
١١٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله للخوارج ، وقد خرج إلى معسكرهم وهم
مقيمون على إنكار الحكومة فقال عليه السّلام : أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : منا
من شهد ومنا من لم يشهد ، قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، ومن
لم يشهدها فرقة ، حتّى أكلّم كلاّ بكلامه ، ونادى النّاس فقال : أمسكوا عن الكلام
، وأنصتوا لقولى ، وأقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها ثم
كلمهم عليه السّلام بكلام طويل منه :
ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف ـ حيلة ،
وغيلة ، ومكرا ، وخديعة ـ إخواننا ، وأهل دعوتنا : استقالونا ، واستراحوا إلى كتاب
اللّه سبحانه ، فالرّأى القبول منهم ، والتّنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره
إيمان وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة ، وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم ، والزموا
طريقتكم ، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضلّ ،
وإن ترك ذلّ. وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها واللّه لئن أبيتها ما وجبت علىّ
فريضتها ، ولا حمّلنى اللّه ذنبها ، وو اللّه إن جئتها
__________________
إنّى للمحقّ الّذى
يتّبع ، وإنّ الكتاب لمعى : ما فارقته مذ صحبته : فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات
فلا نزداد على كلّ مصيبة وشدّة إلاّ إيمانا ، ومضيّا على الحقّ ، وتسليما للأمر ،
وصبرا على مضض الجراح ، ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا فى الإسلام على ما دخل
فيه من الزّيغ والاعوجاج والشّبهة والتّأويل ، فإذا طمعنا فى خصلة يلمّ اللّه بها شعثنا ، ونتدانى بها
إلى البقيّة فيما بيننا ، رغبنا فيها ، وأمسكنا عمّا سواها
١١٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله لأصحابه فى ساعة الحرب
وأىّ امرىء منكم أحسّ من نفسه رباطة جأش
عند اللّقاء
ورأى من أحد من إخوانه فشلا ، فليذبّ عن أخيه
بفضل نجدته الّتى فضّل بها عليه ، كما يذبّ عن نفسه. فلو شاء اللّه لجعله مثله.
إنّ الموت طالب حثيث :
__________________
لا يفوته المقيم ولا
يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل
والّذى نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ من ميتة على الفراش [فى
غير طاعة اللّه] منها : وكأنّى أنظر إليكم تكشّون كشيش الضّباب لا تأخذون حقّا ، ولا تمنعون ضيما! قد
خلّيتم والطّريق .
فالنّجاة للمقتحم والهلكة للمتلوّم
١٢٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى حث أصحابه على القتال
فقدّموا الدّراع ،
وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس ، فإنّه
__________________
أنبى للسّيوف عن
الهام والتووا فى
أطراف الرّماح
فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا
الأصوات فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ، ولا تخلّوها ، ولا تجعلوها إلاّ
بأيدى شجعانكم والمانعين الذّمار منكم
فإنّ الصّابرين على نزول الحقائق ، هم الّذين يحفّون
براياتهم ، ويكتنفونها : حفافيها ، ووراءها ، وأمامها ، لا يتأخّرون عنها فيسلموها
، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها.
أجزأ امرؤ قرنه وآسى
أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه. وايم اللّه لئن
فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من
__________________
سيف الآخرة ، وأنتم
لهاميم العرب
والسّنام الأعظم. إنّ فى الفرار موجدة اللّه
والذّلّ اللاّزم ، والعار الباقى ، وإنّ الفارّ لغير مزيد فى عمره ، ولا محجوز
بينه وبين يومه. الرّائح إلى اللّه كالظّمآن يرد الماء ، الجنّة تحت أطراف العوالى
، اليوم
تبلى الأخيار ، واللّه لأنا أشوق
إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللّهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض جماعتهم ، وشتّت
كلمتهم ، وأبسلهم بخطاياهم ، إنّهم لن يزولوا
عن مواقفهم دون طعن دراك
__________________
يخرج منه النّسيم ،
وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، ويندر السّواعد والأقدام ، وحتّى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر
، ويرجموا
بالكتائب تقفوها الحلائب
وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتّى تدعق الخيول فى نواحر أرضهم وبأعنان
مساربهم ومسارحهم قال الشريف : أقول :
الدعق : الدق ، أى : تدق الخيول بحوافرها أرضهم ، ونواحر أرضهم : متقابلاتها ، يقال
: منازل بنى فلان تتناحر ، أى : تتقابل
١٢١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى التحكيم
إنّا لم نحكّم الرّجال ، وإنّما حكّمنا
القرآن ، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين لا
ينطق بلسان ، ولا بدّ له من ترجمان ، وإنّما ينطق عنه الرّجال. ولمّا دعانا القوم
إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق
__________________
المتولّى على كتاب
اللّه تعالى ، وقد قال اللّه سبحانه : «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَاَلرَّسُولِ»
فردّه إلى اللّه : أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم
بالصّدق فى كتاب اللّه فنحن أحقّ النّاس به
، وإن حكم بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فنحن أولاهم به
وأمّا قولكم : لم جعلت بينكم وبينهم
أجلا فى التّحكيم ، فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل ، ويتثبّت العالم ، ولعلّ
اللّه أن يصلح فى هذه الهدنة أمر هذه الأمّة ، ولا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبيّن الحقّ ، وتنقاد لأوّل
الغىّ إنّ أفضل النّاس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه وإن نقصه وكرثه من الباطل وإن جرّ إليه فائدة وزاده ، أين
يتاه بكم؟ من أين
__________________
أتيتم؟ استعدّوا
للمسير فى قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، وموزعين بالجور لا يعدلون به! جفاة عن الكتاب ، نكّب
عن الطّريق
، ما أنتم بوثيقة يعلق بها
ولا زوافر عزّ يعتصم إليها ، لبئس حشّاش نار
الحرب أنتم أفّ لكم ، لقد لقيت
منكم برحا !! يوما أناديكم ، ويوما
أناجيكم! فلا أحرار صدق عند النّداء ، ولا إخوان ثقة عند النّجاء
__________________
١٢٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما عوتب على التسوية فى العطاء
أتأمرونّى أن أطلب النّصر بالجور فيمن
ولّيت عليه؟ واللّه ما أطور به ما سمر سمير
وما أمّ نجم فى السّماء نجما
لو كان المال لى لسوّيت بينهم ، فكيف وإنّما المال مال اللّه!؟ ألا وإنّ إعطاء
المال فى غير حقّه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه فى الدّنيا ، ويضعه فى الآخرة ،
ويكرمه فى النّاس ، ويهينه عند اللّه ، ولم يضع امرؤ ماله فى غير حقّه ولا عند غير
أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم ، وكان لغيره ودّهم ، فإن زلّت به النّعل يوما فاحتاج
إلى معونتهم فشرّ خدين
وألأم خليل.
__________________
١٢٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام
فإن أبيتم أن تزعموا إلاّ أنّى أخطأت وضللت
فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله ، بضلالى ، وتأخذونهم بخطئى
وتكفّرونهم بذنوبى؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسّقم وتخلطون من
أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجم الزّانى
ثمّ صلّى عليه ، ثمّ ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السّارق وجلد
الزّانى غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفىء ، ونكحا المسلمات فأخذهم رسول اللّه ،
صلّى اللّه عليه وآله ، بذنوبهم ، وأقام حقّ اللّه فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من
الإسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله
ثمّ أنتم شرار النّاس ، ومن رمى به الشّيطان مراميه ، وضرب به تيهه وسيهلك فىّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به
الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير النّاس فىّ
حالا النّمط الأوسط فالزموه ، والزموا السّواد الأعظم ، فإنّ يد اللّه على
الجماعة. وإيّاكم
__________________
والفرقة فإنّ
الشّاذّ من النّاس للشّيطان ، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب! ألا من دعا إلى
هذا الشّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتى هذه .
وإنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا
القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه :
فان جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم وإن جرّهم إلينا اتّبعونا ، فلم آت ـ لا أبا لكم
ـ بجرا
ولا ختلتكم عن أمركم
ولا لبّسته عليكم ، إنّما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا
يتعدّيا القرآن فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا
عليه ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكومة بالعدل ، والصّمد للحقّ ، سوء رأيهما وجور
حكمهما.
__________________
١٢٤ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة
يا أحنف ، كأنّى به وقد سار بالجيش
الّذى لا يكون له غبار ولا لجب
ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل
يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام.
قال الشريف : يومىء بذلك إلى صاحب
الزنج. ثم قال عليه السّلام : ويل لسكككم العامرة ،
والدّور المزخرفة الّتى لها أجنحة كأجنحة النّسور وخراطيم
كخراطيم الفيلة. من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم ولا
يفتقد
__________________
غائبهم؟ أنا كابّ
الدّنيا لوجهها ، وقادرها بقدرها ، وناظرها بعينها.
منها
: ويومئ بذلك إلى وصف التتار :
كأنّى أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ
المطرقة
، يلبسون السّرق والدّيباج
ويعتقبون الخيل العتاق
ويكون هناك استحرار قتل حتّى يمشى المجروح على
المقتول ، ويكون المفلت أقلّ من المأسور.
__________________
فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير
المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السّلام ، وقال للرجل وكان كلبيا :
يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنّما هو
تعلّم من ذى علم! وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّد اللّه بقوله : «إِنَّ اَللّٰهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ»
الآية فيعلم سبحانه ما فى الأرحام : من ذكر وأنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخىّ أو بخيل
، وشقىّ أو سعيد ، ومن يكون فى النّار حطبا أو فى الجنان للنّبيّين مرافقا ، فهذا
علم الغيب الّذى لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه
فعلّمنيه ، ودعا لى بأن يعيه صدرى ، وتضطمّ عليه جوانحى .
١٢٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
فى ذكر المكاييل
عباد اللّه ، إنّكم وما تأملون من هذه
الدّنيا أثوياء مؤجّلون ،
ومدينون
__________________
مقتضون ، أجل منقوص
، وعمل محفوظ ، فربّ دائب مضيّع
وربّ كادح خاسر. وقد أصبحتم فى زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا ، والشّرّ فيه
إلاّ إقبالا ، والشّيطان فى هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته . اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس : هل
تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا ، أو بخيلا اتّخذ
البخل بحقّ اللّه وفرا ، أو متمرّدا كأنّ
بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين
المتورّعون فى مكاسبهم؟ والمتنزّهون فى مذاهبهم؟ أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه
الدّنيا الدّنيّة والعاجلة المنغّصة؟ وهل خلقتم إلاّ فى حثالة لا
تلتقى بذمّهم الشّفتان
__________________
استصغارا لقدرهم ، وذهابا
عن ذكرهم ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون : ظهر الفساد فلا منكر متغيّر ، ولا زاجر
مزدجر! أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه فى دار قدسه؟ وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟!
هيهات! لا يخدع اللّه عن جنّته ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته. لعن اللّه الآمرين
بالمعروف التّاركين له ، والنّاهين عن المنكر العاملين به.
١٢٦ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لأبى ذر رحمه اللّه لما خرج إلى الربذة
يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت للّه فارج من
غضبت له. إنّ القوم خافوك على
__________________
دنياهم ، وخفتهم على
دينك ، فاترك فى أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما
منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا؟؟! ولو أنّ
السّموات والأرض كانتا على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا ، لا
يؤنسنّك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت
منها لأمنوك
١٢٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
أيّتها النّفوس المختلفة ، والقلوب
المتشتّتة ، الشّاهدة أبدانهم ، والغائبة عنهم عقولهم! أظأركم على الحقّ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة
الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار العدل
، أو أقيم اعوجاج الحقّ.
__________________
اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذى
كان منّا منافسة فى سلطان ، ولا التماس شىء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من
دينك ، ونظهر الإصلاح فى بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من
حدودك.
اللّهمّ إنّى أوّل من أناب وسمع وأجاب :
لم يسبقنى إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، بالصّلاة.
وقد علمتم أنّه لا ينبغى أن يكون الوالى
على الفروج ، والدّماء ، والمغانم والأحكام ، وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون فى
أموالهم نهمته
ولا الجاهل فيضلّهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدّول فيتّخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشى فى
الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف بها دون المقاطع
، ولا المعطّل للسّنّة فيهلك الأمّة
__________________
١٢٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
نحمده على ما أخذ وأعطى ، وعلى ما أبلى
وابتلى
الباطن لكلّ خفيّة
والحاضر لكلّ سريرة ، العالم بما تكنّ الصّدور ، وما تخون العيون ، ونشهد أن لا
إله غيره ، وأنّ محمّدا نجيبه وبعيثه
شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان والقلب اللّسان.
منها : فإنّه واللّه الجدّ لا اللّعب ،
والحقّ لا الكذب ، وما هو إلاّ الموت قد أسمع داعيه وأعجل
حاديه ، فلا يغرّنّك سواد النّاس من نفسك
__________________
فقد رأيت من كان
قبلك ممّن جمع المال ، وحذر الإقلال ، وأمن العواقب ، طول أمل واستبعاد أجل ، كيف نزل به الموت فأزعجه
عن وطنه ، وأخذه من مأمنه ، محمولا على أعواد المنايا ، يتعاطى به الرّجال الرّجال
حملا على المناكب ، وإمساكا بالأنامل
أما رأيتم الّذين يومّلون بعيدا ، ويبنون مشيدا ، ويجمعون كثيرا ، كيف أصبحت
بيوتهم قبورا ، وما جمعوا بورا ،
وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين ، لا فى حسنة يزيدون ، ولا من سيّئة
يستعتبون؟! فمن أشعر التّقوى قلبه برّز مهله وفاز عمله ،
__________________
فاهتبلوا هبلها ، واعملوا
للجنّة عملها
فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام ، بل خلقت لكم مجازا لتزوّدوا منها الأعمال إلى
دار القرار ، فكونوا منها على أوفاز
، وقرّبوا الظّهور للزّيال.
١٢٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وانقادت له الدّنيا والآخرة بأزمّتها ،
وقذفت إليه السّموات والأرضون مقاليدها
، وسجدت له بالغدوّ والآصال الأشجار النّاضرة ، وقدحت له من قضبانها النّيران
المضيئة وآتت أكلها بكلماته
الثّمار اليانعة منها : وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه ، وبيت لا تهدم
أركانه ، وعزّ لا تهزم أعوانه ومنها : أرسله على حين فترة من الرّسل ، وتنازع من
الألسن ، فقفّى به الرّسل ، وختم به الوحى ، فجاهد فى اللّه المدبرين عنه ، والعادلين
به.
__________________
ومنها
: وإنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر ممّا وراءها شيئا ، والبصير
ينفذها بصره ويعلم أنّ الدّار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص ،
والبصير منها متزوّد ، والأعمى لها متزوّد.
ومنها
: واعلموا أن ليس من شىء إلاّ ويكاد
صاحبه أن يشبع منه ويملّه ، إلاّ الحياة فإنّه لا يجد له فى الموت راحة وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتى هى
حياة للقلب الميّت ، وبصر للعين العمياء ، وسمع للأذن الصّمّاء ، ورىّ للظّمآن ، وفيها
الغنى كلّه والسّلامة : كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق
بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف فى اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن
اللّه.
قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم ونبت المرعى على دمنكم ، وتصافيتم
__________________
على حبّ الآمال ، وتعاديتم
فى كسب الأموال ، لقد استهام بكم الخبيث
وتاه بكم الغرور ، واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم
١٣٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد شاوره عمر [بن الخطاب رضى اللّه عنه]
فى الخروج إلى غزو الروم بنفسه
وقد توكّل اللّه لأهل هذا الدّين باعزاز
الحوزة
وستر العورة ، والّذى نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون ، حىّ
لا يموت
__________________
إنّك متى تسر إلى
هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث
إليهم رجلا مجرّبا ، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ ، وإن تكن
الأخرى كنت ردءا للنّاس
ومثابة للمسلمين.
١٣١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
يا ابن اللّعين الأبتر ، والشّجرة الّتى
لا أصل لها ، ولا فرع ، أنت تكفينى! واللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره ، ولا قام
من أنت منهضه ، اخرج عنّا أبعد اللّه
__________________
نواك ثمّ ابلغ جهدك فلا أبقى اللّه عليك إن
أبقيت
١٣٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لم تكن بيعتكم إيّاى فلتة ، وليس أمرى وأمركم
واحدا : إنّى أريدكم للّه ، وأنتم تريدونى لأنفسكم! أيّها النّاس ، أعينونى على
أنفسكم ، وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظّالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارها.
١٣٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى معنى طلحة والزبير
واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا
جعلوا بينى وبينهم نصفا وإنّهم
__________________
ليطلبون حقّا هم
تركوه ، ودماهم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولّوه
دونى فما الطّلبة إلاّ قبلهم
وإنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست ولا لبّس علىّ ،
وإنّها للفئة الباغية فيها الحما والحمة
والشّبهة المغدفة
وإنّ الأمر لواضح وقد زاح الباطل عن نصابه وانقطع لسانه عن شغبه
وايم اللّه لأفرطنّ لهم
__________________
حوضا أنا ماتحه : لا يصدرون عنه برىّ ، ولا
يعبّون بعده فى حسى
منها
: فأقبلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل على
أولادها
تقولون : البيعة البيعة!! قبضت يدى فبسطتموها ، ونازعتكم يدى فجدبتموها ، اللّهمّ
إنّهما قطعانى وظلمانى ، ونكثا بيعتى ، وألّبا النّاس علىّ فاحلل
ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا ، ولقد
استثبتهما قبل القتال
،
__________________
واستأنيت بهما أمام
الوقاع ، فغمط النّعمة ، وردّ العافية
١٣٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى ذكر الملاحم
يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى ، ويعطف
الرّأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرّأى.
منها
: حتّى تقوم الحرب بكم على ساق باديا
نواجذها
، مملوءة أخلافها ، حلوا رضاعها ، علقما عاقبتها. ألا وفى غد ـ وسيأتى غد بما
__________________
لا تعرفون ـ يأخذ
الوالى من غيرها عمّالها على مساوئ أعمالها
، وتخرج له الأرض من أفاليذ
كبدها ، وتلقى إليه سلما مقاليدها ، فيريكم كيف عدل السّيرة ، ويحيى ميّت الكتاب والسّنّة.
منها
: كأنّى به قد نعق بالشّام ، وفحص براياته
فى ضواحى كوفان ، فعطف إليها عطف الضّروس وفرش الأرض بالرّءوس قد فغرت فاغرته وثقلت فى الأرض وطأته ،
بعيد الجولة ، عظيم الصّولة . واللّه ليشرّدنّكم
__________________
فى أطراف الأرض حتّى لا يبقى منكم إلاّ قليل كالكحل فى
العين ، فلا تزالون كذلك حتّى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها فالزموا السّنن القائمة ، والآثار
البيّنة ، والعهد القريب الّذى عليه باقى النّبوّة ، واعلموا أنّ الشّيطان إنّما
يسنّى لكم طرقه لتتّبعوا عقبه
١٣٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى وقت الشورى
لم يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة
رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولى ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا
اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة
، وشيعة لأهل الجهالة
١٣٦ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى النهى عن غيبة الناس
وإنّما ينبغى لأهل العصمة ، والمصنوع
إليهم فى السّلامة أن يرحموا
__________________
أهل الذّنوب والمعصية
، ويكون الشّكر هو الغالب عليهم ، والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالغائب الّذى غاب أخاه
، وعيّره ببلواه؟! أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب
الّذى غابه به!!
وكيف يذمّه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما
سواه ممّا هو أعظم منه. وايم اللّه لئن لم يكن عصاه فى الكبير وعصاه فى الصّغير
لجراءته على عيب النّاس أكبر.
يا عبد اللّه ، لا تعجل فى عيب أحد
بذنبه فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه ، فليكفف
من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشّكر شاغلا له على معافاته
ممّا ابتلى به غيره
١٣٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
أيّها النّاس ، من عرف من أخيه وثيقة
دين ، وسداد طريق ، فلا يسمعنّ
__________________
فيه أقاويل الرّجال
، أما إنّه قد يرمى الرّامى وتخطىء السّهام ، ويحيل الكلام وباطل ذلك يبور ، واللّه سميع وشهيد.
أما إنّه ليس بين الباطل والحقّ إلاّ أربع أصابع قال الشريف : فسئل عليه السّلام
عن معنى قوله هذا ، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ، ثم قال : الباطل أن تقول
سمعت ، والحقّ أن تقول رأيت.
١٣٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وليس لواضع المعروف فى غير حقّه ، وعند
غير أهله ، من الحظّ إلاّ محمدة اللّئام ، وثناء الأشرار ، ومقالة الجهّال ـ ما
دام منعما عليهم ـ «ما أجود يده» وهو عن ذات اللّه بخيل!! فمن آتاه اللّه مالا
فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضّيافة ، وليفكّ به الأسير والعانى ، وليعط منه
الفقير والغارم ، وليصبر نفسه على الحقوق والنّوائب ابتغاء الثّواب ، فإنّ فوزا
بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا ، ودرك فضائل الآخرة ، إن شاء اللّه.
__________________
١٤١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى الاستسقاء
ألا وإنّ الأرض الّتى تحملكم ، والسّماء
الّتى تظلّكم ،
مطيعتان لربّكم ، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم ، ولا زلفة إليكم ، ولا لخير ترجوانه منكم ، ولكن أمرتا
بمنافعكم فأطاعتا ، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا.
إنّ اللّه يبتلى عباده ـ عند الأعمال
السّيّئة ـ بنقص الثّمرات ، وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ، ليتوب تائب ، ويقلع
مقلع ،
ويتذكّر متذكّر ، ويزدجر مزدجر! وقد جعل اللّه الاستغفار سببا لدرور الرّزق ورحمة
الخلق ، فقال : «اِسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَيُمْدِدْكُمْ»
__________________
«بِأَمْوٰالٍ وَبَنِينَ»
فرحم اللّه امرأ استقبل توبته ، واستقال خطيئته ، وبادر منيّته.
اللّهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار
والأكنان ، وبعد عجيج البهائم والولدان ، راغبين فى رحمتك ، وراجين فضل نعمتك. وخائفين
من عذابك ونقمتك.
اللّهمّ فاسقنا غيثك ، ولا تجعلنا من
القانطين ، ولا تهلكنا بالسّنين
، ولا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا ، يا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ إنّا خرجنا إليك ، نشكو إليك ما
لا يخفى عليك ، حين ألجأتنا المضايق الوعرة ، وأجاءتنا المقاحط المجدبة وأعيتنا المطالب المتعسّرة ، وتلاحمت
علينا الفتن المستصعبة.
اللّهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين
، ولا تقلبنا واجمين
ولا تخاطبنا بذنوبنا ولا تقايسنا بأعمالنا
اللّهمّ انشر علينا غيثك وبركتك ، ورزقك ورحمتك ، واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة :
تنبت بها ما قد فات ، وتحيى بها ما قد مات ، نافعة الحيا
__________________
كثيرة المجتنى ، تروى
بها القيعان
وتسيل البطنان
، وتستورق الأشجار ، وترخص الأسعار ، إنّك على ما تشاء قدير.
١٤٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
بعث [اللّه] رسله بما خصّهم به من وحيه
، وجعلهم حجّة له على خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم ، فدعاهم
بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ. ألا إنّ اللّه قد كشف الخلق كشفة لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم
ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا ، فيكون الثّواب جزاء ، والعقاب
بواء أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون فى العلم
دوننا؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم وأعطانا
وحرمهم ،
__________________
وأدخلنا وأخرجهم ، بنا
يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا فى هذا البطن من هاشم :
لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم
منها : آثروا عاجلا ، وأخّروا آجلا ، وتركوا
صافيا ، وشربوا آجنا
كأنّى أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه وبسىء به ووافقه حتّى شابت عليه مفارقه ، وصبغت به
خلائقه!
ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالى ما غرّق ، أو كوقع النّار فى الهشيم لا يحفل ما
حرّق!! أين العقول
المستصبحة بمصابيح الهدى؟ والأبصار اللاّمحة إلى منار التّقوى ؟
أين القلوب الّتى وهبت للّه وعوقدت على طاعة اللّه؟ ازدحموا على الحطام ، وتشاحّوا
على
__________________
الحرام ، ورفع لهم
علم الجنّة والنّار فصرفوا عن الجنّة وجوههم وأقبلوا إلى النّار بأعمالهم ، ودعاهم
ربّهم فنفروا وولّوا ، ودعاهم الشّيطان فاستجابوا وأقبلوا.
١٤١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أيّها النّاس ، إنّما أنتم فى هذه
الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا
مع كلّ جرعة شرق ، وفى كلّ أكلة غصص
لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى ، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ
بهدم آخر من أجله ، ولا تجدّد له زيادة فى أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا
يحيا له أثر إلاّ مات له أثر ، ولا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد ، ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه
محصودة. وقد مضت أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!!
__________________
منها
: وما أحدثت بدعة إلاّ ترك بها سنّة ، فاتّقوا
البدع ، والزموا المهيع
إنّ عوازم الأمور أفضلها
وإنّ محدثاتها شرارها.
١٤٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لعمر بن الخطاب ، وقد استشاره فى غزو
الفرس بنفسه
إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه
بكثرة ولا قلّة ، وهو دين اللّه الّذى أظهره ، وجنده الّذى أعدّه وأمدّه ، حتّى
بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع ، ونحن على موعود من اللّه ، واللّه منجز وعده ، وناصر
جنده. ومكان القيّم بالأمر
مكان النّظام من الخرز : يجمعه ويضمّه ، فإذا انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب ثمّ
لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم وإن
كانوا قليلا
__________________
فهم كثيرون بالاسلام
، عزيزون بالاجتماع ، فكن قطبا ، واستدر الرّحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت
عليك العرب من أطرافها وأقطارها
حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.
إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا
: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ، وطمعهم فيك.
فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم
منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل
فيما مضى بالكثرة ، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة.
١٤٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فبعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم
، بالحقّ ليخرج عباده من عبادة
__________________
الأوثان إلى عبادته
، ومن طاعة
الشّيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا
به إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى لهم سبحانه فى كتابه من غير أن
يكونوا رأوه : بما أراهم من قدرته ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات واحتصد من احتصد بالنّقمات ،
وإنّه سيأتى عليكم من بعدى زمان ليس فيه
شىء أخفى من الحقّ ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على اللّه ورسوله!! وليس
عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا
حرّف عن مواضعه
، ولا فى البلاد شىء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته ،
وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان وصاحبان
مصطحبان فى طريق واحد لا يؤويهما مؤو!! فالكتاب وأهله فى ذلك الزّمان فى النّاس وليسا
فيهم ومعهم ، لأنّ الضّلالة
__________________
لا توافق الهدى ، وإن
اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس
الكتاب إمامهم! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره !! ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ
مثلة وسمّوا
صدقهم على اللّه فرية
وجعلوا فى الحسنة عقوبة السّيّئة.
وإنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم ،
وتغيّب آجالهم ، حتّى نزل بهم الموعود الّذى تردّ عنه
المعذرة ، وترفع عنه التّوبة ، وتحلّ معه القارعة والنّقمة أيّها
النّاس ، إنّه من استنصح اللّه وفّق ، ومن اتّخذ قوله دليلا هدى للّتى
__________________
هى أقوم ، فإنّ جار اللّه آمن ، وعدوّ اللّه
خائف ، وإنّه لا ينبغى لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم ، فإنّ رفعة الّذين يعرفون ما
عظمته أن يتواضعوا
له ، وسلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحقّ نفار
الصّحيح من الأجرب ، والبارئ من ذى السّقم
واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذى تركه ، ولن تأخذوا بميثاق
الكتاب حتّى تعرفوا الّذى نقضه ، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذى نبذه ، فالتمسوا
ذلك من عند أهله ، فإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل : هم الّذين يخبركم حكمهم عن
علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم : لا يخالفون الدّين ، ولا يختلفون
فيه ، فهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق.
__________________
١٤٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
[فى ذكر أهل البصرة]
كلّ واحد منهما يرجو الأمر له ، ويعطفه
عليه دون صاحبه : لا يمتّان إلى اللّه بحبل ، ولا يمدّان إليه بسبب !! كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه وعمّا قليل يكشف قناعه به. واللّه لئن
أصابوا الّذى يريدون لينزعنّ هذا نفس هذا وليأتينّ هذا على هذا ، قد قامت الفئة
الباغية فأين المحتسبون
فقد سنّت لهم السّنن ، وقدّم لهم الخبر ، ولكلّ ضلّة علّة ، ولكلّ ناكث شبهة ، واللّه
لا أكون كمستمع اللّدم يسمع النّاعى ويحضر
الباكى ثمّ لا يعتبر.
__________________
١٤٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قبل موته
أيّها النّاس ، كلّ امرىء لاق ما يفرّ
منه فى فراره ، والأجل مساق النّفس
والهرب منه موافاته. كم أطردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلاّ
إخفاءه. هيهات! علم مخزون ، أمّا وصيّتى فاللّه لا تشركوا به شيئا ، ومحمّد صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين
المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا .
حمل كلّ امرىء منكم مجهوده
، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، ودين قويم ، وإمام عليم.
أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة
لكم ، وغدا مفارقكم ، غفر اللّه لى ولكم.
إن ثبتت الوطأة فى هذه المزلّة فذاك ، وإن
تدحض القدم فإنّا كنّا فى
__________________
أفياء أغصان ومهبّ
رياح وتحت ظلّ غمام اضمحلّ فى الجوّ متلفّقها وعفا فى الأرض مخطّها ، وإنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما
وستعقبون منّى جثّة خلاء
ساكنة بعد حراك ، وصامتة بعد نطوق. ليعظكم هدوّى وخفوت أطرافى وسكون أطرافى ، فإنّه أوعظ للمعتبرين
من المنطق البليغ والقول المسموع. وداعيكم وداع امرىء مرصد للتّلاقى ،
غدا ترون أيّامى ،
__________________
ويكشف لكم عن سرائرى
، وتعرفوننى بعد خلوّ مكانى وقيام غيرى مقامى.
١٤٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى الملاحم
وأخذوا يمينا وشمالا : طعنا فى مسالك
الغىّ ، وتركا لمذاهب الرّشد ، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد و [لا] تستبطئوا ما
يجىء به الغد ، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه ، وما أقرب اليوم من
تباشير غد
يا قوم ، هذا إبّان ورود كلّ موعد
، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون ، ألا وإنّ من أدركها منّا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو
فيها على مثال الصّالحين ، ليحلّ فيها ربقا
ويعتق زقّا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا ، فى سترة عن النّاس
، لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره ، ثمّ
ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل ، تجلى بالتّنزيل
أبصارهم
، [ويرمى بالتّفسير فى مسامعهم] ويغبقون
__________________
كأس الحكمة بعد
الصّبوح
منها
: وطال الامد بهم ليستكملوا الخزى ، ويستوجبوا الغير ، حتّى إذا اخلولق الأجل ،
واستراح قوم إلى الفتن ، وأشالوا عن لقاح حربهم ،
لم يمنّوا على اللّه بالصّبر ، ولم يستعظموا بذل
أنفسهم فى الحقّ ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم
على أسيافهم
، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم حتّى إذا قبض اللّه رسوله ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجع
قوم على الأعقاب ،
__________________
وغالتهم السّبل ، واتّكلوا
على الولائج
، ووصلوا غير الرّحم ، وهجروا السّبب الّذى أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ
أساسه فبنوه فى
غير موضعه : معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب فى غمرة ، قد ماروا فى الحيرة ،
وذهلوا فى السّكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدّنيا راكن ، أو مفارق [للدّين]
مباين.
١٤٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وأستعينه على مداحر الشّيطان ومزاجره ،
والاعتصام من حبائله ومخاتله. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، ونجيبه وصفوته ، لا
يوازى فضله ، ولا يجبر فقده ، أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة ، والجهالة
الغالبة ، والجفوة الجافية ، والنّاس يستحلّون الحريم ،
ويستذلّون الحكيم ، يحيون على
__________________
فترة ويموتون على كفرة ، ثمّ إنّكم معشر
العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتّقوا سكرات النّعمة ، واحذروا بوائق النّقمة ، وتثبّتوا فى قتام العشوة واعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، وظهور
كمينها ، وانتصاب قطبها ، ومدار رجاها : تبدو فى مدارج خفيّة ، وتؤول إلى فظاعة
جليّة ، شبابها كشباب الغلام وآثارها كآثار
السّلام. تتوارثها الظّلمة بالعهود ، أوّلهم قائد لآخرهم ، وآخرهم مقتد بأوّلهم ، يتنافسون
فى دنيا دنيّة ، ويتكالبون على جيفة مريحة وعن قليل يتبرّأ
التّابع من المتبوع ، والقائد من المقود
__________________
فيتزايلون بالبغضاء ويتلاعنون عند اللّقاء ، ثمّ يأتى بعد
ذلك طالع الفتنة الرّجوف
، القاصمة الزّحوف ، فتزيغ قلوب بعد استقامة ، وتضلّ رجال بعد سلامة ، وتختلف
الأهواء عند هجومها ، وتلتبس الآراء عند نجومها من أشرف لها قصمته ، ومن سعى فيها
حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر فى العانة قد اضطرب معقود
الحبل ، وعمى وجه الأمر ، تغيض فيها الحكمة ، وتنطق فيها
الظّلمة ، وتدقّ أهل البدو بمسحلها وترضّهم بكلكلها ، يضيع
فى غبارها الوحدان
ويهلك فى طريقها الرّكبان ، ترد بمرّ القضاء ، وتحلب عبيط الدّماء ، وتثلم منار الدّين وتنقض عقد
__________________
اليقين ، تهرب منها
الأكياس
، وتدبّرها الأرجاس
، مرعاد مبراق ، كاشفه عن ساق ، تقطع فيها الأرحام ، ويفارق عليها الإسلام ، بريّها
سقيم ، وظاعنها مقيم
منها : بين قتيل مطلول ،
وخائف مستجير ، يختلون بعقد الأيمان وبغرور الإيمان ، فلا
تكونوا أنصاب الفتن وأعلام البدع ، والزموا
ما عقد عليه حبل الجماعة ، وبنيت عليه أركان الطّاعة ، واقدموا على اللّه مظلومين
ولا تقدموا عليه ظالمين ، واتّقوا مدارج الشّيطان ، ومهابط العدوان ، ولا تدخلوا
بطونكم لعق الحرام
فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية
،
__________________
[وسهّل لكم سبل
الطّاعة]
١٤٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الدّال على وجوده بخلقه ، وبمحدث
خلقه على أزليّته ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، لا تستلمه المشاعر ، ولا تحجبه السّواتر ، لافتراق
الصّانع والمصنوع ، والحادّ والمحدود ، والرّبّ والمربوب ، الأحد بلا تأويل عدد ،
والخالق لا بمعنى حركة ونصب
، والسّميع لا بأداة
، والبصير بلا تفريق آلة ، والشّاهد لا
بمماسّة ، والبائن لا بتراخى مسافة ، والظّاهر لا برؤية
، والباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء
منه بالخضوع له والرّجوع إليه ، من وصفه فقد حدّه ومن
حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن قال «أين؟»
فقد حيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور.
__________________
منها
: قد طلع طالع ، ولمع لامع ، ولاح لائح ، واعتدل مائل ، واستبدل اللّه بقوم
قوما ، وبيوم يوما ، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر وإنّما الأئمّة قوّام اللّه على خلقه ،
وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلاّ
من أنكرهم وأنكروه.
إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام ، واستخلصكم
له ، وذلك لأنّه اسم سلامة وجماع كرامة
، اصطفى اللّه تعالى منهجه ، وبيّن حججه ، من ظاهر علم ، وباطن حكم ، لا تفنى
غرائبه ، ولا تنقضى عجائبه ، فيه مرابيع النّعم ومصابيح
الظّلم ، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ بمصابيحه ، قد
أحمى حماه وأرعى مرعاه ، فيه
شفاء المشتفى ، وكفاية المكتفى ،
__________________
١٤٩ ـ [ومن خطبة له عليه
السّلام]
وهو فى مهلة من اللّه يهوى مع الغافلين ويغدو مع المذنبين ، بلا سبيل قاصد ، ولا
إمام قائد :
منها
: حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم ، واستخرجهم
من جلابيب غفلتهم ، استقبلوا مدبرا ، واستدبروا مقبلا ، فلم ينتفعوا بما أدركوا من
طلبتهم ، ولا بما قضوا من وطرهم! وإنّى أحذّركم ونفسى هذه المنزلة ، فلينتفع امرؤ بنفسه ، فإنّما
البصير من سمع فتفكّر ، ونظر فأبصر وانتفع بالعبر ، ثمّ سلك جددا واضحا يتجنّب فيه
الصّرعة فى المهاوى ، والضّلال فى المغاوى
ولا يعين على نفسه الغواة بتعسّف فى حقّ ، أو تحريف فى
__________________
نطق ، أو تخوّف من
صدق. فأفق أيّها السّامع من سكرتك ، واستيقظ من غفلتك! واختصر من عجلتك ، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان
النّبىّ الأمّىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ممّا لا بدّ منه ، ولا محيص عنه ، وخالف من خالف ذلك إلى غيره ، ودعه
وما رضى لنفسه ، وضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر قدرك ، فإنّ عليه ممرّك ، وكما
تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وكما قدّمت اليوم تقدم عليه غدا ، فامهد لقدمك وقدّم ليومك.
فالحذر الحذر أيّها المستمع ، والجدّ
الجدّ أيّها الغافل «وَلاٰ
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إنّ من
عزائم اللّه فى الذّكر الحكيم الّتى عليها يثيب ويعاقب ، ولها يرضى ويسخط ، أنّه
لا ينفع عبدا ـ وإن أجهد نفسه وأخلص فعله ـ أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة
من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك باللّه فيما افترض عليه من عبادته ، أو يشفى
غيظه بهلاك نفس ، أو يعرّ بأمر فعله
__________________
غيره ، أو يستنجح حاجة إلى النّاس بإظهار بدعة
فى دينه
، أو يلقى النّاس بوجهين ، أو يمشى فيهم بلسانين ، اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على
شبهه.
إنّ البهائم همّها بطونها ، وإنّ
السّباع همّها العدوان على غيرها ، وإنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا والفساد
فيها ، إنّ المؤمنين مستكينون
إنّ المؤمنين مشفقون ، إنّ المؤمنين خائفون.
١٥٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وناظر قلب اللّبيب : به يبصر أمده ويعرف
غوره ونجده ، داع دعا وراع رعا ، فاستجيبوا للدّاعى ، واتّبعوا الرّاعى قد خاضوا
بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السّنن ، وأرز المؤمنون
__________________
ونطق الضّالّون
المكذّبون. نحن الشّعار
والأصحاب ، والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير
أبوابها سمّى سارقا
منها
: فيهم كرائم القرآن ، وهم كنوز الرّحمن ، إن نطقوا صدقوا وإن
صمتوا لم يسبقوا
، فليصدق رائد أهله ، وليحضر عقله ، وليكن
من أبناء الآخرة فانّه منها قدم ، وإليها ينقلب فالنّاظر
بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدا عمله أن يعلم : أعمله عليه أم له؟ فان كان له مضى
فيه ، وإن كان عليه وقف عنه ، فانّ العامل بغير علم كسائر فى غير طريق ، فلا يزيده
بعده عن الطّريق إلاّ بعدا من حاجته ، والعامل بالعلم كسائر على الطّريق الواضح ، فلينظر
ناظر أسائر هو أم راجع واعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله ، فما طاب ظاهره طاب
باطنه ، وما
__________________
خبث ظاهره خبث باطنه
، وقد قال الرّسول الصّادق ، صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه يحبّ العبد ويبغض عمله ، ويحبّ العمل ويبغض بدنه».
واعلم أنّ لكلّ عمل نباتا ، وكلّ نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة : فما
طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته
__________________
١٥١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
الحمد للّه الّذى انحسرت الأوصاف عن كنه
معرفته
، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته ، هو اللّه الملك الحقّ
المبين ، أحقّ وأبين ممّا تراه العيون ، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها ، ولم
تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا ، خلق الخلق على غير تمثيل ، ولا مشورة مشير
، ولا معونة معين ، فتمّ خلقه بأمره ، وأذعن لطاعته فأجاب ولم يدفع وانقاد ولم
ينازع.
ومن لطائف صنعته ، وعجائب حكمته ، ما
أرانا من غوامض الحكمة فى هذه الخفافيش الّتى يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شىء ، ويبسطها
الظّلام القابض لكلّ حىّ ، وكيف عشيت أعينها
عن أن تستمدّ من الشّمس
__________________
المضيئة نورا تهتدى
به فى مذاهبها ، وتصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها ، وردعها تلألؤ ضيائها عن
المضىّ فى سبحات إشراقها
وأكنّها فى مكامنها عن الذّهاب فى بلج ائتلاقها فهى مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها
، وجاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به فى التماس أرزاقها ، فلا يردّ أبصارها إسداف
ظلمته ، ولا تمتنع
من المضىّ فيه لغسق دجنّته ، فإذا ألقت الشّمس قناعها ، وبدت أوضاح نهارها ،
ودخل من إشراق نورها على الضّباب فى وجارها أطبقت الأجفان على
مآقيها وتبلّغت بما اكتسبت
من فىء ظلم لياليها .
فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا ومعاشا ، والنّهار سكنا وقرارا ، وجعل لها أجنحة
من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا الآذان
__________________
غير ذوات ريش ولا
قصب ، إلاّ أنّك
ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما
لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا
ولم يغلظا فيثقلا ، تطير وولدها لاصق بها ، لاجىء إليها : يقع إذا وقعت ، ويرتفع
إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه ، ويحمله للنّهوض جناحه ، ويعرف مذاهب
عيشه ومصالح نفسه ، فسبحان البارى لكلّ شىء على غير مثال خلا من غيره
١٥٤١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص
الملاحم
فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على
اللّه فليفعل! فإن أطعتمونى فإنّى حاملكم ـ إن شاء اللّه ـ على سبيل الجنّة ، وإن
كان ذا مشقّة شديدة ، ومذاقة مريرة.
__________________
وأمّا فلانة فأدركها رأى النّساء ، وضغن
غلا فى صدرها كمرجل القين
ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلىّ لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب
على اللّه.
منه
: سبيل أبلج المنهاج ، أنور السّراج ، فبالايمان
يستدلّ على الصّالحات ، وبالصّالحات يستدلّ على الإيمان ، وبالإيمان يعمر العلم ،
وبالعلم يرهب الموت ، وبالموت تختم الدّنيا ، وبالدّنيا تحرز الآخرة وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مرقلين فى مضمارها إلى الغاية
القصوى.
ومنه
: قد شخصوا من مستقرّ الأجداث
، وصاروا إلى مصائر الغايات ، لكلّ دار أهلها : لا يستبدلون بها ، ولا ينقلون عنها
، وإنّ الأمر
__________________
بالمعروف والنّهى عن
المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه ، وإنّهما لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق
، وعليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين ، والنّور المبين ، والشّفاء النّافع ، والرّىّ
النّاقع
، والعصمة للمتمسّك ، والنّجاة للمتعلّق لا يعوجّ فيقام ، ولا يزيع فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرّدّ وولوج السّمع . من قال به صدق ، ومن عمل به سبق ،
وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة
، وهل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال عليه السّلام : لمّا
أنزل اللّه سبحانه قوله : «الم
أَحَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَهُمْ
لاٰ يُفْتَنُونَ» علمت أنّ الفتنة
لا تنزل بنا ورسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول
اللّه ، ما هذه الفتنة الّتى أخبرك اللّه بها ؟ فقال : «يا علىّ ، انّ
__________________
أمّتى سيفتنون من
بعدى» فقلت : يا رسول اللّه ، أوليس [قد] قلت لى يوم أحد حيث استشهد من استشهد من
المسلمين وحيزت عنّى الشّهادة
فشقّ ذلك علىّ فقلت لى «أبشر ، فإنّ الشّهادة من ورائك»؟ فقال لى «إنّ ذلك لكذلك ،
فكيف صبرك إذا ؟»
فقلت : يا رسول اللّه ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر ، وقال «يا علىّ ، إنّ القوم سيفتنون
بعدى بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون
حرامه بالشّبهات الكاذبة والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت
بالهديّة ، والرّبا بالبيع» فقلت : يا رسول اللّه ، بأىّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟
أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة»
__________________
١٥٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الّذى جعل الحمد مفتاحا
لذكره ، وسببا للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته
عباد اللّه ، إنّ الدّهر يجرى بالباقين
كجريه بالماضين ، لا يعود ما قد ولّى منه ، ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله
كأوّله ، متسابقة أموره
متظاهرة أعلامه ، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله ، فمن شغل نفسه بغير
نفسه تحيّر فى الظّلمات ، وارتبك فى الهلكات ، ومدّت به شياطينه فى طغيانه ، وزيّنت
له سيّىء أعماله ، فالجنّة غاية السّابقين ، والنّار غاية المفرّطين.
اعلموا عباد اللّه ، أنّ التّقوى دار
حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل :
__________________
لا يمنع أهله ، ولا
يحرز من لجأ إليه .
ألا وبالتّقوى تقطع حمة الخطايا
وباليقين تدرك الغاية القصوى.
عباد اللّه ، اللّه اللّه فى أعزّ
الأنفس عليكم ، وأحبّها إليكم ، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ وأنار طرقه.
فشقوة لازمة ، أو سعادة دائمة ، فتزوّدوا فى أيّام الفناء لأيّام البقاء ، قد دللتم على الزّاد ،
وأمرتم بالظّعن ، وحثثتم على المسير
، فإنّما أنتم كركب وقوف ، لا تدرون متى تؤمرون بالمسير.
ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة؟ وما
يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه؟!
عباد اللّه ، إنّه ليس لما وعد اللّه من
الخير مترك ، ولا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب! عباد اللّه ، احذروا يوما تفحص فيه
الأعمال ، ويكثر فيه الزّلزال ، وتشيب فيه الأطفال.
__________________
اعلموا ، عباد اللّه
، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم
، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم
ظلمة [ليل] داج ، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج
، وإنّ غدا من اليوم قريب.
يذهب اليوم بما فيه ، ويجىء الغد لاحقا
به ، فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، ومخطّ حفرته ، فيا له من بيت وحدة ،
ومنزل وحشة ، ومفرد غربة! وكأنّ الصّيحة قد أتتكم ، والسّاعة قد غشيتكم وبرزتم
لفصل القضاء ، قد زاحت عنكم الأباطيل ، واضمحلّت عنكم
العلل واستحقّت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها ، فاتّعظوا بالعبر ، واعتبروا
بالغير ، وانتفعوا بالنّذر.
__________________
١٥٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول
هجعة من الأمم
وانتقاض من المبرم ، فجاءهم بتصديق الّذى بين يديه ، والنّور المقتدى به : ذلك
القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتى ، والحديث
عن الماضى ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم
منها : فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر
إلاّ وأدخله
الظّلمة ترحة ، وأولجوا فيه نقمة ، فيومئذ لا يبقى لكم فى السّماء [عاذر] ، ولا فى
الأرض ناصر ، أصفيتم بالأمر غير أهله
، وأوردتموه غير مورده ، وسينتقم اللّه ممّن ظلم : مأكلا بمأكل ، ومشربا بمشرب : من
مطاعم العلقم ، ومشارب الصّبر والمقر ، ولباس شعار الخوف
، ودثار السّيف ، وإنّما هم
__________________
مطايا الخطيئات ، وزوامل
الآثام
، فأقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدى كما تلفظ النّخامة ، ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا
ما كرّ الجديدان.
١٥٤ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
ولقد أحسنت جواركم ، وأحطت بجهدى من
ورائكم
، وأعتقتكم من ربق الذّلّ ، وحلق الضّيم ،
شكرا منّى للبرّ القليل! وإطراقا عمّا أدركه البصر ، وشهد [ه] البدن من المنكر
الكثير
١٥٥ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمره قضاء وحكمة ، ورضاه أمان ورحمة ، يقضى
بعلم ، ويعفو بحلم. اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطى ، وعلى ما تعافى وتبتلى ، حمدا
يكون أرضى الحمد لك ، وأحبّ الحمد إليك ، وأفضل الحمد عندك ، حمدا يملأ ما خلقت ،
ويبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب عنك ، ولا يقصر دونك ، حمدا لا ينقطع عدده ،
__________________
ولا يفنى مدده ، فلسنا
نعلم كنه عظمتك ، إلاّ أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته
إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمار ، وأخذت بالنّواصى والأقدام
، وما الّذى نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيّب
عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه
، أعظم فمن فرّغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، و [كيف] ذرأت خلقك ، وكيف علّقت فى الهواء سمواتك ، وكيف
مددت على مور الماء أرضك
، رجع طرفه حسيرا
، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا.
منها
: يدّعى بزعمه أنّه يرجو اللّه! كذب والعظيم!
ما باله لا يتبيّن رجاؤه فى عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه فى عمله ، إلاّ رجاء
اللّه فإنّه مدخول ، وكلّ خوف محقّق ، إلاّ
خوف اللّه فإنّه معلول : يرجو اللّه فى
__________________
الكبير ، ويرجو
العباد فى الصّغير ، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ ، فما بال اللّه ، جلّ ثناؤه ،
يقصّر به عمّا يصنع لعباده؟! أتخاف أن تكون فى رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه
للرّجاء موضعا ، وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطى ربّه ، فجعل
خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالقهم ضمارا ووعدا وكذلك من عظمت الدّنيا فى عينه وكبر
موقعها فى قلبه
آثرها على اللّه فانقطع إليها وصار عبدا لها
__________________
وقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه
عليه وآله ، كاف لك فى الأسوة
ودليل [لك] على ذمّ الدّنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ، ووطّئت لغيره
أكنافها
وفطم عن رضاعها ، وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه ، صلّى اللّه
عليه وآله ، إذ يقول : «رَبِّ
إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»
واللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة
البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذّب لحمه وإن
شئت ثلّثت بداود ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنّة ، فلقد
كان يعمل سفائف الخوض بيده ويقول لجلسائه : أيّكم
يكفينى بيعها؟! ويأكل قرص الشّعير من ثمنها ، وإن شئت قلت فى عيسى ابن مريم ، عليه
السّلام ، فلقد كان يتوسّد
__________________
الحجر ويلبس الخشن ،
[ويأكل الجشب] وكان إدامه الجوع ، وسراجه باللّيل القمر ، وظلاله فى الشّتاء مشارق
الأرض ومغاربها
، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه
ولا مال يلفته ، ولا طمع يذلّه ، دابّته رجلاه ، وخادمه يداه.
فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه وآله ، فإنّ فيه أسوة
لمن تأسّى ، وعزاء لمن تعزّى ، وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه ، والمقتصّ
لأثره : قضم
الدّنيا قضما ولم يعرها طرفا ، أهضم
أهل الدّنيا كشحا وأخمصهم من الدّنيا
بطنا ، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا
فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغّر شيئا فصغّره ، ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما
أبغض اللّه ورسوله ، وتعظيمنا ما صغّر اللّه ورسوله ، لكفى به شقاقا للّه ، ومحادّة
عن أمر اللّه ولقد كان ، صلّى
اللّه عليه وآله وسلم ،
__________________
يأكل على الأرض ، ويجلس
جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله
ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العارى ، ويردف خلفه ، ويكون السّتر على باب بيته
فتكون فيه التّصاوير فيقول : يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيّبيه عنّى ، فإنّى إذا
نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها
فأعرض عن الدّنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا
يتّخذ منها رياشا
، ولا يعتقدها قرارا ، ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النّفس ، وأشخصها عن
القلب وغيّبها عن البصر ، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن
ينظر إليه ، وأن يذكر عنده.
ولقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه
عليه وآله وسلّم ، ما يدلّك على مساوى الدّنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته وزويت
عنه زخارفها مع عظيم
__________________
زلفته. فلينظر ناظر
بعقله أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟! فإن قال : «أهانه» فقد كذب وأتى بالافك
العظيم ، وإن قال : «أكرمه» فليعلم أنّ اللّه [قد] أهان غيره حيث بسط الدّنيا له ،
وزواها عن أقرب النّاس منه ، فتأسّى متأسّ بنبيّه واقتصّ أثره ، وولج مولجه ، وإلاّ فلا
يأمن الهلكة ، فإنّ اللّه جعل محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، علما للسّاعة
ومبشّرا
بالجنّة ، ومنذرا بالعقوبة : خرج من الدّنيا خميصا وورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على
حجر حتّى مضى لسبيله ، وأجاب داعى ربّه ، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم
علينا به سلفا نتّبعه ، وقائدا نطأ عقبه واللّه لقد رقعت
مدرعتى هذه حتّى استحييت من راقعها ولقد قال لى قائل : ألا
تنبذها عنك؟ فقلت : اغرب عنّى «فعند
الصّباح يحمد القوم السّرى»
__________________
١٥٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
بعثه بالنّور المضىء ، والبرهان الجلىّ
، والمنهاج البادى
والكتاب الهادى :
أسرته خير أسرة وشجرته خير شجرة : أغصانها معتدلة ، وثمارها
متهدّلة
مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة علا بها ذكره ، وامتدّ
بها صوته. أرسله بحجّة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية أظهر
به الشّرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة ،
فمن يتّبع غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته ، ويكن مآبه إلى الحزن الطّويل ، والعذاب
الوبيل.
__________________
وأتوكّل على اللّه توكّل الإنابة إليه ،
وأسترشده السّبيل المودّية إلى جنّته ، القاصدة إلى محلّ رغبته . أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وطاعته
، فإنّها النّجاة غدا ، والمنجاة أبدا ، رهّب فأبلغ ، ورغب فأسبغ ووصف لكم الدّنيا وانقطاعها وزوالها وانتقالها
، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها.
أقرب دار من سخط اللّه ، وأبعدها من
رضوان اللّه! فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها وأشغالها لما أيقنتم به من فراقها وتصرّف
حالها ، فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح
والمجدّ الكادح ، واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم : قد تزايلت
أوصالهم وزالت أبصارهم وأسماعهم
، وذهب شرفهم وعزّهم ، وانقطع سرورهم ونعيمهم ، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها ، وبصحبة
الأزواج مفارقتها ، لا يتفاخرون ، ولا يتناسلون ، ولا يتزاورون ، ولا
__________________
يتجاورون. فاحذروا
عباد اللّه حذر الغالب لنفسه ، المانع لشهوته ، النّاظر بعقله ، فإنّ الأمر واضح ،
والعلم قائم ، والطّريق جدد ، والسّبيل قصد
١٥٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم
عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال :
يا أخا بنى أسد ، إنّك لقلق الوضين ترسل فى غير سدد! ولك بعد ذمامة الصّهر
وحقّ المسألة ، وقد استعلمت فاعلم : أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ـ ونحن
الأعلون نسبا ، والأشدّون برسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، نوطا ـ فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس
قوم ، وسخت عنها نفوس
__________________
آخرين ، والحكم
اللّه والمعود إليه يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح فى حجراته وهلمّ الخطب فى ابن أبى سفيان
فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه ، ولا
غرو واللّه فيا له خطبا يستفرغ العجب ويكثر الأود ، حاول القوم إطفاء نور اللّه من
مصباحه ، وسدّ فوّاره من
__________________
ينبوعه . وجدحوا بينى وبينهم شربا وبيئا . فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى
أحملهم من الحقّ على محضه
وإن تكن الأخرى «فَلاٰ تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا
يَصْنَعُونَ»
١٥٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه خالق العباد ، وساطح المهاد ومسيل
الوهاد ، ومخصب النّجاد ليس لأوّليّته ابتداء ، ولا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل
لم يزل ، والباقى بلا أجل خرّت له الجباه ، ووحّدته الشّفاه ، حدّ الأشياء عند
خلقه لها إبانة له من شبهها لا تقدّره الأوهام
بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات
__________________
لا يقال له : «متى؟»
ولا يضرب له أمد بحتّى ، الظّاهر لا يقال «ممّا» ، والباطن لا يقال «فيما» ، لا شبح
فيتقضّى
ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، لا يخفى
عليه من عباده شخوص لحظة
ولا كرور لفظة ، ولا ازدلاف ربوة ، ولا انبساط خطوة
فى ليل داج ، ولا غسق ساج ، يتفيّأ
عليه القمر المنير ، وتعقبه الشّمس ذات
النّور ، فى الأفول والكرور
وتقلّب الأزمنة والدّهور ، من إقبال ليل مقبل ، وإدبار نهار مدبر ، قبل كلّ غاية ومدّة
وكلّ إحصاء
وعدّة ، تعالى عمّا ينحله
المحدّدون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثّل
__________________
المساكن وتمكّن الأماكن : فالحدّ لخلقه مضروب ،
وإلى غيره منسوب ، لم يخلق الأشياء ، من أصول أزليّة ، ولا [من] أوائل أبديّة ، بل
خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته ليس لشىء منه امتناع ، ولا له بطاعة شىء انتفاع. علمه
بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين وعلمه بما فى السّموات العلى كعلمه بما
فى الأرض السّفلى.
منها
: أيّها المخلوق السّوىّ ،
والمنشأ المرعىّ فى ظلمات الأرحام ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين ووضعت
فى قرار مكين
__________________
إلى قدر معلوم ، وأجل
مقسوم ، تمور فى بطن أمّك جنينا : لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من
مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدى
أمّك؟ وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟ هيهات! إنّ من يعجز عن صفات ذى
الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز ، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد.
١٥٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما اجتمع الناس عليه وشكوا مما نقموه على عثمان ، وسالوه
مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه
فقال : ـ
إنّ النّاس ورائى ، وقد استسفرونى بينك
وبينهم
وو اللّه ما أدرى ما أقول لك؟! ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلّك على شىء لا تعرفه.
إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشىء فنبلغكه ، وقد
رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول اللّه كما صحبنا ، وما ابن أبى
قحافة ولا
__________________
ابن الخطّاب أولى
بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وشيجة
رحم منهما
، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فاللّه اللّه فى نفسك فإنّك ، واللّه ، ما تبصّر
من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطّرق لواضحة ، وإنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم
أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى وهدى ، فأقام سنّة معلومة ، وأمات
بدعة مجهولة ، وإنّ السّنن لنيّرة لها أعلام ، وإنّ البدع لظاهرة لها أعلام. وإنّ
شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة
متروكة ، وإنّى سمعت رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، يقول : «يؤتى يوم
القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، يلقى فى نار جهنّم فيدور فيها
كما تدور الرّحى : ثمّ يرتبط فى قعرها »
وإنّى أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنّه كان يقال : يقتل فى
هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ،
ويثبّت الفتن فيها ، فلا يبصرون
__________________
الحقّ من الباطل ، يموجون
فيها موجا ، ويمرجون فيها مرجا
، فلا تكوننّ لمروان سيّقة
يسوقك حيث شاء بعد جلال السّنّ ، وتقضّى العمر!! فقال له عثمان رضى اللّه عنه : كلم
الناس فى أن يؤجلونى حتى أخرج إليهم من مظالمهم ، فقال عليه السلام :
ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب
فأجله وصول أمرك إليه.
١٦٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذى حركات ، فأقام من شواهد
البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به ، ومسلّمة له
، ونعقت فى أسماعنا دلائله على وحدانيّته وما ذرأ
__________________
من مختلف صور
الأطيار
الّتى أسكنها أخاديد الأرض ، وخروق فجاجها وراسى أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ،
وهيئات متباينة ، مصرّفة فى زمام التّسخير
ومرفرفة بأجنحتها فى مخارق الجوّ المنفسح والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد أن لم تكن
فى عجائب صور ظاهرة ، وركّبها فى حقاق مفاصل محتجبة ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو فى
السّماء خفوفا ، وجعله يدفّ دفيفا ، ونسقها على اختلافها فى الأصابيغ بلطيف
قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس فى قالب لون لا يشوبه غير
لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس فى لون صبغ
__________________
قد طوّق بخلاف ما
صبغ به
ومن أعجبها خلقا الطّاووس الّذى أقامه
فى أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه فى أحسن تنضيد
، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نثره من طيّه ، وسما به
مظلاّ على رأسه
كأنّه قلع دارىّ عنجه نوتيّه يختال بألوانه ، ويميس بزيفانه ، يفضى كإفضاء الدّيكة
ويؤرّ
بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة فى الضّراب! أحيلك من ذلك على معاينة لا
كمن يحيل على ضعيف إسناده ، ولو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها
__________________
مدامعه فتقف فى ضفّتى جفونه ، وإنّ أنثاه تطعم
ذلك ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب تخال قصبه مدارى من
فضّة وما أنبت
عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزّبرجد ، فإن شبّهته بما أنبتت
الأرض قلت : جنى جنى من زهرة كلّ ربيع ، وإن ضاهيته
بالملابس فهو كموشىّ الحلل أو مونق عصب اليمن ،
وإن شاكلته بالحلىّ فهو كفصوص ذات ألوان قد
__________________
نطّقت باللّجين
المكلّل
، يمشى مشى المرح المختال
، ويتصفّح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله ، وأصابيغ وشاحه.
فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا
يكاد [بصوت] يبين عن استغاثته. ويشهد بصادق توجّعه ، لأنّ قوائمه حمش كقوائم
الدّيكة الخلاسيّة وقد نجمت من ظنبوب
ساقه صيصيّة خفيّة ، وله فى موضع العرف
قنزعة خضراء موشّاة ومخرج عنقه كالإبريق
، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة
__________________
اليمانيّة ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال ، وكأنّه ملفّع بمعجر أسحم إلاّ أنّه يخيل لكثرة مائه وشدّة بريقه
أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به. ومع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم فى لون الأقحوان أبيض
يقق ، فهو ببياضه فى سواد ما هنالك يأتلق وقلّ صبغ إلاّ وقد
أخذ منه بقسط وعلاه بكثرة صقاله [وبريقه]
وبصيص ديباجه ورونقه
فهو كالأزاهير المبثوثة
لم تربّها أمطار ربيع
ولا شموس قيظ ، وقد ينحسر من ريشه
__________________
ويعرى من لباسه
فيسقط تترى ، وينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل
سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه ، ولا يقع لون فى غير مكانه. وإذا تصفّحت شعرة من
شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة ، وتارة خضرة زبرجديّة ، وأحيانا صفرة عسجديّة فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم
وصفه أقوال الواصفين وأقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه؟!
فسبحان الّذى بهر العقول عن وصف خلق جلاّة
للعيون فأدركته محدودا مكوّنا ، ومؤلّفا ملوّنا ، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد
بها عن تأدية نعته. وسبحان من أدمج قوائم الذّرّة والهمجة
إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة ، ووأى على نفسه
__________________
أن لا يضطرب شبح
ممّا أولج فيه الرّوح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته
منها فى صفة الجنة :
فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها
لغرفت نفسك
من بدائع ما أخرج إلى الدّنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر
فى اصطفاق أشجار
غيّبت عروقها فى كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفى تعليق كبائس اللّؤلؤ الرّطب
فى عساليجها وأفنانها وطلوع تلك الثّمار
مختلفة فى غلف أكمامها تحنى من غير تكلف فتأتى
على منية
__________________
مجتنيها ، ويطاف على
نزّالها فى أفنية قصورها بالأعسال المصفّقة
والخمور المروّقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلّوا دار القرار وأمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك
أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحمّلت من
مجلسى هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن سعى [بقلبه]
إلى منازل الأبرار برحمته.
قال الشريف : تفسير بعض ما جاء فيها من
الغريب «يؤر بملاقحة» الأر : كناية عن النكاح ، يقال : أر المرأة يؤرها ، أى :
نكحها ، وقوله «كأنه قلع دارى عنجه
نوتيه» : القلع : شراع السفينة ، «ودارى» منسوب إلى دارين ، وهى بلدة على البحر
يجلب منها الطيب. و «عنجه» أى : عطفه ، يقال : عنجت الناقة ـ كنصرت ـ أعنجها عنجا
، إذا عطفتها والنوتى : الملاح ، وقوله «ضفتى جفونه» أراد جانبى جفونه ، والضفتان
: الجانبان ، وقوله «وفلذ الزبرجد» الفلذ : جمع فلذة ، وهى القطعة.
وقوله «كبائس اللؤلؤ الرطب» الكباسة.
العذق . والعساليج : الغصون واحدها عسلوج
__________________
١٦١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
ليتأسّ صغيركم بكبيركم وليرأف كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا
كجفاة الجاهليّة : لا فى الدّين يتفقّهون ، ولا عن اللّه يعقلون ، كقيض بيض فى
أداح : يكون
كسرها وزرا ، ويخرج حضانها شرّا!!
منها
: افترقوا بعد ألفتهم ، وتشتّتوا عن
أصلهم : فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه ، على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم
لبنى أميّة كما تجتمع قزع الخريف
يؤلّف اللّه بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب ، ثمّ يفتح اللّه
__________________
لهم أبوابا يسيلون
من مستثارهم كسيل الجنّتين حيث لم تسلم عليه قارّة ، ولم تثبت عليه أكمة ، ولم
يردّ سننه رصّ طود ، ولا حداب أرض ، يذعذعهم اللّه فى بطون أوديته ثمّ يسلكهم ينابيع فى الأرض يأخذ بهم
من قوم حقوق قوم ، ويمكّن لقوم فى ديار قوم ، وايم اللّه ليذوبنّ ما فى أيديهم بعد
العلوّ والتّمكين
كما تذوب الألية على النّار.
أيّها النّاس ، لو لم تتخاذلوا عن نصر
الحقّ ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوى
عليكم ، لكنّكم تهتم متاه بنى إسرائيل!! ولعمرى ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدى
أضعافا
بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم ، وقطعتم الأدنى ، ووصلتم الأبعد!! واعلموا أنّكم إن
اتّبعتم الدّاعى لكم سلك بكم منهاج الرّسول ، وكفيتم مؤونة الاعتساف ونبذتم
__________________
الثّقل النادح عن
الأعناق .
١٦٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى أول خلافته
إنّ اللّه تعالى أنزل كتابا هاديا بيّن
فيه الخير والشّرّ ، فخذوا نهج الخير تهتدوا ، واصدفوا عن سمت الشّرّ تقصدوا ، الفرائض الفرائض! أدّوها إلى اللّه
تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول ، وأحلّ حلالا غير مدخول وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشدّ
بالإخلاص والتّوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها فالمسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده إلاّ بالحقّ. ولا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب ، بادروا
أمر العامّة وخاصّة أحدكم وهو الموت فإنّ النّاس أمامكم
، وإنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم. تخفّفوا
__________________
تلحقوا!! فإنّما
ينتظر بأوّلكم آخركم. اتّقوا اللّه فى عباده وبلاده فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع
والبهائم ، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم
الشّرّ فأعرضوا عنه.
١٦٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
بعد ما بويع بالخلافة ، وقد قال له قوم
من الصحابة : لو عاقبت قوما
ممن أجلب على عثمان؟ فقال عليه السلام :
يا إخوتاه ، إنّى لست أجهل ما تعلمون ،
ولكن كيف لى بقوّة والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم؟ وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، والتفّت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم
ما شاءوا ، وهل ترون موضعا لقدرة على شىء تريدونه؟ وإنّ هذا الأمر أمر جاهليّة ، وإنّ
لهؤلاء القوم مادّة ، إنّ النّاس من هذا
الأمر ـ إذا حرّك ـ
__________________
على أمور : فرقة ترى
ما ترون ، وفرقة ترى ما لا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبروا حتّى يهدأ
النّاس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتوخذ الحقوق مسمحة ، فاهدأوا عنّى ، وانظروا ما ذا يأتيكم
به أمرى ، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة وتسقط منه وتورث وهنا وذلّة وسأمسك الأمر ما استمسك ، وإذا لم أجد
بدّا فآخر الدّواء الكىّ
١٦٤ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
إنّ اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر
قائم ، لا يهلك عنه إلاّ هالك ، وإنّ المبتدعات
المشبّهات هنّ المهلكات ، إلاّ ما حفظ اللّه
منها ، وإنّ فى سلطان اللّه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها . واللّه
لتفعلنّ أو لينقلنّ [اللّه] عنكم سلطان الإسلام ، ثمّ لا ينقله
__________________
إليكم أبدا حتّى
يأرز الأمر إلى غيركم
إنّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتى
، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرّأى انقطع نظام المسلمين ، وإنّما طلبوا
هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها اللّه عليه ، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها ، ولكم
علينا العمل بكتاب اللّه تعالى وسيرة رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والقيام
بحقّه ، والنّعش لسنّته .
١٦٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
كلم به بعض العرب ، وقد أرسله قوم من
أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل
لتزول الشبهة من نفوسهم ، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على
الحق ، ثم قال له : بايع! فقال : إنى رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم ، فقال
عليه السلام : أرأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغى لهم مساقط الغيث فرجعت
إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ، ما كنت
__________________
صانعا؟ قال : كنت
تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء ، .
فقال عليه السلام :
فامدد إذا يدك! فقال الرجل : فو اللّه
ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على ، فبايعته عليه السلام (والرجل يعرف بكليب
الجرمى)
١٦٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
لما عزم على لقاء القوم بصفين
اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع ، والجوّ
المكفوف
، الّذى جعلته مغيضا للّيل والنّهار ، ومجرى للشّمس والقمر ، ومختلفا للنّجوم
السّيّارة ، وجعلت سكّانه سبطا من ملائكتك ، لا يسأمون من عبادتك ، وربّ هذه الأرض
__________________
الّتى جعلتها قرارا
للأنام ، ومدرجا للهوامّ والأنعام ، وما لا يحصى ممّا يرى وممّا لا يرى ، وربّ
الجبال الرّواسى الّتى جعلتها للأرض أوتادا وللخلق اعتمادا ـ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغى
، وسدّدنا للحقّ ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة واعصمنا من الفتنة.
أين المانع للذّمار والغائر عند نزول الحقائق من أهل
الحفاظ؟! العار وراءكم ، والجنّة أمامكم.
١٦٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الّذى لا توارى عنه سماء
سماء ولا أرض أرضا
منها
: وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا
ابن أبى طالب لحريص!
__________________
فقلت : بل أنتم واللّه
لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب! وإنّما طلبت حقّا لى وأنتم تحولون بينى وبينه ، وتضربون
وجهى دونه
فلمّا قرعته بالحجّة فى الملأ الحاضرين هبّ كأنّه [بهت] لا يدرى ما يجيبنى به!
اللّهمّ إنّى أستعينك على قريش ومن أعانهم
فإنّهم قطعوا رحمى ، وصغّروا عظيم منزلتى ، وأجمعوا على منازعتى أمرا هولى ، ثمّ
قالوا : ألا إنّ [فى] الحقّ أن تأخذه وفى الحقّ أن تتركه
منها فى ذكر أصحاب الجمل :
فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه ،
صلى اللّه عليه وآله ، كما تجرّ الأمة عند شرائها ، متوجّهين بها إلى البصرة : فحبسا
نساءهما فى بيوتهما وأبرزا حبيس
__________________
رسول اللّه ، صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم ، لهما ولغيرهما
فى جيش ما منهم رجل إلاّ وقد أعطانى الطّاعة ، وسمح لى بالبيعة ، طائعا غير مكره ،
فقدموا على عاملى بها وخزّان بيت مال المسلمين
وغيرهم من أهلها : فقتلوا طائفة صبرا
وطائفة غدرا! فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله ،
بلا جرم جرّه ، لحلّ لى قتل ذلك الجيش كلّه ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا
عنه بلسان ولا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتى دخلوا بها
عليهم
١٦٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ،
ونذير نقمته أيّها النّاس ، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم
بأمر اللّه فيه ،
__________________
فإن شغب شاغب استعتب
فإن أبى
قوتل. ولعمرى لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس فما إلى ذلك
سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشّاهد أن يرجع ، ولا للغائب
أن يختار.
ألا وإنّى أقاتل رجلين : رجلا ادّعى ما
ليس له ، وآخر منع الّذى عليه.
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه ، فإنّها
خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الأمور عند اللّه ، وقد فتح باب الحرب بينكم
وبين أهل القبلة
ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصّبر
والعلم بمواقع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا
تعجلوا فى أمر حتّى تتبيّنوا ، فانّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيرا
__________________
ألا وإنّ هذه
الدّنيا الّتى أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست
بداركم ولا منزلكم الّذى خلقتم له ولا الّذى دعيتم إليه ، ألا وإنّها ليست بباقية
لكم ، ولا تبقون عليها ، وهى وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها
لتحذيرها ، وإطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدّار الّتى دعيتم إليها ، وانصرفوا
بقلوبكم عنها ولا يخنّنّ أحدكم خنين الأمة على ما زوى عنه منها ، واستتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر
على طاعة اللّه ، والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع
شىء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شىء
حافظتم عليه من امر دنياكم ، أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيّاكم
الصّبر.
__________________
١٦٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى طلحة بن عبيد اللّه
قد كنت وما أهدّد بالحرب ، ولا أرهب
بالضّرب ، وأنا على ما قد وعدنى ربّى من النّصر ، واللّه ما استعجل متجرّدا للطّلب
بدم عثمان
إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه لأنّه مظنّته ، ولم يكن فى القوم أحرص عليه منه فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس
الأمر ويقع الشّكّ! وو اللّه ما صنع فى أمر عثمان
واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفّان ظالما ، كما كان يزعم ، لقد كان ينبغى له أن
يؤازر قاتليه أو أن ينابذ ناصريه
، ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغى له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذرين
فيه ولئن كان فى
__________________
شكّ من الخصلتين لقد
كان ينبغى له أن يعتزله ويركد جانبا
ويدع النّاس معه ، فما فعل واحدة من الثّلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ، ولم تسلم
معاذيره.
١٧٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أيّها الغافلون غير المغفول عنهم ، والتّاركون
المأخوذ منهم
ما لى أراكم عن اللّه ذاهبين ، وإلى غيره راغبين؟ كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى
مرعى وبىّ ، ومشرب دوىّ !!
إنّما هى كالمعلوفة للمدى ، لا تعرف ما ذا يراد بها : إذا أحسن إليها تحسب يومها
دهرها وشبعها أمرها ، واللّه لو شئت أن أخبر كلّ رجل
منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن أخاف
__________________
أن تكفروا فىّ برسول
اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّى مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك
منه . والّذى
بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلاّ صادقا ، وقد عهد إلىّ بذلك كلّه ، وبمهلك
من يهلك ، ومنجى من ينجو ، ومآل هذا الأمر ، وما أبقى شيئا يمرّ على رأسى إلاّ
أفرغه فى أدنىّ وأفضى به إلىّ.
أيّها النّاس ، إنّى واللّه ما أحثّكم
على طاعة إلاّ أسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلاّ أتناهى قبلكم عنها.
١٧١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
انتفعوا ببيان اللّه ، واتّعظوا بمواعظ
اللّه ، واقبلوا نصيحة اللّه. فإنّ اللّه قد أعذر إليكم بالجليّة ، وأخذ عليكم الحجّة ، وبيّن لكم
محابّه من الأعمال
__________________
ومكارهه منها ، لتتّبعوا
هذه وتجتنبوا هذه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، كان يقول : «حفّت
الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشّهوات». واعلموا أنّه ما من طاعة اللّه شىء إلاّ
يأتى فى كره
، وما من معصية اللّه شىء إلاّ يأتى فى شهوة. فرحم اللّه رجلا نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه ، فإنّ هذه النّفس أبعد
شىء منزعا ، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية فى هوى. واعلموا عباد اللّه أن المؤمن
لا يمسى ولا يصبح إلاّ ونفسه ظنون عنده
فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم والماضين أمامكم ، قوّضوا
من الدّنيا تقويض الرّاحل ، وطووها طىّ
المنازل. واعلموا
__________________
أنّ هذا القرآن هو
النّاصح الّذى لا يغشّ ، والهادى الّذى لا يضلّ ، والمحدّث الّذى لا يكذب ، وما
جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة فى هدى ، ونقصان من
عمى. واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه
من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم
فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء ، وهو الكفر والنّفاق والغىّ والضّلال. فاسألوا
اللّه به
وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه. إنّه ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله
، واعلموا أنّه شافع ومشفّع ، وقائل ومصدّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة
شفّع فيه ومن محل به القرآن
يوم القيامة صدق عليه ، فإنّه ينادى مناد يوم القيامة : «ألا إنّ كلّ حارث مبتلى
فى حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن» فكونوا من حرثته وأتباعه ،
__________________
واستدلّوه على ربّكم
، واستنصحوه على أنفسكم ، واتّهموا عليه آراءكم ، واستغشّوا فيه أهواءكم ، العمل العمل
، ثمّ النّهاية النّهاية والاستقامة الاستقامة ثمّ الصّبر الصّبر ، والورع الورع ، إنّ لكم نهاية
فانتهوا إلى نهايتكم ، وإنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم ، وإنّ للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته
، واخرجوا إلى اللّه بما افترض عليكم من حقّه وبيّن لكم من وظائفه.
أنا شهيد لكم وحجيج يوم القيامة عنكم .
__________________
ألا وإنّ القدر السّابق قد وقع ، والقضاء
الماضى قد تورّدّ
وإنّى متكلّم بعدة اللّه وحجّته ، قال اللّه تعالى : «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا
اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَلاٰ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ»
وقد قلتم ربّنا اللّه ، فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره ، وعلى الطّريقة
الصّالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها ،
فإنّ أهل المروق منقطع بهم عند اللّه يوم القيامة ، ثمّ إيّاكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها
واجعلوا
اللّسان واحدا ، وليخزن الرّجل لسانه
فإنّ هذا اللّسان جموح بصاحبه ، واللّه ما أرى عبدا يتّقى تقوى تنفعه حتّى يخزن
لسانه ، وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإنّ قلب المنافق
من وراء لسانه ، لأنّ
__________________
المؤمن إذا أراد أن
يتكلّم بكلام تدبّره فى نفسه : فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرّا واراه ، وإنّ
المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه : لا يدرى ما ذا له ، وما ذا عليه!! ولقد قال
رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه
، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه» فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه وهو نقىّ
الرّاحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللّسان من أعراضهم ، فليفعل.
واعلموا ، عباد اللّه ، أنّ المؤمن
يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل ، ويحرّم العام ما حرّم عاما أوّل ، وإنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم
شيئا ممّا حرّم عليكم
، [و] لكن الحلال ما أحلّ اللّه ، والحرام ما حرّم اللّه ، فقد جرّبتم الأمور وضرّستموها
ووعظتم بمن
كان قبلكم ، وضربت لكم الأمثال ،
__________________
ودعيتم إلى الأمر
الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ
ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى!! ومن لم ينفعه اللّه بالبلاء والتّجارب لم ينتفع بشىء
من العظة ، وأتاه التّقصير من أمامه
حتّى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف ، فإنّ النّاس رجلان : متّبع شرعة ، ومبتدع بدعة ،
ليس معه من اللّه برهان سنّة ، ولا ضياء حجّة ، وإنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحدا
بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل اللّه المتين ، وسببه الأمين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما
للقلب جلاء غيره ، مع أنّه قد
ذهب المتذكّرون ، وبقى النّاسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه ، وإذا
رأيتم شرّا فاذهبوا عنه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه
__________________
عليه وآله وسلم ، كان
يقول : «يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشّرّ فإذا أنت جواد قاصد » ألا وإنّ الظّلم ثلاثة : فظلم لا يغفر
، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب : فأمّا الظّلم الّذى لا يغفر فالشّرك باللّه
، قال اللّه : «إِنَّ
اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»
وأمّا الظّلم الّذى يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ، وأمّا الظّلم الّذى لا يترك فظلم
العباد بعضهم بعضا ، القصاص هناك شديد! ليس هو جرحا بالمدى ولا ضربا بالسّياط ، ولكنّه ما يستصغر
ذلك معه . فإيّاكم والتّلوّن
فى دين اللّه ، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من
الباطل وإنّ اللّه سبحانه لم
يعط أحدا بفرقة خيرا : ممّن مضى ولا ممّن بقى.
يا أيّها النّاس ، طوبى لمن شغله عيبه
عن عيوب النّاس ، وطوبى لمن
__________________
لزم بيته وأكل قوته
، واشتغل بطاعة ربّه ، وبكى على خطيئته
فكان من نفسه فى شغل ، والنّاس منه فى راحة!
١٧٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى معنى الحكمين
فأجمع رأى ملئكم على أن اختاروا رجلين ،
فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن
ولا يجاوزاه ، وتكون ألسنتهما معه ، وقلوبهما تبعه ، فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما
يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج رأيهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى
الحكم بالعدل والعمل بالحقّ سوء رأيهما
، وجور حكمهما! والثّقة فى أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل
الحقّ ، وأتيا بما
__________________
لا يعرف من معكوس
الحكم
١٧٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
لا يشغله شأن ، ولا يغيّره زمان ، ولا
يحويه مكان
، ولا يصفه لسان لا يعزب عنه عدد قطر الماء
ولا نجوم السّماء ، ولا سوافى الرّيح فى الهواء ، ولا دبيب النّمل على الصّفا ، ولا
مقيل الذّرّ فى اللّيلة الظّلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفىّ طرف الأحداق وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه غير معدول
به ولا مشكوك فيه ، ولا مكفور دينه ، ولا مجحود
تكوينه شهادة من صدقت نيّته
، وصفت دخلته ، وخلص يقينه ، وثقلت
موازينه
__________________
وأشهد أنّ محمّدا
عبده ورسوله المجتبى من خلائقه
، والمعتام لشرح حقائقه والمختصّ بعقائل كراماته ، والمصطفى لكرائم رسالاته ، والموضّحة
به أشراط الهدى
والمجلوّ به غربيب العمى.
أيّها النّاس ، إنّ الدّنيا تغرّ
المؤمّل لها ، والمخلد إليها
، ولا تنفس بمن نافس فيها ، وتغلب من غلب عليها. وايم اللّه ما كان قوم قطّ فى غضّ
نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها ، لأنّ اللّه ليس
بظلاّم للعبيد.
ولو أنّ النّاس ـ حين تنزل بهم النّقم وتزول
عنهم النّعم ـ فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ
شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد. وإنّى لأخشى عليكم أن تكونوا فى فترة وقد
كانت أمور مضت
__________________
ملتم فيها ميلة كنتم
فيها عندى غير محمودين ، ولئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء وما علىّ إلاّ الجهد!
ولو أشاء أن أقول لقلت ، عفا اللّه عمّا سلف.
١٧٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد ساله ذعلب اليمانى فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟
فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى؟ فقال : وكيف تراه؟ فقال :
لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن
تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم لا
برويّة ، مريد لا بهمّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف
بالجفاء
، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرّقّة. تعنو الوجوه
__________________
لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته.
١٧٥ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى ذم أصحابه
أحمد اللّه على ما قضى من أمر ، وقدّر
من فعل ، وعلى ابتلائى بكم أيّتها الفرقة الّتى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم
تجب ، إن أمهلتم خضتم
وإن حوربتم خرتم! وإن اجتمع النّاس على إمام طعنتم ، وان أجئتم إلى مشاقّة نكصتم.
لا أبا لغيركم
ما تنظرون بنصركم ربّكم ، والجهاد على حقّكم :
الموت أو الذّلّ لكم! فو اللّه لئن جاء
يومى ـ ولياتينّى ـ ليفرّقنّ بينى وبينكم
__________________
وأنا لكم قال وبكم غير كثير. للّه أنتم!! أما دين
يجمعكم ، ولا حميّة تشحذكم ؟
أوليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه على غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم
وأنتم تريكة الإسلام ، وبقيّة النّاس إلى
المعونة وطائفة من العطاء فتتفرّقون عنّى ، وتختلفون علىّ؟! إنّه لا يخرج إليكم من
أمرى رضا فترضونه ولا سخط فتجتمعون
عليه ، وإن أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت. قد دارستكم الكتاب وفاتحتكم
الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمى يلحظ أو النّائم يستيقظ!! وأقرب بقوم من
الجهل باللّه قائدهم معاوية ومؤدّبهم ابن النّابغة
__________________
١٧٦ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم
أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه
السلام ، فلما عاد إليه الرجل قال له : أمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا ؟؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير
المؤمنين. فقال :
بعدا لهم كما بعدت ثمود ، أما لو أشرعت
الأسنّة إليهم
، وصبّت السّيوف على هاماتهم! لقد ندموا على ما كان منهم ، إنّ الشّيطان اليوم قد
استفلّهم
وهو غدا متبرّئ منهم ، ومتخلّ عنهم ، فحسبهم بخروجهم من الهدى ،
وارتكاسهم فى الضّلال والعمى ، وصدّهم عن الحقّ ، وجماحهم
فى التّيه.
__________________
١٧٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
روى عن نوف البكالى قال : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير
المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه
مدرعة من صوف
وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير . فقال عليه السلام :
الحمد للّه الّذى إليه مصائر الخلق وعواقب
الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ، ونيّر برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه حمدا
يكون لحقّه قضاء ، ولشكره
__________________
أداء ، وإلى ثوابه
مقرّبا ، ولحسن مزبده موجبا. ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق
بدفعه ، معترف له بالطّول
، مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، وأناب إليه مؤمنا ، وخنع
له مذعنا
، وأخلص له موحّدا ، وعظّمه ممجّدا ، ولاذ به راغبا مجتهدا : لم يولد سبحانه فيكون
فى العزّ مشاركا
، ولم يلد فيكون مورثا هالكا ، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا
نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير
المتقن ، والقضاء المبرم.
ومن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات
بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعاهنّ
فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطئات . ولو
لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة وإذعانهنّ له بالطّواعية لما جعلهنّ موضعا لعرشه ولا
__________________
مسكنا لملائكته ، ولا
مصعدا للكلم الطّيّب والعمل الصّالح من خلقه ، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها
الحيران فى مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن
تردّ ما شاع فى السّموات من تلألؤ نور القمر ، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق
داج ، ولا ليل ساج
فى بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا فى يفاع
__________________
السّفع المتجاورات ،
وما يتجلجل به الرّعد فى أفق السّماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من
ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السّماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب
الذّرّة ومجرّها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأنثى فى بطنها.
الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسىّ أو
عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدّر بفهم ، ولا
يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل
، ولا ينظر بعين ، ولا يحدّ بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك
بالحواسّ ، ولا يقاس بالنّاس. الّذى كلّم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا
جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات .
بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف
ربّك ، فصف جبرائيل وميكائيل
__________________
وجنود الملائكة
المقرّبين فى حجرات القدس مرجحنّين
متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. فإنّما يدرك بالصّفات ذوو الهيئات والأدوات
، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حدّه بالفناء! فلا إله إلاّ هو أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم
بظلمته كلّ نور.
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى
ألبسكم الرّياش
وأسبغ عليكم المعاش ولو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو إلى دفع الموت سبيلا
لكان ذلك سليمان ابن داود عليه السّلام : الّذى سخّر له ملك الجنّ والإنس مع
النّبوّة وعظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته
واستكمل مدّته ، رمته قسىّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الدّيار منه خالية ، والمساكن
معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم فى القرون السّالفة لعبرة! أين العمالقة وأبناء
العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا
النّبيّين. وأطفأوا سنن
__________________
المرسلين ، وأحيوا
سنن الجيّارين ؟
أين الّذين ساروا بالجيوش ، وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدّنوا المدائن؟!
منها : قد لبس للحكمة جنّتها
، وأخذ [ها] بجميع أدبها : من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتّفرّغ لها ، وهى
عند نفسه ضالّته الّتى يطلبها ، وحاجته الّتى يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب
الإسلام
وضرب بعسيب ذنبه
__________________
وألصق الأرض بجرانه
، بقيّة من بقايا حجّته
، خليفة من خلائف أنبيائه.
ثم قال عليه السلام :
أيّها النّاس ، إنّى قد بثثت لكم
المواعظ الّتى وعظ الأنبياء بها أممهم ، وأدّيت [إليكم] ما أدّت الأوصياء إلى من
بعدهم ، وأدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا !! للّه أنتم ، أتتوقّعون إماما غيرى
يطأ بكم الطّريق ، ويرشدكم السّبيل؟! ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ،
وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ، وباعوا قليلا من
الدّنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ، ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم وهم
بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، ويشربون الرّنق ؟! قد ـ واللّه ـ لقوا اللّه فوفّاهم
أجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم ، أين إخوانى الّذين ركبوا
__________________
الطّريق ومضوا على
الحقّ؟ أين عمّار ؟
وأين ابن التّيّهان؟ وأين ذو الشّهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا
على النّيّة ، وأبرد برءوسهم إلى الفجرة؟! قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة
الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال عليه السلام :
أوه على إخوانى الّذين قرأوا القرآن
فأحكموه
، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السّنّة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا
، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه
__________________
ثم نادى باعلى صوته :
الجهاد الجهاد عباد اللّه!! ألا وإنّى
معسكر فى يومى هذا ، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج.
قال نوف : وعقد للحسين ـ عليه السلام ـ فى
عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد رحمه اللّه فى عشرة آلاف ، ولأبى أيوب الأنصارى فى عشرة
آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى
ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها
تختطفها الذئاب من كل مكان.
١٧٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، الخالق
من غير منصبة
خلق الخلائق بقدرته ، واستعبد الأرباب بعزّته ، وساد العظماء بجوده. وهو الّذى
أسكن الدّنيا خلقه ، وبعث إلى الجنّ والإنس رسله ، ليكشفوا لهم عن غطائها ، وليحذّروهم
من ضرّائها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها وأسقامها
، وليبصروهم
عيوبها وحلالها وحرامها ، وما
__________________
أعدّ اللّه للمطيعين
منهم والعصاة من جنّة ونار وكرامة وهوان.
أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه ، وجعل لكلّ شىء قدرا ، ولكلّ قدر أجلا
، ولكلّ أجل كتابا.
منها : [فى ذكر القرآن] : فالقرآن آمر
زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة اللّه على خلقه : أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم
، أتمّ نوره
، وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، وقد فرغ إلى الخلق من
أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من
دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه ، إلاّ وجعل له علما باديا ، وآية محكمة
__________________
تزجر عنه أو تدعو
إليه ، فرضاه فيما بقى واحد ، وسخطه فيما بقى واحد.
واعلموا أنّه لن يرضى عنكم بشىء سخطه
على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشىء رضيه ممّن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون فى
أثر بيّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم ، قد كفاكم مؤونة دنياكم
، وحثّكم على الشّكر ، وافترض من ألسنتكم الذّكر ، وأوصاكم بالتّقوى وجعلها منتهى
رضاه وحاجته من خلقه ، فاتّقوا اللّه الّذى أنتم بعينه ، ونواصيكم بيده ، وتقلّبكم فى قبضته :
إن أسررتم علمه ، وإن أعلنتم كتبه ، قد وكّل بكم حفظة كراما ، لا يسقطون حقّا ، ولا
يثبتون باطلا ، واعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من
الظّلم ، ويخلده فيما اشتهت نفسه ، وينزله منزلة الكرامة عنده ، فى دار اصطنعها
لنفسه : ظلّها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوّارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله. فبادروا
المعاد ، وسابقوا الآجال ، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل ، ويرهقهم الأجل ، ويسدّ عنهم باب التّوبة ، فقد أصبحتم
فى مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم
، وأنتم
__________________
بنو سبيل على سفر من
دار ليست بداركم ، وقد أوذنتم منها بالارتحال ، وأمرتم فيها بالزّاد ، واعلموا
أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها
فى مصائب الدّنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه والعثرة تدميه ، والرّمضاء
تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، وقرين شيطان ؟! أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار
حطم بعضها بعضا لغضبه
، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته؟؟!! أيّها اليفن الكبير الّذى قد لهزه القتير! كيف أنت إذا
التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق ، ونشبت الجوامع حتّى
أكلت لحوم السّواعد؟!
__________________
فاللّه اللّه ، معشر
العباد ، وأنتم سالمون فى الصّحّة قبل السّقم!! وفى الفسحة قبل الضّيق ، فاسعوا فى
فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها
: أسهروا عيونكم. وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا
من أجسادكم فجدّدوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال اللّه سبحانه : «إِنْ تَنْصُرُوا
اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ»
وقال تعالى : «مَنْ ذَا
اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ
أَجْرٌ كَرِيمٌ» ، فلم يستنصركم من
ذلّ ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السّموات والأرض وهو العزيز الحكيم
، واستقرضكم وله خزائن السّموات والأرض وهو الغنىّ الحميد ، [وإنّما] أراد أن
يبلوكم
أيّكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّه فى داره رافق بهم رسله
، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا
__________________
«ذٰلِكَ فَضْلُ
اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَاَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ
اَلْعَظِيمِ». أقول ما تسمعون ،
واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم. وهو حسبى ونعم الوكيل.
١٧٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله للبرج بن مسهر الطائى وقد قال له بحيث يسمعه :
«لا حكم إلا للّه» ، وكان من الخوارج
اسكت! قبّحك اللّه يا أثرم
فو اللّه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه ضئيلا شخصك ، خفيّا صوتك ، حتّى إذا نعر الباطل
نجمت نجوم قرن الماعز
١٨٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الّذى لا تدركه الشّواهد ، ولا
تحويه المشاهد ، ولا تراه النّواظر ، ولا تحجبه السّواتر ، الدّالّ على قدمه بحدوث
خلقه ، وبحدوث خلقه على
__________________
وجوده ، وباشتباههم
على أن لا شبه له ، الّذى صدق فى ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط فى
خلقه ، وعدل عليهم فى حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من
العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد ، دائم لا
بأمد ، وقائم لا
بعمد.
تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة ، وتشهد له المرائى لا بمحاضرة. لم تحط
به الأوهام بل تجلّى لها وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ليس بذى كبر امتدّت به النّهايات
فكبّرته تجسيما ، ولا بذى عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا ، وعظم
سلطانا.
وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الصّفىّ وأمينه
الرّضىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، أرسله بوجوب الحجج وظهور
الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلّغ الرّسالة
__________________
صادعا بها ، وحمل
على المحجّة دالاّ عليها ، وأقام أعلام الاهتداء ، ومنار الضّياء ، وجعل أمراس
الإسلام متينة
، وعرى الإيمان وثيقة.
منها
: فى صفة [عجيب] خلق أصناف من الحيوانات
:
ولو فكّروا فى عظيم القدرة ، وجسيم
النّعمة ، لرجعوا إلى الطّريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة ، والبصائر
مدخولة! ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له
السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر ؟
أنظروا إلى النّملة فى صغر جثّتها ، ولطافة
هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها ، وصبت
على رزقها! تنقل الحبّة إلى جحرها ، وتعدّها فى مستقرّها ، تجمع فى حرّها لبردها ،
وفى ورودها لصدرها
مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها
__________________
الدّيّان ، ولو فى
الصّفا اليابس ، والحجر الجامس
، ولو فكّرت فى مجارى أكلها ، فى علوها وسفلها ، وما فى الجوف من شراسيف بطنها وما فى الرّأس من عينها وأذنها ، لقضيت
من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الّذى أقامها على قوائمها ، وبناها
على دعائمها! لم يشركه فى فطرتها فاطر ، ولم يعنه فى خلقها قادر. ولو ضربت فى
مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلاّ على أنّ فاطر النّملة هو فاطر
النّخلة ، لدقيق تفصيل كلّ شىء
وغامض اختلاف كلّ حىّ!! وما الجليل واللّطيف ، والثّقيل والخفيف ، والقوىّ والضّعيف
، فى خلقه إلاّ سواء!! وكذلك السّماء والهواء ، والرّياح والماء.
فانظر إلى الشّمس والقمر ، والنّبات والشّجر
، والماء والحجر ، واختلاف هذا اللّيل والنّهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه
الجبال ، وطول هذه
__________________
القلال ، وتفرّق هذه اللّغات ، والألسن
المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر. زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم
زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع! ولم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء
من غير بان ، أو جناية من غير جان؟ وإن شئت قلت فى الجرادة إذ خلق لها عينين
حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين
، وجعل لها السّمع الخفىّ ، وفتح لها الفم السّوىّ ، وجعل لها الحسّ القوىّ ، ونابين
بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض يرهبها الزّرّاع فى
زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ، ولو أجلبوا بجمعهم
، حتّى ترد الحرث فى نزواتها وتقضى منه شهواتها! وخلقها
كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة فتبارك اللّه الّذى يسجد له من فى السّموات والأرض
طوعا وكرها ، ويعنو له خدّا ووجها ، ويلقى إليه بالطّاعة سلما وضعفا ، ويعطى له
القياد
__________________
رهبة وخوفا. فالطّير
مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الرّيش منها والنّفس ، وأرسى قوائمها على النّدىّ واليبس ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها :
فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا
نعام. دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها وعدّد قسمها ، فبل الأرض بعد جفوفها ،
وأخرج نبتها بعد جدوبها.
١٨١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من أصول
العلم ما لا تجمعه خطبة [غيرها] ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا
إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه . كلّ معروف بنفسه مصنوع ،
وكلّ
__________________
قائم فى سواه معلول
، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنىّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات
، ولا ترفده الأدوات
، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله.
بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ
له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النّور بالظّلمة ، والوضوح
بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصّرد .
مؤلّف بين متعادياتها مقارن بين
متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين
__________________
متدانياتها . لا يشمل بحدّ ولا يحسب بعدّ ، وإنّما
تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير [الآلات] إلى نظائرها ، منعتها منذ القدميّة ، وحمتها
قد الأزليّة ، وجنّبتها لو لا
التّكملة ، بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجرى عليه
السّكون والحركة وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه
ما هو أحدثه؟! إذا لتفاوتت ذاته
ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ولكان له وراء إذ وجد له أمام! ولالتمس
التّمام إذ لزمه النّقصان! وإذا
__________________
لقامت آية المصنوع
فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر
فيه ما يؤثّر فى غيره .
الّذى لا يحول ، ولا يزول ، ولا يجوز
عليه الأفول
، ولم يلد فيكون مولودا
ولم يولد فيصير محدودا . جلّ عن اتّخاذ
الأبناء ، وطهر عن ملامسة النّساء ، لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن
فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدى فتمسّه. لا يتغيّر بحال ،
ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه اللّيالى والأيّام ، ولا يغيّره الضّياء والظّلام
، ولا يوصف بشىء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء
، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيريّة والأبعاض. ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا
انقطاع ولا غاية.
ولا أنّ الأشياء تحويه ، فتقلّه أو
تهويه أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
__________________
وليس فى الأشياء
بوالج ولا عنها
بخارج. يخبر لا بلسان ولهوات
ويسمع لا بخروق وأدوات. يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ويريد ولا يضمر ، يحبّ ويرضى من غير
رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه «كن» فيكون! لا بصوت يقرع ، ولا
بنداء يسمع ، وإنّما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه أنشأه ، ومثله لم
يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه
الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل ولا له عليها فضل ، فيستوى
الصّانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع. خلق الخلائق على غير مثال خلا من
غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها
__________________
على غير قرار ، وأقامها
بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج ومنعها من التّهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ
أوديتها ، فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قوّاه.
هو الظّاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو
الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالى على كلّ شىء منها بجلاله وعزّته ، [و] لا
يعجزه شىء منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السّريع منها فيسبقه ، ولا
يحتاج إلى ذى مال فيرزقه.
خضعت الأشياء له ، وذلّت مستكينة لعظمته
، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرّه ، ولا كفء له فيكافيه
، ولا نظير له فيساويه ، هو المفنى لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
وليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها ، بأعجب
من إنشائها واختراعها! وكيف [و] لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما
كان من مراحها وسائمها
__________________
وأصناف أسناخها وأجناسها
ومتبلّدة
أممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السّبيل إلى
إيجادها ، ولتحيّرت عقولها فى علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة
حسيرة عارفة
بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضّعف عن إفنائها.
وإنّ اللّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء
الدّنيا وحده لا شىء معه : كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت
ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات [وزالت] والسّنون والسّاعات
، فلا شىء إلاّ الواحد القهّار الّذى إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان
ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها.
لم يتكاءده صنع شىء منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما خلقه وبرأه ، ولم
يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة
__________________
بها على ندّ مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور ، ولا
للازدياد بها فى ملكه ، ولا لمكاثرة شريك فى شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن
يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه فى تصريفها وتدبيرها
، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شىء منها عليه. لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى
سرعة إفنائها ، لكنّه ـ سبحانه ـ دبّرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ،
ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشىء منها عليها ، ولا
لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ،
ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة.
١٨٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
[يختص بذكر الملاحم]
ألا بأبى وأمّى هم من عدّة ، أسماؤهم فى
السّماء معروفة ، وفى الأرض مجهولة
ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم ، وانقطاع وصلكم ، واستعمال صغاركم.
__________________
ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن
أهون من الدّرهم من حله
، ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى
، ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النّعمة والنّعيم ، وتحلفون من غير اضطرار ، وتكذبون
من غير إحراج
، [و] ذلك اذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير ما
أطول هذا العناء ، وأبعد هذا الرّجاء.
أيّها النّاس ، ألقوا هذه الأزمّة الّتى
تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم ولا تصدّعوا على
سلطانكم فتذمّوا غبّ فعالكم ، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة ،
وأميطوا عن سننها
وخلّوا قصد السّبيل لها ، فقد ـ لعمرى ـ يهلك فى لهبها المؤمن ، ويسلم فيها غير
المسلم.
__________________
إنّما مثلى بينكم مثل السّراج فى
الظّلمة ليستضىء به من ولجها ، فاسمعوا أيّها النّاس وعوا ، وأحضروا آذان قلوبكم
تفهموا.
١٨٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أوصيكم ـ أيّها النّاس ـ بتقوى اللّه ،
وكثرة حمده على آلائه إليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم . فكم خصّكم بنعمة ، وتدارككم برحمة!
أعورتم له فستركم
، وتعرّضتم لأخذه فأمهلكم ، وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه ، وكيف غفلتكم
عمّا ليس يغفلكم
وطمعكم فيمن ليس يمهلكم؟! فكفى واعظا بموتى عاينتموهم ، حملوا إلى قبورهم غير
راكبين ، وأنزلوا فيها غير
نازلين! فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا ، وكأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا ، أوحشوا
ما كانوا يوطنون ، وأوطنوا ما كانوا
يوحشون ، واشتغلوا بما فارقوا وأضاعوا ما إليه انتقلوا ، لا عن قبيح
__________________
يستطيعون انتقالا ،
ولا فى حسنة يستطيعون ازديادا! أنسوا بالدّنيا فغرّتهم ووثقوا بها فصرعتهم.
فسابقوا ـ رحمكم اللّه ـ إلى منازلكم الّتى أمرتم أن تعمروها ، والّتى رغّبتم فيها
، ودعيتم إليها ، واستتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته ، والمجانبة
لمعصيته ، فإنّ غدا من اليوم قريب ، ما أسرع السّاعات فى اليوم ، وأسرع الأيّام فى
الشّهور ، وأسرع الشّهور فى السّنة ، وأسرع السّنين فى العمر!
١٨٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا فى
القلوب ، ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصّدور إلى أجل معلوم فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى
يحضره الموت
، فعند ذلك يقع حدّ البراءة. والهجرة قائمة على حدّها الأوّل . ما كان للّه فى أهل الأرض حاجة من مستسرّ
الأمّة
__________________
ومعلنها لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة
الحجّة فى الأرض ، فمن عرفها وأفرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من
بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه.
إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يحمله إلاّ
عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ، ولا يعى حديثنا إلاّ صدور أمينة ، وأحلام
رزينة .
أيّها النّاس ، سلونى قبل أن تفقدونى!
فلأنا بطرق السّماء أعلم منّى بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها
وتذهب
بأحلام قومها.
١٨٥ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أحمده شكرا لإنعامه ، وأستعينه على
وظائف حقوقه. عزيز الجند ، عظيم المجد. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله دعا إلى
طاعته ، وقاهر أعداءه جهادا على
__________________
دينه. لا يثنيه عن
ذلك اجتماع على تكذيبه ، والتماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا
وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ،
وبادروا الموت فى غمراته ، وامهدوا له قبل حلوله ، وأعدّوا له قبل نزوله ، فإنّ
الغاية القيامة وكفى بذلك واعظا لمن عقل ، ومعتبرا لمن جهل. وقبل بلوغ الغاية ما
تعلمون من ضيق الأرماس
، وشدّة الإبلاس ، وهول المطّلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الأضلاع ، واستكاك
الأسماع ، وظلمة اللّحد ، وخيفة الوعد ، وعمّ الضّريح ، وردم الصّفيح.
فاللّه اللّه عباد اللّه! ، فإنّ
الدّنيا ماضية بكم على سنن ، وأنتم والسّاعة فى قرن وكأنّها قد جاءت بأشراطها ، وأزفت
بأفراطها ، ووقفت بكم على
__________________
صراطها. وكأنّها قد
أشرفت بزلازلها ، وأناخت بكلاكلها
وانصرمت الدّنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، وصار
جديدها رثّا
وسمينها غثّا ، فى موقف ضنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ
زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخيف وعيدها ، غمّ قرارها ،
مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها «وَسِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
اَلْجَنَّةِ زُمَراً» قد أمن العذاب ، وانقطع
العتاب ، وزحزحوا عن النّار ، واطمأنّت بهم الدّار ، ورضوا المثوى والقرار ، الّذين
كانت أعمالهم فى الدّنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم فى دنياهم نهارا
تخشّعا واستغفارا ، وكان نهارهم ليلا توحّشا وانقطاعا فجعل
اللّه لهم الجنّة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا
__________________
أحقّ بها وأهلها ، فى
ملك دائم ، ونعيم قائم.
فارعوا ـ عباد اللّه ـ ما برعايته يفوز
فائزكم ، وبإضاعته يخسر مبطلكم.
وبادروا آجالكم بأعمالكم فإنّكم مرتهنون
بما أسلفتم ، ومدينون بما قدّمتم ، وكأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون ، ولا
عثرة تقالون.
استعملنا اللّه وإيّاكم بطاعته وطاعة
رسوله ، وعفا عنّا وعنكم بفضل رحمته ، الزموا الأرض واصبروا على البلاء ، ولا تحرّكوا بأيديكم
وسيوفكم فى هوى ألسنتكم ، ولا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم ، فإنّه من مات
منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا ووقع أجره
على اللّه ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، وقامت النّيّة مقام إصلاته لسيفه
، وإنّ لكلّ شىء مدّة وأجلا.
١٨٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الفاشى [فى الخلق] حمده ، والغالب
جنده ، والمتعالى جدّه
،
__________________
أحمده على نعمه
التّؤام
، وآلائه العظام ، الّذى عظم حلمه فعفا ، وعدل فى كلّ ما قضى ، وعلم ما يمضى وما
مضى ، مبتدع الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه بلا اقتداء ولا تعليم ، ولا احتذاء
لمثال صانع حكيم ، ولا إصابة خطإ ، ولا حضرة ملأ. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله
ابتعثه والنّاس يضربون فى غمرة
ويموجون فى حيرة. قد قادتهم أزمّة الحين ، واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين.
أوصيكم ـ عباد اللّه ـ بتقوى اللّه
فإنّها حقّ اللّه عليكم ، والموجبة على اللّه حقّكم ، وأن تستعينوا عليها باللّه وتستعينوا
بها على اللّه ، فإنّ التّقوى فى اليوم الحرز والجنّة ، وفى غد الطّريق إلى الجنّة
: مسلكها واضح ، وسالكها رابح ، ومستودعها حافظ ،
لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين
__________________
والغابرين لحاجتهم
إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدى. وأخذ ما أعطى. وسأل عمّا أسدى . فما أقلّ من قبلها وحملها حقّ حملها ،
أولئك الأقلّون عددا. وهم أهل صفة اللّه ـ سبحانه ـ إذ يقول : «وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ». فأهطعوا
بأسماعكم إليها
، وكظّوا بجدّكم عليها ، واعتاضوها من كلّ سلف خلفا ، ومن كلّ مخالف موافقا ، أيقظوا
بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، وأشعروا بها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم . وداووا بها الأسقام ، وبادروا بها الحمام
، واعتبروا بمن أضاعها ، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها . ألا
وصونوها وتصوّنوا بها . وكونوا عن الدّنيا
نزّاها ، وإلى الآخرة ولاّها ، ولا تضعوا من رفعته التّقوى ، ولا ترفعوا من رفعته
الدّنيا ، ولا تشيموا بارقها ولا تستمعوا ناطقها ،
ولا [تجيبوا] ناعقها ، ولا تستضيئوا بإشراقها ، ولا تفتنوا
__________________
بأعلاقها ، فإنّ
برقها خالب
ونطقها كاذب ، وأموالها محروبة ، وأعلاقها مسلوبة ، ألا وهى المتصدّية العنون والجامحة الحرون ، والمائنة الخؤون والجحود
الكنود ، والعنود الصّدود ، والحيود الميود : حالها انتقال ، ووطأتها زلزال ، وعزّها
ذلّ ، وجدّها هزل ، وعلوها سفل ، دار حرب وسلب
ونهب وعطب ، أهلها على ساق وسياق ، ولحاق وفراق
__________________
قد تحيّرت مذاهبها ،
وأعجزت مهاربها .
وخابت مطالبها ، فأسلمتهم المعاقل ، ولفظتهم المنازل ، وأعيتهم المحاول فمن ناج معقور ، ولحم مجزور ، وشلو مذبوح ، ودم مسفوح
، وعاضّ على يديه ، وصافق بكفّيه ، ومرتفق بخدّيه ،
وزار على رأيه ، وراجع عن عزمه ، وقد أدبرت الحيلة ، وأقبلت الغيلة ولات
حين مناص ، هيهات [هيهات]!! قد فات ما فات ، وذهب ما ذهب ، ومضت الدّنيا لحال
بالها «فَمٰا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ اَلسَّمٰاءُ وَاَلْأَرْضُ وَمٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ»
__________________
١٨٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
تسمى القاصعة
وهى تتضمن ذم إبليس [لعنه اللّه] على
استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام وأنه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية ، وتحذير الناس من سلوك
طريقته الحمد للّه الّذى لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما
حمى وحرما على غيره
، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثمّ اختبر بذلك
ملائكته المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه وهو العالم
بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب. «إِنِّي
خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ»
__________________
اعترضته الحميّة
فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ اللّه إمام المتعصّبين ، وسلف
المستكبرين ، الّذى وضع أساس العصبيّة ، ونازع اللّه رداء الجبريّة ، وادّرع لباس
التّعزّز ، وخلع قناع التّذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره؟ ووضعه اللّه
بترفّعه؟ فجعله فى الدّنيا مدحورا ، وأعدّ له فى الآخرة سعيرا.
ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف
الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه
، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه ، لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت
البلوى فيه على الملائكة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله
تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم.
فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس ،
إذ أحبط عمله الطّويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى
أمن سنى الدّنيا أم سنى الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة فمن [ذا] بعد إبليس يسلم على اللّه
بمثل معصيته ؟
كلاّ! ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها
__________________
ملكا ، إنّ حكمه فى
أهل السّماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة فى إباحة
حمى حرّمه على العالمين
فاحذروا عباد اللّه [عدوّ اللّه] أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب
عليكم بخيله ورجله ، فلعمرى لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنّزع الشّديد ، ورماكم من مكان قريب وقال
: «رَبِّ
بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ» قذفا بغيب بعيد ،
ورجما بظنّ مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة
وإخوان العصبيّة ، وفرسان الكبر والجاهليّة ، حتّى إذا انقادت له الجامحة منكم ،
__________________
واستحكمت الطّماعية
منه فيكم ، فنجمت الحال من السّرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ ، استفحل سلطانه عليكم
، ودلف بجنوده نحوكم ، فأقحموكم ولجات الذّلّ ، وأحلّوكم ورطات القتل ، وأوطأوكم
إثخان الجراحة : طعنا فى عيونكم وحزّا فى حلوقكم ، ودقّا لمناخركم ، وقصدا
لمقاتلكم ، وسوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة [لكم] فأصبح أعظم فى دينكم جرحا
وأورى فى
دنياكم قدحا ، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألّبين ، فاجعلوا عليه
حدّكم وله جدّكم!
فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم ، ووقع فى حسبكم ، ودفع فى نسبكم ، وأجلب بخيله
عليكم ، وقصد برجله سبيلكم : يقتنصونكم بكلّ مكان ، ويضربون منكم كلّ بنان لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة
__________________
فى حومة ذلّ ، وحلقة
ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء. فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة ، وأحقاد
الجاهليّة ، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشّيطان ونخواته ، ونزغاته
ونفثاته
واعتمدوا وضع التّذلّل على رءوسكم ، وإلقاء التّعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التّكبّر
من أعناقكم ، واتّخذوا التّواضع مسلحة
بينكم وبين عدوّكم : إبليس وجنوده فإنّ له من كلّ أمّة جنودا وأعوانا ، ورجلا وفرسانا.
ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت
العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة فى قلبه من نار الغضب ، ونفخ
الشّيطان فى أنفه من ريح الكبر الّذى أعقبه اللّه به النّدامة ، وألزمه آثام
القاتلين إلى يوم القيامة.
ألا وقد أمعنتم فى البغى ، وأفسدتم فى الأرض ، مصارحة للّه
بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة! فاللّه اللّه فى كبر الحميّة ، وفخر
الجاهليّة ، فانّه ملاقح الشّنآن ، ومنافخ الشّيطان ،
الّتى خدع بها الأمم الماضية ، والقرون الخالية ،
__________________
حتّى أعنقوا فى
حنادس جهالته !
ومهاوى ضلالته ، ذللا على سياقه سلسا فى قياده ، أمرا تشابهت القلوب فيه ، وتتابعت
القرون عليه ، وكبرا تضايقت الصّدور به ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم
الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم ، وجاحدوا اللّه على ما صنع بهم ، مكابرة
لقضائه ، ومغالبة لآلائه !!
فإنّهم قواعد أساس العصبيّة ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهليّة ،
فاتّقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ، ولا لفضله عندكم حسّادا! ولا
تطيعوا
__________________
الأدعياء الّذين
شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم
وأدخلتم فى حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا
ضلال ، وجندا بهم يصول على النّاس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم ، ودخولا
فى عيونكم ، ونفثا فى أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطىء قدمه ، ومأخذ يده. فاعتبروا
بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ، ووقائعه ومثلاته ، واتّعظوا بمثاوى خدودهم ،
ومصارع جنوبهم. واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر كما
تستعيذون [به] من طوارق الدّهر ، فلو رخّص اللّه فى الكبر لأحد من
__________________
عباده لرخّص فيه
لخاصّة أنبيائه [وأوليائه] ، ولكنّه ـ سبحانه ـ كرّه إليهم التّكابر ، ورضى لهم
التّواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا فى التّراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم
للمؤمنين ، وكانوا أقواما مستضعفين وقد اختبرهم اللّه بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم
بالمخاوف ، ومخضهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرّضا والسّخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة ، والاختبار فى
مواضع الغنى والاقتدار ، وقد قال سبحانه وتعالى «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مٰالٍ وَبَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ
لاٰ يَشْعُرُونَ» فإنّ اللّه ـ سبحانه
ـ يختبر عباده المستكبرين فى أنفسهم ، بأوليائه المستضعفين فى أعينهم ولقد دخل
موسى بن عمران ومعه أخوه هارون ، عليهما السّلام ، على فرعون وعليهما مدارع الصّوف
وبأيديهما العصىّ فشرطا له إن أسلم بقاء
__________________
ملكه ودوام عزّه
فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لى دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من
حال الفقر والذّلّ ، فهلاّ ألقى عليهما أساور من ذهب؟!» إعظاما للذّهب وجمعه ، واحتقارا
للصّوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان
ومعادن
العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طير السّماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل
لسقط البلاء
وبطل الجزاء ، واضمحلّت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ
المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها ولكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولى قوّة
فى عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى
، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى
__________________
ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزّة
لا تضام ، وملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال ، وتشدّ إليه عقد الرّحال ، لكان ذلك
أهون على الخلق فى الاعتبار
، وأبعد لهم فى الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت
النّيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ أراد أن يكون
الاتّباع لرسله ، والتّصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام
لطاعته ، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة وكلّما كانت البلوى والاختبار
أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل.
أ لا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر
الأوّلين من لدن آدم ، صلوات اللّه عليه ، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا
تضرّ ولا تنفع ،
ولا تسمع ولا تبصر.
فجعلها بيته الحرام الّذى جعله للنّاس
قياما ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض
__________________
حجرا ، وأقلّ نتائق
الأرض مدرا. وأضيق بطون الأودية قطرا : بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو
بها خفّ ، ولا حافر ولا ظلف .
ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه
، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم. تهوى إليه ثمار الأفئدة من
مفاوز قفار سحيقة. ومهاوى فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتّى يهزّوا مناكبهم
ذللا يهلّلون للّه حوله ، ويرملون على
أقدامهم شعثا غبرا له ، قد
__________________
نبذوا السّرابيل
وراء ظهورهم
، وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما ، وامتحانا شديدا ، واختبارا
مبينا ، وتمحيصا بليغا ، جعله اللّه سببا لرحمته ، ووصلة إلى جنّته. ولو أراد ـ سبحانه
ـ أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، دانى الثّمار ، ملتفّ
البنى ، متّصل القوى ، بين برّة سمراء
، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد
صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ، ولو كان الإساس المحمول عليها ،
والأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك
مسارعة الشّكّ فى الصّدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من
النّاس ، ولكنّ اللّه يختبر
عباده بأنواع
__________________
الشّدائد ، ويتعبّدهم
بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم ، وإسكانا
للتّذلّل فى نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه.
فاللّه اللّه فى عاجل البغى ، وآجل
وخامة الظّلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنّها مصيدة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، الّتى
تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة
، فما تكدى أبدا
، ولا تشوى أحدا : لا عالما لعلمه ، ولا مقلاّ فى طمره ،
وعن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات والزّكوات
، ومجاهدة الصّيام فى الأيّام المفروضات ، تسكينا لأطرافهم ،
__________________
وتخشيعا لأبصارهم ،
وتذليلا لنفوسهم ، وتخفيضا لقلوبهم ، وإذهابا للخيلاء عنهم ، لما فى ذلك من تعفير
عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا
، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا ، ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا
، مع ما فى الزّكاة من صرف ثمرات الأرض ، وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر . انظروا إلى ما فى هذه الأفعال من قمع
نواجم الفخر
وقدع طوالع الكبر ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشىء من الأشياء
إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء ، غيركم ،
فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب ولا علّة : أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله
، وطعن عليه فى خلقته. فقال : (أنا نارىّ وأنت طينىّ) وأمّا
__________________
الأغنياء من مترفة
الأمم فتعصّبوا
لآثار مواقع النّعم ، فقالوا : «نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَأَوْلاٰداً وَمٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»
فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن
الأمور الّتى تفاضلت فيها المجداء والنّجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرّغيبة ، والأحلام العظيمة
، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد : من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذّمام ، والطّاعة للبرّ ،
والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكفّ عن البغى ، والإعظام للقتل ، والإنصاف
للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد فى الأرض واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من
المثلات بسوء الأفعال ، وذميم
الأعمال ، فتذكّروا فى الخير والشّرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم
__________________
فإذا تفكّرتم فى تفاوت حاليهم ، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به
شأنهم وزاحت
الأعداء له عنهم ، ومدّت العافية فيه عليهم ، وانقادت النّعمة له معهم ، ووصلت
الكرامة عليه حبلهم : من الاجتناب للفرقة
واللّزوم للألفة ، والتّحاضّ عليها ، والتّواصى بها ، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم
وأوهن منّتهم : من تضاغن القلوب ، وتشاحن
الصّدور ، وتدابر النّفوس ، وتخاذل الأيدى ، وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين
قبلكم : كيف كانوا فى حال التّمحيص والبلاء ؟ ألم يكونوا أثقل
الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدّنيا حالا؟ اتّخذتهم الفراعنة
عبيدا ، فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار فلم تبرح الحال بهم
فى ذلّ الهلكة ، وقهر
__________________
الغلبة : لا يجدون
حيلة فى امتناع ، ولا سبيلا إلى دفاع ، حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على
الأذى فى محبّته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا : فأبدلهم
العزّ مكان الذّلّ ، والأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكّاما ، وأئمّة أعلاما ، و
[قد] بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم فانظروا كيف كانوا حيث
كانت الأملاء مجتمعة
، والأهواء متّفقة ، والقلوب معتدلة ، والأيدى مترادفة ، والسّيوف متناصرة ، والبصائر
نافذة والعزائم واجدة؟! ألم يكونوا أربابا فى أقطار الأرضين وملوكا على رقاب العالمين؟؟ فانظروا
إلى ما صاروا إليه فى آخر أمورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتّتت الألفة ، واختلفت
الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع اللّه عنهم لباس
كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته
وبقى قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين [منكم] واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبنى
إسحاق وبنى إسرائيل ـ عليهم السّلام ـ
__________________
فما أشدّ اعتدال
الأحوال
، وأقرب اشتباه الأمثال!!!
تأمّلوا أمرهم فى حال تشتّتهم ونفرّقهم
، ليالى كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق ، وخضرة الدّنيا ، إلى
منابت الشّيح ، ومهافى الرّيح
ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر أذلّ
الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها ولا
إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدى مختلفة ، والكثرة
متفرّقة. فى بلاء أزل وأطباق جهل من بنات
موءودة
وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة
__________________
فانظروا إلى مواقع
نعم اللّه عليهم ، حين بعث إليهم رسولا
فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفنهم ، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح
كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفّت الملّة بهم فى عوائد بركتها ، فأصبحوا فى نعمتها غرقين ، وفى خضرة
عيشها فكهين ؟!
قد تربّعت الأمور بهم فى ظلّ سلطان قاهر ،
وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب ، وتعطّفت الأمور عليهم فى ذرى ملك ثابت ، فهم
حكّام على العالمين ، وملوك فى أطراف الأرضين : يملكون الأمور على من كان يملكها
عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة ،
ولا تقرع لهم صفاة!! ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة ، وثلمتم حصن
اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة ، وإنّ اللّه ـ سبحانه
ـ قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة
__________________
فيما عقد بينهم من
حبل هذه الألفة : الّتى ينتقلون فى ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ـ بنعمة لا يعرف أحد
من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.
واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلّقون
من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه!! تقولون «النّار ولا
العار» ، كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا
لميثاقه
الّذى وضعه اللّه لكم حرما فى أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره
حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلاّ
المقارعة بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم.
وانّ عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه
، وأيّامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه ، وتهاونا ببطشه ، ويأسا من
بأسه ، فانّ اللّه ـ سبحانه ـ لم يلعن القرن الماضى بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر
بالمعروف والنّهى عن
__________________
المنكر ، فلعن اللّه
السّفهاء لركوب المعاصى ، والحلماء لترك التّناهى ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم
حدوده ، وأمتّم أحكامه ، ألا وقد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى والنّكث والفساد فى الأرض : فأمّا النّاكثون
فقد قاتلت ، وأمّا القاسطون فقد جاهدت
، وأمّا المارقة فقد دوّخت ، وأمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة
قلبه ، ورجّة صدره
وبقيت بقيّة من أهل البغى ، ولئن أذن اللّه فى الكرّة عليهم لأديلنّ منهم إلاّ
ما يتشذّر فى أطراف البلاد تشذّرا.
أنا وضعت فى الصّغر بكلاكل العرب ،
وكسرت نواجم القرون ربيعة
__________________
ومضر ، وقد علمتم
موضعى من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بالقرابة القريبة والمنزلة
الخصيصة ، وضعنى فى حجره وأنا ولد يضمّنى إلى صدره ، ويكنفنى فى فراشه ، ويمسّنى
جسده ، ويشمّنى عرفه
، وكان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة فى فعل ، ولقد قرن اللّه به ، صلّى اللّه عليه
وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن
أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرنى
بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء ،
فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحى والرّسالة ، وأشمّ ريح
النّبوّة ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحى عليه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم
، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الرّنّة؟ فقال : «هذا الشّيطان أيس من عبادته ،
__________________
إنّك تسمع ما أسمع ،
وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير». ولقد كنت معه
، صلّى اللّه عليه وآله ، لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمّد ، إنّك
قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن [أنت] أجبتنا
إليه وأريتناه علمنا أنّك نبىّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال
صلّى اللّه عليه وآله :
وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه
الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ
اللّه على كلّ شىء قدير ، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم
، قال : فإنّى سأريكم ما تطلبون ، وإنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح فى القليب ، ومن يحزّب الأحزاب ، ثمّ قال صلّى
اللّه عليه وآله : يا أيّتها الشّجرة ، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين
أنّى رسول اللّه فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ بإذن اللّه. والّذى بعثه
بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوىّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطّير ، حتّى وقفت
__________________
بين يدى رسول اللّه
، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه ، صلّى
اللّه عليه وآله وسلم ، وببعض أغصانها على منكبى وكنت عن يمينه صلّى اللّه عليه وآله
وسلم ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى
نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّا ، فكادت تلتفّ
برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقالوا كفرا وعتوّا : فمر هذا النّصف
فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فرجع فقلت أنا : لا
إله إلاّ اللّه ، فإنّى أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة
فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلّهم
: بل ساحر كذّاب! عجيب السّحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك فى أمرك إلاّ مثل هذا؟! (يعنوننى)
وإنّى لمن قوم لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصّدّيقين ، وكلامهم
كلام الأبرار ، عمّار اللّيل ومنار النّهار
، متمسّكون بحبل القرآن ، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ولا
يغلّون
، ولا يفسدون : قلوبهم فى الجنان ، وأجسادهم فى العمل
__________________
١٩١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه
السلام ـ يقال له : همام ـ كان رجلا عابدا ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى
المتقين حتى كأنى أنظر إليهم! فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همّام
اتّق اللّه وأحسن ف «إِنَّ
اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»
فلم يقنع همام بهذا بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على
النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم قال :
أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى
خلق الخلق ـ حين خلقهم ـ غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه
معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من
الدّنيا مواضعهم ، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصّواب ، وملبسهم
الاقتصاد
، ومشيهم التّواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم ، ووقفوا أسماعهم على
العلم النّافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم فى البلاء كالّتى نزّلت فى الرّخاء ، ولو لا الأجل الّذى
__________________
كتب عليهم لم تستقرّ
أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق فى
أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون ، وهم والنّار كمن قد
رآها ، فهم فيها معذّبون : قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا
أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.
تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدّنيا
فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين
لأجزاء القرآن : يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم ،
فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا
أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا
أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى أصول آذانهم ، فهم حانون على
أوساطهم ، مفترشون
__________________
لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم
، يطّلبون إلى اللّه تعالى فى فكاك رقابهم. وأمّا النّهار فحلماء علماء ، أبرار
أتقياء ، قد براهم الخوف برى القداح
ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم : لا يرضون من
أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون
، إذا زكّى
أحدهم خاف ممّا يقال له! فيقول : أنا أعلم بنفسى من
غيرى ، وربّى أعلم بى منّى بنفسى. اللّهمّ لا تؤاخذنى بما يقولون ، واجعلنى أفضل
ممّا يظنّون ، واغفر لى ما لا يعلمون.
فمن علامة أحدهم : أنّك ترى له قوّة فى
دين ، وحزما فى لين ، وإيمانا فى يقين ، وحرصا فى علم ، وعلما فى حلم ، وقصدا فى
غنى ، وخشوعا فى عبادة ،
__________________
وتجمّلا فى فاقة ، وصبرا
فى شدّة ، وطلبا فى جلال ، ونشاطا فى هدى ، وتحرّجا عن طمع ، يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجل ،
يمسى وهمّه الشّكر ويصبح وهمّه الذّكر ، يبيت حذرا ، ويصبح فرحا : حذرا لما حذر من
الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ ، قرّة عينه
فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى
، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه
، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ،
ميتة شهوته ، مكظوما غيظه ، الخير منه مأمول ، والشّرّ منه مأمون ، إن كان فى
الغافلين كتب فى الذّاكرين ، وإن كان فى الذّاكرين لم يكتب من الغافلين ،
يعفو عمّن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه ،
ليّنا قوله ، غائبا منكره ،
__________________
حاضرا معروفه ، مقبلا
خيره ، مدبرا شرّه ، فى الزّلازل وقور
، وفى المكاره صبور ، وفى الرّخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن
يحبّ يعترف
بالحقّ قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز
بالألقاب
، ولا يضارّ بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل فى الباطل ، ولا يخرج من
الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغى عليه صبر حتّى يكون
اللّه هو الّذى ينتقم له. نفسه منه فى عناء ، والنّاس منه فى راحة. أتعب نفسه
لآخرته ، وأراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوّه ممّن دنا
منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوّه بمكر وخدعة قال : فصعق همام
صعقة كانت نفسه فيها ، فقال أمير
المؤمنين عليه السلام :
أما واللّه لقد كنت أخافها عليه! ثمّ
قال : أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟
__________________
فقال له قائل : فما
بالك يا أمير المؤمنين
فقال : ويحك! إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه ، وسببا لا يتجاوزه ، فمهلا لا تعد
لمثلها ، فإنّما نفث الشّيطان على لسانك!!
١٨٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
يصف فيها المنافقين
نحمده على ما وفّق له من الطّاعة ، وذاد
عنه من المعصية
، ونسأله لمنّته تماما ، وبحبله اعتصاما ، ونشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله : خاض إلى
رضوان اللّه كلّ غمرة
، وتجرّع فيه كلّ غصّة ، وقد تلوّن له الأدنون ، وتألّب عليه
الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنّتها وضربت لمحاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته
عدوانها : من أبعد الدّار ، وأسحق المزار
__________________
أوصيكم ، عباد اللّه
بتقوى اللّه ، وأحذّركم أهل النّفاق ، فإنّهم الضّالّون المضلّون ، والزّالّون
المزلّون
: يتلوّنون ألوانا ، ويفتنّون افتتانا
، ويعمدونكم بكلّ عماد ، ويرصدونكم بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة ، وصفاحهم نقيّة ، [و] يمشون الخفاء ،
ويدبّون الضّرّاء. وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العياء ،
حسدة الرّخاء ، ومؤكّدو البلاء ،
ومقنطو الرّجاء ، لهم بكلّ طريق صريع
، وإلى كلّ قلب شفيع ، ولكلّ شجو دموع
يتقارضون
__________________
الثّناء ، ويتراقبون الجزاء : إن سألوا ألحفوا ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا.
قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا ، ولكلّ حىّ قاتلا ، ولكلّ باب
مفتاحا ، ولكلّ ليل مصباحا : يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا
به أعلاقهم
: يقولون فيشبّهون ، ويصفون فيوهّمون ،
قد هوّنوا الطّريق ، وأضلعوا المضيق :
فهمّ لمّة الشّيطان ،
وحمة النّيران «أُولٰئِكَ
حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ
اَلْخٰاسِرُونَ»
__________________
١٩٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الّذى أظهر من آثار سلطانه ،
وجلال كبريائه ، ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته ، وردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان
كنه صفته .
وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة إيمان
وإيقان ، وإخلاص وإذعان. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة ،
ومناهج الدّين طامسة
، فصدع بالحقّ ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرّشد ، وأمر بالقصد ، صلّى اللّه عليه وآله
[وسلم].
واعلموا ، عباد اللّه ، أنّه لم يخلقكم
عبثا ، ولم يرسلكم هملا. علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم ، فاستفتحوه ،
واستنجحوه ، واطلبوا إليه واستمنحوه
، فما قطعكم عنه حجاب ، ولا أغلق عنكم دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفى كلّ حين
وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ، لا يثلمه العطاء
،
__________________
ولا ينقصه الحباء ،
ولا يستنفده سائل ، ولا يستقصيه نائل ، ولا يلويه شخص عن شخص ، ولا يلهيه صوت عن
صوت ، ولا تحجزه هبة عن سلب ، ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه رحمة عن عقاب ، ولا
يجنّه البطون عن الظّهور ، ولا يقطعه الظّهور عن البطون. قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر
فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن
، لم يذرإ الخلق باحتيال
، ولا استعان بهم لكلال.
أوصيكم ، عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، فإنّها
الزّمام والقوام
، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة وأوطان
السّعة ، ومعاقل
__________________
الحرز ، ومنازل
العزّ ، فى يوم تشخص فيه الأبصار ، وتظلم الأقطار ، وتعطّل فيه صروم العشار ، وينفخ فى الصّور ، فتزهق كلّ مهجة ،
وتبكم كلّ لهجة ، وتذلّ الشّمّ الشّوامخ
، والصّمّ الرّواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقرقا
ومعهدها قاعا سملقا ، فلا شفيع [يشفع] ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة تنفع
١٩١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
بعثه حين لا علم قائم ،
ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح : أوصيكم عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، وأحذّركم
الدّنيا ، فإنّها دار شخوص ومحلّة تنغيص ،
__________________
ساكنها ظاعن ، وقاطنها
بائن ، تميد
بأهلها ميدان السّفينة تقصفها العواصف فى لجج البحار ، فمنهم الغرق الوبق ، ومنهم النّاجى على بطون الأمواج ، تحفزه
الرّياح بأذيالها ، وتحمله على أهوالها ، فما غرق منها فليس بمستدرك ، وما نجا
منها فإلى مهلك!! عباد اللّه ، الآن فاعملوا ، والألسن مطلقة ، والأبدان صحيحة ، والأعضاء
لدنة ، والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، قبل إرهاق
الفوت ، وحلول الموت ، فحقّقوا عليكم نزوله ، ولا
تنتظروا قدومه!
١٩٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد ، صلّى
اللّه عليه وآله وسلم ، أنّى
__________________
لم أردّ على اللّه ولا
على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسى فى المواطن الّتى تنكص فيها الأبطال ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمنى
اللّه بها
ولقد قبض رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ رأسه لعلى صدرى ، ولقد
سالت نفسه فى كفّى ، فأمررتها على وجهى
، ولقد ولّيت غسله ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والملائكة أعوانى ، فضجّت
الدّار والأفنية ، ملأ يهبط وملأ
يعرج ، وما فارقت سمعى هينمة منهم يصلّون عليه حتّى
واريناه فى ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّى حيّا وميّتا؟! فانفذوا على بصائركم ،
ولتصدق نيّاتكم فى جهاد عدوّكم. فو الّذى لا إله إلاّ هو إنّى لعلى جادّة الحقّ ،
__________________
وإنّهم لعلى مزلّة
الباطل
، أقول ما تسمعون ، وأستغفر اللّه لى ولكم.
١٩٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
يعلم عجيج الوحوش فى الفلوات ، ومعاصى
العباد فى الخلوات ، واختلاف النّينان فى البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرّياح العاصفات. وأشهد
أنّ محمّدا نجيب اللّه
، وسفير وحيه ، ورسول رحمته.
أمّا بعد ، فأوصيكم بتقوى اللّه الّذى
ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه
قصد سبيلكم ، وإليه مرامى مفزعكم ، فانّ تقوى اللّه
دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور
دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم ،
وضياء سواد ظلمتكم ، فاجعلوا طاعة
__________________
اللّه شعارا دون
دثاركم
، ودخيلا دون شعاركم ، ولطيفا بين أضلاعكم ، وأميرا فوق أموركم ، ومنهلا لحين
ورودكم
، وشفيعا لدرك طلبتكم ، وجنّة ليوم فزعكم ، ومصابيح لبطون قبوركم ، وسكنا لطول
وحشتكم ، ونفسا لكرب مواطنكم ، فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة ، ومخاوف
متوقّعة ، وأوار نيران موقدة .
فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها ،
واحلولت له الأمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له
الصّعاب بعد إنصابها ، وهطلت عليه
الكرامة بعد قحوطها ، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها ،
وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها
__________________
فاتّقوا اللّه الّذى
نفعكم بموعظته ، ووعظكم برسالته ، وامتنّ عليكم بنعمته ، فعبّدوا أنفسكم لعبادته ، واخرجوا إليه من حقّ طاعته.
ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذى
اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه
خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته ، أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ،
وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه بنصره
، وهدم أركان الضّلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض لمواتحه ،
ثمّ جعله لا انفصام لعروته ، ولا فكّ لحلقته ، ولا انهدام لأساسه ، ولا زوال
لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدّته ، ولا عفاء لشرائعه ،
__________________
ولا جذّ لفروعه ، ولا
ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لانتصابه ، ولا عصل فى
عوده ، ولا وعث لفجّه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ
فى الحقّ أسناخها
، وثبّت لها أسسها ، وينابيع غزرت عيونها ، ومصابيح شبّت نيرانها ، ومنار اقتدى
بها سفّارها
، وأعلام قصد بها فجاجها ، ومناهل روى بها ورّادها : جعل اللّه فيه منتهى رضوانه ،
وذروة دعائمه ، وسنام طاعته ، فهو عند اللّه وثيق الأركان ، رفيع البنيان ، منير
البرهان ، مضىء النّيران ، عزيز السّلطان ، مشرف المنار ، معوز المثار ، فشرّفوه ، واتّبعوه ،
وأدّوا إليه حقّه ، وضعوه مواضيعه ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله
وسلم ، بالحقّ حين دنا من الدّنيا
__________________
الانقطاع ، وأقبل من
الآخرة الاطّلاع .
وأظلمت بهجتها بعد إشراق
وقامت بأهلها على ساق ، وخشن منها مهاد ، وأزف منها قياد ، فى انقطاع من مدّتها ،
واقتراب من أشراطها
، وتصرّم من أهلها ، وانفصام من حلقتها ، وانتشار من سببها ، وعفاء من أعلامها ، وتكشّف
من عوراتها ، وقصر من طولها. جعله اللّه بلاغا لرسالته ، وكرامة لأمّته ، وربيعا
لأهل زمانه ، ورفعة لأعوانه ، وشرفا لأنصاره ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ
مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك
قعره ، ومنهاجا لا يضلّ نهجه ، وشعاعا لا يظلم
ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ،
__________________
وعزّا لا تهزم
أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل
وغدرانه
، وأثافىّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه . وبحر لا ينزفه المنتزفون ،
وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها
المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السّائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون
، جعله اللّه ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصّلحاء ،
ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا
__________________
ذروته ، وعزا لمن
تولاّه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن
تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله
، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم
، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى.
١٩٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
كان يوصى به أصحابه
تعاهدوا أمر الصّلاة ، وحافظوا عليها ،
واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، ألا
تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا : «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا
لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ»
وإنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق
وتطلقها إطلاق الرّبق ، وشبّهها رسول
اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم بالحمّة تكون على باب الرّجل
فهو يغتسل منها
__________________
فى اليوم واللّيلة
خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن؟! وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين
الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرّة عين من ولد ولا مال. يقول اللّه
سبحانه : «رِجٰالٌ
لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اَللّٰهِ وَإِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَإِيتٰاءِ
اَلزَّكٰاةِ». وكان رسول اللّه
، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نصبا بالصّلاة
بعد التّبشير له بالجنّة ، لقول اللّه سبحانه : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَاِصْطَبِرْ
عَلَيْهٰا» فكان يأمر أهله ،
ويصبر عليها نفسه.
ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا
لأهل الاسلام ، فمن أعطاها ، طيّب النّفس بها ، فانّها تجعل له كفّارة ، ومن
النّار حجازا ووقاية. فلا يتبعنّها أحد نفسه
، ولا يكثرنّ عليها لهفه ، فانّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو
أفضل منها فهو جاهل بالسّنّة ، مغبون الأجر ، ضالّ العمل ، طويل النّدم.
ثمّ أداء الأمانة ، فقد خاب من ليس من
أهلها ، إنّها عرضت على السّموات
__________________
المبنيّة ، والأرضين
المدحوّة
، والجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ، ولو
امتنع شىء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة ، وعقلن ما
جهل من هو أضعف منهنّ وهو الإنسان «إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً»
إنّ اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخفى عليه ما العباد مقترفون فى ليلهم ونهارهم لطف به خبرا ، وأحاط به علما ، أعضاؤكم
شهوده ، وجوارحكم جنوده ، وضمائركم عيونه ، وخلواتكم عيانه.
١٩٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
واللّه ما معاوية بأدهى منّى ، ولكنّه
يغدر ويفجر ، ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ
فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، واللّه ما أستغفل بالمكيدة ، ولا
أستغمز بالشّديدة
،
__________________
١٩٦ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
أيّها النّاس ، لا تستوحشوا فى طريق
الهدى لقلّة أهله ، فانّ النّاس [قد] اجتمعوا على مائدة شبعها قصير ، وجوعها طويل!! أيّها النّاس ، إنّما
يجمع النّاس الرّضا والسّخط
، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا ، فقال
سبحانه : «فَعَقَرُوهٰا
فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ»
فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة
خوار السّكّة المحماة فى الأرض الخوّارة.
أيّها النّاس ، من سلك الطّريق الواضح
ورد الماء ، ومن خالف وقع فى التّيه
١٩٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
[روى عنه أنه قاله] عند دفن سيدة النساء
فاطمة عليها السلام [كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند قبره] السّلام
عليك يا رسول اللّه عنّى وعن ابنتك النّازلة فى جوارك ، والسّريعة
__________________
اللّحاق بك ، قلّ ، يا
رسول اللّه عن صفيّتك صبرى ، ورقّ عنها تجلّدى ، إلاّ أنّ لى فى التّأسّى بعظيم
فرقتك ، وفادح
مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك فى ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ، إنّا
للّه وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أما حزنى فسرمد
، وأمّا ليلى فمسهّد
إلى أن يختار اللّه لى دارك الّتى أنت بها مقيم ، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على
هضمها ، فأحفها
السّؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، والسّلام
عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم فان أنصرف فلا عن
ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصّابرين
__________________
١٩٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
أيّها النّاس ، إنّما الدّنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرّكم
لمقرّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدّنيا قلوبكم من
قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم ، إنّ المرء إذا هلك
قال النّاس : ما ترك؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟ للّه آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن
لكم ، ولا تخلّفوا كلاّ فيكون عليكم
١٩٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
كان كثيرا [ما] ينادى به أصحابه
تجهّزوا ، رحمكم اللّه ، فقد نودى فيكم
بالرّحيل ، وأقلّوا العرجة على الدّنيا
وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد ، فإنّ أمامكم عقبة كؤودا ، ومنازل مخوفة
مهولة ، لا بدّ من الورود عليها ، والوقوف عندها. واعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم
دانية ، وكأنّكم
بمخالبها وقد نشبت فيكم ، وقد دهمتكم
__________________
فيها مفظعات الأمور
، ومعضلات المحذور ، فقطّعوا علائق الدّنيا ، واستظهروا بزاد التّقوى وقد مضى شىء من هذا الكلام فيما تقدم ،
بخلاف هذه الرواية
٢٠٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة
وقد عتبا [عليه] من ترك مشورتهما ، والاستعانة فى الأمور بهما لقد نقمتما يسيرا ، وأرجأتما كثيرا ، ألا تخبرانى أىّ
شىء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ وأىّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أىّ حقّ رفعه إلىّ
أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه؟
واللّه ما كانت لى فى الخلافة رغبة ، ولا
فى الولاية إربة
، ولكنّكم دعوتمونى إليها ، وحملتمونى عليها ، فلمّا أفضت إلىّ نظرت إلى كتاب
اللّه وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به ، فاتّبعته ، وما استنّ النّبىّ ، صلّى
اللّه عليه وآله ، وسلّم فاقتديته. فلم أحتج فى ذلك إلى رأيكما ، ولا رأى غيركما ،
ولا وقع حكم جهلته ، فأستشيركما وإخوانى المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ، ولا
عن
__________________
غيركما. وأمّا ما
ذكرتما من أمر الأسوة
، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيى ، ولا ولّيته هوى منّى ، بل وجدت أنا وأنتما
ما جاء به رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قد فرغ منه فلم أحتج إليكما
فيما قد فرغ اللّه من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما ، واللّه ، عندى ولا
لغيركما فى هذا عتبى. أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ ، وألهمنا وإيّاكم
الصّبر ثم قال عليه السلام : رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه ، أو رأى جورا
فردّه ، وكان عونا بالحقّ على صاحبه.
٢٠١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام
أيام حربهم بصفين إنّى أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم
حالهم ، كان أصوب فى القول ، وأبلغ فى العذر ، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم :
اللّهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات
بيننا وبينهم ، وأهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ من جهله ، ويرعوى عن الغىّ والعدوان
من لهج به
__________________
٢٠٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى بعض أيام صفين وقد رأى الحسن [ابنه] عليه
السلام يتسرع إلى الحرب املكوا عنّى هذا الغلام لا يهدّنى فإنّنى أنفس بهذين (يعنى الحسن والحسين
عليهما السلام) على الموت ، لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم قال الرضى أبو الحسن : قوله عليه السلام «املكوا عنى هذا الغلام» من أعلى
الكلام وأفصحه
٢٠٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله لما اضطرب عليه أصحابه فى أمر
الحكومة
أيّها النّاس ، إنّه لم يزل أمرى معكم
على ما أحبّ حتّى نهكتكم الحرب
، وقد ، واللّه ، أخذت منكم وتركت ، وهى لعدوّكم أنهك لقد كنت أمس أميرا فأصبحت
اليوم مأمورا ، وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لى
أن أحملكم على ما تكرهون
__________________
٢٠٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
بالبصرة ، وقد دخل على العلاء بن زياد
الحارثى ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلما رأى سعة داره قال :
ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار فى
الدّنيا؟ أما أنت إليها فى الآخرة كنت أحوج؟! وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة : تقرى
فيها الضّيف ، وتصل فيها الرّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت [قد] بلغت بها الآخرة فقال له
العلاء. يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخى عاصم بن زياد. قال : وما له؟ قال : لبس
العباءة وتخلى عن الدنيا. قال : علىّ به ، فلما جاء قال :
يا عدىّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك
وولدك ، أترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من
ذلك! قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت فى خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال : ويحك ،
إنّى لست كأنت ، إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس.
كيلا يتبيّغ بالفقير فقره
__________________
٢٠٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد سأله سائل عن أحاديث البدع ، وعما
فى أيدى الناس
من اختلاف الخبر فقال عليه السلام :
إنّ فى أيدى النّاس حقّا وباطلا ، وصدقا
وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما. ولقد
كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، على عهده حتّى قام خطيبا ، فقال : «من
كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار»
وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم
خامس :
رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنّع
بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج
يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، متعمّدا ، فلو علم النّاس أنّه
منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدّقوا قوله ، ولكنّهم قالوا صاحب رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله وسلم : رآه ، وسمع منه ، ولقف عنه فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك اللّه عن
المنافقين بما اخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثمّ بقوا بعده ـ عليه وآله
السّلام ـ فتقرّبوا إلى أئمّة
__________________
الضّلالة ، والدّعاة
إلى النّار بالزّور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكّاما على رقاب النّاس
، وأكلوا بهم الدّنيا ، وإنّما النّاس مع الملوك والدّنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا
أحد الأربعة
ورجل سمع من رسول اللّه شيئا لم يحفظه على وجهه ، فوهم فيه ولم يتعمّد كذبا ، فهو فى يديه ويرويه
ويعمل به ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلو علم
المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه ، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه! ورجل ثالث : سمع
من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله شيئا يأمر به ثمّ [إنّه] نهى عنه وهو لا يعلم ،
أو سمعه ينهى عن شىء ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ، ولم يحفظ النّاسخ
، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع : لم يكذب على اللّه ، ولا
على رسوله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه ، وتعظيما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
ولم يهم
بلّ حفظ ما سمع
__________________
على وجهه ، فجاء به
على سمعه : لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ النّاسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنّب
عنه وعرف الخاصّ
والعامّ ، فوضع كلّ شىء موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه وقد كان يكون من رسول اللّه ، صلّى
اللّه عليه وآله ، الكلام له وجهان :
فكلام خاصّ ، وكلام عامّ ، فيسمعه من لا
يعرف ما عنى اللّه [سبحانه] به ، ولا ما عنى رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم
، فيحمله السّامع ، ويوجّهه على غير معرفة بمعناه ، وما قصد به ، وما خرج من أجله
، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وسلم ، من كان يسأله ويستفهمه ، حتّى
إن كانوا ليحبّون أن يجىء الأعرابىّ والطّارىء فيسأله عليه السّلام حتّى يسمعوا ،
وكان لا يمرّ بى من ذلك شىء إلاّ سألت عنه وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه النّاس فى
اختلافهم ، وعللهم فى رواياتهم.
٢٠٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف
صنعته ، أن جعل من ماء البحر
__________________
الزّاخر المتراكم
المتقاصف يبسا جامدا
، ثمّ فطر منه أطباقا
ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بأمره ، وقامت على حدّه ، وأرسى أرضا
يحملها الأخضر المثعنجر ، والقمقام المسخّر
، قد ذلّ لأمره ، وأذعن لهيبته ، ووقف الجارى منه لخشيته ، وجبل جلاميدها ،
ونشوز متونها وأطوادها ، فأرساها فى مراسيها ، وألزمها قرارتها. فمضت رءوسها فى
الهواء ،
__________________
ورست أصولها فى الماء
، فأنهد جبالها عن سهولها
، وأساخ قواعدها فى متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فأشهق قلالها ، وأطال أنشازها ، وجعلها للأرض عمادا ، وأرّزها فيها
أوتادا ، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها ، أو تسيخ بحملها ، أو
تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ،
فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا!
فوق بحر لجّىّ راكد لا يجرى ، وقائم لا يسرى ، تكركره
الرّياح العواصف .
وتمخضه الغمام الذّوارف «إِنَّ
فِي ذٰلِكَ»
__________________
«لَعِبْرَةً لِمَنْ
يَخْشىٰ»
٢٠٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا
العادلة غير الجائرة ، والمصلحة غير المفسدة ، فى الدّين والدّنيا فأبى بعد سمعه
لها إلاّ النّكوص عن نصرتك ، والإبطاء عن إعزاز دينك ، فإنّا نستشهدك عليه بأكبر
الشّاهدين شهادة
، ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسمواتك ، ثمّ أنت بعده المغنى عن نصره ، والآخذ
له بذنبه
٢٠٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه العلىّ عن شبه المخلوقين الغالب لمقال الواصفين ، الظّاهر
بعجائب تدبيره للنّاظرين ، والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين ، العالم بلا
اكتساب ، ولا ازدياد ، ولا علم مستفاد ، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة ولا ضمير
، الّذى لا تغشاه الظّلم ، ولا يستضىء بالأنوار ، ولا يرهقه ليل
__________________
ولا يجرى عليه نهار
، ليس إدراكه بالأبصار ، ولا علمه بالإخبار
ومنها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله
وسلم :
أرسله بالضّياء ، وقدّمه فى الاصطفاء ، فرتق
به المفاتق
وساور به المغالب وذلّل به الصّعوبة ، وسهّل به الحزونة ، حتّى سرّح الضّلال عن
يمين وشمال
٢٠٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وأشهد أنّه عدل عدل ، وحكم فصل ، وأشهد
أنّ محمّدا عبده [ورسوله] وسيّد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين جعله فى خيرهما ، لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر
ألا وإنّ اللّه قد جعل للخير أهلا ، وللحقّ
دعائم ، وللطّاعة عصما وإنّ
__________________
لكم عند كلّ طاعة
عونا من اللّه : يقول على الألسنة ، ويثبّت الأفئدة ، [فيه] كفاء لمكتف وشفاء لمشتف
واعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه
يصونون
مصونه ، ويفجّرون عيونه ، يتواصلون بالولاية
ويتلاقون بالمحبّة ، ويتساقون بكأس رويّة ويصدرون بريّة ، لا
تشوبهم الرّيبة ولا تسرع فيهم الغيبة
، على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم فعليه يتحابّون ، وبه
يتواصلون ، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى
فيؤخذ منه ويلقى ، قد ميّزه التّخليص ، وهذّبه التّمحيص فليقبل
__________________
امرؤ كرامة بقبولها وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ
فى قصير أيّامه ، وقليل مقامه ، فى منزله حتّى يستبدل به منزلا فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله فطوبى لذى قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب
من يرديه وأصاب سبيل السّلامة ببصر من بصّره وطاعة هاد أمره ، وبادر
الهدى قبل أن تغلق أبوابه ، وتقطع أسبابه ، واستفتح التّوبة ، وأماط الحوبة. فقد
أقيم على الطّريق ، وهدى نهج السّبيل
٢١٠ ـ ومن دعاء كان يدعو به
عليه السلام كثيرا
الحمد للّه الّذى لم يصبح بى ميّتا ولا
سقيما ولا مضروبا على عروقى بسوء ولا مأخوذا بأسوإ
عملى ، ولا مقطوعا دابرى ، ولا مرتدّا عن دينى ، ولا منكرا لربّى ، ولا مستوحشا من
إيمانى ، ولا ملتبسا عقلى ، ولا معذّبا
__________________
بعذاب الأمم من
قبلى. أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسى ، لك الحجّة على ولا حجّة لى [و] لا أستطيع
أن آخذ إلاّ ما أعطيتنى ، ولا أتّقى إلاّ ما وقيتنى اللّهمّ إنّى أعوذ بك أن أفتقر
فى غناك ، أو أضلّ فى هداك ، أو أضام فى سلطانك ، أو أضطهد والأمر لك اللّهمّ اجعل
نفسى أوّل كريمة تنتزعها من كرائمى ، وأوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندى
اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك ، أو نفتن عن دينك ، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الّذى جاء من عندك
٢١١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
خطبها بصفين
أمّا بعد ، فقد جعل اللّه لى عليكم حقّا
بولاية أمركم ، ولكم علىّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء فى
التّواصف
وأضيقها فى التّناصف ، لا يجرى لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجرى عليه إلاّ جرى له.
__________________
ولو كان لأحد أن
يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ،
ولعدله فى كلّ ما جرت عليه صروف قضائه ، ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه وجعل
جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد أهله
ثمّ جعل ـ سبحانه ـ من حقوقه حقوقا
افترضها لبعض النّاس على بعض ، فجعلها تتكافأ فى وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ، ولا
يستوجب بعضها إلاّ ببعض .
وأعظم ما افترض ـ سبحانه ـ من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرّعيّة ، وحقّ الرّعيّة
على الوالى ، فريضة فرضها اللّه ـ سبحانه ـ لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ،
وعزّا لدينهم فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلاّ
باستقامة الرّعيّة ، فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالى حقّه ، وأدّى الوالى إليها
حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على
أذلالها السّنن
، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع فى بقاء الدّولة ، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت
الرّعيّة واليها ، أو أجحف
__________________
الوالى برعيّته ، اختلفت
هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الادغال فى الدّين ، وتركت محاجّ السّنن ، فعمل بالهوى ،
وعطّلت الأحكام وكثرت علل النّفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل!! فهنالك تذلّ
الأبرار ، وتعزّ الأشرار ، وتعظم تبعات اللّه عند العباد ، فعليكم بالتّناصح فى
ذلك وحسن التّعاون عليه ، فليس أحد ـ وإن اشتدّ على رضا اللّه حرصه ، وطال فى
العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما اللّه أهله من الطّاعة [له] ولكن من واجب حقوق
اللّه على العباد النّصيحة بمبلغ جهدهم ، والتّعاون على إقامة الحقّ بينهم ، وليس
امرؤ ـ وإن عظمت فى الحقّ منزلته ، وتقدّمت فى الدّين فضيلته ـ بفوق أن يعان على
ما حمّله اللّه من حقّه
، ولا أمرؤ ـ وإن صعّرته النّفوس ، واقتحمته العيون ـ بدون أن يعين على
ذلك ، أو يعان عليه.
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام
طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له ، فقال عليه السلام :
__________________
إنّ من حقّ من عظم جلال اللّه فى نفسه ،
وجلّ موضعه من قلبه ، أن يصغر عنده ـ لعظم ذلك ـ كلّ ما سواه ، وإنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة
اللّه عليه
، ولطف إحسانه إليه ، فإنّه لم تعظم نعمة اللّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّه عليه
عظما ، وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح النّاس أن يظنّ بهم حبّ الفخر ، ويوضع أمرهم على الكبر ، وقد كرهت أن
يكون جال فى ظنّكم أنّى أحبّ الإطراء ، واستماع الثّناء ،
ولست ـ بحمد اللّه ـ كذلك ، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه سبحانه
عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء ، وربّما استحلى النّاس الثّناء بعد
البلاء ، فلا تثنوا علىّ
بجميل ثناء لإخراجى نفسى إلى اللّه وإليكم من التّقيّة فى حقوق لم أفرغ من أدائها ،
وفرائض لا بدّ من إمضائها ، فلا تكلّمونى
__________________
بما تكلّم به
الجبابرة
، ولا تتحفّظوا منّى بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطونى بالمصانعة ، ولا
تظنّوا بى استثقالا فى حقّ قيل لى ، ولا التماس إعظام لنفسى ، فإنّه من استثقل
الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن
مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّى لست فى نفسى بفوق أن أخطىء ، ولا آمن ذلك من
فعلى إلاّ أن يكفى اللّه من نفسى ما هو أملك به منّى ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ
لا ربّ غيره : يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما
صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى.
٢١٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
اللّهمّ إنّى أستعديك على قريش [ومن أعانهم] فإنّهم قد قطعوا رحمى
__________________
وأكفأوا إنائى ، وأجمعوا
على منازعتى حقّا كنت أولى به من غيرى ، وقالوا ألا إنّ فى الحقّ أن تأخذه وفى
الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متأسّفا فنظرت فإذا ليس لى رافد ، ولا ذابّ
، ولا مساعد
إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقى على الشّجى ، وصبرت
من كظم الغيظ علىّ أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشّفار قال الرضى : وقد مضى هذا الكلام فى
أثناء خطبة متقدمة إلا أنى كررته ههنا لاختلاف الروايتين
٢١٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه
السلام
فقدموا على عمّالى وخزّان بيت مال
المسلمين الّذى فى يدى وعلى أهل مصر كلّهم فى طاعتى وعلى بيعتى ، فشتّتوا كلمتهم ،
وأفسدوا علىّ جماعتهم ، ووثبوا على شيعتى ، فقتلوا طائفة منهم غدرا ، وطائفة منهم
عضّوا على أسيافهم
فضاربوا بها حتّى لقوا اللّه صادقين
__________________
٢١٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن
أسيد وهما قتيلان يوم الجمل لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريبا! أما واللّه لقد
كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب ، أدركت وترى من بنى عبد مناف وأفلتنى أعيان بنى جمح ، لقد أتلعوا
أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله
فوقصوا دونه
٢١٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قد أحيا عقله وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ، ولطف
غليظه ، وبرق له
__________________
لامع كثير البرق ، فأبان
له الطّريق ، وسلك به السّبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السّلامة ، ودار الإقامة
، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه فى قرار الأمن والرّاحة : بما استعمل قلبه ، وأرضى
ربّه
٢١٦ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
[قاله] بعد تلاوته : «أَلْهٰاكُمُ
اَلتَّكٰاثُرُ حَتّٰى زُرْتُمُ اَلْمَقٰابِرَ»
يا له مراما ما أبعده وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد
استخلوا منهم أىّ مدّكر
وتناوشوهم من مكان بعيد!! أ [ف] بمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟!
يرتجعون منهم أجسادا خوت وحركات
__________________
سكنت ، ولأن يكونوا
عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّة أحجى من أن يقوموا بهم
مقام عزّة !!
لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة
وضربوا منهم فى غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدّيار الخاوية والرّبوع الخالية ، لقالت ذهبوا فى
الأرض ضلاّلا ، وذهبتم فى أعقابهم جهّالا ، تطأون فى هامهم ،
وتستثبتون فى أجسادهم وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خرّبوا ، وإنّما الأيّام
بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم
__________________
أولئكم سلف غايتكم وفرّاط مناهلكم ، الّذين كانت لهم
مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكا وسوقا ، سلكوا فى بطون البرزخ سبيلا سلّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم
، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا فى فجوات قبورهم جمادا لا ينمون ، وضمارا لا يوجدون ،
لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ، ولا
يأذنون للقواصف ، غيّبا لا ينتظرون ، وشهودا لا يحضرون ، وإنّما كانوا جميعا
فتشتّتوا ، وألاّفا فافترقوا
، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلّهم عميت أخبارهم ، وصمّت ديارهم ،
ولكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا ،
__________________
وبالسّمع صمما ، وبالحركات
سكونا ، فكأنّهم فى ارتجال الصّفة صرعى سبات
، جيران لا يتآنسون ، وأحبّاء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التّعارف ، وانقطعت منهم أسباب الإخاء ، فكلّهم
وحيد وهم جميع ، وبجانب الهجر وهم أخلاّء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، ولا لنهار
مساء ، أىّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظع ممّا
خافوا ، ورأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا ، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة ،
فأتت مبالغ الخوف والرّجاء ، فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما
عاينوا ، ولئن عميت آثارهم
، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ،
وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من غير جهات النّطق ،
__________________
فقالوا : كلحت
الوجوه النّواضر
، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البلى
، وتكاءدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتهكّعت علينا الرّبوع الصّموت ، فانمحت
محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت فى مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد
من كرب فرجا ، ولا من ضيق متّسعا! فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كشف عنهم محجوب الغطاء
لك ، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكّت
، واكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت ، وتقطّعت الألسنة فى أفواههم بعد ذلاقتها ، وهمدت
القلوب فى صدورهم بعد يقظتها ، وعاث فى كلّ جارحة منهم جديد بلى سمّجها وسهّل
طرق الآفة
__________________
إليها ، مستسلمات
فلا أيد تدفع ، ولا قلوب تجزع ، لرأيت أشجان قلوب وأقذاء عيون ، لهم من كلّ فظاعة صفة
حال لا تنتقل ، وغمرة لا تنجلى .
وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون
، كان فى الدّنيا غذىّ ترف
، وربيب شرف ، يتعلّل بالسّرور فى ساعة حزنه ، ويفزع إلى السّلوة
إن مصيبة نزلت به ، ضنّا بغضارة عيشه ، وشحاحة بلهوه ولعبه؟! فبينما هو يضحك إلى
الدّنيا وتضحك [الدّنيا] إليه فى ظلّ عيش غفول إذ وطىء الدّهر به
حسكه ونقضت الأيّام قواه ونظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه
بثّ لا يعرفه ، ونجىّ همّ ما كان يجده ، وتولّدت فيه فترات
__________________
علل آنس ما كان
بصحّته
، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ وتحريك البارد بالحارّ ، فلم يطفىء
ببارد إلاّ ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك
الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء
، حتّى فتر معلّله ، وذهل ممرّضه ، وتعايا
أهله بصفة دائه وخرسوا عن جواب
السّائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجىّ خبر يكتمونه : فقائل هو لما به وممنّ
لهم إياب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكّرهم أسى الماضين من قبله فبينما هو كذلك على جناح من فراق
الدّنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه فتحيّرت نوافذ فطنته ، ويبست
__________________
رطوبة لسانه فكم من
مهمّ من جوابه عرفه فعىّ عن ردّه
، ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه : من كبير كان يعظّمه ، أو صغير كان يرحمه ، وإنّ
للموت لغمرات هى أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على قلوب أهل الدّنيا
٢١٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله عند تلاوته : «رِجٰالٌ
لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اَللّٰهِ» إنّ اللّه سبحانه [وتعالى]
جعل الذّكر جلاء القلوب
، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح
للّه ـ عزّت آلاؤه ـ فى البرهة بعد البرهة وفى أزمان الفترات عباد
ناجاهم فى فكرهم ، وكلّمهم فى ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأبصار والأسماع
والأفئدة يذكّرون بأيّام
اللّه ، ويخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلّة فى الفلوات ،
من أخذ
__________________
القصد حمدوا إليه
طريقه وبشّروه
بالنّجاة ، ومن أخذ يمينا وشمالا ذمّوا إليه الطّريق وحدّروه من الهلكة ، وكانوا
كذلك مصابيح تلك الظّلمات ، وأدلّة تلك الشّبهات ، وإنّ للذّكر لأهلا أخذوه من
الدّنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه : يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون
بالزّواجر عن محارم اللّه فى أسماع الغافلين
، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا
الدّنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل
البرزخ فى طول الإقامة فيه
، وحقّقت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا حتّى كأنّهم يرون
ما لا يرى النّاس ، ويسمعون ما لا يسمعون. فلو مثّلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة ومجالسهم
المشهودة ، وقد نشروا دواوين أعمالهم ، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة وكبيرة
أمروا بها فقصّروا عنها ، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها ،
__________________
وحمّلوا ثقل أوزارهم
ظهورهم
، فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجا ، وتجاوبوا نحيبا ، يعجّون إلى ربّهم من
مقام ندم واعتراف ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى ، قد حفّت بهم الملائكة ، وتنزّلت
عليهم السّكينة ، وفتحت لهم أبواب السّماء ، وأعدّت لهم مقاعد الكرامات ، فى مقام
اطّلع اللّه عليهم فيه فرضى سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتسمّون بدعائه روح التّجاوز رهائن فاقة إلى فضله ، وأسارى ذلّة
لعظمته ، جرح طول الأسى قلوبهم
، وطول البكاء عيونهم ، لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة ، يسألون من لا
تضيق لديه المنادح ، ولا يخيب عليه الرّاغبون
، فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك
__________________
٢١٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله عند تلاوته «يٰا أَيُّهَا
اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ»
أدحض مسئول حجّة
، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه.
يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ،
وما غرّك بربّك ، وما آنسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بلول ، [أم] ليس من نومك يقظة؟ أما ترحم من
نفسك ما ترحم من غيرك؟ فربّما ترى الضّاحى من حرّ الشّمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده فتبكى
رحمة له ، فما صبّرك على دائك ، وجلّدك بمصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهى
أعزّ الأنفس عليك؟ وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة وقد
تورّطت بمعاصيه مدارج سطواته ، فتداو من داء
__________________
الفترة فى قلبك
بعزيمة ، ومن كرى الغفلة فى ناظرك بيقظة
وكن للّه مطيعا ، وبذكره آنسا ، وتمثّل فى حال تولّيك عنه إقباله عليك : يدعوك إلى عفوه ، ويتغمّدك بفضله ، وأنت
متولّ عنه إلى غيره ، فتعالى من قوىّ ما أكرمه
، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته ، وأنت فى كنف ستره مقيم ، وفى سعة فضله
متقلّب ، فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين فى
نعمة يحدثها لك ، أو سيّئة يسترها
عليك ، أو بليّة يصرفها عنك!! فما ظنّك به لو أطعته ، وايم اللّه لو أنّ هذه
الصّفة كانت فى متّفقين فى القوّة ، متوازنين فى القدرة ، لكنت أوّل حاكم على نفسك
بذميم الأخلاق ، ومساوئ الأعمال. وحقّا أقول ما الدّنيا غرّتك ولكن
بها اعتررت ، ولقد كاشفتك العظات ، وآذنتك على سواء ، ولهى بما
__________________
تعدك من نزول البلاء
بجسمك ، والنّقص فى قوّتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك ، أو تغرّك ، ولربّ ناصح لها
عندك متّهم
، وصادق من خبرها مكذّب ، ولئن تعرّفتها فى الدّيار الخاوية ، والرّبوع الخالية ، لتجدنّها من حسن
تذكيرك ، وبلاغ موعظتك ، بمحلّة الشّفيق عليك ، والشّحيح بك ، ولنعم دار من لم يرض بها دارا ، ومحلّ
من لم يوطّنها محلاّ ! وإنّ السّعداء
بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم
إذا رجفت الرّاجفة ،
وحقّت بجلائلها القيامة ، ولحق بكلّ منسك أهله وبكلّ معبود عبدته ، وبكلّ مطاع أهل
طاعته ، فلم يجز فى عدله [وقسطه] يومئذ حرق بصر فى الهواء ،
ولا همس قدم فى الأرض إلاّ بحقّه. فكم
__________________
حجّة يوم ذاك داحضة
، وعلائق عذر منقطعة ، فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك ، وتثبت به حجّتك ، وخذ ما يبقى لك
ممّا لا تبقى له
، وتيسّر لسفرك ، وشم برق النّجاة ، وارحل مطايا التّشمير
٢١٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
واللّه لأن أبيت على حسك السّعدان
مسهّدا
، وأجرّ فى الأغلال مصفّدا أحبّ إلىّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالما
لبعض العباد ، وغاصبا لشىء من الحطام ، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها
ويطول فى الثّرى حلولها؟! واللّه لقد رأيت عقيلا
وقد أملق حتّى استماحنى من برّكم صاعا ، ورأيت
__________________
صبيانه شعث الشّعور
، غبر الألوان من فقرهم ، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودنى مؤكّدا وكرّر علىّ القول مردّدا ، فأصغيت إليه
سمعى فظنّ أنّى أبيعه دينى ، وأتّبع قياده
مفارقا طريقتى ، فأحميت له حديدة ، ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضجّ ضجيج ذى
دنف من ألمها
وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثّواكل يا عقيل ،
أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّنى إلى نار سجرها جبّارها لغضبه؟
أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى؟!! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة فى وعائها ومعجونة
شنئتها ، كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها ، فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة؟؟؟
فذلك محرّم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنّها
__________________
هديّة ، فقلت : هبلتك
الهبول
، أعن دين اللّه أتيتنى لتخدعنى؟ أمختبط ، أم ذو جنّة ، أم تهجر ؟ واللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما
تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه فى نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، وإنّ دنياكم عندى لأهون من
ورقة فى فم جرادة تقضمها ما لعلىّ ولنعيم يفنى
، ولذّة لا تبقى نعوذ باللّه من سبات العقل ، وقبح الزّلل ، وبه
نستعين
٢٢٠ ـ ومن دعاء له عليه
السلام
اللّهمّ صن وجهى باليسار ،
ولا تبذل جاهى بالإقتار ، فأسترزق طالبى رزقك ، وأستعطف شرار خلقك ، وأبتلى بحمد
من أعطانى ، وأفتن بذمّ من منعنى ، وأنت من وراء ذلك كلّه ولىّ الاعطاء والمنع «إِنَّكَ عَلىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
__________________
٢٢١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
دار بالبلاء محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا
تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزّالها
، أحوال مختلفة ، وتارات متصرّفة ، العيش فيها مذموم ، والأمان منها معدوم ، وإنّما
أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها
واعلموا ، عباد اللّه ، أنّكم وما أنتم
فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى قبلكم
، ممّن كان أطول منكم أعمارا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، أصبحت أصواتهم هامدة ،
ورياحهم راكدة ، وأجسادهم بالية ،
وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة ، والنّمارق الممهّدة
الصّخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاّطئة
الملحدة ، الّتى قد بنى
بالخراب
__________________
فناؤها ، وشيد بالتّراب بناؤها ، فمحلّها
مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلّة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين ، لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون
تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنوّ الدّار ، وكيف يكون بينهم
تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى
، وأكلنهم الجنادل والثّرى؟ وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه ،
وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ،
وبعثرت القبور؟ «هُنٰالِكَ
تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ
مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا
يَفْتَرُونَ»
__________________
٢٢٢ ـ ومن دعائه عليه
السّلام
اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك ، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك ، تشاهدهم
فى سرائرهم ، وتطّلع عليهم فى ضمائرهم ، وتعلم مبلغ بصائرهم ، فأسرارهم لك مكشوفة
، وقلوبهم إليك ملهوفة
، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك ، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك
علما بأنّ أزمّة الأمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك
اللّهمّ إن فههت عن مسألتى ، أو عميت عن طلبتى ، فدلّنى على
مصالحى ، وخذ بقلبى إلى مراشدى ، فليس ذلك بنكر من هداياتك ،
ولا ببدع من كفاياتك
اللّهمّ احملنى على عفوك ،
ولا تحملنى على عدلك
__________________
٢٢٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
للّه بلاد فلان ، فقد قوّم الأود ، وداوى العمد ، وخلّف
الفتنة ، وأقام السّنّة ، ذهب نقّى الثّوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرّها
، أدّى إلى اللّه طاعته ، واتّقاه بحقّه ، رحل وتركهم فى طرق متشعّبة : لا يهتدى فيها الضّالّ ، ولا يستيقن
المهتدى
٢٢٤ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى وصف بيعته بالخلافة ، وقد تقدم مثله
بألفاظ مختلفة وبسطتم يدى فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علىّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم
ورودها ، حتّى انقطعت النّعل ، وسقط الرّداء ، ووطىء الضّعيف ، وبلغ من سرور
النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير ،
__________________
وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها
الكعاب
٢٢٥ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فإنّ تقوى اللّه مفتاح سداد ، وذخيرة
معاد ، وعتق من كلّ ملكة
، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطّالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرّغائب ، فاعملوا
والعمل يرفع
، والتوبة تنفع ، والدّعاء يسمع ، والحال هادئة ، والأقلام جارية ، وبادروا
بالأعمال عمرا ناكسا ، أو مرضا حابسا ، أو موتا خالسا ، فإنّ الموت هادم لذّاتكم ،
ومكدّر شهواتكم ، ومباعد طيّاتكم ، زائر غير محبوب ،
وقرن غير مغلوب ، وواتر غير مطلوب ، قد أعلقتكم
__________________
حبائله ، وتكنّفتكم
غوائله ، وأقصدتكم معابله ، وعظمت فيكم سطوته ، وتتابعت عليكم عدوته ، وقلّت عنكم نبوته ، فيوشك أن تغشاكم
دواجى ظلله ، واحتدام علله ، وحنادس غمراته ، وغواشى سكراته ، وأليم إزهاقه ، ودجوّ
إطباقه ، وجشوبة مذاقه ، فكأن قد أتاكم بغتة ، فأسكت نجيّكم ، وفرّق نديّكم ، وعفّى آثاركم ، وعطّل
دياركم ، وبعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم ، بين حميم خاصّ لم ينفع ، وقريب محزون لم
يمنع ، وآخر شامت لم يجزع ، فعليكم بالجدّ والاجتهاد ، والتّأهّب والاستعداد ، والتّزوّد
فى منزل الزّاد ، ولا تغرّنّكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم
الماضية ، والقرون
__________________
الخالية ، الّذين
احتلبوا درّتها
، وأصابوا غرّتها ، وأفنوا عدّتها ، وأخلقوا جدّتها ، [و] أصبحت مساكنهم أجداثا ، وأموالهم ميراثا ، لا يعرفون من
أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم
، ولا يجيبون من دعاهم ، فاحذروا الدّنيا ، فإنّها غدّارة غرّارة خدوع ، معطية
منوع ، ملبسة نزوع ، لا يدوم رخاؤها ،
ولا ينقضى عناؤها ، ولا يركد بلاؤها
منها فى صفة الزهاد :
كانوا قوما من أهل الدّنيا وليسوا من
أهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها : عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما
يحذرون ، تقلّب أبدانهم بين
ظهرانى أهل الآخرة يرون أهل الدّنيا
يعظّمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم
__________________
٢٢٦ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
خطبها بذى قار ، وهو متوجه إلى البصرة ،
ذكرها الواقدى فى كتاب الجمل فصدع بما أمر [به] ، وبلّغ رسالات ربّه ، فلمّ اللّه به
الصّدع ، ورتق به الفتق ، وألّف به [الشّمل] بين ذوى الأرحام ، بعد العداوة
الواغرة فى الصّدور ، والضّغائن القادحة فى القلوب
٢٢٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
كلم به عبد اللّه بن زمعة ، وهو من
شيعته ، وذلك أنه قدم عليه
فى خلافته يطلب منه مالا ، فقال عليه
السلام : ـ
إنّ هذا المال ليس لى ولا لك ، وإنّما
هو فىء للمسلمين
وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم فى حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا
تكون لغير أفواههم.
__________________
٢٢٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
ألا إنّ اللّسان بضعة من الإنسان ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا
يمهله النّطق إذا اتّسع ، وإنّا لأمراء الكلام ، وفينا تنشّبت عروقه ، وعلينا
تهدّلت غصونه
واعلموا ـ رحمكم اللّه ـ أنّكم فى زمان
القائل فيه بالحقّ قليل ، واللّسان عن الصّدق كليل ، واللاّزم للحقّ ذليل ، أهله معتكفون
على العصيان ، [مصطلحون على الإدهان] فتاهم عارم ، وشائبهم آثم ، وعالمهم منافق ، وقارئهم
مماذق ، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم ، ولا يعول غنيّهم فقيرهم
__________________
٢٢٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
روى [ذعلب] اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن
عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال : كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام وقد
ذكر عنده اختلاف الناس فقال :
إنّما فرّق بينهم مبادى طينهم ، وذلك أنّهم كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها
، وحزن تربة وسهلها ، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون ، وعلى قدر اختلافها
يتفاوتون ، فتامّ الرّواء
، ناقص العقل ، ومادّ القامة ، قصير الهمّة ، وذاكى العمل ، قبيح المنظر ، وقريب
القعر ، بعيد السّير ، ومعروف الضّريبة ، منكر الجليبة ، وتائه القلب ، متفرّق
اللّبّ ، وطليق اللّسان ، حديد الجنان
٢٣٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله وهو يلى غسل رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله وتجهيزه بأبى أنت وأمّى [يا رسول اللّه] لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع
بموت غيرك من النّبوّة والأنباء ، وأخبار السّماء ، خصصت حتّى صرت مسليا عمّن سواك ،
__________________
وعممت حتّى صار
النّاس فيك سواء
ولو لا أنّك أمرت بالصّبر ، ونهيت عن
الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشّئون
، ولكان الدّاء مماطلا ، والكمد محالفا ، وقلاّلك ولكنّه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه ، بأبى أنت وأمّى ، اذكرنا
عند ربّك ، واجعلنا من بالك
٢٣١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبى
صلّى اللّه عليه وآله ، ثم لحاقه به فجعلت أتّبع مأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وسلّم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج (فى
كلام طويل)
قال الشريف : قوله عليه السلام «فأطأ
ذكره» من الكلام الذى رمى به إلى غايتى الإيجاز والفصاحة ، أراد إنى كنت أعطى خبره
صلّى اللّه عليه
__________________
وآله وسلم من بدء
خروجى إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع ، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة
٢٣٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فاعلموا وأنتم فى نفس البقاء ، والصّحف منشورة ، والتّوبة مبسوطة ،
والمدبر يدعى ، والمسىء يرجى ، قبل أن يخمد العمل ، وينقطع المهل ، وينقضى الأجل ،
ويسدّ باب التّوبة ، وتصعد الملائكة
فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه ، وأخذ من حىّ لميّت ، ومن فان لباق ،
ومن ذاهب لدائم ، امرؤ خاف اللّه وهو معمّر إلى أجله ،
ومنظور إلى
__________________
عمله ، امرؤ لجّم
نفسه بلجامها ، وزمّها بزمامها
، فأمسكها بلجامها عن معاصى اللّه ، وقادها بزمامها إلى طاعة اللّه
٢٣٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى شأن الحكمين ، وذم أهل الشام
جفاة طغام ، عبيد أقزام ، جمّعوا من كلّ أوب ، وتلقّطوا
من كلّ شوب ، ممّن ينبغى أن يفقّه ويؤدّب
، ويعلّم ويدرّب ، ويولّى عليه ، ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين والأنصار ،
ولا من الّذين تبوّأوا الدّار [والإيمان] ألا وإنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب
القوم ممّا يحبّون ، وإنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون ،
وإنّما عهدكم بعبد اللّه بن قيس بالأمس
__________________
يقول «إنّها فتنة
فقطّعوا أوتاركم ، وشيموا سيوفكم» فإن كان صادقا فقد أخطأ بمسيره غير مستكره ، وإن كان
كاذبا فقد لزمته التّهمة ، فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عبّاس ، وخذوا
مهل الأيّام ، وحوطوا قواصى الإسلام ألا ترون إلى بلادكم تغزى ، وإلى صفاتكم ترمى
٢٣٤ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
يذكر فيها آل محمد صلّى اللّه عليه وآله
وسلم
هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم
حلمهم عن علمهم ، [وظاهرهم عن
__________________
باطنهم] وصمتهم عن
حكم منطقهم : لا يخالفون الحقّ ، ولا يختلفون فيه ، هم دعائم الإسلام ، وولائج
الاعتصام
، بهم عاد الحقّ فى نصابه
، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدّين عقل وعاية ورعاية
لا عقل سماع
ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل
٢٣٥ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله لعبد اللّه بن عباس ، وقد جاءه
برسالة من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه
للخلافة بعد أن كان سأله مثل
ذلك من قبل ، فقال عليه السلام :
__________________
يا ابن عبّاس ، ما يريد عثمان إلاّ أن
يجعلنى جملا ناضحا بالغرب
أقبل وأدبر : بعث إلىّ أن أخرج ، ثمّ بعث إلىّ أن أقدم ، ثمّ هو الآن يبعث إلىّ أن
أخرج ، واللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما
٢٣٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
يحث أصحابه على الجهاد
واللّه مستأديكم شكره ومورثكم أمره ، وممهلكم فى مضمار محدود
لتتنازعوا
سبقه. فشدّوا عقد المآزر واطووا فضول الخواصر [و]
لا تجتمع
__________________
عزيمة ووليمة ما أنقض النّوم لعزائم اليوم وأمحى الظّلم لتذاكير الهمم!! وصلى
اللّه على سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله مصابيح الدجى ، والعروة الوثقى ، وسلم
تسليما كثيرا.
__________________
تمّ بحمد اللّه وحسن تيسيره طبع الجزء
الثانى من كتاب «نهج البلاغة» وبه يتم الباب الأول ، وهو باب المختار من خطب أمير
المؤمنين عليه السلام وأوامره ، وكلامه الجارى مجرى الخطب ، ويليه ـ إن شاء اللّه
تعالى ـ الجزء الثالث ، وأوله باب المختار من كتب أمير المؤمنين إلى أعدائه وأمراء
بلاده .. نسأل اللّه أن يعين على إكماله بمنه وكرمه.
فهرست
الجزء الثانى
من كتاب
نهج
البلاغة
وهو النصف
الثانى من مختار خطب أمير المؤمنين
أبى الحسن
على بن أبى طالب كرم الله وجهه
وكلامه
الذى يجرى مجرى الخطب
٢
|
من كلام له عليه السلام خاطب به الخوارج عند
إقامتهم على إنكار التحكيم ، وفيه الاحتجاج عليهم ، وفيه الاحتجاج ، وفيه
الاحتجاج عليهم بأنهم هم الذين دعوا إلى الحكومة
|
|
أوتى علم الغيب
|
٣
|
من كلام له قال لأصحابه في ساعة الحرب
|
١٥
|
من خطبة في المكاييل ، وفيها ذكر وصف الزمان
وأهله واستهواء الشيطان لهم
|
٤
|
ومن كلام له في حث أصحابه على القتال ، وفيه
النصيحة الغالية ، وتعليم المقاتلة طريق الانتصار على الخصوم
|
١٧
|
ومن كلام خاطب به أباذر لما نفاه عثمان رصى
الله عنه إلى الربذة
|
٧
|
ومن كلام له في التحكيم ، والاعتذار عن جعل
له. وفيه الحث على علمل بالحق والتمسك به
|
١٨
|
ومن كلامفي حال نفسه مع أصحابه ، وأوصاف
الامام مطلقا
|
١٠
|
ومن كلام له لما عوتب على التسويه في العطاء
|
٢٠
|
ومن خطة في الوعظ ، والتخويف بالموت.
|
١١
|
ومن كلام له في الرد على من زعم أن من أخطأ
أو أذنب فقد كفر ، وفيه أن المحب المفرط والمبغض المفرط هالكان
|
٢٢
|
من خطبة في تمجيد الله ، وصفة القرآن ، وصفات
النبي ، وأوصفا الدنيا وبيان لحكمة الله في خوف الموت ، ثم وصف لحالة الناس في
المباغضة
|
١٣
|
ومن خطبة له فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة ، وفيها الرد على من زعم من
أصحابه أنه
|
٢٤
|
كلام في مشورة على عمر رضى الله عنه بعدم
الخروج بنفسه لحرب الروم.
|
|
|
٢٥
|
ومن كلام في تقريع المغيرة ابن الأخنس
|
|
|
٢٦
|
ومن كلام في وصف بيعته ونيته فيها ونية الناس
|
٢٦
|
ومن كلام في طلحة والزبير وفتنهما
|
|
الرشد إنما تكون بعد معرفة ضده
|
٢٩
|
من حطبه له في الملاحم بذكر أوصاف ها وأوصاف
ناكث
|
٤٤
|
من خطبه في شأن طلحة والزبير كل مع صاحبه ،
وذكر أهل البصرة
|
٣١
|
من كلام له وقت الشورى في وصف نفسه والتحذير
من عاقبة الأمر ومن كلام في الزجر عن الغيبة
|
٤٥
|
ومن كلام في وصيته قبل موته
|
٣٢
|
من كلام في النهى عن التسرع بسوء الظن
|
٤٧
|
من خطبة في الملاحم يذكر ضالا ،ثم فتنة يفوز
فيها أهل القرآن ، ثم حال الناس في الحاهلية وبعد البعثة
|
٣٣
|
ومن كلام في وضع المعروف عند غير أهله
|
٤٩
|
من خطبة له في فتنة وما يكون فيها ، وفي
صدرها كلام بديع في أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إزالة أرجاس الجاهلية
وظلمتها
|
٣٤
|
ومن خطبه في الاستقساء
|
٥٣
|
من خطبة في تمجيد الله ، وفي منزلة الأئمة من
الناس ، وفي صفة الاسلام وفي وصف قوم بالخيبة والنهى عن سلوك مسالكهم ، وفيه
صفات لاينفع العيد مع إحداها عمل ووصف المؤمنين وغيرهم
|
٣٦
|
من كلام في بعثة آل البيت ، وقوم آخرين
|
٥٥
|
ومن خطبة في صفة الضال ، وبيان أن الناس
يعودون إلى
|
٣٨
|
من خطبة في شؤون الدنيا مع الناس ، وفي البدع
والسنن
|
|
|
٣٩
|
ومن كلام في مشورته لعمر عند حرب الفرس
|
|
|
٤٠
|
من خطبة فيما هدى الله الناس بيعة النبي ،
وأوصاف أهل زمان ينحرفون عن القرآن ، ثم تنبيه من عرف عظمة الله أن لا يتعاطم ،
ثم بيان أن معرفة
|
|
|
|
الضلال بعد معرفة الهداية
|
|
الله ، ومنها في شخص يزعم أنه يرجوا الله وهو
لا يعمل لرجائه وفي الحث على الاقتداء بالأنبياء في احتقار الدنيا.
|
٥٧
|
من خطبة له في الداعي ووصف آل البيت ولزوم
العمل بالعلم والعلم للعمل. وبيان أن كل عمل نبات
|
٧٧
|
من خطبة في مزايا النبي وشريعته ، وفي
التبصير بالدنيا وعواقب أهلها
|
٦٠
|
من خطبة في وصف الخفاش وبديع خلقته
|
٧٩
|
من كلام له جوابا لقائل : مالقومكم دفعوكم عن
حقكم
|
٦٢
|
من كلام خاطب به أهل البصرة في وصف حاقدة
عليه ، وبين فيها سبيل النجاة ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووصف
القرآن
|
٨١
|
من خطبة له في تنزيه الله ، وتذكير الانسان
بهداية الله له إلى سبيل معيشته
|
٦٦
|
من خطبة في الدهر والتحفظ منه ، وفي التقوى
والفجور ، وفي الوصية بالنفس والعمل لنجاتها ، وفي تحقير المال وتعظيم موعود
الله ، وفي التنبيه على أن علينا رصداً من جوارحنا وفي تهويل يوم الجزاء.
|
٨٤
|
من كلام له لعثمان رضى الله عنه عند ما أرسله
القائمون عليه سفيراً إليه ، وهو من أحاسن الكلام ، وفيه بيان منزلة عثمان في
دينه ، وصفة الامام العادل
|
٦٩
|
من خطبة في حال الناس قبل البعثة وبعدها ، ثم
في حالهم عند ما ينحرفون عن القرآن
|
٨٦
|
من خطبة له في وصف الطاووس ، وهي من غرر
كلامه وفيها شيء من وصف الجنة
|
٧٠
|
من خطبة في وصف حاله مع أصحابه في تمجيد
|
٩٥
|
من خطبة له يوصى فيها بالرأفة وجعل الباطن
موافقاً للظاهر ، ويوعد بني أمية ، ويبين أن الضعف قرين التخاذل
|
٩٧
|
من خطبة له أول خلافته : عظم فيها حقوق
المؤمن ، ووصى بمبادرة أمر العامة
|
|
تتم البيعة ، ومن يجب قتاله ، وفي ذم الدنيا
والتزهيد فيها
|
٩٨
|
من كلام في وصف الناس بعد قتل عثمان
|
١٠٧
|
من كلام له في طلحة بن عبيد الله ، وأمر قتل
عثمان
|
٩٩
|
من خطبة له عند مسير أصحاب الجمل : يوصى فيها
بالطاعة والوفاق ، ويوعد على الخلاف بانتقال السلطه من أيديهم
|
١٠٨
|
من خطبة له في خطاب الغافلين يشبهمم بالأنعام
تحسب يومها دهرها
|
١٠٠
|
ومن كلام له مع رجل جاء من البصرة يستخبره عن
أمر أصحاب الجمل ، وهو من أقوم الحجج التي لا يسع سامعها إلا الانقياد لها
|
١٠٩
|
ومن خطبة له يحذر من متابعة الهوى ، ثم يبين منزلة
القرآن ويطلب متابعته ، ثم يحث على الاستقامة وينهي عن تهزيع الأخلاق ، ثم يأمر
بحفظ اللسان ولزوم الصدق ، ثم يقسم اللظم إلى أقسام ثلاثة
|
١٠١
|
دعا عند عزمه على لقاء القوم بصفين ومن كلام
له الحجة على من رماه بالحرص ، ثم دعاؤ على قريش ، ثم كلام في أصحاب الجمل وما
فعلوا بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
|
١١٧
|
من كلام له في الحكمين
|
١٠٤
|
من خطبة له في صفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وفي بيان من هو أحق بالخلافة ، وبمن
|
١١٨
|
ومن خطبة يمجد الله فيها ، ثم يحذر من الدنيا
، ثم يؤكد أن زوال النعم من سوء الفعال
|
|
|
١٢٠
|
كلام في التنزيه جواباً لمن سأله هل رأيت ربك
|
|
|
١٢١
|
ومن خطبة في ذم أصحابه وتحريضهم
|
|
|
١٢٣
|
ومن كلام في ذم قوم زعول للحاق بالخوارج
|
١٢٤
|
من خطبة له في تنزيه الله وذكر آثار قدرته.
ثم تذكير الناس بما نزل بسابقين ، ثم وصف للمسلم الحكيم ، ثم تأسف على إخوانه
الذين قتلوا بصفين ، مع ذكر بعض أوصافهم
|
|
وبيان أطوار الناس في بعض الأزمان المستقلة ،
وفيها الوصية بتجنب الفتن
|
١٣٢
|
من خطبة في تنزيه الله والحث على تعظيمه ، ثم
في بيان منزلة الانسان من الدنيا ، ثم التخويف من عقاب الآخرة ، وفيها ذكر
القرآن وصفته
|
١٥١
|
من خطبة له في التذكير بنعم الله والعظة
بأحوال الموتى ، وتفصيل فيها
|
١٣٧
|
كلام في ذم البرج بن مسهر الطائي الخارجي
|
١٥٢
|
من خطبة في تقسيم الإيمان ، والنهي عن
البراءة من أحد حتى يحضره الموت ، وفي الهجرة ، وفي صعوبة أمر نفسه
|
|
ومن خطبة في تنزيه الله ، ثم في صفة خلق بعض
الحيوانات وفي وصف النملة ، والجرادة وصفا دقيقاً
|
١٥٣
|
من خطبة له في الأمر بالتقوى ، والتخويف
الدنيا ، وتهويل الجيحم ووصف أهل الجنة ، والوصية بلزوم السكون والصبر على
البلاء
|
١٤٢
|
من خطبة له في التوحيد ، وهي من جلائل الخطب
: تجمع كثيراً من أصول العلم
|
١٥٦
|
من خطبة في الوصية بالتقوى ، ثم وصف الدنيا ،
ثم حالها مع المغرورين بها
|
١٤٩
|
من خطبة له تختص بذكر للاحم ، وفيها بيان صفة
أهل الحق الذين سترتهم ظلمة الباطل
|
١٦١
|
الخطبة «القاصعة» في ذم الكبر وتقبيح
الاختلاف ، وفيها بيان بعض أسرار التكاليف وهي من جلائل الخطب
|
|
|
١٨٥
|
خطبة في وصف المتقين وهى
|
|
التي صعق همام فمات بعد صماغها
|
|
وإن قدر عليه
|
١٩٠
|
خطبة يصف بها المنافقين
|
٢٠٧
|
ومن كلام في النهى عن الاعوجاج وإن قل
المستقيمون ، والوصية بالنكار المنكر
|
١٩٣
|
من خطبة في تمجيد الله وأنه لا يسلبه شأن
شأنا ؛ ثم الوصية بالتقوى ، ووصف اليوم الآخره
|
|
من كلام له عند دفن السيدة فاطمة
|
١٩٥
|
من خطبة في التحذير من الدنيا ، وبيان شيء من
تصرفها بأبنها ، والوصية بالتقوى فيها
|
٢٠٩
|
ومن كلام في أن الدنيا دار مجاز ومن كلام له
كان ينادي به أصحابه في الازعاج عن الدنيا ، والتذكير بالموت
|
١٩٦
|
ومن كلام في بيان اختصاصه بالنبي صلى الله
عليه وسلم
|
٢١٠
|
من كلام لطلحة والزبير عند مانقما عليه عدم
الرجوع إليهما في الرأى.
|
١٩٨
|
من خطبة في بيان إحاطه علم الله بالموجودات ؛
وبيان مزايا التقوى والوصية بها ؛ ثم وصف دين الاسلام ؛ ثم في وصف دين الاسلام ؛
ثم حال بعثة النبي ؛ ثم وصف القرآن
|
٢١١
|
ومن كلام له في بعض أيام صفين ، وقد رأى
الحسن ابنه يتسرع إلى الحرب
|
٢٠٤
|
من كلام له كان يوصى به أصحابه في العبادات
ومكارم الأخلاق ، وشيء من حكم : الصلاة ، والزكاة ، وأداء الأمانة
|
|
من كلام قاله عند اضطراب أصحابه عليه في
الحكومة
|
٢٠٦
|
من كلام له في تنزهه عن الغدر
|
٢١٣
|
ومن كلام له في أن نعيم الدنيا يؤدي إلى
الآخرة إن صلحت فيه النية وحسن العمل
|
٢١٤
|
من كلام له في تقسيم الأحاديث الواردة عن
النبي ، وتصنيف روانها
|
|
وعبد الرحمن بن عتاب وهما قتيلان يوم الجمل
|
٢١٦
|
من خطبة له في تمجيد الله ، ووصف خلق البحار
والسموات والأرض
|
٢٢٩
|
ومن كلام له في وصف تقي
|
٢١٩
|
من خطبة في التفويض الله فيمن خذله بعد معرفة
عدالته وإصلاحه
|
٢٣٠
|
ومن كلام عند تلاوته (ألهاكم التكاثر) وصف
فيه الموتى والسائرين إلى الموت ، وهى من أجل الخطب
|
|
من كلام في تمجيد الله ، وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم
|
٢٣٧
|
من كلام له عند تلأوته (رجال لا تلهيهم
تجارة) فيها وصف الصديقين
|
٢٢٠
|
ومن خطبة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم ،
وذكر أوصاف أهل الخير ، والوصية باستماع النصحية من مخلصها
|
٢٤٠
|
من كلام عند تلاوته (ياأيها الانسان ما غرك
بربك الكريم) وفيها تبرئه الدنيا من الذهم ، وإلزامه للمغرورين بها. من خطبة له
في تهويل الظلم وتبرئه منه ، وبيان صغر الدنيا في نظره
|
٢٢٢
|
دعاء كان يدعو به كثيراً
|
٢٤٥
|
من دعاء له
|
٢٢٣
|
من خطبة له بصفين بين حق الخليفة وحق الرعية
، ومضار إغفال الحقوق ، ونهى أصحابه عن الثناء عليه
|
٢٤٦
|
من خطة له في ذم الدنيا ، ووصف سكان القيور
|
٢٢٧
|
كلام له في الشكوى من قريش وظلمهم له
|
٢٤٩
|
ومن كلام له في الثناء على عمر ابن الخطاب.
من كلام له في وصف بيعته بالخلاقه
|
٢٢٨
|
من كلام له في وصف السائرين إلى البصرة لحربه
|
٢٥٠
|
ومن خطبة له في الوصية بالتقوى وتخويف الموت
، والتحذير من الدنيا ، ثم وصف الزهاد
|
٢٢٩
|
من كلام له لمامر بلطلحة
|
|
|
٢٥٣
|
كلمات من خطبة في أمر النبي صلى الله عليه
وسلم
|
٢٥٧
|
ومن خطبة له في طلب العمل قبل الأجل ، والاخذ
من الفاني للباقي
|
|
من كلام قال هفي رد طالب منه مالا
|
٢٥٨
|
من كلام في شأن الحكمين ، ووصف أهل الشام
|
٢٥٤
|
من كلام في إجحام اللسان عن الكلام ، ثم في
حال الناس يبعض الأزمان
|
٢٥٩
|
من خطبة له يصف فيها آل البيت الكريم
|
٢٥٥
|
ومن كلام في سبب اختلاف الناس في أخلاقهم
|
٢٦٠
|
ومن كلام له عند ما أمره عثمان بالخروج إلى
ينبع ، وفيه بيان حاله مع عثمان
|
|
من كلام قاله وهو يلى غسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم
|
٢٦١
|
من كلام له يحث به أصحابه على الجهاد
|
٢٦٦
|
كلمة له في اقتفائه أثر الرسول بعد الهجرة
|
|
|
تم
الفهرس
|