو لم تسكن ، وفي وقتها أو لم يف ، لما كان لقوله : «حتّى يسكن» فائدة ، إذ معناه : حتّى يتحقّق السكون بعد ذلك ، لأنّ العلّة قبل المعلول.

فظاهر الحديث كون وجوب هذه الصلاة لأنّ يحصل السكون بعدها ، فإذا لم يكن حصول سكون بعدها ، فمن أين يعرف العموم ، وكون الوجوب متحقّقا في هذه الصورة أيضا؟ مع أنّ الظاهر منه خلاف ذلك.

فلو كان مراد المعصوم عليه‌السلام هو العموم ، لكان اللازم عليه ترك قوله : «حتّى يسكن» لإيهامه خلاف مطلوبه ، بل وظهوره فيه.

نعم ؛ ربّما يضعّفه استبعاد تحقّق ريح مخوف يفي وقته للطهارة والصلاة ، مع


تأمّل فيه أيضا فتأمّل!

نعم ؛ يمكن الاستدلال للقائل بالسببيّة بإطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وابن مسلم السابقة : «فإن انجلى قبل أن تفرغ فأتمّ ما بقي» (١).

لكن يمكن أن يكون هذا متفرّعا على قوله عليه‌السلام : «وتطيل القنوت والركوع». إلى آخره ، بل لا تأمّل في كونه متفرّعا عليه ، فعلى هذا لا يبقى دلالة له ، كما لا يخفى.

لكن الاحتياط مراعاة هذا القائل ، وهو خالي العلّامة المجلسي رحمه‌الله ، ولم نجد في الكسوف قائلا بذلك غيره ، بل صرّحوا بعدم الوجوب لو قصر الوقت عنها ، خصوصا إذا قصر عن درك ركعة منها ، إذ عرفت أنّ بعضهم قال بالوجوب إذا أدرك أقلّ الواجب من ركعة (٢) ، لقوله عليه‌السلام : «من أدرك ركعة» (٣). إلى آخره ، وعرفت أنّه في اليوميّة ، وجريانها في المقام فيه إشكال ، وإن كانوا ربّما يستدلّون لغير اليوميّة أيضا.

وأمّا غير الكسوف ؛ فقال بالسببيّة فيه العلّامة في بعض كتبه ، وخالي العلّامة المجلسي ، والشهيد في «الدروس» (٤).

مع أنّه في «الذكرى» أسند إلى الأصحاب كونه موقّتا ، وأنّه إن لم يتّسع الوقت لها لم تجب (٥).

وأمّا صلاة الزلزلة ؛ فالمعروف من الأصحاب أنّ وقتها تمام العمر ، وأنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦.

(٢) منتهى المطلب : ٦ / ١١٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٢١٨ الحديث ٤٩٦٢.

(٤) تحرير الأحكام : ١ / ٤٧ ، منتهى المطلب : ٦ / ١٠٠ ، بحار الأنوار : ٨٨ / ١٦٠ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٩٥.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٠٤.


بمجرّد حصول الزلزلة تجب على من علم بها وإن لم يتّسع الوقت لها (١).

وربّما يقول بعض الفقهاء بأنّها تصلّي أداء (٢). ولعلّ مرادهم عدم نيّة القضاء ، وأنّ ذلك في مقابل من يقول بأنّها تصلّى بنيّة القضاء إذا كانت بعد الزلزلة ، والقائل بالقضاء مجهول لا يعرف ، غير أنّ الشهيد في «البيان» حكى قولا بذلك (٣) ، وأورد على تلك العبارة بأنّ الأداء والقضاء من توابع الوقت المضروب ، وإذا كان وقتها تمام العمر لم يوصف فعلها بأداء ولا قضاء.

وممّا ذكرنا ظهر وجه دفع هذا الإيراد ، ودفعه المحقّق الشيخ علي في بعض حواشيه بأنّ الإجماع واقع على كون هذه الصلاة موقّتة ، والتوقيت يوجب نيّة الأداء. ولمّا كان وقتها لا يسعها وامتنع فعلها فيه ، وجب المصير إلى كون ما بعده صالحا لإيقاعها فيه ، حذرا من التكليف بالمحال ، وبقي حكم الأداء مستصحبا ، لانتفاء الناقل عنه ، وروعي فيها الفوريّة من حيث إنّ فعلها خارج وقت السبب إنّما كان بحسب الضرورة ، فاقتصر في التأخير على قدرها ، وفي ذلك جمع بين القواعد المتضادّة (٤) ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف المستغنى عنه.

وفي «المدارك» طعن عليه بأنّه من العجب ادّعاؤه الإجماع على توقيت هذه الصلاة ، مع تصريحهم بأنّها تمتدّ بامتداد العمر. نعم ؛ ذكر في «الذكرى» : أنّ حكم الأصحاب بأنّ الزلزلة تصلّى أداء طول العمر لا يريدون به التوسعة ، فإنّ الظاهر كون الأمر هنا على الفور ، بل على معنى أنّها تفعل بنيّة الأداء وإن أخلّ بالفوريّة

__________________

(١) في غير (ف) : وإن لم يتّسع وقت الصلاة.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٠٤.

(٣) لاحظ! البيان : ٢٠٧.

(٤) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٢.


لعذر أو غيره (١). وما ذكره رحمه‌الله أحوط ، وإن أمكن المناقشة بانتفاء ما يدلّ على الفوريّة هنا على الخصوص ، والأمر المطلق لا يقتضي الفور (٢) ، انتهى.

وفيه ؛ أنّه أيّ تعجّب يبقى بعد ما نقل عن الشهيد رحمه‌الله وما ذكر هو بأنّ في ذلك جمع بين القواعد المتضادّة؟ فتأمّل!

وما قال من انتفاء ما يدلّ على الفوريّة على الخصوص. فيه ؛ أنّ رواية الديلمي ظاهرة فيها ، كما لا يخفى على المتأمّل ؛ لأنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الزلزلة ما هي؟ فقال : «آية» ، فقال : ما سببها؟. إلى أن قال : قلت : فإذا كان ذلك فما أصنع؟ قال : «صلّ صلاة الكسوف فإذا فرغت خررت لله عزوجل ساجدا ، وتقول في سجودك : يا من (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ، يا من (يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلّا بِإِذْنِهِ) ، أمسك عنّا السوء إنّك على كلّ شي‌ء قدير» (٣).

إذ لا شبهة في أنّ مراده أنّ وقت ما صار الزلزلة ما أصنع؟ فقال : «صلّ صلاة الكسوف» أي ذلك الوقت ، والأمر للوجوب ، أي وجب عليك في ذلك الوقت أن تصلّي كذا ، فمقتضاه أنّه إن لم يصلّ في ذلك الوقت يستحقّ العقاب.

مضافا إلى أنّ الراوي بصدد السؤال عن علاج الاضطراب وتحرّك الأرض بأهلها ، فينادي به قوله عليه‌السلام بعد هذا وبعد الفراغ : خررت وقلت : كذا وكذا. ولا شكّ في أنّ ذلك الدعاء لوقت الزلزلة.

هذا ؛ مضافا إلى ما ذكرنا من صحيحة الفضلاء وغيرها (٤) ، ممّا يظهر منه أنّ

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٠٤.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٣ الحديث ١٥١٧ ، علل الشرائع : ٥٥٦ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٥ الحديث ٩٩٧٧.

(٤) راجع! الصفحة : ٤٣١ و ٤٣٩ من هذا الكتاب.


صلاة الزلزلة والكسوف على حدّ سواء ، فلاحظ وتأمّل!

وسنذكر في مسألة وقوع الكسوف في وقت الفريضة أخبارا تدلّ على فوريّة صلاة الكسوف.

قال الشيخ مفلح : جميع الأخاويف غير كسوف النيرين ، يجب على الفور عند حصول أسبابها ويمتدّ وقتها مدّة العمر ، بمعنى أنّها على أداء ولا تصير قضاء (١) ، انتهى.

قوله : (نعم يجب القضاء). إلى آخره.

هذا قول المعظم ، بل قال في «التذكرة» : إنّه مذهب الأصحاب عدا المفيد (٢).

ويدلّ عليه روايات ، منها : صحيحة زرارة وابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا انكسفت الشمس كلّها واحترقت ولم تعلم وعلمت بعد ذلك فعليك القضاء ، وإن لم يحترق كلّها فليس عليك قضاء» (٣).

وصحيحة ابن مسلم والفضيل ، أنّهما قالا للباقر عليه‌السلام : أيقضي صلاة الكسوف من إذا أصبح فعلم وإذا أمسى فعلم؟ قال : «إذا كان القرصان احترقا كلاهما قضيتا وإن كان إنّما احترق بعضهما فليس عليك قضاء» (٤).

وقويّة حريز ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إذا انكسف القمر ولم تعلم به حتّى أصبحت ثمّ بلغك ، فإن كان احترق كلّه فعليك القضاء ، وإن لم يكن احترق كلّه فلا

__________________

(١) غاية المرام في شرح شرائع الإسلام : ١ / ١٨٩.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨١ المسألة ٤٨٦.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٦٥ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٧ الحديث ٣٣٩ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٤ الحديث ١٧٥٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦١.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الحديث ٩٩٦٠ مع اختلاف يسير.


قضاء عليك» (١).

ولا يعارضها قويّة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام : عن صلاة الكسوف تقضى إذا فاتتنا؟ قال : «ليس فيها قضاء وقد كان في أيدينا أنّها تقضى» (٢).

وموثّقة زرارة ، عن الباقر عليه‌السلام : «انكسفت الشمس وأنا في الحمام فعلمت بعد ما خرجت فلم أقض» (٣).

وموثّقة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليهما‌السلام : عن صلاة الكسوف هل على من تركها قضاء؟ قال : «إذا فاتتك فليس عليك قضاء» (٤) ، لعدم المقاومة بحسب السند ، ولا بحسب الدلالة ، لاحتمال إرادة احتراق بعض القرص ؛ لأنّ احتراق الكلّ في كسوف الشمس في غاية الندرة لا يكاد يتحقّق.

مع أنّ غير المفصّل لا يقاوم المفصّل ، مضافا إلى عدم الفتوى بها ، وفتوى المعظم بالمفصّلات.

وقال المفيد في «المقنعة» : إذا احترق القرص كلّه ، ولم تكن علمت به حتّى أصبحت صلّيت صلاة الكسوف جماعة ، وإن احترق بعضه ، ولم تعلم حتّى أصبحت ، صلّيت القضاء فرادى (٥) ، ولم نطلع على مستنده.

وأمّا صلاة غير الكسوفين والزلزلة ؛ فمن لم يعلم بها حتّى خرج وقتها ففي «المدارك» : أنّه لا يجب عليه قضاؤها ، وهذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفا ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٧ الحديث ٣٣٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٧ الحديث ٣٣٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٨.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٢ الحديث ٨٨٣ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٣ الحديث ١٧٥٥ ، وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٧.

(٤) قرب الإسناد : ٢١٩ الحديث ٨٥٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٢ الحديث ٨٨٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٣ الحديث ١٧٥٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٦.

(٥) المقنعة : ٢١١ مع اختلاف يسير.


ويدلّ عليه ما أسلفناه مرارا ، من أنّ القضاء فرض مستأنف ، فيتوقّف على الدليل ، وبدونه يكون منفيّا بالأصل ، وتشهد له الروايات المتضمّنة لسقوط القضاء في الكسوف إذا لم يستوعب الاحتراق مع أنّه أقوى ، للإجماع على أنّه موجب للصلاة ، واستفاضة الروايات به. واحتمل جدّي في «روض الجنان» وجوب القضاء ، لوجود السبب (١) ، ولعموم قوله عليه‌السلام : «من فاتته فريضة» (٢) ؛ وهو ضعيف ، لأنّ السبب إنّما وجد في الأداء خاصّة ، وقد سقط بفوات محلّه ، والفريضة لا عموم فيها بحيث يتناول المقام ، بل المتبادر منها اليوميّة (٣) ، انتهى.

والأمر كما ذكره ، إذ الأصل براءة الذمّة حتّى يثبت التكليف ، إذ لم يرد في غير الكسوفين والزلزلة سوى الصحيحة المتضمّنة للأمر بصلاة الكسوف وبعض الآيات في وقت تحقّقهما لا خارج الوقت ، حيث قال عليه‌السلام : «إذا وقع الكسوف أو بعض هذه الآيات صلّها» (٤) الحديث ، إذ كلمة «إذا» ظرف زمان.

والصحيحة المتضمّنة لكون صلاة الكسوف وبعض الآيات سواء ، المتبادر التساوي في الهيئة ، والوجوب أيضا لا غير (٥).

والصحيحة المتضمنة للأمر بصلاة الكسوف لأخاويف السماء حتّى يسكن (٦) ، وعرفت أنّه لا دلالة فيها على الوجوب بعد السكون أيضا وإن قلنا بعدم

__________________

(١) لاحظ! روض الجنان : ٣٠٤.

(٢) عوالي اللآلي : ٢ / ٥٤ الحديث ١٤٣.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩١ الحديث ٩٩٣٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤١ الحديث ١٥١٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٥.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٠.


دلالتها على عدم مطلوبيّة هذه الصلاة بعد السكون ، إذ القدر الثابت مطلوبيتها في موضع يتوقّع فيه السكون ويرجى ويلتمس ، لا الموضع الذي تحقّق فيه السكون وصار موجودا ولا يلتمس ، لاستحالة تحصيل الحاصل.

بل في «العيون» ـ في الصحيح ـ أنّ الرضا عليه‌السلام قال : «جاءت ريح وأنا ساجد فجعل كلّ إنسان يطلب موضعا وأنا ساجد ملحّ في الدعاء لربّي عزوجل حتّى سكنت» (١).

وحمل على أنّ السجود كان بعد صلاة الآية ، أو لم يصل حدّا يوجب الصلاة ، ولا يخفى مخالفة التوجيهين للظاهر ، وعرفت أيضا صحيحة الفضلاء (٢).

وفي «الفقيه» : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا هبّت ريح صفراء أو حمراء أو سوداء تغيّر وجهه واصفرّ [لونه] وكان كالخائف الوجل حتّى تنزل من السماء قطرة من مطر فيرجع إليه لونه ويقول : «قد جاءتكم بالرحمة» (٣).

وظاهرها أيضا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يصلّي لهذه الرياح.

ولهذه الأخبار وأمثالها أنكر وجوب الصلاة لهذه الأخاويف من أنكر ـ كما عرفت ـ وإن كان الأقوى الوجوب ، لأنّ هذه المعارضات لا تقاوم الصحيحة المتضمّنة للأمر بها ، لقوّة دلالتها واشتهارها فتوى ورواية ، واعتضادها بما يدلّ على الوجوب في الكسوف والزلزلة.

بل نقل في «الخلاف» إجماع الفرقة على ذلك (٤) ، لكن عرفت أنّ القضاء فرض مستأنف يتوقّف على الدليل ولا دليل ، بل عرفت أنّ عدمه مذهب

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٠ الحديث ١٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٦ الحديث ٩٩٨٠.

(٢) راجع! الصفحة : ٤٣١ و ٤٣٩ من هذا الكتاب.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٥ الحديث ١٥٢٨.

(٤) الخلاف : ١ / ٦٨٢ المسألة ٤٥٨.


الأصحاب ، ومع ذلك الأحوط القضاء ، لما ذكر عن «الروض» (١).

وربّما يؤيّده ما رواه في «الفقيه» : أنّ عبد الرحمن بن أبي عبد الله سأل الصادق عليه‌السلام عن الريح والظلمة تكون في السماء والكسوف؟ فقال : «صلاتهما سواء» (٢). إذ ظاهر اللفظ استواؤهما من جميع الوجوه.

لا يقال : الكسوف إنّما تقضى إذا احترق القرص كلّه.

لأنّا نقول : الأحوط قضاؤهما مطلقا ، لأنّ السيّد رحمه‌الله قال في «الانتصار» : وممّا انفردت به الإماميّة القول بوجوب صلاة كسوف الشمس والقمر ، ويذهبون إلى أنّ من فاتته هذه الصلاة وجب عليه قضاؤها (٣).

وفي «الجمل» قال : وجب عليه قضاؤها إن كان القرص انكسف كلّه ، وإن كان بعضه لم يجب القضاء ، وقد روي وجوب ذلك على كلّ حال (٤).

وابن بابويه في «المقنع» قال : إن احترق الكلّ وجب قضاؤها مع الغسل ، وإن احترق البعض فصلّها بغير غسل (٥).

وكذلك يظهر من علي بن بابويه وابن الجنيد وجوب القضاء مطلقا (٦) ، وكذا من أبي الصلاح (٧) لموثّقة حريز الآتية (٨) ، وإن كان الظاهر أنّ وجوب القضاء إذا احترق كلّ القرص.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤٥٨ من هذا الكتاب.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤١ الحديث ١٥١٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٦ الحديث ٩٩٢٥.

(٣) الانتصار : ٥٨.

(٤) رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) : ٣ / ٤٦.

(٥) المقنع : ١٤٤.

(٦) نقل عنهما في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨١.

(٧) الكافي في الفقه : ١٥٦.

(٨) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٧ الحديث ٣٣٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٣.


ثمّ اعلم! أنّ جميع ما ذكر إنّما هو على تقدير عدم العلم بتحقّق الآية.

وأمّا مع العلم به ، وعدم العلم بالحكم ، فالجاهل غير معذور عند الفقهاء ، إلّا في نادر من المسائل ، وحقّق ذلك في الاصول.

وأمّا مع العلم والتفريط أو النسيان ، فعليه القضاء ، وإن احترق بعض القرص ، وهذا قول الأكثر.

وقال الشيخ في «النهاية» و «المبسوط» : لا يقضي الناسي ما لم يستوعب الاحتراق (١).

وعن المرتضى في مصباحه : عدم وجوب القضاء ما لم يستوعب وإن تعمّد الترك (٢).

احتجّ الأكثر بقول الباقر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة : منها صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أدّيتها» (٣).

وقوله عليه‌السلام في صحيحة اخرى (٤) عنه : عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي [صلوات لم يصلّها] أو نام عنها [فقال] : «إنّه يقضيها إذا ذكرها» (٥).

وفي مرسلة حريز ، عمّن أخبره ، عن الصادق عليه‌السلام : «إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلّي فليغتسل من غد وليقض الصلاة ، وإن لم يستيقظ

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٦ و ١٣٧ ، المبسوط : ١ / ١٧٢.

(٢) نقل عنه المحقّق في المعتبر : ١ / ٣٣١.

(٣) الكافي : ٣ / ٢٨٨ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٨ الحديث ١٢٦٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٥٦ الحديث ١٠٥٧٤.

(٤) في (ف) و (ط) : في صحيحة اخرى لزرارة وقد سأل عن رجل.

(٥) الكافي : ٣ / ٢٩٢ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٦٦ الحديث ١٠٥٩ ، الاستبصار : ١ / ٢٨٦ الحديث ١٠٤٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٥٣ الحديث ١٠٥٦٥.


ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلّا القضاء بغير غسل» (١).

وفي موثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «وإن أعلمك أحد وأنت نائم فعلمت ثمّ غلبتك عيناك فلم تصلّ فعليك قضاؤها» (٢).

وفي «الكافي» ـ بعد نقل صحيحة زرارة وابن مسلم المتضمّنة لوجوب القضاء إذا احترق كلّ القرص ـ : وفي رواية اخرى : «إذا علم بالكسوف ونسي أن يصلّي فعليه القضاء ، وإن لم يعلم به فلا قضاء عليه هذا إذا لم يحترق كلّه» (٣).

واعترض على الصحيحتين بعدم عموم فيهما يشمل المقام ، وعلى المرسلة بالقصور بالإرسال ، وإطباق الأكثر على ترك العمل بظاهرها ، وعلى الموثّقة باشتمال سندها على الفطحيّة (٤).

ويمكن دفعه بأنّ المرسلة صحيحة إلى حمّاد ، وهو ممّن أجمعت العصابة (٥) ، وأمّا إطلاق الأمر بالقضاء ، فيمكن أن يقال : المتبادر من انكساف القمر انكساف كلّه ، وهو غير نادر الوقوع ، مع أنّ المطلق يحمل على المقيّد ، مع أنّك عرفت أنّ جمعا قالوا بالإطلاق.

وأمّا الأمر بالغسل ، فمن قال بوجوبه فلا إيراد عليه ، وستعرف أنّهم كثيرون ، ومن لم يقل بالوجوب ، فلا مضايقة له من الاستحباب ، بل ربّما يحمله

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٧ الحديث ٣٣٧ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٣ الحديث ١٧٥٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٤.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٦ ، الاستبصار : ١ / ٤٥٤ الحديث ١٧٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٩.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٦٥ الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٢.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٦.

(٥) رجال الكشّي : ٢ / ٦٧٣ الرقم ٧٠٥.


عليه ، كما ستعرف.

مع أنّ الصدوق في أماليه قال : من دين الإماميّة الإقرار بأنّ الغسل في سبعة عشر موطنا ، وعدّ منها الغسل إذا احترق القرص ولم يعلم به الرجل (١).

وربّما يظهر منه استحبابه عند الإماميّة لذكره في الأغسال التي جلّها مستحبّة ، مع أنّه رحمه‌الله عند ذكر الواجب منها يصرّح بأنّه واجب ولم يتعرّض لذلك.

مع أنّه ورد في الصحيح ، عن ابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام : «إنّ الغسل في سبعة عشر موطنا» (٢) على نهج ما في «الأمالي» ، ورواه في «الفقيه» (٣).

وسلّار قال بوجوب هذا الغسل (٤) ، والثلاثة قالوا باستحبابه (٥) ، ولعلّ أتباعهم قالوا به أيضا (٦) ، مع أنّ خروج بعض الحديث عن الحجيّة لا يوجب خروج الكلّ عنها على طريقة الفقهاء ، والمدار على ذلك.

وأمّا اشتمال السند على الفطحيّة ، ففيه أنّ كلّهم ثقات ، والموثّق حجّة عند المشهور ، وهو الحقّ ، كما حقّق في محلّه.

مع أنّه في المقام منجبر أيضا بالشهرة ، ومتأيّد ببعض الأخبار الأخر أيضا ، ومنها مرسلة الكليني (٧) ، فإنّ في أوّل «الكافي» ذكر ما ذكر.

وأمّا الصحيحتان ، فتصلحان للتأييد ، مع أنّ وجوب القضاء مع الجهل

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٥.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٤ الحديث ٣٠٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٧ الحديث ٣٧١٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٤ الحديث ١٧٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٤ الحديث ٣٧١١.

(٤) المراسم : ٨١.

(٥) المقنعة : ٥١ ، نقل عن السيد في المعتبر : ١ / ٣٥٨ ، المبسوط : ١ / ٤٠ ، الرسائل العشر (الجمل والعقود) : ١٦٨.

(٦) المهذّب : ١ / ٣٣ ، غنية النزوع : ٦٢ ، السرائر : ١ / ١٢٥.

(٧) الكافي : ٣ / ٤٦٥ ذيل الحديث ٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٢.


بالكسوف (١) ، يقتضي وجوبه مع العمد أو النسيان بطريق أولى ، فتأمّل!

ولعلّه هذا قال في «المدارك» بعد الاعتراض المذكور : ومن ذلك ظهر قوّة ما ذهب إليه الشيخ من عدم وجوب القضاء على الناسي إذا لم يستوعب الاحتراق ، بل رجحان ما ذهب إليه المرتضى رحمه‌الله من عدم وجوب القضاء مطلقا إلّا مع الاستيعاب ، ويدلّ عليه أيضا ـ مضافا إلى الأصل ـ صحيحة علي بن جعفر : أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن صلاة الكسوف هل على من تركها قضاء؟ فقال : «إذا فاتتك فليس عليك قضاء» (٢) دلّت على سقوط القضاء مطلقا ، خرج من ذلك ما إذا استوعب الاحتراق فإنّه يجب عليه القضاء بالنصوص الصحيحة (٣) ، فبقي الباقي ، ولا ريب أنّ ما اختاره الأكثر من القضاء مع العلم والتفريط والنسيان في الجميع طريق الاحتياط (٤) ، انتهى.

وفيه ، أنّ هذه الرواية ليست بصحيحة ؛ لأنّ في طريقها أحمد بن الحسن ، ولا فرق بينه وبين غيره من الفطحيّة الثقات ، مع أنّها معارضة لصحاح مفتى بها ، وعرفت رفع التعارض.

ثمّ اعلم! أنّ هذا كلّه حال غير الزلزلة ، فمقتضى ما ذكر ـ من أنّ وقتها تمام العمر ـ وجوبها على المكلّف أيّ وقت اطّلع إلى انقضاء عمره.

ويحتمل أن يكون من جهة فوريّتها يفوت بفوات الفوريّة ، وصرّح في «التذكرة» بسقوطها في صورة الجهل عملا بالأصل السالم (٥).

__________________

(١) في (ف) و (ط) : بالخسوف.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الباب ١٠ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٣٦ ، مع اختلاف.

(٥) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨٢ المسألة ٤٨٦.


وفيه ما مرّ من الأخبار التي ذكرناها في وجوب صلاة الزلزلة (١) ، مضافا إلى اتّفاق الفتاوى في كون وقتها العمر من غير توقيت ، ولذا قال في «النهاية» : ويحتمل قويّا الإتيان بها ، لأنّ وقتها العمر (٢) ، فعليك بملاحظة تلك الأخبار وفتاوى الأصحاب.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤٣١ و ٤٣٢ من هذا الكتاب.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٧٨.



٢٦ ـ مفتاح

[مستحبّات صلاة الآيات]

يستحب الغسل مع الاستيعاب ، وإن لم يشتهر بين الأصحاب إلّا في القضاء ، والصلاة تحت السماء ، والإطالة بقدر الآية إجماعا ، والإعادة إن فرغ قبل الانجلاء ، أو الدعاء حتّى ينجلي ، وقراءة آية إمساك السماوات والأرض عند الزلزلة ، والدعاء والتكبير عند الرياح رافعا صوته ، كلّه للرواية (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٧ الحديث ٣٧١٨ ، ٧ / ٤٩٨ الباب ٨ و ٩ ، ٥٠٤ ـ ٥٠٧ الباب ١٣ ـ ١٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.



قوله : (يستحبّ الغسل). إلى آخره.

لعلّ نظره إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام : «الغسل في سبعة عشر». إلى أن قال : «وغسل الكسوف إذا احترق القرص كلّه فاغتسل» (١).

لكن الظاهر اتّحاد هذا الصحيح مع ما رواه الصدوق مرسلا عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «الغسل في سبعة عشر». إلى أن قال : «وغسل الكسوف ، إذا احترق القرص كلّه فاستيقظت ولم تصلّ فعليك أن تغتسل وتقضي الصلاة» (٢). وعبارة «الأمالي» قد عرفتها أيضا ، ومرسلة حريز أيضا قد عرفتها.

وأمّا الأصحاب فقد اختلفوا ، فقال الشيخ في «الجمل» باستحبابه إذا احترق القرص كلّه وترك الصلاة متعمّدا (٣) ، وهذا هو المشهور بين المتأخّرين.

واقتصر المفيد في «المقنعة» ، والمرتضى في «المصباح» على الترك متعمّدا ، ولم يذكرا الاستيعاب (٤).

وقال المرتضى في «الجمل» : وروي وجوب ذلك ـ أي القضاء ـ إذا انكسف على كلّ حال ، وأنّ من تعمّد ترك هذه مع عموم كسوف القرص وجب عليه مع القضاء الغسل (٥).

وقال الصدوق في «المقنع» : إذا انكسفت الشمس والقمر ولم تعلم به ، فعليك

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٤ الحديث ٣٠٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٧ الحديث ٣٧١٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٤ الحديث ١٧٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٠٤ الحديث ٣٧١١.

(٣) الرسائل العشر (الجمل والعقود) : ١٦٨.

(٤) المقنعة : ٥١ ، نقل عن المصباح للسيّد المرتضى في المعتبر : ١ / ٣٥٨.

(٥) رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) : ٣ / ٤٦.


أن تصلّيها إذا علمت ، فإن احترق القرص كلّه فصلّها بغسل ، وإن احترق بعضه فصلّها بغير غسل (١).

وقال علي بن بابويه : وإذا انكسفت الشمس والقمر ولم تعلم ، فعليك أن تصلّها إذا علمت به ، وإن تركتها متعمّدا حتّى تصبح فاغتسل وصلّها ، وإن لم يحترق القرص كلّه فاقضها ولا تغتسل (٢).

وقال الشيخ في «النهاية» : إذا ترك الصلاة متعمّدا عند انكساف الشمس والقمر ، وكانا قد احترقا بأجمعهما ، وجب عليه القضاء مع الغسل ، وإن تركها ناسيا ـ والحال ما وصفناه ـ كان عليه القضاء بلا غسل ، وكذلك إن ترك متعمّدا أو احترق بعضها ، وإن تركها ناسيا لم يكن عليه شي‌ء (٣) ، وكذا قال في «المبسوط» ، وهو اختيار ابن حمزة (٤).

وقال في «الخلاف» : من ترك صلاة الكسوف كان عليه قضاؤها ، وإن كان قد احترق القرص كلّه وتركها متعمّدا كان عليه الغسل وقضاء الصلاة (٥).

وقال أبو الصلاح : وإن لم يعلم حتّى انجلى القرص فعليه القضاء حسب ، فإن علم وفرّط في الصلاة فهو مأزور ، ويلزمه التوبة والقضاء ، وإن كان الكسوف والخسوف احتراقا فعليه مع التوبة الغسل كفّارة لمعصيته (٦).

وقال سلّار : وإن أخلّ بالصلاة مع عموم الكسوف بالقرص ، وجب عليه

__________________

(١) المقنع : ١٤٤.

(٢) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨١ مع اختلاف يسير.

(٣) النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٦.

(٤) المبسوط : ١ / ١٧٢ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ١١٢.

(٥) الخلاف : ١ / ٦٧٨ المسألة ٤٥٢.

(٦) الكافي في الفقه : ١٥٦.


ـ مع وجوب الإعادة ـ الغسل (١).

وقال ابن البرّاج : صلاة الكسوف والخسوف والزلزلة والرياح السود والظلمة والآيات العظيمة واحدة واجبة ، فإن تركها متعمّدا وكان احترق القرص كلّه ، كان عليه القضاء مع الغسل ، وإن احترق البعض كان عليه القضاء دون الغسل ، وإن كان ناسيا واحترق الجميع كان عليه القضاء ، وإن لم يحترق الجميع لم يكن عليه شي‌ء ، وإذا فاتته ولم يكن علم فليصلّها إذا علم (٢).

هذا القدر الذي ذكر في «المختلف» (٣) ، وربّما كان غير هؤلاء أيضا تعرّض للغسل ، وظهر لك أنّه للقضاء والفوت جهلا بتحقّق الآية ، أو عمدا مع احتراق كلّ القرص ، ومع ذلك لم يثبت وجوبه في صورة الفوت جهلا ، لأنّ مرسلة حريز تدلّ على عدم وجوبه (٤).

وعبارة «الأمالي» في غاية الظهور في الاستحباب ، وقد نقلناها في غسل الجمعة (٥) ، ونقلنا هناك أيضا بعض ما يدلّ على عدم وجوب ، مثل هذا الغسل.

وأمّا صحيحة ابن مسلم ، فليس فيها قيد القضاء ، ولذا لم يفت بظاهرها أحد ، لمخالفتها لظواهر الأخبار والفتاوى ، مع احتمال اتّحادها مع المرسلة ، كما ذكرنا (٦).

والمرسلة يحتمل أن تكون المراد فيها حال العمد بأن يستيقظ حال احتراق

__________________

(١) المراسم : ٨١.

(٢) المهذّب : ١ / ١٢٤ ، مع اختلاف.

(٣) مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨٢ و ٢٨٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٠ الحديث ٩٩٦٤.

(٥) راجع! الصفحة : ٩١ و ٩٢ من هذا الكتاب.

(٦) راجع! الصفحة : ٤٦٩ من هذا الكتاب.


القرص ، ولم يصلّ حتّى انجلى ، مع أنّه وقع الاضطراب في نقل هذا الموضع ، فلم يبق وثوق بحيث يقاوم ما ذكرنا ويغلب عليه ، سيّما والأصل براءة الذمّة (١).

مع أنّ الأخبار الواردة في وجوب القضاء مع كثرتها وصحّتها خالية عن ذكر الغسل (٢) ، مع كون المقام مقام الحاجة.

نعم ، يحتمل وجوبه إذا علم بالآية فكسل أن يصلّيها على حسب ما تضمّن مرسلة حريز ، لاعتبارها سندا ووضوحها دلالة ، ووجود القائل بمضمونها ، والظاهر منها كون الغسل لفوت الصلاة بالتهاون ، وإن لم يحترق كلّ القرص ، فيدلّ على وجوب القضاء مع الجهل بالانكساف وان لم يستوعب القرص ، إلّا أن يقال : الظاهر من قوله عليه‌السلام : «انكسف القمر» انكساف كلّه.

وإنّما قلنا : يحتمل وجوب الغسل ، لما عرفت من أنّ موثّقة عمّار تدلّ على عدم وجوبه (٣) ، والمشهور أيضا قالوا بعدم الوجوب.

نعم ، ورد الغسل للتوبة من الذنوب مطلقا (٤) ، فتأمّل!

وأمّا كون الصلاة تحت السماء ، فلصحيحة زرارة وابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام ، إذ في آخرها : «وإن استطعت أن تكون صلاتك بارزا لا يخبيك بيت فافعل» (٥).

وأمّا استحباب الإطالة بقدرها ، فلما ورد من أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فرغ منها

__________________

(١) في (د ٢) : واستصحاب الحالة السابقة مع أنّ.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الباب ١٠ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠١ الحديث ٧ / ٥٠١ الحديث ٩٩٦٩ ، راجع! الصفحة : ٤٦٢ من هذا الكتاب.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤٥ الحديث ١٧٧ ، تهذيب الأحكام : ١ / ١١٦ الحديث ٣٠٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٣٣١ الحديث ٣٧٩٥.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٦٣ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦.


وقد انجلى (١) ، ولغير ذلك من الأخبار وهو وفاقي.

وأمّا استحباب الإعادة ، فهو قول الأكثر ، ونقل عن ظاهر المرتضى وأبي الصلاح وجوب الإعادة (٢) ، وعن ابن إدريس المنع منها مطلقا وجوبا واستحبابا (٣).

والأوّل أظهر للأمر بالإعادة في الأخبار ، مثل صحيحة معاوية بن عمّار أنّ الصادق عليه‌السلام قال : «إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد» (٤) ، مع الرخصة في تركها ، كما يظهر من أخبار كثيرة من كفاية القدر الواجب من هذه الصلاة مطلقا (٥) ، سيّما ما دلّ على تبعيض السورة ، ولما ورد في صحيحة زرارة وابن مسلم : «فإذا فرغت قبل الانجلاء فاقعد وادع الله حتّى ينجلي» (٦).

لا يقال : مقتضى الظاهر من الصحيحتين وجوب أحد المذكورين فيها تخييرا ، وأمّا المطلقات فلا تعارض المقيّد.

لأنّا نقول : ليس كذلك ، بل ظاهرهما وجوب كلّ واحد عينا ، ولم يقل به أحد ، مضافا إلى التعارض الواقع بينهما ، فلم يبق ظاهرهما على حاله ، والوجوب التخييري وإن كان أقرب إلى الظاهر ، إلّا أنّه يوجب خروج أخبار كثيرة عن ظواهرها التي هي المفتى بها عند جلّ الأصحاب ، ولم يقل أحد بالوجوب التخييري.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٢ الحديث ٩٩٤١.

(٢) نقل عن المرتضى في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨٤ ، الكافي في الفقه : ١٥٦.

(٣) نقل عنه في مدارك الأحكام : ٤ / ١٤٢ ، لاحظ! السرائر : ١ / ٣٢٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٦ الحديث ٣٣٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٥.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٨ الباب ٤ من أبواب صلاة الآيات.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٦ الحديث ٣٣٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦ مع اختلاف يسير.


مع أنّ في موثّقة عمّار ، عن الصادق عليه‌السلام : «إن صلّيت الكسوف فإلى أن يذهب الكسوف عن الشمس والقمر وتطول في صلاتك ، فإنّ ذلك أفضل ، وإن أحببت أن تصلّي فتفرغ من صلاتك قبل أن يذهب الكسوف فهو جائز ، وإن لم تعلم حتّى يذهب الكسوف ، ثمّ علمت بعد ذلك فليس عليك صلاة الكسوف ، وإن أعلمك أحد وأنت نائم فعلمت ثمّ غلبتك عيناك فلم تصلّ ، فعليك قضاؤها» (١).

والموثّق حجّة ، كما حقّق ، سيّما مع الانجبار بالشهرة ، وعدم كون بعض الحديث مطابقا لفتوى المشهور ، بل يكون مأوّلا عندهم لا يضرّهم ، كما مرّ مرارا.

وأيضا في صحيحة زرارة وابن مسلم : «يستحبّ أن يقرأ الكهف والحجر إلّا أن يكون إماما يشقّ على من خلفه» (٢).

ويعضده أيضا الأخبار الواردة في وقوع الآية في وقت الفريضة (٣).

وأمّا قراءة آية الإمساك (٤) ، فقد مرّ ما يدلّ عليها (٥).

وروي أيضا مسندا ، عن علي بن يقطين ، أنّ الصادق عليه‌السلام قال : «من أصابته زلزلة فليقرأ : يا من يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنّه كان حليما غفورا ، صلّ على محمّد وآل محمّد ، وأمسك عنّا السوء إنّك على كلّ شي‌ء قدير» ، وقال : «من قرأها عند النوم لم يسقط عليه البيت إن شاء الله تعالى» (٦) ، لكن ظهر منهما كون القراءة بعنوان الدعاء.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩١ الحديث ٨٧٦ ، الاستبص‌ار : ١ / ٤٥٤ الحديث ١٧٦٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٦ ، ٥٠١ الحديث ٩٩٦٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٤) فاطر (٣٥) : ٤١.

(٥) راجع! الصفحة : ٤٥٥ و ٤٥٦ من هذا الكتاب.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٤ الحديث ٨٩٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٦ الحديث ٩٩٧٩.


نعم ، في «العلل» بسنده ـ مرفوعا ـ إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّه كان يقرأ هذه الآية عند الزلزلة ويقول (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١)» (٢).

وأمّا التكبير عند الرياح رافعا صوته ، فقد رواه مرسلا في «الفقيه» ، وورد أنّ ذلك يكسرها أيّ الرياح (٣).

بقي امور :

الأوّل : ورد في غير واحد من الأخبار المعتبرة المنع من قول : «سمع الله لمن حمده» ، عند رفع الرأس من الركوعات ، سوى الرفع الذي يسجد منه ، وأمر بالقول بذلك عند هذا الرفع خاصّة (٤) ، وهذا مقطوع به في كلام الأصحاب.

الثاني : إذا وقع الانجلاء ، ولم (٥) يفرغ من الصلاة وجب الإتمام ، إلّا فيما لم تكن الآية مقدار أقلّ الفريضة ، ففيه الخلاف الذي مرّ.

الثالث : استحباب الإطالة بقدر الآية ، قيل : إنّما هو مع العلم بقدرها ، أو الظنّ الحاصل من إخبار الرصدي مثلا ، وأمّا بدونه ، فلا يبعد كون التخفيف ، ثمّ الإعادة مع عدم الانجلاء أولى ، لما في التطويل من خوف خروج الوقت قبل الإتمام (٦).

__________________

(١) الحجّ (٢٢) : ٦٥.

(٢) علل الشرائع : ٥٥٥ الحديث ٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٥ الحديث ٩٩٧٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٤ الحديث ١٥٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٧ الحديث ٩٩٨٢.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ و ٤٩٥ الحديث ٩٩٤٦ و ٩٩٤٧ ، ٤٩٧ الحديث ٩٩٥٣ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ١٦٩ ـ ١٧٣ ، الباب ٦ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٥) في بعض النسخ : ولما.

(٦) لاحظ! ذخيرة المعاد : ٣٢٦.


الرابع : ألحق العلّامة بالزلزلة الصيحة وغيرها ـ ممّا لا يبقى مقدارها مقدار الصلاة لها ـ في كونها سببيّة أيضا (١) ، فلا بأس به ، لما عرفت سابقا. لكن مرّ في الزلزلة أنّه يراعى فيها الفوريّة مهما أمكن ، لكن بعد فوت الفوريّة لا تفوت الصلاة ، بل يصلّى أيضا ، وفي الصيحة وأمثالها لو يراعى الفوريّة ـ كما يراعى الزلزلة ـ كان أحوط ، ومرّ منشأه ، فلاحظ وتأمّل! الخامس : إنّ هذه الفريضة ليست مثل صلاة العيد بأن تكون وجوبها مختصّا بالرجال فقط ، بل تكون النساء وسائر المكلّفين شركاء مع الرجال في وجوب هذه الفريضة عليهم بلا شبهة.

وفي «قرب الإسناد» بسنده عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : النساء هل على من عرف منهنّ صلاة النافلة وصلاة الليل والزوال والكسوف ما على الرجال؟ قال : «نعم» (٢).

وبالجملة ، لا خلاف في ذلك. والظاهر أنّه ليس عليهنّ جهر ، بل مخيّرات في الجهر والإخفات ، من دون استحباب ولا وجوب لأحدهما عليهنّ ، وباقي أحكام الفريضة جار هنا أيضا ، ومرّ وجهه.

السادس : ورد في غير واحد من الأخبار استحباب الإطالة حتّى على الإمام أيضا ، على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّا عليه‌السلام أطالا إلى أن غشي على بعض من كان وراءهما مقتديا بهما من طول القيام (٣).

لكن مرّ في صحيحة زرارة وابن مسلم أنّه : «يستحبّ قراءة الكهف والحجر

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١ / ٤٦ ، نهاية الإحكام : ٢ / ٧٦ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٧٩ المسألة ٤٨٢.

(٢) قرب الإسناد : ٢٢٣ الحديث ٨٧٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٨ الباب ٩ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.


إلّا أن يكون إماما يشقّ على من خلفه» (١).

وهذه أقرب إلى الحقّ والصواب بملاحظة الأدلّة من العقل والنقل في مبحث الجماعة ، مضافا إلى صحّة السند ، وموافقة فتوى الأصحاب على ما هو الظاهر.

ولعلّ ما صدر منهما عليهما‌السلام على تقدير الصحّة ، كان لخصوصيّة واقعة.

السابع : يستحبّ الجماعة في هذه الصلاة بإجماع علمائنا ، والأخبار الدالّة على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام صلّيا هذه الصلاة بالناس ، أمّا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي غير واحد من الأخبار (٢).

وأمّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فرواه في «الفقيه» (٣) وغيره في غيره (٤) ، وللعمومات الدالّة على استحباب الجماعة (٥) ، مضافا إلى أنّ للجماعة مدخليّة تامّة في استجابة الدعوات.

ونقل عن الصدوقين أنّهما قالا : إذا احترق القرص كلّه فصلّها في جماعة ، وإن احترق بعضه فصلّها فرادى (٦).

ويدلّ على ضعف قولهما ـ مضافا إلى ما سبق ـ رواية روح بن عبد الرحيم أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن صلاة الكسوف تصلّى جماعة؟ فقال : «جماعة وغير سأل الصادق عليه‌السلام عن صلاة الكسوف تصلّى جماعة؟ فقال : «جماعة وغير جماعة» (٧).

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤٧٤ من هذا الكتاب.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٨٥ الحديث ٩٩٢٣ ، ٤٨٩ الحديث ٩٩٣٢ ، ٤٩٨ الحديث ٩٩٥٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤١ الحديث ١٥١١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الحديث ٩٩٥٨.

(٤) المقنعة : ٢١٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الحديث ٩٩٥٩.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ٢٨٥ الباب ١ من أبواب صلاة الجماعة.

(٦) نقل عنهما العلامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٩٠ ، لاحظ! المقنع : ١٤٣.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٢ الحديث ٨٨٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٣ الحديث ٩٩٧٢.


ورواية محمّد بن يحيى ، عن الرضا عليه‌السلام : عن صلاة الكسوف تصلّى جماعة وفرادى؟ فقال : «أيّ ذلك شئت» (١) ، وترك الاستفصال يفيد العموم.

واحتجّ لهما بما رواه الصدوق (٢) بسنده إلى ابن أبي يعفور ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا كسف الشمس والقمر كلّها فإنّه ينبغي للناس أن يفزعوا إلى إمام يصلّي بهم وأيّهما كسف بعضه فإنّه يجزي للرجل أن يصلّي وحده» (٣).

وهذا لا يدلّ إلّا على عدم تأكّد (٤) الاستحباب ، كما يدلّ عليه لفظ «ينبغي». لأنّه لا يدلّ على الوجوب ، بل ظاهره ما ذكرناه ، لأنّ الواجب لا يؤدّى بمثل هذه العبارة ، بل يظهر وجوبه ، والمؤاخذة على تركه ، فإن كانت هذه الرواية حجّتهما ، ويكون مرادهما ما ذكر فيها ، فمرحبا بالوفاق ، وإلّا طولبا بدليل.

الثامن : حال الجماعة فيها حال الجماعة في اليوميّة عند الفقهاء ، وبحسب الظاهر منهم ، فلو أدرك الإمام راكعا ، فالمشهور إدراك هذه الركعة ، وقيل : لا بدّ من إدراك تكبيرة الركوع ، كما سيجي‌ء في اليوميّة.

ولو أدرك الإمام بعد ما رفع رأسه من الركوع الأوّل ، فالظاهر فوت هذه الخمس ركعات منه ، فليصبر إلى أن يقوم الإمام إلى الخمس الثاني ويلحق به ويصلّي معه هذا الخمس ، وبعد ما يتشهّد الإمام يتشهّد معه على الاستحباب متجافيا أيضا على الاستحباب ، فإذا سلم قام إلى الخمس الثاني ، ويصلّيه بنفسه (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٤ الحديث ٨٨٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٣ الحديث ٩٩٧٤.

(٢) لم نعثر عليه في كتبه ، لكن نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٩١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٢ الحديث ٨٨١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٥٠٣ الحديث ٩٩٧٣ مع اختلاف يسير.

(٤) في (د ٢) زيادة : في صورة انكساف بعضها ، كما يشير إليه لفظ «يجزي» ، وأنّ في صورة احتراق الكلّ يتأكّد.

(٥) في (ف) و (ط) : ويلحق هذا بنفسه.


وعلى ذلك المحقّق في «المعتبر» ، والعلّامة في جملة من كتبه (١).

لكن قال في «النهاية» : لو أدرك الإمام راكعا في الاولى أدرك الركعة ، ولو أدرك في الركوع الثاني والثالث ، ففي إدراك تلك الركعة ـ أي السجوديّة ـ إشكال ، فإن منعناه استحبّ المتابعة حتّى يقوم من السجود فيستأنف الصلاة معه ، فإذا قضى الصلاة أتمّ هو الثانية ، ويحتمل الصبر حتّى يبتدئ بالثانية ، وقال : ويحتمل المتابعة بنيّة صحيحة ، فإذا سجد الإمام لم يسجد هو ، بل ينتظر الإمام إلى أن يقوم ، فإذا ركع أوّل الثانية ركع معه من الركوعات الاولى ، فإذا انتهى إلى الخامس بالنسبة إليه سجد ، ثمّ لحق الإمام ويتمّ الركوعات قبل سجود الثانية (٢).

واحتمل في «التذكرة» أيضا هذا الاحتمال (٣) ، وهو مأخوذ ممّا ورد في الجمعة ممّن زوحم فيها في السجدتين الاوليين (٤) ، فإجراؤه في المقام مشكل.

بل إجراء جميع ما ورد في اليوميّة أيضا لا يخلو عن الإشكال ، مثل اقتداء المتنفّل بالمتنفّل والمفترض بالمتنفّل ، وأمثال ذلك ، وسيجي‌ء التحقيق في محلّه.

التاسع : القنوت فيها في كلّ ركعة ثانية من العشر قبل الركوع بعد القراءة ، فتصير القنوتات المطلوبة فيها خمسا ، على ما ثبت من صحيحة الرهط (٥) ، وصحيحة زرارة وابن مسلم (٦).

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ٣٣٦ ، قواعد الأحكام : ١ / ٣٩ ، تحرير الأحكام : ١ / ٤٧ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨٥ المسألة ٤٨٩.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٨٣.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٨٥ المسألة ٤٨٩.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٥ الباب ١٧ من أبواب صلاة الجمعة.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٢ الحديث ٩٩٤١.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٦٣ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٦ الحديث ٣٣٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٤ الحديث ٩٩٤٦.


لكن الصدوق بعد إيراد ذلك ، قال : إن لم يقنت إلّا في الخامسة والعاشرة فهو جائز ، لورود الخبر به (١) ، وقال أيضا في «الهداية» بعد ذكر خمس قنوتات : وروي أنّ القنوت في الخامسة والعاشرة (٢).

وذكر الشهيد في «البيان» إنّ أقلّه العاشر (٣) ، ولم نقف على مأخذه ، والأولى الخمس ، لصحّة مستنده وتعدّده وشهرته.

العاشر : إذا وقعت الآية في وقت الفريضة اليوميّة ، فمع ضيق إحداهما وسعة الاخرى تقدّم المتضيّقة ثمّ تأتي بالمتّسعة ، ووجهه ظاهر ، ومع تضيّقهما تقدّم اليوميّة ، لكونها أهم في نظر الشرع ، كما يظهر من الأخبار (٤) ، وقال في «الذكرى» : لا خلاف فيه (٥).

ومع اتّساعهما يتخيّر المكلّف على المشهور ، وقيل : تقدّم الفريضة (٦).

قال في «الفقيه» : ولا يجوز أن يصلّيها في وقت فريضة حتّى يصلّي الفريضة (٧) ، وهو ظاهر الشيخ في «النهاية» ومذهب ابن البرّاج أيضا (٨).

مستند المشهور : أنّهما واجبان اجتمعا ووقتهما موسّع فيتخيّر المكلّف ، والجمع بين ما تضمّن الأمر بتقديم الفريضة ، كصحيحة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام : أنّه سأل عن صلاة الكسوف في وقت الفريضة؟ فقال : «ابدأ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٧ ذيل الحديث ١٥٣٤.

(٢) الهداية : ١٥٢.

(٣) البيان : ٢١١.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٢١.

(٦) لاحظ! مختلف الشيعة : ٢ / ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٧ ذيل الحديث ١٥٣٤.

(٨) النهاية للشيخ الطوسى : ١٣٧ ، المهذّب : ١ / ١٢٥.


بالفريضة» (١) ، وما تضمّن الأمر بتقديم الكسوف ، كصحيحة ابن مسلم وبريد ، عن الباقر عليه‌السلام والصادق عليه‌السلام قالا : «إذا وقع الكسوف أو بعض هذه الآيات صلّها ما لم تتخوّف أن يذهب وقت الفريضة ، فإن تخوّفت فابدأ بالفريضة واقطع ما كنت فيه من صلاة الكسوف ، فإذا فرغت من الفريضة فارجع إلى حيث كنت قطعت واحتسب بما مضى» (٢).

ويمكن المناقشة بأنّ اليوميّة أهم ، ومن هذا تقدّم مع تضيّقهما ، وصحيحة ابن مسلم نصّ في تقديم اليوميّة ، بخلاف صحيحة ابن مسلم وبريد ، لاحتمال إرادة وقت الفضيلة من وقت الفريضة ، بل لعلّه أقرب ، مع احتمال إرادة جواز تقديم الكسوف ، لكون الأمر فيها على صورة الأمر الوارد في مقام توهّم الحظر.

مع أنّ وجوب تقديم الآية خلاف الإجماع ، وما يظهر من الأخبار من أهميّة اليوميّة (٣) ، والإجماع في تقديمها في صورة ضيقهما ، مع أنّ الأمر الوارد فيها مفاد الجملة الخبريّة ، وليس بمثابة الأمر بالصيغة ـ مع أنّ مثل صاحب «المدارك» ، ربّما يناقش في دلالته على الوجوب ـ ومع ذلك استدلّ هنا كذلك (٤) ، مع إمكان حملها على صورة دخول المكلّف في الآية ، وغير بعيد ، كما يشير إليه الأخبار الواردة في قطعهما لدرك الحاضرة في وقتها (٥) ، وستعرفها.

وبالجملة ، لا شبهة في معارضتها مع الصحيحة السابقة ، والحمل على التخيير لا ينفع لرفعه ، لأنّه بعيد جدّا في المقام ، سيّما مع إمكان حمل آخر أقرب.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الحديث ٩٩٣٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٦ الحديث ١٥٣٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩١ الحديث ٩٩٣٧.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٤) مدارك الأحكام : ٤ / ١٤٤ و ١٤٥.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.


وأيضا وقت الآية في الغالب بحيث لا يحصل للمكلّف اطمينان ووثوق لدركها كاملة في ذلك الوقت إن اشتغل بالفريضة ، ولا يأمن من انقضائه حينئذ ، بخلاف وقت الحاضرة ، لأنّه مضبوط معروف سعته ومقدار السعة مع زيادتها ، فلعلّه لأجل هذا أمر بالتقديم في صحيحة ابن مسلم وبريد ، وأمّا إذا عرفت سعة الوقت لهما على سبيل الوثوق والاطمينان ، تكون الحاضرة مقدّمة ، كما في صحيحة ابن مسلم ، إذ لا شبهة في كونها واردة (١) في هذه الصورة.

وممّا يؤيّد دلالة هذه الصحيحة أنّ الراوي قال بعد ما ذكر (٢) : فقيل له : في وقت صلاة الليل ، فقال : «صلّ صلاة الكسوف قبل صلاة الليل» (٣).

فلا شكّ في أنّ هذا الأمر على سبيل الوجوب العيني ، فكذا ما تقدّمه لوحدة السياق.

وكيف كان ، لا تأمّل في أنّ الاحتياط تقديم الحاضرة في صورة الوثوق بدركهما في الوقت ، مع أنّ المشهور قائلون بأولويّة تقديم الحاضرة.

ولو خشي فوات الحاضرة قدّمها على الكسوف ـ سواء خشي فوات الآية أم لا ـ إجماعا ، ولما عرفت من كون الحاضرة أهم ، وغير ذلك.

ولصحيحة ابن مسلم وبريد : «إذا وقع الكسوف أو بعض هذه الآيات صلّها ما لم تتخوّف أن يذهب وقت الفريضة ، فإن تخوّفت فابدأ بالفريضة واقطع ما كنت فيه من صلاة الكسوف ، فإذا فرغت من الفريضة فارجع إلى حيث كنت قطعت ، واحتسب بما مضى» (٤).

__________________

(١) في (ف) و (ط) : صادرة.

(٢) في (ف) و (ط) : بعد ذلك.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الحديث ٩٩٣٤.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩١ الحديث ٩٩٣٧.


وصحيحة ابن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام ، سأله ربّما ابتلينا بالكسوف بعد المغرب قبل العشاء الآخرة فإن صلّيت الكسوف خشينا أن تفوتنا الفريضة؟ فقال : «إذا خشيت ذلك فاقطع صلاتك واقض فريضتك ، ثمّ عد فيها» (١).

ويظهر منها أنّ مع خوف فوت أوّل وقت فضيلة الفريضة يقدّم الحاضرة أيضا ، كما أفتى به في «الفقيه» صريحا.

وكذا الشيخ في «النهاية» ، حيث قالا فيهما : فإذا كان في صلاة الكسوف فدخل عليه وقت الفريضة ، فليقطعها وليصلّ الفريضة ، ثمّ يبني ما مضى من صلاة الكسوف (٢).

وجه الظهور أنّ الظاهر منها دخوله في صلاة الكسوف بعد صلاة المغرب قبل صلاة العشاء ، إذ ليس بين وقتيهما امتداد ، كما سيجي‌ء أنّ بمجرّد الغروب يدخل وقتاهما جميعا ، ويجي‌ء أيضا أنّ وقت فضيلة العشاء ممتدّ إلى ثلث الليل ، بل وأزيد.

فالظاهر خوف فوت العشاء عن أوّل وقت الفضيلة ، لأنّ بعد دخول المكلّف في صلاة الكسوف ـ كما يظهر من قوله عليه‌السلام : «فاقطع» ـ لا يبقى امتداد لإتمامها بعنوان أقلّ الواجب ، أزيد منه إلى ابتداء غيبوبة شفق المغربي التي ابتداء وقت العشاء ، إذ الظاهر أنّ مراد الصدوق والشيخ من دخول وقت العشاء هو هذا الوقت ـ لما سيجي‌ء منهما ، من تأخير العشاء إلى هذا الوقت ـ البتة على كلّ حال ، فتأمّل ، مع أنّ ترك الاستفصال يفيد العموم.

فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد من الوقت في صحيحة ابن مسلم وبريد

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٥٥ الحديث ٣٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الحديث ٩٩٣٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٤٧ ذيل الحديث ١٥٣٤ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٧.


أيضا وقت الفضيلة ، بل هو أقرب بملاحظة هذه الصحيحة وغيرها من الأخبار الواردة في أوقات الفريضة اليوميّة (١).

فاندفع معارضتها مع صحيحة ابن مسلم التي هي نصّ في وجوب تقديم الحاضرة عند سعة وقتها ، ويمنع التخيير ، كما أشرنا سابقا.

وصحيحة ابن أيّوب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن صلاة الكسوف قبل أن تغيب الشمس وتخشى فوت الفريضة؟ فقال : «اقطعوها وصلّوا الفريضة وعودوا إلى صلاتكم» (٢).

وفي هذه أيضا شهادة على تقديم الحاضرة بخوف فوت أوّل وقت الفضيلة ، لترك الاستفصال في مقام الجواب أنّ هذه الفريضة التي يخشى فوتها هي صلاة المغرب أم العصر ، بل الظاهر هي صلاة المغرب ، لعدم تعارف ترك العصر إلى ما قبل غيبوبة الشمس ، سيّما عند الشيعة ، لقولهم بأنّه إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعا ـ كما سيجي‌ء ـ ومعلوم أنّ المطلق ينصرف إلى المتعارف ، وعدم تأخير العصر إلى ما قبل الغروب ، سيّما وأن يدخل في صلاة الكسوف ، كما يظهر من قوله عليه‌السلام : «اقطعوها» ، فتأمّل!

فاندفع التعارض الذي ذكرناه بملاحظة هذه الصحيحة أيضا ، وفي هذين الصحيحين إشارة إلى ما ذكرنا من أنّ تقديم الآية في صورة دخول المكلّف فيها ، كما أشرنا.

ثمّ اعلم! أنّ مقتضى هذه الصحاح ، أنّ الآية تقطع ، ثمّ تصلّى الحاضرة ، ثمّ تتمّ الآية من حيث وقع القطع ، ويبنى عليه ، ويحتسب بما مضى ، وهو المشهور.

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٤ / ١١٨ الباب ٣ من أبواب المواقيت.

(٢) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٣ الحديث ٨٨٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٠ الحديث ٩٩٣٦.


وعن الشيخ في «المبسوط» : أنّه يجب استيناف الآية من رأس في هذه الصورة ، استنادا إلى أنّ الفصل الأجنبي الكثير في أثناء الصلاة مبطل للصلاة لها (١).

وفيه ، إنّا لا نسلّم ذلك إلّا في موضعه ، وهو الموضع الذي تحقّق فيه إجماع أو نصّ ، لا فيما نحن فيه ، لعدم إجماع ولا نصّ ، مضافا إلى الصحاح الكثيرة المقبولة عند المشهور والمفتى بها عندهم بل عند الكلّ ، لأنّ الشيخ في غير «المبسوط» أيضا عمل بها (٢).

الحادي عشر : لو اشتغل بالحاضرة لضيق الوقت فيهما ، أو في الحاضرة ، فإن لم يكن تفريط منه بالنسبة إلى واحدة منهما ، فلا قضاء للآية غير السببيّة ، لعدم استقرار الوجوب ، كذا قيل (٣).

وفيه تأمّل على القول بأنّ القضاء فرض جديد إلّا أن يقال : القضاء تدارك ما فات ، فما لم يكن له وقت لم يتحقّق له فوت ، لأنّه بعد لم يجب ولم يثبت ، لكن لا بدّ من ملاحظة الأخبار الدالّة على القضاء (٤) ، أو غيرها من الأدلّة ، فإن كان شاملا للمقام فبها ، وإلّا فلا قضاء.

وإن فرّط في الآية إلى أن يضيق وقت الحاضرة ، وجب قضاؤها مع استيعاب الاحتراق ، أو مطلقا على حسب ما مرّ ، وإن فرّط في الحاضرة إلى أن حصل التضيق.

قيل بوجوب قضاء الكسوف لاستناد إهمالها ، إلى ما تقدّم من تقصيره (٥).

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٧٢.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ١٣٧.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٢٤.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٩٩ الباب ١٠ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

(٥) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢٢٤.


وقيل : لا يجب ، وهو ظاهر «المعتبر» (١) ، لأنّ تأخيره كان مباحا إلى ذلك الوقت ، ثمّ تعيّن عليه الفعل بسبب التضيق ، واقتضى ذلك الفوات ، فهو بالنظر إلى هذه الحالة غير متمكّن ، فلا يجب الأداء ولا القضاء ، لعدم الاستقرار.

واستحسنه في «المدارك» (٢) ، ولا بدّ من ملاحظة أدلّة القضاء ، وأنّ المكلّف كان عالما أو غافلا أو جاهلا بتحقّق ما ذكر أو مستشعرا.

وربّما يتفاوت الحكم بصدق التقصير والتفريط وعدمه ، وأمّا السببيّة ، فحكمها واضح.

الثاني عشر : لو اجتمع آية وجنازة ، قدّم ما يخشى فواته وجوبا ، فإن اتّسع وقت للجميع قدّم الجنازة ثمّ الآية ، ويحتمل التخيير ، لكنّه بعيد ، لما سيجي‌ء في تجهيز الميّت من تعجيله ، وربّما يصل حدّ الوجوب ، وكذلك الحكم إن لم يتّسع الوقت إلّا لواحدة ، إذ تكون حينئذ الآية غير سببيّة ، لأنّ السببيّة لا وقت لها.

ويحتمل القضاء في غير السببيّة ، لعموم ما دلّ عليه وصدق الفوت عليه حينئذ عرفا ، ولعموم قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٣) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٤) ، فتأمّل!

وقس على ما ذكر حال اجتماع الآية مع العيد أو الجمعة ، وحال اجتماعهما مع الجميع ، وكذا اجتماع بعض ما ذكر مع البعض.

والظاهر أنّ الجمعة متأخّرة عن الكلّ بعد تأخيرها عن الظهر بالمطر ، وعن

__________________

(١) المعتبر : ٢ / ٣٤١.

(٢) مدارك الأحكام : ٤ / ١٤٧.

(٣) عوالي اللآلي : ٤ / ٥٨ الحديث ٢٠٥.

(٤) عوالي اللآلي : ٤ / ٥٨ الحديث ٢٠٧.


مثل احتراق قرص الخبز وأمثالهما ممّا مرّ (١) ، لكن يشترط أن يفعل مكانها الظهر ، إذ الفريضة الحاضرة متقدّمة على حسب ما عرفت.

والحاصل ، أنّ الموافق للقاعدة أنّ نفس الوجوب مقتضاه التخيير إذا وقع التعارض وعدم إمكان الجمع ، إلّا أن يتحقّق رجحان شرعي من الخارج في نفس الفريضة ، كما في اليوميّة ، أو بالوجوه الخارجة ، ولا ضبط فيها.

الثالث عشر : قيل : الشكّ فيها إن كان بين الركعتين السجوديتين ، كما لو شكّ بين الخامس والسادس ، أو الخامس والعاشر تبطل ، وإن تعلّق بالركوعات بنى على الأقلّ ، كما لو شكّ بين الرابع والخامس ، أو بين السادس والسابع (٢).

ويحتاج هذا إلى التأمّل ، لأنّ مقتضى الامور التوقيفيّة الإعادة في الشكّ والسهو والجهل ، إلّا أن يثبت من الشرع صحّته ، إلّا أن يكون الإجماع الواقع في كون حال هذه حال الفريضة بحسب الأجزاء وأحكامها ـ كما مرّ ـ اقتضى ذلك.

لكن لا بدّ من التأمّل في ذلك أيضا ، لأنّا لم نعرف كون الشكّ في الركعة من حيث الركوع يبني على الأقل ، ومن حيث السجود يستأنف.

الرابع عشر : لا يقرأ أزيد من سورة في ركعة بعد «الحمد» إن لم يبعّض ، وإن بعض فيجب تكميل السورة المبعّضة في الخامس والعاشر ، لأنّ كلّ خمس ركعات بمنزلة ركعة ، فيجب عليه «الحمد» وسورة على ما قال بعضهم (٣) ، ومرّ الكلام في ذلك.

ولو صلّى بالتبعيض ، فأراد تتمّة السورة في الرابع والخامس فنسي باقيها

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٢٩٣ و ٢٩٤ (المجلّد الأوّل) من هذا الكتاب.

(٢) قال به الشهيد في الدروس الشرعيّة : ١ / ٢٠٤.

(٣) منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء : ٤ / ١٧١ المسألة ٤٧٢ ، الشهيد في ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١٠.


ابتدأ بـ «الحمد» ، ثمّ قرأ سورة كاملة ، إن كان في الخامس والعاشر ، وإلّا جاز تبعيضها ، ويكمل فيها ، على ما عرفت.


٢٧ ـ مفتاح

[وجوب الصلاة بعد الطواف الواجب]

تجب صلاة ركعتين بعد الطواف الواجب ، ويستحبّ بعد الطواف المستحبّ للكتاب والسنّة. وقيل : بل يستحبّ في الطواف الواجب أيضا (١) ، وهو شاذّ.

ويشترط فيها مع ما يشترط في اليوميّة ما يأتي في مفاتيح الحجّ.

٢٨ ـ مفتاح

[وجوب الصلاة التي التزم المكلف على نفسه]

إذا التزم المكلّف على نفسه صلاة بنذر أو عهد أو يمين وجب عليه الإيفاء به ، حسبما شرط كمّا وكيفا ومكانا وزمانا ، ما لم يكن الشرط منافيا لحقيقة الصلاة ، للكتاب والسنّة والإجماع.

__________________

(١) لاحظ! الخلاف : ٢ / ٣٢٧.


ولو لم يكن له مزيّة ، ففي انعقاده قولان (١) ، أصحّهما ذلك.

وفي الإجزاء بالإتيان بدونه وجهان ، ويأتي في محلّه.

__________________

(١) راجع! مسالك الأفهام : ١١ / ٣١٨.


قوله : (تجب صلاة). إلى قوله : (ويأتي في محلّه).

سنذكر جميع ما ذكره المصنّف في مواضعه مشروحا إن شاء الله تعالى.



القول في النوافل

قال الله تعالى في الحديث القدسي : «إنّ العبد ليتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه» (١) الحديث.

٢٩ ـ مفتاح

[النوافل اليوميّة]

يستحبّ لكلّ مكلّف خال عن الحيض والنفاس واجد للطهور في كلّ يوم وليلة في الحضر أربع وثلاثون ركعة من الصلاة استحبابا مؤكّدا ، للإجماع والصحاح (٢) : ثمان إذا زالت الشمس ، وثمان بعد الظهر ، وأربع بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء قاعدا أو قائما ، تعدّان بواحدة تسميان بالوتيرة ، وثلاث

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٣٥٢ الحديث ٧ و ٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٧٢ الحديث ٤٥٤٤ مع اختلاف يسير.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥ الباب ١٣ من أبواب أعداد الفرائض.


عشرة ركعة من الليل ، حادية عشرها مفردة ، واللتان بعدها سنة الفجر.

وفي بعض الصحاح أقلّ من ذلك بإسقاط أربع بعد الظهر وركعتين بعد المغرب واللتين بعد العشاء (١) ولا منافاة ، إذ لا يستفاد منه إلّا تأكيد الاستحباب في الأقل.

وفي الصحيح : «لا تصلّ أقلّ من أربع وأربعين ركعة» (٢) يعني : مع الفريضة.

وفيه بعد عدّ النوافل : «إنّما هذه كلّه تطوّع وليس بمفروض إنّ تارك الفريضة كافر ، وأنّ تارك هذا ليس بكافر ، ولكنّها معصية ، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه» (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٤٧ الحديث ٤٤٧٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٦ الحديث ٩ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٦٠ الحديث ٤٥٠٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ٧ الحديث ١٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٥٩ الحديث ٤٥٠٢.


قوله : (للإجماع والصحاح). إلى آخره.

الإجماع نقله الشيخ (١) ، لكن ربّما يظهر من كلامه في «التهذيب» وقوع الخلاف في النوافل النهاريّة دون الليليّة (٢) ، وأنّه فهم الخلاف من الأخبار.

لكن الصدوق في «الأمالي» جعل من دين الإماميّة أنّ نافلة العصر ثمان قبلها ، والمغرب أربع بعدها ، والعشاء ركعتان من جلوس تعدّان بركعة ، وهي وتر لمن لم يلحق الوتر آخر الليل (٣) ، انتهى.

وفي «العيون» عن محض الإسلام أيضا كذلك (٤) ، إلّا حكاية «وهي وتر».

ونافلة الظهر والليل إجماعيّان بلا شبهة.

وأمّا الصحاح ، فمنها كالصحيح عن الفضيل بن يسار ، عن الصادق عليه‌السلام : «الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّان بركعة ، والنافلة أربع وثلاثون ركعة» (٥).

وفي الضعيف بـ ـ سهل ـ عن البزنطي ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : إنّ أصحابنا اختلفوا في صلاة التطوّع ، بعضهم يصلّي أربعا وأربعين ، وبعضهم يصلّي خمسين ، فأخبرني بالذي تعمل به حتّى أعمل به ، فقال : «اصلّي واحدة وخمسين [ركعة]» ، ثمّ قال : «أمسك ـ وعقد بيده ـ الزوال ثمانية ، وأربعا بعد الظهر ، وأربعا قبل العصر ،

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٥٢٦ ذيل المسألة ٢٦٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٩ ذيل الحديث ١٨.

(٣) أمالي الصدوق : ٥١١.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٣٠ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٥٤ الحديث ٤٤٩٥.

(٥) الكافي : ٣ / ٤٤٣ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤ الحديث ٢ ، الاستبصار : ١ / ٢١٨ الحديث ٧٧٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٦ الحديث ٤٤٧٥ مع اختلاف يسير.


وركعتين بعد المغرب ، وركعتين قبل العشاء ، وركعتين بعد العشاء من قعود تعدّان بركعة [من قيام] ، وثمان صلاة الليل ، والوتر ثلاثا وركعتي الفجر ، والفرائض سبع عشرة» (١).

وسهل ثقة ومن مشايخ الإجازة ، وتضعيفه ليس بمكانه ، كما حقّقت في الرجال (٢) ، والمحقّقون في أمثال زماننا كاد أن يتّفقوا على ما ذكرناه أو مثله ، مع أنّ الشهرة جابرة ، سيّما مثل هذه ، مضافا إلى المسامحة في أدلّة السنن ، ومع ذلك ثبت من الأخبار الصحاح والمعتبرة أبعاض ما ذكر ، بحيث يثبت من المجموع المجموع.

مع أنّ الشيخ روى أيضا بسند فيه علي بن حديد ، عن الحارث النصري ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «صلاة النهار ستّ عشر [ة] ركعة ، ثمان إذا زالت الشمس ، وثمان بعد الظهر ، وأربع [ركعات] بعد المغرب ، يا حارث! لا تدعها في سفر ولا حضر ، وركعتان بعد العشاء [الآخرة] كان أبي عليه‌السلام يصلّيهما وهو قاعد ، وأنا اصلّيهما وأنا قائم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي ثلاث عشرة ركعة من الليل» (٣).

وروى هذه الرواية بعينها بطريق آخر ، بدون علي بن حديد (٤) ، والسند صحيح غير علي بن حديد.

وبالجملة ، المسألة لا إشكال فيها من الجهات التي عرفت ، إلّا أنّه يعارضها أخبار كثيرة من جهة تضمّنها أنقص ممّا ذكر ، وحملت على تفاوت مراتب الفضيلة ، كما ذكره المصنّف ، مع أنّها شاذّة ، والشاذّ لا عمل عليه ، وامرنا بتركه.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٤٤ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٨ الحديث ١٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٧ الحديث ٤٤٧٩.

(٢) تعليقات على منهج المقال : ١٧٦.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٤٨ الحديث ٤٤٨١.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٩ الحديث ١٦.


وفي «الكشّي» في جملة الحديث الذي رواه عبد الله بن زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام ـ في اعتذاره إلى زرارة من جهة ذمّه إيّاه ـ «هذا فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي عليه‌السلام وأمرتك ، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك ، فلا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلّا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به ، ولكلّ ذلك عندنا تصاريف ومعان يوافق الحقّ». إلى أن قال عليه‌السلام : «وعليك بالصلاة الستّة والأربعين». إلى أن قال : «والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين والإهلال بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فلذلك عندنا معان وتصاريف [لذلك] ما يسعنا ويسعكم ولا يخالف شي‌ء من ذلك الحقّ ولا يضادّه» (١) الحديث ، فتأمّل مجموعه ، فإنّ فيه فوائد عظيمة.

وفي جملة الأخبار المعارضة المذكورة في الكتب الأربعة رواية زرارة عنهم عليهم‌السلام : أنّ النافلة والفريضة ستّ وأربعون ، وفي بعض تلك الأخبار : أرأيت أحدا أصدع بالحقّ من زرارة (٢) ، فلعلّ المناسب بالنسبة إليه كان الأمر بالستّ والأربعين ، لكونه تاجرا مشغولا بالتجارة والفقاهة وترويج الشرع ، وكان له تبعة يسمّون بالزراريّة (٣) ، والله يعلم.

وهنا فوائد :

الاولى : المشهور بين المتأخّرين ، بل القدماء أيضا ـ على ما قيل ـ أنّ نافلة

__________________

(١) رجال الكشّي : ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢ الرقم ٢٢١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٦١ الحديث ٤٥٠٨.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٦ الحديث ١٠ ، الاستبصار : ١ / ٢١٩ الحديث ٧٧٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٦٠ الحديث ٤٥٠٦.

(٣) الملل والنحل : ١ / ١٦٦.


الظهر ثمان ركعات والعصر ثمان (١) ، ونقل عن بعض كون المجموع للظهر (٢).

وعن ابن الجنيد أنّه جعل قبل العصر ثمان ركعات للعصر منها ركعتان (٣).

وفي «الذكرى» : إنّ معظم الأخبار والمصنّفات خالية عن التعيين للعصر وغيرها (٤).

أقول : في الأخبار اختلاف شديد في تعيين ذلك ، والمستفاد منها كون ثماني منها قبل الظهر ، وثماني بعدها وقبل العصر (٥) ، فالاقتصار في نيّتها على ملاحظة الامتثال بها متّجه ، وقصدها على النحو المشهور غير مضرّ أيضا إذا كان المراد الإضافة على حسب المقرّر عند الفقهاء والمشهور منهم ، أو مطلقا من غير تخصيص الشرع وما يستفاد من الأخبار.

قيل : يظهر فائدة الخلاف في اعتبار إيقاع الستّ قبل القدمين أو المثل إن جعلناها للظهر ، وفيما إذا نذر (٦).

ونوقش في الموضعين بأنّ مقتضى النصوص اعتبار إيقاع الثمان التي قبل الظهر قبل القدمين أو المثل ، وإيقاع الثمان التي بعدها قبل الأربعة والمثلين ، سواء قلنا بأنّ الكلّ للظهر أو العصر أو بالتلفيق.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المنذور يتبع قصد الناذر ، فإن قصد الثمان وجب ، وإن قصد الركعتين وجبتا وهكذا ، وإن قصد نافلة العصر أمكن التوقّف في صحّة النذر ،

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٣ / ١٣ ، ذخيرة المعاد : ١٨٤.

(٢) لاحظ! ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٨٩ ، الهداية : ١٣٢.

(٣) نقل عنه في ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٨٩.

(٤) ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٨٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥ الباب ١٣ من أبواب أعداد الفرائض.

(٦) مدارك الأحكام : ٣ / ١٣.


لعدم ثبوت الاختصاص ، والأمر كما ذكره إن قصد الاختصاص الثابت من الشرع ، ولم يكتف في الثبوت بهذا القدر من الاشتهار بين الأصحاب.

وأمّا إذا قصد الاختصاص المشهور بينهم ، أو مطلقا ، أو اكتفى في الثبوت بذلك يظهر الثمرة.

الثانية : بين الفقهاء خلاف في أنّ هذه النوافل أيّ منها أفضل؟ فعن الصدوق الأفضل ركعتا الفجر ، ثمّ ركعة الوتر ، ثمّ ركعتا الزوال ، ثمّ نافلة المغرب ، ثمّ تمام صلاة الليل ، ثمّ تمام نوافل النهار (١).

وعن ابن أبي عقيل : آكدها التي بالليل ، لا رخصة في تركها سفرا وحضرا (٢).

وعن «الخلاف» : أنّ ركعتي الفجر أفضل من الوتر بإجماعنا (٣) ، ولا يخفى أنّ الأخبار وردت في فضل نافلة الليل ونافلة الزوال ونافلة المغرب (٤).

الثالثة : يكره الكلام بين المغرب ونافلتها ، لرواية أبي العلاء الخفّاف عن الصادق عليه‌السلام : «من صلّى المغرب ، ثمّ عقّب ، ولم يتكلّم حتّى يصلّي ركعتين كتبتا في علّيين ، فإن صلّى أربعا كتبت له حجّة مبرورة» (٥).

والظاهر أنّ المراد إن صلّى أربعا كذلك ـ أي لم يتكلّم ـ كتبت. إلى آخره ، كما

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣١٤ باب أفضل النوافل.

(٢) نقل عنه الشهيد في ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٩٢.

(٣) الخلاف : ١ / ٥٢٣ المسألة ٢٦٤.

(٤) راجع! وسائل الشيعة : ٨ / ١٤٥ الباب ٣٩ من أبواب بقية الصلوات المندوبة ، ٤ / ٩٣ الباب ٢٨ ، ٨٦ الباب ٢٤ من أبواب أعداد الفرائض.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٤٣ الحديث ٦٦٤ ، أمالي الصدوق : ٤٦٩ الحديث ٤ ، ثواب الأعمال : ٦٩ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١١٣ الحديث ٤٢٢ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٨٨ الحديث ٨٥١١.


فهمه الفقهاء ظاهرا ، وأفتوا به.

وعن أبي الفوارس : نهاني الصادق عليه‌السلام أن أتكلّم بين الأربع ركعات التي بعد المغرب (١).

ومنها ـ أيضا ـ ظهر كراهة الكلام بين نافلة المغرب ، والمستفاد كراهة الكلام بغير الذكر والدعاء وغيرهما من التعقيب.

الرابعة : قال المفيد : الأولى القيام إلى نافلة المغرب عند الفراغ منها قبل التعقيب وتأخير التعقيب إلى أن يفرغ منها (٢).

واحتجّ في «التهذيب» له برواية أبي العلاء المذكورة (٣) ، ودلالتها خفيّة.

وفي «الذكرى» : الأفضل المبادرة بها قبل كلّ شي‌ء سوى تسبيحة الزهراء عليها‌السلام ، واستدلّ عليه بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كذا ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بشر بالحسن عليه‌السلام صلّى ركعتين بعد المغرب شكرا ، فلمّا بشّر بالحسين عليه‌السلام صلّى ركعتين ، ولم يعقّب حتّى فرغ منها (٤).

قيل : مقتضاها أولويّة فعلها قبل التسبيح أيضا (٥). وفيه ، إنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلّا أنّها لا تقاوم ما دلّ على التسبيح ، وشدّة تأكيده في فعله قبل أن يثني رجليه من الفريضة (٦).

وفي «كشف الغمّة» : «أنّ الجواد عليه‌السلام صلّى المغرب ، فقرأ في الأولى

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ١١٤ الحديث ٤٢٥ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٨٨ الحديث ٨٥١٠.

(٢) المقنعة : ١١٨.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ١١٣.

(٤) ذكرى الشيعة : ٢ / ٣٦٦ و ٣٦٧.

(٥) ذخيرة المعاد : ١٨٤.

(٦) انظر! وسائل الشيعة : ٦ / ٤٣٩ الباب ٧ من أبواب التعقيب.


«الحمد» و «اذا جاء» ، وفي الثانية «الحمد» و «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» ، «ثمّ صلّى الثالثة وتشهّد وسلّم ، ثمّ جلس هنيئة يذكر الله تعالى وقام من غير أن يعقّب ، فصلّى النافلة أربع ركعات وعقّب بعدها ، وسجد سجدتي الشكر» (١).

وهذا يصلح أن يكون دليل المفيد و «الذكرى» أيضا ، فتأمّل!

لكن في رواية رجاء بن أبي ضحّاك : أنّ الرضا عليه‌السلام كان إذا صلّى المغرب جلس في مصلّاه يسبّح الله ويكبّر ويحمده ويهلّله ما شاء الله ، ثمّ يسجد سجدة الشكر ، ثمّ يرفع رأسه ولم يتكلّم حتّى يقوم ، ويصلّي أربع ركعات بتسليمتين (٢). ولا مانع للكلّ ، ولكن الأولى متابعة المشهور في الفتوى.

الخامسة : روى الصدوق ـ في الصحيح ـ عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام : «من قال في آخر السجدة من النافلة بعد المغرب ليلة الجمعة ، وإن قال كلّ ليلة فهو أفضل : اللهمّ إنّي أسألك بوجهك الكريم واسمك العظيم أن تصلّي على محمّد وآل محمّد ، وأن تغفر لي ذنبي العظيم ـ سبع مرّات ـ انصرف وقد غفر له» (٣).

السادسة : في موضع سجدة الشكر في رواية حفص الجوهري ، أنه بعد السبع ركعات (٤) ، كما مرّ في رواية «كشف الغمة» أيضا (٥).

وفي رواية جهم ، عن الكاظم عليه‌السلام : أنّه سجد بعد الفريضة ثلاث ركعات

__________________

(١) كشف الغمّة : ٢ / ٣٥٨ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٠ الحديث ٨٥١٥ مع اختلاف يسير.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٤ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٥٥ الحديث ٤٤٩٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٧٣ الحديث ١٢٤٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٩٤ الحديث ٩٦٧٣.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ١١٤ الحديث ٤٢٦ ، الاستبصار : ١ / ٣٤٧ الحديث ١٠٣٨ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٨٩ الحديث ٨٥١٢.

(٥) مرّت الإشارة إليها آنفا.


وقال : «لا تدعها فإنّ الدعاء فيها مستجاب» (١) ، والظاهر أنّها سجدة الشكر ، كما مرّ في رواية رجاء بن أبي ضحّاك أيضا (٢) ، والكلّ حسن ، إلّا أنّ الأوّل موافق للفتوى ، ولعلّه أولى أيضا.

السابعة : ذكر جمع من الأصحاب أنّ الجلوس في الوتيرة أولى (٣) ، لكونها في مكان الركعة الواحدة وبدلها ، كما في الأخبار (٤).

لكن في بعض الأخبار أنّ القيام أولى (٥) ، ومنه ما مرّ في رواية الحارث بن المغيرة : «كان أبي يصلّيهما وهو قاعد ، وأنا اصلّيهما وأنا قائم» (٦) ، فإن مواظبته عليه‌السلام على القيام وخلاف طريقة أبيه عليه‌السلام دليل تامّ على رجحان القيام ، مضافا إلى العمومات الاخر ، وأبوه عليه‌السلام كان رجلا بادنا يشقّ عليه القيام.

وكونها مكان الركعة لا تقتضي رجحان كونها جالسة ، لجواز أن يكون ثواب القيام فيها ثوابا خارجا عن ماهيّتها ، بإزاء القيام والمشقّة التي فيها.

الثامنة : روى الشيخ في «المصباح» عن هشام بن سالم ، عن الصادق عليه‌السلام : «من صلّى بين العشاءين ركعتين قرأ في الاولى : «الحمد» و [قوله :] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً. إلى [قوله :] وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٧) وفي الثانية : «الحمد»

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢١٧ الحديث ٩٦٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١١٤ الحديث ٤٢٧ ، لاستبصار : ١ / ٣٤٧ الحديث ١٣٠٩ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٨٩ الحديث ٨٥١٣.

(٢) مرّت الإشارة إليها آنفا.

(٣) روض الجنان : ١٧٥ ، مدارك الأحكام : ٣ / ١٦ ، الحدائق الناضرة : ٦ / ٦٢.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥ الباب ١٣ من أبواب أعداد الفرائض.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٥١ الحديث ٤٤٨٨.

(٦) وسائل الشيعة : ٤ / ٤٨ الحديث ٤٤٨١.

(٧) الأنبياء (٢١) : ٨٧ و ٨٨.


وقوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (١) الآية ، فإذا فرغ من القراءة رفع يديه ، وقال : اللهمّ إنّي أسألك بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلّا أنت أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا ، تقول : اللهمّ أنت وليّ نعمتي ، والقادر على طلبتي ، تعلم حاجتي فأسألك بحقّ محمّد وآل محمّد عليه وعليهم‌السلام لمّا قضيتها لي ، وما سأل الله حاجة إلّا أعطاه» (٢).

ثمّ اعلم! أنّه توهّم بعض العلماء حيث جعل هاتين الركعتين من جملة الأربع التي هي نافلة المغرب (٣) ، ولا يخفى توهّمه ، لأنّه عليه‌السلام أتى بلفظ «ركعتين» نكرة في سياق الإثبات الظاهر في عدم كونه بعضا من الموظّف المعهود ، مضافا إلى عدم تعيين ذلك في كونه أيّ واحد من الركعتين المعهودتين ، مع أنّ من كلمات العموم تشمل من أتى بنافلة المغرب أيضا ، وتسمّى هذه الصلاة بالغفيلة ، لأنّ الشيخ رحمه‌الله قال ـ مقدّما على ما ذكرنا عنه ـ : ويستحبّ التنفّل بين المغرب والعشاء بما يتمكّن من الصلاة ، وهي التي تسمّى ساعة الغفلة ، فممّا روي من الصلاة في هذا الوقت ما رواه هشام بن سالم ، عن الصادق عليه‌السلام. إلى آخر ما ذكرنا عنه ، ثمّ أتى بصلوات اخر كلّ واحدة ركعتان لهذا الوقت (٤).

فظهر منه أنّ الغفيلة غير منحصرة في الصلاة المذكورة ، وهذا هو الظاهر ممّا روى الشيخ مسندا ، والصدوق مرسلا ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين فإنّهما تورثان دار الكرامة» ، قيل : يا رسول الله!

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٥٩.

(٢) مصباح المتهجّد : ١٠٦ و ١٠٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ١٢١ الحديث ١٠٢١٧ مع اختلاف يسير.

(٣) الحدائق الناضرة : ٦ / ٧١.

(٤) مصباح المتهجّد : ١٠٦ ـ ١٠٨.


ما ساعة الغفلة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما بين المغرب والعشاء» (١).

وربّما يظهر من هذه الرواية أنّ نافلة المغرب أيضا من جملة الغفلة ، فتأمّل جدّا! لكن ابن طاوس رحمه‌الله في كتاب «فلاح السائل» بعد ما روى هذه الرواية بإسناده عن هشام بن سالم ، وذكر ما ذكرناه عن الشيخ ، قال : فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تتركوا ركعتي الغفيلة وهما بين العشاءين» (٢).

فظهر منه أنّها بخصوصها صلاة الغفيلة ، والله يعلم.

ثمّ اعلم! أنّ ما ورد من «أن تارك الفريضة كافر» (٣) ، ليس المراد الكفر الحقيقي بمجرّد الترك بإجماع الشيعة ، فلذا يحمل أمثال هذه الروايات على الترك مستحلا ، لأنّ وجوبها ضروري الدين ، أو أنّ المراد الكفر المجازي المشابه للحقيقي في شدّة العقاب في الجملة ، وأمثال ذلك.

وبالأمرين المذكورين وجّهوا (٤) ما ورد من كفر تارك الزكاة والحجّ وغير ذلك (٥).

لكن التوجيهين ربّما لا يتمشّيان في المقام ، لأنّ المراد إن كان الترك مستحلّا ، فكذا الحال في النافلة التي استحبابها ضروريّ ، والتي ليست بضروريّة ، وإنكارها لعدم الثبوت على المنكر جزما ، أو ظاهرا أو احتمالا ، فلا معصية في تركها البتة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٤٣ الحديث ٩٦٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٥٧ الحديث ١٥٦٤ ، علل الشرائع : ٣٤٣ الحديث ١ ، معاني الأخبار : ٢٦٥ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ١٢٠ الحديث ١٠٢١٦.

(٢) فلاح السائل : ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٤١ الباب ١١ من أبواب أعداد الفرائض.

(٤) منتهى المطلب : ١ / ٤٧١ ، ٢ / ٦٤٢ ط. ق ، الحدائق الناضرة : ١٢ / ٨ ، ١٤ / ٢٠.

(٥) وسائل الشيعة : ٩ / ٣١ الباب ٤ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، ١١ / ٢٩ الباب ٧ من أبواب وجوب الحج وشرائطه.


وكذلك الإشكال لو كان المراد شدّة العذاب ، لأنّ النافلة لا عذاب في تركها أصلا.

ويمكن أن يكون المراد من المعصية خلاف الطاعة ، فكما أنّ الطاعة الواجبة خلافها معصية حرام ، فكذلك الطاعة المستحبّة خلافها معصية مكروهة ، لأنّ العصيان مخالفة الأمر ، فمخالفة الأمر المستحبّ ، ربّما يسمّى عصيانا.

وقيل : منه قوله تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١) لأنّه تعالى أمره بالأمر الإرشادي بترك أكل الشجرة المعهودة ، كي لا يخرج من الجنّة ، فنهيه هذا نهي إرشادي ، والإرشادي يستحبّ امتثاله (٢).

ويشهد على ما ذكرنا تعليله بقوله : (لأنّه يستحبّ إذا عمل). إلى آخره ، إذ لا شبهة في كون ذلك مستحبّا ، كما صرّح به.

هذا ، لكن في بعض الأخبار : «أنّ تارك الصلاة كافر من جهة أنّ تركه لها ليس للشهوة واللذّة ، فلا جرم يكون للاستخفاف بربّه ، وعدم المبالاة به ، وعدم الاعتناء بشأن أوامره ونواهيه» (٣).

لكن ظاهر أنّ هذا أيضا ليس بكفر حقيقي ، لأنّه مقرّ به تعالى ، وسائر اصول الدين ، إلّا أنّه في دينه واعتقاده ضعف ، به يترك الصلاة التي ليس في تركها داع قوي ، مثل المقهوريّة تحت الشهوة وشدّة اللذّة ، فلذا يتركها بشهوة ولذّة ضعيفة غاية الضعف ، وهي لذّة الراحة وعدم التعب الذي في الصلاة.

وبالجملة ، يظهر من الأخبار شدّة تأكّد استحباب النوافل ، حتّى أنّه ورد في

__________________

(١) طه (٢٠) : ١٢١.

(٢) التبيان : ٧ / ٢١٧ ، مجمع البيان : ٤ / ١٥٢ (جزء ١٦).

(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٤١ الحديث ٤٤٦٣ نقل بالمعنى.


صحيحة ابن سنان فيمن فاته شي‌ء من النوافل : «إن كان شغله في طلب معيشة لا بدّ منها أو حاجة لأخ مؤمن فلا شي‌ء عليه ، وإن كان شغله لدنيا تشاغل بها عن الصلاة فعليه القضاء ، وإلّا لقي الله عزوجل وهو مستخفّ متهاون مضيّع لحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

لكن ذكر في «الذكرى» : أنّه قد تترك النافلة للعذر ومنه الهمّ والغمّ ، لرواية علي بن أسباط ، عن عدّة منّا : أنّ الكاظم عليه‌السلام إذا اهتمّ ترك النافلة ، وعن معمّر بن خلّاد ، عن الرضا عليه‌السلام مثله : «إذا اغتمّ» (٢) (٣).

وفي الروايتين ضعف ، والأولى أن لا يترك بحال ، لما ورد فيها من الحثّ البالغ والتأكيد الشديد ، منه ما ذكره.

__________________

(١) المحاسن : ٢ / ٣٢ الحديث ١١٠٤ ، الكافي : ٣ / ٤٥٣ الحديث ١٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٥٩ الحديث ١٥٧٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١١ الحديث ٢٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٧٥ الحديث ٤٥٥٣ مع اختلاف يسير.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ١١ الحديث ٢٣ و ٢٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٦٨ الحديث ٤٥٣١ و ٤٥٣٢.

(٣) ذكرى الشيعة : ٢ / ٣١٣.


٣٠ ـ مفتاح

[سبب الأمر بالنوافل]

الإتيان بالنوافل يقتضي تكميل ما نقص من الفرائض بترك الإقبال عليها.

ففي الصحيح : «إنّ العبد ليرفع له من صلاته ثلثها ونصفها وربعها وخمسها ، فما يرفع له إلّا ما أقبل منها بقلبه ، وإنّما أمروا بالنوافل ليتمّ لهم ما نقصوا من الفريضة» (١).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٦٣ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٧١ الحديث ٤٥٤١.



قوله : (والإتيان بالنوافل). إلى قوله : (ففي الصحيح). إلى آخره.

هو صحيح ابن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام (١).

وروى ابن مسلم في الصحيح أيضا أنّه قال للصادق عليه‌السلام : إنّ عمّار الساباطي روى عنك رواية ، قال : «ما هي؟» قال : قلت : إنّ السنّة فريضة ، قال : «أين يذهب؟ ليس هكذا حدّثته ، إنّما قلت [له] : من صلّى فأقبل على صلاته لم يحدّث نفسه فيها ، أو لم يسه أقبل الله عليه ما أقبل عليها ، فربّما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها ، وإنّما امروا بالسنّة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة» (٢).

وفي رواية اخرى : أنّهم عليهم‌السلام حين ما قالوا : لا يقبل الله من الصلاة إلّا ما أقبل عليها بقلبه ، قال الراوي : إذا هلكنا ، فقال المعصوم عليه‌السلام : ليس كذلك لأنّ الله يتمّ لكم بالنوافل (٣).

فيحتمل أن يكون المراد أنّ نفس النوافل تجبر ما نقص من الإقبال ، ويحتمل أن يكون المراد إنّ الله قرّر لكم النوافل ، إذا وقع النقص في الإقبال في الفريضة يتدارك ذلك النقص بالإقبال في النافلة ، وعلى هذا الاحتمال أيضا هلكنا ، إلّا من أيده الله ووفّقه منّا.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٦٣ الحديث ٢ ، علل الشرائع : ٣٢٨ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤١ الحديث ١٤١٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٧١ الحديث ٤٥٤١.

(٢) المحاسن : ١ / ٩٧ الحديث ١٤ ، الكافي : ٣ / ٣٦٢ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٧٠ الحديث ٤٥٤٠ مع اختلاف يسير.

(٣) علل الشرائع : ٢٣١ الحديث ٨ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤١ الحديث ١٤١٥ ، وسائل الشيعة : ٥ / ٤٧٨ الحديث ٧١٠٩ نقل بالمعنى.



٣١ ـ مفتاح

[استحباب صلاة الوتر]

من فاته صلاة الليل فقام قبل الفجر فصلّى الوتر وسنّة الفجر ، كتبت له صلاة الليل ، كذا في الصحيح (١).

والمراد بالوتر الركعات الثلاث اللاتي بعد الثمان ، كما يستفاد من الروايات (٢).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤١ الحديث ١٤١١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٥٨ الحديث ٥٠٨٨.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٤ / ٩٠ الباب ٢٥ من أبواب أعداد الفرائض.



قوله : (كذا في الصحيح).

هو صحيحة معاوية بن وهب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سمعه يقول : «أما يرضى أحدكم أن يقوم قبل الصبح ويوتر ويصلّي ركعتي الفجر فكتب له صلاة الليل» (١).

وقوله : (كما يستفاد من الروايات).

أقول : يوجد في الأخبار إطلاقه على الركعة الواحدة الأخيرة منها أيضا مكرّرا (٢) ، وعند المتشرّعة أيضا يطلق عليها.

بل يطلق عليها على سبيل الحقيقة ، والحقيقة الشرعيّة إن كانت ثابتة ، فعلى طريقة الحقيقة عند المتشرّعة ، كما لا يخفى.

وعلى تقدير عدم الثبوت فالمجاز الشرعي على طريقة الحقيقة عند المتشرّعة.

نعم ، الظاهر في أمثال المقام هو الثلاث ركعات.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤١ الحديث ١٤١١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٥٨ الحديث ٥٠٨٨ مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٩٠ الحديث ٤٥٨٩ ، ٩٦ الحديث ٤٦٠٩ و ٤٦١٠.



٣٢ ـ مفتاح

[ما يستحبّ ويكره بعد النوافل]

يكره الكلام بين أربع ركعات المغرب ، وبينها وبين المغرب للخبرين (١).

ويستحبّ الضجعة بعد نافلة الفجر على الجانب الأيمن ، والدعاء فيها بالمأثور للمستفيضة الخاصيّة (٢) والعاميّة (٣) ، ويجوز بدلها السجدة والقيام والقعود والكلام للخبرين (٤) ، والضجعة أفضل.

ويكره النوم بعد هاتين الركعتين ، للخبر (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٦ / ٤٨٨ الحديث ٨٥١٠ و ٨٥١١.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩١ الباب ٣٢ من أبواب التعقيب.

(٣) انظر! سنن أبي داود : ٢ / ٢١ كتاب الصلاة ، سنن الترمذي : ٢ / ٢٨١ الباب ١٩٤ من أبواب الصلاة.

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٢ الحديث ٨٥١٧ و ٨٥١٨.

(٥) وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٥ الحديث ٨٥٢٦.



قوله : (ويكره الكلام). إلى آخره.

مرّ الكلام فيه ، وأمّا استحباب الضجعة المذكورة ، فلما روى في «التهذيب» بسنده عن المروزي ، عن أبي الحسن الأخير عليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك والنوم بين صلاة الليل والفجر ، ولكن ضجعة بلا نوم ، فإنّ صاحبه لا يحمد على ما قدّم من صلاته» (١).

وفي الصحيح ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله سليمان بن خالد عمّا يقول إذا اضطجع على يمينه بعد ركعتي الفجر؟ فقال : «اقرأ الخمس [آيات التي في آخر] آل عمران (٢). إلى (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣) ، وقل : استمسكت بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها ، واعتصمت بحبل الله المتين ، وأعوذ بالله من شرّ فسقة العرب والعجم ، آمنت بالله ، وتوكّلت على الله ، ألجأت ظهري إلى الله ، فوّضت أمري إلى الله ، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شي‌ء قدرا ، حسبي الله ونعم الوكيل ، اللهمّ من أصبحت حاجته إلى مخلوق فإنّ حاجتي ورغبتي إليك ، الحمد لربّ الصباح ، الحمد لفالق الإصباح ثلاثا» (٤).

وفي «الفقيه» إلى آخر ما ذكر ، مع تفاوت ما ، وقال في آخره : «وصلّ على محمّد وآله» مائة مرّة (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣٧ الحديث ٥٣٤ ، الاستبصار : ١ / ٣٤٩ الحديث ١٣١٩ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٥ الحديث ٨٥٢٦.

(٢) في المصادر : الخمس آيات التي في آخر آل عمران.

(٣) آل عمران (٣) : ١٩٠ ـ ١٩٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣٦ الحديث ٥٣٠ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩١ الحديث ٨٥١٦.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣١٣ و ٣١٤.


وفي الصحيح أيضا ، عن علي بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام ، عن رجل نسي أن يضطجع على يمينه بعد ركعتي الفجر ، فذكر حين أخذ في الإقامة كيف يصنع؟ قال : «يقيم ويصلّي ويدع ذلك فلا بأس» (١).

وأمّا ما ذكره من الخبرين ، فأحدهما : رواية إبراهيم بن أبي البلاد قال : صلّيت خلف الرضا عليه‌السلام [في المسجد الحرام] صلاة الليل فلمّا فرغ جعل مكان الضجعة السجدة (٢).

والثاني : مرسلة رجل عن الصادق عليه‌السلام قال : «يجزيك من الاضطجاع بعد ركعتي الفجر القيام والقعود والكلام بعد ركعتي الفجر» (٣).

وأمّا الخبر الدالّ على كراهة النوم بعدهما ، فهو رواية المروزي المذكورة (٤).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٣٨ الحديث ١٣٩٩ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٣ الحديث ٨٥١٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٤٨ الحديث ٢٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣٧ الحديث ٥٣١ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٢ الحديث ٨٥١٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣٧ الحديث ٥٣٢ ، وسائل الشيعة : ٦ / ٤٩٢ الحديث ٨٥١٨.

(٤) مرّت الإشارة إلى مصادرها آنفا.


٣٣ ـ مفتاح

[نوافل يوم الجمعة]

يستحبّ التنفّل يوم الجمعة بعشرين ركعة زيادة على كلّ يوم بأربع ركعات ، والصحاح في توزيعها مختلفة ، ففي بعضها : «ستّ ركعات عند ارتفاع النهار ، وستّ ركعات قبل نصف النهار ، وركعتان إذا زالت الشمس قبل الجمعة ، وستّ ركعات بعد الجمعة» (١). وفي بعضها غير ذلك.

ومنها ما يدلّ على أزيد من ذلك ، ومنها ما يدلّ على أقلّ ، ومنها ما يدلّ على أنّها قبل الفريضة أفضل (٢) ، وفي خبر : «أنّها بعدها أفضل» (٣) ، وهو متأوّل (٤).

والعمل بمضمون الكلّ حسن إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٤ الحديث ٩٤٨١.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الحديث ٩٤٧٤ ، ٣٢٨ الحديث ٩٤٩٥ ، ٣٣٠ الحديث ٩٥٠٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٦ الحديث ٩٤٨٥.

(٤) التأويل : هو أن يحمل الخبر بما إذا زالت ولم يصل النافلة بعد ، فتأخيرها عن الفريضة حينئذ أفضل «منه رحمه‌الله».



قوله : (يستحبّ التنفّل). إلى آخره.

هذا هو المشهور ، ونقل عن ابن الجنيد والمفيد أنّه اثنتان وعشرون ركعة (١) ، وعن ابني بابويه أنّ زيادة الأربع هنا للتفريق ، فإن قدّمتها أو أخّرتها وجمعت بينها ، فهي ستّ عشرة كسائر الأيّام (٢).

مستند المشهور الأخبار الصحاح التي أشار إليها (٣) ، وغيرها مثل صحيحة يعقوب بن يقطين ، عن الكاظم عليه‌السلام : «إذا أردت أن تطوّع في يوم الجمعة في غير سفر صلّيت ستّ ركعات ارتفاع النهار ، وست ركعات قبل نصف النهار ، وركعتين إذا زالت الشمس قبل الجمعة ، وستّ ركعات بعد الجمعة» (٤).

وقريب من هذه الصحيحة قويّة البزنطي ، عن أبي الحسن عليه‌السلام (٥).

وقويّة مراد بن خارجة ، عن الصادق عليه‌السلام (٦) ، وكالصحيح عن محمّد بن عبد الله عنه عليه‌السلام (٧). إلى غير ذلك ، وسنذكر في الجملة.

ومستند المفيد صحيحة سعد بن سعد ، عن الرضا عليه‌السلام : «أنّها ستّ ركعات

__________________

(١) نقل عن ابن الجنيد في الحدائق الناضرة : ١٠ / ١٨٤ ، نقل عن المفيد في مدارك الأحكام : ٤ / ٨٣.

(٢) نقل عنهما في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٧ ، لاحظ! المقنع : ١٤٥ و ١٤٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الباب ١١ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١١ الحديث ٣٦ ، الاستبصار : ١ / ٤١٠ الحديث ١٥٦٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٤ الحديث ٩٤٨١.

(٥) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٦ الحديث ٦٦٨ ، الاستبصار : ١ / ٤١٠ الحديث ١٥٦٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٣ الحديث ٩٤٧٧.

(٦) الكافي : ٣ / ٤٢٨ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ١١ الحديث ٣٥ ، الاستبصار : ١ / ٤١٠ الحديث ١٥٦٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٥ الحديث ٩٤٨٣.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٦ الحديث ٦٦٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٣ الحديث ٩٤٧٧.


بكرة ، وستّ بعد ذلك اثنتي عشرة ، وستّ بعد ذلك ثماني عشرة ، وركعتان بعد الزوال ، وركعتان بعد العصر ، فهذه ثنتان وعشرون ركعة» (١).

وبها أفتى الشيخ أيضا في جملة [من كتبه] (٢). ولا تأمّل في قوّة قولهما ، لما مرّ في بحث عدد النوافل اليوميّة.

ومستند ابن بابويه «الفقه الرضوي» (٣).

ثمّ اعلم! أنّه وقع الخلاف في مواضع اخر أيضا :

الأوّل : المشهور استحباب تقديم نوافل الجمعة على الفريضة بأن يصلّي ستّا عند انبساط الشمس ، وستّا عند ارتفاعها ، وستّا قبل الزوال ، وركعتين بعد الزوال أو عنده ، على ما سنذكر.

ومستندهم بحسب الظاهر ما روي في «مصباح المتهجّد» و «جمال الاسبوع» وغيرهما ، عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «تصلّي ستّ ركعات بكرة وستّ ركعات بعدها اثنتي عشرة ركعة وستّ ركعات بعد ذلك ثماني عشرة ركعة وركعتين عند الزوال» (٤).

وفي «المصباح» وغيره ـ أيضا بعد ما ذكر ـ : وينبغي أن يدعو بين كلّ ركعتين بالدعاء المروي عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، إنّه كان يدعو به بين الركعات ، الدعاء بين الركعتين الاوليين ، «اللهمّ إنّي أسألك». إلى آخر الدعوات المذكورات

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٦ الحديث ٦٦٩ ، الاستبصار : ١ / ٤١١ الحديث ١٥٧١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٣ الحديث ٩٤٧٦ مع اختلاف يسير.

(٢) نقل عن الشيخ في مدارك الأحكام : ٤ / ٨٣ ، لاحظ! الاستبصار : ١ / ٤١١ الحديث ١٥٧١ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٦ الحديث ٦٦٩.

(٣) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٢٩ و ١٣٠.

(٤) مصباح المتهجّد : ٣٤٧ ـ ٣٥٧ ، جمال الاسبوع : ٢٣٠ ـ ٢٤٣.


فيها (١). ويظهر منه كمال شهرة ما ذكر ، وثبوته عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أيضا.

وفي جملة تلك الدعوات ربّما يذكر زيادة دعاء ، ويذكر أنّ هذه الزيادة من رواية اخرى (٢) ، فلاحظ ، إذ ربّما يظهر مؤيّد آخر.

وفي «جمال الاسبوع» بعد ذكر الدعوات ـ كلّ دعاء عقيب ركعتين ـ روى عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «كان أبي علي بن الحسين عليهما‌السلام يصلّي يوم الجمعة عشرين ركعة يدعو بين كلّ ركعتين بدعاء من هذه الأدعية ويواظب عليه ، فكان يصلّي ركعتين فإذا سلّم يقول : اللهمّ». إلى آخر الدعوات عقيب ركعتين ركعتين وهي أخصر (٣).

وعن السيّد وابن أبي عقيل استحباب جعل الستّ منها بين الظهرين (٤).

ومستندهما صحيحة يعقوب (٥) ، وما وافقها من الأخبار ، وهي كثير ذكر بعضها (٦).

والشيخ أيضا بعد ما ذكر في «المصباح» ما ذكرنا وتمام الأدعية قال : وقد روى حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي بصير ، عن الباقر عليه‌السلام في ترتيب نوافل الجمعة : «أن تصلّي ستّ ركعات بعد طلوع الشمس ، وستّا قبل الزوال ، وركعتين بعد الزوال ، وستّ ركعات بعد الجمعة» (٧) ، ثمّ شرع في ذكر الأدعية بين الركعات.

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٣٤٧ ـ ٣٥٧ ، جمال الاسبوع : ٢٣٠ ـ ٢٤٣.

(٢) مصباح المتهجّد : ٣٤٨.

(٣) جمال الاسبوع : ٢٣٩.

(٤) نقل عنهما العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٤ الحديث ٩٤٨١.

(٦) راجع! الصفحة : ٥٢١ من هذا الكتاب.

(٧) مصباح المتهجّد : ٣٥٧.


فظهر منه أنّه أجاز هذا أيضا ، ولا تأمّل في صحّة الأمرين ، فإنّ الأوّل وإن كان مشهورا ، إلّا أنّ أكثر الأخبار الصحيحة والمعتبرة تدلّ على الثاني.

ويمكن أن يقال : بأنّ الأوّل أفضل للشهرة ، ولما رواه علي بن يقطين في الصحيح أنّه سأل الكاظم عليه‌السلام عن النافلة التي تصلّى يوم الجمعة ، قبل الجمعة أفضل أو بعدها؟ قال : «قبل الصلاة» (١) ، ولما مرّ من صحيحة سعد بن سعد (٢).

وما سيجي‌ء من أنّ وقت صلاة الجمعة ابتداء الزوال ، بخلاف سائر الأيّام ، فبعد ذهاب قدر لأجل النافلة ، لما سيجي‌ء من استحباب الجمع بين الفرضين يوم الجمعة بأذان وإقامتين.

ولا يعارضها رواية عقبة بن مصعب ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله أيّما أفضل اقدّم الركعات يوم الجمعة أو اصلّيها بعد الفريضة؟ قال : «لا ، بل تصلّيها بعد الفريضة» (٣).

ورواية سليمان بن خالد ، عن الصادق عليه‌السلام بالمضمون المذكور (٤) ، لضعفهما ومعارضتهما للصحاح وغير الصحاح من المعتبرة التي أفتى الأصحاب بها. وإن قيل : إنّ الصدوق أفتى بمضمونهما (٥) لما مرّ من كلامه أنّ من لم يفرق يصلّي كسائر الأيّام ، ومن فرق يزيد أربع ركعات (٦) ، إذ يظهر منه أنّ زيادة الأربع مستحبّة ، وأنّ

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٢ الحديث ٣٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الحديث ٩٤٧٤.

(٢) راجع! الصفحة : ٥٢١ و ٥٢٢ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٦ الحديث ٦٧٠ ، الاستبصار : ١ / ٤١١ الحديث ١٥٧٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٨ الحديث ٩٤٩٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ٣ / ١٤ الحديث ٤٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٨ الحديث ٩٤٩٢.

(٥) مدارك الأحكام : ٤ / ٨٤.

(٦) راجع! الصفحة : ٥٢١ من هذا الكتاب.


التفريق أولى ، وعبارته في «المقنع» أيضا لا يدلّ على ذلك (١) ، كما قال : خالي رحمه‌الله هذا (٢).

ونقل عن ابن الجنيد أنّ الستّ منها ضحوة ، وستّ ما بينها ، وستّ بين انتصاف النهار ، وركعتا الزوال ، وثمان بين الفريضتين (٣).

وعن الجعفي : أنّه ستّ عند طلوع الشمس ، وستّ قبل الزوال إذا تعالت الشمس ، وركعتان قبل الزوال ، وستّ بعد الظهر ، ويجوز تأخيرها إلى العصر (٤) ، ولا نعرف مأخذهما.

الثاني : يظهر من التأمّل في الأخبار أنّ زيادة الأربع ركعات وتقديم النافلة لا اختصاص لهما بفعل صلاة الجمعة ، يظهر ما ذكرناه غاية الظهور.

فما ورد في بعض الأخبار من لفظ «صلاة الجمعة» (٥) ، وكذا في عبارة بعض الأصحاب ، مثل عبارة «المصباح» (٦) ، ليس المراد خصوص صلاة الجمعة ، لما ورد في بعض الأخبار الدالّة على الأمرين من التصريح بلفظ «الظهر» (٧) ، ولأنّ الأئمّة عليهم‌السلام ما كانوا يصلّون صلاة الجمعة على ما ظهر من بحث صلاة الجمعة ، وللإطلاق في بعض الأخبار التي لم يذكر فيها لفظ «الجمعة» ، ولا لفظ «الظهر» (٨).

__________________

(١) المقنع : ١٤٦.

(٢) بحار الأنوار : ٨٧ / ٢٥.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٦ و ٢٤٧.

(٤) نقل عنه الشهيد في ذكرى الشيعة : ٢ / ٣٦٣.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٨ الحديث ٩٤٩٥.

(٦) مصباح المتهجّد : ٣٦٤.

(٧) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٥ الحديث ٩٤٨٣.

(٨) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٥ و ٣٢٦ الحديث ٩٤٨٤ ـ ٩٤٨٦.


وفي «المدارك» في زيادة أربع ركعات عن كلّ يوم (١).

قال العلّامة في «النهاية» : والسبب فيه أنّ الساقط ركعتان ، فيستحبّ الإتيان ببدلهما ، والنافلة الراتبة ضعف الفريضة (٢).

قال صاحب «المدارك» : ومقتضى ذلك اختصاص استحباب الزيادة بمن صلّى صلاة الجمعة ، والأخبار مطلقة (٣) ، انتهى.

قلت : لا شكّ في أنّ ما ذكره العلّامة رحمه‌الله نكتة شرعيّة لاختيار الشرع ، لا أنّه دليل ، فلعلّ النكتة بملاحظة وضع النافلة لا فعليّتها ، فتأمّل جدّا!

الثالث : قد عرفت أنّ المشهور ابتداء الستّ الاولى عند انبساط الشمس ، والثانية عند ارتفاعها ، وظهر من مستندهم أنّ ابتداء الستّ الأوليّة هو البكرة ، ولعلّها عند انبساطها (٤) ، وأنّها تصدق عليه.

وعن ابن أبي عقيل وابن الجنيد : أنّ الستّ الاولى عند ارتفاع الشمس (٥) ، وعن ابني بابويه : عند طلوعها (٦).

الرابع : الركعتان عند الزوال ، ذكر جماعة أنّه يصلّيهما بعد الزوال (٧) ، وعن ابن أبي عقيل أنّه جعلهما مقدّمة على الزوال (٨).

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٤ / ٨٢.

(٢) نهاية الإحكام : ٢ / ٥٢.

(٣) مدارك الأحكام : ٤ / ٨٣.

(٤) في (ز ٣) : عند انبساط الشمس.

(٥) نقل عنهما العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٦.

(٦) نقل عن والد الصدوق في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٧ ، المقنع : ١٤٥.

(٧) المقنعة : ١٦٠ ، الكافي في الفقه : ١٥٢ ، المهذّب : ١ / ١٠١.

(٨) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٢ / ٢٤٨.


والظاهر من بعض الأخبار ـ على ما هو ببالي ـ أنّه يصلّيهما في الوقت المشتبه (١) ، كما ذكره في «المقنعة» (٢).

وقال في «الذكرى» : المشهور صلاة ركعتين عند الزوال يستظهر بهما في تحقّق الزوال ، قاله الأصحاب (٣) ، والوارد في أكثر الأخبار أنّه يصلّيهما إذا زالت الشمس (٤).

وفي صحيحة سعد بن سعد المذكورة ، «وركعتان بعد الزوال» (٥) ، وهو الأقوى.

وفي الصحيح ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليهما‌السلام أنّه سأله عن ركعتي الزوال يوم الجمعة قبل الأذان أو بعده؟ قال : «قبل الأذان» (٦).

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف من أنّ الصحاح في توزيعها مختلفة ، قد عرفته ممّا ذكرنا من الصحاح وغيرها ، وفي بعض الأخبار : «صلّها عشرا قبل الجمعة وعشرا بعدها» (٧).

وأمّا ما ذكره من أنّ بعض الأخبار تدلّ على أنّها أقلّ من عشرين ، فذلك البعض صحيحة سليمان بن خالد أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن النافلة يوم الجمعة؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٤ الحديث ٩٤٨٢.

(٢) المقنعة : ١٦٠.

(٣) ذكرى الشيعة : ٢ / ٣٦٤.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الباب ١١ من أبواب صلاة الجمعة.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٣ الحديث ٩٤٧٦.

(٦) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٧ الحديث ٦٧٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الحديث ٩٤٧٣.

(٧) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٤٧ الحديث ٦٧٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٢ الحديث ٩٤٧٥.


قال : «ستّ ركعات قبل الزوال ، وركعتان عند زوالها ، وبعد الفريضة ثمان ركعات» (١).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ١١ الحديث ٣٧ ، الاستبصار : ١ / ٤١٠ الحديث ١٥٦٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٣٢٤ الحديث ٩٤٨٠ مع اختلاف يسير.


٣٤ ـ مفتاح

[سقوط النافلة في السفر]

تسقط في السفر نافلة النهار والوتيرة للصحاح (١). وقيل : لا تسقط الوتيرة (٢) ، للخبر المعلّل (٣) ، ويستفاد منه أنّها ليست من الرواتب.

ولا ينبغي ترك شي‌ء منها في الأماكن الأربعة ، سيّما مع إتمام الفرائض للصحيح (٤).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٤ الباب ١٦ من أبواب صلاة المسافر.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٧ لاحظ! الحدائق الناضرة : ٦ / ٤٥ و ٤٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠ الحديث ١٣٢٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٩٥ الحديث ٤٦٠٥.

(٤) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٢٨ الحديث ١٤٨٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٢٥ الحديث ١١٣٤٦.



قوله : (تسقط في السفر). إلى آخره.

لا نعلم مخالفا في سقوط نافلة الظهرين ، والأخبار به مستفيضة ، منها الصحاح :

صحيحة ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلّا المغرب» (١).

وصحيحة حذيفة بن منصور ، عن الصادقين عليهما‌السلام قالا : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء» (٢). إلى غير ذلك.

وأمّا الوتيرة ، فالأكثر على سقوطها (٣) ، ونقل عن ابن إدريس الإجماع فيه (٤) ، وقال الشيخ في «النهاية» : يجوز فعلها (٥) ، وهو الظاهر من الصدوق في «الفقيه» (٦).

وقال في أماليه أيضا : من دين الإماميّة الإقرار بأنّه لا يصلّي في السفر من نوافل النهار شي‌ء ، ولا يترك فيه من نوافل الليل شي‌ء (٧).

ومن كلامه يظهر اتّفاق الإماميّة وإجماعهم على ذلك ، ويظهر من «الفقيه» وغيره أنّ ذلك مذهب الفضل بن شاذان (٨) ، كما يظهر من «علل» الصدوق أيضا أنّ

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣ الحديث ٣١ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٠ الحديث ٧٧٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٥ الحديث ١١٢٩٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤ الحديث ٣٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٤ الحديث ١١٢٩٥.

(٣) منتهى المطلب : ٤ / ٢٢ ، مدارك الأحكام : ٣ / ٢٧ ، ذخيرة المعاد : ١٨٥.

(٤) نقل عنه في ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٩٧ ، لاحظ! السرائر : ١ / ١٩٤.

(٥) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٧.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠.

(٧) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٨) مرّ آنفا.


ذلك مختار الصدوق والفضل (١) ، وفي «الذكرى» أيضا قوّى ما في «النهاية» (٢) ، كما ستعرف.

ومستند المشهور صحيحة ابن سنان (٣) ، وما وافقها من الأخبار (٤).

ومستند الشيخ وموافقيه ـ بعد الإجماع الذي نقله الصدوق في «الأمالي» ، حتّى أنّه جعله دين الإماميّة ، وأنّه يجب الإقرار به (٥) مع تقدّمه وقرب عهده بالأئمّة عليهم‌السلام ، وتبحّره واطّلاعه ـ ما رواه في «الفقيه» ، وفي «العلل» ، عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام «إنّما صارت العشاء مقصورة وليس تترك ركعتاها ، لأنّها زيادة في الخمسين تطوّعا ، ليتمّ بها بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتين من التطوّع» (٦).

وفي «المدارك» : وقوّاه في «الذكرى» ، لأنّه خاصّ معلّل ، وما تقدّم خال منهما ، إلّا أن ينعقد الإجماع على خلافه (٧) ، ثمّ قال : وهو جيّد لو صحّ السند ، لكن في الطريق عبد الواحد بن عبدوس ، وعلي بن محمّد القتيبي ، ولم يثبت توثيقهما ، فالتمسّك بعموم الأخبار المستفيضة الدالّة على السقوط أولى (٨) ، انتهى.

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٦٧ الحديث ٩.

(٢) ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٩٧ و ٢٩٨.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٣ الحديث ٣١ ، الاستبصار : ١ / ٢٢٠ الحديث ٧٧٨ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٠٥ الحديث ١١٢٩٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٨١ الباب ٢١ من أبواب أعداد الفرائض.

(٥) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٩٠ الحديث ١٣٢٠ ، علل الشرائع : ٢٦٧ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٩٥ الحديث ٤٦٠٥ مع اختلاف يسير.

(٧) لاحظ! ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٩٧ و ٢٩٨.

(٨) مدارك الأحكام : ٣ / ٢٧.


أقول : هو رحمه‌الله ربّما يحكم بحجّية حديث من جهة أنّ الصدوق أورده في «الفقيه» ، لما ذكره في أوّله ، فما ظنّك إذا أورد فيه كثيرا في مواضع متعدّدة مفتيا به كغيره من فقهائنا ، فإنّهم أيضا تمسّكوا به كثيرا ، وانضمّ إليه نقله في «العلل» أيضا ، على وجه يظهر منه اعتماده عليه ، فإنّه رحمه‌الله يظهر منه فيه أنّه معتمد على ما ذكر في هذه العلل ، فإنّ الموضع الذي لا يرضى به ، أو يتأمّل فيه يتعرّض له البتة.

مع أنّ عبد الواحد ، وعلي بن محمّد شيخان للإجازة ، كما لا يخفى على المطّلع ، وذكرنا حالهما في الرجال (١).

وأنّ العلّامة وغيره أيضا ربّما يحكمون بصحّة حديثه ، أو كونه حجّة (٢) ، مع أنّ شيخ الإجازة ـ أيضا ـ ذكرنا حاله في الرجال (٣) ، فلاحظ.

مع أنّ الصدوق رحمه‌الله روى في «العيون» ، عن رجاء بن أبي ضحّاك الذي صاحب الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى خراسان (٤) ، والرواية معتمد عليها عنده ، كما لا يخفى.

بل لعلّه عند الكلّ أيضا كذلك ، لاشتهارها ومقبوليّتها ظاهرا ، بل الصدوق يرجّحها على غيرها من الروايات المعتبرة عنده ، كما فعل في مبحث اختيار السور في الصلوات (٥) وغيره (٦) ، فلاحظ.

ويظهر من مضمون تلك الرواية امور وأحكام صحيحة متقنة معلومة

__________________

(١) تعليقات على منهج المقال : ٢١٦ و ٢٣٨.

(٢) رجال ابن داود : ١٤١ الرقم ١٠٨٤ ، خلاصة الرجال للحلّي : ٩٤ ، جامع الرواة : ١ / ٦٠١.

(٣) تعليقات على منهج المقال : ٢٣٨.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٤ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٥٣٩ الحديث ١١٣٨٦.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٢ الحديث ٩٢٣.

(٦) لاحظ! عيون اخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٤ ـ ١٩٦.


مضبوطة ، وفي ذلك أيضا شهادة واضحة على اعتبارها ، وكونها حجّة ، وما فيها صدقا.

ومن جملتها أنّ الرضا عليه‌السلام كان يصلّي الوتيرة في سفره ذلك ، ويقصّر الفريضة ، ويترك نوافل النهار (١).

وممّا يؤيّد ، بل يدلّ عليه عبارة «الفقه الرضوي» ، فإنّها صريحة بعدم سقوط الوتيرة في السفر (٢).

وممّا يؤيّد أيضا صحيحة الحسن بن محبوب ، عن أبي يحيى الحنّاط ، أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن صلاة النافلة بالنهار في السفر؟ فقال : «يا بني ، لو صلحت النافلة بالنهار في السفر لتمت الفريضة» (٣) ، حيث قيد السائل بالنهار.

ومنه يظهر أنّه كان معتقدا أنّ الليليّة لا تترك ، وكان شكّه وريبته في النهاريّة ، والمعصوم عليه‌السلام قرّره على جوابه ، حيث قيّد في الجواب بالنهار ، إلّا أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام : «لو صلحت». إلى آخره تعليل ، وهو يقتضي العموم بالنسبة إلى كلّ قصر ، والعشاء مقصورة ، فلو صلحت نافلتها لتمّت هي.

لكن هذا فرع معلوميّة كون نافلة العشاء خصوص الوتيرة ، ولم يظهر ذلك إن لم نقل بظهور خلاف ذلك ، من جهة أنّها زيدت لصيرورة النافلة ضعف الفريضة ، إذ يظهر منه استواء نسبتها إلى كلّ فريضة إن كانت نافلة لها ، وإلّا فاستواء عدم نسبتها إلى الكلّ إلّا بذلك القدر القليل ، وهو جعل النافلة ضعفا.

وأيضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتركها ، لأنّه كان يعلم أنّه يبقى إلى الوتر (٤) ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٩٦ الحديث ٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٨٣ الحديث ٤٥٧٢.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٥٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٥ الحديث ١٢٩٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦ الحديث ٤٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٢١ الحديث ٧٨٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٨٢ الحديث ٤٥٦٨ مع اختلاف يسير.

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٩٦ الحديث ٤٦١٠.


ونحن نفعلها لئلّا نخلو عن الوتر.

وبالجملة ، يظهر أيضا أنّها عوض الوتر ، يقدّمها عليها من يخاف فوتها ، والوتر لا يترك في السفر قطعا ، فكذا عوضها بل ما دلّ على كونها عوضها يفعل مقدّمة عليها ، في غاية الظهور في أنّ كلّ من يأتي بالوتر وهو مطلوب منه يأتي بهذه مقدّمة ومن أوّل الليلة مطلقا ، وعلى أيّ حال ، فهذا أيضا مؤيّد آخر ، بل دليل ، كما أنّ الإجماع الذي نقله في «الأمالي» (١) مؤيّد آخر ، بل دليل آخر.

وأيضا يظهر ممّا ذكر هنا وما ذكر في «العلل» أنّ هذه ليست داخلة في الرواتب ومن جملتها (٢).

والذي يظهر من الأخبار والفتاوى أنّ الساقط هو الراتبة (٣) ، فعلى هذا لا تعارض بين الصحاح ، وبين هذه الأخبار من جهة عدم دخولها في الرواتب حقيقة ، ومن جهة عدم معلوميّة كونها نافلة العشاء أصلا ، بل وظهور خلاف ذلك.

وما في «العلل» من إضافتها إلى العشاء لا تدلّ ، لأنّ أدنى الملابسة في الإضافة تكفي ، وهي أنّها تفعل بعد العشاء ، وإلّا فقد صرّح عليه‌السلام بأنّ الركعتين ـ يعني الوتيرة ـ ليستا من الخمسين ، وإنّما هي زيادة فيها لكذا وكذا.

ولا شكّ في أنّ القصر ليس إلّا في الخمسين ، لا ما ليس منها ، كما هو صريح هذا الخبر والظاهر من باقي الأخبار والفتاوى.

وممّا يدلّ على ما ذكرناه صحيحة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «الصلاة

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٢) علل الشرائع : ٢٦٧ الحديث ٩.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٦٧ الباب ١٦ من أبواب أعداد الفرائض.


في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلّا المغرب ، فإنّ بعدها أربع ركعات لا تدعهن في حضر ولا سفر ، وليس عليك قضاء صلاة النهار وصلّ صلاة الليل واقضها» (١) ، إذ غير خفي أنّ المراد من صلاة الليل هنا ما يقابل صلاة النهار ، وهو عليه‌السلام قال : «ليس عليك قضاء صلاة النهار» ، ولم يقل : ليس عليك قضاء الوتيرة أيضا ، بل قال : «صلّ صلاة الليل واقضها».

فظهر أنّ العشاء أيضا ركعتان ليس قبلها ولا بعدها شي‌ء ، من جهة أنّها لا نافلة لها بخصوصها ، ومع ذلك مطلوب الإتيان بها بما هو ليس بصلاة النهار ، بل صلاة الليل ، ومعلوم أنّ الوتيرة ليست نهاريّة ، بل هي ليلية بلا شبهة.

وممّا يدلّ أيضا صحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الصلاة تطوعا في السفر؟ قال : «لا تصلّ قبل الركعتين ولا بعدهما شيئا نهارا» (٢) ، إذ لا يخفى أنّ قوله عليه‌السلام : «نهارا» قيد احترازي ، حيث أتى به لتعريف الموضع الذي لا يصلّى تطوّعا في السفر ، لأنّ الراوي ما كان يعرف ، ولذا قيّد بالنهار في مقام تعريف حكم تطوّع السفر للسائل الجاهل.

ورواية أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن أشيم ، عن صفوان بن يحيى أنّه سأل الرضا عليه‌السلام عن التطوّع بالنهار وهو في السفر؟ فقال : «لا ، ولكن تقضي صلاة الليل بالنهار وأنت في سفر» (٣) الحديث ، والتقريب كما مرّ.

وممّا يدلّ على أنّ الوتيرة غير داخلة في الخمسين صحيحة سليمان بن خالد ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «صلاة النافلة ثماني ركعات حين تزول». إلى أن قال عليه‌السلام :

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٣٩ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤ الحديث ٣٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٨٣ الحديث ٤٥٧١.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٤ الحديث ٣٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٨١ الحديث ٤٥٦٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٦ الحديث ٤٥ ، الاستبصار : ١ / ٢٢١ الحديث ٧٨١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٩٢ الحديث ٤٥٩٧.


«وركعتان بعد العشاء الآخرة ، تقرأ فيها مائة آية قائما أو قاعدا ، والقيام أفضل ولا تعدّهما من الخمسين» (١) الحديث ، ويدلّ على أفضليّة القيام فيها أيضا ، كما اخترناه.

ومرّت صحيحة اخرى ، عن الصادق عليه‌السلام : سأل هل قبل العشاء الآخرة وبعدها شي‌ء؟ قال : «لا ، غير أنّي اصلّي بعدها ركعتين ولست أحسبهما من صلاة الليل» (٢).

وبالجملة ، الأخبار الدالّة على عدم كون الوتيرة معدودة من الرواتب اليوميّة والليليّة وغير داخلة فيها كثيرة وصحاح ، فأيّ مانع من أن تكون الأخبار الدالّة على كون الصلاة في السفر ركعتين ، ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء ، من قبيل هذه الصحاح الكثيرة الوافرة؟

وما دلّ على أنّ الوتيرة عوض الوتر يفعل في مقامها أيضا كثير ومعتبر وصحيح على ما أظنّ ، فلاحظ. فما يظهر منه عدم سقوط الوتيرة ليس منحصرا في الأحاديث المعتبرة ، بل فيه صحيح ، بل صحاح (٣).

وممّا ذكر ظهر التأمّل في الإجماع الذي نقل عن ابن إدريس (٤) أو غيره أيضا ممّن وافقه وتبعه ، سيّما مع ما عرفت من جواز التسامح في أدلّة السنن.

تمّ بعون الله تعالى الجزء الثاني من كتاب

«مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع»

حسب تجزئتنا ويتلوه الجزء الثالث ان شاء الله

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٥ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٥١ الحديث ٤٤٨٨.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٤٣ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٠ الحديث ١٩ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٩٣ الحديث ٤٥٩٨.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٩٤ الباب ٢٩ من أبواب أعداد الفرائض.

(٤) راجع! الصفحة : ٥٣١ من هذا الكتاب.



المحتويات

٨ ـ مفتاح

[وجوب صلاة الجمعة عند حضورها]......................................... ٥

٩ ـ مفتاح

[بيان مقدار الفرسخ]...................................................... ٥٩

١٠ ـ مفتاح

[أحكام الخطبتين]......................................................... ٦٥

١١ ـ مفتاح

[مستحبّات يوم الجمعة]................................................... ٨٧

١٢ ـ مفتاح

[حرمة البيع والسفر بعد نداء صلاة الجمعة]................................ ١٠٩

١٣ ـ مفتاح

[كراهة ترك صلاة الجمعة]............................................... ١٢٩

١٤ ـ مفتاح

[أحكام المسافر]........................................................ ١٢٩

١٥ ـ مفتاح

[المسافة المعتبرة في التقصير]............................................... ٢١٥


١٦ ـ مفتاح

[من رجع عن نيّة الإقامة]................................................ ٢٤١

١٧ ـ مفتاح

[ما يتحقّق به الوطن].................................................... ٢٧٧

١٨ ـ مفتاح

[وجوب الإتمام على كثير السفر]......................................... ٢٩٩

١٩ ـ مفتاح

[اعتبار التواري عن الجدران وعدمه]...................................... ٣١٧

٢٠ ـ مفتاح

[حكم صلاة المسافر بعد دخول الوقت و ..].............................. ٣٢٣

القول في بقيّة الفرائض

٢١ ـ مفتاح

[وجوب صلاة العيدين].................................................. ٣٤٢

٢٢ ـ مفتاح

[مستحبّات صلاة العيدين]............................................... ٣٩٥

٢٣ ـ مفتاح

[ما لو اجتمع عيد وجمعة] ..............................................  ٤١٥

٢٤ ـ مفتاح

[وجوب صلاة الآيات].................................................. ٤٢٩

٢٥ ـ مفتاح


[كيفيّة صلاة الآيات].................................................... ٤٣٧

٢٦ ـ مفتاح

[مستحبّات صلاة الآيات]................................................ ٤٦٧

٢٧ ـ مفتاح

[وجوب الصلاة بعد الطواف الواجب].................................... ٤٨٩

٢٨ ـ مفتاح

[وجوب الصلاة التي التزم المكلف على نفسه].............................. ٤٨٩

القول في النوافل

٢٩ ـ مفتاح

[النوافل اليوميّة]........................................................ ٤٩٣

٣٠ ـ مفتاح

[سبب الأمر بالنوافل]................................................... ٥٠٧

٣١ ـ مفتاح

[استحباب صلاة الوتر].................................................. ٥١١

٣٢ ـ مفتاح

[ما يستحبّ ويكره بعد النوافل].......................................... ٥١٥

٣٣ ـ مفتاح

[نوافل يوم الجمعة]...................................................... ٥١٩

٣٤ ـ مفتاح

[سقوط النافلة في السفر]................................................ ٥٢٩

المحتويات................................................................. ٥٣٩

مصابيح الظلام - ٢

المؤلف:
الصفحات: 541