بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أما بعد حمد اللّه الذى جعل الحمد ثمنا
لنعمائه ، ومعاذا من بلائه ، وسبيلا إلى جنانه
وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبى الرحمة ، وإمام الأئمة ، وسراج الأمة.
المنتخب من طينة الكرم
وسلالة المجد الأقدم. ومغرس الفخار المعرق
وفرع العلاء المثمر المورق. وعلى أهل بيته مصابيح الظّلم ، وعصم الأمم ومنار
الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى اللّه عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاء
لفضلهم ومكافأة لعملهم ، وكفاء
لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع ، وخوى نجم طالع ـ فإنى كنت فى عنفوان
السن وغضاضة
الغصن ، ابتدأت
__________________
بتأليف كتاب فى
خصائص الأئمة عليهم السلام : يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حدانى عليه
غرض ذكرته فى صدر الكتاب ، وجعلته أمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التى تخص أمير
المؤمنين عليّا عليه السلام ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام ، وكنت قد بوبت ما خرج
من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء فى آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه
السلام من الكلام القصير فى الحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة ، والكتب
المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره
معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه
وسألونى عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوى على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين
عليه السلام فى جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه : من خطب ، وكتب ، ومواعظ ، وآداب.
علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب
الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا فى كلام ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان
أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ
البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى
أمثلته حذا كل قائل خطيب ، وبكلامه
__________________
استعان كل واعظ
بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام
الذى عليه مسحة من العلم الإلهى
وفيه عبقة من الكلام النبوى ، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم
النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير
المؤمنين عليه السلام فى هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدّثرة ، والفضائل
الجمة . وأنه ، عليه
السلام ، انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها
القليل النادر ، والشاذ الشارد .
وأما كلامه فهو من البحر الذى لا يساجل والجم الذى لا يحافل وأردت
أن يسوغ لى التمثل فى الافتخار به عليه السلام ، بقول الفرزدق : ـ أولئك آبائى
فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا ، يا جرير ، المجامع
ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب
ثلاثة : أولها : الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، وثالثها : الحكم والمواعظ
، فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثم
محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والأدب. مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصّلا فيه
__________________
أوراقا ، لتكون
مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عنى عاجلا ، ويقع إلىّ آجلا ، وإذا جاء شىء من كلامه
عليه السلام الخارج فى أثناء حوار
أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الأغراض ـ فى غير الأنحاء التى ذكرتها ، وقررت
القاعدة عليها ـ نسبته إلى أليق الأبواب به ، وأشدها ملامحة لغرضه . وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول
غير متّسقة ، ومحاسن كلم غير منتظمة ، لأنى أورد النكت واللّمع ، ولا أقصد التتالى
والنسق. ومن عجائبه ، عليه السلام ، التى انفرد بها ، وأمن المشاركة فيها ، أن
كلامه عليه السلام ، الوارد فى الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمله
المتأمل ، وفكر فيه المتفكر ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ، ونفذ
أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك فى أنه من كلام من لاحظ له فى غير
الزّهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع فى كسر بيت أو انقطع فى سفح جبل ، لا يسمع إلا
حسّه ، ولا يرى إلا نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس فى الحرب مصلتا سيفه فيقطّ
الرقاب ، ويجدّل
__________________
الأبطال ويعود به ينطف دما ، ويقطر مهجا. وهو
مع تلك الحال زاهد الزهاد ، وبدل الأبدال .
وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التى جمع بها بين الأضداد وألف بين
الأشتات .
وكثيرا ما أذكر الإخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهى موضع للعبرة بها ، والفكرة
فيها وربما جاء فى أثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد ، والمعنى المكرر. والعذر فى
ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا : فربما اتفق الكلام المختار فى رواية
فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك فى رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول : إما بزيادة
مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضى الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة
على عقائل الكلام وربما بعد العهد أيضا
بما اختير أوّلا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا ، لا قصدا واعتمادا.
__________________
ولا أدعى ـ مع ذلك ـ أنى أحيط باقطار
جميع كلامه عليه السلام
حتى لا يشذ عنى منه شاذ ، ولا يند ناد. بل لا أبعد أن يكون القاصر عنى فوق الواقع
إلىّ ، والحاصل فى ربقتى دون الخارج من يدى
وما علىّ إلا بذل الجهد ، وبلاغ الوسع ، وعلى اللّه سبحانه وتعالى نهج السبيل ورشاد الدليل ، إن شاء اللّه. ورأيت من
بعد تسمية هذا الكتاب ب «نهج البلاغة» إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب
عليه طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد. ويمضى فى أثنائه
من الكلام فى التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو
بلال كل غلة وجلاء كل شبهة ومن
اللّه سبحانه أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ
الجنان ، قبل خطأ اللسان ، ومن زلة الكلام ، قبل زلة القدم وهو حسبى ونعم الوكيل.
باب المختار من خطب أمير
المؤمنين عليه السلام وأوامره
. ويدخل فى ذلك المختار من كلامه الجارى
مجرى الخطب فى المقامات المحصورة ، والمواقف المذكورة والخطوب الواردة
__________________
١ ـ فمن خطبة له عليه
السّلام
يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق
آدم. وفيها ذكر الحج
الحمد للّه الّذى لا يبلغ مدحته
القائلون ، ولا يحصى نعماءه العادّون ، ولا يؤدّى حقّه المجتهدون ، الّذى لا يدركه
بعد الهمم
ولا يناله غوص الفطن
الّذى ليس لصفته حدّ محدود
ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود : فطر الخلائق بقدرته ، ونشر
الرّياح برحمته ، ووتّد بالصّخور ميدان أرضه أوّل الدّين معرفته وكمال
معرفته التّصديق به ، وكمال
__________________
التّصديق به توحيده
، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفى الصّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة
أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة : فمن وصف اللّه سبحانه فقد
قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار
إليه فقد حدّه
، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال «فيم؟» فقد ضمّنه ،
__________________
ومن قال «علام؟» فقد
أخلى منه. كائن لا عن حدث
موجود لا عن عدم ، مع كلّ شىء لا بمقارنة ، وغير كلّ شىء لا بمزايلة فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير
إذ لا منظور إليه من خلقه
متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده أنشأ الخلق إنشاء ،
وابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها ولا تجربة استفادها ،
ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها أحال الأشياء
لأوقاتها
ولأم بين مختلفاتها
وغرّز
__________________
غرائزها وألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا
بحدودها وانتهائها عارفا بقرائنها وأحنائها
ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشقّ الأرجاء ، وسكائك
الهواء فأجرى فيها ماء
متلاطما تيّاره متراكما زخّاره.
حمله
__________________
على متن الرّيح
العاصفة ، والزّعزع القاصفة. فأمرها بردّه
وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه. الهواء من تحتها فتيق والماء من فوقها دفيق. ثمّ أنشأ سبحانه
ريحا اعتقم مهبّها
وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار وإثارة
موج البحار ، فمخضته مخض السّقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله إلى آخره ،
وساجيه إلى مائره . حتّى عبّ عبابه. ورمى
بالزّبد ركامه ، فرفعه فى هواء منفتق
__________________
وجوّ منفهق فسوّى منه سبع سموات جعل سفلاهنّ موجا
مكفوفا
وعلياهنّ سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، وضياء
الثّواقب وأجرى فيها سراجا
مستطيرا وقمرا منيرا : فى فلك
دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر ثمّ فتق ما بين
السّموات العلا ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته
منهم سجود لا يركعون ،
__________________
وركوع لا ينتصبون ،
وصافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين ، ولا سهو العقول
، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النّسيان. ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله
، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده ، والسّدنة لأبواب جنانه. ومنهم
الثّابتة فى الأرضين السّفلى أقدامهم ، والمارقة من السّماء العليا أعناقهم ، والخارجة
من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم
وبين من دونهم حجب العزّة ، وأستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير ، ولا
يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنّظائر
صفة خلق آدم عليه السلام
ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها ، وعذبها
وسبخها
تربة
__________________
سنّها بالماء حتّى
خلصت. ولاطها بالبلّة حتّى لزبت
فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول
وأعضاء وفصول : أجمدها حتّى استمسكت وأصلدها حتّى صلصلت لوقت معدود ، وأمد معلوم ، ثمّ نفخ
فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرّف بها ،
وجوارح يختدمها ،
__________________
وأدوات يقلّبها ، ومعرفة
يفرق بها بين الحقّ والباطل والأذواق والمشامّ ، والألوان والأجناس ، معجونا بطينة
الألوان المختلفة
والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة ، من الحرّ والبرد ، والبلّة
والجمود ، واستأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم وعهد وصيّته إليهم ، فى الإذعان
بالسّجود له ، والخشوع لتكرمته ، فقال سبحانه : «اُسْجُدُوا لِآدَمَ»
فسجدوا إلاّ إبليس اعترته الحميّة وغلبت عليه الشّقوة وتعزّز بخلقة النّار واستهون خلق
الصّلصال ، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسّخطة ، واستتماما
__________________
للبليّة ، وإنجازا
للعدة ، فقال (إنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ
يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ)
ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه ، وآمن فيها محلّته ، وحذّره إبليس وعداوته
، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار فباع اليقين بشكّه ، والعزيمة بوهنه ،
واستبدل بالجذل وجلا
، وبالاغترار ندما ثمّ بسط اللّه سبحانه له فى توبته ، ولقّاه كلمة رحمته ، ووعده
المردّ إلى جنّته ، وأهبطه إلى دار البليّة
وتناسل الذّرّيّة ، واصطفى سبحانه من
ولده
__________________
أنبياء أخذ على
الوحى ميثاقهم
، وعلى تبليغ الرّسالة أمانتهم ، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم فجهلوا حقّه واتّخذوا الأنداد معه واجتالتهم الشّياطين عن معرفته واقتطعتهم
عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم
ميثاق فطرته ويذكّروهم منسىّ
نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم الآيات المقدّرة : من سقف فوقهم
__________________
مرفوع ، ومهاد تحتهم
موضوع ، ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم وأحداث تتابع عليهم ، ولم يخل سبحانه
خلقه من نبىّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة ، أو محجّة قائمة : رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم ، ولا
كثرة المكذّبين لهم : من سابق سمّى له من بعده ، أو غابر عرّفه من قبله : على ذلك نسلت القرون ،
ومضت الدّهور ، وسلفت الآباء وخلفت الأبناء ، إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لإنجاز عدته وتمام نبوّته ، مأخوذا
على النّبيّين ميثاقه ، مشهورة سماته
__________________
كريما ميلاده. وأهل
الأرض يومئذ ملل متفرّقة ، وأهواء منتشرة وطوائف متشتّتة ، بين مشبّه للّه بخلقه
أو ملحد فى اسمه ، أو مشير إلى غيره
، فهداهم به من الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثمّ اختار سبحانه لمحمّد
صلّى اللّه عليه وسلّم لقاءه ، ورضى له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدّنيا ، ورغب به
عن مقارنة البلوى ، فقبضه إليه كريما صلّى اللّه عليه وآله وخلّف فيكم ما خلّفت
الأنبياء فى أممها ـ إذ لم يتركوهم هملا : بغير طريق واضح ، ولا علم قائم كتاب ربّكم فيكم : مبيّنا حلاله وحرامه
وفرائضه وفضائله
، وناسخه
__________________
ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه
، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّرا
مجمله ، ومبيّنا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق فى علمه ، وموسّع على العباد فى جهله ،
وبين مثبت فى الكتاب فرضه ومعلوم فى السّنّة نسخه ، وواجب فى السّنّة أخذه ، ومرخّص
فى الكتاب تركه ، وبين واجب بوقته ، وزائل فى مستقبله ، ومباين بين محارمه : من كبير
__________________
أوعد عليه نيرانه ، أو
صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول فى أدناه ، موسّع فى أقصاه
منها فى ذكر الحج
وفرض عليكم حجّ بيته الحرام ، الّذى
جعله قبلة للأنام ، يردونه ورود الأنعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم
لعزّته ، واحتار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته ، وصدّقوا كلمته ، ووقفوا مواقف
أنبيائه ، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه : يحرزون الأرباح فى متجر عبادته ، ويتبادرون
عند موعد مغفرته ، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما ، وللعائذين حرما ، فرض حجّه ،
وأوجب حقّه ، وكتب عليكم وفادته
فقال سبحانه : «وَلِلّٰهِ
عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ».
__________________
٢ ـ ومن خطبة له بعد انصرافه
من صفين
أحمده استتماما لنعمته ، واستسلاما
لعزّته ، واستعصاما من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته ، إنّه لا يضلّ من هداه ،
ولا يئل من عاداه
، ولا يفتقر من كفاه ، فإنّه أرجح ما وزن
، وأفضل ما خزن. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، شهادة ممتحنا
إخلاصها ، معتقدا مصاصها نتمسّك بها أبدا ما
أبقانا ، وندّخرها لأهاويل ما يلقانا ، فإنّها عزيمة
الإيمان ، وفاتحة الإحسان ، ومرضاة الرّحمن ، ومدحرة الشّيطان . وأشهد
أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالدّين المشهور ، والعلم المأثور والكتاب المسطور ، والنّور السّاطع ، والضّياء
اللاّمع ، والأمر الصّادع ، إزاحة للشّبهات ، واحتجاجا بالبيّنات ، وتحذيرا
بالآيات ، وتخويفا بالمثلات
__________________
والنّاس فى فتن
انجذم فيها حبل الدّين
وتزعزعت سوارى اليقين
واختلف النّجر
وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج وعمى المصدر فالهدى خامل ، والعمى
شامل : عصى الرّحمن ، ونصر الشّيطان ، وخذل الإيمان ، فانهارت دعائمه ،
وتنكّرت معالمه ودرست سبله وعفت شركه : أطاعوا الشّيطان فسلكوا
مسالكه ، ووردوا مناهله
، بهم سارت أعلامه وقام لواؤه ، فى فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها وقامت على سنابكها ، فهم فيها تائهون
حائرون جاهلون مفتونون ، فى خير دار ، وشرّ
__________________
جيران . نومهم سهاد ، وكحلهم دموع ، بأرض
عالمها ملجم ، وجاهلها مكرّم.
ومنها يعنى آل النبى عليه
الصلاة والسلام :
موضع سرّه ، ولجأ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال
دينه : بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه
ومنها يعنى قوما آخرين :
زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا
الثّبور ، لا يقاس بآل
__________________
محمّد صلّى اللّه
عليه وآله من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا : هم أساس
الدّين ، وعماد اليقين : إليهم يفىء الغالى ، وبهم يلحق التّالى ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم
الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ونقل إلى منتقله
٣ ـ ومن خطبة له وهى
المعروفة بالشقشقية
أما واللّه لقد تقمّصها فلان وإنّه
ليعلم أنّ محلّى منها محلّ القطب من الرّحى : ينحدر عنّى السّيل ولا
يرقى إلىّ الطّير ، فسدلت دونها ثوبا
،
__________________
وطويت عنها كشحا. وطفقت
أرتئى بين أن أصول بيد جذّاء
أو أصبر على طخية عمياء
يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى فصبرت
وفى العين قذى ، وفى الحلق شجا أرى تراثى نهبا ، حتّى
مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده (ثمّ
تمثّل بقول الأعشى) شتّان ما يومى على كورها ويوم حيّان أخى جابر
__________________
فيا عجبا!! بينا هو
يستقيلها فى حياته
إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ
__________________
ما تشطّرا ضرعيها فصيّرها فى حوزة خشناء يغلظ كلامها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار
منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة
إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمنى النّاس لعمر اللّه ـ بخبط وشماس وتلوّن
واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة ، حتّى
__________________
إذا مضى لسبيله
جعلها فى جماعة زعم أنّى أحدهم ، فياللّه وللشّورى متى
__________________
اعترض الرّيب فىّ مع
الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر !!
لكنّى أسففت إذ أسفّوا
وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه
ومال الآخر لصهره مع هن وهن إلى
أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ،
وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله وكبت به
__________________
بطنته فما راعنى إلاّ والنّاس كعرف الضّبع
إلىّ ينثالون
علىّ من كلّ جانب ، حتّى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاى ، مجتمعين حولى كربيضة
الغنم فلمّا نهضت
بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون كأنّهم لم يسمعوا كلام
اللّه حيث يقول : «تِلْكَ
اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ
عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلاٰ فَسٰاداً وَاَلْعٰاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ» بلى! واللّه لقد
سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدّنيا فى أعينهم وراقهم
زبرجها ، أما والّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لو
لا حضور الحاضر
__________________
وقيام الحجّة بوجود
النّاصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم
، لألقيت
حبلها على غاربها
، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز . قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد عند
بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه ، قال له ابن عباس
رضى اللّه عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت فقال : هيهات
يابن عبّاس ، تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت قال
ابن عباس : فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير
المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد
__________________
(قوله «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن
أسلس لها تقحم» يريد أنه إذا شدد عليها فى جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها
، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها : يقال : أشنق الناقة ، إذا
جذب رأسها بالزمام فرفعه ، وشنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت فى إصلاح المنطق : وإنما
قال : «أشنق لها» ولم يقل «أشنقها» لأنه جعله فى مقابلة قوله «أسلس لها» فكأنه
عليه السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها)
٤ ـ ومن
خطبة له عليه السّلام
بنا اهتديتم فى الظّلماء ، وتسنّمتم
العلياء
، وبنا انفجرتم عن السّرار. وقر سمع لم يفقه الواعية وكيف يراعى النّبأة من أصمّته الصّيحة . ربط
__________________
جنان لم يفارقه
الخفقان
ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر ، وأتوسّمكم بحلية المغترّين سترنى عنكم جلباب الدّين وبصّرنيكم صدق النّيّة ، أقمت لكم على
سنن الحقّ فى جوادّ المضلّة حيث تلتقون ولا دليل
، وتحتفرون ولا تميهون اليوم أنطق لكم
العجماء ذات البيان غرب رأى امرئ تخلّف
عنّى ما شككت فى
الحقّ مذ أريته ، لم يوجس موسى عليه السّلام
__________________
خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهّال ودول الضّلال.
اليوم توافقنا على سبيل الحقّ والباطل ، من وثق بماء لم يظمأ
٥ ـ ومن
خطبة له عليه السّلام
لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان ابن حرب فى أن يبايعا له بالخلافة أيّها النّاس ، شقّوا
أمواج الفتن بسفن النّجاة ، وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح ، هذا ماء آجن ولقمة
يغصّ بها آكلها. ومجتنى الثّمرة لغير وقت إيناعها
__________________
كالزّارع بغير أرضه فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، وإن
أسكت يقولوا : جزع من الموت
هيهات بعد اللّتيا والّتى
واللّه لابن أبى طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم
لو تحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية فى الطّوىّ البعيدة
٦ ـ ومن
كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير
ولا يرصد لهما القتال
واللّه لا أكون كالضّبع : تنام على طول
اللّدم ، حتّى يصل إليها
طالبها ،
__________________
ويختلها راصدها ، ولكنّى
أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه ، وبالسّامع المطيع العاصى المريب أبدا ، حتّى
يأتى علىّ يومى. فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّى مستأثرا علىّ منذ قبض اللّه نبيّه
صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى يوم النّاس هذا
٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا واتّخذهم له أشراكا ، فباض وفرّخ فى
صدورهم
ودبّ ودرج فى حجورهم
فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل فعل
من قد شرّكه الشّيطان فى سلطانه ونطق بالباطل على لسانه.
__________________
٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
يعنى به الزبير فى حال اقتضت ذلك
يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه
، فقد أقرّ بالبيعة ، وادّعى الوليجة
فليأت عليها بأمر يعرف ، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه
٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد أرعدوا وأبرقوا ، ومع هذين الأمرين
الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع
ولا نسيل حتّى نمطر
١٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
ألا وإنّ الشّيطان قد جمع حزبه ، واستجلب
خيله ورجله ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست على نفسى ، ولا لبّس علىّ. وايم اللّه
لا أفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه
لا يصدرون عنه ، ولا يعودون إليه
__________________
١١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية
يوم الجمل
تزول الجبال ولا تزل! عضّ على ناجذك ، أعر اللّه جمجمتك ، تد فى الأرض قدمك
، ارم ببصرك
أقصى القوم ، وغضّ بصرك
واعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه
١٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما أظفره اللّه باصحاب الجمل ، وقد قال
له بعض أصحابه : وددت أن أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك
فقال له عليه السّلام : أهوى أخيك معنا ؟ فقال : نعم. قال : فقد
شهدنا ولقد شهدنا فى عسكرنا هذا أقوام فى أصلاب الرّجال وأرحام النّساء ،
__________________
سيرعف بهم الزّمان ويقوى بهم الإيمان
١٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى ذم أهل البصرة كنتم جند المرأة ، وأتباع
البهيمة
: رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، أخلاقكم دقاق
وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق والمقيم بين أظهركم
__________________
مرتهن بذنبه ، والشّاخص
عنكم متدارك برحمة من ربّه ، كأنّى بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن
تحتها وغرق من فى ضمنها وفى رواية : وايم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتّى كأنّى أنظر
إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة ، أو نعامة جاثمة
وفى رواية : كجؤجؤ طير فى لجّة بحر وفى رواية أخرى : بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة
: أقربها من الماء وأبعدها من السّماء ، وبها تسعة أعشار الشّرّ ، المحتبس فيها
بذنبه ، والخارج بعفو اللّه ، كأنّى أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتّى ما
يرى منها إلاّ شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير فى لجّة بحر
١٤ ـ ومن كلام له عليه السّلام
فى مثل ذلك
أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من
السّماء ، خفّت عقولكم وسفهت حلومكم
__________________
فأنتم غرض لنابل ، وأكلة لآكل ، وفريسة لصائل.
١٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام
فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان
رضى اللّه عنه
واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء ،
وملك به الإماء ، لرددته فإنّ فى العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق
١٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام
لما بويع بالمدينة
ذمّتى بما أقول رهينة وأنا
به زعيم ، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزته
التّقوى عن تقحّم الشّبهات ، ألا وإنّ بليّتكم
__________________
قد عادت كهيئتها يوم
بعث اللّه نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم
والّذى بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم
أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا واللّه ما كتمت وشمة ولا
كذبت كذبة ،
__________________
ولقد نبّئت بهذا
المقام وهذا اليوم ، ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها
فتقحّمت بهم فى النّار
ألا وإنّ التّقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها ، فأوردتهم الجنّة ، حقّ
وباطل ، ولكلّ أهل
فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولقلّما أدبر شىء
فأقبل
__________________
قال الشريف : أقول :
إنّ فى هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ
حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به ، وفيه ـ مع الحال الّتي وصفنا ـ زوائد من
الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطّلع فجّها إنسان ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب فى هذه
الصّناعة بحقّ ، وجرى فيها على عرق
«وَمٰا
يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ»
ومن هذه الخطبة
شغل من الجنّة والنّار أمامه ساع سريع نجا ،
وطالب بطىء رجا ،
__________________
ومقصّر فى النّار
هوى ، اليمين والشّمال مضلّة ، والطّريق الوسطى هى الجادّة عليها باقى الكتاب وآثار النّبوّة ، ومنها
منفذ السّنّة ، وإليها مصير العاقبة ، هلك من ادّعى ، وخاب من افترى من أبدى صفحته
للحقّ هلك
وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، لا يهلك على التّقوى سنخ أصل ، ولا يظمأ عليها
__________________
زرع قوم. فاستتروا
ببيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتّوبة من ورائكم ، ولا يحمد حامد إلاّ ربّه ، ولا
يلم لائم إلاّ نفسه.
١٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس
لذلك بأهل
إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان : رجل
وكله اللّه إلى نفسه
فهو جائر عن قصد السّبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن
به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به فى حياته وبعد وفاته ، حمّال
خطايا غيره ، رهن بخطيئته
، ورجل قمش جهلا
موضع فى جهّال الأمّة عاد
__________________
فى أغباش الفتنة ، عم
بما فى عقد الهدنة
قد سمّاه أشباه النّاس عالما وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا
كثر حتّى إذا
ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل
، جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ،
فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ، ثمّ
__________________
قطع به ، فهو من لبس الشّبهات فى مثل نسج
العنكبوت
: لا يدرى أصاب أم أخطأ : فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد
أصاب ، جاهل خبّاط جهالات. عاش ركّاب عشوات
لم يعضّ على العلم بضرس قاطع يذرى الرّوايات
إذراء الرّيح الهشيم
__________________
لاملىء واللّه
بإصدار ما ورد عليه ، ولا هو أهل لما فوّض إليه لا يحسب العلم فى شىء ممّا أنكره ، ولا
يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور
قضائه الدّماء ، وتعجّ منه المواريث
إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا ويموتون ضلاّلا ليس
فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا
أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ، ولا أعرف
من المنكر.
١٨ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى ذم اختلاف العلماء فى الفتيا
ترد على أحدهم القضيّة فى حكم من
الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد
__________________
تلك القضيّة بعينها
على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذى استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد! ونبيّهم
واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟
أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا
وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : (مٰا
فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْءٍ) وقال : (فِيهِ تِبْيَانٌ
لِكُلِّ شَىْءٍ)
وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا ، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : (وَلَوْ
كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً).
وإنّ القرآن ظاهره أنيق
وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ به.
١٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة
يخطب ، فمضى فى بعض كلامه شىء اعترضه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين هذه عليك لا
لك فخفض عليه
السّلام إليه بصره ثم قال : ما يدريك ما علىّ ممّا لى؟ عليك لعنة اللّه ولعنة
اللاّعنين ، حائك بن
__________________
حائك منافق ابن كافر واللّه لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام
أخرى . فما فداك
من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإنّ امرءا دلّ
__________________
على قومه السّيف ، وساق
إليهم الحتف ، لحرىّ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد
٢٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات
منكم لجزعتم ووهلتم
وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب ولقد بصّرتم إن أبصرتم ، وأسمعتم إن
سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر وزجرتم
بما فيه مزدجر. وما يبلّغ عن اللّه بعد
__________________
رسل السّماء إلاّ
البشر
٢١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فإنّ الغاية أمامكم وإنّ وراءكم السّاعة تحدوكم ، تخفّفوا
تلحقوا
فإنّما تنتظر بأوّلكم آخركم قال الشريف أقول : إن
هذا الكلام لو وزن ، بعد كلام اللّه سبحانه وبعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله ، بكل كلام لمال به راجحا ، وبرّز عليه سابقا. فأما قوله عليه السّلام «تخففوا
تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا وما أبعد غورها من كلمة ، وأنقع
نطفتها من حكمة ، وقد نبهنا فى كتاب
الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها
__________________
٢٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
ألا وإنّ الشّيطان قد ذمر حزبه ، واستجلب جلبه. ليعود الجور إلى
أوطانه ، ويرجع الباطل إلى نصابه .
واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا ، وإنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه ، ودما
هم سفكوه ، فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه ، ولئن كانوا ولّوه دونى فما
التّبعة إلاّ عندهم ، وإنّ أعظم حجّتهم لعلى أنفسهم! يرتضعون أمّا قد فطمت ويحيون
بدعة قد أميتت ، يا خيبة الدّاعى!! من دعا؟ وإلام أجيب؟ وإنّى
لراض بحجّة اللّه عليهم ، وعلمه فيهم ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف وكفى به شافيا
من الباطل ، وناصرا للحقّ ، ومن العجب بعثهم إلىّ أن أبرز للطّعان! وأن أصبر
للجلاد ، هبلتهم الهبول لقد كنت وما أهدّد
بالحرب ، ولا
__________________
أرهب بالضّرب ، وإنّى
لعلى يقين من ربّى ، وغير شبهة من دينى.
٢٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمّا بعد فانّ الأمر ينزل من السّماء
إلى الأرض كقطرات المطر : إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة ونقصان ، فإذا رأى
أحدكم لأخيه غفيرة فى أهل أو مال أو نفس
فلا تكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت
وتغرى بها لئام النّاس ، كان كالفالج الياسر
الّذى ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم ، ويرفع بها عنه المغرم ، وكذلك
المرء المسلم البرىء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعى اللّه فما
عند اللّه خير له ، وإمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه دينه وحسبه ، إنّ
المال والبنين حرث الدّنيا ، والعمل الصّالح حرث الآخرة ، وقد
__________________
يجمعهما اللّه
لأقوام ، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه ، واخشوه خشية ليست بتعذير واعملوا فى غير رياء ولا سمعة ، فإنّه
من يعمل لغير اللّه يكله اللّه لمن عمل له
نسأل اللّه منازل الشّهداء ، ومعايشة السّعداء ، ومرافقة الأنبياء. أيّها النّاس
إنّه لا يستغنى الرّجل ، وإن كان ذا مال ، عن عشيرته ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم
، وهم أعظم النّاس حيطة من ورائه
وألمّهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. ولسان الصّدق يجعله اللّه
للمرء فى النّاس خير له من المال يورّثه غيره. ومنها : ألا
لا يعدلن عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالّذى
__________________
لا يزيده إن أمسكه ،
ولا ينقصه إن أهلكه
، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيد
كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة. قال الشريف : أقول : الغفيرة ههنا
الزيادة والكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ، والجماء الغفير. ويروى «عفوة
من أهل أو مال» والعفوة الخيار من الشىء ، يقال : أكلت عفوة الطعام ، أى : خياره ،
وما أحسن المعنى الذى أراده عليه السّلام بقوله : «ومن يقبض يده عن عشيرته إلى
تمام الكلام ، فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة فاذا احتاج إلى
نصرتهم واضطرّ إلى مرافدتهم
قعدوا عن نصره ، وتثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدى الكثيرة ، وتناهض الأقدام
الجمّة.
٢٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
ولعمرى ما علىّ من قتال من خالف الحقّ ،
وخابط الغىّ ، من إدهان ولا
__________________
إيهان فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، وامضوا فى
الّذى نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم .
فعلىّ ضامن لفلجكم آجلا ، إن لم تمنحوه عاجلا
٢٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
وقد تواترت عليه
الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن ، وهما عبيد
اللّه بن عباس وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة فقام
عليه السّلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه
__________________
عن الجهاد ومخالفتهم له فى الرأى ، فقال
: ـ ما هى إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها
، إن لم تكونى إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك
فقبّحك اللّه وتمثل بقول الشاعر [لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّنى على وضر من ذا
الإناء قليل
ثم قال عليه السّلام :
أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن وإنّى
واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم : باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم عن
حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم فى الحقّ ، وطاعتهم إمامهم
فى الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم
__________________
وبصلاحهم فى بلادهم
وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته ! اللّهمّ إنّى قد مللتهم وسئمتهم وسئمونى
، فأبدلنى بهم خيرا منهم وأبدلهم بى شرّا منّى ، اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح
فى الماء
، أما واللّه لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فرس بن غنم نالك ، لو دعوت ، أتاك منهم فوارس مثل
أرمية الحميم
ثم نزل عليه السّلام من المنبر. قال
الشريف : أقول : الأرمية جمع رمى وهو السحاب ، والحميم ههنا : وقت الصيف ، وإنما
خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا
__________________
وأسرع خفوفا لأنه لا ماء فيه. وإنما يكون السحاب
ثقيل السير لامتلائه بالماء ، وذلك لا يكون فى الأكثر إلا زمان الشتاء ، وإنما
أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ، والإغاثة إذا استغيثوا ، والدليل على ذلك
قوله هنالك لو دعوت أتاك منهم
٢٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وسلّم
وآله نذيرا للعالمين ، وأمينا على التّنزيل ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين ، وفى
شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صمّ
تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب
، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة ومنها.
فنظرت فإذا ليس لى معين إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت عن القذى ، وشربت
على الشّجى ، وصبرت على أخذ
__________________
الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم. ومنها : ولم
يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا
فلا ظفرت يد البائع ، وخزيت أمانة المبتاع ، فخذوا للحرب أهبتها ، وأعدّوا لها
عدّتها ، فقد شبّ لظاها ، وعلا سناها ، واستشعروا الصّبر فانّه أدعى إلى النّصر
٢٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمّا بعد ، فانّ الجهاد باب من أبواب
الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التّقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته
الوثيقة
فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ وشملة البلاء ، وديّث بالصّغار والقماء وضرب
على قلبه بالأسداد ، وأديل الحقّ منه
بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع
__________________
النّصف ، ألا وإنّى
قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : أغزوهم
قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم فى عقر دارهم إلاّ ذلّوا فتواكلتم ، وتخاذلتم حتّى شنّت الغارات
عليكم ، وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكرىّ وأزال
خيلكم عن مسالحها
ولقد بلغنى أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة ، فينتزع
حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمنع منه إلاّ
بالاسترجاع والاسترحام ثمّ انصرفوا
__________________
وافرين ما نال رجلا منهم كلم ، ولا أريق لهم
دم ، فلو أنّ امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندى
جديرا ، فيا عجبا ـ واللّه ـ يميت القلب ويجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على
باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم وترحا
حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى اللّه وترضون
، فاذا أمرتكم بالسّير إليهم فى أيّام الصّيف قلتم هذه حمارّة القيظ أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ وإذا
أمرتكم بالسّير إليهم فى الشّتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ أمهلنا
ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ والقرّ ، فأنتم واللّه من السّيف أفرّ
، يا أشباه الرّجال ولا رجال! حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال لوددت
أنّى لم أركم ولم أعرفكم!
__________________
معرفة واللّه جرّت
ندما ، وأعقبت سدما
قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبى قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرّعتمونى نغب التّهمام
أنفاسا
وأفسدتم علىّ رأيى بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش : إنّ ابن أبى طالب رجل
شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم!! وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا ، وأقدم
فيها مقاما منّى ؟!
لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على السّتّين ،
ولكن لا رأى لمن لا يطاع!!
٢٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت
بوداع ، وإنّ الآخرة قد
__________________
أشرفت باطّلاع ، ألا
وإنّ اليوم المضمار
وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة
والغاية النّار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ؟ ألا وإنّكم فى أيّام أمل من
ورائه أجل ، فمن عمل فى أيّام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ، ولم يضرره أجله ، ومن
قصّر فى أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله ، ألا فاعملوا فى
الرّغبة كما تعملون فى الرّهبة ، ألا وإنّى لم أر
كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها
،
__________________
ألا وإنّه من لا
ينفعه الحقّ يضرره الباطل
، ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ، ألا وإنّكم قد أمرتم
بالظّعن
، ودللتم على الزّاد ، وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل ، تزوّدوا
من الدّنيا ما تحرزون أنفسكم به غدا
قال الشريف : أقول : لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد فى الدنيا ويضطر إلى عمل
الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار
، ومن أعجبه قوله عليه السلام «ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السّباق والسّبقة
الجنّة والغاية النّار» فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق
التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله عليه السلام : «والسبقة
الجنة ، والغاية النار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل «السبقة
النار» كما قال «السبقة الجنة» ، لأن
__________________
الاستباق إنما يكون
إلى أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا فى النار
نعوذ باللّه منها ، فلم يجز أن يقول «والسبقة النار» بل قال «والغاية النار» ، لأن
الغاية ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء ومن يسره ذلك ، فصلح أن يعبر بها عن
الأمرين معا ، فهى فى هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال اللّه تعالى : «قُلْ تَمَتَّعُوا
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ»
ولا يجوز فى هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ، فتأمل ذلك
فباطنه عجيب وغوره بعيد. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام ، وفى بعض النسخ ، وقد جاء
فى رواية أخرى «والسبقة الجنة» ـ بضم السين ـ والسبقة عندهم : اسم لما يجعل للسابق
إذا سبق من مال أو عرض ، والمعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر
المذموم ، وإنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.
٢٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة
أهواؤهم
، كلامكم يوهى الصّمّ الصّلاب
وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون فى المجالس : كيت
__________________
وكيت ، فإذا جاء
القتال قلتم : حيدى حياد !
ما عزّت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم أعاليل بأضاليل ، دفاع ذى الدّين المطول
لا يمنع
الضّيم الذّليل. ولا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ ، أىّ دار بعد داركم تمنعون ومع أىّ
إمام بعدى تقاتلون؟ المغرور واللّه من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز واللّه
بالسّهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد
رمى بأفوق ناصل
__________________
أصبحت واللّه لا
أصدّق قولكم ، ولا أطمع فى نصركم ، ولا أوعد العدوّ بكم ما بالكم! ما دواؤكم! ما
طبّكم! القوم رجال أمثالكم! أقولا بغير علم؟ وغفلة من غير ورع؟ وطمعا فى غير حقّ؟!
٣٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى معنى قتل عثمان
لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه
لكنت ناصرا
غير أنّ من
__________________
نصره لا يستطيع أن
يقول : خذله من أنا خير منه ، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير منّى وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء
الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع
وللّه حكم واقع فى المستأثر والجازع.
٣١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لابن العباس لما أرسله إلى الزبير
يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل
لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثّور
عاقصا قرنه يركب الصّعب ويقول :
هو الذّلول. ولكن الق الزّبير فإنّه ألين عريكة فقل
له : يقول لك
__________________
ابن خالك : عرفتنى
بالحجاز وأنكرتنى بالعراق ، فما عدا ممّا بدا
قال الشريف : أقول : هو أول من سمعت منه هذه الكلمة ، أعنى «فما عدا مما بدا»
٣٢ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
أيّها النّاس ، إنّا قد أصبحنا فى دهر
عنود ، وزمن كنود
يعدّ فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظّالم عتوّا ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل
عمّا جهلنا ، ولا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا
فالنّاس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعهم الفساد إلا مهانة نفسه ، وكلالة حدّه
، ونضيض وفره ، ومنهم المصلت
لسيفه ، والمعلن بشرّه ، والمجلب بخيله ورجله ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ، لحطام
ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه . ولبئس
__________________
المتجر أن ترى
الدّنيا لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند اللّه عوضا ، ومنهم من يطلب الدّنيا بعمل
الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا : قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر
من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية ، ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة
نفسه ، وانقطاع
سببه ، فقصرته الحال على حاله ، فتحلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس أهل الزّهادة
، وليس من ذلك فى مراح ولا مغدى. وبقى رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم
__________________
بين شريد نادّ ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع
مخلص ، وثكلان موجع. قد أخملتهم التّقيّة
وشملتهم الذّلّة ، فهم فى بحر أجاج ، أفواههم ضامزة ، وقلوبهم قرحة ، وقد وعظوا حتّى ملّوا
، وقهروا حتّى ذلّوا ، وقتلوا حتّى قلّوا.
فلتكن الدّنيا فى أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم واتّعظوا
بمن كان قبلكم ، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة ، فإنّها رفضت من كان
أشغف بها منكم
__________________
قال الشريف : أقول : هذه الخطبة ربما
نسبها من لا علم له إلى معاوية ، وهى من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الذى لا
يشك فيه ، وأين الذهب من الرغام
والعذب من الأجاج؟ وقد دل على ذلك الدليل الخرّيت ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر
الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة فى كتاب البيان والتبيين ، وذكر من نسبها إلى معاوية
، ثم قال : هى بكلام على عليه السّلام أشبه وبمذهبه فى تصنيف الناس ، وبالإخبار عما
هم عليه من القهر والإذلال ، ومن التقية والخوف ـ أليق قال : ومتى وجدنا معاوية فى حال من
الأحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد ، ومذاهب العباد؟؟!!
٣٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
عند خروجه لقتال أهل البصرة
قال عبد اللّه بن العباس : دخلت على
أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار وهو يخصف نعله فقال
لى : ما قيمة هذه النعل؟ فقلت : لا قيمة لها. فقال عليه السّلام : واللّه لهى أحب
إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا ، أو أدفع باطلا ، ثم خرج فخطب الناس فقال : ـ
__________________
إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وآله
وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ، فساق النّاس حتّى بوّأهم
محلّتهم ، وبلّغهم منجاتهم
فاستقامت قناتهم
، واطمأنّت صفاتهم. أما واللّه إن كنت لفى ساقتها حتّى ولت بحذافيرها : ما ضعفت ولا جبنت
وإنّ مسيرى هذا لمثلها فلأنقبنّ الباطل
حتّى يخرج الحقّ من جنبه مالى ولقريش! واللّه
لقد قاتلتهم كافرين
__________________
ولأقاتلنّهم مفتونين
، وإنّى لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم!
٣٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
فى استنفار الناس إلى أهل الشام
أفّ لكم ، لقد سئمت عتابكم!! أرضيتم
بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذّلّ من العزّ خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد
عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت فى غمرة
، ومن الذّهول فى سكرة ، يرتج عليكم حوارى فتعمهون . فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون ، ما أنتم لى بثقة
سجيس اللّيالى وما أنتم بركن يمال
بكم ، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم
__________________
ما أنتم إلاّ كإبل
ضلّ رعاتها ، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر ، لبئس ـ لعمر اللّه ـ سعر نار
الحرب أنتم
تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون لا ينام عنكم وأنتم فى غفلة ساهون ، غلب
واللّه المتخاذلون ، وايم
اللّه إنّى لأظنّ بكم ، أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبى طالب
انفراج الرّأس . واللّه إنّ امرأ
يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه ، ويهشم عظمه ، ويفرى
جلده ، لعظيم عجزه ، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره أنت
فكن ذاك إن شئت
فأمّا
__________________
أنا فو اللّه دون أن
أعطى ذلك ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام ، وتطيح السّواعد والأقدام ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء. أيّها
النّاس ، إنّ لى عليكم حقّا ، ولكم علىّ حقّ : فأمّا حقّكم علىّ فالنّصيحة لكم ، وتوفير
فيئكم عليكم ،
وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلّموا ، وأمّا حقّى عليكم فالوفاء بالبيعة
، والنّصيحة فى المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطّاعة حين آمركم.
٣٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
بعد التحكيم
الحمد للّه وإن أتى الدّهر بالخطب
الفادح
والحدث الجليل. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ليس معه إله غيره ، وأنّ
محمّدا عبده ورسوله صلّى اللّه عليه وآله.
__________________
أمّا بعد ، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق
العالم المجرّب تورث الحيرة ، وتعقب النّدامة. وقد كنت أمرتكم فى هذه الحكومة أمرى
ونخلت لكم مخزون رأيى
لو كان يطاع لقصير أمر
فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجناة ، والمنابذين العصاة ، حتّى ارتاب النّاصح
بنصحه وضنّ الزّند
بقدحه ،
__________________
فكنت وإيّاكم كما
قال أخو هوازن : ـ أمرتكم أمرى بمنعرج اللّوى فلم تستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
٣٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
(فى تخويف أهل النهروان
فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا
النّهر ، وبأهضام هذا الغائط
__________________
على غير بيّنة من
ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم : قد طوّحت بكم الدّار واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن
هذه الحكومة فأبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين ، حتّى صرفت رأيى إلى هواكم ، وأنتم
معاشر أخفّاء الهام
، سفهاء الأحلام ولم آت ـ لا أبا لكم ـ بجرا ، ولا أردت لكم ضرّا.
__________________
٣٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
(يجرى مجرى الخطبة )
فقمت بالأمر حين فشلوا ، وتطلّعت حين
تقبّعوا
ونطقت حين تمنّعوا ومضيت بنور اللّه حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم فوتا فطرت
بعنانها ، واستبددت برهانها كالجبل لا تحرّكه
القواصف ، ولا
__________________
تزيله العواصف : لم
يكن لأحد فىّ مهمز
ولا لقاتل فىّ مغمز ، الذّليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له ، والقوىّ عندى ضعيف
حتّى آخذ الحقّ منه ، رضينا عن اللّه قضاءه وسلّمنا للّه أمره ، أترانى أكذب على رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم؟ واللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. فنظرت فى
أمرى فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى ، وإذا الميثاق فى عنقى لغيرى
٣٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وإنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه
الحقّ : فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى وأمّا
أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال ، ودليلهم العمى ، فما ينجو من الموت من خافه ،
ولا يعطى البقاء من أحبّه
__________________
٣٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت ، لا أبا لكم ما
تنتظرون بنصركم ربّكم؟ أما دين يجمعكم ولا حميّة تحمشكم أقوم فيكم مستصرخا ، وأناديكم متغوّثا
، فلا تسمعون لى قولا ، ولا تطيعون لى أمرا ، حتّى تكشّف الأمور عن عواقب المساءة فما يدرك بكم ثار ، ولا يبلغ بكم مرام
، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النّضو
الأدبر ، ثمّ خرج إلىّ منكم
جنيد متذائب ضعيف (كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون قال
الشريف : أقول. قوله عليه السّلام : «متذائب» أى : مضطرب ، من قولهم تذاءبت الريح
، اى : اضطرب هبوبها. ومنه يسمى الذئب ذئبا ، لاضطراب مشيته.
__________________
٤٠
ـ ومن كلام له عليه السّلام
فى الخوارج لما سمع قولهم : لا حكم إلا
للّه ، قال عليه السّلام
كلمة حقّ يراد بها الباطل!! نعم إنّه لا
حكم إلاّ للّه ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ للّه ، وإنّه لا بدّ للنّاس من
أمير برّ أو فاجر
يعمل فى إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع به
الفىء ، ويقاتل به العدوّ ، وتأمن به السّبل ، ويؤخذ به للضّعيف من القوىّ حتّى
يستريح برّ ويستراح من فاجر وفى رواية أخرى أنه عليه السّلام لما سمع تحكيمهم قال
: حكم اللّه أنتظر فيكم وقال : ـ أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقىّ ، وأمّا
الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقىّ ، إلى أن تنقطع مدّته ، وتدركه منيّته.
__________________
٤١
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
إنّ الوفاء توءم الصّدق ولا أعلم جنّة أوقى منه. ولا يغدر من
علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا فى زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ،
ما لهم؟ قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر اللّه ونهيه
فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له فى الدّين
٤٢
ـ ومن كلام له عليه السّلام
أيّها النّاس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم
اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فأمّا اتّباع
الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسى
__________________
الآخرة. ألا وإنّ
الدّنيا قد ولّت حذّاء
فلم يبق منها إلاّ صبابة
كصبابة الإناء اصطبّها صابّها ، ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت ولكلّ منهما بنون ، فكونوا
من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدّنيا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأمّه يوم القيامة
، وإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل. قال الشريف : أقول : الحذاء.
السريعة ، ومن الناس من يرويه جذاء
٤٣
ـ ومن كلام له عليه السّلام
وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب
بعد إرساله جرير ابن عبد اللّه البجلى إلى معاوية
إنّ استعدادى لحرب أهل الشّام وجرير
عندهم إغلاق للشّام ، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه. ولكن قد وقّتّ لجرير وقتا لا
يقيم بعده إلاّ مخدوعا أو عاصيا. والرّأى عندى مع الأناة فأرودوا ولا أكره لكم
الإعداد
__________________
ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أر لى إلاّ
القتال أو الكفر ، إنّه قد كان على النّاس وال أحدث أحداثا ، وأوجد للنّاس مقالا ،
فقالوا ، ثمّ نقموا فغيّروا
٤٤ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيبانى إلى
معاوية ، وكان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام وأعتقه فلما طالبه بالمال خاس
__________________
به وهرب إلى الشام : ـ
قبّح اللّه مصقلة فعل فعل السّادات ، وفرّ
فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتّى أسكته ، ولا صدّق واصفه حتّى بكّته ، ولو أقام
لأخذنا ميسوره
وانتظرنا بماله وفوره
٤٥ ـ ومن
خطبة له عليه السّلام
الحمد للّه غير مقنوط من رحمته ، ولا
مخلوّ من نعمته ، ولا مأيوس من مغفرته ، ولا مستنكف من عبادته ، الّذى لا تبرح منه
رحمة ، ولا تفقد له نعمة. والدّنيا دار منى لها الفناء ،
ولأهلها منها الجلاء ، وهى حلوة خضرة ، وقد عجلت للطّالب والتبست
بقلب النّاظر ، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ولا
__________________
تطلبوا منها أكثر من
البلاغ
٤٦ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
عند عزمه على المسير إلى الشام
اللّهمّ إنّى أعوذ بك من وعثاء السّفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر فى
الأهل والمال. اللّهمّ أنت الصّاحب فى السّفر ، وأنت الخليفة فى الأهل ولا يجمعهما
غيرك ، لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون مستخلفا.
٤٧
ـ ومن كلام له عليه السّلام
فى ذكر الكوفة
كأنّى بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم
العكاظىّ تعركين بالنّوازل ،
__________________
وتركبين بالزّلازل ،
وإنّى لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل ، ورماه بقاتل.
٤٨
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
عند المسير إلى الشام
الحمد للّه كلّما وقب ليل وغسق ، والحمد للّه كلّما لاح نجم وخفق ، والحمد للّه غير مفقود الانعام ولا
مكافئ الإفضال. أمّا بعد ، فقد بعثت مقدّمتى
وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتّى يأتيهم أمرى ، وقد أردت أن أقطع هذه النّطفة إلى
شرذمة منكم موطنين أكناف
__________________
دجلة فأنهضهم معكم إلى عدوّكم ، وأجعلهم من
أمداد القوّة لكم
قال الشريف : أقول : يعنى عليه السّلام بالملطاط السمت الذى أمرهم بنزوله وهو شاطى
الفرات ، ويقال ذلك لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الأرض. ويعنى بالنطفة ماء
الفرات. وهو من غريب العبارات وأعجبها
٤٩
ـ ومن كلام له عليه السّلام
الحمد للّه الّذى بطن خفيّات الأمور ، ودلّت عليه أعلام الظّهور ، وامتنع
على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره : سبق
فى العلوّ فلا شىء أعلى منه. وقرب فى الدّنوّ فلا شىء أقرب منه فلا
استعلاؤه باعده عن شىء من خلقه ، ولا قربه ساواهم فى المكان
__________________
به : لم يطلع العقول
على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الّذى تشهد له أعلام الوجود ، على
إقرار قلب ذى الجحود
تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به ، والجاحدون له ـ علوّا كبيرا.
٥٠
ـ ومن كلام له عليه السّلام
إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع ، وأحكام
تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولّى عليها رجال رجالا على غير دين اللّه ، فلو أنّ الباطل
خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من الباطل انقطعت عنه
ألسن المعاندين
ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيخرجان! فهنالك
يستولى الشّيطان على أوليائه ، وينجو الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى.
__________________
٥١
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه
السّلام على شريعة
الفرات بصفين ومنعوهم الماء
قد استطعموكم القتال فأقرّوا على مذلّة ، وتأخير محلّة ، أو
روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء ، فالموت فى حياتكم مقهورين والحياة فى
موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمّة من الغواة . وعمس عليهم الخبر حتّى
جعلوا نحورهم أغراض المنيّة.
٥٢
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت ، وآذنت
بوداع ، وتنكّر معروفها ، وأدبرت حذّاء فهى تحفز بالفناء
سكّانها وتحدو بالموت جيرانها
، وقد
__________________
أمرّ منها ما كان
حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا
فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة
أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع فأزمعوا عباد اللّه الرّحيل عن هذه
الدّار المقدور على أهلها الزّوال ولا يغلبنّكم فيها
الأمل ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فو اللّه لو حننتم حنين الولّه العجال ودعوتم
بهديل الحمام وجأرتم جؤار متبتّل
الرّهبان
وخرجتم إلى اللّه من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه فى ارتفاع درجة عنده ،
أو غفران سيّئة أحصتها كتبه ، وحفظها رسله
، لكان قليلا فيما أرجو لكم
__________________
من ثوابه ، وأخاف
عليكم من عقابه. واللّه لو انماثت قلوبكم انمياثا ، وسالت عيونكم ، من رغبة إليه أو رهبة
منه ، دما ، ثمّ عمّرتم فى الدّنيا ما الدّنيا باقية ما جزت أعمالكم ، ولو لم تبقوا شيئا من
جهدكم ، أنعمه عليكم العظام وهداه إيّاكم للإيمان
٥٣
ـ ومن كلام له عليه السّلام
فى ذكر يوم النحر
ومن كمال الأضحية استشراف أذنها وسلامة
عينها. فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمّت ولو كانت عضباء القرن تجرّ
رجلها إلى المنسك قال الشريف : والمنسك
هنا المذبح
__________________
٥٤ ـ ومن
خطبة له عليه السّلام
فتداكّوا علىّ تداكّ الإبل الهيم يوم
وردها قد أرسلها
راعيها ، وخلعت مثانيها
حتّى ظننت أنّهم قاتلىّ ، أو بعضهم قاتل بعض لدىّ ، وقد قلّبت هذا الأمر ، بطنه وظهره
، فما وجدتنى يسعنى إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاءنى به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم
فكانت
معالجة القتال أهون علىّ من معالجة العقاب ، وموتات الدّنيا أهون علىّ من موتات
الآخرة
٥٥ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم فى القتال
بصفين
أمّا قولكم : أكلّ ذلك كراهية الموت؟!
فو اللّه ما أبالى أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلىّ . وأمّا
قولكم شكّا فى أهل الشّام! فو اللّه ما دفعت
__________________
الحرب يوما إلاّ وأنا
أطمع أن تلحق بى طائفة فتهتدى بى ، وتعشو إلى ضوئى ، وذلك أحبّ إلىّ من أن أقتلها
على ضلالها ، وإن كانت تبوء بآثامها.
٥٦ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
ولقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا : ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا وتسليما
ومضيّا على اللّقم
وصبرا على مضض الألم ، وجدّا فى جهاد العدوّ. ولقد كان الرّجل منّا والآخر من
عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقى صاحبه كأس المنون : فمرّة
لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا ، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النّصر ، حتّى استقرّ
الإسلام ملقيا جرانه ، ومتبوّئا
__________________
أوطانه. ولعمرى لو
كنّا نأتى ما أتيتم ما قام للدّين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم اللّه
لتحتلبنّها دما
ولتتبعنّها ندما
٥٧
ـ ومن كلام له عليه السّلام
لأصحابه
أما إنّه سيظهر عليكم بعدى رجل رحب
البلعوم ، مندحق البطن
يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه ألا وإنّه سيأمركم بسبّى والبراءة منّى
: أمّا السّبّ فسبّونى ، فإنّه لى زكاة ، ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا
منّى ، فإنّى ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة
__________________
٥٨
ـ ومن كلام له عليه السّلام
كلم به الخوارج
أصابكم حاصب ، ولا بقى منكم آبر. أبعد إيمانى
باللّه وجهادى مع رسول اللّه أشهد على نفسى بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من
المهتدين! فأوبوا شرّ مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما إنّكم ستلقون بعدى ذلاّ
شاملا وسيفا قاطعا وأثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة قال الشريف : قوله عليه السّلام «ولا
بقى منكم آبر» يروى بالباء والراء من قولهم للذى يأبر النخل ـ أى : يصلحه ـ ويروى «آثر»
وهو الذى يأثر الحديث ، أى : يرويه ويحكيه ، وهو أصح الوجوه عندى ، كأنه عليه
السّلام قال : لا بقى منكم مخبر. ويروى «آبز» ـ بالزاى المعجمة ـ وهو الواثب. والهالك
أيضا يقال له آبز
__________________
٥٩
ـ وقال عليه السّلام
لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنهم
قد عبروا جسر النهروان
مصارعهم دون النّطفة ، واللّه لا يفلت
منهم عشرة
ولا يهلك منكم عشرة قال الشريف : يعنى بالنطفة ماء النهر ، وهو أفصح ، كناية وإن
كان كثيرا جما ولما قتل الخوارج قيل له : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم!
قال عليه السّلام :
كلاّ واللّه إنّهم نطف فى أصلاب الرّجال
وقرارات النّساء
كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين
وقال عليه السّلام :
لا تقتلوا الخوارج بعدى ، فليس من طلب
الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه (يعنى معاوية وأصحابه
__________________
٦٠
ـ ومن كلام له عليه السّلام
لما خوف من الغيلة
وإنّ علىّ من اللّه جنّة حصينة فإذا جاء يومى انفرجت عنّى وأسلمتنى ، فحينئذ
لا يطيش السّهم ، ولا يبرأ الكلم
٦١
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
ألا وإنّ الدّنيا دار لا يسلم منها إلاّ
فيها ولا ينجى بشىء كان لها : ابتلى النّاس فيها
فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه
__________________
وما أخذوه منها
لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه ، فإنّها عند ذوى العقول كفىء الظّلّ : بينا تراه سابغا حتّى قلص ، وزائدا حتّى نقص.
٦٢
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
واتّقوا اللّه عباد اللّه ، وبادروا
آجالكم بأعمالكم
، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم وترحّلوا فقد جدّ بكم
، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم وكونوا
قوما صيح بهم فانتبهوا
وعلموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا
__________________
فإنّ اللّه سبحانه
لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى
، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به وإنّ غاية تنقصها اللّحظة وتهدمها
السّاعة لجديرة بقصر المدّة
وإنّ غائبا يحدوه الجديدان اللّيل والنّهار لحرىّ بسرعة الأوبة وإنّ
قادما يقدم بالفوز والشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة ،
__________________
فتزوّدوا فى الدّنيا
، من الدّنيا ، ما تحرزون به أنفسكم غدا
فاتّقى عبد ربّه نصح نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ،
والشّيطان موكّل به : يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التّوبة ليسوّفها حتّى تهجم منيّته عليه أغفل ما يكون
عنها فيا لها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه
حجّة ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة ، نسأل اللّه
سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة ، ولا
تقصّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة.
٦٣
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
الحمد للّه الّذى لم يسبق له حال حالا فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ،
__________________
ويكون ظاهرا قبل أن
يكون باطنا ، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل
، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قوىّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم
غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ،
ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها
وكلّ بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ،
__________________
وكلّ باطن غيره غير
ظاهر ، لم يخلق
ما خلقه لتشديد سلطان ، ولا تخوّف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ندّ مثاور ، ولا شريك مكابر ، ولا ضدّ منافر ، ولكن
خلائق مربوبون ، وعباد داخرون
، لم يحلل فى الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن لم
يؤده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ ،
ولا وقف به عجز عمّا خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر ، بل قضاء متقن ، وعلم محكم ، وأمر
مبرم : المأمول
مع
__________________
النّقم ، والمرجوّ
من النّعم.
٦٤ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
كان يقوله لأصحابه فى بعض أيام صفين
معاشر المسلمين ، استشعروا الخشية وتجلببوا السّكينة ، وعضّوا على
النّواجذ
فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام ، وأكملوا اللّأمة وقلقلوا السّيوف فى أغمادها قبل سلّها ،
والحظوا الخزر واطعنوا الشّزر ونافحوا
__________________
بالظّبا ، وصلوا السّيوف بالخطا . واعلموا أنّكم بعين اللّه ، ومع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله وسلّم ، فعاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ فإنّه
عار فى الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، وطيبوا عن أنفسكم نفسا وامشوا إلى الموت مشيا
سجحا ، وعليكم بهذا السّواد الأعظم ، والرّواق
المطنّب فاضربوا ثبجه فإنّ الشّيطان كامن فى كسره ، قد قدّم للوثبة يدا ، وأخّر للنّكوص
رجلا ، فصمدا صمدا
حتّى ينجلى لكم عمود الحقّ
__________________
«وَأَنْتُمُ
اَلْأَعْلَوْنَ وَاَللّٰهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ»
٦٥ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
فى معنى الأنصار ، قالوا : لما انتهت
إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة
بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال عليه السّلام : ما قالت
الأنصار؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير ، قال عليه السّلام : فهلاّ احتججتم
عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز
عن مسيئهم؟! قالوا : وما فى هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السّلام : لو كانت
الامارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم!! ثم قال عليه السّلام : فما ذا قالت قريش؟ قالوا
: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عليه السّلام : احتجّوا
بالشّجرة ، وأضاعوا الثّمرة
__________________
٦٦ ـ ومن
كلام له عليه السّلام
لما قلد محمد بن أبى بكر مصر فملكت عليه
فقتل
وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو
ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة
، ولا أنهزهم الفرصة ، بلا ذمّ لمحمّد بن أبى بكر فلقد كان إلىّ حبيبا ، وكان لى ربيبا .
٦٧
ـ ومن كلام له عليه السّلام
كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة ،
والثّياب المتداعية! كلّما حيصت من
جانب تهتّكت من آخر؟ أكلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل
منكم بابه ، وانجحر انجحار الضّبّة فى جحرها ، والضّبع فى وجارها؟! ، الذّليل واللّه من نصرتموه! ومن رمى
بكم
__________________
فقد رمى بأفوق ناصل . وإنّكم ، واللّه ، لكثير فى الباحات قليل تحت الرّايات ، وإنّى لعالم بما
يصلحكم ويقيم أودكم
ولكنّى لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسى! أضرع اللّه خدودكم ،
وأتعس جدودكم ، لا تعرفون الحقّ
كمعرفتكم الباطل ، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ
٦٨
ـ وقال عليه السّلام
فى سحرة اليوم الذى ضرب فيه
ملكتنى عينى وأنا جالس فسنح لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم فقلت : يا رسول اللّه ، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود واللّدد؟ فقال : «ادع
عليهم» فقلت : أبدلنى اللّه بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرّا لهم منّى قال الشريف
: يعنى بالأود الاعوجاج ، وباللدد الخصام. وهذا من أفصح الكلام
__________________
٦٩
ـ ومن خطبة له عليه السّلام
فى ذم أهل العراق
أمّا بعد يا أهل العراق فإنّما أنتم
كالمرأة الحامل! حملت فلمّا أتمّت أملصت
ومات قيّمها ، وطال تأيّمها ، وورثها أبعدها
أما واللّه ما أتيتكم اختيارا ، ولكن جئت إليكم سوقا ولكنّى بلغنى أنّكم تقولون : علىّ
يكذب! قاتلكم اللّه ، فعلى من الكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من آمن به! أم على
نبيّه؟ فأنا أوّل من صدّقه . كلاّ واللّه ، ولكنّها
لهجة غبتم عنها
__________________
ولم تكونوا من
أهلها. ويلمّه؟ كيلا بغير ثمن !
لو كان له وعاء (ولتعلمنّ نبأه بعد حين)
٧٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
علم فيها الناس الصلاة على النبى صلّى
اللّه عليه وآله
اللّهمّ داحى المدحوّات ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب على
__________________
فطرتها شقيّها وسعيدها : اجعل شرائف صلواتك ونوامى
بركاتك على محمّد عبدك ورسولك
: الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّافع جيشات
الأباطيل ، والدّامغ صولات الأضاليل ، كما حمّل فاضطلع قائما بأمرك ، مستوفزا فى مرضاتك ، غير
ناكل عن قدم ، ولا واه فى عزم واعيا لوحيك ، حافظا
على عهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك
__________________
حتّى أورى قبس
القابس ، وأضاء الطّريق للخابط
وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن ، وأقام موضحات الأعلام ، ونيّرات الأحكام ، فهو
أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون
، وشهيدك يوم الدّين
وبعيثك بالحقّ ، ورسولك إلى الخلق.
اللّهمّ افسح له مفسحا فى ظلّك ، واجزه
__________________
مضاعفات الخير من
فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه
، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة ، ومرضىّ
المقالة
ذا منطق عدل ، وخطّة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا وبينه فى برد العيش وقرار النّعمة ومنى الشّهوات ، وأهواء اللّذّات ، ورخاء
الدّعة ، ومنتهى الطّمأنينة ، وتحف الكرامة
__________________
٧١ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
قالوا : أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم
الجمل ، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السّلام
إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه ، فخلى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا
أمير المؤمنين؟ فقال عليه السّلام : أولم يبايعنى قبل قتل عثمان؟ لا حاجة لى فى
بيعته! إنّها كفّ يهوديّة
لو بايعنى بكفّه لغدر بسبته
أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش
الأربعة وستلقى الأمّة منه ومن
ولده يوما أحمر!
٧٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما عزموا على بيعة عثمان
لقد علمتم أنّى أحقّ النّاس بها من غيرى
، وو اللّه لأسلّمنّ ما سلمت أمور
__________________
المسلمين ولم يكن
فيها جور إلاّ علىّ خاصّة التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه
وزبرجه
٧٣ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
لما بلغه اتهام بنى أمية له بالمشاركة
فى دم عثمان
أولم ينه أميّة علمها بى عن قرفى ؟ أوما وزع الجهّال سابقتى عن تهمتى! ولما
وعظهم اللّه به أبلغ من لسانى !
أنا حجيج المارقين وخصيم
__________________
المرتابين وعلى كتاب
اللّه تعرض الأمثال
وبما فى الصّدور تجازى العباد.
٧٤ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
رحم اللّه امرأ سمع حكما فوعى ، ودعى
إلى رشاد فدنا
وأخذ بحجزة هاد فنجا
: راقب ربّه ، وخاف ذنبه ، قدّم خالصا ، وعمل صالحا ، اكتسب مذخورا واجتنب
محذورا ، رمى غرضا ، وأحرز عوضا كابر هواه ، وكذّب
مناه ، جعل الصّبر مطيّة نجاته ، والتّقوى عدّة وفاته ، ركب الطّريقة الغرّاء ،
ولزم المحجّة البيضاء ، اغتنم المهل
وبادر الأجل ، وتزوّد
__________________
من العمل.
٧٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام
إنّ بنى أميّة ليفوّقوننى تراث محمّد
صلّى اللّه عليه وآله تفويقا ، لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة ويروى «التراب
الوذمة». وهو على القلب
قال الشريف : وقوله عليه السّلام «ليفوقوننى» أى : يعطوننى من المال قليلا كفواق
الناقة ، وهو الحلبة الواحدة من لبنها ، والوذام : جمع وذمة وهى : الحزة من الكرش
أو الكبد تقع فى التراب فتنفض
٧٦ ـ ومن كلمات كان يدعو بها
اللّهمّ اغفر لى ما أنت أعلم به منّى ، فإن
عدت فعد علىّ بالمغفرة ، اللّهمّ اغفر لى ما وأيت من نفسى ، ولم تجد له وفاء عندى اللّهمّ اغفر لى ما تقرّبت
__________________
به إليك بلسانى ثمّ
خالفه قلبى .
اللّهمّ اغفر لى رمزات الألحاظ ، وسقطات الألفاظ ، وشهوات الجنان ، وهفوات اللّسان
٧٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير
إلى الخوارج ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن سرت فى هذا الوقت خشيت أن لا تظفر
بمرادك ، من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام : أتزعم أنّك تهدى إلى السّاعة
الّتى من سار فيها صرف عنه السّوء؟ وتخوّف من السّاعة الّتى من سار فيها حاق به
الضّرّ ؟
فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الإعانة باللّه فى نيل المحبوب ودفع
المكروه ، وتبتغى
__________________
فى قولك للعامل
بأمرك أن يوليك الحمد دون ربّه ، لأنّك ـ بزعمك أنت ـ هديته إلى السّاعة الّتى نال
فيها النّفع وأمن الضّرّ!!
ثم أقبل عليه السّلام على الناس فقال :
أيّها النّاس ، إيّاكم وتعلّم النّجوم ،
إلاّ ما يهتدى به فى برّ أو بحر
فإنّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن
والكاهن كالسّاحر والسّاحر كالكافر! والكافر فى النّار ، سيروا على اسم اللّه.
٧٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
بعد حرب الجمل ، فى ذم النساء
معاشر النّاس ، إنّ النّساء نواقص
الإيمان
، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول : فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة والصّيام
فى أيّام حيضهنّ
__________________
وأمّا نقصان عقولهنّ
فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد ، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على
الأنصاف من مواريث الرّجال ، فاتّقوا شرار النّساء ، وكونوا من خيارهنّ على حذر ،
ولا تطيعوهنّ فى المعروف حتّى لا يطمعن فى المنكر
٧٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
أيّها النّاس ، الزّهادة قصر الأمل ، والشّكر
عند النّعم ، والورع عند المحارم
فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ، ولا
تنسوا عند النّعم
__________________
شكركم ، فقد أعذر
اللّه إليكم بحجج مسفرة ظاهرة ، وكتب بارزة العذر واضحة .
٨٠ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى صفة الدنيا
ما أصف من دار أوّلها عناء ، وآخرها
فناء ، فى حلالها حساب ، وفى حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها
حزن ، ومن ساعاها فاتته
، ومن قعد عنها واتته ، ومن أبصر بها بصّرته
، ومن أبصر
__________________
إليها أعمته. قال
الشريف : أقول : وإذا تامل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد
تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ، ولا سيما
إذا قرن إليه قوله «ومن أبصر إليها أعمته» ، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر
إليها» واضحا نيرا وعجيبا باهرا
٨١ ـ ومن خطبة له عجيبة
الحمد للّه الّذى علا بحوله ، ودنا بطوله ، مانح كلّ غنيمة وفضل ، وكاشف كلّ
عظيمة وأزل
أحمده على عواطف كرمه ، وسوابغ نعمه ، وأومن به أوّلا
باديا ، وأستهديه قريبا هاديا ، وأستعينه قادرا قاهرا
،
__________________
وأتوكّل عليه كافيا
ناصرا ، وأشهد أنّ محمّدا ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ عبده ورسوله ، أرسله لإنفاذ
أمره ، وإنهاء عذره
وتقديم نذره .
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ضرب الأمثال ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرّياش
، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاطكم بالإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنّعم
السّوابغ ، والرّفد الرّوافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، وأحصاكم عددا ، ووظّف لكم
مددا ، فى قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ،
__________________
ومحاسبون عليها ، فإنّ
الدّنيا رنق مشربها
ردغ مشرعها : يونق منظرها
ويوبق مخبرها ، غرور حائل
وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل حتّى إذا أنس نافرها
، واطمأنّ ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت
بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنيّة قائدة له إلى ضنك
__________________
المضجع ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحلّ ، وثواب العمل. وكذلك الخلف يعقب السّلف
: لا تقلع المنيّة اختراما
ولا يرعوى الباقون اجتراما يحتذون مثالا ، ويمضون
أرسالا ، إلى غاية الانتهاء ، وصيّور الفناء حتّى إذا تصرّمت
الأمور ، وتقضّت الدّهور ، وأزف النّشور أخرجهم من ضرائح
القبور ، وأوكار الطّيور ، وأوجرة السّباع ، ومطارح المهالك ، سراعا
__________________
إلى أمره ، مهطعين
إلى معاده
رعيلا صموتا ، قياما صفوفا ، ينفذهم البصر
ويسمعهم الدّاعى ، عليهم لبوس الاستكانة
، وضرع الاستسلام والذّلّة قد ضلّت الحيل ، وانقطع الأمل ، وهوت الأفئدة كاظمة ،
وخشعت الأصوات مهينمة ، وألجم العرق ، وعظم الشّفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الدّاعى
إلى فصل الخطاب ومقايضة الجزاء ، ونكال
العقاب ، ونوال الثّواب ، عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا ،
ومقبوضون
__________________
احتضارا ، ومضمّنون
أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون جزاء ، ومميّزون حسابا ، قد
أمهلوا فى طلب المخرج
، وهدوا سبيل المنهج ، وعمّروا مهل المستعتب ، وكشف عنهم سدف الرّيب وخلّوا لمضمار
__________________
الجياد ورويّة الارتياد ، وأناة المقتبس المرتاد
فى مدّة
الأجل ، ومضطرب المهل ، فيا لها أمثالا صائبة ، ومواعظ شافية ، لو صادفت قلوبا
زاكية ، وأسماعا واعية ، وآراء عازمة ، وألبابا حازمة ، فاتّقوا تقيّة من سمع فخشع
، واقترف فاعترف
ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وأيقن فأحسن وعبّر فاعتبر ، وحذّر فازدجر ، وأجاب فأناب
، ورجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، وأرى فرأى ، فأسرع
طالبا ، ونجا هاربا ، فأفاد ذخيرة ، وأطاب
__________________
سريرة ، وعمّر معادا
، واستظهر زادا
ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، وقدّم أمامه لدار مقامه.
فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له
، واحذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه
واستحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده والحذر
من هول معاده منها : جعل لكم أسماعا لتعى ما عناها وأبصارا لتجلو عن عشاها ،
وأشلاء جامعة لأعضائها ملائمة لأجنائها : فى
تركيب صورها ، ومدد
__________________
عمرها ، بأبدان
قائمة بأرفاقها
وقلوب رائدة لأرزاقها ، فى مجلّلات نعمه
وموجبات مننه ، وحواجز عافية ، وقدّر لكم أعمارا سترها عنكم ، وخلّف لكم عبرا من
آثار الماضين قبلكم ، من مستمتع خلاقهم ، ومستفسح خناقهم أرهقتهم المنايا دون
الآمال ، وشذّ بهم عنها تخرّم الآجال ، لم يمهدوا فى سلامة الأبدان ، ولم يعتبروا
فى أنف الأوان
، فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حوانى الهرم؟ وأهل غضارة الصّحّة إلاّ نوازل
السّقم؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء مع قرب الزّيال وأزوف
الانتقال ، وعلز القلق ، وألم المضض ، وغصص الحرض ، وتلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة
والأقرباء
__________________
والأعزّة والقرناء ،
فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النّواحب
وقد غودر فى محلّة الأموات رهينا
وفى ضيق المضجع وحيدا ، قد هتكت الهوامّ جلدته
وأبلت النّواهك جدّته ، وعفت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه وصارت
الأجساد شحبة بعد بضّتها ، والعظام نخرة بعد قوّتها والأرواح
مرتهنة بثقل أعبائها موقنة بغيب أنبائها
، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سيّىء زللها أولستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم
__________________
والأقرباء؟ تحتذون
أمثلتهم ، وتركبون قدّتهم
وتطأون جادّتهم؟! فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة فى غير
مضمارها! كأنّ المعنىّ سواها
وكأنّ الرّشد فى إحراز دنياها. واعلموا أنّ مجازكم على الصّراط ومزالق دحضه ، وأهاويل
زلله وتارات أهواله
فاتّقوا اللّه تقيّة ذى لبّ شغل التّفكّر قلبه ، وأنصب الخوف بدنه ،
وأسهر التّهجّد غرار نومه ، وأظمأ الرّجاء هواجر يومه ، وظلف الزّهد شهواته ، وأرجف
الذّكر بلسانه وقدّم الخوف لإبّانه ، وتنكّب المخالج عن وضح السّبيل ، وسلك أقصد
المسالك إلى النّهج المطلوب ، ولم تفتله فاتلات الغرور ولم
تعم عليه
__________________
مشتبهات الأمور ، ظافرا
بفرحة البشرى ، وراحة النّعمى
فى أنعم نومه ، وآمن يومه ، قد عبر معبر العاجلة حميدا وقدم ذات الآجلة سعيدا ، وبادر من وجل
، وأكمش فى مهل ، ورغب فى طلب ، وذهب عن هرب
وراقب فى يومه غده ، ونظر قدما أمامه فكفى بالجنّة ثوابا
ونوالا ، وكفى بالنّار عقابا ووبالا ، وكفى باللّه منتقما ونصيرا ، وكفى بالكتاب
حجيجا
__________________
وخصيما أوصيكم بتقوى اللّه الّذى أعذر بما
أنذر ، واحتجّ بما نهج
وحذّركم عدوّا نفذ فى الصّدور خفيّا ، ونفث فى الآذان نجيّا فأضلّ وأردى ووعد فمنّى ، وزيّن سيّئات
الجرائم ، وهوّن موبقات العظائم ، حتّى إذا استدرج قرينته ،
واستغلق رهينته ، أنكر ما زيّن ، واستعظم ما هوّن وحذّر
ما أمّن.
ومنها فى صفة خلق الانسان :
أم هذا الّذى أنشأه فى ظلمات الأرحام وشغف
الأستار ، نطفة دهاقا
__________________
وعلقة محاقا ، وجنينا
وراضعا ، ووليدا ويافعا ، ثمّ منحه قلبا حافظا ، ولسانا لافظا ، ليفهم معتبرا ، ويقصّر
مزدجرا ، حتّى إذا قام اعتداله ، واستوى مثاله
نفر مستكبرا ، وخبط سادرا
ماتحا فى غرب هواه
كادحا سعيا لدنياه ، فى لذّات طربه ، وبدوات أربه ، لا يحتسب رزيّة ولا
يخشع تقيّة ، فمات فى فتنته غريرا ، وعاش فى هفوته يسيرا ، لم يفد عوضا
، ولم يقض مفترضا ، دهمته فجعات المنيّة فى
غبّر جماحه ، وسنن مراحه ،
__________________
فظلّ سادرا وبات ساهرا ، فى غمرات الآلام ، وطوارق
الأوجاع والأسقام بين أخ شقيق ، ووالد شفيق ، وداعية بالويل جزعا ، ولادمة للصّدر
قلقا والمرء فى
سكرة ملهية ، وغمرة كارثة
وأنّة موجعة ، وجذبة مكربة ، وسوقة متعبة. ثمّ أدرج فى أكفانه مبلسا وجذب
منقادا سلسا ، ثمّ ألقى على الأعواد رجيع وصب ونضو سقم ، تحمله
حفدة الولدان وحشدة الإخوان ، إلى
دار غربته ، ومنقطع زورته
حتّى إذا انصرف المشيّع ، ورجع المتفجّع ، أقعد فى حفرته نجيّا لبهتة السّؤال ، وعثرة
الامتحان ،
وأعظم
__________________
ما هنالك بليّة نزول
الحميم
، وتصلية الجحيم ، وفورات السّعير ، وسورات الزّفير ، لا فترة مريحة ولا دعة مزيحة ، ولا قوّة حاجزة ، ولا
موتة ناجزة ، ولا سنة مسلية ، بين أطوار الموتات وعذاب السّاعات!! إنّا باللّه عائذون.
عباد اللّه ، أين الّذين عمّروا فنعموا وعلّموا ففهموا ، وأنظروا
فلهوا وسلموا فنسوا ؟
أمهلوا طويلا ، ومنحوا جميلا ، وحذّروا أليما ، ووعدوا جسيما!! احذروا الذّنوب
المورّطة ، والعيوب المسخطة
أولى الأبصار والأسماع ، والعافية والمتاع! هل من مناص ، أو خلاص
__________________
أو معاذ ، أو ملاذ ،
أو فرار ، أو محار؟
أم لا؟ فأنّى تؤفكون !
أم أين تصرفون؟ أم بما ذا تغترّون؟ وإنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطّول والعرض
قيد قدّه
متعفّرا على خدّه. الآن عباد اللّه والخناق مهمل والرّوح
مرسل ، فى فينة الإرشاد وراحة الأجساد ، وباحة
الاحتشاد ومهل البقيّة ، وأنف
المشيّة
وإنظار التّوبة ، وانفساح الحوبة
قبل الضّنك والمضيق ، والرّوع والزّهوق
وقبل قدوم الغائب المنتظر
وأخذة العزيز المقتدر. قال الشريف : وفى الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها
الجلود ، وبكت العيون ، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمى هذه الخطبة «الغراء»
__________________
٨٢ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
فى ذكر عمرو بن العاص
عجبنا لابن النّابغة يزعم لأهل الشّام أنّ فىّ دعابة وأنّى امرؤ تلعابة : أعافس وأمارس لقد قال باطلا ، ونطق آثما. أما ، وشرّ
القول الكذب إنّه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، ويسأل فيلحف ويسأل
فيبخل ، ويخون العهد ، ويقطع الإلّ فإذا كان عند الحرب
فأىّ زاجر وآمر هو؟؟!! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها فإذا
كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته
أما واللّه إنّى ليمنعنى من اللّعب ذكر الموت ، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان
الآخرة ، إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة ، ويرضخ له على ترك الدّين
رضيخة
__________________
٨٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا
شريك له : الأوّل لا شىء قبله ، والآخر لا غاية له ، لا تقع الأوهام له على صفة ،
ولا تقعد القلوب منه على كيفيّة
ولا تناله التّجزئة والتّبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب
منها
: فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر النّوافع ،
واعتبروا بالآى السّواطع
وازدجروا بالنّذر البوالغ
وانتفعوا بالذّكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة ، وانقطعت منكم علائق
الأمنيّة ، ودهمتكم مفظعات الأمور والسّياقة إلى الورد
المورود وكلّ نفس معها سائق وشهيد
: سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها
ومنها فى صفة الجنة :
درجات متفاضلات ، ومنازل متفاوتات ، لا
ينقطع نعيمها ، ولا يظعن
__________________
مقيمها ، ولا يهرم
خالدها ، ولا يبأس ساكنها
٨٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
قد علم السّرائر ، وخبر الضّمائر ، له
الإحاطة بكلّ شىء ، والغلبة لكلّ شىء ، والقوّة على كلّ شىء. فليعمل العامل منكم
فى أيّام مهله. قبل إرهاق أجله
، وفى فراغه قبل أوان شغله ، وفى متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه وليمهّد لنفسه وقدومه ، وليتزوّد من
دار ظعنه لدار إقامته ، فاللّه اللّه ، أيّها النّاس ، فيما استحفظكم من كتابه ، واستودعكم
من حقوقه ، فإنّ اللّه ، سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى ، ولم يدعكم فى
جهالة ولا عمى : قد سمّى
__________________
آثاركم وعلّم أعمالكم ، وكتب آجالكم ، وأنزل
عليكم الكتاب تبيانا لكلّ شىء ، وعمّر فيكم نبيّه أزمانا حتّى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من
كتابه ـ دينه الّذى رضى لنفسه ، وأنهى إليكم ، على لسانه ، محابّه من الأعمال ومكارهه
ونواهيه وأوامره
، فألقى إليكم المعذرة ، واتّخذ عليكم الحجّة ، وقدّم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين
يدى عذاب شديد ، فاستدركوا بقيّة أيّامكم ، واصبروا لها أنفسكم ،
فإنّها قليل فى كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة والتّشاغل عن الموعظة ،
ولا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة ولا
تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على
المصيبة.
__________________
عباد اللّه ، إنّ أنصح النّاس لنفسه
أطوعهم لربّه ، وإنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه ، والمغبون من غبن نفسه والمغبوط من سلم له دينه والسّعيد من وعظ بغيره ، والشّقىّ من
انخدع لهواه. واعلموا أنّ يسير الرّياء شرك
، ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشّيطان.
جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان ، الصّادق على شرف منجاة وكرامة ، والكاذب على
شفا مهواة ومهانة ، ولا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب ،
ولا تباغضوا فإنّها الحالقة واعلموا أنّ الأمل
يسهى العقل ، وينسى الذّكر فأكذبوا الأمل فإنّه
غرور ، وصاحبه مغرور.
٨٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
عباد اللّه ، إنّ من أحبّ عباد اللّه
إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه فاستشعر
__________________
الحزن ، وتجلبب
الخوف ،
فزهر مصباح الهدى فى قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النّازل به ، فقرّب على نفسه البعيد ، وهوّن الشّديد
: نظر فأبصر
، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات
سهلت له موارده فشرب نهلا ، وسلك سبيلا جددا ، قد
خلع سرابيل الشّهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به فخرج من صفة العمى ، ومشاركة أهل الهوى
، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ، ومغاليق أبواب الرّدى ، قد أبصر
__________________
طريقه ، وسلك سبيله
، وعرف مناره ، وقطع غماره
، استمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء
الشّمس : قد نصب نفسه للّه ـ سبحانه ـ فى أرفع الأمور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير
كلّ فرع إلى أصله
مصباح ظلمات ، كشّاف عشاوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ،
يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم : قد أخلص اللّه فاستخلصه فهو من معادن دينه ، وأوتاد
أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل
به ، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ، ولا مظنّة إلاّ
قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه
__________________
فهو قائده وإمامه ، يحلّ
حيث حلّ ثقله
وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمّى عالما وليس به فاقتبس جهائل من جهّال ، وأضاليل من
ضلاّل ونصب للنّاس شركا من حبائل غرور ، وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف
الحقّ على أهوائه ، يؤمّن
من العظائم ، ويهوّن كبير الجرائم يقول «أقف عند الشّبهات» وفيها وقع ، «وأعتزل
البدع» وبينها اضطجع : فالصّورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب
الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه ، فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون؟ وأنّى
تؤفكون؟ والأعلام قائمة! والآيات
واضحة! والمنار منصوبة! فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون؟ وبينكم
عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام
__________________
الدّين ، وألسنة
الصّدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن
وردوهم ورود الهيم العطاش
أيّها النّاس ، خذوها من خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «إنّه يموت
من مات منّا وليس بميّت
ويبلى من بلى منّا وليس ببال» فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما
تنكرون واعذروا من لا حجّة
لكم عليه ، وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر ؟
وأترك فيكم الثّقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام
وألبستكم العافية من عدلى ، وفرشتكم المعروف من قولى وفعلى وأريتكم
كرائم الأخلاق من نفسى ، فلا تستعملوا الرّأى فيما لا يدرك قعره البصر ، ولا
تتغلغل إليه الفكر
__________________
منها
: حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة
على بنى أميّة
تمنحهم درّها وتوردهم صفوها ، ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ، ولا سيفها ، وكذب
الظّانّ لذلك : بل هى مجّة من لذيذ العيش
يتطعّمونها برهة ، ثمّ يلفظونها جملة
٨٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
أمّا بعد ، فإنّ اللّه لم يقصم جبّارى
دهر قطّ
إلاّ بعد تميّل ورخاء ، ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل وبلاء ، وفى دون
ما استقبلتم من عتب ، وما استدبرتم من خطب ، معتبر! وما كلّ
ذى قلب بلبيب ، ولا كلّ ذى سمع بسميع ، ولا كلّ ناظر ببصير ، فيا عجبى ـ وما لى لا
أعجب ـ من خطإ
__________________
هذه الفرق على اختلاف
حججها فى دينها! لا يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصىّ ، ولا يؤمنون بغيب ،
ولا يعفّون عن عيب
يعملون فى الشّبهات ويسيرون فى الشّهوات ، المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم
ما أنكروا
، مفزعهم فى المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم فى المهمّات على آرائهم ، كأنّ كلّ
امرىء منهم إمام نفسه : قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات
٨٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أرسله على حين فترة من الرّسل ، وطول
هجعة من الأمم ، واعتزام من الفتن
، وانتشار من الأمور ، وتلظّ من الحروب ، والدّنيا كاسفة
النّور ظاهرة الغرور ، على حين اصفرار من ورقها ،
وإياس من ثمرها ، واغورار
__________________
من مائها ، قد درست
منار الهدى ، وظهرت أعلام الرّدى ، فهى متجهّمة لأهلها عابسة فى وجه طالبها ، ثمرها الفتنة ،
وطعامها الجيفة ، وشعارها الخوف ، ودثارها السّيف . فاعتبروا ، عباد اللّه ، واذكروا تيك
الّتى آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون
وعليها محاسبون. ولعمرى ما تقادمت بكم ولا بهم العهود ، ولا خلت فيما بينكم وبينهم
الأحقاب والقرون ، وما أنتم اليوم من
يوم كنتم فى أصلابهم ببعيد. واللّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلاّ وها أنا ذا اليوم
مسمعكموه ، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس ولا شقّت لهم الأبصار ، ولا
جعلت لهم الأفئدة فى ذلك الأوان إلاّ وقد أعطيتم مثلها فى هذا الزّمان. واللّه ما
بصرتم بعدهم شيئا جهلوه ، ولا أصفيتم
__________________
به وحرموه ولقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها رخوا بطانها ، فلا يغرّنّكم ما أصبح
فيه أهل الغرور ، فانّما هو ظلّ ممدود ، إلى أجل معدود.
٨٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، والخالق
من غير رويّة
، الّذى لم يزل قائما دائما ، إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج ولا
ليل داج ، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج ، ولا فجّ ذو اعوجاج ، ولا أرض ذات مهاد
، ولا خلق ذو اعتماد : ذلك مبتدع الخلق ووارثه وإله الخلق
__________________
ورازقه ، والشّمس والقمر
دائبان فى مرضاته
: يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد ، قسم أرزاقهم ، وأحصى آثارهم وأعمالهم ، وعدد
أنفاسهم ، وخائنة أعينهم ، وما تخفى صدورهم من الضّمير ومستقرّهم ومستودعهم من الأرحام والظّهور
، إلى أن تتناهى بهم الغايات ، هو الّذى اشتدّت نقمته على أعدائه فى سعة رحمته واتّسعت
رحمته لأوليائه فى شدّة نقمته ، قاهر من عازّه
ومدمّر من شاقّه ، ومذلّ من ناوأه ، وغالب من عاداه ، ومن توكّل عليه كفاه ، ومن
سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه ، ومن شكره جزاه.
عباد اللّه ، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا وتنفّسوا
قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السّياق واعلموا أنّه من
__________________
لم يعن على نفسه
حتّى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ
٨٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
تعرف بخطبة الأشباح ، وهى من جلائل خطبه
عليه السّلام ، وكان سأله سائل أن يصف اللّه حتى كأنه يراه عيانا ، فغضب عليه
السّلام لذلك الحمد للّه الّذى لا يفره المنع والجمود ، ولا يكديه الإعطاء والجود ، إذ كلّ
معط منتقص سواه ، وكلّ مانع مذموم ما خلاه ، وهو المنّان بفوائد النّعم ، وعوائد
المزيد والقسم ، عياله الخلق : ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم ، ونهج سبيل الرّاغبين
إليه ، والطّالبين ما لديه ، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ، الأوّل الّذى
لم يكن له قبل فيكون شىء قبله ، والآخر
__________________
الّذى ليس له بعد
فيكون شىء بعده ، والرّادع أناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ،
ولا كان فى مكان فيجوز عليه الانتقال ، ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار ، من فلزّ
اللّجين والعقيان
ونثارة الدّرّ وحصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان
عنده من ذخائر الإنعام ما لا تنفده مطالب الأنام ،
لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين ولا يبخله إلحاح
الملحّين. فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به ،
واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس فى
__________________
الكتاب عليك فرضه ولا
فى سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأئمّة الهدى أثره ، فكل علمه إلى اللّه
سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك. واعلم أنّ الرّاسخين فى العلم هم الّذين
أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من
الغيب المحجوب
فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التّعمّق
فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللّه
سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين : هو القادر الّذى إذا ارتمت الأوهام لتدرك
منقطع قدرته
وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه فى عميقات غيوب ملكوته وتولّهت القلوب إليه لتجرى
فى كيفيّة صفاته وغمضت مداخل العقول
فى حيث لا تبلغه الصّفات لتناول علم ذاته ردعها وهى تجوب
مهاوى سدف الغيوب
متخلّصة إليه ، سبحانه ، فرجعت
__________________
إذ جبهت معترفة
بأنّه لا ينال بحور الاعتساف كنه معرفته
ولا تخطر ببال أولى الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته الّذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله
ولا مقدار
احتذى عليه ، من خالق معهود كان قبله ، وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به
آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته
، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، وظهرت فى البدائع الّتى أحدثها
آثار صنعته وأعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ودليلا عليه ، وإن كان خلقا
صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد أنّ من شبّهك
بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم
__________________
حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب
ضميره على معرفتك
ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك ، وكأنّه لم يسمع تبرّؤ التّابعين من
المتبوعين إذ يقولون : «تَاللّٰهِ
إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
اَلْعٰالَمِينَ» كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم ونحلوك حلية
المخلوقين بأوهامهم . وجزّأوك تجزئة
المجسّمات بخواطرهم ، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح
عقولهم ، وأشهد أنّ من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك ، والعادل بك كافر بما
تنزّلت به محكمات آياتك ، ونطقت عنه شواهد حجج
__________________
بيّناتك ، وإنّك أنت
اللّه الّذى لم تتناه فى العقول فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا ولا فى رويّات خواطرها فتكون محدودا
مصرّفا
ومنها
: قدّر ما خلق فألطف تقديره ، ودبّره
فأحكم تدبيره ، ووجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصّر دون الانتهاء إلى
غايته ، ولم يستصعب إذ أمر بالمضىّ على إرادته
وكيف وإنّما صدرت الأمور عن مشيئته؟ المنشىء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها
، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ولا تجربه أفادها من
حوادث الدّهور ولا شريك أعانه على
ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ خلقه وأذعن لطاعته ، وأجاب إلى دعوته ، ولم يعترض دونه
ريث المبطىء ولا أناة المتلكّئ فأقام من الأشياء أودها ونهج
__________________
حدودها ، ولاءم بقدرته بين متضادّها ، ووصل
أسباب قرائنها
وفرّقها أجناسا مختلفات فى الحدود والأقدار والغرائز والهيئات بدايا خلائق أحكم صنعها وفطرها
على ما أراد وابتدعها.
منها فى صفة السماء :
ونظم بلا تعليق رهوات فرجها ،
ولاحم صدوع انفراجها ، ووشّج بينها وبين
أزواجها .
وذلّل للهابطين بأمره ، والصّاعدين بأعمال
__________________
خلقه ، حزونة
معراجها
، ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها . وأقام رصدا من الشّهب الثّواقب على
نقابها
وأمسكها من أن تمور فى خرق الهواء بأيده ، وأمرها أن تقف
مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها وقمرها آية ممحوّة
__________________
من ليلها فأجراهما فى مناقل مجراهما ، وقدّر
سيرهما فى مدارج درجهما ليميّز بين اللّيل والنّهار بهما ، وليعلم عدد السّنين والحساب
بمقاديرهما ، ثمّ علّق فى جوّها فلكها
، وناط بها زينتها : من خفيّات دراريها ومصابيح كواكبها ورمى مسترقى السّمع بثواقب شهبها ، وأجراها
على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ، ومسير سائرها ، وهبوطها وصعودها ، ونحوسها وسعودها
ومنها فى صفة الملائكة :
ثمّ خلق سبحانه لاسكان سمواته ، وعمارة
الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا
بديعا من ملائكته ، ملأ بهم فروج فجاجها ، وحشا بهم فتوق أجوائها وبين
فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم فى حظائر القدس ، وسترات
__________________
الحجب ، وسرادقات
المجد ووراء ذلك
الرّجيج الّذى تستكّ منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها فتقف خاسئة على حدودها ، أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار
متفاوتات أولى أجنحة تسبّح جلال عزّته لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعته ، ولا
يدّعون أنّهم يخلقون شيئا ممّا انفرد به ، بل عباد مكرمون «لاٰ
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»
جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه ، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ،
وعصمهم من ريب الشّبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ، وأمدّهم بفوائد المعونة
، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة وفتح لهم أبوابا ذللا
إلى تماجيده ، ونصب لهم منارا واضحة على أعلام
توحيده
__________________
لم تثقلهم موصرات
الآثام
ولم ترتحلهم عقب اللّيالى والأيّام
ولم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم
ولم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم ولا قدحت قادحة الإحن
فيما بينهم ، ولا سلبتهم الحيرة
ما لاق من معرفته بضمائرهم وما سكن من عظمته وهيبة
جلالته فى أثناء صدورهم ، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم : منهم من هو فى خلق الغمام الدّلّح وفى عظم الجبال الشّمّخ ، وفى قترة
الظّلام الأبهم
، ومنهم من خرقت
__________________
أقدامهم تخوم الأرض
السّفلى ، فهى كرايات بيض قد نفذت فى مخارق الهواء وتحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث
انتهت من الحدود المتناهية ، قد استفرغتهم أشغال عبادته ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته
وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه
ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره ، قد ذاقوا حلاوة معرفته ، وشربوا
بالكأس الرّويّة من محبّته وتمكّنت من سويداء
قلوبهم وشيجة خيفته فحنوا
بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم ، ولم ينفذ طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم ولا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم
، ولم
يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، ولا تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا فى تعظيم حسناتهم ، ولم تجر
الفترات فيهم على طول دؤوبهم ، ولم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم ، ولم
__________________
تجفّ لطول المناجاة
أسلات ألسنتهم
، ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم ولم تختلف فى مقاوم الطّاعة مناكبهم ، ولم يثنوا إلى راحة التّقصير فى أمره
رقابهم ، ولا تعدو على عزيمة جدّهم
بلادة الغفلات ، ولا تنتضل فى هممهم خدائع الشّهوات قد
اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم . ويمّموه عند انقطاع
الخلق إلى المخلوقين برغبتهم
لا يقطعون أمد غاية عبادته ، ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة
من رجائه ومخافته
لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم
فينوا فى جدّهم
ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم ، ولو
استعظموا
__________________
ذلك لنسخ الرّجاء
منهم شفقات وجلهم
ولم يختلفوا فى ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم ، ولم يفرّقهم سوء التّقاطع ، ولا
تولاّهم غلّ التّحاسد ، ولا شعبتهم مصارف الرّيب ولا اقتسمتهم أخياف الهمم فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته
زيغ ، ولا عدول ولا ونى ولا فتور وليس فى أطباق
السّماء موضع إهاب إلاّ وعليه ملك ساجد
، أو ساع حافد يزدادون على طول
الطّاعة بربّهم علما ، وتزداد عزّة ربّهم فى قلوبهم عظما
ومنها
فى صفة الأرض ودحوها على الماء .
كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ، ولجج بحار
زاخرة تلتطم
أواذىّ أمواجها
وتصطفق متقاذفات أثباجها
وترغو زبدا كالفحول
__________________
عند هياجها ، فخضع
جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها ، وذلّ مستخذيا إذ تمعّكت عليه بكواهلها فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجيا
مقهورا ، وفى حكمة الذّلّ
منقادا أسيرا وسكنت الأرض مدحوّة
فى لجّة تيّاره ، وردّت من نخوة باؤه واعتلائه
وشموخ أنفه وسموّ غلوائه
وكعمته
على كظّة جريته
فهمد بعد نزقاته
ولبد بعد زيفان وثباته
فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكنافها
وحمل شواهق الجبال الشّمّخ البذّخ على أكتافها
__________________
فجر ينابيع العيون
من عرانين أنوفها
، وفرّقها فى سهوب بيدها وأخاديدها
وعدل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها
وذوات الشّناخيب الشّمم من صياخيدها فسكنت
من الميدان لرسوب الجبال فى قطع
أديمها
وتغلغلها متسرّبة فى جوبات خياشيمها
وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها
وفسح بين الجوّ وبينها ، وأعدّ الهواء متنسّما لساكنها ، وأخرج إليها أهلها على
تمام مرافقها
ثمّ لم يدع جرز الأرض
الّتى تقصر مياه
__________________
العيون عن روابيها ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى
بلوغها
حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيى مواتها
وتستخرج نباتها ، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه وتباين قزعه حتّى
إذا تمخّضت لجّة المزن فيه والتمع برفه فى كففه ، ولم ينم وميضه فى كنهور ربابه ومتراكم سحابه ، أرسله سحّا متداركا ، قد أسفّ هيدبه تمريه الجنوب درر أهاضيبه ودفع شآبيبه
__________________
فلمّا ألقت السّحاب
برك بوانيها
، وبعاع ما استقلّت به
من العبء المحمول عليها
أخرج به من هوامد الأرض النّبات ومن زعر الجبال
الأعشاب فهى تبهج بزينة
رياضها وتزدهى بما ألبسته من ريط أزاهيرها وحلية ما سمطت به من ناضر أنوارها وجعل ذلك بلاغا للأنام ورزقا للأنعام ، وخرق العجاج فى آفاقها
، وأقام المنار للسّالكين على جوّاد طرقها ،
__________________
فلمّا مهد أرضه ، وأنفذ أمره ، اختار آدم ، عليه
السّلام ، خيرة من خلقه
وجعله أوّل جبلّته
وأسكنه جنّته ، وأرغد فيها أكله وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أنّ فى الاقدام
عليه التّعرّض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه ـ موافاة لسابق
علمه ـ فأهبطه بعد التّوبة ، ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم
يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل
تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلى ودائع رسالاته ، قرنا ، فقرنا
، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ حجّته ، وبلغ المقطع عذره
ونذره ، وقدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها وقسّمها على
الضّيق والسّعة فعدل فيها ليبتلى من أراد بميسورها ومعسورها ، وليختبر بذلك الشّكر
والصّبر من غنيّها وفقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها وبسلامتها
طوارق آفاتها ، وبفرج أفراحها
__________________
غصص أتراحها وخلق الآجال فأطالها وقصّرها ، وقدّمها
وأخّرها ، ووصل بالموت أسبابها
وجعله خالجا لأشطانها
، وقاطعا لمرائر أقرانها عالم السّرّ من
ضمائر المضمرين ، ونجوى المتخافتين وخواطر رجم الظّنون وعقد
عزيمات اليقين
ومسارق إيماض الجفون
وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب
وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع
__________________
ومصائف الذّرّ ومشاتى الهوامّ ورجع الحنين من المولهات وهمس الأقدام ومنفسح
الثّمرة من ولائج غلف الأكمام ومنقمع الوحوش من
غيران الجبال وأوديتها ، ومختبإ البعوض بين
سوق الأشجار وألحيتها
ومغرز الأوراق من الأفنان
ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب
وناشئة الغيوم ومتلاحمها ، ودرور قطر السّحاب فى متراكمها ، وما تسفى الأعاصير
بذيولها
وتعفو الأمطار بسيولها
وعوم نبات الأرض فى
__________________
كثبان الرّمال ، ومستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب
الجبال
، وتغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار
، وما أوعبته الأصداف وحضنت عليه أمواج
البحار وما غشيته سدفة ليل أو
ذرّ عليه شارق نهار
، وما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير
وسبحات النّور. وأثر كلّ خطوة ، وحسّ كلّ حركة ، ورجع كلّ كلمة ، وتحريك كلّ شفة ،
ومستقرّ كلّ نسمة ، ومثقال كلّ ذرّة ، وهماهم كلّ نفس هامّة وما عليها من ثمر شجرة أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة أو نقاعة دم ومضغة أو ناشئة خلق وسلالة ، لم يلحقه فى ذلك
كلفة ، ولا اعترضته فى حفظ ما ابتدعه من خلقه
__________________
عارضة ، ولا اعتورته فى تنفيذ الأمور وتدبير
المخلوقين ملالة ولا فترة
بل نفذ فيهم علمه وأحصاهم عدّه ، ووسعهم عدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه
ما هو أهله.
اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، والتّعداد
الكثير
إن تؤمّل فخير مؤمّل ، وإن ترج فأكرم مرجوّ. اللّهمّ وقد بسطت لى فيما لا أمدح به
غيرك ، ولا أثنى به على أحد سواك ، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الرّيبة وعدلت
بلسانى عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ ولكلّ مثن
على من أثنى عليه مثوبة من جزاء ، أو عارفة
من عطاء ، وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة. اللّهمّ وهذا مقام من
أفردك بالتّوحيد الّذى هو لك ، ولم ير مستحقّا لهذه المحامد والممادح غيرك ، وبى
فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ، ولا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك ،
فهب لنا فى هذا المقام رضاك ، وأغننا عن مدّ الأيدى إلى سواك ، إنّك على كلّ شىء
قدير.
__________________
٩٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضى
اللّه عنه
دعونى والتمسوا غيرى فإنّا مستقبلون
أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول وإنّ الآفاق قد أغامت ، والمحجّة قد تنكّرت ، واعلموا إن
أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتمونى
فأنا كأحدكم ولعلّى أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا خير لكم
منّى أميرا.
٩١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أمّا بعد أيّها النّاس ، فأنا فقأت عين
الفتنة
ولم تكن ليجرؤ عليها أحد
__________________
غيرى بعد أن ماج
غيهبها
واشتدّ كلبها
فاسألونى قبل أن تفقدونى ، فو الّذى نفسى بيده لا تسألونى عن شىء فيما بينكم وبين
السّاعة ، ولا عن فئة تهدى مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ
رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ويموت منهم موتا ، ولو قد فقدتمونى ونزلت بكم
كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق
كثير من السّائلين ، وفشل كثير من المسئولين ، وذلك إذا قلصت حربكم وشمّرت
عن ساق ، وضاقت الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح
اللّه لبقيّة الأبرار منكم ، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت نبّهت : ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن
حول الرّياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا ، ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بنى
أميّة ، فإنّها
__________________
فتنة عمياء مظلمة : عمّت
خطّتها
وخصّت بليّتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها
وأخطأ البلاء من عمى عنها ، وايم اللّه لتجدنّ بنى أميّة لكم أرباب سوء بعدى
كالنّاب الضّروس
: تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتّى لا
يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم أو غير ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون
انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه والصّاحب من مستصحبه ترد
عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة وقطعا جاهليّة ليس
فيها منار هدى ، ولا علم يرى نحن أهل البيت منها
بمنجاة
ولسنا فيها بدعاة ، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم : بمن يسومهم خسفا ويسوقهم عنفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة لا يعطيهم إلاّ السّيف ، ولا يحلسهم
إلاّ الخوف
، فعند ذلك تودّ قريش ، بالدّنيا وما فيها ، لو يروننى مقاما
__________________
واحدا ، ولو قدر جزر
جزور لأقبل منهم
ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننى
٩٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فتبارك اللّه الّذى لا يبلغه بعد الهمم
، ولا يناله حسن الفطن ، الأوّل الّذى لا غاية له فينتهى ، ولا آخر له فينقضى.
منها فى وصف الأنبياء :
فاستودعهم فى أفضل مستودع ، وأقرّهم فى
خير مستقرّ ، تناسختهم كرائم الأصلاب
إلى مطهّرات الأرحام ، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف ، حتّى أفضت
كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخرجه من أفضل
المعادن منبتا
وأعزّ الأرومات مغرسا من الشّجرة الّتى
صدع منها أنبياءه ، وانتخب منها
أمناءه عترته خير العتر وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشّجر
، نبتت فى حرم ، وبسقت فى كرم
__________________
لها فروع طوال ، وثمرة
لا تنال ، فهو إمام من اتّقى ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوءه ، وشهاب سطع نوره
، وزند برق لمعه ، سيرته القصد
وسنّته الرّشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، على حين فترة من الرّسل وهفوة عن العمل وغباوة من الأمم ، اعملوا ، رحمكم
اللّه ، على أعلام بيّنة ، فالطّريق نهج يدعو إلى دار
السّلام وأنتم فى دار مستعتب على مهل وفراغ ، والصّحف منشورة ،
والأقلام جارية ، والأبدان صحيحة ، والألسن مطلقة ، والتّوبة مسموعة والأعمال
مقبولة
٩٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
بعثه والنّاس ضلاّل فى حيرة ، وخابطون
فى فتنة ، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء واستخفّتهم
الجاهليّة الجهلاء .
حيارى فى زلزال
__________________
من الأمر ، وبلاء من
الجهل ، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فى النّصيحة ، ومضى على الطّريقة ، ودعا
إلى الحكمة والموعظة الحسنة
٩٤ ـ ومن خطبة أخرى
الحمد للّه الأوّل فلا شىء قبله ، والآخر
فلا شىء بعده ، والظّاهر فلا شىء فوقه ، والباطن فلا شىء دونه.
منها فى ذكر الرسول صلّى
اللّه عليه وآله وسلم :
مستقرّه خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت
، فى معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة
قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار ، دفن به الضّغائن ، وأطفأ به الثّوائر ،
ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا أعزّ به الذّلّة ،
وأذلّ به العزّة ، كلامه بيان ، وصمته لسان
__________________
٩٥ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
ولئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع
الشّجى من مساغ ريقه
أما والّذى نفسى بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ،
ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّى. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم
رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتى : استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم
تسمعوا ، ودعوتكم سرّا وجهرا فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغيّاب وعبيد كأرباب؟؟!! أتلو عليكم الحكم
فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل
البغى فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادى سبا ترجعون
إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ، أقوّمكم غدوة وترجعون إلىّ عشيّة كظهر الحيّة عجز
المقوّم ، وأعضل المقوّم .
__________________
أيّها الشّاهدة أبدانهم ، الغائبة
عقولهم ، المختلقة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه
، وصاحب أهل الشّام يعصى اللّه وهم يطيعونه؟! لوددت واللّه أنّ معاوية صارفنى بكم
صرف الدّينار بالدّرهم ، فأخذ منّى عشرة منكم وأعطانى رجلا منهم ، يا أهل الكوفة ،
منيت منكم بثلاث واثنتين : صمّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمى ذوو أبصار ، لا
أحرار صدق عند اللّقاء
، ولا إخوان ثقة عند البلاء ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلّما جمعت من
جانب تفرّقت من جانب آخر ، واللّه لكأنّى بكم فيما إخال أن لو حمس الوغى ، وحمى الضّراب ، وقد
انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج المرأة عن قبلها وإنّى لعلى بيّنة من ربّى ، ومنهاج من
نبيّى ، وإنّى لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا انظروا أهل بيت
نبيّكم فالزموا سمتهم واتّبعوا أثرهم ، فلن
يخرجوكم من هدى ،
__________________
ولن يعيدوكم فى ردى.
فإن لبدوا فالبدوا
، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا ، لقد
رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، فما أرى أحدا منكم يشبههم! لقد كانوا
يصبحون شعثا غبرا
وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم!
كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا
ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح
العاصف ، خوفا من العقاب ، ورجاء
للثّواب.
٩٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام
واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه
محرّما إلاّ استحلّوه ولا عقدا إلاّ حلّوه
__________________
وحتّى لا يبقى بيت
مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم
ونبا به سوء رعيهم
وحتّى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكى لدينه ، وباك يبكى لدنياه ، وحتّى تكون
نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده : إذا شهد أطاعه ، وإذا غاب اغتابه ، وحتّى
يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا ، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا ، وإن
ابتليتم فاصبروا ، فإنّ العاقبة للمتّقين
٩٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
نحمده على ما كان ، ونستعينه من أمرنا
على ما يكون ، ونسأله المعافاة فى الأديان ، كما نسأله المعافاة فى الأبدان. عباد
اللّه ، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم ، وإن لم تحبّوا تركها والمبلية
لأجسامكم ، وإن كنتم تحبّون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا
فكأنّهم قد قطعوه
، وأمّوا علما فكأنّهم قد بلغوه ،
وكم
__________________
عسى المجرى إلى
الغاية أن يجرى إليها
حتّى يبلغها ، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه؟ وطالب حثيث يحدوه فى الدّنيا
حتّى يفارقها ؟
فلا تنافسوا فى عزّ الدّنيا وفخرها ، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ، ولا تجزعوا من
ضرّائها وبؤسها ، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع ، وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوال وضرّاءها
وبؤسها إلى نفاد
، وكلّ مدّة فيها إلى انتهاء ، وكلّ حىّ فيها إلى فناء ، أوليس لكم فى آثار
الأوّلين مزدجر وفى آبائكم الأوّلين
تبصرة ومعتبر ، إن كنتم تعقلون؟! أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون؟ وإلى
الخلف الباقين لا يبقون؟ أولستم ترون أهل الدّنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى : فميّت
يبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود وطالب
للدّنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه؟؟!! وعلى أثر الماضى ما يمضى الباقى
ألا فاذكروا هاذم اللّذّات ، ومنغّص الشّهوات ، وقاطع الأمنيّات ، عند المساورة
للأعمال القبيحة واستعينوا اللّه على
أداء واجب حقّه ،
__________________
وما لا يحصى من
أعداد نعمه وإحسانه.
٩٨ ـ من خطبة له أخرى
الحمد للّه النّاشر فى الخلق فضله ، والباسط
فيهم بالجود يده. نحمده فى جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا
إله غيره. وأنّ محمّدا عبده ورسوله : أرسله بأمره صادعا ، وبذكره ناطقا ، فأدّى أمينا ، ومضى
رشيدا. وخلّف فينا راية الحقّ : من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها زهق ، ومن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام بطئ
القيام ، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم له رقابكم ، وأشرتم إليه بأصابعكم ، جاءه
الموت فذهب به ، فلبثتم بعده ما شاء اللّه ، حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم ويضمّ
نشركم فلا تطمعوا فى غير مقبل ولا
تيأسوا من مدبر ، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ
__________________
إحدى قائمتيه وتثبت الأخرى ، وترجعا حتّى تثبتا
جميعا. ألا إنّ مثل آل محمّد ، صلى اللّه عليه وآله ، كمثل نجوم السّماء : إذا خوى
نجم طلع نجم
فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون.
٩٩ ـ ومن خطبة له أخرى
الأوّل قبل كلّ أوّل ، والآخر بعد كلّ
آخر ، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له وبآخريّته أن لا آخر له ، وأشهد أن لا إله إلاّ
اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان ، والقلب اللسان. أيّها النّاس ، لا
يجرمنّكم شقاقى
ولا يستهوينّكم عصيانى ، ولا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّى فو
الّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، إنّ الّذى أنبّئكم به عن النّبىّ ، صلّى اللّه
عليه وآله ، ما كذب المبلّغ ، ولا جهل السّامع. ولكنّى أنظر إلى ضلّيل قد
نعق بالشّام ، وفحص براياته
__________________
فى ضواحى كوفان . فإذا فغرت فاغرته واشتدّت شكيمته وثقلت فى الأرض وطأته ، عضّت الفتنة
أبناءها بأنيابها ، وماجت الحرب بأمواجها ، وبدا من الأيّام كلوحها ومن
الليالى كدوحها فإذا أينع زرعه وقام
على ينعه
وهدرت شقاشقه ، وبرقت بوارقه ، عقدت رايات الفتن المعضلة وأقبلن كالليل المظلم ، والبحر
الملتطم ، هذا ، وكم يخرق الكوفة من قاصف
ويمرّ عليها من عاصف ، وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون ويحصد القائم ، ويحطم المحصود
١٠٠ ـ ومن كلام له
يجرى مجرى الخطبة
وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين
لنقاش الحساب
وجزاء
__________________
الأعمال ، خضوعا ، قياما
، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه
متّسعا ومنه : فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة ولا تردّ لها راية ، تأتيكم مزمومة
مرحولة ، يحفزها قائدها ، ويجدّها راكبها ، أهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، يجاهدهم فى سبيل اللّه قوم أذلة عند
المتكبّرين ، فى الأرض مجهولون ، وفى السّماء معروفون ، فويل لك يا بصرة عند ذلك ،
من جيش من نقم اللّه لا رهج له ، ولا حسّ
، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر ، والجوع الأغبر.
__________________
١٠١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها
، الصّادفين عنها
، فإنّها واللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى السّاكن وتفجع المترف الآمن لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا
يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرّجال فيها إلى الضّعف والوهن
، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها ، لقلّة ما يصحبكم منها. رحم اللّه امرأ تفكّر
فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن وكأنّ
ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، وكلّ معدود منقض ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ
آت قريب دان.
ومنها:
العالم من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، وإنّ من أبغض الرّجال
لعبدا وكله اللّه إلى نفسه! جائرا عن قصد السّبيل ، سائرا بغير دليل ، إن دعى إلى
حرث الدّنيا عمل ، وإن دعى إلى حرث الآخرة
__________________
كسل! كأن ما عمل له
واجب عليه
وكأنّ ما ونى فيه ساقط عنه
ومنها
: وذلك زمن لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن
نومة : إن شهد لم
يعرف ، وإن غاب لم يفتقد ، أولئك مصابيح الهدى ، وأعلام السّرى ليسوا
بالمساييح ، ولا المذاييع البذر ، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته ، ويكشف عنهم
ضرّاء نقمته. أيّها النّاس ، سيأتى عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء
بما فيه! أيّها ، النّاس ، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يعذكم من
أن يبتليكم وقد قال جلّ من قائل
: «إِنَّ فِي
ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَإِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ»
قال الشريف : قوله عليه السلام : «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر
القليل الشر ، والمساييح : جمع مسياح ، وهو الذى يسيح بين الناس بالفساد والنمائم
، والمذاييع : جمع مذياع ، وهو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها ، والبذر
: جمع بذور وهو الذى يكثر سفهه ويلغو منطقه
__________________
١٠٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية
أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث
محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة
ولا وحيا ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ويبادر بهم السّاعة أن
تنزل بهم ، يحسر الحسير
ويقف الكسير ، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته ، إلاّ هالكا لا خير فيه ، حتّى أراهم منجاتهم
، وبوّأهم محلّتهم ، فاستدارت رحاهم
واستقامت قناتهم ، وايم اللّه لقد كنت فى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ، واستوثقت
قيادها : ما ضعفت ولا جبنت ، ولا خنت ، ولا وهنت ، وايم اللّه لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.
__________________
١٠٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
حتّى بعث اللّه محمّدا ، صلّى اللّه
عليه وآله ، شهيدا ، وبشيرا ، ونذيرا ، خير البريّة طفلا ، وأنجبها كهلا ، أطهر
المطهّرين شيمة ، وأمطر المستمطرين ديمة
فما أحلولت لكم الدّنيا فى لذّتها ، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها
قلقا وضينها
، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود ،
وحلالها بعيدا غير موجود ، وصادفتموها ، واللّه ، ظلاّ ممدودا إلى أجل معدود ، فالأرض
لكم شاغرة وأيديكم فيها مبسوطة.
وأيدى القادة عنكم مكفوفة ، وسيوفكم عليهم مسلّطة وسيوفهم عنكم مقبوضة ، الاّ إنّ
لكلّ دم ثائرا ولكلّ حقّ طالبا ، وإنّ
__________________
الثّائر فى دمائنا
كالحاكم فى حقّ نفسه
، وهو اللّه الّذى لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب. فأقسم باللّه يا بنى أميّة
عمّا قليل لتعرفنّها فى أيدى غيركم وفى دار عدوّكم. الاّ وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ
فى الخير طرفه ، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير وقبله. أيّها النّاس ، استصبحوا
من شعلة مصباح واعظ متّعظ ، وامتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر عباد اللّه ، لا تركنوا إلى جهالتكم ،
ولا تنقادوا إلى أهوائكم ، فإنّ النّازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار ، ينقل الرّدى على
ظهره من موضع إلى موضع لرأى يحدثه بعد رأى
، يريد أن يلصق ما لا يلتصق ، ويقرّب ما لا يتقارب ، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من
لا يشكى شجوكم .
__________________
ولا ينقض برأيه ما
قد أبرم لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه ، إلاّ البلاغ فى
الموعظة ، والاجتهاد فى النّصيحة ، والإحياء للسّنّة ، وإقامة الحدود على
مستحقّيها ، وإصدار السّهمان على أهلها
: فبادروا العلم من قبل تصويح نبته
ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستنار العلم من عند أهله وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنّما
أمرتم بالنّهى بعد التّناهى.
١٠٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
الحمد للّه الّذى شرع الإسلام فسهّل
شرائعه لمن ورده ، وأعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه وسلما
لمن دخله وبرهانا لمن تكلّم به
، وشاهدا لمن خاصم به ، ونورا لمن استضاء به ، وفهما لمن عقل ، ولبّا لمن تدبّر ،
__________________
آية لمن توسّم ، وتبصرة
لمن عزم ، وعبرة لمن اتّعظ ، ونجاة لمن صدّق ، وثقة لمن توكّل ، وراحة لمن فوّض ،
وجنّة لمن صبر
فهو أبلج المناهج
وأوضح الولائج
مشرف المنار مشرق الجوادّ مضىء
المصابيح ، كريم المضمار رفيع الغاية ، جامع
الحلبة
متنافس السّبقة
شريف الفرسان : التّصديق منهاجه ، والصّالحات مناره ، والموت غايته والدّنيا مضماره والقيامة حلبته ، والجنّة سبقته .
منها فى ذكر النبى صلّى
اللّه عليه وآله وسلم :
حتّى أورى قبسا لقابس وأنار علما لحابس فهو أمينك المأمون ،
__________________
وشهيدك يوم الدّين ،
وبعيثك نعمة
، ورسولك بالحقّ رحمة. اللّهمّ اقسم له مقسما من عدلك واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ
أعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك نزله
وشرّف عندك منزلته ، وآته الوسيلة وأعطه السّناء والفضيلة ،
واحشرنا فى زمرته غير خزايا ولا نادمين ، ولا
ناكبين ولا ناكثين ولا ضالّين ، ولا مضلّين ، ولا
مفتونين. قال الشريف : وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم ، إلا أننا كررناه ههنا لما
فى الروايتين من الاختلاف
ومنها فى خطاب أصحابه :
وقد بلغتم من كرامة اللّه لكم منزلة
تكرم بها إماؤكم ، ويوصل بها جيرانكم ويعظّمكم من لا فضل لكم عليه ، ولا يد لكم
عنده ، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة ، وقد ترون عهود اللّه
منقوضة فلا تغضبون وانتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون ، وكانت أمور اللّه عليكم ترد ، وعنكم
__________________
تصدر ، وإليكم ترجع
، فمكّنتم الظّلمة من منزلتكم ، وألقيتم إليهم أزمّتكم وأسلمتم أمور اللّه فى
أيديهم ، يعملون فى الشّبهات ، ويسيرون فى الشّهوات وايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ
كوكب لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم
١٠٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام
وقد رأيت جولتكم ، وانحيازكم عن صفوفكم
، تحوزكم الجفاة الطّغام
وأعراب أهل الشّام ، وأنتم لهاميم العرب
ويآفيخ الشّرف وأنف المقدم والسّنام
الأعظم ، ولقد شفى وحاوح صدرى أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم
كما حازوكم ، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم ، حسّا بالنّضال وشجرا بالرّماح تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم
المطرودة
ترمى
__________________
عن حياضها ، وتذاد
عن مواردها.
١٠٦ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
وهى من خطب الملاحم
الحمد للّه المتجلّى لخلقه بخلقه ، والظّاهر
لقلوبهم بحجّته ، خلق الخلق من غير رويّة ، إذ كانت الرّويّات لا تليق إلاّ بذوى
الضّمائر. وليس بذى ضمير فى نفسه ، خرق علمه باطن غيب السّترات وأحاط بغموض عقائد السّريرات
منها فى ذكر النبى صلّى
اللّه عليه وآله وسلم :
اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة
الضّياء
، وذؤابة العلياء
وسرّة البطحاء ومصابيح الظّلمة ، وينابيع
الحكمة ومنها : طبيب دوّار بطبّه : قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه يضع
من ذلك حيث الحاجة إليه : من قلوب عمى ، وآذان صمّ ، وألسنة بكم متّبع بدوائه
مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة
__________________
ولم يقدحوا بزناد
العلوم الثّاقبة ، فهم فى ذلك كالأنعام السّائمة والصّخور القاسية قد انجابت
السّرائر لأهل البصائر
، ووضحت محجّة الحقّ لخابطها
وأسفرت السّاعة عن وجهها ، وظهرت العلامة لمتوسّمها. مالى أراكم أشباحا بلا أرواح؟
وأرواحا بلا أشباح. ونسّاكا بلا صلاح ، وتجّارا بلا أرباح ، وأيقاظا نوّما ، وشهودا
غيّبا ، وناظرة عمياء ، وسامعة صمّاء ، وناطقة بكماء؟ رأيت ضلالة قد قامت على
قطبها وتفرّقت
بشعبها تكيلكم بصاعها وتخبطكم
بباعها قائدها خارج عن
الملّة ، قائم على الضّلّة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر ، أو نفاضة كنفاضة العكم تعرككم
__________________
عرك الأديم وتدوسكم دوس الحصيد وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص
الحبّة البطينة
من بين هزيل الحبّ ، أين تذهب بكم المذاهب وتتيه بكم الغياهب ، وتخدعكم الكواذب؟؟
ومن أين تؤتون وأنّى تؤفكون؟ فلكلّ أجل كتاب ، ولكلّ غيبة إياب ، فاستمعوه من
ربّانيّكم وأحضروه قلوبكم ، واستيقظوا
إن هتف بكم وليصدق رائد أهله وليجمع
شمله ، وليحضر ذهنه ، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة ، وقرفه قرف الصّمغة فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه ، وركب
الجهل مراكبه ، وعظمت الطّاغية ، وقلّت الدّاعية ، وصال الدّهر صيال السّبع العقور
، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم
، وتواخى النّاس على الفجور ، وتهاجروا على الدّين ، وتحابّوا على الكذب ، وتباغضوا
على الصّدق فإذا كان ذلك كان الولد غيظا
__________________
والمطر قيظا ، وتفيض
اللّئام فيضا ، وتغيض الكرام غيضا
، وكان أهل ذلك الزّمان ذئابا ، وسلاطينه سباعا ، وأوساطه أكّالا ، وفقراؤه أمواتا
، وغار الصّدق ، وفاض الكذب ، واستعملت المودّة باللّسان ، وتشاجرت النّاس بالقلوب
، وصار الفسوق نسبا ، والعفاف عجبا ، ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا.
١٠٧ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
كلّ شىء خاضع له ، وكلّ شىء قائم به : غنى
كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف ، ومن تكلّم سمع
نطقه ، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه ، لم ترك
العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ، لم تخلق الخلق لوحشة ، ولا
استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخذت ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد فى
ملكك من أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك ، كلّ
سرّ عندك علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ، أنت الأبد لا أمد لك ، وأنت المنتهى لا
__________________
محيص عنك ، وأنت
الموعد لا منجى منك إلاّ إليك ، بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة ، سبحانك
ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظمه فى جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملكوتك
، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك فى الدّنيا ، وما أصغرها
فى نعيم الآخرة. منها : من ملائكة أسكنتهم سمواتك ، ورفعتهم عن أرضك ، هم أعلم
خلقك بك ، وأخوفهم لك ، وأقربهم منك ، لم يسكنوا الأصلاب ، ولم يضمّنوا الأرحام ،
ولم يخلقوا من ماء مهين
ولم يشعبهم ريب المنون
وإنّهم ـ على مكانهم منك ، ومنزلتهم عندك ، واستجماع أهوائهم فيك ، وكثرة طاعتهم
لك ، وقلّة غفلتهم عن أمرك ـ لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك لحقروا أعمالهم ، ولزروا
على أنفسهم
، ولعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك ، ولم يطيعوك حقّ طاعتك ، سبحانك خالقا ومعبودا
: بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا ،
__________________
وجعلت فيها مأدبة : مشربا ، ومطعما ، وأزواجا ، وخدما ،
وقصورا ، وأنهارا ، وزروعا ، وثمارا ، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها ، فلا الدّاعى
أجابوا ، ولا فيما رغبت إليه رغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا أقبلوا على
جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبّها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة
، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشّهوات عقله ، وأماتت الدّنيا قلبه ، وولهت
عليها نفسه فهو عبد لها ، ولمن فى يده شىء منها : حيثما زالت زال إليها ، وحيثما
أقبلت أقبل عليها ، ولا يزدجر من اللّه بزاجر ، ولا يتّعظ منه بواعظ ، وهو يرى
المأخوذين على الغرّة
ـ حيث لا إقالة ولا رجعة ـ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدّنيا
ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ، فغير موصوف ما نزل بهم
، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم
، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم وبين
منطقه ، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ، ويسمع بأذنه ـ على صحّة من عقله ، وبقاء من
لبّه ـ يفكّر فيم أفنى عمره ،
__________________
وفيم أذهب دهره ، ويتذكّر
أموالا جمعها : أغمض فى مطالبها
وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها : تبقى لمن وراءه
ينعمون فيها ، ويتمتّعون بها ، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره . والمرء
قد غلقت رهونه بها فهو يعضّ يده ندامة
على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان
يرغب فيه أيّام عمره ، ويتمنّى أنّ الّذى كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها
دونه! فلم يزل الموت يبالغ فى جسده حتّى خالط لسانه سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا
يسمع بسمعه : يردّد طرفه بالنّظر فى وجوههم يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع
كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطا
فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الرّوح من جسده فصار جيفة بين أهله : قد أوحشوا من
جانبه ، وتباعدوا من
__________________
قربه ، لا يسعد
باكيا ، ولا يجيب داعيا. ثمّ حملوه إلى محطّ فى الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا
عن زورته
حتّى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر
اللّه ما يريده : من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها ، وأرجّ الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها
ودكّ بعضها بعضا من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجدّدهم على
أخلاقهم
وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال ، وخبايا
الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء : فأمّا أهل طاعته
فأثابهم بجواره ، وخلّدهم فى داره ، حيث لا يظعن النّزّال ، ولا يتغيّر لهم الحال
، ولا تنوبهم الأفزاع ولا تنالهم الأسقام ،
ولا تعرض لهم الأخطار ، ولا تشخصهم الأسفار ، وأمّا أهل المعصية
فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدى إلى الأعناق ، وقرن النّواصى بالأقدام ، وألبسهم
سرابيل القطران ومقطّعات النّيران فى عذاب قد اشتدّ حرّه
__________________
وباب قد أطبق على
أهله فى نار لها كلب ولجب
ولهب ساطع ، وقصيف هائل
، لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها ، ولا تفصم كبولها لا مدّة للدّار فتفنى ، ولا أجل للقوم
فيقضى.
ومنها فى ذكر النبى صلّى
اللّه عليه وسلم :
قد حقّر الدّنيا وصغّرها ، وأهونها وهوّنها
، وعلم أنّ اللّه زواها عنه اختيارا ، وبسطها لغيره
احتقارا ، فأعرض عنها بقلبه ، وأمات ذكرها عن نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه
، لكيلا يتّخذ منها رياشا أو يرجو فيها مقاما
، بلّغ عن ربّه معذرا ونصح لأمّته منذرا ،
ودعا إلى الجنّة مبشّرا نحن شجرة النّبوّة ، ومحطّ الرّسالة ، ومختلف الملائكة ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا
ومحبّنا ينتظر الرّحمة ، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السّطوة
__________________
١٠٨ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى
اللّه ، سبحانه ، الإيمان به وبرسوله والجهاد فى سبيله فإنّه ذروة الإسلام ، وكلمة
الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصّلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزّكاة فإنّها
فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب ، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما
ينفيان الفقر ويرحضان الذّنب
، وصلة الرّحم فإنّها مثراة فى المال ومنسأة فى الأجل وصدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة ، وصدقة
العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقى مصارع الهوان.
أفيضوا فى ذكر اللّه فإنّه أحسن الذّكر ، وارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّه أصدق
الوعد ، واقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى ، واستنّوا بسنّته فإنّه أهدى
السّنن ، وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا
بنوره فإنّه شفاء الصّدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص ، فإنّ العالم العامل
بغير علمه كالجاهل الحائر الّذى لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة
له ألزم ، وهو عند اللّه ألوم
__________________
١٠٩ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
أما بعد ، فإنّى أحذّركم الدّنيا فإنّها
حلوة خضرة ، حفّت بالشّهوات ، وتحبّبت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال
، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها
ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة لا
تعدو إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها أن
تكون كما قال اللّه سبحانه وتعالى : «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ
اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً
تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَكٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ
شَيْءٍ مُقْتَدِراً» لم يكن امرؤ منها
فى حبرة إلاّ أعقبتها عبرة
ولم يلق فى سرّائها بطنا
إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا ، ولم تطلّه فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء ، وحرىّ ، إذا
أصبحت له منتصرة ، أن تمسى له متنكّرة وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها
جانب فأوبى
لا ينال امرؤ
__________________
من غضارتها رغبا إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا ، ولا يمسى منها فى جناح أمن إلاّ أصبح
على قوادم خوف
غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها لا خير فى شىء من أزوادها إلاّ التّقوى
، من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه وزال
عمّا قليل عنه ، كم من واثق بها فجعته وذى طمأنينة قد صرعته
، وذى أبهة قد جعلته حقيرا وذى نخوة قد ردّته
ذليلا ؟ سلطانها
دول ، وعيشها
رنق وعذبها أجاج
وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام حيّها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم ، ملكها
مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وموفورها منكوب ، وجارها محروب ألستم
فى مساكن من كان قبلكم أطول
__________________
أعمارا ، وأبقى
آثارا ، وأبعد آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا : تعبّدوا للدّنيا أىّ تعبّد ، وآثروها
أىّ إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع ؟؟!! فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم
نفسا بفدية
أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالفوادح وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم
بالنّوائب وعفّرتهم للمناخر ووطئتهم
بالمناسم وأعانت عليهم ريب
المنون ، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها
وآثرها ، وأخلد لها
حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد
وهل زوّدتهم إلاّ السّغب
أو أحلّتهم إلاّ الضّنك
أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة
أو أعقبتهم إلاّ النّدامة؟ فهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنّون ، أم عليها تحرصون؟؟
فبئست الدّار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا ـ وأنتم
__________________
تعلمون ـ بأنّكم
تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالّذين قالوا : (من أشدّ منّا قوّة) حملوا
إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا
وأنزلوا الأجداث
فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصّفيح أجنان
ومن التّراب أكفان ومن الرّفات جيران فهم
جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة : إن جيدوا لم يفرحوا وإن
قحطوا لم يقنطوا : جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون وقريبون لا يتقاربون حلماء قد ذهبت
أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الأرض
بطنا ، وبالسّعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنّور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم
إلى الحياة الدّائمة ، والدّار الباقية ، كما قال سبحانه : «كَمٰا
بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا
كُنّٰا فٰاعِلِينَ»
__________________
١١٠ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
ذكر فيها ملك الموت
هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه
إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين فى بطن أمّه؟ أيلج عليه من بعض جوارحها أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو
ساكن معه فى أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!!؟
١١١ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
وأحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة ، وليست بدار نجعة قد تزيّنت بغرورها ، وغرّت بزينتها ، هانت
على ربّها : فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرّها ، وحياتها بموتها ، وحلوها
بمرّها : لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنّ بها على أعدائه ، خيرها زهيد ،
وشرّها عتيد ، وجمعها ينفد ، وملكها
يسلب وعامرها يخرب ، فما خير دار تنقض نقض البناء؟ وعمر يفنى فيها فناء الزّاد
__________________
ومدّة تنقطع انقطاع
السّير؟! اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم واسألوه من أداء حقّه ما سألكم ، وأسمعوا
دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزّاهدين فى الدّنيا تبكى قلوبهم وإن
ضحكوا ، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا ، ويكنر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال ، وحضرتكم
كواذب الآمال ، فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة ، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة وإنّما
أنتم إخوان على دين اللّه : ما فرّق بينكم إلاّ خبث السّرائر ، وسوء الضّمائر : فلا
توازرون ، ولا تناصحون ، ولا تبادلون ، ولا توادّون!! ما بالكم تفرحون باليسير من
الدّنيا تملكونه ، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه ، ويقلّقكم اليسير من
الدّنيا يفوتكم حتّى يتبيّن ذلك فى وجوهكم وقلّة صبركم عمّا زوى منها عنكم ؟؟!! كأنّها دار مقامكم ، وكأنّ متاعها
باق عليكم!! وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلاّ مخافة أن
يستقبله بمثله ، قد تصافيتم على رفض الآجل ، وحبّ العاجل ، وصار دين أحدكم لعقة
على لسانه
__________________
صنيع من قد فرغ عن
عمله وأحرز رضا سيّده!
١١٢ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
الحمد للّه الواصل الحمد بالنّعم ، والنّعم
بالشّكر. نحمده على آلائه ، كما نحمده على بلائه ، ونستعينه على هذه النّفوس
البطاء عمّا أمرت به
السّراع إلى ما نهيت عنه ، ونستغفره ممّا أحاط به علمه وأحصاه كتابه : علم غير
قاصر وكتاب غير مغادر .
ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ، ووقف على الموعود : إيمانا نفى إخلاصه الشّرك ، ويقينه
الشّكّ. ونشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم ، شهادتين تصعدان القول ، وترفعان العمل : لا يخفّ ميزان
توضعان فيه ، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّتى هى
الزّاد ، وبها المعاد ، زاد مبلّغ ، ومعاد منجح ، دعا إليها أسمع داع ، ووعاها خير
واع فأسمع
داعيها ، وفاز واعيها عباد اللّه ، إنّ تقوى اللّه حمت أولياء اللّه محارمه ،
وألزمت قلوبهم مخافته
__________________
حتّى أسهرت لياليهم
، وأظمأت هواجرهم
فأخذوا الرّاحة بالنّصب
والرّىّ بالظّمأ ، واستقربوا الأجل ، فبادروا العمل ، وكذّبوا الأمل ، فلاحظوا الأجل.
ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء وعناء ، وغير وعبر : فمن الفناء أنّ الدّهر موتّر قوسه لا تخطىء سهامه ، ولا تؤسى جراحه يرمى
الحىّ بالموت والصّحيح بالسّقم ، والنّاجى بالعطب ، آكل لا يشبع ، وشارب لا ينقع ومن
العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن ، ثمّ يخرج إلى اللّه لا
مالا حمل ، ولا بناء نقل ، ومن غيرها أنّك ترى المرحوم
مغبوطا ، والمغبوط مرحوما ، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ وبؤسا نزل ، ومن عبرها أنّ المرء يشرف
على أمله ، فيقطعه حضور أجله ، فلا أمل يدرك ، ولا مؤمّل يترك! فسبحان اللّه!! ما
أغرّ سرورها ، وأظمأ ريّها ، وأضحى فيئها
، لا جاء يردّ
ولا ماض
__________________
يرتدّ! فسبحان
اللّه!! ما أقرب الحىّ من الميّت للحاقه به ، وأبعد الميّت من الحىّ لانقطاعه عنه.
إنّه ليس شىء بشرّ من الشّرّ إلاّ عقابه ، وليس شىء بخير من الخير إلاّ ثوابه وكلّ
شىء من الدّنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شىء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فليكفكم
من العيان السّماع ، ومن الغيب الخبر ، واعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا وزاد فى
الآخرة خير ممّا نقص فى الآخرة وزاد فى الدّنيا ، فكم من منقوص رابح ومزيد خاسر.
إنّ الّذى أمرتم به أوسع من الّذى نهيتم عنه ، وما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم
، فذروا ما قلّ لما كثر ، وما ضاق لما اتّسع ، قد تكفّل لكم بالرّزق ، وأمرتم
بالعمل ، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى
بكم من المفروض عليكم عمله ، مع أنّه ، واللّه ، لقد اعترض الشّكّ ودخل اليقين حتّى كأنّ الّذى ضمن لكم قد فرض عليكم
، وكأنّ الّذى قد فرض عليكم قد وضع عنكم! فبادروا العمل ، وخافوا بغتة الأجل ، فانّه
لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرّزق
ما فات من الرّزق رجى غدا زيادته ، وما فات أمس من العمر لم يرج
__________________
اليوم رجعته.
الرّجاء مع الجائى ، واليأس مع الماضى (فَاِتَّقُوا
اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ)
١١٣ ـ ومن خطبة له عليه
السّلام
فى الاستسقاء
اللّهمّ قد انصاحت جبالنا ، واغبرّت أرضنا ، وهامت دوابّنا ، وتحيّرت
فى مرابضها ، وعجّت عجيج الثّكالى على أولادها ، وملّت التّردّد فى مراتعها ، والحنين
إلى مواردها. اللّهمّ فارحم أنين الآنّة ، وحنين الحانّة. اللّهمّ فارحم حيرتها فى
مذاهبها ، وأنينها فى موالجها
اللّهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السّنين ، وأخلفتنا مخايل الجود ، فكنت الرّجاء للمبتئس والبلاغ
للملتمس : ندعوك حين قنط الأنام ، ومنع الغمام ، وهلك السّوام أن
لا تؤاخذنا بأعمالنا ، ولا تأخذنا بذنوبنا ، وانشر علينا رحمتك بالسّحاب
__________________
المنبعق والرّبيع المغدق والنّبات المونق سحّا وابلا تحيى
به ما قد مات ، وتردّ به ما قد فات. اللّهمّ سقيا منك ، محيية ، مروية ، تامّة ، عامّة
، طيّبة ، مباركة ، هنيئة ، مريعة زاكيا نبتها ،
ثامرا فرعها ، ناضرا ورقها ، تنعش بها الضّعيف من عبادك ، وتحيى بها الميت من
بلادك. اللّهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا
وتجرى بها وهادنا ، وتخصب بها جنابنا
وتقبل بها ثمارنا ، وتعيش بها مواشينا ، وتندى بها أقاصينا ، وتستعين بها ضواحينا من بركاتك الواسعة ، وعطاياك الجزيلة
على بريّتك المرملة
ووحشك المهملة ، وأنزل علينا سماء مخضلة
مدرارا هاطلة ، يدافع الودق منها الودق
، ويحفز القطر منها القطر غير خلّب برقها ولا
جهام
__________________
عارضها ولا قزع ربابها ، ولا شفّان ذهابها حتّى يخصب لإمراعها المجدبون ، ويحيا
ببركتها المسنتون فإنّك تنزل الغيث
بعد ما قنطوا ، وتنشر رحمتك وأنت الولىّ الحميد قال الشريف : قوله عليه السّلام «انصاحت
جبالنا» أى : تشققت من المحول ، يقال : انصاح الثوب ، إذا انشق. ويقال أيضا : انصاح
النبت وصاح وصوّح إذا جفّ ويبس. وقوله «وهامت دوابنا» أى : عطشت ، والهيام : العطش
وقوله «حدابير السنين» جمع حدبار : وهى الناقة التى أنضاها السير فشبه بها السنة
التى فشا فيها الجدب ، قال ذو الرمة : ـ حدابير ما تنفكّ إلاّ مناخة على الحسف أو
نرمى بها بلدا قفرا
وقوله «ولا قزع ربابها» : القزع : القطع
الصغار المتفرقة من السحاب ، وقوله «ولا شفان ذهابها» فإن تقديره : ولا ذات شفان
ذهابها ، والشفان : الريح الباردة ، والذهاب : الأمطار اللينة ، فحذف «ذات» لعلم
السامع به
١١٤ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
أرسله داعيا إلى الحقّ ، وشاهدا على
الخلق ، فبلّغ رسالات ربّه ، غير وان
__________________
ولا مقصّر ، وجاهد فى اللّه أعداءه غير واهن ولا
معذر ، إمام من
اتّقى وبصر من اهتدى
منها
: لو تعلمون ما أعلم ممّا طوى عنكم غيبه
إذا لخرجتم إلى الصّعدات
تبكون على أعمالكم ، وتلتدمون على أنفسكم ، ولتركتم أموالكم
لا حارس لها ، ولا خالف عليها ولهمّت كلّ امرىء
نفسه لا يلتفت إلى غيرها ، ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم
، وأمنتم ما حذّرتم ، فتاه عنكم رأيكم
، وتشتّت عليكم أمركم ، ولوددت أنّ اللّه فرّق بينى وبينكم ،
__________________
وألحقنى بمن هو أحقّ
بى منكم : قوم ، واللّه ، ميامين الرّأى
مراجيح الحلم مقاويل بالحقّ ، متاريك للبغى ، مضوا قدما على الطّريقة ، وأوجفوا على المحجّة فظفروا بالعقبى الدّائمة ، والكرامة
الباردة أما واللّه ليسلّطنّ
عليكم غلام ثقيف الذّيّال الميّال : يأكل
خضرتكم ، ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة! قال الشريف : أقول : الوذحة : الخنفساء ، وهذا
القول يومىء به إلى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث ليس
هذا موضوع ذكره
__________________
١١٥ ـ ومن كلام له عليه السّلام
فلا أموال بذلتموها للّذى رزقها ، ولا
أنفس خاطرتم بها للّذى خلقها ، تكرمون باللّه على عباده ، ولا تكرمون اللّه فى عباده ، فاعتبروا
بنزولكم منازل من كان قبلكم ، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم
١١٦ ـ ومن كلام له عليه السّلام
أنتم الأنصار على الحقّ ، والاخوان فى
الدّين ، والجنن يوم البأس
والبطانة دون النّاس
بكم أضرب المدبر ، وأرجو طاعة المقبل فأعينونى بمناصحة
خليّة من الغشّ ، سليمة من الرّيب ، فو اللّه إنّى لأولى النّاس. بالنّاس
١١٧ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا
مليا
فقال عليه السّلام : أمخرسون أنتم؟ فقال
قوم منهم : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك ، فقال عليه السّلام :
__________________
ما بالكم لا سدّدتم لرشد ولا هديتم لقصد؟ أفى مثل هذا ينبغى أن
أخرج؟! إنّما يخرج فى مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم وذوى بأسكم ، ولا ينبغى
لى أن أدع المصر ، والجند ، وبيت المال ، وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين ، والنّظر
فى حقوق المطالبين ، ثمّ أخرج فى كتيبة أتّبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح فى الجفير
الفارغ .
وإنّما أنا قطب الرّحى : تدور علىّ وأنا بمكانى ، فإذا فارقتها استحار مدارها ، واضطرب ثفالها هذا
ـ لعمر اللّه ـ الرّأى السّوء!! واللّه لو لا رجائى الشّهادة عند لقائى العدوّ لو
قد حمّ لى لقاؤه ، لقرّبت ركابى ثمّ
شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال. إنّه لا غناء فى كثرة عددكم مع قلّة اجتماع
__________________
قلوبكم. لقد حملتكم
على الطّريق الواضح الّتى لا يهلك عليها إلاّ هالك من استقام فإلى الجنّة ، ومن زلّ فإلى
النّار
١١٨ ـ ومن كلام له عليه السّلام
تاللّه لقد علمت تبليغ الرّسالات ، وإتمام
العدات
وتمام الكلمات ، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم ، وضياء الأمر ، ألا وإنّ شرائع
الدّين واحدة ، وسبله قاصدة
من أخذ بها لحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم اعملوا ليوم تذخر له الذّخائر ، وتبلى
فيه السّرائر ، ومن لا ينفعه حاضر لبّه فعازبه عنه أعجز وغائبه
أعوز واتّقوا نارا حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليتها
حديد ، وشرابها صديد
__________________
ألا وإنّ اللّسان
الصّالح ، يجعله اللّه للمرء فى النّاس ، خير له من المال يورثه من لا يحمده
١١٩ ـ ومن كلام له عليه
السّلام
وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا
عن الحكومة ثم أسرتنا بها ، فلم ندر أى الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السّلام إحدى يديه على
الأخرى ثم قال : هذا جزاء من ترك العقدة !
أما واللّه لو أنّى حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الّذى يجعل اللّه
فيه خيرا : فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت
الوثقى ، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوى بكم وأنتم دائى ، كناقش الشّوكة
بالشّوكة ، وهو يعلم أنّ ضلعها معها
__________________
اللّهمّ قد ملّت
أطبّاء هذا الدّاء الدّوىّ
وكلّت النّزعة بأشطان الرّكىّ
أين القوم الّذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه؟ وقرأوا القرآن فأحكموه ، وهيّجوا إلى
القتال فولهوا وله اللّقاح إلى أولادها
وسلبوا السّيوف أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفّا صفّا؟ بعض هلك وبعض
نجا! لا يبشّرون بالأحياء ولا يعزّون بالموتى ،
مره العيون من البكاء خمص البطون من
الصّيام ، ذبّل الشّفاه من الدّعاء
صفر الألوان من السّهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أولئك إخوانى الذّاهبون ، فحقّ
لنا أن نظمأ
__________________
إليهم ، ونعضّ
الأيدى على فراقهم. إنّ الشّيطان يسنّى لكم طرقه ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم
بالجماعة الفرقة
فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته
واقبلوا النّصيحة ممّن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم
__________________
تم الجزء الأول من كتاب «نهج البلاغة» ويليه
ـ إن شاء اللّه ـ
الجزء الثانى ، أعان اللّه على إكماله
بمنه وفضله
فهرست الجزء الأول من «نهج
البلاغة»
وهو النصف
الأول من مختار خطب أمير المؤمنين
علي بن أبي
طالب كرم الله وجهه ، وكلامه الذي يجري مجرى الخطب
١
|
خطبة جامع الكتاب «الشريف الرضى»
|
٣٧
|
من خطبة له في ذم قوم باتباع الشيطان
|
٦
|
باب المختار من خطب أمير المؤمنين وما يجرى مجراها
|
٣٨
|
من كلام له في دعوى الزبير أنه لم يبايع بقبله ومن كلام له في أنهم أو
عدوا وهو لا يوعد حتى يوقع
|
٧
|
من خطبة له في ابتداء خلق السموات والأرض وخلق آدم ، وفيها تمجيد الله
وبيان قدرته
|
٣٩
|
كلام في وصيته لابنه بالثبات والحذق في الحرب ومن كلام في أن له محبين في
كمين الرمان ومن كلام له في أن له محبين في كمين الرمان ومن كلام له في ذم أهل
البصرة
|
١٣
|
صفة خلق آدم عليه السلام
|
٤٠
|
ومن كلام له فيما رد على المسلمين من قطائع عثمان كلام له لما بويع
بالمدينة فيه إنباء بما يكون من أمر الناس ، وكلام في الوصية بلزوم الوسط
|
٢١
|
منها في ذكر الحج وحكمته
|
٤٧
|
كلام يصف به من يتصدى للحكم بين الناس وليس لذلك بأهل
|
٢٢
|
خطبة بعد انصرافه من صفين بين فيها حال الناس قبل بعثة النبي ، وتنتهي
بمزايا آل البيت ، ومساوي قوم آخرين
|
|
|
٢٥
|
الخطبة الشقشقيه ، وفيها تألمه من جور الفاتنين في خلافته ، وحكاية حاله
مع سبقة
|
|
|
٣٣
|
من خطبة في هدايته الناس وكمال يقينه
|
|
|
٣٥
|
من خطبة في النهى عن الفتنة
|
|
|
٣٦
|
من كلام له في أنه لايخدع
|
|
|
٥٠
|
كلام يذم به اختلاف العلماء في الفتيا
|
٧٣
|
ومن خطبة له في ذم الدهر وأهله
|
٥١
|
ومن كلام له أجاب به الأشعث ابن قيس
|
٧٦
|
من خطبة له في حال الناس قبل البعثة وبعدها وتعديد أعماله ، عند خروجه
لقتال أهل البصرة
|
٥٣
|
كلام به في تعظيم مابعد الموت ، وحث على العبرة
|
٧٨
|
ومن خطبة له في استنفار. الناس لأهل الشام
|
٥٥
|
من خطبة له فيمن لتهموه بقتل عثمان رضى الله عنه
|
٨٠
|
من خطبة له في لوم الناس بعد التحكيم
|
٥٦
|
من خطبة في النهى عن التحاسد والوصية بالقرابة والعشيرة
|
٨٢
|
من خطبة له في تخويف أهل النهروان
|
٥٨
|
خطبة في الحث على قتال الخارجين
|
٨٤
|
ومن كلام له في ثباته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
|
٥٩
|
ومن خطبة في الضجر على من تثاقل أصحابه وبيان أن الباطل قد يعلو بالاتحاد
والحق يضيع بالاختلاف
|
٨٥
|
من خطبة له في معنى الشبهة
|
٦٢
|
من خطبة في حالهم قبل البعثة وشكواه من انفراد بعدها وذمه لمن بايع بشرط
|
٨٦
|
ومن خطبة في ذم المتقعادين عن القتال
|
٦٣
|
ومن خطبة له في الحث على الجهاد وذم القاعدين
|
٨٧
|
كلام في الخوارج يبين فيه أن لابد للناس من أمير
|
٦٦
|
من خطبة له في إدبار الدنيا ، وإقبال الآخرة ، وألحت على التزود لها
|
٨٨
|
ومن خطبة في الوفاء من كلام في اتباع الهوى وفي إدبار الدنيا
|
٦٩
|
من خطبة في ذم المتخاذلين
|
٨٩
|
ومن كلام في الاناة بالحرب مع لزوم الاستعداد
|
٧١
|
ومن خطبة في معنى قتل عثمان رضي الله عنه
|
٩٠
|
من كلام في هروب مصقلة بن هبيرة إلى معاوية
|
٧٢
|
من كلام في وصف طلحة والزبير واستعطافهما
|
٩١
|
ومن خطبة في تعظيم الله وتصغير الدنيا
|
|
|
٩٢
|
ومن كلام له تضرعه إلى الله عند الذهاب الحرب
|
|
ومن كلام له في ذكر الكوفة
|
١١٢
|
من كلام له في الاحتجاج على الأنصار
|
٩٣
|
ومن خطبة له في تمجيد الله
|
١١٣
|
من كلام له عند ماقتل محمد بن أبي بكر
|
٩٥
|
من كلام له يذكر فيه كيف تكون الفتن
|
١١٣
|
من كلام له في توبيخ أصحابه
|
٩٦
|
ومن خطبة في التحريض ومن خطبة في الدنيا
|
١١٤
|
وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
|
٩٨
|
من كلام له في ذكر الأضحية يوم النحر
|
١١٥
|
ومن خطبة له ذم أهل العراق
|
٩٩
|
من كلام في تزاحم الناس لبيعته ثم اختلاف بعضهم عليه ومن كلام استهانته
بالموت لكنه يحب السلم
|
١١٦
|
من خطبة له يعلم الناس فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
|
١٠٠
|
من كلام في وصف حربهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله
|
١٢٠
|
كلام قاله في مروان عند ما أسره في يوم الجمل وأطلقه يصف غدره ومن كلام له
ما عزموا على بيعة عثمان
|
١٠١
|
ومن كلام يخبر به عمن يأمر بسبه
|
١٢١
|
ومن كلام له فيمن اتهموه بالمشاركة في دم عثمان
|
١٠٢
|
من كلام له مع الخوارج
|
١٢٢
|
ومن خطبة في الوعظ
|
١٠٣
|
قال لما اعزم على حرب الخوارج
|
١٢٣
|
ومن كلام له في حال بني أمية ، ومن كلمات كان يدعو بها
|
١٠٤
|
كلام له عند ماخوف بالغيلة ومن خطبة في الدنيا
|
١٢٤
|
ومن كلام له في بطلان التنجيم
|
١٠٥
|
من خطبة في لزوم الاستعداد لما بعد الموت
|
١٢٥
|
ومن خطبة له في وصف النساء
|
١٠٧
|
من خطبة له في تنزيه الله
|
١٢٦
|
من كلام في الزهاة
|
١١٠
|
كلام في التحريض كان يقوله في أيام صفين
|
١٢٧
|
ومن كلام في صفة الدنيا
|
|
|
١٢٨
|
من خطبة له عجيبية فيما قبل الموت وبعده ، وفي صفة خلق الإنسان
|
|
|
١٤٥
|
من كلام له في عمرو بن العاص
|
١٤٦
|
من خطبة له في الوعظ
|
|
من تغلبه على فتنة الخوارج وما يصيب من بني أمية
|
١٤٧
|
ومن خطبة في الحث على العمل للآخرة ، وذكر نعمة الدين ، وذم الرياء والكذب
|
١٨٥
|
من خطبة له يمجد فيها الله تعالى ، ويصف الأنبياء
|
١٤٩
|
من خطبة له بين فيها صفات من يحبه الله وحال أمير المؤمنين مع الناس
|
١٨٦
|
من خطبة له في حال الناس عند البعثة وما كان من هدى النبي صلى الله عليه
وسلم
|
١٥٤
|
من خطبة فيها وصف الأمة عند خطئها
|
١٨٧
|
منم خطبة له في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
|
١٥٥
|
من خطبة له في حال الناس من قبل البعثة ، وأن الناس اليوم لايختلفون عن
سلفهم
|
١٨٨
|
من كلام في توبيخ أصحابه على التباطؤ عن نصرة الحق
|
١٥٧
|
من خطبة له في تعديد شيء من صفات الله تعالى
|
١٩٠
|
من كلام له في وصف بني أمية وحال الناس في دولتهم
|
١٥٩
|
من خطبة تعرف بخطبة الأشباح ، وهي من جلائل الخطب ، وفيها شيء من وصف
السماء ، والأرض والسحاب ، وغير ذلك
|
١٩١
|
ومن خطبة في وصف الدنيا ، ووصيته للناس بتركها
|
١٦٥
|
منها في صفة السماء
|
١٩٣
|
من خطبة أخرى فيها صفة دليل السنة وهو نفس أمير المؤمنين وبيان ما يكون من
أمره مع أصحابه ، وبيان فضل المتبع ، وما يجنيه المارق
|
١٦٧
|
ومنها في صفة الأرض ودحوها على الماء
|
١٩٤
|
من أخرى يوصى فيها بعدم عصيانه ويصف صاحب الفتنة عليه
|
١٨٢
|
من خطبة له لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان
|
١٩٥
|
من كلام فيه وصف فتنة مقبلة
|
|
من خطبة يذكر ما كان
|
١٩٧
|
ومن خطبة في التزهيد ، ووصف الناس في بعض الأزمان ، وفيها
|
|
بيان فضل العالم ، وصورة من فساد الزمان
|
٢١٥
|
من خطبة له في فرائض الاسلام وبيان منازلها ، وفضل العمل بالعلم
|
١٩٩
|
من خطئه له في حال الناس قبل البعثة وبما صاروا إليه بعدها
|
٢١٦
|
ومن خطبة له في وصف الدنيا والتحذير منها
|
٢٠٠
|
ومن خطبة في الموضوع نفسه مع زيادة كلام في شان آل البيت وبني أمية ، وفي
النهي عن طلب مالا يطلب
|
٢٢٠
|
من خطبة يذكر فيها ملك الموت ومن خطبة له في التحذير من الدنيا
|
٢٠٢
|
من خطبة له في شرف الاسلام ووصف النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وصل
للمسلمين بالاسلام وتساهلهم في أمره
|
٢٢٢
|
من خطبة فيها الحض على التقوى وذكر شيء من أوصاف الدينا ، والفرق بينها
وبين الآخرة ، ووصف حال الناس في العمل لهما
|
٢٠٥
|
من كلام له عند ما تأخر قومه في الحرب ثم تراجعوا عن العدو
|
٢٢٥
|
من خطبة في الاستقساء
|
٢٠٦
|
ومن خطبة له من خطب الملاحم يذكرها طيب الحكمة ، وحال الناس في بعض
الأزمان
|
٢٢٧
|
من خطبة في تعظيم ما حجب عن الناس وكشف له ، والاخبار بما سيكون من أمر
الحجاج الثقفى
|
٢٠٩
|
من خطبة له في تمجيد الله ، ووصف ملائكته ، وانصراف الناس عما وعدهم الله
، ووصف الانسان عند الموت ، ثم ذكر المعاد وشأنه ، وفيها وصف النبي صلى الله
عليه وسلم
|
٢٣٠
|
من كلام في التوبيخ على البخل بامال والنفسه ، والحث على طلب الحمد
|
|
|
٢٣٢
|
من كلام في توبيخ أصحابه ، وذكر الأولين في شجاعتهم وتقاهم ،
|
|
|
٢٣٣
|
من كلام في توبيخ أصحابه ، وذكر الأولين في شجاعتهم وتقاهم
|
تمت الفهرست
|