

بسم الله الرحمن
الرحيم
تقديم
تحمل الدراسة الموسومة بـ (ولاية البصرة
في ماضيها وحاضرها) والتي عرّبها الدكتور هاشم صالح التكريتي أهمية خاصة ؛ لأن
مؤلفها الكسندر أداموف أحد دبلوماسي روسيا القيصرية المعروفين ، وقد عمل في نهاية
القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قنصلاً للبلاده في البصرة ، وصدر كتابه هذا
عام (١٩١٢ م) فى مدينة سانت بطرسبورغ.
تكمن أهمية هذا الكتاب في عدة أوجه ، أبرزها
أن مؤلفه كان معاصراً وشاهد عيان على معظم الحوادث التي دوّنها في كتابه عن ولاية
البصرة بصورة خاصة وعن العراق والدولة العثمانية بصورة عامة ، كما أنّ المؤلف كان
مطلعاً على عدد كبير من المصادر المتنوعة : الروسية والفرنسية والألمانية
والإنجليزية ذات الأهمية الكبيرة ، بالإضافة إلى المصادر العثمانية بالسالنامات
الخاصة بولايتي البصرة وبغداد.
ويسرُّ قسم الدراسات التاريخية
والجغرافية للخليج في مركز دراسات الخليج أنّ يقدّم للباحثين والمتهمين بأحوال
ولاية البصرة خاصة والعراق والدولة العثمانية عامة هذا الكتاب ، وهو الجزء الثاني
الذي يكمل الجزء الأول الذي نشره مركزنا عام (١٩٨٢ م) ، للمعرّب نفسه ، ولذلك جاءت
فصول هذا الجزء مكملة لفصول الجزء الأول ، وابتدأت هذه الفصول بالفصل السادس.
جاء تقسيم الكتاب على جزأين منسجماً مع
طبيعة الموضوعات التي احتواها كل جزء من الكتاب الأصلي وهو واحد ، فقد تضمّن الجزء
الأول
خمسة فصول تناول فيها
موضوعات جغرافية واقتصادية وإدارية وبشرية عامة ، أما هذا الجزء الذي نقدمه للقارئ
الكريم فقد تضمّن خمسة فصول أيضاً ، ركز فيه مؤلفه على التطورات التأريخية لولاية
البصرة.
لقد أبرز الكتاب أهمية ولاية البصرة
بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي ودورها في التجارة الدولية وأهم التطورات
الإدارية التي شهدتها ، وقد استعان المؤلف يجداول وسالنامات ولاية البصرة لتوضيح
التطورات التي شملت قطّاع النقل بالبواخر والإنتاج والرسوم وكمية الحاصلات
الزراعية الصدّرة بواسطة ميناء البصرة.
يعدّ هذا الكتاب موسوعة شاملة للبصرة من
خلال الموضوعات المتنوعة التي احتواها ، وقد حافظ السيد المعرّب الفاضل على أصل النص
، لكنه تصرّف في تغيير اسماء بعض المصطلحات والأعلام وأشار في تعليقاته التي ثبتها
في هوامش الكتاب إلى تلك التغييرات والتصحيحات التي أجراها على الأخطاء التي وقع
فيها المؤلف سهواً ، وهذا من صميم الأمانة العلمية.
نأمل أن يسهم هذا الكتاب في خدمة
المكتبة العرفية ، والذي جسّد الدور المتميز لمدينة البصرة عبر مراحل تاريخها
الماضي والحاضر ، وكذلك برّر عطاء هذه المدينة العربية العريقة في التاريخ
والحضارة العربية والإسلامية. والله من وراء القصد.
|
الدكتور
محمد كريم إبراهيم
رئيس
قسم الدراسات
سات
التاريخية والجغرافية
مركز
دراسات الخليج
|
مقدمة
الجزء الثاني
ها نحن نفي بوعدنا للقارئ الكريم ونقدّم
له ترجمة القسم الثاني من كتاب الدبلوماسي الروسي الكسندر أداموف (ولاية البصرة في
ماضيها وحاضرها) في جزء مستقل كما تعهدّنا في مقدمة الجزء الأول ، وأملنا كبير في
أن يجد القارئ العربي الكريم فيه من الفائدة ما يكون لنا عذراً لتأخرنا في تقديمه
لا سيّما وأن ظروفاً قاهرة خارجة عن الإرادة هي التي حتمّت هذا التأخير.
لقد التزمنا في تعريب هذا الجزء بذات
الأسلوب الذي اعتمدناه في الجزء الأول ، ولم نشذّ عنه إلاَّ في أننا ارتأينا حذف
عبارات قليلة جداً منه وقد حرصنا على أن لا يؤثر ذلك على المعنى الذي يريده المؤلف
أو على سياق الموضوع وتسلسل الأحداث.
نرجو أن نكون قد وفينا بهذا الجهد
المتواضع بعض ما علينا تجاه المكتبة التأريخية العربية والله الموفق.
هاشم
الفصل
السادس
يرتبط تاريخي البصرة بشكل وثيق بتاريخ
العراق الجنوبي بحيث يستحيل فصل إحداهما عن الآخر دون أن يؤدي هذا الفصل إلى
الإساءة إلى كمال ووضوح العرض. ولهذا السبب فإننا سنحاول التأكيد بشكل خاص على
إبراز الأحداث التي شاركت فيها البصرة بشكل مباشر ضمن التطورات التاريخية لهذه
المنطقة.
إنّ جنوب العراق الحالي الذي كان
معروفاً منذ القدم قد القبائل المتنقلة في بادية الشام باسم «السواد» أي البلد ذو
التربة السوداء
، كان قد وقع قبل الفتح العربي تحت سلطة فارس لعدة قرون. ونقل الساسانيون عاصمتهم
سنة ٣٨٠ م إلى طيسفون التي تقع على ضفة دجلة في وسط العراق .
لقد شملت سلطة فارس أيضاً الأقطار
المتاخمة للعراق بما فيها ساحل الخليج الذي يعرف في الخرائط الجغرافية باسم «الإحساء»
وكان هذا الإقليم الأخير بحكم موقعه في طرف شبه جزيرة العرب أول ما فتحه
__________________
العرب بعد أن أتموا
نشر الإسلام في داخل شبه الجزيرة وانطلقت القوات الإسلامية يدفعها الحماس الديني
لفتح الأقطار المجاورة.
لقد فتحت الجحافل العربية منذ عام (٦٣٣
م) أي في عهد الخليفة أبي بكر أول خليفة للرسول (ص) الإحساء ، ومن هناك بدأت تشن
غارات شديدة على جنوب العراق .
لقد أرسل الخليفة أبو بكر إلي العراق واحداً من أمهر القادة العسكريين العرب هو
خالد بن مواليد الملقب بـ «سيف الله»
فخاض هذا عدداً من المعارك الظافرة ضد القوات الفارسية ، واستطاع في وقت قصير أن
يطهّر ضفتي الفرات كلتيهما في مجراه الأدنى.
لقد أجبرت ضرورة الوقف بقدم راسخة في
جنوب العراق الذي كان بعيداً جداً عن المدينة ـ مركز الخلافة آنذاك ، الخليفة
الجديد عمر على أن يقيم هناك معسكراً حربياً دائماً ومنح قائد هذا المعسكر السلطة
العسكرية والمدنية العليا في المنطقة المفتوحة. وقد اختير مكان هذا المعسكر بالقرب
من الزبير الحالية حيث قامت في عام ٦٣٥ م البصرة التي كانت في بداية الأمر مجرد
معسكر حربي يتألف من اكواخ مصنوعة من القصب وسعف النخيل لم تلبث أن استبدلت بسبب
الحرائق التي كانت تصيبها باستمرار بأبنية من الطين.
هكذا اصبحت البصرة قاعدة لمواصلة العرب
فتحهم للعراق. وقد
__________________
تراجعت القوات
الفارسية في اشتباكات حامية مع جحافل المسلمين إلى ان انتهت في عام ٦٣٧ م المعركة
التي دارت في القادسية بالقرب من الحيرة على بعد عشرة أميال إلى الجنوب من اطلال
بابل ، بنصر حاسم للعرب
لقد تقرر مصير العراق وانتقل نهائياً إلى سلطة المسلمين بعد ان انقذ يزدجرد ، اخر
حكام السلالة الساسانية ، نفسه بالهرب إلى جبال ميديا وفتح العرب طيسفون التي كانت
قد تركت لمصيرها واقاموا فيها مسجداً علامة على استقرارهم في القطر نهائياً. ثم
تدفق بعد ذلك موجة الفتوحات العربية على فارس نفسها التي انتقلت بالتدريج إلى
الاسلام الظافر بعد ان خسر الفرس في عام ٦٤٢ م معركة نهائية الحاسمة التي وقعت إلى
الجنوب من همدان.
وفي الوقت نفسه اتخذ الخليفة عمر
اجراءات فعالة في العراق لتوطيد سلطة العرب في المنطقة ، فالبصرة التي كانت بعيدة
نوعاً ما عن مركز المنطقة المفتوحة كان عليها ان تتخلى عن مكان الصدارة للعسكر
الحربي الجديد الذي اقيم في عام ٦٣٨ م بالقرب من النجف الحالية ونعني الكوفة التي
نقل اليها المقر الرئيسي .
وهكذا لم يبق للبصرة الا اهمية كونها نقطة الارتكاز لجميع التدابير والاعمال
العربية الموجهة ضد جنوب فارس وحصناً ضد الهجمات المعادية من جانب هذه الاخيرة.
وعلى الرغم من هذا التضاؤل في اهمية
البصرة فأنها أخذت تتحول بسرعة من مجرد معسكر حربي إلى مدينة آهلة كثيرة السكان.
وقد ساعد على ذلك بشكل خاص التجار والحرفيون الفرس الذين أخذوا بتوافدون
__________________
إلى هناك وكذلك مجموعات
الجواري والعبيد الذين كانوا يجلبون كغنائم للحملات في شرق واخيراً للسبيل المتدفق
باستمرار من المستوطنين القادمين من شبه جزيرة العرب بحيث بلغ عدد سكان البصرة بعد
خمس وثلاثين سنة من تأسيسها ما بين مائة وخمسين ومائتي ألف نسمة. وكان مظهر
المدينة الخارجي يتغير ايضاً مع زيادة السكان فيها ، فقد ظهرت فيها أسواق واسعة
تحوي صفوفاً من الدكاكين وبنيت المساجد والمدارس الملحقة بها وبدأت الأكواخ
المبنية من الطين تتراجع تدريجياً امام البنابات المشيدة من الطابوق.
لقد رافق هذه التغيرات التي جرت في مظهر
المدينة الخارجي تغيرات عميقة في الخصائص الروحية لها ، فالبصرة التي تدين بظهورها
للعرب ازداد سكانها من الفرس نتيجة استقرار الكثير منهم فيها ، وقد كان لتأثير
الفرس الذين استسلموا للسلطة العربية والذين تميزوا بالنفور من الإسلام بدرجة اكبر
من ذلك ، انعكاسات خاصة على البصرة بحيث انه لم يحولها إلى بؤرة للتمردات
والانتفاضات المعادية للسلطة فقد وانما جعلها مهداً للخلافات التي حصلت في العام
الاسلامي ايضاً.
كانت البصرة والكوفة مدينتي العراق
الرئيستين قبل ان تظهر بغداد عام ٧٦٢ م ، فقد استطاعتا على الرغم من حداثة
تأسيسهما وبعدهما عن مركزي الاسلام آنذاك - مكة والمدينة - ان تلعبا دوراً بارزاً
في حياة شبه الجزيرة العربية نفسها وفي الاحداث التي وقعت فيها بحيث كان الخلفاء
مضطرين للاصغاء لصوتيهما.
لقد اصبحت المدينتان كلتاهما مسرحاً
للنشاط السياسي منذ عهد الخليفة عثمان. فقد اثار هذا الخليفة الذي كان صهراً للنبي
ويأتي ترتيبه الثالث بين خلفائه والذي ينتمي إلى البيت الاموي المشهور في مكة ، القسم
الاغلب من اصحاب
الرسول والمؤمنين من المسلمين بتوزيعه للمناصب العليا في الخلافة على اقربائه.
فكان البصريون اول من رفع لواء العصيان ضد صنائع الخليفة الذي كانت شعبيته قد
انعدمت وثاروا ضد عاملة الذي لم يستطيع ان يقمع عصيانهم الا بصعوبة.
وبعد عامين من هذه الاحداث أي قبل عام
٦٥٦ م يسجل التاريخ
قدوم فصيل من البصريين والكوفيين إلى المدينة نفسها حيث شاركوا بشكل فاعل في
العصيان الذي اعقب ذلك وانتهى بمقتل الخليفة عثمان. وهكذا كان سكان المدينتين
العراقيتين المذكورتين من بين اولئك المسلمين الذين مزقوا بايديهم تلك الهالة التي
كانت حتى ذلك الوقت تحيط بشخص خليفة الرسول (ص). ولم يقتنع المتمردون بذلك وانما
لعبوا دوراً بارزاً ايضاً في اختيار بديل للخليفة المقتول اذ كان البصريون قد
رشحوا طلحة وهو احد اصحاب الرسول (ص) المقربين في حين رشح الكوفيون الزبير وهو
صحابي اخر من اصحاب النبي. اما المصريون فقد رشحوا علياً ابن عم الرسول (ص) وزوج
ابنته المحبوبة فاطمة. وبما أن احداً من المرشحين لم يجرؤ على قبول الخلافة من
ايدي القتلة خشية ان يتهم بالاشتراك معهم ، فقد كان يمكن ان يطول اختيار الخليفة
إلى ما لا نهاية لو لا أن البصريين والكوفيين ، تحولوا إلى جانب علي (ع) فانتهت
المسألة لصالحه. لقد وافق علي (ع) على ان يصبح بديلاً لعثمان بشرط أن يعترف به
طلحة والزبير اللذين بايعا ، بعد بعض التردد ، علياً وذلك بأن ربتا على يده قليلاً
كما يقتضي بذلك
العرف العربي.
__________________
وقد اعترف بعد ذلك بعلي (ع) خليفة في كل
مكان عدا الشام التي لم يرفض حاكمها معاوية الذي اصبح بعد موت عثمان كبير البيت
الأموي ، الخضوع لخليفة الرسول الجديد فحسب وانما فعل كل مافي وسعه من أجل ان يثير
عليه سكان الشام متهماً إياه بسفح دم سلفه. لقد اقام معاوية اتهامه هذا على عدم
مبالاة علي (ع) في اثناء مقتل عثمان وقد ادى ذلك إلى ان يبتعد عن الخليفة الجديد
الكثير
من سكان المدينة الذين لم يرغبوا لهذا السبب في الاستجابة لدعوة على (ع) لمساعدته
في الصراع مع معاوية.
وهكذا لم يبق لدى صهر النبي (ص) الا أمل
واحد هو الحصول على الاسناد من العراق ولكن هنا ايضاً سبقه طلحة والزبير ذلك انهما
، وقد بايعا علياً مرغمين
، كانا قد قررا ان يحاولا استخلاص السلطة منه بالقوة فذهبا لهذا الغرض إلى مكة حيث
ظهرا بمظهر المنتقمين لدم عثمان فاستطاعا ان يجذبا إلى صفهما «ام المؤمنين» عائشة
أرملة النبي (ص) وان يجمعها ما يقرب من ١٠٠٠ من الانصار اغلبهم من الامويين ثم
تحركا بهؤلاء جميعاً إلى البصرة التي كانا قد حاولا ان يمهدا فيها الجو مسبقاً
لنجاح مشروعهما.
بعد وصول طلحة والزبير وعائشة إلى
البصرة تحول قسم من سكان البصرة إلى صفهم في حين ظل القسم الاخر وعلى رأسه الوالي
عثمان بن
__________________
حنيف الذي كان علي (ع)
قد عينه قبل ذلك بقليل ، مخلصاً للخليفة. ومن أجل التخلص من الوالي المتعب نظم
المعارضون هجوماً ليلياً على بيت ابن حنيف واعتقلوه بعد ان قتلوا حرسه واستدلوا
على حكم البصرة. وبالاضافة إلى ذلك امر طلحة بالقبض على جميع انصار علي (ع) دون
تمييز واعدامهم باعتبار انهم مشتركون في قتل عثمان. وكان بين الذين اعدموا الكثير
من اقارب العائلات الكوفية ذات النفوذ الامر الذي دفع هذه العائلات إلى الانتقال
لمناصرة علي بحزم وجر مواطنيهم معهم. وهكذا فعندما اقترب الخليفة ومعه فصيل صغير ،
من حدود العراق قادماً من المدينة انضوى تحت لوائه سكان الكوفة وكثير من سكان
البصرة.
لقد حدثت بين انصار علي وانصار خصومه
بالقرب من البصرة موقعه. اطلق عليها اسم «موقعة الجمل» وذلك لان سقوط الجمل الذي
كانت عائشة تشجع انصارها وهي على ظهره قرر نتيجة المعركة لصالح علي (ع) .
وقد زاد من حسم الموقعة ان خصمي علي (ع) كليهما ازيحا من طريقه ، فقد اصيب طلحة في
اثناء المعركة بجرح مميت في حين قتل الزبير بيد أحد الاعراب وهو في طريقه إلى
البصرة
عائداً من ساحة المعركة. ولقد مكن مقتل هذين المعارضين علياً من السيطرة على
العراق بلا منازع ، فاسرع من جانبه بتعزيز مواقعه فيه وذلك بان نقل مقره من
المدينة إلى الكوفة.
لقد اصبح علي (ع) الان يستطيع بالاستناد
إلى العراقيين ان يوجه كل قواه للنضال ضد معاوية والي الشام العاصي ولكن رغبته في
ان يتجنب
__________________
باي ثمن سفك المزيد
من دماء المسلمين حكمت على قضيته بالفشل وقضت عليه هو نفسه. ففي معركة صفين
الحاسمة على الفرات التي خاضها ضد جيش الشام وفي اللحظة التي مال فيها النصر إلى
جانبه وافق على الهدنة وهدفه
من ذلك حل نزاعه على الخلافة مع معاوية عن طريق التحكيم.
ان مثل هذه النتيجة السلمية للصراع مع
الامويين لم تكن قد دخلت ابداً في حساب المسلمين الاتقياء الصالحين الذي كانوا قد
انضموا إلى علي (ع). لقد وضع هؤلاء المسلمون المتزمتون الذين خرجوا من جيش علي (ع)
اساساً لفرقة خاصة اصبح منتسبوها يسمون «الخوارج» لانهم يعتقدون بانهم انفصلوا عن
عديمي التقوى وخرجوا إلى طريق الله .
لقد اكتفى هؤلاء في البداية بالدعوة إلى
ان الخليفة الذي يحيا حياة لا تمييز بالتقوى والذي يخرج على تعاليم الدين يخضع
للشك ، وللجماعة الحق في ان تختارل بدلاً منه شخصاً اكثر استحقاقاً حتى لو لم يكن
من قبيلة قريش التي ينتمي اليها النبي (ص). وقد تحولت هذه الدعوات المتواضعة بمرور
الزمن إلى تعاليم تؤكد السيادة المطلقة للجماعة الامر الذي اعطى فرقة الخوارج صيغة
ديمقراطية
بحتة وجعلها مفهومة ومقبولة في نظر البدو الذين يحبون الحرية ، فانضم هؤلاء باعداد
كبيرة إلى تلك الفرقة الامر الذي ادى إلى ان يسودها الطابع العربي. كذلك وجد
__________________
الخوارج اتباعاً
عديدين لهم بين ممثلي الطبقات العاملة الذين جذبهم شعار الاخوة والمساواة الذي
اصبح فيما بعد المبدأ الاساسي في تعاليم الخوارج .
ذهب الخوارج الذين انفصلوا عن قوات علي
(ع) إلى موضع يعرف بالنهروان ويقع بالقرب من بغداد الحالية حيث اعلنوا عزل الخليفة
واختاروا بدلاً منه في عام ٦٥٨ م شخصاً اسمه عبدالله بن وهب. ولم يكتفوا بذلك بل
اخذوا ينشرون تعاليمهم بالقوة ويجبرون وتحت التهديد بالموت ، جميع من كان يقع في
ايديهم على ان يلعن علناً الخليفتين عثمان وعلياً اللذين كانا حسب اعتقادهم قد
اذنبا في تصرفاتهما وطريقة عملهما بحق المعتقد الاسلامي.
ولم يلبث تعصب هذه الفرقة ان فاق كل حد
مسموح به الامر الذي اجبر علياً على ان يوجه ضدهم جيشاً كبيراً الحق بالخوارج عدة
هزائم جديدة واجبرهم على ان يتفرقوا في مختلف انحاء العراق وعربستان واقاليم فارس
المجاورة غير ان هذا الاجراء لم يمر بالنسبة لعلي بدون رد اذ لم يلبث ان سقط في
بداية عام ٦٦١ م بيد الخارجي [عبد الرحمن] بن ملجم
الذي انتقم للملاحقة التي تعرض لها اخوانه في المعتقد. لقد دفن علي (ع) في جامع
الكوفة الرئيس .
وبعد ان تهدم الجامع بنى في المكان
__________________
الذي دفن فيه جامع
جديد وظهرت مدينة جديدة هي النجف التي يتوافد اليها الزوار الشيعة من جميع انحاء
العالم.
وفي البصرة التي اختارها الخوارج لتكون
مركزاً لنشاطهم لم تتوقف طيلة سنوات عديدة بعد وفاة علي (ع) تمردات وانتفاضات
افراد هذه الطائفة الذين كانوا يناضلون بقوة السلاح ضد الخليفة الاموي الاول
معاوية. فلقد استطاع والي الشام السابق وخصم على (ع) معاوية ان يصبح خليفة بعد ان
ابعد الحسن (ع) الحفيد الاكبر للنبي (ص) الذي كان في رأي الخوارج اقل استحقاقاً من
ابيه علي (ع) الذي كان قد قتل بيد احد اتباعهم كما رأينا.
لقد ازدادت حراجة الوضع بالنسبة للخليفة
الجديد نتيجة لرفض والي فارس زياد الذي كان الخليفة السابق قد عينه في هذا المنصب
مبايعة معاوية واخذ يثير بمساعدة اولاده اضطرابات الخوارج في البصرة
ولكن معاوية الداهية لم تتملكه الحيرة ، في هذا الوضع الصعب ، فقد بادر إلى تعيين
زياد هذا والياً على البصرة وهو مقتنع بانه لا احد يفضله في مقدرته على تهدئه
الثورة التي اشعلها هو نفسه .
وقد فاقت نتائج هذا الاختيار حتى توقعات الخليفة نفسه فزياد الذي كان على معرفة
جيدة بالوضع وبالناس في هذه المنطقة ، اثبت منذ ان كان في فارس انه حاكم قدير
بالرغم مما كان يتصف به من القسوة وعدم الرحمة ، ولهذا فانه كان ذلك الاداري الذي
يتطلبه بالضبط الوضع في ذلك الوقت في اصعب ولاية في الخلافة كلها.
__________________
لقد ادخل زياد الذي كان قد تعرف في
اثناء وجوده في فارس على التنظيم الحكومي فيها ، الكثير من التغيرات في البصرة ، فقد
اتخذ لنفسه بمجرد ان تولى مهام منصبه في عام ٦٦٥ م فصيلاً خاصاً من الحرس مسلحين
بالرماح والهراوات كانوا يرافقونه في كل مرة يخرج فيها للناس. كما اسس لاول مرة في
البصرة حرساً كثير العدد من الشرطة وأناط بهم مراقبة دقة تنفيذ اوامره الموجهه نحو
تهدئة المدينة.
وفي الوقت نفسه أخذ زياد يطارد الخوارج
بلا رحمة بحيث كانوا يعتقلون حيثما ظهروا في حدود ولاية البصرة ويقتل منهم الاكثر
خطراً واقلاقاً دون أي تروٍ ، بل حتى التستر على الخارجي كانت عقوبته صارمة. هكذا
لم يعد يسمع طيلة السنوات الخمس التي قضاها زياد في البصرة ، عن الفوضى أو التمرد
وبدا الامر كما لو ان الخوارج قد جرت تهدئتهم نهائياً وقمع نشاطهم المضر بالامويين.
ولكن القلاقل والاضطرابات التي اثارها افراد هذه الفرقة مباشرة بعد تعيين زياد
والياً على العراق كله ونقله لمقرّه إلى الكوفة اظهرت مدى خطأ هذا الاعتقاد. صحيح
ان سمرة بن جندب الذي تركه زياد مساعداً له في البصرة كان يماثل رئيسه في الشخصية
وبدأ بسرعة وبهمة بالاقتصاص من الخوارج فاعادت قسوته حكم زياد إلى الاذهان ، لكنه
لم يلبث ان اقيل بعد وفاة الوالي الذي كان يحميه مباشرة. اما عبد الله بن غيلان
الذي عين والياً على البصرة للمرة الثانية فقد ظهر انه لا يصلح لمكافحة الخوارج
الامر الذي حتم على الخليفة اقالته ولم يمض على تعيينه غير وقت قصير ، وعين بدلاً
منه لحكم البصرة عبيدالله وهو ابن زياد الراحل.
__________________
بدأ هذا الاخير حكمه باطلاق سراح جميع
الخوارج من السجون على امل ان تمكنه اجراءات اللين هذه من جذب افراد الفرقة إلى صف
الحكومة. ولكن الخوارج اعتبروا هذا التساهل ضعفاً فأخذوا يزاولون نشاطهم المعتاد
بروح هجومية اكبر ناشرين الفوضى في كل مكان ومثيرين الفتنة تلو الفتنة ، فاقتنع
عبيد الله بخطإه وبدأ يمارس ضدهم اضطهاداً كاد ان يكون قسوة مما كان على عهد ابيه
زياد وقد رد الخوارج على ذلك بقتل الذين كانوا ينفذون اعدام شركائهم في العقيدة
بامر من الحكام.
وفي هذه الاثناء عهد معاوية الذي كان
يرغب في ان يطمئن قبل أن يموت إلى اسناد الحكم من عبده إلى ابنه يزيد ، إلى
استدعاء جميع الولاة إلى دمشق لاخذ البيعة لابنه يزيد. وكان في مقدمة هؤلاء الولاة
عبيد الله بن زياد لان معاوية كان يعلق اهمية كبيرة على موقف اهل البصرة في هذه
المسألة. لقد عارض عبيد الله في بداية الامر تعيين يزيد ولكن الهدايا والوعود جعله
يتخلى عن معارضته هذه. وعندما ارسل الخليفة الجديد يزيد بعد وفاة ابيه إلى مختلف
انحاء الدولة يطلب اخذ بيعة الناس نفذ عبيد الله طلبه هذا في البصرة دون أي اعتراض.
ولكن يزيد مع ذلك لم يستطيع ان يتجنب
الصراع حول الخلافة ، فكان من بين الذين امتنعوا عن مبايعته كل من الحسين (ع) ، الابن
الثاني لعلي (ع) من فاطمة ابنة الرسول (ص) وعبد الله بن الزبير الذي خسر أبوه «معركة
الجمل» وقد كانا يعيشان في المدينة ولكل منهما حق في الخلافة لا يقل عن حق ابن
معاوية ولهذا فانهما كانا بالنسبة له منافسين خطرين. وكان للصراع الذي دار بينهم
حول السلطة والذي كان مسرحه العراق بالدرجة الاولى نتائج في غاية الاهمية بالنسبة
للعالم الاسلامي بأجمعه.
لقد استطاع الحسين (ع) ان يرشح نفسه
اعتماداً على مساندة انصار
ابيه (ع) الذين كانوا
ما يزالون موجودين في الكوفة باعداد كبيرة. فقبل ذلك وعندما انتخب الخوارج الذين
انسحبوا إلى النهروان في عام ٦٥٨ م خليفة جديداً لهم دفع هذا الخرق الفاضح لحقوق
الخليفة الشرعي على أقارب علي واصدقائه ومريديه إلى ان يشددوا من تكتلهم حوله
رافعين شعار عدم استبدال خليفة الرسول (ص). وقد اطلق على انصار علي (ع) منذ ذلك
الوقت اسم «شيعة علي» ومعناها الحرفي : حزب أو جماعة أو اتباع علي (ع). وقد اصبح
هؤلاء الشيعة الذين كانوا يتألفون في البداية من العرب الاقحاح خصوماً للامويين
الذين هم في نظرهم مجرد مغتصبين للسلطة.
وقد اعتاد الشيعة تحت ضغط يد زياد
الحديدية على البقاء مسالمين ولكن بمجرد ان وصلهم خبر امتناع الحسين (ع) عن مبايعة
يزيد واعتكافه في مكة بادروا إلى التحرك ودعوا حفيد الرسول (ص) للقدوم إلى العراق
بعد ان وعدوه بأن يدافعوا بقوة السلاح عن حقه في الخلافة.
وفي الوقت الذي كانت فيه حركة الشيعة
تتعاظم في الكوفة وتتخذ حجماً ينذر بالخطر وعلى الاخص بعد ان وصل إلى هناك انصار
الحسين (ع) لم يستجب احد في البصرة على الرغم من وجود عدد لا يستهان به من الشيعة
فيها وعلى الرغم من النداءات الحارة التي وجهت من الكوفة
للنهوض من أجل القضية العادلة ، وذلك خوفاً من الوالي الصارم عبيد الله.
وبادر يزيد بعد ان وصلته اخبار الخطر
الذي يجري اعداده فأمر عبيد
__________________
الله بأن يسلم حكم
البصرة لاخيه ويتجه إلى الكوفة لقمع الشيعة
وقد باشر ابن زياد العمل بنشاط فالقى في البداية خطبة في الجامع تضمنت تهديدات
شديدة لانصار الحسين (ع) بحيث لم يلبث ان قل عددهم لدرجة محسوسة ، ثم قبض على
مبعوثي حفيد النبي (ص) واعدامهم بقسوة.
وهكذا فعندما اقترب الحسين (ع) الذي لم
يتأت له ان يعرف في الوقت المناسب ما جرى في الكوفة
، ومعه انصاره من حدود العراق تحتم عليه ان يتخلى عن أي امل في نجاح قضية ولم يبق
امامه الا ان يبايع يزيد أو يموت في صراع غير متكافيء ضد قوات كثيرة العدد وجهها
ضده حاكم الكوفة. لقد كان الحسين (ع) مستعداً للاعتراف بابن معاوية ولكن بشروط
معينة غير ان عبيدالله بن
زياد عمل بنصيحة احد مقربيه وهو الشمر بن ذي الجوشن فطالبه بالاستسلام دون قيد أو
شرط. وقد رفض حفيد الرسول (ص) هذا الطلب المهين وفضل ان يموت مع من رفض ان يتخلى
عنه في اللحظة الحرجة من اقاربه واصدقائه وكان عددهم ١٥٠
شخصاً.
لقد سقط الحسين في العاشر من محرم عام
٦٨٠ م في موقع كربلاء مطعوناً برمح وسهام الجنود الذين كان يقودهم الشمر نفسه. وقد
قطعت رأس حفيد الرسول ونقلت إلى يزيد في دمشق اما جسده فقد دفن في كربلاء نفسها.
لقد تحول العراق إلى مسرح للصراع القومي
بين الفرس والعرب ،
__________________
علماً بأن الاضطراب
الذي اثاره هذا الصراع قد تعمق اكثر بسبب تنامي حركة الخوارج الذي لم يستطيعوا ، باعتبارهم
مسلمين متزمتين ، ان يغفروا ليزيد استباحته للمدينة عقاباً لها على تمردها وهي
التي تستقر فيها رفات نبي الاسلام (ص).
ان خروج الحسين من المسرح قبل الاوان ثم
موت يزيد بعد ذلك مباشرة وبشكل مفاجئ لم يفسح المجال امامه لان يعين خلفاً له
، قد ادى إلى ان يبرز إلى المقام الاول ترشيح عبد الله الذي ذكرناه سابقاً وهو ابن
الزبير احد اصحاب النبي محمد (ص) المقربين. لقد كان المطالب الجديد بالخلافة يعيش
طيلة هذا الوقت في مكة وكان واحداً من اكثر المسلمين ورعاً وتقوى ولهذا فأنه كان
يأمل في ان يساند مطاليبه جميع خصوم الامويين ، وعلى الاخص في العراق حيث خلق
الاموين لانفسهم اعداء الداء يتمثلون في الشيعة والخوارج ، حتى ان هؤلاء الاخيرين
اعتبروا انصاراً لابن الزبير لانه عندما حاصر جيش يزيد قبل موته مكة بهدف اجبار
عبد الله بن الزبير على الخضوع للخليفة جاء فصيل كبير منهم من العراق بقيادة نافع
بن الازرق
وحارب تحت اسوار
هذه المدينة المقدسة ضد جند الشام.
__________________
ولهذا فليس هناك ما يدهش في ان ينجح في
نهاية الامر مبعوثو ابن الزبير الذين ارسلوا إلى الكوفة والبصرة يدعون لمبايعته
خليفة. وفي هذه المرة ايضاً لم يمر الامر في البصرة دون اراقة دماء ، فقد اعلن عرب
حامية البصرة عبيد الله بن زياد عامل البصرة الذي كان موجوداً في المدينة عند موت
يزيد ، وصياً موقتاً إلى ان يتم اختيار خليفة جديد. ولهذا لم تكن مهمة مبعوث عبد
الله بن الزبير تعد باي نجاح اذ لم يتمكن ، باعتباره من بني تميم من ان يجذب إلى
صفة ابناء قبيلته الذين كانوا يؤلفون اغلبية سكان البصرة. عند ذلك قرر الوالي عبيد
الله ان يستند عل الازد الذين كانوا منهمكين بسبب كونهم من القبائل العربية
الجنوبية بمنافسة شديدة مع التميميين الشماليين فاوصل المسألة تدريجياً إلى مذبحة
مكشوفة في الشوارع استمرت مع بعض التوقفات ما يقرب من أربعة اشهر ، ولكن الموقف
الخطر الذي وقفه الخوارج والشيعة الموجودون هناك اجبر عامل البصرة في نهاية الامر
على الهرب إلى الشام تاركا المدينة في قبضة انصار عبد الله الزبير
.
ومع ذلك لم ير ابن الزبير الذي بويع
خليفة في العراق بان من الضروري اسناد سلطته في هذا البلد المضطرب بالحضور شخصياً
اليه واكتفى بان عين واليين له ، في كل من الكوفة والبصرة ظهر انهما ضعيفان
ينقصهما الحزم. ولم يلبث غياب السلطة القوية ان اصبح محسوساً فبادر الخوارج إلى
استغلال الفرصة السانحة لاستئناف نشاطهم. فبعد ان استطاعوا منذ حملتهم على مكة
تثبيت اقدامهم في عربستان بدأوا يشنون
__________________
غارات ماحقة بقيادة
نافع بن الازرق الذي عرفناه سابقاً على ضواحي البصرة مهلكين دون رحمة كل من يرفض
الاعتراف بمذهبهم. ولم تصادف اعمالهم هذه أي رد تقريباً من حامية البصرة التي كان
نصفها من الذين يشاركونهم في المعتقد حتى بدا ان خضوع جنوب العراق للخوارج اصبح
مجرد مسألة وقت لا اكثر. لكن المنطقة استطاعت تجنب هذا المصير بسبب الانشقاق الذي
حدث في صفوف الخوارج من جهة الانتصارات التي احرزها عليهم المهلب بن ابي صفرة من
جهة اخرى.
كان السبب في الانشقاق هو عدم موافقة
الخوارج المعتدلين على وجهات نظر احد قادة الخوارج وهو نافع بن الازرق الذي كان
يرى بانه لاينبغي الاكتفاء بقتل البالغين من المارضين لتعاليم الخوارج وانما يتحتم
ان يشمل القتل ذريتهم ايضاً ، في حين كان زعيم المعتدلين نحدة بن عامر الحنفي يرى
ان يرحم الاطفال ، فانسحب دون ان يصطدم بالاغلبية واستقر في موطنه في وسط شبه
جزيرة العرب فتكون بذلك بهذه الشاكلة وكرخارجي جديد هناك. ولم يلبث نافع القاسي ان
قتل في احد الاشتباكات مع البصريين ولم يستطع خلفه ابن ماحوز ان ينجز الاستيلاء
على جنوب العراق ذلك ان الخوارج الذين عرفوا منذ ان حدث الانشقاق بـ «الازارقة» صادفوا
خصماً جديراً بالاعتبار هو القائد العسكري المشهور المهلب بن ابي صفرة الذي كان قد
تميز في ضواحي سمرقند واشتهر بغاراته على البنجاب.
كانت مشاركة المهلب بن ابي صفرة في
الحرب ضد الخوارج بالصدفة. فهو ينتمي إلى الازد وكان قد عاد من خرسان إلى البصرة
لكي يقضي اجازته عند اسرته على امل ان يرتاح بين اقاربه بعد حياة القلق والحرمان
المتواصل التي عاشها اثناء القتال على حدود الخلافة الشرقية.
غير انه اضطر بسبب
الحاح البصريين عليه لمساعدتهم في التخلص من الخوارج الذين جعلوا السكان في حالة
من الخوف الدائم على ارواحهم وممتلكاتهم ، إلى التخلي عن متع حياة السلم فبادر إلى
قيادة فصيل نهض به فوراً ضد الخوارج. وقد استطاع المهلب بعد ان تمكن من التغلغل
إلى وكرهم نفسه في عربستان وبعد سلسلة من الحركات الماهرة قام بها فصيلة ، ان يغريهم
بالخروج من السهول إلى الجبال وهناك وعند موضع يقال له سلبرى بالقرب من جنديسابور
وجه لهم في عام ٦٨٦ م ضربة حاسمة إلى درجة جعلتهم يتفرقون هاربين إلى فارس وكرمان
وميديا في محاولة للتخلص من الابادة نهائياً
وتخلص اهل البصرة بفضل هذا النصر موقتاً من غزوات الخوارج ، واستطاعوا اخيراً بعد
النكبات التي عانوها ان يتنفسوا الصعداء ، وعلى الاخص بعد ان عين ابن الزبير الذي
يويع بالخلافة في العراق ، المهلب بن ابي صفرة عاملاً له على البصرة.
اما عن الشيعة فانهم بدورهم لم يدعوا
الفرصة تمر وحاولوا استغلال الاضطرابات التي قامت بسبب موت الخليفة يزيد فجأة
وكادت الانتفاضة التي اشعلوها ان نؤدي إلى القضاء على الحكم العربي في العراق. لقد
بدأت هذه الانتفاضة بحملة من الشيعة تعدادها عشرة ألاف مسلح
سارت نحو الشام وهدفها معاقبة عبيد الله بن زياد الذي كان قد هرب من البصرة إلى
هناك طلباً للنجاة باعتباره احد المسئولين المباشرين عن مقتل الحسين (ع) ، لكن
مروان بن الحكم اكبر الامويين الذي كان قد اختير خليفة اسرع بارسال جيشه لملاقاة
الحملة فاستطاع هذا الجيش ان يحطم
__________________
المنتقمين لدم الحسين
(ع) تحطيماً تاماً في موضع على الفرات يقال له : «عين الوردة».
غير ان هذا الفشل لم يكبح جماع الشيعة
فقد انضموا في السنة التالية إلى التمرد الذي قام به في الكوفة شخص اسمه المختار
بن ابي عبيد الثقفي الذي كان في اول الامر مسلماً عادياً ثم تحول خارجياً واصبح في
النهاية شيعيا
. لقد حاول هذا الرجل
الطموح ان يحصل على منصب والي الكوفة من عبد الله بن الزبير ولكنه اخطأ في حساباته
وقرر ان يحقق نواياه الطموحة باسلوب اخر وذلك بالقيام بانتفاضة في العراق باسم
محمد بن علي ولمصلحته ، وكان محمد هذا ابنأ للخليفة علي ولكن ليس من فاطمة ابنة
الرسول (ص) وانما من بدوية من قبيلة بن حنيفة. وقد استطاع المختار ان يجذب إلى صفة
زعيم الشيعة انذاك ابراهيم بن مالك الاشتر احد انصار علي (ع) المخلصين ، واعلن
الجهاد ضد جميع المسؤولين عن مقتل الحسين. وكان الشمر وانصاره الذين كانوا يعيشون
في الكوفة والذين قاتلوا في كربلاء ضد حفيد الرسول (ص) اول من سقط بسبب ذلك ، ثم
ساد بعد ذلك في الكوفة ارهاب حقيقي وذلك لان الفرس اتخذوا من ضرورة القضاء على
قتلة الحسين (ع) حجة لقتل جميع العرب الذين لاينتمون إلى انصار علي (ع) .
لكن جهود المختارم من اجل اثارة فتنة
__________________
مشابهة في البصرة التي
كان الخوارج قد اقاموا لهم وكراً فيها ، انتهت بالفشل التام فقد رفض البصريون ان
ينضموا إلى الحركة وتمسكوا بالخليفة الذي بايعوه وهو عبد الله بن الزبير باعتباره
مسلماً مؤمناً تماماً.
هذا الوقت وجه عبد الملك وهو ابن مروان
وخليفته قوات من الشام بقيادة اثنين من افضل قادة الامويين العسكرين هما ابن نمير
وعبيد الله بن زياد
الذي عرفناه سابقاً غير ان الثنين كليهما سقطا في المعركة الحاسمة التي دارت مع
الثوار الشيعة في الموصل عام ٦٨٦ م وتحطم جيش الشام تحطيماً تاماً. وكان انتصار
الشيعة غير المتوقع هذا يهدد السيطرة العربية
نفسها في العراق باخطر العواقب. وقد فهم مصعب بن الزبير ذلك على الفور وكان مصعب
هذا وهو اخو عبد الله الذي لايزال العراقيون (وقتذاك) يعترفون به خليفة قد وصل إلى
البصرة قبل ذلك بقليل فاسرع بتوجيه المهلب على رأس قوات من البصرة ضد المختار
المتمرد واستطاع هذا القائد المجرب الذي عركته الحروب ان يضع نهاية لتمرده. لقد
اخمد مصعب بشدة كبيرة صورة العداء القومي الذي كان يكنه الفرس للعرب نهائياً .
غير ان مصعب لم يتأت له ان يتمتع بثمرة
انتصاره طويلاً ذلك ان عبد الملك الاموي بادر بعد ان وطد سلطته في الشام ومصر إلى
توجيه
__________________
جيشه الشامي إلى
العراق وهدفه ان يقتطع من عبد الله بن الزبير هذا الاقليم الذي كان ما يزال مخلصاً
لهذا الاخير. وقد هب
مصعب مع انصاره العراقيين بشجاعة ضد جحافل عدوه الكثيرة العدد على الرغم من عدم
انجاد اخيه له ، فخاض ضدهم في ضواحي مَسْكِن على بعد عشرة كيلو مترات إلى الشمال
الغربي من طيسفون معركة حاسمة ، لكن العراقيين انتقلوا في اخر لحظة إلى صف
الشاميين فسقط مصعب مع حفنة من المخلصين له ببطولة في ساحة المعركة. ويموت خسر
اخوه عبد الله قضيته في العراق .
لقد كان المنتصر يعي جيداً ان حكم
العراق بعد اعصار الانتفاضات والتمردات المدمر الذي اجتاح يتطلب ارادة صلبة ويداً
من حديد ، وقد وجد الخليفة هاتين الصفين عند الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي كان قبل
ذلك معلماً في الطائف والذي كان قد تميز منذ فترة وجيزة اثناء اقتحام مكة ، التي
كان يتحصن فيها منافس الخليفة عبد الله بن الزبير وموت هذا الاخير خلال المعركة
التي جرت تحت اسوار المدينة.
لقد كان حكم الحجاج يذكر العراقيين بعهد
زياد ، فلقد اتخذ الحاكم الجديد نفس الاجراءات القاسية التي حاول ان يقيم بواسطتها
النظام في المدن وانتهج نفس الصرامة تجاه من يقلق الهدوء والامن العام واتبع نفس
القسوة في قمع الفتن والاضطرابات. وقد وجه الحجاج اهتمامه في بداية عهده إلى الفرق
المختلفة قبل أي شئ اخر. ولم يبق امامه الا التكفير بالخوارج فقط الذين كانوا
يتركزون كالسابق في ولاية البصرة.
بعد ان انتقل العراق إلى حكم عبد الملك
ابقى هذا الخليفة للمهلب القيادة العامة للقوات المخصصة للقضاء على الخوارج ، لكن
القائد العام
__________________
هذا لم يكن في حالة
تمكنه من ان يبدأ نضالاً حاسماً ضد هذه الفرقة بسبب ان مقاتلي حاميتي البصرة
والكوفة وعلى الاخص حامية الكوفة الذين ألانت عريكتهم الحياة في المدينة كانوا
يتذرعون بكل السبل للتقاعس عن المشاركة في الحملات الجبلية الصعبة الموجهة ضد
مراكز الخوارج وكانوا يعودون إلى بيوتهم وهم في منتصف الطريق دون ان يؤذن لهم بذلك.
وبعد تسلم الحجاج زمام الحكم بادر إلى مساعدة المهلب على الفور فأخذ يعدم بكل
بساطة وبدون اية رحمة كل من يتخلص بحجج واهية من اعباء الخدمة العسكرية. وكان لمثل
هذا الاجراء الصارم اثره على الفور فاستطاع المهلب الذي لم يعد يعاني مصاعب في
تجنيد المقاتلين ان يستأنف الحرب الحقيقة ضد الخوارج. لقد حطم هذا القائد الذي لا
يعرف الكلل في البداية جحافل قطري بن الفجاءة عند كازرون في فارس ومن ثم تعقب
الهاربين إلى منطقة كرمان نفسها حيث بدأ بالقضاء على افراد هذه الفرقة في معارك
منفردة إلى ان قتل في احدى تلك المعارك عام ٦٩٦ م قطري نفسه. وبموت هذا القائد
الرهيب يمكننا ان نعتبر ان فرقة الخوارج قد هزمت لان جميع تمرداتها التي تلت ذلك
كانت تفتقر للقوة والعنف السابقين ولم تكن اكثر من نار آخذة بالخمود.
ومع ذلك فقد تحتم على الحجاج قبل ان
يطمئن إلى العراق قد تمت تهدئته ان يخمد تمرد والي سجستان عبد الرحمن الذي رفض
الاستمرار بالحملة الموجهة نحو الحدود الهندية وتحرك نحو العراق واعلن نفسه خليفة
وهو في الطريق اليه .
لقد استطاع هذا المتمرد ان يجمع تحت
__________________
رايته اعداداً لا
تحصى من الشيعة والخوارج وغيرهم من المستائين وحاول ان يستولي على البصرة وعندما
فشل في ذلك احتل الكوفة فقطع بذلك اتصال الحجاج مع الشام ولم يتمكن هذا الاخير الا
بصعوبة بالغة من الاتصال بالجيش القادم لنجدته والذي كان يقوده الخليفة عبد الملك
نفسه وقد قضى هذا الجيش
في مسكن على هذا المتمرد الذي كان يشكل خطراً كبيراً خصوصاً وان جميع شيعة العراق
كانوا على الاستعداد للانضمام اليه.
لقد اظهر تمرد عبد الرحمن لحكومة
الامويين مرة اخرى مدى خطر الاعتماد على هدوء الشيعة الظاهري ، كما انه دفع الحجاج
نفسه الذي كان يقيم في البصرة تارة وفي الكوفة تارة اخرى إلى التفكير ملياً في
المصاعب التي ستواجه الوالي في حالة قيام فتنة في احد هذين المركزين العسكريين
والاداريين البعيدين احدهما عن الاخر. وقد حَل الحجاج هذه المشكلة الصعبة بان اسس
على احد فرعي قناة شط الحي مدينة جديدة سماها واسط تقع على نفس البعد من البصرة
والكوفة والاحواز عاصمة عربستان .
لم تلبث المدينة الجديدة ان اصبحت اهلة
بالسكان بسرعة ونمت بشدة ، غير ان جميع الجهود التي بذلها الحجاج لجعلها مركزاً
لحياة العراق السياسية والفكرية باءت بالفشل. لقد حافظت البصرة والكوفة اللتان
كانتا تتركز فيها دراسة القرآن والسيرة التي كانت قد بدأت بفضل جهود الحجاج
نفسه والتي كانت بدورها اساساً لعلوم الشرع والتاريخ والفقه
__________________
والفلسفة في الاسلام
على اهميتها السابقة في مجال التقدم العلمي الإسلامي.
لقد عوضت البصرة بالنسبة إلى العلماء
والفقهاء العرب إلى حد ملحوظ عن كل من المدينة التي تخربت في زمن الخليفة يزيد
ومكة التي اصابها الحجاج نفسه بالتكاثر من الدماء ولم تلبث ان اصبحت منبتاً للعلم
الاسلامي ، ومن مشاهير ابنائها يمكن ان نشير إلى الحسن البصري (المتوفي عام ٧٢٨ م)
وهو ابن زيد بن ثابت
لقد كان الحسن هذا الذي اعتبر الخوف
الدافع الرئيس للاخلاق مؤسس التصوف الاسلامي. وفضلاً عن ذلك فقد ولد تحت تأثيره
علم الكلام الذي لم تعد تقنعه الثقة العمياء بالقرآن والسُنة فكان يسعى للتوصل إلى
المعنى الدقيق والتفسير الكامل لتعاليم الاسلام. وقد وصل تلاميذ الحسن البصري وعلى
الأخص واصل بن عطاء إلى حد القول بحرية الارادة على الرغم من انهم لم ينكروا الجبر.
ان هؤلاء المتكلمين الذين اطلق عليهم
اسم : «المعتزلة» تمشياً مع الاسم الذي اطلقه على واصل بن عطاء استاذه كانوا
يرجحون الاتجاهات اليبرالية الجديدة التي لم يكن ظهورها بمعزل عن تأثير الفقهاء.
وهكذا تطورت في عاصمة العراق الجنوبي واكتملت تعاليم «المرجئة» الذين رفضوا تحت
تأثير الافكار المسيحية والفلسفة اليونانية ـ الموضوعة الاسلامية بأن البعض مقدر
لهم النعيم في حين ان البعض مصيرهم
__________________
الجحيم ، وارجأوا
تقرير مصير المؤمنين إلى يوم الحساب. كذلك وجد افراد فرقة «القدرية» الذين كانوا
يقرون بحرية الارادة عند الانسان وبحق كل شخص في ان يقرر قدره بنفسه تربة ملائمة
لهم في البصرة .
لقد كان الحجاج يحاول الاستناد إلى
المسلمين العاديين ، في مكافحته للمذاهب والفرق والمتعصبين من مختلف الاتجاهات
الذين تعج بهم منطقته العصفة والمضطربة باستمرار ولهذا فانه كان يلاحق بقسوة اتباع
كل الاتجاهات الليبرالية في اسلام التي ذكرناها اعلاه ، غير ان هذه الملاحقة لم
تعق هذه التعاليم وخصوصاً المعتزلة عن الانتشار في العراق.
لقد ظل العراق هادئاً لسنوات عديدة بقوة
الاستمرار بعد وفاة الحجاج في عام ٧١٤م أي في عهد الوليد خليفة عبد الملك وابنه.
لكن الضبط الحديدي الذي مارسه ذلك الوالي القاسي تراخى نهائياً على يد عدد من
الخلفاء الذين لم يستطيعوا بسبب قصر فترة حكمهم ان يولوا اهتماماً جديداً للعراق ،
وبهذا اصبح من السهل ان تتحول هذه المنطقة مرة اخرى إلى مسرح للتمردات والانتفاضات.
وكان الخوارج اول من تحرك فقد باشروا وعلى رأسهم واحد منهم هو بسطام أو شوذب
ـ على ما تؤكده رواية اخرى ـ بنشر تعاليمهم بالنار والسيف حتى استطاعوا في فترة
قصيرة ان يكسبوا الكثير من الانصار بحيث لم تستطع الحكومة ان تقمع حركتهم بقوة
السلاح الا بعد جهد جهيد. ثم ثار في السنة التالية ابن المهلب خصم الخوارج المشهور
ونعنى يزيد الذي كان قد وضع في الحبس بأمر من
__________________
الخليفة بسبب
استيلائه على بيت المال عندما كان والياً على خرسان ، لكنه استطاع الهرب من السجن
والتسلل إلى العراق الذي كان والياً عليه قبل ذلك بقليل. وبعد ان جمع يزيد عدداً
لا يستهان به من الانصار استولى على البصرة ورسخ وضعه فيها ، بحيث احتاج القائد
مسلمة ـ وهو الاخ الشقيق للخليفة الحاكم انذاك يزيد الثاني ـ إلى سنة كاملة للقضاء
على هذا العصيان.
وهكذا عاد العراق مرة اخرى إلى الفوضى
التي ازادت اكثر بسبب اتساع الدعاية الشيعية نتيجة لإلغاء الخليفة عمر الثاني
للعادة التي جرى عليها الامويون قبل ذلك وهي لعن علي في المسجد اثناء صلاة الجمعة .
ان مناهضة الفرس للحكم العربي في العهد
الاموي ازدادت عنفاً مع اقتراب الاسرة الاموية من السقوط واتخذت طابعاً حاسماً منذ
اللحظة التي وجد فيها الفرس حلفاء غير متوقعين في شخص احفاد العباس عم النبي (ص).
لقد استطاع هؤلاء العباسيون كما يسمون في العادة ان يجمعوا ثورات لايستهان بها
وكانوا يرغبون في استخدامها للحصول على السلطة. لقد ارتأى العباسيون بسبب من انهم
لم يكونوا يتمتعون بشعبية خاصة ان يستغلوا مكانة علي (ع) لدى الشيعة ، لهذا نجدهم
يقومون بدعاية مكثفة لصالح عودة الخلافة إلى بيت النبي (ص). لقد كانت هذه الدعاية
تجري في البداية سراً وبحذر شديد بمساعدة شبكة دقيقة من الدعاة والاتباع الذين
انتشروا في انحاء العراق وفارس كافة ، ثم جاء النزاع بين الامويين انفسهم فساعد
العباسيين على العمل بجرأة اكثر وحزم اشد.
لقد تفاقم في عهد الوليد الثاني الذي
اعقب هشام الابن الرابع لعبد
__________________
الملك النزاع بين
القبائل العربية الشمالية والجنوبية القاطنة في الشام إلى درجة ان اليمانيين ـ الجنوبيين
قتلوا الخليفة المذكور وكان صنيعة للشماليين ونصبوا بدلاً منه يزيد الثالث حفيد
عبد الملك غير ان الشماليين لم يعترفوا بيزيد هذا ودخلوا مع خصومهم في صراع مرير
إلى ان تمكنوا من التوصل إلى الاعتراف بخلافة مرشحهم ابن عم هشام ويعني مروان
الثاني (٧٧٤ ـ ٧٥٠م).
كان العراق في هذه الاثناء قد ثار
باجمعه ، فلقد استطاع اتباع العباسيين ان يثيروا الناس ضد الامويين في البصرة حتى
ان عاملها لم يستطيع ان يقمع العصيان الا بصعوبة بالغة. ثم ثار الخوارج بقيادة
الضحاك بن قيس الذي احتل البصرة والكوفة ثم اخذ يستعد لبسط سلطانه على العراق
باجمعه. ولم تكد قوات مروان الثاني تقضي على الخارجي الخطر حتى اشعل الشيعة في
الكوفة اضطرابات جديدة تطلب اخمادها جهوداً غير قليلة. ومع كل ذلك لم تكن هذه
الحركات الا مقدمة للعاصفة التي كانت تزحف على الخليفة الاموي الاخير من خرسان حيث
كانت تتركز خيوط المحاولة العباسية في ايدي احفاد العباس الاخوة الثلاث وهم
ابراهيم وابو العباس وابو جعفر.
ان اعتقال مروان الثاني لابراهيم اكبر
هؤلاء الاخوة وموت هذا الاخير في الحبس بعد ذلك بقليل لم يدرأ الكارثة. ففي الذي
اضطر فيه عامل خرسان المخلص للامويين نصر بن سيار إلى تركيز اهتمامه على قمع تمرد
القوات اليمانية التي اثارها الدعاة العباسيون متقصدين رفع ابو مسلم الفارسي
النشط الذي لا يكل واليد اليمنى للعباسين راية الثورة في
__________________
ضواحي مرو. لقد بدأ
بالتجمع تحت راية العباسيين السوداء جميع المعادين للخليفة مروان الثاني وكذلك
الشيعة المخلصون بشكل اعمى لبيت علي والعرب الجنوبيون وعلى رأسهم اليمانيون
واخيراً الفرس الذين قرروا التخلص من سلطة العرب.
لقد تغلب انصار العباسيين على جيش عامل
خرسان عند نيسابور وصادف المصير نفسه القوات التي ارسلها مروان من العراق للتصدي
لزحف العباسيين ، فلم يعد بامكان الخليفة وما تبقى تحت قيادة من قوات التصدي لهذا
الزحف ، فاضطر إلى الانسحاب من العراق الذي احتلته القوات العباسية على الفور حيث
سارعت الكوفة إلى فتح ابوابها للمنتصرين فدخلها الاخوان ابو العباس وابو جعفر
مؤسسا السلالة العباسية الجديدة منتصرين واتخذها عاصمة حتى تأسيس بغداد .
وفي هذا الاثناء كان فصيل خاص من القوات العباسية قد حاصر البصرة بعد ان استولى
على عربستان ، ولم تستسلم البصرة الا بعد مقاومة يائسة فقد تعرضت لنهب الجند الذين
قضوا على جميع من عرف بمناصرته للامويين وهدموا منازلهم ، ثم نهبوا نصف اسواق
ودكاكين البصرة عقاباً لها ، وبعد هذا القصاص اعلن عفو عام عن اهالي البصرة ووصل
اليهم في بداية سنة ٧٥٠م اول عامل من قبل العباسيين وهو سفيان بن معاوية .
في اثناء ذلك كان الخليفة السيء الحظ
مروان يواصل الدفاع عن كل شبر من دولته ولكنه كان يصادف الاندحار تلو الاخر إلى ان
قضى على
__________________
قواته نهائياً في
بوصير في مصر العليا حيث وقع في ايدي العباسيين فقتلوه. وقد لاقى المصير نفسه بقية
الامويين الذين ظلت عملية تقتيلهم تجري في انحاء الخلافة كافة لشهور عديدة. فلم
ينجِ منهم الا القليل جداً كان بينهم حفيد هشام وهو عبد الوحمن بن معاوية الذي اسس
سلالة اموية جديدة في اسبانيا.
على أي حال زالت السلالة الاموية التي
كانت تستند على العرب من ارض الخلافة واحلت مكانها للعباسيين فكان اول خليفة من
هؤلاء ابو العباس الذي اختار لنفسه لقب «السفاح» ثم اعقبه بعد اربع سنوات أي في
عام ٧٥٤م اخوه ابو جعفر الملقب بالمنصور.
لم يكن انتقال الخلافة إلى العباسيين
يعني انقلاباً جذرياً في سياسة الخلفاء انفسهم فحسب وانما في مصر العراق كذلك.
فلقد كان على العباسيين الذين وصلوا إلى السلطة تحت راية العلويين وباسناد فعال من
الفرس ان يستندوا على الفرس بدرجة لاتقل عن استناد على العرب ، فيقيموا بهذا الشكل
سلطتهم وقوتهم على التوازن بين العناصر المعتدلة من كلا الشعبين. اما بشأن العراق
فقد كان لحكم العباسيين بالنسبة له اهمية فائقة لان هذا الحكم حوّله إلى مركز
للحياة الادارية والاقتصادية والروحية لدولة الخلافة الواسعة الارجاء كلها.
كان اختيار العاصمة واحدة من اولى
المسائل التي اهتمت بها السلالة الجديدة فلقد كان من الضروري التخلي عن الشام الذي
كان يعج بانصار للامويين مخلصين لهم ، ومن بين المناطق الاخرى كان العراق الذي يقع
على الحدود بين الجزيرة العربية وفارس والذي يمتلئ باعداء وخصوم الاسرة المنهارة
اكثرها ملاءمة لهذا الغرض وقد اختار العباسيون في اول
الامر الكوفة عاصمة
لهم باعتبارها مركزاً
للتشيع الذي قدموا انفسهم على انهم من انصاره ، غير ان الخليفة الثاني المنصور قرر
بناء مدينة جديدة تنافس في روعتها وجلالها دمشق التي كانت مقراً للامويين ، وقد
وقع اختيار الخليفة على موضع بغداد الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك والذي يقع بالقرب
من طيسفون عاصمة الساسانيين التي كانت حتى ذلك الوقت قد اضمحلت نهائياً. وهكذا وضع
الحجر الاساس في عام ٧٦٢م فظهرت بعد سنوات اربع في الموضع الذي كانت تحتله قرية
صغيرة عديمة الاهمية ، مدينة المنصور الفخمة أو «مدينة الرفاه»
كما سماها الخليفة الذي كان يشرف على البناء بنفسه.
حققت بغداد بسرعة ازدهاراً مدهشاً واصبحت
مدينة عالمية وذلك بفضل الموقع الممتاز الذي كانت تحتلة حيث تقع في مركز واحدة من
اخصب مناطق الخلافة وعلى ضفة نهر دجلة الصالح للملاحة وعند ملتقى الطرق التجارية
القادمة من الشام وجزيرة العرب وارمينيا وفارس. ولقد ساعد وجود عاصمة الخلافة في
قلب العراق على زيادة رفاه هذا الاقليم واعطى دفعة قوية لتطور التجارة والصناعة
فيه. وقد انعكس ذلك العصر الذهبي بالنسبة للعراق ايجابياً على البصرة التي ارتقت
بسبب ذلك من مشارك بسيط في التجارة البحرية بين الهند والشرق الاقصى وجزيرة العرب
إلى ميناء لعاصمة العالم الاسلامي كله.
لقد اعطى وجود احفاد برمك الذين ينتمون
إلى اسرة فارسية قديمة من كهنة بلخ في السلطة ولمدة نصف قرن على شكل وزراء
ومستشارين
__________________
ثماره. فلقد زرع
البرامكة في ممتلكات العباسيين بالتدريج الفارسية القديمة بحيث لم يصبح النظام
الاداري للخلافة وحده يشابه ما كان سائداً في مملكة الساسانيين فحسب وانما اصبح
بلاط خلفاء بغداد وهو الاخر يشابه في البذخ والبهاء بلاط حكام ايران القدماء.
ولهذا فليس هناك ما يدهش في ان الفرس كانوا مع الايام يُقدّمون على العرب ، وكان
العرب ينسبون ذلك إلى الخلفاء ولهذا صاروا يتحولون يوماً بعد إلى العداء للعباسيين
واخذوا يملأون صفوف المعارضة بشكل مكثف.
كانت حركة الخوارج التي وجدت اسناداً
وتعاطفاً من العناصر العربية المستاءة قد فقدت حتى هذا الوقت ولدرجة ملحوظة الطابع
الحازم الذي كانت تتميز به في السابق. فلقد انقسم الخوارج إلى اتجاهات مختلفة لم
يكن من الصعب على العباسيين التخلص منها وهكذا تمكن قادة الخلفاء العباسيين من
اخماد جميع الانتفاضات التي قام بها الخوارج اعتباراً من عام ٧٥١م بسهولة. فقد جرى
اجتياح الموصل في عام ٧٩٦م بامر من الخليفة هارون الرشيد ذلك انها كانت قد اصبحت
وكراً للخوارج ، وقد ادى ذلك إلى زيادة اضعاف نشاط الخوارج في ما بين النهرين.
وهكذا فقد كان العلويون هم الحزب الوحيد
القادر على المعارضة فهم لم يستطيعوا بالطبع ، مسالمة العباسيين الذين تجاوزوهم
واخذوا السلطة لانفسهم. ومن الطبيعي ان يسعى العرب المستاؤون من الحكومة إلى
التقرب من احفاد الرسول (ص) المباشرين هؤلاء كما انهم بدورهم رحبوا بالاسناد الذي
وجدوه من جانب العرب وفي اتخاذ هؤلاء ركيزة لهم في صراعهم ضد مغتضبي السلطة وعلى
الاخص لانهم لم يكن بإمكانهم ان يعقلوا امالهم على الفرس الذين تحولوا إلى جانب
السلالة الجديدة.
وقد شاركت البصرة التي اصبحت مركزاً
للدعاية العلوية ، العربية
بشكل فعال في صراع
العلويين مع العباسيين. واقدم حوادث هذا الصراع واكثرها احقية بالذكر الثورة التي
قام بها في عام ٧٦٢م محمد وابراهيم حفيدا الحسن ـ الابن الأكبر لعلي (ع) ، فسببا
بذلك للمنصور اهتماماً وقلقاً شديدين. ففي الوقت الذي كان فيه احد الاخوين وهو
محمد قد استمكن من الحجاز حيث استطاع ان يحصل على مبايعة سكان مكة والمدينة له
بالخلافة نظم الاخ الاخير ابراهيم عصياناً في البصرة لم يلبث ان انتشر بسرعة فشمل
القسم الاغلب من العراق وعربستان المجاورة له .
وقد ازداد وضع الخليفة الذي كان يسكن بالقرب من الكوفة حرجاً بسبب من ان كل جيشه
تقريباً كان قد ارسل إلى الحجاز لقمع عصيان محمد ، غير ان المنصور لم يرتبك في تلك
اللحظة الحرجة واستطاع بفضل اتخاذ سلسلة من الاجراءات التي تدل على الحذق ان يحافظ
على طاعة الكوفة التي كان ابراهيم الثائر فيها عدد كبير من الانصار إلى ان عادت
قواته إلى العراق. وهكذا فعندما تحرك ابراهيم من البصرة إلى الكوفة بعد ان وصلته
اخبار اندحار اخيه وموته ، استطاع المنصور ان يتصدى له بجيشه كله وان يتغلب عليه
نهائياً.
لقد قرر الخليفة ان يلقن اهالي البصرة
درساً قاسياً بسبب اسنادهم لابراهيم فأرسل إلى عاصمة العراق الجنوبي المدعو سلم بن
قتيبة وفوّضة ان يعاقب بلا رحمة جميع من اشترك في الانتفاضة من السكان ، وعندما
تباطأ العامل في تنفيذ هذا الامر القاسي استدعي على الفور واستبدل بمحمد بن سلمان
، وقد نفذ هذا تعليمات الخليفة بدقة فقد هدم ما يقرب من ثلاثين الف دار ودمر اكثر
من عشرين الف نخلة يملكها انصار ابراهيم
__________________
كما انه اعدم خمسة
وخمسين شخصاً من الوجهاء المحليين وارسل مالا يقل عن خمسمائة اخرين مكبلين
بالاغلال إلى بغداد لكي يقتص منهم الخليفة بنفسه .
ولكن مهما كانت شدة القسوة التي تعرضت لها البصرة بسبب رغبتها في نصرة العلويين
فان هذا الدرس لم يهدئ سكانها الا مؤقتاً فحسب.
ولقد قدر المنصور الذي لم يتخلص من
انتفاضة ابراهيم القوية الا بعد جهد كبير مقدار الخطر الذي يتهدده من جانب
العلويين ولهذا فأنه ظل يراقبهم طيلة فترة خلافته بدقة وكان يعدمهم دون رحمة عند
اول بادرة للعصيان.
ان مثل هذه الاجراءات العنيفة لم تساعد
العباسيين كما سنرى لاحقاً على ان يأمنوا جانب العلويين فلقد ظل هؤلاء يتحينون كل
فرصة سانحة لزعزعة اركان خلافة بغداد إلى ان ضعضعوها بحيث اصبحت غنيمة سهلة للغزاة
الاجانب.
والى جانب استياء العرب الذي اتضح في
الانتفاضة على العباسيين تحت راية العلويين تنامت ايضاً الحركة الفارسية الرامية
إلى ان تتخلص فارس من الحكم العربي. وقد ازدادت هذه الحركة سعة بعد ان رأى الفرس
في سقوط ابناء جلدتهم البرامكة في عهد هارون الرشيد عام ٨٠٣م تحولاً يشير إلى عودة
خلفاء بغداد إلى سياسة الامويين العربية الخالصة. ولهذا استغل الفرس النزاع الذي
نشب بعد موت هارون الرشيد حول الخلافة بين ولديه محمد الامين ابن زبيدة زوجة
الرشيد العربية وعبد الله المأمون الذي كان ابنأ لجارية فارسية ، حتى تحول هذا
النزاع العائلي
__________________
بسرعة إلى صراع مكشوف
بين العرب والفرس انتهى بتبوء المأمون سدة الخلافة عام ٨١٣ م.
وقد تحتم على الخليفة الجديد بعد ان
اعتلى سدة الخلافة مباشرة ان يركز جل اهتمام لقمع الانتفاضة التي اشعلها في العراق
شخص يدعى أبا السرايا ابن المنصور بالنيابة عن احدى الشخصيات العلوية وهو محمد بن
ابراهيم الملقب طباطبا والذي كان مقره في الكوفة. وعلى الرغم من ان قائدي هذه
الانتفاضة الاساسية لم يلبثا ان خرجا من المسرح بسبب موت محمد العلوي فجأة والقبض
على ابي السرايا واعدامه فان الاضطراب شمل منطقة واسعة تمتد من اليمن إلى عربستان
، وبفضل نشاط مبعوثي العلويين الذين استطاعوا اثارة العرب ضد الفرس في كل مكان طرد
الولاة العباسيون من كل تلك الاصقاع تقريباً واستبدلوا بولاة نصبهم العلويون. واذا
ما كان بالإمكان قمع الانتفاضة ، على الرغم من ذلك فان ذلك كان بسبب من ان هؤلاء
الحكام الجدد لم يكونوا بمستوى المسؤولية فانشغلوا بتطمين طموحهم الشخص بدلاً من
الاهتمام بمصالح اسرة علي (ع) .
لم تكن هذه البداية تنبئ بخير ولهذه نصب
في عام ٨١٧م وفي اطار مهادنته للعلويين الحفيد الثامن لعلي
ولياً للعهد من بعده. ولقد اعطى لهذا المرشح للخلافة واسمه علي بن موسى لقب «الرضا»
الذي يعني محبوب الله
وقد عمد الخليفة إلى مصاهرته بان زوجه من ابنته. لقد
__________________
وصل اعجاب المأمون
بالعويين إلى حد انه اصدر امراً باستبدال الراية العباسية السوداء باخرى من اللون
الاخضر وهو اللون المميز للعلويين. غير ان ولي العهد هذا لم يقدر له ان يصل إلى
الحكم فلقد انتقل في خريف السنة التالية (٨١٨ م) إلى العالم الاخر فاعاد المأمون
النظام المعتاد لوراثة الخلافة كما اعاد اللون العباسي الاسود مرة اخرى. ولقد تحول
مثوى الامام الرضا الذي دفن في طوس وهي مشهد في الوقت الحاضر إلى واحد من الاماكن
المقدسة في فارس والى مزدهر للزيارة.
كان حكم المأمون الذي يقف في اصله
وعواطفه إلى جانب الفرس انتصاراً حاسماً لهؤلاء. وكانت علاقة العراق بفارس حتى ذلك
الوقت قد ضعفت بسبب الانتفاضات والفتن المتكررة في فارس إلى درجة ان انفصال هذا
البلد الاخير حدث دون جهد يذكر ، ذلك ان القائد الفارسي الاصل طاهر الذي كان قد
ساعد المأمون على الوصول إلى الخلافة ارسل على رأس جيش كبير للقضاء على فتنة في
خرسان وهناك اصدر في عام ٨٢٢م امراً بالتوقف عن الخطبة للمأمون في صلاة الجمعة .
ورغم ان ذلك كان يعني خروجاً مكشوفاً على سلطة المأمون الذي كان في هذه الاثناء قد
وصل إلى بغداد فأن هذا الاخير وافق على ان يكون حكم خرسان والاقاليم المجاورة لها
وراثياً في اسرة الطاهريين ، فوضع بذلك بداية لخروج بقية اجزاء فارس تدريجياً من
سلطة العباسيين.
وبعد خروج فارس من سلطة العرب نهائياً
اصبحت ايران حليفاً
__________________
طبيعياً للعلويين في
تقويض السلطة العباسية ذلك ان كل الاسر التي حكمت فيها كانت تسعى للاستحواذ على
العراق الذي يجاورها ومعه عاصمة الخلافة التي لم يؤد الصراع من أجل امتلاكها الا
إلى التعجيل بسقو العباسيين.
وقبل ان تظهر اثار سياسة المأمون
المواتية للفرس في العراق تمتع هذا القطر حتى عام ٨٣٣م أي إلى توفي الخليفة
المذكور بهدوء واستقرار نسبيين. لقد ساعدت حياة السلم هناك على ان تزدهر في البصرة
اولاً ومن ثم في بغداد العلوم والاداب الاسلامية وكان ذلك نتيجة لاختلاط وتفاعل
شعبين متعارضين في خصائصهما هما العرب والفرس. وقد بلغت البصرة كمركز علمي انذاك
شأواً كبيراً من الازدهار بحيث اظهر الاحصاء الذي جرى بامر من المأمون للعلماء
والدارسين فيها بان عدد العلماء سبعمائة وعدد الدارسين احد عشر ألفاً. وهناك حكاية
تقول بأن المأمون طلب من علماء البصرة ان يرسلوا إلى مكتبة «دار الحكمة» التي كان
قد أسسها في بغداد نسخة واحدة من كل مؤلف لهم في فروع المعرفة المختلفة وقد بلغت
الكتب التي ارسلت إلى بغداد حملة ثلاث سفن .
لقد كان للتأثير الفارسي الذي اشتد في
عهد العباسيين اثره في الجانب الديني ايضاً ، فقد كانت الحياة الدينية في عهد
الامويين تتوزع على اتجاهين ينظر اصحاب الاول منهما إلى القرآن على انه كلام الله
موجود منذ الازل ولهذا فانه لا يتعرض لا إلى تغييرات اعتباطية ولا إلى تفسيرات
باطلة. اما اصحاب الاتجاه الثاني فكانوا يعتقدون بخلق القرآن ولهذا فأنهم كانوا
يرون بان من الممكن استخدام العقل لتوضيح بعض المواضع
__________________
الغامضة فيه. وقد اسس
هؤلاء الفقهاء ذوو التفكير الحر الذين كانووا ينتمون إلى فرقة المعتزلة وكراً لهم
في البصرة واستمروا على التعليم والوعظ فيه بالرغم من الملاحقة التي لم تتوقف ضدهم
طيلة العهد الاموي .
وحلت مع انتقال الخلافة إلى العباسيين
فترة ممتازة بالنسبة للمعتزلة فقد وجدت تعاليمهم الكثير من الانتصار بين الفرس من
ذوي النفوذ الذي كان بأمكانهم بسبب احتلالهم لمراكز عليا في بلاط الخلفاء ، ان
يوفروا الحماية لمعلميهم الروحيين ويجنبوهم الملاحقة من جانب بقية رجال المسلمين.
ومع مرور الوقت اصبحت تعاليم المعتزلة تكسب مواضع جديدة باستمرار في بلاط الخلفاء
نفسه إلى ان رفع المأمون تعاليم هؤلاء الفقهاء من ذوي التفكير المتحرر إلى مرتبة
المذهب الرسمي عندما اصدر في عام ٨٢٧م مرسوماً بشأن خلق القرآن. ولا حاجة لنا
للحديث عن المدى الذي ارتفعت اليه بفضل هذا المرسوم مدينة البصرة باعتبارها مركز
المعتزلة وفيها يعيش ويعمل «شيخ المعتزلة» ابو الهذيل العلاف الذي كان يدعو لحرية
الارادة والتصوير المثالي لجوهر الاله.
ظلت تعاليم المعتزلة في عهد الخلفاء
الذين اعقبوا المأمون مباشرة تعتبر المذهب الرسمي حتى ٨٥١م ففي هذه السنة اصدر
المتوكل امراً باعتبار فكرة خلق القرآن فكرة الحادية وقام بحملة ملاحقة شديدة
للفقهاء من ذوي التفكير الحر في البصرة مركز تواجدهم الرئيس ، وقد تعرض للملاحقة
مع المعتزلة الشيعة ايضاً .
وقد تزامنت ملاحقة الحكومة للمعتزلة والشيعة مع بداية اضمحلال سلطة الخلفاء
العباسيين الزمنية ، فقد
__________________
اصبح الخلفاء حتى ذلك
الوقت تحت تصرف قادة جيوشهم المرتزقة من الاتراك والبريد.
لقد كان هناك من بين افراد الجيش بل وفي
صفوف الضباط منذ عهد الخليفة العباسي الثاني المنصور اتراك كانوا قد اعتقوا من
الرق. وقد احتل هؤلاء في عهد المأمون مراكز عسكرية بارزة : وبسبب من عدم امكانية
الاعتماد على العرب وعدم صلاحية الفرس للخدمة العسكرية وخصوصاً من كان منهم في
العراق لان هؤلاء تحولوا مع الوقت إلى حرفيين وتجار وعلماء فقدوا كل اهلية لتحمل
الحياة العسكرية الشاقة ، عمد اخو المأمون وخليفته في عام ٨٣٣م إلى الاقتصار على
تجنيد الترك والبربر في قواته.
وما ان مرت اربع عشرة سنة على ذلك حتى
ازدادت سلطة واهمية هؤلاء المرتزقة إلى درجة انهم استغلوا موت الواثق بشكل مفاجئ
فاسندوا اخلافة إلى اخيه المتوكل متجاوزين بذلك ابنه. وقد قتل صنيعة الاتراك هذا
والخلفاء الاربعة الذين اعقبوه على يد بريتوريان
بغداد هؤلاءأو جبروا
بواسطتهم على التنازل عن الخلافة. ومنذ ذلك الوقت اصبح جميع الخلفاء باستثناء قلة
نادرة منهم تحت سلطة قادتهم الترك الذين كانوا ينصبونهم ويعزلونهم حسب رغباتهم
واهوائهم.
لقد سادت بسبب هذه الاوضاع الفوضى
الشاملة في بغداد بدلاً من
__________________
الامن والهدوء الذي
كان مستتباً حتى ذلك الوقت. ولقد دفع ضعف الخلاف هذا الخوارج الذين كانوا قد
اختبأوا في منطقة ديار بكر إلى التحرك وادى بهم إلى ان يقوموا بعدة فتن اشتركت
فيها لاول مرة الاورطات الكردية. غير ان جميع هذه الحركات كانت تافهة بالقياس إلى
العاصفة التي لم تلبث ان اجتاحت جنوب العراق بهيئة تمرد قام به العبيد السود الذين
استنهضوا في سبيل العلويين .
لقد ظهر في البصرة عام ٨٦٩م شخص يدعى
على بن محمد كان موطنه الاصلي في ضواحي الري (طهران حالياً) وكان شيعياً في مذهبه
وعربياً في اصله. وكان قد قدم قبل ذلك ببضعة سنوات على انه علوي وذلك عندما رفع
علم الانتفاضة في البحرين ولكن عاملها طرده منها ، فأستقر هذا الدعي في البصرة
الذي كان يعرفه شخصياً فثار مرة اخرى مدعياً بأنه حفيد لعلي ومعلناً بأنه يحمي
حقوق الفقراء والمضطهدين. وقد وجدت دعوته لتحطيم اغلال العبودية والاتحاد للنضال
ضد مالكي العبيد صدى واسعاً لها بين الزنوج العبيد الذين كان العرب يجلبونهم
باعداد كبيرة من زنجبار والذين كانوا يعرفون بـ «الزنج» نسبة إلى ذلك المكان ولهذا
سميت انتفاضتهم بأسم : حرب «الزنج».
ولم يلبث ان تجمع حول هذا الحفيد
المزعوم لعلي الذي اطلق عليه لقب ينأي عن المدح هو «الخبيث» آلاف العصاة من العبيد
السود انضمت اليهم حشود من البدو القساة على امل النهب. وقد هذا الخليط من الاقوام
__________________
باجمعه على ضواحي
البصرة فخربها وحرر العبيد بعد ان قتل مالكيهم في كل مكان وصل اليه. اما المدينة
نفسها فقد تخلصت في هذه المرة من العصاة بفضل تكاتف السكان والحامية سوية.
وعند ذلك وجه الخليفة المهتدي الذي كان
قد ارتقى سدة الخلافة لتوه ضد العبيد جيشاً كبيراً بقيادة التركي جعلان ، غير ان
قائد الزنج استطاع بعد سلسلة من المعارك ان يحطم القوات الحكومية فانساح العبيد
الذين شجعهم هذا النجاح كالحمم البركانية الماحقة في جنوب العراق باجمعه فاستولوا
على بلدة ابي الخطيب الغنية والتي تقع على قناة تحمل الاسم نفسه وتتفرع من شط
العرب ثم خربوا الآبلة وعبدان تخريباً تاماً وعندما لم يصادف مقاومة تذكر توغلوا
في عربستان واستولوا على عاصمتها الاحواز.
لقد كان نجاح الزنج هذا مثار قلق شديد
في بغداد فأرسل من هناك ضدهم جيش جديد بقيادة سعيد بن صالح. ولقد اسعد الحظ هذا
القائد فاستطاع ان يشتت شمل فصيل متقدم منهم بل والانتصار في عدة اشتباكات جرت مع
زهرة قواتهم لكن هجوماً ليلياً مفاجئاً قام به الزنج وضع نهاية للنجاحات اللاحقة
لقائد الخليفة هذا وقضى على معسكره قضاءً تاماً. لقد باءت كل الجهود التي بذلها
الخليفة لكسر شوكة العصاة بالفشل لان علي بن ابان وكان مساعداً لل «خبيث» كان
يتمكن على دوام من تحطيم جميع القوات التي ترسل للقضاء على الزنج. وهكذا اصبح
العبيد المتمردون اسياد الموقف في جنوب العراق فأخذوا يفكرون بالاستيلاء على
البصرة التي استطاعت حتى ذلك الوقت مواصلة الدفاع عن استقلالها عنهم بنجاح. ولكن
في بداية ايلول عام ٨٧١م انقض الزنج على البصرة واستولوا عليها. لقد استباح العبيد
وهم في فورة حماسهم المدينة التي دافعت عن نفسها بعناد وتذكر الاخبار بان ما يقرب
من خمسة عشر
الف دار ومائتي مسجد
قد سويت بالارض بالاضافة إلى الاهالي السيئي الحظ الذين ذبحوا بوحشية والاسواق
والحوانيت التي نهبت نهباً تاماً.
لقد هز سقوط البصرة الخليفة الجديد
المعتمد فبادر على الفور إلى ارسال جيش قوي لتحريرها ووضع لقيادته شخصاً يدعى محمد
الموّلد. ولقد مني هذا القائد بالفشل التام مثل الذين سبقوه لانه كان على جهل تام
بتكتيك الزنج الذين كانوا يفضلون الغارات الليلية المفاجئة والانسحاب السريع في
حالة الفشل إلى مراكزها المحصنة التي تحيطها القنوات وفروع الانهر من جميع الجهات.
فسارع الخليفة إلى تنصب اخيه الشقيق الموفق على رأس الجيش. وقد اظهر الموفق حزماً
ونشاطاً رائعين حينما أشاع الضبط الصارم بين القوات المرتزقة من الترك بعد ان كان
التحلل وعدم الضبط قد تفشى بها. وقد برر الموفق توقعات الخليفة والحق بجيش الزنج
الذي كان يقوده شخص يدعى يحيى بن محمد البحراني هزيمة ساحقة واسر يحيى هذا وأرسله
إلى بغداد. لكن تفشى الطاعون في صفوف قوات الحكومة أجبر الموفق على ايقاف العمليات
العسكرية والعودة إلى بغداد.
وفي هذا الثناء ساء وضع الحكومة في
صراعها مع الزنج بسبب ظهور عدو جديد لها هو مؤسس سلالة الصفاريين يعقوب بن الليث
الذي كان اصله من سجستان حيث كان في اول امره نحاساً بسيطاً كما يشير إلى ذلك لقبه
«الصفار». لقد استطاع يعقوب هذا حتى هذا الوقت ان يستولي على قسم كبير من فارس
الشرقية ومن ثم يمم شطر بغداد للاستيلاء عليها. وهكذا تحتم على الموقف ان يحشد في
العاصمة جميع القوات المتوفرة لديه بما فيها القوات العاملة ضد الزنج لصد الفرس
المهاجمين .
وبعد ان
__________________
تمكن الموفق من انجاز
هذه المهمة اسعده نجاح آخر احرزه قائده احمد بن ليثويه الذي حطم في الشوش جيشاً
زنجياً ـ صفارياً مشتركاً. ولم يلبث الموفق ان وجد حلفاء له في شخص السامانيين في
ماوراء النهر الذين جذبوا قوى الصفار بحيث لم يبق امام القوات الحكومية مرة اخرى
الا الكفاح ضد الزنج.
كان «الخبيث»
حتى هذا الوقت قد اعلن نفسه خليفة وضرب لنفسه عملة خاصة واجبر رجال الدين في المدن
التي اخضعها الزنج على الخطبة له في اثناء صلاة الجمعة ، غير ان نوايا هذا الدعى
وطموحاته كانت أوسع من ذلك فقد شجعته النجاحات التي احرزتها قواته فأخذ يفكر
بالاستيلاء على بغداد عاصمة الخلافة نفسها وأرسل اليها بالفعل قوات كثيرة العدد
يقودها سلمان بن جامع الذي تمكن بعد سلسلة من الاشتباكات الناجحة ضد بعض الفصائل
الحكومية من احتلال واسط ونهبها كالعادة. عند ذلك أرسل الموفق ضد الزنج جيشاً
تعداده خمسون الف مقاتل يقوده ابنه ابو العباس والحق به اسطولاً كاملاً من السفن
الصغيرة لتعقب الزنج في القنوات وتفرعات الانهر حتى اوكارهم المحصنة نفسها. وقد
افتتح القائد الشاب العمليات العسكرية بهجوم مفاجئ على قوات الزنج المرابطة في
واسط واصابها باندحار شنيع.
اسرعت جحافل الزنج المندحرة بالتراجع
إلى معسكراتهم المحصنة التي تحمل اسماء فضفاضة مثل «المنصورة» و «المنيعة» واختبأوا
فيها ، ولم
__________________
يعجل ابن الموفق
بمحاصرة هذه الحصون بل قام في البداية بتطهير جميع الطرق المائية من عصابات الزنج
إلى ان اتى لنجدته ابوه عل رأس تعزيزات جديدة فأمكن ذلك الاستيلاء في عام ٨٨٠ م
على وكري الزنج كليهما.
لم يبقَ بعد ذلك الا الاستيلاء على حصن
العبيد الاخير ونعني عاصمة خليفتهم «الخبيث» هذا النموذج العراقي لستيبكاء رازين
، التي كانت تسمى «المختارة» وتقع على ضفتي قناة ابي خصيب ، وهي عبارة عن حصن
محاطة باسوار عريضة وعالية لها ابراج ومزاغل. لقد تجمعت في المختارة كل الثروات
التي نهبها العبيد في فترة سيطرتهم على جنوب العراق وعربستان كما كان هناك الكثير
من النساء اللواتي جلبهن الزنج من البصرة والآبلة والاحواز وواسط وغيرها من المدن
والمواقع التي تعرضت لهجماتهم الماحقة.
لقد كان من الصعوبة بمكان الاستيلاء على
هذا الحصن عن طريق الاقتحام لان من المتوقع ان يجابه الهجوم عليه بمقاومة يائسة
ولهذا قرر الموفق الذي كان قد اصبح خليفة قبل ذلك ان يفرض على القلة حصاراً محكماً
ولكي يسهل عملية تجهيز جيشه بالمؤون ويتخذ لنفسه نقطة استناد بنى بالقرب من شط
العرب وفي موقع البصرة الحالية معسكراً محصناً سمي بـ «الموفقية» على اسمه. ولكن
العمليات العسكرية طالت كثيراً ولم تسقط «المختارة» الا في اواسط عام ٨٨٣ م فحملت
رأس «الخبيث» الملطخة بالدم إلى الخليفة. وقد كان هذا التأخير لصالح «الموفقية» التي
__________________
تحولت بالتدريج من
معسكر حربي إلى مدينة تضم اسواقاً وخاناً للقوافل ومنازل ومالبث الحرفيون والتجار
ان بدأوا بالتوافد عليها فاصبحت مركزاً لتجارة والصناعة مزدهرتين. لقد نمت هذه
المدينة بالاساس بعد ان انتقل اليها سكان البصرة القديمة التي خربها الزنج واضمحلت
بسبب ذلك تماماً. وقد سميت المدينة الجديدة في البداية باسم «بصيرة» وحلت محل
المدينة السابقة التي بناها عمر وتحولت بمرور الوقت إلى البصرة القائمة حالياً.
لم يكد جنوب العراق يفيق كما ينبغي من
مآسي أربع عشرة سنة من سيطرة العبيد السود حتى اصابته نكبة جديدة متمثلة بالقرامطة
الذين كانوا فرعاً من الاسماعيلية وهي فرقة شيعية تمجد اسماعيل الابن الاكبر
للامام جعفر رغم ان اباه
كان قد جرده من الامامة لصالح ابنه الثاني موسى الذي اعترف به بقية الشيعة باجمعهم.
لقد كان الشيعة يعتبرون اسماعيل الامام المدعو للأطاحة بسلطة العباسيين واعادة
الخلافة إلى بيت علي وعندما لم يتحقق ما كانوا يأملونه تحول الاسماعيلية إلى فرقة
مسالمة لا تتميز بشيء لو لم يتمكن عبد الله بن ميمون وهو فارسي اسرته من ميديا من
تحويلها إلى منظمة سياسية قوية .
ان هذا الشخص الطموح الذي سعى لان يشتهر
كنبي كان يتميز بفضل معرفته بالغيبيات ، بتحرر فكري واسع فقد اعلن ان الله قد
اختاره لمساعدة محمد المهدي بن اسماعيل أخر الائمة الذي تجسد فيه الله لكي يعلم
الناس بارادته عن طريقه. وبهذا يكون عبد الله بن ميمون قد اسس
__________________
مذهباً دينياً جديداً
هو عبارة عن ابتعاد تدريجي عن التشيع باتجاه الالحاد التام وانكار كل شيئ ماخلا
المادة. ان الهدف الاساس لهذا المذهب هو تعويد الجماهير على الطاعة العمياء للائمة
الغائبين الذين يظهرون ارادتهم من خلال نوايا الزعماء الطموحة. لقد ارسل ابن ميمون
اعداداً كبيرة من المبعوثين أو «الدعاة» إلى جميع انحاء العالم الاسلامي حيث جندوا
آلاف الانصار الجدد للمذهب الاسماعيلي.
كان احد هؤلاء «الدعاة» قد ارسل إلى
الكوفة وكر الشيعة القديم فاستطاع ان يقنع احد الفلاحين واسمه حمدان باعتناق
المذهب الجديد. وكان حمدان هذا قد اطلق عليه بسبب قبح وجهه اسم سرياني هو قرمطو
تحرف عند العرب فاصبح قرمطة. ولم يلبث هذا الفلاح ان اصبح مرشداً اسماعيلياً
فاستقر في احدى ضواحي بغداد واخذ ينشر بنجاح الافكار الدينية الجديدة في العراق
كله ويجند اعداداً كبيرة من الاتباع هناك اطلق عليهم القرامطة نسبة إلى اسم رئيسهم
هذا .
لقد كان المذهب الاسماعيلي بشكله العام
المفهوم اساساً للعقائد القرمطية ، لكن القرامطة في السابق من اجل تبسيط الاسلام
ذهبوا إلى ابعد مما ذهب اليه معلموهم فقد اعلنوا مثلاً ان الصلاة والصيام والحج
ليست فروضاً واجبة وسمحوا بشرب الخمر واذنوا لاتباعهم بالزواج من اقربائهم
القريبين الذين يحرم القرآن الزواج بهم. وكانت المرأة حسب ما يؤكد الكتاب من
المسلمين العادين الاخيرين مشاعة لدى اتباع هذه الطائفة وكذلك الملكية كما ان
منظمتهم نفسها تشبه عصابة للسلب ذلك ان القرامطة كانوا يأخذون من المسلمين
الموسرين جميع ثرواتهم بقوة
__________________
السلاح دون ان يتردد
بقتل من يعاند منهم .
لقد اصاب مذهب القرامطة نجاحاً غير
اعتيادي خصوصاً في صفوف البدو فاستطاع افراد هذه الطائفة ان يرسخوا مواقعهم في
العراق حيث كانت تعود لهم في السواد على ضفة الفرات قلعة قوية اطلق عليها اسم «دار
الهجرة» اما مقرهم الرئيس فقد كان في مجموعة جزر البحرين التي كانت تدخل انذاك ضمن
ولاية البصرة. لقد امتدت سلطة ابي سعيد الجنابي رئيس قرامطة البحرين فشملت الاقطار
المجاورة للبحرين كالحسا وقطر والقطيف وحجار أي كل الشريط الساحلي الممتد حتى
الكويت. لقد كان قرامطة البحرين الذين يؤمنون بالله بل ويعترفون بالقرآن ولكنهم
يفسرون تعاليمه على هواهم ، على ما يقول دوزي
، يؤلفون خطراً جدياً على جيرانهم ذلك لانهم يؤمنون بانهم مدعوون لنشر معتقدهم بين
المسلمين بقوة السلاح. لقد كان هذا الشعب المختار استمراراً للنشاط التخريبي الذي
قام به الزنج في جنوب العراق وفي مدينته الرئيسة البصرة.
استطاع ابو سعيد الجنابي في عام ٩٠٠ م
ان يتغلب وهو في طريقه إلى البصرة على القوات الحكومية التي ارسلت لصده غير انه لم
يتمكن من أخذ المدينة. كذلك قام القرامطة في السنة نفسها بسلب قافلة للحجاج
العراقيين كانت متوجهة إلى مكة وكرروا في السنة التالية هجوماً على البصرة ولكنهم
منوا بالفشل مرة اخرى. لقد كان القتل والنهب يرافق كل اعتداء للقرامطة ولكن هؤلاء
المتحزبين لم يتحولوا إلى سوط حقيقي مسلط على رؤوس اهالي البصرة الا في عهد ابي
طاهر سليمان وهو ابن
__________________
ابي سعيد وخليفته .
لقد كان ابو طاهر هذا بشجاعته وجرأته وعزيمته التي لا تعرف الكلل بطلاً حقيقياً
وفق مقاييس البدو إلى حد انه استطاع ان يجذب تحت رايته حتى ذلك الجزء من ابناء
الصحراء الذين لم يكونوا يتعاطفون مع مذهب القرامطة ولكنهم انضموا إلى زعيمهم عن
طيب خاطر بسبب ولعهم بالسلب والنهب.
بدأ أبو طاهر حكمه بان سلب في عام ٩١٥م
عدة قوافل للحجاج ثم اقتحم البصرة عام ٩١٩م ونهبها وقتل الكثير من سكانها. وقد
تكرر هذا الهجوم بعد اربع سنوات حيث تسلل ابو طاهر إلى المدينة ليلاً وذلك بأن
تسلق الاسوار مع مقاتليه مستخدمين سلالم من الحبال. وكانت المذبحة في هذه المرة
اسوأ من المرة الاولى وعاد القرامطة إلى الاحساء التي كانت قد اصبحت قبل ذلك بقليل
مقرهم الرئيس محملين بالغنائم وبصحبتهم الكثير من الاسرى. وبعد ان دمر ابو طاهر
البصرة استولى على الكوفة عام ٩٢٥م ونكل باهلها بقسوته المعهودة وبعد انتصارات
حققها ضد القوات الحكومية وبنهب المدن التي وقعت في طريقه.
لقد ازدادت جرأة القرامطة بالتدريج إلى
ان بلغت حد ايقافهم لحركة الحج من العراق إلى مكة وذلك بشنهم غارات متكررة وقتلهم
وابادتهم المسلمين الصالحين الذين كانوا يؤدون فريضة الحج. ولم يوفر زعيم القرامطة
الوحشي ابو طاهر حتى مكة المدينة المقدسة في نظر المسلمين فهاجمها في عام ٩٣٠م
وموسم الحج في ذروته فقتل آلاف الحجاج في الحرم الرئيسي ونقل معه إلى الاحساء
الحجر الاسود المشهور في الكعبة ، ولم يعده القرامطة الا عام ٩٥١م وذلك بالحاج من
الخليفة الفاطمي المنصور.
__________________
واذا كانت مكة لم تنج من غزو القرامطة
رغم بعدها عن الاحساء فان بامكاننا والحالة هذه ان نتصور مدى الاذى الذي تسببوا
فيه لجنوب العراق وعاصمتها لبصرة وهو المنطقة التي كانت تؤلف بسبب مجاورتها
للاحساء هدفاً دائماً لغزوات القرامطة الماحقة. ولم يكن بالامكان صد هذه الكارثة
خصوصاً وانها تزامنت مع انتها السلطة الزمنية بشكل تام لخلفاء بغداد الذين كانوا
لهذا السبب عاجزين عن النضال ضد هؤلاء الوحوش.
لقد بدأ تحول العباسيين من كونهم حكاماً
دنيويين للاسلام إلى مجرد الأكتفاء باحتلال المكانة الدينية «لخلفاء رسول الله» منذ
نصف القرن التاسع في عهد خلفاء المأمون عندما اصبح قادة قوات الترك المرتزقة
ينصبون الخلفاء ويعزلونهم على اهوائهم وانتهى هذا التحول عندما ظهر لقب «امير
الامراء» أي القائد الاعلى لجيوش الخلافة. لقد كان الخليفة المقتدر اول من منح هذا
اللقب فقد انعم به في عام ٩٠٩م على خصي حريمه مؤنس عرفاناً منه بجميله لانه انقذ
حياته من المتآمرين. ولم يكن امير الامراء في اول الامر اكثر من قائد اعلى للجيش
ولكن ضعف وعدم اهلية الخلفاء مكن من يتولى هذا المنصب من التدخل في الحكم ومن
الحصول بالتدريج على نفوذ استثنائي في شئون الخلافة. وظل الوضع على هذا النحو إلى
ان تولى الخلافة عام ٩٣٤م الخليفة الراضي الذي اختار لمنصب امير الامراء والي واسط
والبصرة محمد بن رائق. وما ان وصل محمد هذا إلى بغداد حتى رأى بان من الضروري
ابعاد الراضي حتى عن إدارة الشؤون المالية للخلافة ، وبعد أن استولى بهذا الشكل
على خزينة الدولة خصص مبلغاً معيناً لاعالة امير المؤمنين وبلاطه .
__________________
لقد كان لهذه الحادثة اهمية قصوى من حيث
نتائجها على مصير الخلافة نفسها لاحقاً أو مصير العراق بشكل خاص. فقبل كل شيء ادى
فقدان الخلفاء لسلطتهم الزمنية إلى انقسام الدولة نهائياً إلى اجزاء الامر الذي
كانت له نتائج قاتلة على العالم الاسلامي نفسه لانه جرد من امكانية مناهضة قوة
الغزو المغولي الذي جاء فيما بعد ، وهي قوة ماحقة لا يمكن ان تعادلها الا قوة
الخلافة الموحدة. اما بالنسبة للعراق فقد كان للحادثة المذكورة عواقب قاتلة لاتقل
عن ذلك. ففارس المجاورة التي كانت قد احرزت الاستقلال التام منذ عهد خلفاء المأمون
لم تكن لتستطيع مع ذلك التفكير في الاستيلاء على العراق طالما كانت سلطة الخليفة
فيه محسوسة. ولكن مع فقد العباسيين لسلطتهم الزمنية أصبح العراق فريسة شهية لجميع
السلالات التي ظهرت في فارس والتي كانت كل منها تسعى بمجرد ان يشتد ساعدها ، لان
تأخذ من سابقتها بقوة السلاح عاصمة خليفة الرسول (ص) الآخذة بالتدهور لكي تستخدم
اسم الخليفة كغطاء لاعلاء شأن سلطانها في اعين بقية العالم الاسلامي. ولان هذه
السلالات جميعاً لم تعمر طويلاً فقد تحول العراق إلى مسرح لصراع دامي متواصل
تقريباً بين البريديين والبويهيين والسلاحقة والايلخانيين والجلائريين والتيموريين
والقره قوينلو والاق قوينلو والصفويين واخيراً العثمانيين.
لقد جلب هذا الصراع الذي تواصل لمدة
ستمائة عام تقريباً باستثناء فترات قليلة ، الخراب والفوضى إلى العراق وحول هذه
المنطقة التي كانت تتميز قبل ذلك بقليل بمستوى عال من تطور الثقافة والصناعة
والتجارة إلى صحراء قاحلة. لقد حلت ، باختصار في حياة العراق التاريخية تلك الفترة
الانتقالية التي بدأت في اللحظة التي فقد فيها العباسيون سلطتهم الزمنية وانتهت
بترسيخ مواقع العثمانيين نهائياً.
لقد عانت البصرة طيلة هذا الوقت من
تقلبات المصير نفسها التي عانتها بغداد فانتقلت معها من اسرة إلى اخرى وقاست بدرجة
لاتقل عنها من النزاعات الداخلية والخصومات الدامية بين افراد هذه السلالات. وقد
اشتد وضع البصرة المأساوي اكثر بسبب من انها كانت على الدوام هدفاً للغزوات
الوحشية التي شنها عليها في البداية القرامطة حتى اختفائهم عن المسرح التاريخي
حوالي عام ١٠٥١م وبعد ذلك البدو الذين كانوا قد اعتادوا على حرفة الغزو تحت راية
أولئك القرامطة.
لقد انعكس تدهور الخلافة العباسية على
الحكام المجاورين لبغداد فاثار لديهم الرغبة في الاستقلال التام. وقد اعطى من يطلق
عليهم اسم «البريدين» أو ابناء صاحب بريد البصرة المثل لذلك. فقد كان هؤلاء يحكمون
عربستان باسم الخليفة وقد تميز من بينهم بالنشاط الجم والطموح الفائق ابو عبد الله
الذي لم يكن يحجم عن اية وسيلة لتحقيق اهدافه. وقد استغل ابو عبد الله هذا عجز
الخلفاء الذين وصلوا إلى ادنى درجات الهوان فحاز على سلطة مطلقة في عربستان
الخاضعة له وبدأ يفكر بتوسيع ممتلكاته.
كان يحكم البصرة في ذلك الوقت شخص اسمه
محمد بن يزيداد وقد تسلم ولايتها بالشراء وكان قد اصبح معتاداً اعتباراً من منتصف
القرن التاسع عندما اصبحت تكاليف المرتزقة الترك الكبيرة وكذلك مصاريف الخلفاء
تبتلع جميع موجودات الدولة من النقود تقريباً فتحتم من اجل ملء الخزينة اللجوء إلى
اجراءات استثنائية مثل بيع مناصب الولاة واخذ مبالغ ضخمة في مقابل أي ترقية أو
تعيين جديدين. وكان حاكم البصرة الذي يدفع مقابل الحصول على منصبه مبلغاً لا
يستهان به يسعى بالطبع لانه يستعيد هذا المبلغ مع فائض آخر من الأهالي الذين كان
يدفعهم
الفقر الشديد الذي
وصلوا إليه بسبب الضرائب الكثيرة والابتزازات إلى الغضب في نهاية الامر على واليهم.
ولقد كانت هذه الحقيقة لمصلحة البريدي لدرجة لا يمكن ان نتصور افضل منها ولم يبطئ
هو من جانبه في استغلالها فتحرك مع قواته نحو البصرة وطرد منها ابن يزداد والحق
الولاية بممتلكاته.
ولم يشبع امتلاك عربستان واخضاع البصرة
طموح ابي عبد الله الذي كان كل نجاح يشجعه على احتلال مناطق جديدة. ولقد اعتبر
البريدي نفسه على درجة من القوة تكفي للاستيلاء على بغداد نفسها فقام يتجريد حملة
للاستيلاء على عاصمة الخلافة غير ان القائد الاعلى لقوات الخليفة التركية بجكم
تمكن من التغلب عليه ومنعه في هذه المرة من الاستيلاء على بغداد. ومع ذلك لم يدفع
هذا الفشل البريدي إلى التخلي عن خططه التوسعية فجمع في السنة التالية (سنة ٩٣٩ م)
جيشاً جديداً وتحرك به مرة اخرى نحو بجكم الذي فضل في هذا المرة ان يعقد معه صلحاً
تنازل له بموجبه عن واسط. وعندما توفي بجكم بعد سنتين في صدام مع الاكراد نفذ
البريدي رغبته الكامنة واحتل بغداد ولكنه لم يستطيع ان يحتفظ بها طويلاً بسبب عدم
امتلاكه ما يكفى من النقود للصرف على جيشه. وفي السنة التالية (سنة ٩٤٢ م) اعاد
اخو أبي عبد الله الذي يدعى ابا الحسن الكرة بعزو بغداد وقد ساعده الحظ في التغلب
على قوات امير الامراء محمد بن رائق فطرده من العاصمة وطرد معه الخليفة المتقى
ايضاً.
وضع البويهيون نهاية لنجاحات البريديين
المقبلة. وكان هؤلاء ينتمون في اصلهم إلى الديلم وهم احدى القبائل الجبلة التي
كانت تقطن على الساحل الجنوبي لبحر قزوين. لقد كان ابو شجاع بوية مؤسسن السلالة
التي عرفت بأسم البويهيين زعيماً متميزاً بالشجاعة لهذا الاقوام الجبلية
المتوحشة ذات النزعة
الحربية التي اعتنقت التشيع وانضمت منذ القدم إلى العلويين. وقد تمكن ابناء ابي
شجاع الثلاثة وهم علي وحسن واحمد حتى الوقت الذي فقد فيه العباسيون سلطتهم الزمنية
من الاستيلاء على كل القسم الغربي من فارس تقريباً فاصبحوا بذلك على جوار مباشر مع
العراق. وقد ظهر البويهيون في هذه الاصقاع لاول مرة في عام ٩٣٨م عندما استمد ابو عبد
الله البريدي الذي كانت تضغط عليه قوات الخليفة بقيادة بجكم بحاكم فارس البويهي
علي ابن ابي شجاع الذي ارسل لنجدته اخاه احمد فاستطاع احمد هذا بعد سلسلة من
الاشتباكات ان يتغلب على بجكم. وقام احمد بعد ذلك بابعاد البريديين تدريجياً من
عربستان وسيطر على تلك المنطقة نهائياً ولكن استيلاءات جديدة في فارس شغلته عن
الهجوم على العراق نفسه. ولم يلبث بعد ان انتهى من مشاغله هناك ان استولى على
مدينة واسط عام ٩٤٥م ومنها تحرك نحو بغداد التي لم تكن في حالة تمكنها من التصدي
للبويهيين ذلك ان انتشار المجاعة مؤخراً والمنازعات المتواصلة بين القوات التركية
وغيرها من القوات المرتزقة وكذلك بينها وبين السكان انهكت الخلافة تماماً. وكذلك
لم يبق امام الخليفة المستكفي مخرج اخر غير السماح لاحمد بدخول المدينة وتعيينه
اميراً ومنحه لقب معز الدولة.
وعلى الرغم من خضوع الخليفة التام بحيث
وافق على ان تسك العملة باسم البويهي ويذكر اسمه في الخطبة إلى جانب اسم الخليفة
فان معز الدولة لم يكن يثق بالمستكفي لانه كان قد نصب من قبل المرتزقة الاتراك
لذلك امر في السنة التالية (سنة ٩٤٦) بسمل عينيه ونصب بدلاً منه شخصاً اسمه ابو
القاسم الفضل الذي لقب بالمطيع لله .
وقد وقع الخليفة
__________________
الجديد صنيعة معز
الدولة في قبضة هذا الاخير تماماً. وأسرع معز الدولة باخبار جميع العالم الاسلامي
بكل ذلك واتخذ لنفسه لقباً فخماً هو «سلطان» الامر الذي اريد له ان يشير إلى ان
السلطة العليا في جميع الاراضي التي كانت ما تزال ضمن الخلافة قد تركزت في يده.
وهكذا لم يبق للخليفة الا لقب «خليفة رسول الله». وغالباً ما كان الخليفة يعاني من
الحاجة الملحة خصوصاً بعد ان قطع الراتب الذي خصصه له الأمير البويهي وتحتم عليه
الاكتفاء بالإيراد المتواضع الذي كانت تدره عليه بضع ضياع وضعت تحت تصرفه.
بعد ان رسخ معز الدولة قدمه في بغداد
اخذ بتوجيه سلاحه ضد جيرانه فاخضع في اول الامر حكام الموصل من الاسرة الحمدانية
العربية ثم وجه همه لاخضاع جنوب العراق والبصرة حيث كان يحكم خلفاء البريديين. وقد
ابدي البريديون للبويهيين مقاومة عنيفة وحققوا في البداية بعض النجاح غير ان احمد
بن ابي شجاع استولى على البصرة بعد ان تغلب في عام ٩٤٧م نهائياً على اخى البريديين
وكان اسمه ابو القاسم الذي هرب إلى القرامطة في الاحساء. وهكذا توحد العراق كله
تحت سلطة معز الدولة.
كان معز الدولة شأنه في ذلك شأن افراد
الاسرة البويهية الاخرين شيعياً حقيقياً ومدافعاً غيوراً عن مشاركيه في العقيدة
وحامياً لهم. وقد ازداد عدد هؤلاء في عاصمة الخلافة نفسها بشكل كبير منذ ان اصبحت
قوات الخلافة المرتزقة تضم بين صفوفها ابناء القبيلة التي ينتمي اليها البويهيون وهم
الديلم الجبليون الذين كانوا يقطنون في المناطق المتاخمة لقزوين وما كان بامكان
الوضع الصعب الذي كان الشيعة يعانونه تحت سلطة العباسيين ، الا ان يثير لدى معز
الدولة الرغبة في اظهار قوة ونفوذ التشيع.
وكان احد اجراءاته
الرئيسة في هذا الاتجاه اقراره ابتداء من عام ٩٦٢م الاحتفال في عاصمة الخلافة
علناً بذكرى الامام الحسين الذي مات في كربلاء. وقد تحتم على عاصمة العباسيين في
العهد البويهي ان تعاني في احيان كثيرة من كل كوارث النزاعات الداخلية الدموية
التي كانت تصل من وقت لاخر إلى احجام غير اعتيادية كما حصل مثلاً في ١٠٣٨ و ١٠٤٨ م
.
وهكذا لم يمنح حكم البويهيين العراق
الهدوء الضروري ولم يحيى في تلك المناطق سير الحياة السلمي الذي كان قد انقطع بسبب
تدهور احوال الخلافة العباسية خصوصاً وان سعد البويهيين انفسهم لم يعمر طويلاً فقد
برزت المنازعات حول السلطة وهي امر معتاد في الشرق
بمجرد ان توفي الاخوة الثلاث مؤسسو عز هذه الاسرة ولم تلبث دولة البويهيين الواسعة
التي كانت تمتد من بحر قزوين حتى الخليج ومن حدود خرسان حتى حدود الشام الشرقية ان
وصلت إلى حافة الفناء. ويكمن السبب الرئيس في سقوط الاسرة البويهية في تقسيم
أراضيها بين ممثلي هذه الاسرة كثيري العدد الذين رفضوا الاعتراف بعد ذلك بسلطة
اكبر افراد الاسرة عليهم واصبحوا عدداً كبيراً من الحكام المستقلين الذين لم يكن
الواحد منهم يقنع بالارض التي اصبحت من حصته بل يسعى لاستغلال كل فرصة سانحة
لتوسيع اراضيه على حساب اراضي اقربائه ، فكان ذلك
__________________
سبباً لخلافات
لانهاية لها ومنازعات داخلية دامية.
كانت منازعات البويهيين العائلية مصدراً
جديداً للكوارث التي كان يعانيها سكان العراق المنكود ذلك ان بغداد عاصمة
العباسيين الذين كانوا يعيشون فيها عيشة مهينة اصبحت على الدوام تفاحة النزاع
تنتقل ومعها البصرة من يد إلى اخرى. النقطة المضيئة الوحيدة في حياة العراق
القائمة كانت تحت حكم عضد الدولة وهو ابن اخ معز الدولة الذي حصل من الخليفة على
لقب «شاهنشاه» أي «ملك الملوك» فقد استطاع هذا الحاكم الهمام ان يوحد تحت سلطته
جميع الممتلكات البويهية تقريباً فاعطى لهذه المنطقة في فترة حكمه القصيرة التي
امتدة بين ٩٧٧ - ٩٨٣م فرصة لان تستريح من الحروب والمنازعات الداخلية المستديمة.
وقد استغل عضيد الدولة فترة الهدوء هذه لتحسين حالة العراق الذي كان الخراب قد حاق
به كلية وذلك بإحياء المدن شبه الخربة وصلاح القنوات المهملة والمطمورة. واهتم
باعتباره شيعياً بتعمير ضريح علي (ع) في النجف وضريح الحسين في كربلاء .
وقد اقتدى عضد الدولة باسلافه فقسم
ممتلكاته قبل ان يتوفى بين ابنائه الثلاثة فعرض بذلك الدولة البويهية مرة اخرى إلى
الفوضى ذلك ان ورثته لم يلبثوا ان جددوا نزاعهم الداخلي على الفور. وقد اضعفت
الحرب بين خلفاء عضد الدولة التي كان الاخ فيها يقتل اخاه والتي لم تتوقف منذ ذلك
الوقت ولمدة ثلاثة ارباع القرن تقريباً السلالة البويهية بحيث لم يواجه السلاجقة
صعوبة تذكر في انهاء وجود تلك السلالة في العراق.
لقد اطلق اسم السلاجفة وهو مشتق من اسم
القائد سلجوق بن دقاق
__________________
على قبائل الغز خرجت
من سهوب قرغيزيا وأخذت تنتقل في المنطقة الواقعة في الحوض الاسفل لنهر ياقسرت. وقد
ظهرت اول اورطات السلاجفة في خرسان عام ١٠٢٩م عندما تعرضوا لضغط السلطان محمود
الغزنوي فانتشروا في فارس كلها بل ودخلوا حتى إلى العراق مخربين جميع المواضع التي
وقعت في طريقهم. ولم تكن هذه الموجة الاولى من الاقوام التركية التي انساحت في
ممتلكات البويهيين وبسبب الكثير من الاضرار للدولة التي كانت ، حتى بدون ذلك تعاني
الكثير بسبب المنازعات والخلافات الداخلية ، الا نذيراً فقط للعاصفة الحربية التي
هبت من الشرق متمثلة بأحفاد سلجوق وهم طغرل بك وابراهيم ينال وجغري بيك.
وقد استولى هؤلاء الثلاثة في المدة
الواقعة بين عامي ١٠٣٦م و ١٠٥٦م على جميع الاقطار الممتدة من خوارزم أو خيوه حتى
حدود اسيا الصغرى مستغلين تضاؤل قوة السلطة الغزنوية في عهد خلفاء السلطان محمود
والتدهور التام الذي حل بفارس والعراق تحت حكم الاسرة البويهية التي كانت سائرة
نحو الاضمحلال. ففي ١٠٥٤ - ١٠٥٥م اصطدم طغرل بك مع امير أمراء بغداد انذاك خسرو
فيروز البويهي الذي كان يلقب بالملك الرحيم من أجل السيطرة على عربستان. وقد قام
خسرو هذا السلجوقي باصرار بقوى جديدة على الرغم من اندحاره في عدة معارك كان يجدد
النضال باصرار بقوى جديدة في كل مرة. عند ذلك قرر طغرل بك التغلب على خصمه بطريق
اخر فتوجه إلى اذربيجان واحتلها على الفور ثم هبط من هناك نحو بغداد مباشرة.
وكان قد تكوّن في عاصمة الخلافة حتى هذا
الوقت وضع ملائم جداً للسلاجقة فالخليفة القائم لم يستطيع الا ان يعتبر طغرل بك
الذي يشاركه في المعتقد حيث ينتمي الاثنان إلى المذهب السني منقذاً له من
البويهيين الشيعة.
هذا بالاضافة إلى ان الصدامات الداخلية المتواصلة والمنازعات المستديمة بين أمير
الامراء والوزراء وقادة مرتزقة الخليفة الترك ثم فقدان الهدوء والنظام في البلاد
حيث كانت عصابات البدو تقطع الطريق عند ابواب العاصمة نفسها ، شددت من رغبة
الخليفة في ان ينفض عن كاهله بسرعة نير السلاطين الشيعة على امل ان تحل اوقات افضل
في عهد الاتراك السنة. ولهذا يصبح مفهوماً الفرح الذي اصاب الخليفة المنكود وهو
يعطي موافقته لطغرل بك على دخول العاصمة ، فدخلها هذا بشكل احتفالي في ١٥ كانون
الاول عام ١٠٥٥ م. وقد تحققت امال خليفة رسول الله لدرجة ملحوظة ذلك ان طغرل بك لم
يحسن الوضع المادي للخليفة فحسب وانما حاول بوجه عام ان يزيد من احترام الناس له
ومن اجل ذلك لم يكن هو نفسه يرفض ان يقدم للخليفة التبجيل الواجب في الظاهر. وهكذا
نجده يتسلم مرسوم تعيينه بمنصب السلطان من الخليفة وهو راكع بعد ان قبل الارض بين
يديه كان هذا في الظاهر
اما في حقيقة الامر فان كل شيء ظل كالسابق طبعاً فالخليفة لم يكن يتمتع باي شكل من
اشكال السلطة التي كانت تتركز باكملها في ايدي السلجوقي الخاضع في الظاهر وذي
السطوة الكلية في حقيقة الامر.
لم يصدف طغرل بك الذي رسخت قدمه بغداد
صعوبة تذكر في التخلص من الملك الرحيم البويهي الذي القى عليه القبض وحبس في احدى
القلاع ولم تلبث السلالة البويهي الذي القى عليه القبض وحبس في احدى القلاع ولم
تلبث السلالة البويهية ان انتهت بانتهائه. وبعد ان تخلص طغرل بك من هذا العدو نام
على اكاليل الغار وظل في بغداد متبطلاً دون عمل الامر الذي قرر البساسيري وكان
وزيراً طموحاً وقائداً عسكرياً لاخر
__________________
البويهيين ان يستغله
للاستيلاء على السلطة من السلاجقة. وقد حصل في مسعاه لتحقيق هذا الهدف على اسناد
قبائل العراق العربية المحاربة والخليفة الفاطمي المستنصر كما انه استطاع ان يجذب
ابراهيم ينال اخا طغرل بك إلى جانبه ايضاً. وقد اضطر طغرل بك إلى التعجيل بمغادرة
بغداد فدخلها البساسيري الذي اعلن التشيع مذهباً رسمياً وامر بان يذكر في الخطبة
اسم الخليفة الفاطمي بدلاً من الخليفة العباسي القائم الذي ابعد عن عاصمته إلى
بلدة عانة الواقع على الفرات. ولكن انتصار البساسيري لم يدم طويلاً ذلك ان طغرل بك
تمكن بالقوات الجديدة التي وصلت من خرسان من التغلب اولاً على اخيه المتمرد ينال
الذي سقط في المعركة ثم الهجوم على البساسيري الذي قتل في ساحة المعركة ايضاً
بالقرب من الكوفة. واعلن شيوخ القبائل العربية الذين تحالفوا مع البساسيري في
السابق خضوعهم لطغرل بك الذي رسخت اقدامه بهذا الشكل في العراق. وعمد طغرل بك من
اجل ان يحكم الاحتفاظ بالسلطة في الخلافة إلى مصاهرة الخليفة حيث زوجه اخته كما
خطب لنفسه ابنة الخليفة لكن هذا العريس الطاعن في السن لم يلبث ان توفي عام ١٠٦٣ م
قبل ان يتم زفافه بقليل.
خلف طغرل بك آلب آرسلان وهو ابن اخيه
جعفر وقد سد في فترة حكمه التي استمرت تسع سنوات (١٠٦٣ ـ ١٠٧٢ م) الهدوء والنظام
اللذان استمرا ايضاً في عهد ملك شاه بن الب ارسلان إلى ان توفي ملك شاه هذا عام
١٠٩٢ م. وقد استطاع العراق خلال فترة الثلاثين سنة هذه ان يرتاح بعض الشيء من فترة
الاضطرابات السابقة بفضل جهود نظام الملك الحسن بن علي الوزير الحكيم والمجرب
لخليفتي طغرل بك المذكورين كليهما. لقد كان نشاط هذا الوزير السلجوقي يستهدف زيادة
رفاه المنطقة
وتطوير التجارة وبعث
العلوم وكان من نتائجه ان بعث العراق مجدداً لبعض الوقت وانتعشت فيه مرة اخرى
الحياة الزاخرة بالعمل. ولم يقتصر اهتمام نظام الملك على تحسين الاحوال المالية
واعادة الهدوء إلى البلاد في الداخل وحفظ الامن في طرق المواصلات بل وجه اهتمامه
ايضاً وبدرجة لاتقل عن ذلك لا نشاء طرق جديدة وتعمير القنوات القديمة وبناء
الاسواق والخانات والقوافل وما اشبه ذلك. وأنشأ في بغداد والبصرة مدارس عليا خاصة
سميت بـ «النظامية» ، تيمناً بأسمه ، بالاضافة إلى المراصد والمساجد والمستشفيات.
وقد ظلت تلك المدارس المصدر الرئيس للعلم في جميع انحاء الدولة السلجوقية
المترامية الاطراف حتى الغزو المغولي.
مات ملك شاه بعد قليل من قتله لوزيره
الممتاز بدسيسة من زوجته توركان خاتون. وقد اعاد غياب السلطان القوي الهمام ووزيره
النشط المتنور عن المسرح في وقت واحد الممتلكات السلجوقية كلها وعلى الاخص العراق
إلى الفوضى والبلبلة التي كانت تعاني منها في السابق. فلقد سعى خلفاء ملك شاه
ابتداء من اولاده لاعادة صورة الحكم البويهي بكل تفاصيلها بنزاعاتهم الداخلية
المتواصلة وصراعهم من اجل السلطة. وقد اتسعت الفتنة في هذا المرة اكثر بسبب تدخل
الاتابكة وهم العبيد الذين كانت غالبيهم تجلب من قفجاق حيث تجري تربيتهم في بلاط
الحكام السلاجقة سوية مع ابنائهم لكي يصبحوا فيما بعد اوصياء على صغار السن من
ورثة أترابهم السابقين فيحيكون الدسائس بالاشتراك مع امهات اولئك الورثة لصلح
هؤلاء الورثة الذين قاموا هم بتربيتهم .
__________________
ان الاسباب المتشابهة تؤدي إلى نتائج
متماثلة ولهذا فكما اضعفت منازعات البويهيين المستديمة تلك الاسرة قاسقطها
السلاجقة بدون صعوبة كذلك ادت المنازعات الداخلية لهؤلاء إلى تجزئة الدولة التي
اسسها طغرل بك إلى عدد لا يحصى من الممتلكات الصغيرة. ولم يبق لدى السلطان نفسه في
فترة قصيرة شيء من دولة اسلافه التي كانت يوماً دولة مترامية الاطراف وبذلك حلت
نهايتها.
لقد تميز تدهور السلالة السلجوقية في
العراق بان ظهرت مجدداً على المسرح التاريخي القبائل العربية التي لعبت دوراً
بارزاً في مصير هذه المنطقة. وقد وقفت على رأس الحركة قبيلة بني مزيد التي غادرت
صحراء وسط الجزيرة العربية واخذت تنتقل في المنطقة الممتدة بين الحلة وهيت إلى
الغرب من بغداد ، وكانت تربطها علاقات قربي بقبيلة اخرى هي قبيلة بني دبيس التي
كانت تنتشر في الوقت نفسه في المنطقة الواقعة بين واسط وشوستر. لقد اخذ شيوخ بني
مزيد منذ عهد البويهيين الاوخر في الربع الاول من القرن الحادي عشر
يشاركون بشكل فعال في صراع امير الامراء مع الدول المجاورة المعادية حتى ان فصيلاً
كبيراً نسبياً كان قد شارك ضمن البساسيري اثناء هجومه على طغرل بك في بغداد. وقد
حصل دبيس شيخ هذه القبيلة الذي كان يساند البساسيري بشكل فعال ضد السلاجقة على
العفو بعد موت حليفه واحتفظ بمكانته. اما الشيخ صدقة حفيد دبيس الذي توحدت تحت
سلطته كلتا القبيلتين ونعني بني مزيد وبني دبيس والذي تحولت مدينة الحلة ـ الواقعة
بالقرب من اطلال بابل والتي كانت مقراً له ـ في زمنه إلى مركز تجاري في غاية
الازهار فقد
__________________
شارك في الصراع الذي
جرى بين ابناء ملك شاه حول السلطة فاستطاع باتخاذه جانب هذا الابن تارة وذاك تارة
اخرى ان يرفع من منزلته بين العرب فاخضع بالتدريج مدناً عراقية مهمة من امثال هيت
وواسط بل انه اخضع البصرة نفسها في حوالي سنة ١١٠٢م عندما ارسله إلى هناك السلطان
محمد الذي كان حتى هذا الوقت قد استحوذ على السلطة وذلك لكي يقضي على التمرد الذي
قام به هناك شخص يدعى اسماعيل بن ارسلان. لقد استولى صدقة على البصرة بعد معركة
عنيفة واباحها لينهبها البدو التابعين له ثم نصب عليها والياً من قبله هو التونتاش
الذي كان مملوكاً لجده دبيس. وفي السنة التالية استولى صدقة على مدينة تكريت الواقعة
على نهر دجلة إلى الشمال من بغداد. وهكذا توحدت تحت سلطة هذا البدوي الماهر الشجاع
الجزء الاكبر من العراق وكان له جيش يضم عشرين الف فارس وما لا يقل عن ثلاثين
الفاً من المشاة. ولكن قوة هذا الشيخ المتزايدة باستمرار اثارت في النهاية خشية
السلطان محمد الذي استغل رفض صدقة تسليمه حاكم منطقة ساوة الذي كان قد لجأ إلى
الحلة فتحرك ضد تابعه الذي كان الغرور قد اخذه ووقعت بين الجيش السلطان محمد وقوات
الشيخ صدقة في عام ١١٠٨م بالقرب من بغداد معركة دامية اسفرت عن اندحار صدقة الذي
سقط قتيلاً في ساحة المعركة. كان ابن صدقة واسمه دبيس قد اسر في هذه المعركة وظل
في الأسر طيلة المدة المتبقية من حكم السلطان محمد ثم اطلق سراحه من قبل السلطان
محمود الذي خلف محمداً في عام ١١١٨م وعين والياً على الحلة. لقد كان دبيس هذا يسعى
بحكم العرف العربي ، للثأر لابيه واصبح عدواً لدوداً للسلاجقة هدف حياته الاساس
اسقاط هذه السلالة. ولم يتورع هذا الشيخ الذي كان يتحرق انتقاماً عن اتخاذ اية
وسيلة مهما كانت وكان يعمل بالقوة هنا
وبالدسيسة هناك
موججاً النزاعات المستمرة بين ابناء السلطان محمد قاتل ابيه. وقد استطاع دبيس ان
يثير ضد ابناء عدوه اللدود غضب عمهم القوي سنجر حاكم خرسان الذي نظم حملتين سار
بهما نحو الغرب لمعاقبة اولاد اخيه. ولم يقنع ذلك دبيساً الذي كان يحدوه امل عريض
بانشاء مملكة مستقلة في العراق وقد ذهبت به جرأته في هذا السبيل إلى حد انه حاول
مرتين الاستيلاء على بغداد ولكنه لم ينجح في ذل جرت المحاولة الاولى في عام ١١٢٣م
ولكن قوات الخليفة تغلبت عليه في معركة وقعت بين الطرفين بالقرب من قناة النيل.
واراد دبيس ان يثأر لهزيمته هذه فاغار بالتحالف مع المنتفقيين على البصرة ونهبها
نهباً شديداً. اما المحاولة الثانية فقد جرت في عام ١١٢٥م وكاد فيها دبيس ان يستولي
على عاصمة الخلافة بمساعدة طغرل اخي السلطان الحاكم محمود. وقد تحتم على دبيس بعد
هذا الفشل الجديد ان يغادر العراق ويتوجه نحو الشام ولكنه وقع وهو في الطريق إلى
هناك في اسر عرب من بني كلب وبيع عبداً إلى حاكم الموصل عماد الدين زنكي وقام هذا
بمساعدة دبيس على ان يشارك مرة اخرى في النزاعات والمصادمات الداخلية التي قامت
بسبب موت السلطان محمود. وعلى الرغم من ان دبيساً حاول ان يستغل فترة الاضطراب هذه
بما هو معروف عنه من فطنة ومقدرة لكنه لم يستطيع ان يحقق أي نجاح بل وقع في
النهاية بيد السلطان الجديد مسعود الذي امر في عام ١١٣٥م بقتل هذا العدو العنيد
للسلاجقة. لقد كان دبيس هذا شخصية متميزة بين المعاصريه إلى حد ان الشاعر الحريري
تغنى به في قصائده كبطل عربي حقيقي .
__________________
اما ابن دبيس وكان اسمه صدقة فقد اتفق
مع السلطان مسعود بك وتزويج من ابنته ولكنه لم يعمر طويلاً ذلك انه لم يلبث ان قتل
بعد سنتين من موت ابيه أي في عام ١١٣٧ م في قتال خاضه لصالح السلطان مسعود ضد قوات
والي فارس وعربستان الثائر على السلاجقة. وكان اخر ممثل لهذه السلالة العربية التي
لم تعمر طويلاً هو علي بن صدقة الذي ناضل بهمة ضد السلطان مسعود من اجل ولاية
الحلة حتى انه عمد إلى حصار بغداد كما فعل جده دبيس من قبل إلى ان امر السلطان
الذي اتعبه الصراع بدس السم له فمات في عام ١١٥٠م ثم قام الخليفة المستجد في عام
١١٥٢م بالقضاء على اخر بقايا قوة قبيلة بني مزيد عندما تغلب عليها بالتحالف مع
القبائل الاخرى وباسناد من اسطول البصرة. لقد بقي في ارض المعركة حسب شهادة
المؤرخين ما يقرب الاربعة آلاف من بني مزيد في حين غادر الباقون العراق إلى الابد
وتفرقوا في مختلف الاقليم المجاورة.
وصل تدهور السلالة السلجوقية حتى هذا
الوقت ذروته لدرجة ان الخلفاء العباسيين المستضعفين اخذوا يفكرون باعادة سلطتهم
الزمنية. لقد اخذ هؤلاء الخلفاء الذين كان السلاجقة يحيطونهم بالابهة والذين كانوا
يتمتعون بحقوق معينة يحاولون ان لا يدعوا اية فرصة تمر دون ان يسعوا لاستغلالها
لتوسيع حقوقهم. وهكذا مكنت النزاعات الداخلية التي جرت بين خلفاء السلطان محمد ، الخليفة
المسترشد الذي عاصر دبيس الاسطوري من ان يستجمع قواه بحيث استطاع ان يساعد
السلاجقة في صد هجوم دبيس على بغداد. وقد قللت هذه المساعدة التي قدمها الخليفة من
تبعيته للسلطان. وتدخل الخليفة مرة اخرى في النزاع من اجل السلطة وكان تدخله في
هذه المرة لصالح مسعود الذي انتصر فحصل منه الخليفة في عام ١١٣٢ م على اعتراف
باستقلاله في بغداد وضواحيها.
وقعت مهمة بعث السلطة الزمنية للعباسين
بعد ذلك على عاتق خلفاء المسترشد فقد استطاع المكتفي ان يكسر شوكة بني مزيد
نهائياً وان يلحق بممتلكاته عام ١١٥٢ م الحلة وواسط ثم خضع لنفوذه جنوب العراق
باجمعه. اما الخليفة الناصر (١١٨٠ - ١٢٢٥ م) فقد شعر باستقلاله عن السلاجقة إلى
درجة انه امر في عام ١١٨٨ م بتدمير قصرهم في بغداد. ولم يقنع هذا الخليفة الذي كان
يتميز بقوة العزم والاصرار بالعراق وحده بل كان يسعى لان يوسع ممتلكاته على حساب
ميديا المجاورة غير انه اصطدم في مساعيه لتحقيق هذا الهدف بأمير خوارزم (خيوة) القوي
محمد بن تكش. لقد كان هذا الاخير مستعداً لان يمنح الخليفة السيطرة على العراق كل
ما وراء النهر وهو امر رفضه الناصر بكل إباء فبرهن بذلك على قصر نظره لان محمد بن
تكش اعلن مستنداً إلى فتوى اصدرها فقهاء خيوة عن تجريد العباسيين من الخلافة ونقل
حقوقها إلى العلويين وعين احد احفاد علي (ع) وهو علاء الملك من ترمذ خليفة بدلاً
من الناصر. وقد تحرك خوارزم شاه في ١٢١٧م على رأس جيش قوي نحو عاصمة العباسيين من
اجل ان ينفذ قراره هذا ووصل إلى همدان لكن سدوداً من الثلوج اغلقت كل الممرات
الجبلية المؤدية إلى بغداد فاجبرته على العودة من حيث اتى.
توجه الخليفة الناصر الذي لم يعد يكتفي
بالاعتماد على قواته وحدها إلى جنكيز خان الذي كان قد اتم السيطرة على شمال الصين
طلباً للمساعدة ضد خوارزم شاه. وقد سارع «سوط الله» الجديد هذا الذي كان منذ فترة
طويلة للانقضاض على جاره القوي إلى الاستجابة فاقتحم المغول حدود خوارزم وتحولت في
برهة وجيزة من بلد مزدهر ومتحضر إلى صحراء قاحلة.
وبعد ذلك انقضت الاقوام المغولية
كالتيار الجارف ماحقة كل شيء يقع في طريقها ، على فارس ومن ثم على ما بين النهرين
واخيراً حل في عام ١٢٥٨ م دور بغداد وكان يشغل منصب الخليفة بها انذاك ابو احمد
عبد الله المستعصم بالله وهو الخليفة السابع والثلاثون والاخير ، الذي يقول عنه
المؤرخ الدكتور G.WeII
في كتابه المعروف : «Geschichte der chalifen»
انه «كان يتصف بالنقائص ونقاط الضعف التي كان يتصف بها الثلاثة الذين سبقوه ولكن
دون ان يتميز بالفضائل التي كانوا يتميزون بها». ان شخصاً كهذا لم يكن يستطيع
بالطبع ان يهئ الرد الواجب للمغول وهكذا فعندما احاطت جحافلهم التي كان يقودها
هولاكو خان حفيد جنكيز خان بعاصمة العباسيين لم يجد افضل من الاستسلام لرحمة
المنتصرين. وقد امر ذلك المغولي الذي لا يعرف الرحمة باعدام الخليفة مع والديه
وجميع اقاربه من البيت العباسي بعد ان اخبر المستعصم هولاكو خان بموضع الكنوز التي
كان الخليفة الناصر قد جمعها في مدة حكمه التي دامت ستاً واربعين سنة. ولم ينج من
الموت من العباسيين الا ابن الخليفة الظاهر الذي اعترف به الحاكم المملوكي في مصر
بيبرس في عام ١٢٦٠ م خليفة باسم المستنصر. وظلت السلالة العباسية الجديدة منذ ذلك
الوقت وحتى احتلال مصر عام ١٥١٧ من قبل السلطان العثماني سليم تستخدم لاضفاء
الشرعية على سلطة ممالك مصر.
ولم يرحم هولاكو بغداد نفسها فقد ابيحت
للجند لكي ينهبوها ومن ثم احرقت من جهات مختلفة فاتمت النار ما كان المغول قد
بدأوه من
__________________
تدمير لعاصمة الخلافة
الفخمة ذلك انها لم تقض على اغلب منجزات العصر العباسي العظيمة بما فيها مراقد
الخلفاء فحسب وانما اتت على كل ما تجمع هناك من كنوز العلم والفن. لقد كان تنكيل
اولئك الرحل المتوحشين بـ «مدينة السلام» كبيراً إلى درجة انها لم تستطيع منذ ذلك
الوقت ان تستعيد عظمتها السابقة. اما عن مدن العراق الاخرى فقد جرى الاستيلاء على
مدينة الحلة اثناء حصار بغداد ثم لم تلبث ان سقطت بعدها مباشرة كل من الكوفة
والبصرة. اما واسط فكانت اخر مدينة جرى الاستيلاء عليها بالقوة. وقد ظل المغول في
اثناء ذلك مخلصين لانفسهم فقد قضوا على اخر اثار الرفاهية التي صمدت بعد فترة
الاضطراب السابقة ، فحولوا المنطقة إلى صحراء قاحلة بشكل تام.
تحركت جحافل المغول تحو الغرب بعد ان
محقت العراق وواصلت زحفها إلى ان التقت في بلاد الشام بمماليك مصر الذين تمكنوا من
ايقاف زحف الاقوام المغولية فاصبحت الشام بذلك حداً للتوسع المغولي نحو الغرب.
بهذا الشكل تكونت سلطة هولاكو مملكة
واسعة تمتد من الهند حتى البحر المتوسط وكان يحكمها في البداية باعتباره تابعاً
للخان العظيم ولكنه اصبح - منذ ان تسلم من ذلك الخان في ١٢٦٣ م لقب «ايلخان» أي
زعيم الشعب -، حاكماً تام السلطة لجميع الاراضي الواقعة إلى الغرب من أو كسوس .
وقد كان ذلك بداية لضعف قوة خلفاء هولاكو أو الايلخانيين فقد تركوا الان لانفسهم
ولم تعد تردهم التعزيزات من اواسط اسيا علماً بان الحصول على قوات جديدة من
الاقطار التي اخضعوها كانت قضية
__________________
اكثر من صعبة بسبب
الضعف الشديد الذي كانت هذه الاقطار تعانيه نتيجة الاضطرابات السابقة وبالاخص
نتيجة للاجتياح المغولي نفسه ، هذا بالاضافة إلى ان نظام الحكم نفسه لم يكن يساعد
على توحيد ممتلكات الايلخانيين ذلك انه كان يقضي بان يترك لزعماء القبائل التصرف
التام في المناطق المختلفة شرط ان يدفعوا الجزية ويقدموا المساعدة في حالة قيام
الحرب. صحيح ان الايلخانيين ينتخبون البيكات أو القبائل في اجتماعات عامة ويلتزمون
بان يكون هؤلاء من الايلخانيين حتماً لكن ذلك لم يكن يلغي امكانية الصراع بين مختلف
احفاد مغول فارس هؤلاء. وبسبب من هذه الظروف مجتمعة كان من الطبيعي ان تبدأ
المنازعات العائلية منذ عهد خلفاء خولاكو فلم يكد يمض نصف قرن على وفاة الايلخان
الاول حتى بدأت القوى الانفصالية بالظهور في مناطق منفردة من دولته الواسعة.
ومع ذلك لم يعترض مجرى الحياة السلمي في
ممتلكات الايلخانيين لهزات قوية ومستمرة حتى نهاية الربع الاول من القرن عشر. ولم
نلاحظ طيلة هذا الوقت تغييرات جوهرية نحو الاحسن في وضع العراق ذلك ان الايلخانات
الذي لم يتعودوا على المناخ الحار لم يكونوا يقضون في بغداد سوى فصل الشتاء اما في
اشهر الصيف فينتقلون إلى تبريز ومراغا وفي الفترة المتأخرة كانوا يذهبون إلى
السلطانية الواقعة بين قزوين وزنجان. ولهذا فان العراق في القسم الاغلب من السنة
يحكم من قبل الولاة المغول ومساعديهم الفرس. وكان جل اهتمام هؤلاء يقتصر على
انتظام ورود الأتاوات واداء الالتزامات المختلفة.
تغير الوضع بشكل حاد بعد موت الايلخان
أبي سعيد في عام ١٢٣٥ م فقد سادت الاضطرابات السابقة التي قوضت قوة السلالتين
البويهية والسلجوقية ، في دولة الايلخانيين ايضاً بقوة جديدة وادت خلال الخمسين
سنة التالية إلى ان
ينقسم ارث هولاكو إلى كثير من الممتلكات الصغيرة المستقلة. وقد تحول العراق
وعاصمته بغداد في اثناء هذا الاضطراب الذي وافق انهيار دولة الايلخانين مرة اخرى
إلى موضوع للنزاع بين مختلف المطالبين بالعرش ، عام ١٣٣٦ م دخل احد اقرباء ابي
سعيد ويدعى موسى في صراع عنيف مع حسن بوزورج أي حسن الكبير زعيم قبيلة جلائر
المغولية القوية ووالي الايلخان في اسيا الصغرى .
لقد انتصر حسن بوزورج على موسى ولكنه لم يتمكن من التمتع بثمار انتصاره على الفور
ذلك رئيساً لقبيلة لاتقل عن قبيلته قوة هي قبيلة سلدوز وقد قام بين السميين صراع
عنيف انتهى بانتصار كجك حسن الذي اصبحت اذربيجان من حصته بموجب معاهدة ١٣٤١ م في
حين حصل حسن بوزورج على العراق ومعه بغداد.
وهكذا رسخت في عاصمة الخلافة
سلطة سلالة حسن بوزورج الذين اطلق عليهم اسم الجلائريين نسبة إلى اسم قبيلته وكذلك
اسم «الايلكانيين» علماً بان هذا اللقب يعتبر ادنى بالمقارنة مع لقب «ايلخان». وقد
استطاع اويس ابن مؤسس الاسرة الجلائرية وخلفه ان يوسع ممتلكاته بشكل ملحوظ ليس فقط
باتجاه الشمال بالاستيلاء على الموصل وديار بكر بل وباتجاه الشرق ايضاً حيث اخضع
اذربيجان واسرع بجعل عاصمتها تبريز مقراً له تاركاً حكم العراق لاحد ولاته. وقد
اضظر السلطان حسين الذي خلف اويس لان يدخل في صراع مع تركمان قبيلة قرة قونيلوا
__________________
(الخروف الاسود) الذين
كانوا قد استولوا في نهاية القرن الثالث عشر على جزء من ارمينيا والبلاد الواقع
إلى جنوب من بحيرة وان وكانوا يسعون للاستيلاء على العراق. غير ان تركمان القرة
قونيلو تحتم عليهم ان يتخلوا مؤقتاً عن محاولة السيطرة على العراق نظراً لان الجلائري
كان اقوى منهم.
ان الموجة المغولية
الجديدة والتي اجتاحت العراق متمثلة بجحافل تيمور لنك أو تامرلاين كما يلفظه
الاوربيون اجبرت الايلخان احمد بن اويس على الهرب إلى المماليك في مصر فادى ذلك
إلى استسلام عاصمة الخلفاء العباسيين في عام ١٣٩٣ م إلى زعيم المغول الاعرج دون
مقاومة. وفي السنة نفسها اخضع تيمورلنك انحاء العراق الاخرى باجمعها. غير انه ما
ان عاد إلى سمرقند حتى اسرع الجلائري بالعودة إلى بغداد فدخلها مرة اخرى بمساعدة
بدو الشام وزعيم تركمان القرة قونيلو قرة يوسف الذي اعترف بتبعيته لسلاطين مصر.
ولكن تيمور لم يمنح احمد بن اويس اكثر من اربع سنوات من الهدوء فقد تحرك مرة اخرى
نحو بغداد واجبر الاليكان وحليفه قره يوسف على الهرب فلجأ الاثنان إلى بايزيد
سلطان الاتراك العثمانية الذين كان شأنهم حتى ذلك الوقت قد اخذ بالارتفاع. وقد ظهر
ان الوالي الذي تركه احمد بن اويس لحكم بغداد شخص يتميز بشجاعة فائقة لذا فانه رفض
ان يسمح للفصيل الذي ارسله تيمور لاعادة احتلال عاصمة العباسيين السابقة بدخول
المدينة. وقد اغضبت هذه الفلتة الجريئة زعيم المغول المخيف فقدم بنفسه إلى بغداد
وظهر تحت اسوارها
__________________
مع قواته الاساسية
لكن ذلك لم يرهب الوالي الشجاع فواصل صد هجمات العدو لمدة اربعين يوماً إلى ان
استطاع تيمور في النهاية دخول المدينة عنوة في ٢٢ تموز عام ١٤٠١ م. وقد خرب المغول
المدينة تخريباً شديداً عقاباً لها على المقاومة فقد امر قائدهم بصنع اهرام كبيرة
من الجماجم البشرية وقد بلغ عدد الذين قتلوا من سكانها لهذا الغرض مايقرب من
التسعين الف شخص. وفي الوقت نفسه تميز دخول ابي بكر ميرزا حفيد تيمور إلى البصرة
وكان قد عين لادارتها بقسوة لاتقل عن قسوة جده الاعرج.
ولم يكل الاليكان احمد بن اويس بل ظل
وفاة تيمور التي حلت في عام ١٤٠٥ م لكي يستعيد بغداد التي خربها المغول. وبعد ان
نجح في ذلك تمكن من ان يستعيد بالقوة من ابي بكر ميرزا جنوب العراق باجمعه وذلك
بمساعدة حليفة المخلص قره يوسف زعيم تركمان قونيلو. غير ان العداء لم يلبث مع ذلك
ان نشب بين هذين الصديقين الحميمين من اجل الاستيلاء على اذربيجان وقد اندحر احمد
بن اويس عندما حاول ان يطرد قره يوسف من المنطقة المتنازع عليها بالقوة ، على يد
هذا الاخير فاعدم مع ابنائه. وقد فتح موت الجلائري لقره يوسف الطريق إلى بغداد
التي كان يحكمها ابن اخ احمد واسمه الشاه ولد. وقد استسلم هذا للزعيم التركماني
بعد معركة حامية دارت بين الاثنين في ١٤١١ م. اما جنوب العراق التي كانت تحكمه في
البداية ارملة الشاه ولد ومن ثم حكمه ابناء زوجها فانه لم يخضع لاي من ابناء قره
يوسف الا في عام ١٤٣١ م عندما سقط اخر الجلائريين قتيلاً في اشتباك جرى بينه وبين
تركمان القرة قونيلو.
لقد كان جهان شاه ، وهو اكثر ابناء قره
يوسف شهرة ، ماهراً في استغلال المنازعات والخلافات القائمة بين خلفاء تيمور
لتوسيع ارث ابيه
واخضاع جميع الجزء
الغربي من فارس تقريباً لسلطته. وقد ادى انشغاله بهذا التوسع إلى ان يهمل جاراً
خطراً كان يتمثل بقبيلة تركمانية اخرى هي أق قونيلو (الخروف الابيض) التي كانت قد
خرجت من تركستان في نفس الوقت الذي خرج فيه اقرباؤها من القره قونيلو واستقر على
ضفتي الفرات في المنطقة الواقعة بين آمد وسيواس. وكانت العلاقات بين القبيلتين
تتوتر اكثر فاكثر بمقدار ما كانت قبيلة القره قونيلو تتنامى إلى ان وصلت إلى مرحلة
العداء الصريح. وقد استمرت الصراع بين الاثنين سجالاً لفترة طويلة إلى ان انهي
لصالح القرة قونيلو عندما اندحر زعيم الاق قونيلو واسمه ايلك
وقتل في معركة حاسمة وقعت بين الطرفين عام ١٤٣٥ م. لكن حفيد ايلك هذا واسمه اوزون
حسن أو حسن الطويل استطاع في ١٤٤٩ م ان يوحد تحت سلطته جميع قبائل الاق قونيلو
المتفرقة فوضع بذلك بداية لارتفاع شأن قبيلته التي لم تلعب حتى ذلك الوقت أي دور
تاريخي.
لقد استقل اوزون حسن انشغال جهان شاه بن
قره يوسف في الشرق باستعادة ممتلكات التيموريين وبدأ يستجمع قواه بالتدريج إلى ان
زادت قوته إلى درجة التي اصبح فيها مؤهلاً للصراع المكشوف مع جهان شاه. وقد اندحر
هذا الاخير في نهاية الامر وقتل في معركة حاسمة جرت بينه وبين خصمه المحظوظ مما
ادى إلى ان تنتقل جميع ممتلكات القره قونيلو الواسعة إلى اوزون حسن الواحدة بعد
الاخرة. وكان العراق من اوائل المناطق التي خضعت للآق قونيلو. ولم تكن هذه المنطقة
التي عانت الكثي لتأمل عن طريق استبدال صاحبها على هذا النحو في تحسين احوالها ذلك
ان اياً من السلالتين التركمانيتين القره قونيلو والاق قونيلو ، مع كل الشجاعة
__________________
والصفات الايجابية
الاخرى التي تميز بها ممثلون منفردون لها ، لم تنجب أي حاكم يمتلك موهبة الاداري
الحقيقي المؤهل لاقامة نظام حكومي ارسخ واشاعة النظام والهدوء الواجب في البلد.
لم يكن عهد الاق قونيلو راسخاً ولم
يستمر طويلاً شأنه في ذلك شأن سلالة اقربائهم القره قونيلو الذين قام هذا العهد
على انتفاض دولتهم. وقد بلغ اوزون حسن بقواه ولم يتبين القوة الحقيقية للسلطان
العثماني محمد الثاني الفاتح فدخل معه في صراع من اجل السيطرة على قرمانيا. فكان
ذلك خطاً مشؤوماً ارتكبه اوزون حسن ذلك ان الاندحار الذي اصابه في ترجين عام ١٤٧٢م
على يد القوات العثمانية كان في الوقت نفسه انهياراً لقوته السياسية.
وبعد موت اوزون حسن عام ١٤٧٨م بدأ
النزاع الداخلي المعتاد بين ورثته الذين كان كل منهم يسعى لان يستحوذ على العرش
فكانوا بذلك يقوضون اكثر فاكثر دعائم الدولة التي اسسها اوزون حسن. وهكذا تحول
العراق مرة اخرى إلى مسرح لاشتباكات دموية كانت السلطة ، في هذه المنطقة التي شاع
فيها الخراب في النهاية خلالها ، تنتقل من يد إلى يد اخرى إلى ان انتهت هذه الفوضى
على يد جارٍ قوي جديد .
لقد استطاعت فارس المجاورة حتى هذا
الوقت ان تتوحد على يد اسماعيل شاه مؤسس السلالة الصفوية. وكان حاكم ايران الجديد
هذا حفيداً مباشراً من ناحية الام لاوزون حسن الامر الذي وفر له حجة للتدخل في
الصراع الذي نشب بين خلف هذا الاخير وقد استطاع الشاه اسماعيل ان يتغلب على اثنين
من احفاد خال ابيه بالتعاقب هما الوند ومراد فاحتل
__________________
جنوب العراق اولاً
ومن ثم دخلت قواته إلى بغداد في عام ١٥٠٨ م.
دفعت السيطرة على العراق الفرس إلى
الاصطدام بالعثمانيين الذين جعلهم توسيع ممتلكاتهم باستمرار لهذا القطر من الشمال
والجنوب الغربي ولهذا فان الفصول التالية من هذا الكتاب ستكون مكرسة لصفوف الصراع
المستديم بين الدولة العثمانية وفارس من اجل السيطرة على العراق ، وكذلك لتاريخ
ترسيخ السيطرة العثمانية في هذا القطر.
الفصل
السابع
تميز ظهور الشاه اسماعيل مؤسس السلالة
الصفوية على المسرح التاريخي بانبعاث فارس التي كانت قد جردت ، منذ سقوط
الساسانيين من وجودها ونظامها السياسي القومي ذلك ان اياً من السلالات التي قامت
هناك لم تستطع ان توحد اجزاء ايران المنفصلة في دولة موحدة واحدة.
وقد حقق الشاه اسماعيل ذلك فاستطاعت
فارس خلال فترة حكمه ان تحتل ، بين دول العالم في القرن السادس عشر الميلادي ، مكانها
المحدود الذي احتفظت به حتى وقتنا الحالي .
ينتمي هذا العاهل الذي أمن لفارس كياناً
سياسياً راسخاً إلى احفاد الشيخ اسحاق الملقب بصفي الدين والذي عاش في النصف الاول
من القرن الرابع عشر في مدينة اردبيل في اقليم اذربيجان وارتقى إلى منزلة الاولياء
بسبب حياة الصلاح والتقى التي كان يحياها بحيث اصبح قبره الموجود في المسجد القائم
هناك موضوعاً للتقديس. وكان اتباع ومريدو هذا الشيخ ينتمون إلى سبع قبائل تركمانية
كانت قد استقرت منذ نهاية القرن الثالث عشر في ضواحي اردبيل والفت تحت رئاسة احفاد
صفي الدين شيئاً ما اشبه بالاخوة الدينية عرفت باسم الطريقة الصفوية أو
__________________
الدراويش المتصوفين .
لقد حافظت هذه الطريقة في عهد الثلاثة
الذين خلفوا الشيخ اسحق علي طابعها الديني اذ وصل اولئك الثلاثة احياة التقى وصلاح
دون ان يضعوا نصب اعينهم اهدافاً سياسية ، ولم تتخذ الطريقة شكل المنظمة العسكرية
الا في عهد الشيخ جنيد بن حفيد صفي الدين. لقد استند جنيد هذا على مساعدة زعيم
الاق قونيلو القوي اوزون حسن وكان جنيد قد تزوج من اخته ، ففكر في توسيع ممتلكاته
على حساب امراء شيروان المجاورة له غير ان هذه المحاولة كلفتة حياته. واصاب المصير
نفسه ابنه الشيخ حيدر لكن الشيخ اسماعيل الذي خلف هذا الاخير كان اوفر حظاً من
ابيه وجده في طموحه إلى السلطة الزمنية.
لقد استطاع اسماعيل ان يرتقي ذروة القوة
والمجد بالاستناد على جيش الجنود ـ الدراويش الذي اسسه الشيخ جنيد والذي كان يعرف
باسم قزلباش أي ذوي الرؤوس الحمراء نسبة إلى غطاء الرأس الذي كانوا يستعملونه وكان
عبارة عن عمامة بيضاء ملفوفة حول قلنسوة حمراء. وقد ساعد اضمحلال الدولة الواسعة
التي اسسها اوزون حسن وكان قد بدأ حوالي ذلك الوقت ، إلى درجة كبيرة على ان يحقق
اسماعيل خططه الطموحة بهذا الشكل الباهر. فهو لم يلبث ان بدأ يتدخل في المنازعات
التي قامت بين ذرية مؤسس سلطة الاق قوينلو مدفوعاً إلى ذلك بطمعه في وراثة اوزون
حسن الذي كان جداً مباشراً له من ناحية الام من جهة ، ومن الجهة الاخرى رغبته في
الثأر لوالده الذي قتل في اشتباك مع خان شيروان نتيجة الخيانة صهره يعقوب مرزا ابن
اوزون حسن. وبعد ان انتقم اسماعيل
__________________
من امير شيروان اولاً
وذلك بتحطيم جيشه تحطيماً تاماً والاستيلاء على ممتلكاته وجه سلاحه المنتصر في
العام التالي أي في ١٥٠١ م ضد حفيد خال ابيه الوند مرزا فانتصر عليه بالقرب من
نخجوان انتصاراً حاسماً واستولى منه على تبريز التي كانت عاصمه الاق قوينلو. اما
اخر افراد ممثلي هذه السلالة وهو السلطان مراد فقد هزم في ١٥٠٢ م بالقرب من همدان
فهرب إلى بغداد حيث تركه الزعيم الصفوي يعيش بسلام لفتره من الوقت. وقد اتخذ الشيخ
اسماعيل بعد ان رسخت قدماه في تبريز لقب (شاه) فوضع بذلك بداية للسلالة الصفوية
التي سميت بهذا الاسم نسبة للشيخ الاردبيلي صفي الدين .
وقد رافق النجاح والحظ العاهل الجديد
فاستطاع في فترة قصيرة ان يوحد تحت سلطته القسم الاغلب من مناطق واقاليم فارس
الحالية ونعني كرمنشاه بما فيها همدان واذربيجان واقليم الجبال وكرمان وفارس.
وهكذا اقيم بناء الدولة الفارسية الجديدة الذي عمد الشاه اسماعيل من اجل ان يعطيه
القوة والرسخ المطلوبين إلى استخدام التشيع بمثابة الاسمنت اللاصق بعد رفعه إلى
مرتبة المذهب الرسمي فاصبح منذ ذلك الوقت الدين القوي لفارس. وكان سير التاريخ في
السابق كله يمهد السبيل لنجاح التشيع نهائياً في فارس ذلك ان حزب انصار العلويين
وجد في الفرس القاطنين في العراق منذ القرن الاول بعد ظهور الاسلام سنداً له. ثم
استطاع التشيع في عهد العباسيين اثناء الصراع القومي بين العرب والفرس ان يمد
جذوره عميقاً في فارس نفسها. يضاف إلى كل ذلك ان الشيخ صفي الدين مؤسس السلالة
الصفوية كان يؤكد ان نسبه يتحدر
__________________
من الامام موسى
الكاظم
الامام السابع في تسلسل ذرية علي (ع) رابع الخلفاء الراشدين ولهذا لم يكن اسماعيل
وحده من الانصار المتحمسين للعلويين والاتباع المتعصبين للتشيع وانما كان القزلباش
يشاركون في ذلك ايضاً.
لقد أبقى مذهب فارس الرسمي الجديد على
موضوعات الاسلام الاساسية ولكن كان يختلف عن السنة بالتدريج الاوليّ في تعظيم
الائمة الاثني عشر ونعني علياً وابنيه الحسن والحسين واحفاد الحسين المباشرين لحد
الحفيد التاسع ، وكذلك في انكار شرعية الخلفاء الثلاثة الاوئل ابي بكر وعمر وعثمان
وذلك لان الشيعة يقولون بحق علي في ان يكون اول من يخلف رسول الله (ص). لقد اعفت
هذه الموضوعة الاخيرة الفرس على الرغم من انتمائهم للاسلام من الاقرار بالسلطة
الدينية عن رؤساء الاسلام الغرباء عنهم ، سواء كانوا الخلفاء العباسيين العرب أو
من حل محلهم من أي قومية كانت.
ان تعظيم العلويين الذي لم يرفع إلى
مرتبة المذهب الرسمي للدولة فحسب بل رفع ايضاً إلى مرتبة الدين القومي للفرس ، ابرز
إلى المركز الاول قضية ضم العراق إلى الدولة الفارسية لان اهم مقدسات الشيعة
واماكن زيارتهم تتواجد فيه وهي : النجف وفيها مرقد علي نفسه وكربلاء التي يقوم
فيها ضريح ابنه الحسين وبلدة سامراء الواقعة على دجلة والتي تذكر المآثر ان الامام
المهدي وهو الامام الثاني عشر قد غاب فيها وانه يمكن ان يظهر مرة اخرى عند نهاية
العالم ، واخيراً الكاظمية بمسجدها
__________________
الذي اقيم عند رفات
الامام موسى الكاظم جد
الشاه اسماعيل. لقد تأتت ضرورة الاستيلاء على العراق في رأي الشاه من حقيقة ان هذه
المنطقة كانت في عهد الساسانيين تحت سيطرة الدولة العباسية طيلة اربعة قرون. ولهذا
اصبح الاستيلاء على بغداد التي تقع بالغرب منها مدن الشيعة المقدسة المذكورة اعلاه
بالنسبة إلى الشاه اسماعيل قضية تحتمها العزة القومية والضرورة الدينية. لكن
الاهتمام بتقوية سلطته في الدولة الجديدة وضرورة المحافظة على امن حدودها من خطر
جيرانها كانت تجذب الشاه باستمرار عن تحقيق هذه المهمة ولهذا فانه لم يتمكن من طرد
السلطان مراد آخر ذرية اوزون حسن من بغداد نهائياً الا في ١٥٠٨ م فعين في عاصمة
العباسيين السابقة احد طواشييه والياً فارسياً هناك ولقبه بـ (خليفة الخلفاء) .
وفي حوالي ذلك الوقت استولى الشاه
اسماعيل على اجزاء من ارمينيا وعلى جميع ما بين النهرين تقريباً فاستطاع بذلك ان
يقدم حدود فارس الغربية بعيداً في اعماق اسيا الصغرى. وادى ذلك بالاضافة إلى تعاظم
قوة الشاه ولاسيما بعد انتصاره على الازيك جيرانه من ناحية الشرق واستيلائه منهم
على خرسان ، إلى ان تصطدم الدولة الفارسية بدولة اسلامية
__________________
اخرى كانت قد اخذت
بالنهوض والتوسع في الجزء الغربي من آسيا الصغرى في نفس الوقت الذي قامت فيه
الدولة الفارسية ونعني امبراطورية العصمانيين.
كان الاتراك العصمانيون الذين تحول
اسمهم عند الكتاب الاوروبيين بسبب خطئهم إلى عثمانيين اقرباء للسلاجقة ينتمون
مثلهم إلى الغز ، وهم من قبيلة سليمان شاه الذي اضطر تحت ضغط المغولية إلى الخروج
من خراسان في بداية القرن الثالث عشر واستقر في ضواحي اذربيجان. ولم يظهر
العثمانيون على مسرح التاريخ الاّ بعد سقوط دولة سلاجفة اسيا الصغرى التي كانت قد
ترسخت في قونية في نهاية القرن الحادي عشر واستطاعت ان تمد سلطانها إلى اغلب اجزاء
اسيا الصغرى ثم سقطت تحت ضربات المغول في نهاية القرن الثالث عشر وقد منح علاء
الدين الثالث اخر سلاطين تلك الدولة السلجوقية لارطغرل بن سليمان شاه الذي سبق
ذكره منطقة اسكي شهر اقطاعاً له كمكافأة على مشاركته في حملات السلطان العسكري ، ولهذا
يمكن اعتبار منطقة اسكي شهر هذه مهداً للقوة العثمانية .
وقد ازدادت الممتلكات الاقطاعية لهذه الاسرة في عهد عثمان بن ارطغرل (توفي في ١٣٢٥)
الذي سمي الاتراك بالعثمانيين نسبة اليه وفي عهد حفيد ارطغرل اورخان (توفي في
١٣٥٩) وذلك بالاستيلاء علي بروسة واسنيك (نيقيا) واسمد (نيقوميديا) ، لكن الاندحار
الذي اصاب السلطان بايزيد الاول على يد تيمورلنك عند انقرة في ١٤٠٢ م اعاق تنامي
الامبراطورية العثمانية موقتاً غير ان ارتفاع شان العثمانيين في عهد خلفاء هذا
الاخير جرى بوتائر سريعة حتى ان السلطان محمد الثاني الفاتح وهو
__________________
ابن حفيد بايزيد
استولى في ١٤٣٥ م على القسطنطينية من بيزنطه ، فاصبحت منذ ذلك الوقت عاصمة
الامبراطولية العثمانية ومقراً دائماً للسلاطين الاتراك.
قام السلطان محمد الثاني بالاضافة إلى
المنطقة الواسعة التي استولى عليها في اوروبا بتوسيع الممتلكات العثمانية لدرجة
ملحوظة في اسيا الصغرى حيث اصطدم بخصم خطر هو اوزون حسن امير الاق قوينلو. لقد كان
اوزون حسن هذا عوداً حقيقياً للعثمانيين ذلك ان ارتفاع شأن سلالة الاق قوينلو كان
نتيجة لتحالفها مع تيمور لنك الذي تغلب على بايزيد الاول ولان تلك السلالة اقامت
مجدها على انقاض دولة القره قوينلو التي كانت تلتزم جانب العثمانيين على الدوام.
لقد حدث الصدام بسبب قرمانياً التي الحقها السلطان بتملكاته فاراد اوزون حسن ان
ينازع عليها ووجه لهذا الغرض جيشاً دخل حدود المنطقة المتنازعة عليها. لكن قوات
اوزون حسن اصيبت باندحار شنيع في معركة حاسمة وقعت في ترجين عام ١٤٧٢ م ، وهكذا
استطاع السلطان محمد الثاني ان يكسر شوكة اخطر اعداد العثمانيين انذاك في مقدمة
اسيا. توفق توسع العثمانيين في عهد بن محمد الفاتح وخليفة السلطان بايزيد الثاني
لفترة استمرت احدى وثلاثين سنة استطاع جيران الامبراطورية العثمانية خلالها ان
يتنفسوا الصعداء مستغلين انشغال السلطان عنهم في نزاعه الطويل مع اخيه جم. وكان
هذا النزاع وبدرجة لاتقل عن ذلك نزعة بايزيد السلمية سببين اعاقا الدولة العثمانية
عن المشاركة في اقتسام ممتلكات اوزون حسن فمنحا بذلك الشاه اسماعيل امكانية ان
يصبح خليفة لدولة الاق قوينلو مكونا لنفسه على انقاض هذه الاخيرة دولة لا تقل عنها
قوة. لقد قام بايزيد الثاني حقاً بمحاولة لان يؤمن لنفسه سلميا الحق في ارث اوزون
حسن وذلك عن
طريق تزويج ابنته
لحفيد هذا الاخير احمد مرزا الذي كان بدوره يبحث لدى السلطان عن المساعدة للحصول
على العرش ولكن صهر بايزيد هذا لم يلبث ان توفي في صراع مع ابناء عمه.
بدأ السلطان سليم الاول الذي خلف اباه
في عام ١٥١٢ م نشاطه السياسي بشن الحرب على فارس لانه كان يقدر تماماً الخطر الذي
كان يهدد وجود العثمانيين نفسه في اسيا من جهة الشاه الفارسي الذي كان قد وصل في
ذلك الوقت إلى ذروة سطوته بالاضافة إلى ذلك كان ما دفع سليمان لمحاربة فارس ولعه
بالمشاريع والحملات العسكرية التي استغرقت كل فترة حكمه القصير ورغبته في الانتقام
من الشاه الذي تخلى عن سليم والتزم جانب اخيه احمد في اثناء الصراع الذي جرى بين
ابناء بايزيد حول العرش. لقد تهيأ الصفوي للتحالف مع المصريين
لصالح احمد هذا كما انه سمح لابناء خصم سليم باللجوء إلى فارس ولم يكتف بذلك بل
جهز احدهم وهو صهره الامير مراد بقوات للاستيلاء على اماسيا رغم ان هذا الآخير لم
يفلح في ذلك
وقد تفاقم الخطر الفارسي لان الشاه اسماعيل كان له في الاقاليم التركية في اسيا
الصغرى انصار كثيرون بين القبائل التركية التي كانت تعتنق التشيع وتعتبر نفسها من
اتباع الشيخ الاردبيلي صفي الدين. وكان انصار فارس هؤلاء يشكلون خطراً دائماً على
الهدوء والنظام في الدولة كما برهنت الانتفاضة التي لم تخمد الا بصعوبة بالغة
والتي قام بها باسم الشاه اسماعيل في اقليم تكه في ١٥١١ م الامير التركماني المسمى
شاه قليأي عبد الشاه وقد غير اسمه الاتراك واصبحوا
__________________
يسمونه استهزاء شيطان
قلي أي عبد الشيطان. وهكذا قرر سليم ان يذهب بنفسه على رأس حملة يجهزها ضد فارس.
وخشية منه ان تتكرر في فترة غيابه اضطرابات مشابهة لتلك الانتفاضات لم يجد وسيلة
لتلافي ذلك افضل من القضاء على الشيعة والمشتبه في انتمائها إلى هذه الطائفة في
جميع الامبراطورية العثمانية. وقد بلغ عدد القتلى من هؤلاء في اثناء ليلة بارثلميو
الشرقية التي نظمها
ضدهم السلطان سليم مالا يقل عن اربعين الف شخص تتراوح اعمارهم بين السبع سنوات
والسبعين سنة.
بعد هذه الاستعدادت الدموية هب السلطان
ضد الشاه الفارسي اسماعيل على راس جيش تعداده اربعين الفاً قاصداً تبريز التي كانت
عاصمة فارس انذاك عبر سيواس وادربيجان. وقبل ان يصل السلطان إلى تبريز وقعت بني
الجيشين العثماني والفارسي عام ١٥١٤ م في وادي جالديران معركة حاسمة كان يتوقف على
نتيجتها التفوق النهائي لفارس أو للدولة العثمانية في مقدمة اسيا. وقد حل القدر
هذه المسألة لصالح الاتراك الذين استطاعوا انتزاع النصر من الفرس بفضل ما يمتلكونه
من مدفعية وتفوق عددي في المشماة. وترتب على هذا الاندحار بالنسبة لفارس فقدانها
لارمينيا وكردستان ومابين النهرين بما فيها الموصل. وهكذا وضع حد لتوسع فارس
لاحقاً نحو الغرب. وعلى الجانب الاخر سهلت معركة جالديران للدولة العثمانية
الاستيلاء على الشام في ١٥١٦ م. وهكذا اصبح جنوب العراق وحده الذي كان لا يزال يبد
الشاه اسماعيل يعيق عن ايصال
__________________
ممتلكاتهم الاسيوية
إلى حدودها الطبيعية في الجنوب أي إلى الخليج الفارسي.
بالاضافة إلى ذلك اصبحت السيطرة على
العراق ضرورية بالنسبة للسلاطين الاتراك بعد ان اتخذ السلطان سليم بعد استلائه على
مصر في ١٥١٧ م لقب «خليفة»
وذلك باجبار المتوكل بن امريل حكيم
اخر خلفاء العباسيين الذين اتى به معه من القاهرة على التخلي له عن هذا اللقب
والتنازل له عن جميع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها رئيس العالم الاسلامي
والمرتبطة بلقب «خليفة رسول الله».
وبعد ان اصبح السلاطين الاتراك بهذا
الشكل ورثة للخلفاء العباسيين اصبح من الطبيعي ان يعتبروا بغداد العاصمة السابقة
لهؤلاء ملكاً لهم وان ينظروا إلى الفرس الذين كانوا يسيطرون على هذه المدينة
نظرتهم لمغتصبين كان العباسيون انفسهم يلاحقوهم ويضطهدونهم هذا في حين ان انتقال
جنوب العراق باماكنه الشيعية المقدسة إلى سلطة الدولة العثمانية السنية كان
بالنسبة لفارس امراً غير مرغوب ليس فقط بالمعنى السياسي وانما من وجهة النظر
الدينية ايضاً باعتباره حدثاً يعني توقف الوصول الحر إلى تلك الاماكن المقدسة.
وهكذا تجدد تحت ستار النزاع امتلاك جنوب
العراق من حيث الجوهر ، الصراع القديم بين السنة والتشيع مع اختلاف واحد وهو ان
خصوم الفرس الشيعة اصبحوا في هذه المرة الخلفاء ـ العثمانيين بدلاً من الخلفاء
العرب. وكان هذا الصراع سجالاً لان فارس لم تترك أي فرصة
__________________
مناسبة لانتزاع
العراق من الدولة العثمانية الا وانتهزتها. كما ان هذه الاخيرة كانت تتمسك بدورها
بقوة بهذه المنطقة وتحرص على حمايتها من تطاولات فارس على الرغم من صعوبة الصراع
الذي زاده تعقيداً سعي القبائل العربية المحلية إلى التحرر القومي والاستقلال ، فضلاً
عن ضرورة اخذ مصالح الدول الاوربية المختلفة بعين الاعتبار هذه الدول التي مدت
جذوراً لها في هذه المنطقة والتي كان يعادي بعضها بعضاً بسبب المزاحمة والمنافسة
التجارية.
انتقل جنوب العراق إلى الدولة العثمانية
لاول مرة في عهد سليمان الاول ابن وخليفة اول خليفة من البيت العثماني ونعني
السلطان سليم الذي منعه موته المبكر من تحقيق طموحه بالاستيلاء على ارث العباسيين
بغداد. فقد تكونت ظروف ملائمة ساعدت حاكم الدولة العثمانية الجديد على تحقيق هذا
الطموح ، ذلك ان تبدلاً في الحكم حصل في فارس فقد ارتقى عرشها بعد الشاه اسماعيل
مؤسس قوة فارس الذي توفي في ١٥٢٤ م ، الشاه طهماسب وكان عمره عشر سنوات فاستغل
زعماء القبائل الايرانية الفترة التي كان فيها صغير السن وانشغلوا بتصفية حساباتهم
مع بعضهم الامر الذي قاد الدولة إلى فوضى تامة ولم تلبث آثار الاضطراب الداخلي ان
امتدت إلى الولايات الفارسية النائية فثارت فيها النزاعات الانفصالية التي كان من
نتيجتها ان اعرب عامل اذربيجان عن استعداده للتحول إلى جانب السلطان ، في حين كان
حاكم بغداد الفارسي اكثر حسماً من ذلك حين ارسل إلى اسطنبول مفاتيح المدينة التي
اؤتمن عليها.
دفعت هذه الحقائق السلطان سليمان إلى ان
يعجل بالمسير إلى العراق فقاد قواته بنفسه في ربيع ١٥٣٤م ولكنه لم يتوجه إلى بغداد
مباشرة بل جعل طريقه اليها عبر تبريز لاعتقاده بان سقوط هذه الاخيرة سيؤدي
إلى استسلام عاصمة
العباسيين السابقة. وقد تحققت توقعات السلطان هذه كلية اذ ما ان وصل خبر استيلاء
العثمانيين على مدينة اذربيجان الرئيسة إلى قومندان بغداد محمد بيك الذي حل محل
حاكمها الخائن السابق ، حتى اسرع باخلاء المدينة دون قتال فدخلها الحاكم العثماني
منتصراً دون قتال. واستغل سليمان فترة مكوثة في بغداد وقد استمرت نصف عام تقريباً
لاعادة تنظيم المنطقة التي استولى عليها وفق المنط العثماني فقسمها إلى اقطاعات
وادخل اليها الادارة العثمانية. ولم ينس السلطان باعتباره سنياً حقيقياً شركاءه في
المعتقد الذين لم يكونوا يتمتعون في فترة السيطرة الفارسية في بغداد باي اعتبار ، فعمد
من اجل ان يرفع شأن السنة إلى اعادة تعمير المسجد الذي يضم رفاة ابي حنيفة مؤسس
المذهب السني الذي يدين به الاتراك .
وبعد ان انهى سليمان ذلك كله غادر
عائداً ينفس الطريق السابق عبر كردستان واذربيجان دون ان يحتل جنوب العراق وعاصمته
البصرة. لقد خضعت البصرة للدولة العثمانية باختيارها بعد احتلال بغداد باربع سنوات
أي في ١٥٣٨م وذلك عندما ارسل حاكم البصرة العربي الشيخ راشد ابنه إلى اسطنبول
خصيصاً لكي يسلم سليمان مفاتيح المدينة. ويعود السبب في خطوة الشيخ راشد هذه بدرجة
كبيرة إلى خشيته من وقوع البصرة في وزة البرتغاليين الذين استطاعوا حتى ذلك الوقت
ان يبسطوا سيطرتهم على البحار الهندية بل وعلى الخليج الفارسي ايضاً حين استولوا
على هرمز في ١٥١٥م واخذوا يتفرقون بالتدريج على العرب الذين كانوا قبل ذلك اسياد
مياه ذلك الخليج دون منازع. وهكذا توحد العراق الجنوبي باجمعه
__________________
تحت سلطة الدولة
العثمانية بفضل اعتراف امير البصرة راشد بسيادة تلك الدولة.
يرتبط مصير هذه المنطقة بشكل وثيق بحياة
بغداد ولكنه كان يتأثر ايضاً وبدرجة لاتقل عن ذلك بسير الاحداث التاريخية في الدول
العثمانية وفارس وذلك لان العراق الجنوبي كان يؤلف على الدوام تفاحة النزاع بين
هاتين الدولتين المسلمتين المتجاورتين. لقد كان تاريخ جنوب العراق أي تاريخ البصرة
بشكل ما جزءاً لا يتجزأ من التاريخ العام للعراق وهو إلى ثلاث فترات تشمل الاولى
حكم الامراء العرب شبه المستقلين الذين كانوا يعتبرون تابعين للدولة العثمانية ، وتتميز
هذه الفترة بوجود حركة قومية قوية بين العرب هناك اما الفترة الثانية فتتوافق
بدايتها مع السنوات الاول من القرن الثامن عشر ، وتتميز بخضوع العراق الجنوبي
خضوعاً تاماً لباشوات بغداد الذين كانوا شبه مستقلين يحكمون ولايتهم بالاستخلاف
ويعينون عمالاً من قبلهم لحكم البصرة. وتبدأ الفترة الثالثة اعتباراً من ثلاثينات
القرن التاسع عشر ويمكن اعتبارها الفترة التي اخذت فيها قوة العراق بشكل عام
وجنوبه بشكل خاص تتزايد بالتدريج سوية مع بقية اجزاء الامبراطورية وبدأت فيها
الاصلاحات التي جرت في الدولة العثمانية تعمل عملها في تغيير هذه المنطقة بروح تلك
الاصطلاحات. وتبعاً للفترات المذكورة سنقسم سرداً للاحداث التاريخية التي وقعت في
العراق على ثلاثة فصول يتعرض اولها للحوادث التي وقعت في العراق على ثلاثة فصول
يتعرض اولها للحوادث التي جرت منذ ان ظهر العثمانيون في هذه المنطقة حتى عام ١٧٠٢م
في حين ينطوي الثاني على احداث الفترة من ١٧٠٢ حتى ١٨٣١م اما الثالث فيتعلق
بالفترة من ١٨٣١ حتى السنوات الاولى من القرن العشرين.
ولقد ثبت الامير راشد الذي اغدق عليه
السلطان نعمه بسبب
خضوعه الطوعي ، في
منصب حاكم البصرة تابعاً للدولة العثمانية وقد تجلت هذه التبيعة بشكلها الظاهري في
الخطبة لحاكم الدولة العثمانية وسك النقود باسمه ، فكانت بذلك تبعية اسمية تماماً
لها اكثر رسوخاً واشد وضوحاً وهو امر كانت مصلحتها فيه تتعارض بشكل مباشر مع رغبة
الامراء العرب المحليين بالمحافضة على استقلالهم التام قدر الامكان. وعلى هذا
الاساس لم يكن بالامكان الا ان يحدث الصدام بين العرب والاتراك واول صدام سجله
التاريخ في هذا المجال يعود إلى عام ١٥٤٦م عندما قاد والي بغداد اياس باشا بامر من
اسطنبول حملة ضد راشد نفسه. لقد كان سبب الحملة رفض راشد ان سلم الاتراك العصاة
الذين لجأوا اليه في البصرة ففقد بسبب ذلك منصبه ونفي إلى خارج العراق.
لقد كان السبب في هذا الدرس القاسي الذي
اعطى للامير راشد هو خشية السلطان من فقدان البصرة التي كانت لها في نظره اهمية
خاصة بالنسبة لخططه السياسية الجديدة. وخلاصة القضية ان اباه السلطان سليماً الذي
ورث عن مماليك مصر بعد استيلائه على مصر عام ١٥١٧م مفاتيح الكعبة ولقب بـ «حامي
المدينتين المقدستين مكة والمدينة»
كان قد اوصل الحدود البحرية للدولة العثمانية إلى البحر الاحمر وذلك بفضل
الاستيلاء على شبه الجزيرة العرب الذي بدأ من اليمن. لكن السلكان سليمان لم يرد
الاكتفاء بالسيطرة على شبه الجزيرة العرب وحدها بل فكر
__________________
بتوسيع سلطته لتشمل
المسلمين الهنود كما اراد الاستحواذ على تجارة الهند المربحة. لقد تولدت الخطط عند
سليمان بعد ان اصبح للدولة العثمانية بفضل استيلائها على العراق خلال ١٥٣٤ - ١٥٣٨م
منفذ إلى الخليج الفارسي أي انها اصبحت تجاور الهند وتتواجد على الطريق البحري
المؤدي إلى هذه الاخيرة وهو الطريق الذي كان العرب باعتبارهم وسطاء للتبادل
التجاري بين الهند واوربا يسيطرون عليه حتى نهاية القرن الخامس عشر. وكانت العقبة
الرئيسية التي تقف امام تحقيق هذه الخطط المغرية تتمثل في البرتغاليين الذين كان
سلطان المماليك قانصوة الغوري (١٠٥١ - ١٥١٦) قد حاربهم في البحر الاحمر دون ان
يحالفه النجاح.
اخذ حكام الهند المسلمون انفسهم يدعون
سليمان للنضال ضد البرتغاليين في المياه الهندية اعتباراً من عام ١٥٣٩م حين وصلت
إلى اسطنبول سفارة ارسلها لهذا الغرض بهادر شاه حاكم كوجرات .
ولم يتردد السلطان الذي كان يتحرق طموحاً للدخول في صراع مع البرتغاليين على جميع
الجهات. لقد انتهى نزاعه معهم في الهند بالفشل. اما في البحر الاحمر فقد كان
الصراع سجالاً وطال إلى درجة ان سليمان ركز امله في توجيه الضربه اليهم على الخليج
الفارسي الذي كان العثمانيون يملكون فيه قاعدة بحرية وحيدة هي البصرة التي ازدادت
اهميتها لهذا السبب بشكل كبير جداً. وكان مما اثر في انتقال الصراع إلى الخليج
الفارسي ايضاً طابع التحدي الذي تميز به نشاط البرتغاليين الذين لم يكتفوا باحتلال
مسقط في عام ١٥٠٨ م وجزيرة هرمز ١٥١٥م بل عمدوا في نفس الوقت الذي سيطر فيه
العثمانيون على العراق تقريباً إلى استيلاء على جميع ساحل الخليج في
__________________
منطقة الاحساء بما في
ذلك مدينة القطيف التي اقاموا لهم فيها حصناً ومركزاً تجارياً فاصبحوا بذلك
جيراناً للبصرة وتحولوا إلى خطر مباشر يهدد العراق. لقد اضطرت هذه الاعتبارات
السلطان سليمان على ان يجعل في تقوية الوسائل الدفاعية لميناء البصرة فارسلت اليها
من السويس في عام ١٥٥٣م عمارة بحرية تتألف من ثلاثين سفينة بلغ عدد افراد طقمها (٦٠)
الف يقودهم بيري ريس. وقام هذا وهو في طريقه إلى محل عمله الجديد بنهب المراكز
التجارية البرتغالية في مسقط وجزيرة قشم بل جرب ان يحاصر هرمز الذي دفع
البرتغاليين بالمقابل إلى الاستعداد لمحاصرة الاسطول العثماني في ميناء البصرة
نفسه. وعندما علم بيري ريس بهذه الاستعدادات خشي من ان يتحطم اسطوله باجمعه فهرب
عائداً إلى السويس حيث دفع رأسه ثمناً لتصرّفه الجبان هذا. وقد عين بدلاً من بيري
ريس في منصب قبودان باشا البصرة القرصان السابق مراد باشا. ولقد حذا هذا حذو سلفه
في اعتبار البصرة محطة غير ملائمة للاسطول العثماني وحاول ان يشق طريقه عائداً إلى
مصر ولكنه اصيب بهزيمة ساحقة على يد البرتغاليين بالقرب من هرمز فلم يستطع ان يعيد
إلى البصرة الا بقايا قليلة جداً من اسطوله الصغير. وقد استبدل هذا البحار السيء
الحظ في ١٥٥٤م باخر ارسل من اسطنبول هو سيدي علي المعروف اكثر بلقبه كاتبي رومي
وقد قرر الاميرال التركي الجديد ان ينهض ضد البرتغاليين بشكل حاسم فاصطدم واياهم
في البحر مرتين انتهتا في غير صالحه ثم ان عاصفة شديدة صادفته بعد معركته الفاشلة
الثانية فادت إلى غرق بعض سفنه ودفعت بالبعض الاخر إلى الهند ومن هناك عاد إلى
اسطنبول بطريق البر فوصلها بعد سفر طويل استمر ثلاث سنوات. وهكذا انتهت بالفشل
محاولة السلطان سليمان الاستحواذ على السيطرة في الخليج الفارسي من ايدي
البرتغاليين فكان ذلك
بالاضافة إلى فشل سياسته تجاه الهند ومصاعب الصراع في البحر الاحمر دافعاً اضطر
خلفاء سليمان إلى التخلي لاحقاً عن القيام بفعاليات نشطة ضدّ اولئك البحارة.
وما كان بالامكان الا ان تنعكس
الاخفاقات التي اصابت قبودان باشا البصرة في الصراع ضد الاسطول البرتغالي سلبياً
على اوضاع الدولة العثمانية في جنوب العراق حيث ادت إلى انتعاش الرغبة في
الاستقلال لدى القبائل العربية هناك فهذه القبائل مافتئت منذ عهد الشيخين صدقة
ودبيس اللذين اقاما في القرن الثاني عشر دولة عربية قوية في الحلة الواقعة على
الفرات ، يراودها الامل في تحرير العراق من النير الاجنبي وترسخ السيادة العربية
فيه. وجاءت الحرب التي بدأتها الدولة العثمانية ضد فارس في ١٥٤٨ وحجتها في ذلك
مساعدة شقيق الشاه الفارسي طهماسب الامير القاص مرزا الذي كان يبحث عن الاسناد
والحماية لدى السلطان سليمان فساعدت على انتعاش الامال العربية بدرجة ملحوظة.
وهكذا اخذ الشيخ العربي الذي يعرف لدى المؤرخين الاتراك باسم عليان عكله يعمل للاعداد
لانتفاضة عامة يقوم بها عرب جنوب العراق. فقام لهذا الغرض بتوحيد جميع القبائل
التي كانت تنتقل على طول مجرى الفرات الاسفل في ضواحي البصرة نفسها تحت سلطته. غير
انه لم يستطيع ان ينفذ خطته لان الاتراك استطاعوا ان يتداركوا الانتفاضة في الوقت
المناسب من جهة ، ولان الامال بالحصول على المساعدة من فارس التي عقدت مع الدولة
العثمانية في ١٥٥٥م في اماسية اول معاهدة صلح انهارت من الجهة الاخرى. وهكذا اضطر
الشيخ عليان عكله إلى الهرب طلباً للنجاة إلى الجزيرة العربية حيث استطاع بعد
اسفار طويلة ان يجد ملجأ له في اليمن وان يحصل على مساعدات بالنقود والرجال
والاسلحة من شيخها المطهر
بن شمس الدين الذي
كان هو الاخر يسعى إلى الاطاحة بالسيطرة العثمانية في اليمن. وهكذا ففي نفس الوقت
الذي قام به المطهر في ١٥٦٧م بانتفاضته ضد العثمانيين في الساحل الغربي لشبه جزيرة
العرب قام عليان عكله بانتفاضة عربية جديدة في جنوب العراق قمعها في هذه المرة
والي بغداد بعد ان بذل جهوداً كبيرة وبعد ان خاض ضد الثوار صراعاً دموياً عنيفاً.
ولم تستطع السلطات العثمانية على الرغم
من هذه التدابير الصارمة ان تقضي على الحركة العربية في العراق نهائياً. فلقد هدأت
هذه الحركة تحت وطأة القمع موقتاً لكي تشتعل بقوة اكبر عند اول فرصة مؤاتية. ومع
ذلك ينبغي ان نلاحظ ان الانتفاظات العربية في العراق لم تكن عنيفة ولم تستغرق
وقتلاً طويلاً في عهد السلطان سليمان الذي يسميه الاوربيون «الفخم» ويطلق عليه
الاتراك لقب «المشرع»
وفي عهد السلطانين اللذين اعقباه وهما سليم الثاني (١٥٦٦ ـ ١٥٧٤) م ومراد الثالث (١٥٧٤
ـ ١٥٩٥ م) أي في الفترة التي كانت فيها الامبراطورية العثمانية في اوج مجدها
وقوتها وذلك لان الحكومة العثمانية التي لم تكن قد انشغلت بعد بمعالجة الفوضى
الداخلية - كانت تستطيع ان تخمدها بشكل فعال وفي الوقت المناسب. لكن الصورة تغيرت
تماماً في عهد السلاطين الذين حكموا بعد ذلك ابتداء من محمد الثالث الذي اعقب
مراداً. فقد بدأت في عهده فترة من الفوضى والاضطرابات الداخلية استمرت نصف قرن
كانت فترة الهدوء النسبي القصيرة التي حلت خلالها في العاصمة وفي الاقاليم
الاسيوية تعتبر
__________________
استثناء سعيداً. وقد
انعكس تدهور الدولة العثمانية بالدرجة الاولى في انعدام الضبط داخل القوات
العسكرية وفي التمردات العسكرية المتواصلة في اسطنبول وفي الاقاليم وكان التغلب
على الجنود المنفلتين وعلى الاخص الانكشارية امراً صعباً لا سيما وان العرش كان قد
شغله اعتباراً من احمد الاول امراء صغير والسن كانوا قد خرجوا لتوهم من سجن الحريم
حيث كانوا يبقون في العادة إلى ان يبلغوا سن الرشد تحت توجيه امهاتهم بل وتوجيه
خصيان الحريم
ولهذا فليس هناك مايدهش في ان السلطة المركزية التي تعاني من عدم الاستقرار لم تكن
مؤهلة للمحافظة على النظام في جميع انحاء الامبراطورية المترامية الاطراف ولا سيما
طبعاً في الاصقاع البعيدة كالعراق.
لقد اقترنت في العراق الاصداء الاولى
للاضطرابات الجديدة التي شملت الامبراطورية كلها بانتفاضات الاقطاعيين العثمانيين
من التركمان والاكراد الذين كانت الحكومة قد جردتهم من اقطاعياتهم بسبب عودتهم من
الحملة البحرية في ١٥٩٨م دون اذن من الحكومة لذلك فقد ثاروا بزعامة البكلربك
المصري السابق العقيد عبد الحليم. وقد استولى هذا المغامر الذي اشتهر بلقب «قره
يازجي» أي «الكاتب الاسود» في البداية على اديساً
ثم اخضع ، بعد ان وجد له الكثير من الحلفاء بين اقطاعي اسيا الصغرى ، شمال غرب ما
بين النهرين والجزء المتاخم له من اسيا الصغرى. اما في جنوب العراق فقد بدأت
الاضطرابات عندما شارك الي بغداد انذاك دلي حسن في عصيان اخيه قره يازجي الامر
الذي ادى إلى
__________________
تحرج وضع الحكومة
العثمانية في تلك المناطق ، اذ لم تلبث فصائل الثوار ان ملأت المنطقة كلها. وفي
الوقت الذي قامت فيه فصائل الشيخ العربي الذي اتخذ لنفسه لقباً فارها هو مبارك
شاه بأجتياح منطقة البصرة استطاع المدعو محمد بن احمد الطويل وكان من اقرباء احد
زعماء العصاة في اسيا الصغرى ان يستولي على بغداد نفسها. وقد تجمعت تحت رايته
اعداد كبيرة من العرب بحيث استطاع ان يحطم القوات العثمانية التي ارسلت ضده من
ديار بكر بقيادة ناصيف باشا دون صعوبة تذكر
، وواصل الحكم في بغداد حيث تولى حكمها من بعده ابنه مصطفى. وظل هذا الاخير في
بغداد حتى عام ١٦٠٨م عندما طرده منها محمد باشا جغاله زاده الذي عيّن والياً عليها
للمرة الثانية وهو ابن احد الجنوبيين المرتدين .
وفي الوقت نفسه حدثت في البصرة التي كان
الثوار قد عزلوها عن بقية العراق احداث في غاية الاهمية فمنذ بعض الوقت اخذ يعلو
في عاصمة العراق الجنوبي شأن اسرة احد كبار ملاك الارض العرب ويدعى سياب
، وكان ممثل هذه الاسرة انذاك يشغل منصب قائد القوات غير النظامية التابعة لحاكم
البصرة ايوب باشا. وقد استغل هذا العربي الذكي الحاذق الاضطرابات التي شملت العراق
وعجز الباشا الذي ترك يواجه مصيره لوحده في المنطقة التي شملها العصيان فدفع
الحاكم سيء الحظ
__________________
ايوب باشا
إلى ان يتنازل عن منصبه له مقابل ٤٠٠٠٠ قرش ويهرب من البصرة وقد دفع بعد ذلك رأسه
ثمناً لهذا التصرّف .
وقد استولى سياب بعد سفر الباشا على السلطة العليا في البصرة ثم اسرع يخبر السلطان
بخضوعه له واستعداده لان يكون تابعاً للدولة العثمانية وقد استغل الباب العالي هذا
التوجه الذي يدل على الخضوع بعطف خصوصاً وانه كان في ذلك الوقت مشغولاً في تركيز
كل اهتمام وقوة الحكومة المركزية على تهدئة القوات العسكرية في العاصمة نفسها وفي
اخماد الانتفاضات القائمة في اسيا الصغرى. وكان هناك سبب آخر في تثبيت سياب في
منصب عامل البصرة وكان ذلك قد حصل بوجب فرمان سلطان خاص في ١٦١٦ م. وهو ان رفض
الباب العالي يمكن ان يدفع هذا العربي المتنفذّ إلى احضان الشاه لا سيما وان العرش
الفارسي لم يكن يشغله في ذلك الوقت طهماسب الضعيف الذي يعوزه الحزم بل حفيده عباس
الذي سمّي بالكبير.
تغيرت ادوار كل من فارس والدولة
العثمانية في ذلك الوقت ايضاً فقد كانت الاولى تأخذ باسباب القوة في حين تزداد
الثانية ضعفاً بسبب التحلل الداخلي. لقد كانت فارس خارجة لتوها من فترة اضطراب
وبلبلة داخلية استمرت من موت طهماسب الطاعن في السن عام ١٥٧٦ م. إلى ارتقاء حفيده
عباس مرزا العرش في ١٥٨٧م وقد استغلت الدولة العثمانية ضعف جارتها فاقتطعت منها
جورجيا واذربيجان وخانية شيروان في حين استولى حلفاء الازبيك وهم جيران الفرس من
ناحية الشرق واعدائهم منذ
__________________
القدم على هراة ومشهد
. وهكذا ورث الشاه
الجديد دولة هزتها الفتن الداخلية واقتطع الاعداء الخارجيون من اراضيها. وقد باشر
الشاه عباس اموره بنشاط فاعاد في بداية الامر النظام والهدوء إلى الدولة ثم الحق
بعد ذلك بالازبيك هزيمة نكراء وبعد ان تم له ذلك توجه نحو العثمانيين فاستطاع في
الفترة الواقعة بين ١٦٠٣ و ١٦١٨م ان يستعيد منهم جميع الاراضي التي كانوا قد
اخذوها من فارس. وهكذا يبدو مما ذكرنا ان بأس وقوة الدولة الفارسية كانا يزداد
بفضل مواهب الشاه عباس المشهورة لا من يوم لاخر بل من ساعة لاخرى ، في القوت الذي
كان فيه الانحلال الداخلي في الدولة العثمانية يجري بوتائر سريعة فالى جانب
الثورات العديدة باسيا واكثرها جدية عصيان والي حلب الكردي جنبلاط ، كان شغب
الجنود في العاصمة نفسها قد بلغ حده الاقصى فالانكشارية الذين كانوا قد عزلوا
العديد من السلاطين لم يتورعوا عن قتل عثمان الثاني عام ١٦٢٢م لانهم لم يكونوا
راغبين به. وهكذا اصبح الانكشارية حكام الدولة الفعليين واخذوا يتدخلون في جميع
شؤون الحكم الداخلية ابتداء من تعيين واقالة الوزراء والولاة وانتهاء بفرض الضرائب
والاتاوات الجديدة. وفي عام ١٦٢٢ ثار والي ارضروم اباضة باشا ضد تعسف الانكشارية
واعلن انه يريد الانتقام لمقتل السلطان عثمان ثم سار نحو العاصمة مبيداً حاميات
الانكشارية المتواجدة في جميع المدن التي وقعت في طريقه الامر الذي ادى إلى اتساع
الاضطرابات وشمولها .
في مثل هذا الوضع المضطرب حتى في اقرب
الاقاليم إلى العاصمة
__________________
لم يجد سياب صعوبة
كبيرة في الحصول على اقرار السلطان له في منصب عامل البصرة وفي ان يصبح حاكماً
عربياً شبه مستقل عن الباب العالي.
وقد ساعدت المدخولات الكبرى تقوية سلطته
بدرجة لايستهان بها وكانت هذه المدخولات تتألف من الضريبة الكمركية التي بلغت
انذاك عدة ملايين ليفر
وذلك بفضل السياسة التجارية الحكيمة التي انتخبها سياب اولال وخلفاؤه فقد اسبغوا
حمايتهم على البرتغاليين اولاً ومن ثم على الهولنديين والانجليز والهنود الذين
كانوا يجلبون إلى البصرة التوابل والاقمشة وغيرها من منتجات الهند لبيعها إلى تجار
الشرق الادنى الذين كانوا يتوافدون إلى هناك ، وكذلك من ايراد الضربية المفروضة
على تصدير التمور والخيول العربية والجمال ، واخيراً من الارباح الكبيرة التي
تدرها دار اعادة سك النقود وهي دار كان يعاد فيها سك كل ما يجنيه الاجانب من نقود
ويجري تحويلها إلى قروش .
وقد استطاع امراء البصرة وهو اللقب الذي كان يطلقه الاهالي على آل سياب ، بفضل ما
كان بحوزتهم من مبالغ نقدية طائلة ان يمتلكوا قوات مرتزقة كثيرة العدد تمكنوا
بواسطتها لامن المحافظة على الهدوء والنظام في المنطقة الخاضعة لهم فقط بل وقمع أي
عصيان أو انتفاضة وهي بعد في مهدها ايضاً. كان آل سياب في توثيقهم لعلاقات الصداقة
مع الاوربيين يهدفون بالدرجة الاولى إلى تحقيق اهداف اقتصادية ولكنهم لم يسقطوا من
حساباتهم ايضاً المصالح السياسة التي من اجلها كانوا يسعون لان يعيشوا بسلام ووفاق
مع شيوخ الحويزة المجاورة
__________________
التي كانت تدخل ضمن
اراضي الدولة الفارسية. اما عن الدولة العثمانية فلقد تصرف سياب الاول في تنفيذ
الخط الذي رسمه تجاهها بمهارة كبيرة بحيث لم يلبث الباب العالي ان اقر ابنه علياً
خلفاً له في منصب عامل البصرة ومنحه لقب باشا.
لقد وجد امير البصرة نفسه في الحال في
وضع صعب حيث تحتم عليه ان يختار بين المحافظة على اخلاصه للسلطان وبين الانتقال
إلى جانب الشاه. فالشاه عباس الذي قرر ان يستغل حالة الضعف الشامل الذي كانت تعاني
منه الدولة العثمانية اخذ يفكر باعادة العراق المجاورة بمدنه المقدسة إلى سلطة
فارس. ولكي يضمن الشاه الناجح لهذا المشروع فكر بان يبدأ باخضاع جنوب العراق فدخل
لهذا الغرض في مفاوضات مع عامل البصرة شبه المستقل واعداً اياه بتوسيع حقوقه اذا
اعترف بسيادة فارس. لكن وعود الشاه المغرية التي تضمنت جعل ولاية البصرة وراثية في
اسرة سياب وعدم مطالبتهم باية ضرائب وعدم التدخل في شؤون الحكم لم تضعف ولاء امير
البصرة الجديد علي باشا للسلطان فقد رفض بحزم الخضوع لفارس. ومما يفسر هذا الرفض
القاطع من جانب ابن سياب الذي لم يكن يأمل بالمساندة من جانب الباب العالي
لانشغاله بانقاذ الدولة نفسها من الانهيار التام ، انه وجد في شخص البرتغاليين
حلفاء مخلصين ضد الفرس ، فالبرتغاليون الذين كان الشاه عباس قد طردهم بمساعدة اسطول
شركة الهند الشرقية الانجليزية في ١٦٢٢ م أي قبل هذه الاحداث بقليل من جزيرة هرمز
، نقلوا نشاطهم التجاري إلى البصرة حيث وافقوا عن طيب خاطر على حمايتها من تطاولات
الشاه لان استيلاء عدوهم هذا على جنوب العراق سيؤدي إلى افلاس التجارة البرتغالية
في الخليج العربي افلاساً تاماً لصالح منافسيهم التجاريين - الانجليز. وهكذا
كان بمقدور علي باشا
ان يأمل بالحصول على اسناد فعال من جانب السفن الحربية البرتغالية المتوجدة
باستمرار في مياه البصرة لحماية مركزهم التجاري
وسفنهم التجارية. ولكي يحمي البصرة من الغزو الفارسي من جهة الشمال استجاب علي
باشا لنصيحة البرتغاليين وانشأ تحت قيادتهم تحصينات قوية في القرنة الواقعة عند
التقاء نهري دجلة والفرات وبنى هناك حصناً يعتبر من الطراز الاول حسب مقاييس ذلك
العصر.
وانتشرت في هذه الاثناء وبسرعة انتفاضة
والي ارضوم اباظة باشا الذي كان يعمل باسناد من فارس ، فشملت جميع اسيا الصغرى
وسهلت للشاه عباس كثيراً خططه في الاستيلاء على العراق لانها جذبت انتباه الباب
العالي عن ذلك البلد. وبالاضافة إلى ذلك كان القدر نفسه إلى جانب الشاه عباس في
هذه القضية فلقد ثار في ١٦٢٣م ضد الاتراك الامير الحلي بكر
الذي كان يريد من الدولة العثمانية ان تعترف له بوضع شبه مستقل على غرار آل سياب
في البصرة لكنه جوبه بالرفض وعندما اقترب من بغداد جيش يقوده والي ديار بكر بادر
بكر إلى الانتقال إلى صف الشاه عباس الذي كان قد قرر ان يسبق العثمانيين فسار
حثيثاً باتجاه عاصمة العباسيين السابقة واستولى عليها على الرغم من المقاومة
اليائسة التي ابداها بكر الذي عاد مرة اخرى فاظهر اخلاصة للسلطان بعد ان اقر الباب
العالي به والياً على بغداد .
__________________
وبعد ان اعدم الشاه عباس بكراً لتصرفه
المزدوج احتفل بعودة العتبات المقدسة في العراق إلى سلطة فارس بهدم المسجد الذي
بناه السلطان سليمان الاول على مرقد ابي حنفية. وعمد إلى ممارسة اضطهاد شديد ضد
السنة القاطنين في بغداد انتقاماً لليلة سان بارثلميو
التي نظمها السلطان سليم الاول ضد الشيعة .
وقرر الشاه عباس بعد ان ترسخت اركان حكمه في بغداد ان يعاقب علي باشا على رفضة
للانتقال إلى جانب فارس فكتب إلى حاكم شيراز امام قلي خان يأمره بالتحرك نحو
البصرة ، فدخل هذا بقواته في ممتلكات سياب عام ١٦٢٤م ولكنه لم يستطيع الاقتراب من
البصرة بسبب كثافة النيران التي فتحتها السفن البرتغالية المتواجدة في شط العرب ، ولهذا
فقد اقتصرت كل العمليات العسكرية التي قام بها الفرس على محاصرة حصن قبان أو كبان
الواقع على الحدود وفي السنة الثالثة أي في ١٦٢٥م احتل امام قلي خان هذا الحويزة
واقصى الشيخ مبارك الذي اعبر خائناً بسبب صداقته مع سياب وسار من هناك نحو البصرة
ولكن هجومه فشل في هذه المرة ايضاً لانه صد بحزم من جانب البرتغاليين
ولكي يصدم هجوم الفرس المتقدمين من ناحية بغداد لجأ علي باشا إلى طريقة عراقية
صرفة للدفاع الذاتي وهي انه امر بتخريب
__________________
جميع السدود الامر
الذي حول المنطقة إلى مستنقع واحد كبير فاجبر بذلك القوات الفارسية التي ارسلت من
بغداد على التخلي عن مواصلة التقدم نحو البصرة .
ولم يستطع الشاه عباس ان يجدّد محاولاته
للاستيلاء على جنوب العراق وذلك لان الدولة العثمانية تمكنت قبل ذلك بقليل من
القضاء على تمرد اباظة باشا فوجهت كل قواتها ضد الفرس وبعد خاضت هذه القوات عدة
معارك ناجة ضد قوات الشاه تمكن جيش عثماني قوي يقوده الصدر الاعظم احمد باشا من
محاصرة بغداد نفسها عام ١٦٢٥م غير ان الصدر الاعظم لم يتمكن من استعادة تلك
المدينة من الفرس ، لان الشاه وصل ومعه قوات جديدة في الوقت المناسب واصحبت الحرب
التي تجددت بين الدولة العثمانية وفارس تهدد باتخاذ اتجاه غير ملائم للعثمانيين
بعد ان اشعل اباظة باشا ثورة جديدة في ارضروم وتحرك الجيش الفارسي بقيادة الشاه
للانضمام اليه ، لكن عمليات البارعة التي قام بها الصدر الاعظم الجديد خسرو باشا
الذي تغلب على الحليفين كلاً على حدة ثم وفاة الشاه عباس في ١٦٢٨م انقذت الدولة
العثمانية من كوارث جديدة.
لقد توارى عن المسرح بوفاة الشاه عباس
عدو عنيد وخطير على آل سياب في البصرة فاستطاعوا ان يركزوا اهتمامهم مرة اخرى على
شؤون ولايتهم الداخلية. لقد خلف علي باشا الذي توفي حوالي ذلك الوقت ايضاً ابنه
حسين باشا الذي حاول ان يتخلص من غزو الفرس عن طريق التقرب
__________________
من الشاه صفي حاكم
فارس الجديد فيكفل بذلك ميله اليه سيما وان بغداد والموصل وكركوك لاتزال في حوزة
الشاه . وقد حذا حاكم
البصرة الجديد حذو جده وابيه فلم يقطع علاقاته مع الدولة العثمانية بل ظل يعتبر
تابعاً لها. وهكذا استطاع ان يواصل حكم جنوب العراق بسلام عن طريق المناورة بين
فارس والدولة العثمانية. ومع ذلك لم ينس حسين باشا ضرورة تعزيز الوسائل الدفاعية
في البصرة فاحاط جميع ضواحي المدينة من ناحية شط العرب بسور وانشأ في قرية مناوي
الواقعة على الضفة النهر سلسلة كاملة من التحصينات تحمي الطريق إلى البصرة من جهة
النهر ثم زاد من حصانة القلعة القائمة في القرنة بان انشأ فيها صفاً خارجياً
ثانياً من الاسوار والخنادق وعزز الحماية الموجودة فيها ، وزاد في الوقت نفسه من
عدد القوات المرتزقة في ولاية البصرة ، ولم يلبث ذلك ان اعطى ثماره المفيدة
فالانتفاضة التي قامت في آسيا الصغرى والاضطرابات والبلبلة التي سادت في
الامبراطورية لم يكن لها اثر بالنسبة لجنوب العراق. ومما ساعد على سلامة هذه
المنطقة ايضاً ان القبائل العربية خضعت باختيارها لاسرة سياب لانها من ابناء
جلدتها اكثر مما كا نت تخضع للباشوات الاتراك.
وحدث في غضون ذلك تحول جديد في وضع
الدولتين الاكثر تأثيراً في مقدرات العراق الجنوبي. فقد عادت فارس مرة اخرى مسرحاً
__________________
للاضطرابات
والمنازعات الداخلية ، التي اخذت تزعزع بالتدريج جهاز الدولة الذي اسسه الشاه
اسماعيل حفيد مؤسس السلالة الصفوية ، هذا في حين ان الدولة العثمانية التي كانت قد
وصلت إلى اقصى درجات الانحطاط والتدهور ، اصبح لها في شخص مراد الرابع حاكم يتصف
بالشجاعة والحزم وارادة قوية لاتلين .
لقد ارتقى مراد العرش في عام ١٦٢٨م وعمره ثلاث عشرة سنة ، وكان ذلك في ذروة
الكوارث والمصاعب الداخلية والخارجية التي اناخت على الامبراطورية العثمانية ، حتى
ان مراد نفسه كاد يقتل في دوامة الانتفاضات والعصيانات والتمردات لكنه كشف بشكل لم
يكن يتوقعه يتوقعه احد عن شخصية قوية عادية ففي عام ١٦٣٢م وبعد ان عاث الانكشارية
والسباهية المتمردون فساداً لمدة شهرين واخذوا يقتربون من رأس مراد نفسه بادر فقمع
الانتفاضات والفتن على امتداد الامبراطورية كلها ، واعاد بذلك هيبة الحكومة وقوة
الدولة ثم اعاد الضبط والطاعة في القوات المسلحة فامن ذلك النظام والهدوء في داخل
الدولة العثمانية. وبعد ان تغلب مراد على كل اعدائه في الداخل وجه كل قوته نحو
فارس التي لم تجلب الحرب معها على الرغم من تواصلها منذ وفاة الشاه عباس أي نصر
للسلاح العثماني فحتى حصار بغداد على يد خسرو باشا في ١٦٣٠ و ١٦٣١م انتهى بالفشل.
ولهذا قرر السلطان ان يقود العمليات الحربية ضد فارس بنفسه قتوجه عام ١٦٣٥م على
رأس حملة عسكرية انتهت باستيلائه على يرفان ونهبه لتبريز ولم يعد إلى اسطنبول الا
مع حلول الشتاء لكن الفرس استطاعوا في السنة التالية ان يستعيدوا من العثمانيين
جميع المدن التي اخذت منهم بحيث تحتم
__________________
على السلطان ان يتوجه
اليهم على رأس قواته مرة اخرى فظهر في ١٥ تشرين الثاني عام ١٦٣٨م تحت اسوار بغداد
التي اقتحمها بعد حصار دام اربعين يوماً. وقد احتفل بعودة عاصمة العباسيين إلى
ورثتهم في الخلافة ونعني السلاطين الاتراك ، بمذبحة شاملة ضد الفرس بحيث هلك منهم
في ذلك الوقت حسب شهادة المؤرخين مالايقل عن اربعين الف شخص من ضمنهم الحامية
الفارسية التي كان عدد افرادها عشرة الاف .
طار خبر الانتصار الجديد الذي احرزه
السلاح العثماني إلى جميع انحاء العلم الاسلامي ووصل قبل أي مكان اخر إلى البصرة
طبعاً فاقتنع عاملها حسين باشا بان الكفاح من اجل الاستقلال ضد خصم قوي كمراد
الرابع امر ليس في طاقته ولهذا نجده يسرع بابداء ولائه للمنتصر وعزز ذلك بالكثير
من الهدايا الثمنية من بينها عدد من الخيول العربية الاصلية وقد تعطف مراد وقبل
الهدايا ولكنه اعتبر في الوقت نفسه ان الوقت قد حان لوضع نهاية للحكم شبه المستقل
الذي تتمتع به اسرة سياب في البصرة فعمد في ١٦٣٩م إلى تعيين علي باشا وهو مير
ميران تركي والياً هناك
وقد تحتم على حسين ان يقبل بذلك ويتنازل عن السلطة العليا في المدينة التي كان قبل
ذلك يحكمها بشكل مستقل تماماً ، للوالي الذي عينه السلطان. غير ان هذا الامير العربي
الابي لم يستطع القبول بوضعه كتابع فكان ينتظر الفرصة المناسبة لكي يبعد الضيف غير
المرغوب عن البصرة
__________________
التي اعتاد ان ينظر
اليها على انها ملك متوارث في اسرته. ولم تلبث الفرصة المنتظرة ان حلت ، فقد عادت
الفوضى والاضطرابات وشملت الدولة العثمانية بقوة جديدة بعد وفاة مراد الرابع عام
١٦٤٠م وانتقلت دفة الحكم مرة اخرى إلى ايدي السلطانات
فعاد الانكشارية مرة اخرى إلى تمرداتهم وفتنهم .
ولم تلبث الاقاليم ان حذت حذو العاصمة فاعادت الفتن والانتفاضات هناك صورة التدهور
السابقة الذي اوقفته لفترة قصيرة يد مراد القوية. ولم يتأخر العراق في لك عن بقية
مناطق الامبراطورية فقد سادت في بغداد في عام ١٦٥١م بسبب طرح عملة صغيرة سكت محلياً
للتداول ، الاضطرابات التي ادت إلى ان يسود الاستياء في جميع انحاء العراق. فبادر
حسين باشا إلى استغلال الفرصة فارسل من الحويزة إلى بغداد فصيلاً بلغ تعداد افراده
اثني عشر الف رجل وذلك لكي يجذب انتباه والي بغداد عن البصرة التي عمد حسين في ذات
الوقت إلى طرد واليها والتركي المير ميران علي باشا ثم عزل ايضاً محمداً الذي عينه
الباب العالي متصرفاً للاحساء واستبدله بشخص اخر اختاره هو.
كان تصرف حسين باشا الذي يدل على تمرد
ظاهر يهدد بانفصال جنوب العراق يتطلب اتخاذ إجراءات فورية حازمة ولهذا طلبت
اسطنبول من والي بغداد مرتضى باشا التحرك نحو البصرة لكسر شوكة آل سياب نهائياً.
وعندما سمع حسين باشا بتقدم القوات التركية - سارع إلى الاختباء في القرنة التي
كان قد حولها منذ زمن طويل إلى حصن من الطراز الاول وحشد فيها جميع قواته فهو لم
يكن يعتمد على البصريين الذين تكون من
__________________
بينهم حتى هذا الوقت
حزب معادٍ له يقف على رأسه الشيخان العربيان احمد وفتحي .
واحتل والي بغداد بمساعدة هاذين الشيخين البصرة دون صعوبة تذكر ثم باشر بحصار
القرنة وعلى الرغم من ان حسين باشا لم يحصل على مساندة حليفته فارس التي كان على
عرشها عباس الثاني الذي لم يكن يشبه سميه المشهور بشيء فقد كان ليناً ضعيف الشخصية
يفتقر إلى الحزم ، فانه صمد امام هجمات الاتراك طيلة ثلاثة اشهر كاملة ولكنه اضطر
بعد ان وصلت به الحال حداً لا يطاق إلى ان ينجو بنفسه بالهرب إلى الحويزة وهكذا
عاد مرتضى باشا إلى البصرة منتصراً واخذ بيده زمام الحكم هناك ثم باشر بجباية
مصاريف حملته التي انتهت لتوها ضد حسين باشا من اهالي المدينة. وعندما لم يرضه
البطء الذي كانت ترد فيه ايرادات الضرائب سمح لانصاره بنهب مخازن البضائع العائدة
للتجار العرب والهندوس الامر الذي اثار ضده غضباً عاماً
، فعمد رغبة منه في تبرئة نفسه إلى القاء الذنب على حليفية الشيخين اللذين سبق
ذكرهما احمد وفتحي وامر باعدامهما فكان ذلك مما اثار ضده نهائياً المدينة باجمعها
حيث حطمت جماهير العامة في تلك الليلة نفسها دار الباشا الذي لم ينج بنفسه الا
بصعوبة بالغة فهرب إلى بغداد.
كانت نهاية نشاط مرتضى باشا غير
المتوقعة هذه لصالح حفيد سياب حسين باشا إلى درجة لا يمكن توقع افضل منها ، فعاد
هذا إلى البصرة منتصراً وباشر على الفور بملاحقة واضطهاد جميع من ينتمي إلى الحزب
المعادي له. وبسبب الشكاوي التي توارت على اسطنبول امر والي بغداد
__________________
الجديد اوزون ابراهيم
باشا بتجهيز حملة جديدة
على البصرة يسندها كل من بكلربك ديار بكر وبكلربك شهرزور وبلكربك الموصل وبلكربك
حلب وبلكربك الرقة. خرج هذا الجيش الضخم من بغداد في عام ١٦٦٦م غير ان حسين باشا
اختبأ كالمرة السابقة في القرنة واستطاع ان يصمد بنجاح لحصار دام اربعة اشهر.
وعندما اقتنع ابراهيم باشا بعدم جدوى جهوده الرامية إلى الاستيلاء على القرنة دخل
في مفاوضات مع اهالي البصرة حول تسليم المدينة طوعاً لكن حسين باشا بادر ، بعد ان
علم بذلك ، فارسل فصيلاً من عرب عشيرة المنتفق المتحالفين معه بلغ تعداده ثلاثة
الاف رجل نهبوا المدينة وقتلوا القسم الاكبر من الداعين للصلح مع الاتراك. عند ذلك
اضطر والي بغداد إلى الدخول رغماً عنه في مفاوضات مع حسين باشا نفسه فوافق هذا على
الخروج من العراق والعيش في مكة بشرط ان تعطى ولاية البصرة لابنه سياب. كذلك التزم
حسين باشا باسم ابنه هذا بـ :
١ ـ ان يدفع ٠٠٠ / ٣٠٠ قرش تعويضاً عن
مصاريف حملة ابراهيم باشا.
٢ ـ ان لا يعارض في ان يعود إلى الاحساء
مصطفى محمد باشا الذي كان قد عزله منها.
٣ ـ ان يدفع عن ولاية البصرة مبلغاً
مقداره ٠٠٠ / ١٠٠ قرش في السنة .
وبعد عقد الصلح عاد والي بغداد من حيث
اتى ، في حين توجه حسين باشا إلى البصرة لكي يثبت اركان ابنه سياب هناك ذلك ان
وجهاء
__________________
التجّار استطاعوا في
فترة غيابه ان يستولوا على الحكم في المدينة ورفضوا الان ان يعترفوا بابنه والياً
عليها. عند ذلك لم يجد حسين باشا حرجاً في اعدام الاكثر تصلباً منهم في حين مارس
ضد الباقين اضطهاداً لم يسمع به من قبل ، الامر الذي دفع المتضررين إلى ان يرسلوا
إلى السلطان العثماني سفارة خاصة تحمل عريضة ضمنوها تفصيلاً لجميع ما ارتكبه حسين
باشا من تعسف وتجاوزات. وعندما لم يستطع حسين باشا منع اصحاب الشكوى هؤلاء من
السفر بادر فارسل من جانبه ابن عمه يحيى اغا ومعه هدايا ثمنية إلى اسطنبول لكن
يحيى هذا بدلاً من ان يدافع عن قضية ابن عمه رشح نفسه لولاية البصرة فاجيب طلبه.
ولكي يثبت حكمه في البصرة طلب الصدر الاعظم من والي بغداد قره مصطفى باشا ان يجمع
قوات الرقة والموصل وديار بكر وشهرزور كالسابق ويسير بها ضد حسين باشا. ولم يستطع
هذا الاخر في هذه المرة ان يعتصم في القرنه لان احد الجنود خانه واخبر المحاصرين
بان القلعة خالية من الحماية من جهة الاهوار فتقدم العدو من تلك الجهة مستخدماً
جذوع النخل التي رضعت بعضها إلى جانب البعض الاخر واقتحم القرنة واستولى عليها.
لكن حسين باشا تمكن مع ذلك من الهرب إلى الحويزة وثبت في السنة نفسها أي في ١٦٦٨
في منصبه الجديد يحيى اغا الذي كان قد منح لقب باشا في نفس الوقت الذي جرى فيه
تعيينه والياً على البصرة.
قدم والي بغداد الذي قاد الحملة ضد حسين
باشا إلى الباب العالي تقريراً تضمن تصوارته بشأن ضرورة تعزيز الحاميات العثمانية
المتواجدة في جنوب العراق من اجل شد هذه المنطقة اكثر إلى الدولة العثمانية مع
استخدام الايرادات المحلية لتغطية مصاريفها. وقد اقترح الوالي من اجل زيادة
ايرادات هذه المنطقة ان يعاد تقييم الممتلكات غير المنقولة وان
يعتمد نظام ضرائبي
افضل وان تناط الرقابة المالية العامة بموظف مالي عثماني خاص هو «الدفتردار». وقد
صادق الباب العالي على هذا البرنامج وعين في منصب الدفتر دار في البصرة شخصاً يدعى
عبد الرحمن كاظم زاده فوصل هذا إلى مقر عمله في ١٦٦٨ ومعه الفان من الانكشارية
ارسلوا لكي يخدموا في حامية القرنة. وكان يحيى باشا يعلم جيداً بان تعيين
الدفتردار يعني القضاء على آخر الامتيازات التي كان ولاة البصرة من آل سياب
يتمعتون بها ونعني الحق في التصرف بالايرادات المحلية دون قيد ، ولهذا فانه رفض ان
يسمح لهذا الموظف بان يؤدي مهام وظيفته فتقصد الدفتردار بتأخير دفع الرواتب
للانكشارية واتهم بذلك يحيى باشا الذي اضطره الجنود الثائرون لهذا السبب إلى الهرب
من المدينة. عند ذلك عمد يحيى باشا إلى الانتقام لطرده ، فجمع عدداً كبيراً من
العرب وهجم بهم على البصرة ونهبها بشدة ومنها سار نحو القرنة ولكن الجيش العثماني
بقيادة والي ديار بكر قابله قبل ان يصل اليها وهزمه شر هزيمة. وقد حال يحيى باشا
الذي التجأ إلى الحويزة ان يستعيد البصرة في السنة التالية أي في ١٦٦٩م بمساعدة
العرب واستطاع ان يجتاح المدينة حرة اخرى لكن باشا ديار بكر وباشا بغداد وحدا
جهودهما فتمكنا من القضاء عليه نهائياً وطرده من العراق إلى الابد. وبهذا الشكل
انهى حكم اسرة سياب العربية الذي استمر في البصرة لمدة تقرب من نصف قرن. وقد
استطاعت هذه الاسرة ان تحقق بدرجة ملحوظة حلم ابناء جلدتها بانشاء مملكة عربية في
العراق.
وهكذا كان مصطفى باشا وهو زوج مرضعة
السلطان وقد عين في ١٦٦٩م والياً للبصرة ، اول والٍ عثماني لجنوب العراق يعين من
اسطنوبل مباشرة بعد ان طرد من تلك المنطقة ولاتها العرب. وفي ١٦٧٠م حل محلّة
والي بغداد قره مصطفى
باشا الذي سبق ذكره فقد جري تعيينه هناك خصيصاً لكي ينفذ اصلاحات التي اقترحها
لتقوية وضع الدولة العثمانية في جنوب العراق وتوثيق العلاقات بين تلك المناطق
وبقية اجزاء الامبراطورية. وباختصار نفذ قره مصطفى في ولاية البصرة جميع ما كان قد
نفذ في عهد السلطان مراد الرابع في ولاية بغداد وذلك لكي تتخذ نفس المظهر الذي
تتميز به الولايات العثمانية انذاك. وبعد سنتين حل محل قره مصطفى في منصب والي
البصرة قومندان بغداد حسين باشا الذي لم تزد مدة حكمه لجنوب العراق عن سابقه.
وبنفس هذه السرعة كان يتبدل جميع الولاة الذين حكموا البصرة بعد ذلك بحيث بلغ عدد
من حكموها في العشرين سنة المحصورة بين ١٦٧٠ و ١٦٩٠م عشرة ولاة أي ان متوسط حكم
الواحد منهم لم يزد على السنتين. وطبيعي ان الاّ يترك أي منهم في فترة حكمه
القصيرة هذه أي اثر تاريخي لانه لم يكن يمتلك لذلك لا الوقت الكافي ولا الرغبة
ايضاً ، بسبب عدم استقرار وضعه وعدم ثباته.
وعلى الرغم من ان هذه السرعة في تغير
الحكام العثمانيين انعكست سلباً على نظام الحكم عموماً في المنطقة ، فان العراق
بشكل عام وجنوبه مع مدينة البصرة بشكل خاص تمتع بهدوء نسبي ولم تجر أي حوادث
خارجية بارزة تقطع سير الحياة السلمي في تلك المنطقة. وتكمن اسباب ذلك في الظروف
التاريخية الملائمة التي سادت في تلك الفترة والتي اضطرت كلاً من الدولة العثمانية
وفارس إلى الاحجام عن اية اعمال عدوانية تجاه بعضهما وهي الاعمال التي كانت تؤلف
حتى ذلك الوقت اسلوباً اعتيادياً في العلاقات بينهما. وفضلاً عن ذلك حاولت كل من
الدولتين المسلمتين المتجاورتين جهداً ان تحافظ على «الوضع القائم» في
ممتلكاتها المتاخمة
للحدود. فالدولة العثمانية التي تعرضت بعد موت مراد الرابع لاعصار جديد من الكوارث
والمصائب الداخلية والخارجية اوصلتها إلى حالة التدهور التام عادت الحياة فدبت
فيها مرة اخرى وبدأت تأخذ باسباب القوة منذ ان عين محمد كوبريللي صدراً اعظم فيها
عام ١٦٥٦ م. فقد كان هذا على الرغم من تقدمه في السن انساناً صلباً قاسي القلب جعل
البلد يهدأ لمدة ربع قرن كامل ثم اعاد بناء جهاز الدولة الذي بلغ حافة الخراب
التام بسبب الفوضى السابقة وادخل اليه حيوية جديدة .
وقد ظهر ان ابن كوبيللي هذا واسمه احمد كان جديراً بان يواصل سياسة والده فلقد حكم
الامبراطورية صدراً اعظم طيلة سبع عشرة سنة دون ان حذو ابيه في نزعته التي لا تعرف
الرحمة. ولم تلبث الدولة العثمانية وقد انتعشت وتقوت في فترة حكم آل كوبريللي ان
دخلت في صراع عنيف وطويل مع اوربا وقد تطلب هذا الصراع من الدولة العثمانية ان
تعبئ كل طاقاتها له فجذب بذلك اهتماماً عن فارس المجاورة لها.
في الوقت نفسه كانت فارس هي الاخرى في
وضع حرج فلقد ارتقى عرشها في ١٦٦٦م بعد حكم عباس الثاني الذي لم يتميز بشيء ، حاكم
آخر اكثر ضعفاً هو الشاه سليمان وكان مخنثاً يفتقر إلى الحزم وصل التدهور والضعف
الداخلي للدولة في عهده إلى حده الاقصى. فقد بلغ عجز الدولة الفارسية درجة لم تكن
معها في حالة تمكنها من حماية خرسان من غزو الازبيك ومن الدفاع عن اقاليمها
المتاخمة لقزوين ضد غارات التتار. لقد توافق عجز الدولة الفارسية خارجياً تماماً
مع وضعها الداخلي الذي لم تكن فارس معه تستطيع بالطبع حتى ان تفكر في
__________________
استغلال مصاعب الدولة
العثمانية في العراق.
وهكذا فاذا ما اكتفت فارس بحقيقة ان
جارتها ذات النزعة العسكرية لم تكن تستطيع ان تستغل الازمة التي حلت بفارس لصالحها
، فان رغبة الدولة العثمانية في تجنب المصادمات على حدودها الشرقية كانت شديدة إلى
درجة ان السفارة التي ارسلها الازبيك إلى اسطنبول في ١٦٧٨م لدفع الدولة العثمانية
إلى الانضمام اليهم في محاربة فارس لم تحقق أي نجاح ، ولهذا فقد ترك العراق وشأنه
فبدأت الحركة العربية التي كانت قد هدأت في المنطقة في فترة حكم اسرة سياب في
البصرة في الانتعاش مجدداً حين اتضح عزم الباب العالي الاكيد على تتريك
هذه المنطقة بواسطة الولاة الذين كانوا يعينون هناك من اسطنبول مباشرة. ولم يكن
القوميون العرب يستطيعون الاعتماد على مساندة فارس ومع ذلك فان التفريط بالفرصة
المناسبة التي حلت عندما جذب الصراع مع اوربا كل طاقة الحكومة العثمانية ناحية
الغرب وابتلع كل قواتها كان بالنسبة لهم امراً اقل مايقل فيه انه لا يغفر ولهذا
وجهوا انظارهم نحو الجزيرة العربية التي كان يعيش فيها اخوة لهم. ومن هؤلاء الاخوة
استمدت قبائل العراق الغربية قوة جديدة ونهوضاً جديداً للروح المعنوية لمواصلة
النضال من اجل استقلالها.
لقد اشتغلت في الحجاز أي في المنطقة
التي تقع فيها المدينتان المقدستان مكة والمدينة في ١٦٨٧م اضطرابات اصلها محلي بحت
اتخذت بالتدرج شكل انتفاضة ضد السيطرة العثمانية فشاركت فيها جميع القبائل
__________________
العربية هناك. لقد
بدأت القضية بنزاع بسيط قام حول اختيار خلف لشريف مكة احمد بن زيد الذي كان قد
توفي قبل ذلك بسنة حيث كانت القبائل العربية المحلية باجمعها تريد ان يعين بدلاً
منه شخص يدعى سعيد ابن الشريف سعد غير ان الباب العالي لم يوافق على تعيين المرشح
العربي في منصب حاجب الكعبة المقدسة وعين بدلاً منه شخصاً اخر من قبله ينتمي إلى
الحزب المعادي للمرشح العربي ولم يكن هذا الشخص من اسرة تتمتع بحقوق وراثة السلطة
الشريفة. عند ذاك تحولت الاضطرابات إلى انتفاضة حقيقية ، على الرغم من ان الباب
العالي بادر فوراً إلى الاعتراف بمن اختاره العرب ، شملت جميع القبائل العربية
هناك ولم تلبث ان وصلت إلى درجة من السعة بحيث تمكن الثوار من تحطيم القوات
المصرية التي ارسلت ضدهم تحطيماً تاماً.
انتقلت الاضطرابات بسرعة إلى جنوب
العراق حيث عمد شيخ المنتفق مانع إلى استغلال الذعر الذي اصاب اهالي البصرة بسبب
وباء الطاعون الذي اصاب المدينة في عام ١٦٩٠م وكان يموت بسببه مايقرب من خمسمائة
شخص يومياً فاغار على المدينة واحرز انتصاراً حاسماً على الفصيل التابع لوالي
البصرة الوزير احمد باشا الذي سقط قتيلاً في ساحة المعركة .
ومع ذلك لم يستطيع الشيخ العربي ان يستولي على المدينة لان الدفترادر العثماني
فيها حسين اغا استطاع بفضل ثرائه الواسع ان ينظم وحدات عسكرية من الاهالي تمكن
بمساعدتها من صد هجوم المنتفقيين. وبعد ان وصل خير هذه الانتفاضة إلى اسطنبول ادرك
اولو الامر هناك على الفور الخطر الكبير الذي تشكله حركة مانع فبادروا إلى ارسال
خليل باشا
__________________
وهو اخو الوزير
إلى البصرة وطلبوا من ولاة ديار بكر والموصل وشهروز مساعدته ضد الثوار. وعندما سمع
الشيخ مانع بتقدم القوات العثمانية قام بتخريب جميع السدود فتحولت المنطقة
المتاخمة لمجرى الفرات الجنوبي باكمله بسبب ذلك إلى مستنقع كبير لايمكن اجتيازه
الامر الذي ادى إلى ان يجابه خليل باشا صعوبات كبيرة في الوصول إلى البصرة كما انه
لم يستطيع الصمود هناك طويلاً لان الاهالي غضبوا عليه بسبب دسائس الشيخ مانع
وطردوه من المدينة في ١٦٩٤ م ، ثم اعلن شيخ المنتفق حاكماً ودخل البصرة بشكل مهيب.
ولم ينتهج الشيخ مانع وقد استقر في
المنصب الذي كان يشغله في يوم ما آل سياب ، سياستهم الحكيمة القائمة على الاحتفاظ
بعلاقاة ودية مع شيوخ الحويزة بل على العكس ، دفعه طموحه الشديد لان يوسع سلطته
بحيث تشمل ممتلكات جيرانه هؤلاء. ولم يقدر الشيخ مانع قوة الشيخ فرج الله
الحاكم هناك فارسل له فصيلاً صغيراً من جماعته المنتفقين لكن عرب الحويزة تمكنوا
من هزمهم شر هزيمة. لقد ادى هذا الانحدار إلى ان تقع قلعة القرنة بيد الشيخ فرج
الله كما انه قلص لدرجة كبيرة من هيبة الشيخ مانع في البصرة حيث لم يلبث ان تكون
فيها حزب معاد له. لكن شيخ الحويزة خشي من ان ينحاز الشيخ مانع بعد ان تغلب عليه
إلى العثمانيين للقيام بهجوم مشترك ضده ، لهذا قرر ان يسبق خصمه في هذا المجال
فقام في ١٦٩٧م بتسليم القرنة طوعاً إلى فصيل من الانكشارية كان
__________________
قد ارسله لهذا الغرض
والي بغداد اسماعيل باشا ، ولهذا ارتاى هذا الاخير بأنه من الممكن تفويض شيخ
الحويزة - وكان يعتبر من رعايا فارس - بطرد الشيخ مانع من البصرة واعادتها إلى
الدولة العثمانية. وقد نفذ الشيخ فرج الله الذي تظاهر بالولاء الاوامر بحذافيرها ،
ولكن بدلاً من ان يعيد المدينة إلى باشا عين هناك حاكماً من صنائعة يدعى داود خان
، لكن الشيخ مانع استطاع ان يلجأ إلى العرجة والسماوة في الفرات الادنى ومن هناك
بدأ باجتياح العراق وكان انصاره يتزايدون باستمرار لانه كان يمنيهم بالغنائم
الوفيرة. وازداد الخطر الذي يهدد العراق
اكثر عندما تصالح الشيخ مانع مع فرج الله وبدأ هذا الاخير يستعد للانضمام مع جيشه
البالغ عدده اربعين الف مقاتل إلى قوات عدوه السابق مانع .
وهكذا كانت انتفاضة العراق تتسع في الوقت الذي كان فيه التمرد في الحجاز اخذاً في
الاتساع هو الاخر. وقد وصلت الاحداث في القطرين إلى ذروة تطورها في نفس اللحظة
التي تحررت فيها ايدي الدولة العثمانية في الغرب بفضل عقد صلح كارلوفتس
عام ١٦٩٩م فاصبح بامكانها ان تركز كل اهتمامها على الشرق وان تعمل بشكل جدي على
قمع الأضطرابات التي شملت اجزاء
__________________
كبيرة من ممتلكاتها
العربية. وهكذا تم في عام ١٧١٠م تجهيز جيشين قويين في آن واحد ، احدهما بقيادة
ارسلان باشا وهدفه القضاء على الاضطرابات في الحجاز ، والاخر بقيادة مصطفى باشا دلتبان
الذي عين والياً على بغداد للمرة الثانية وهدفه القضاء على الشيخ مانع وحلفائه.
وقد حققت الحملتان كلتاهما النجاح ، ففي نفس الوقت الذي اعاد فيه ارسلان باشا
النظام والهدوء إلى منطقة المدينة المقدسة مكة هزم مصطفى دلتبان الثوار العراقيين
هزيمة حاسمة في موضع الرماحية بالقرب من النجف. كذلك استسلمت القرنة التي كان
الشيخ فرج الله قد احتلها مرة اخرى قبل ذلك بقليل للمنتصر طوعاً ، وبادر سكان
البصرة إلى طرد داود خان صنيعة شيخ الحويزة وفتحوا ابواب المدينة لعلي باشا الذي
نقله الباب العالي من حلب إلى منصب والي البصرة. وهكذا انتهت حملة مصطفى باشا
دلتبان التي تعرف لدى المؤرخين الاتراك باسم «حملة ذياب» نسبة إلى قناة ذياب التي
خربها الشيخ مانع لكي يغرق المنطقة فيعيق بذلك تقدم الجيش العثماني باتجاه العراق .
لم يمكث مصطفى دلتبان في بغداد طويلاً
وذلك لتعيينه صدراً اعظم فحل محله في منصب والي بغداد عام ١٧٠٢م حسن باشا وهو شخص
الباني الاصل سبق له ان شغل هذا المنصب في الفترة من ١٦٨٨ إلى ١٦٩٠م. وبتعيين حسن
باشا والياً للمرة الثانية على عاصمة العباسيين السابقة ، انتهت الاستقلالية التي
كان يتمتع بها جنوب العراق وعاصمته البصرة عن بغداد ، حيث وقعا من الان فصاعداً
تحت سلطة ولاة بغداد واصبح تاريخهما مرتبطاً بشكل لا ينفصم بمصير بغداد.
__________________
الفصل
الثامن
يؤشر ظهور حسن باشا في بغداد للمرة
الثانية بداية الفترة الثانية من تاريخ العراق تحت السيطرة العثمانية وهي الفترة
التي وحد فيها باشوات بغداد تحت سلطتهم شمال العراق وجنوبه
وكذلك مابين النهرين باجمعه بالاضافة إلى جنوب كردستان ، وغدوا مستقلين عن اسطنبول
تقريباً يقررون مصير هذه المنطقة الواسعة بانفسهم.
لقد كان العامل الاساس الذي ساعد على
تكوين هذا الوضع الاستثنائي هو رغبة الدولة العثمانية في ان تعوّض ، على حساب فارس
، عن التنازلات التي قامت بها لصالح النسما والبندقية وبولندة بموحب معاهدة
كارلوفتس ١٦٩٩م. وكانت فارس تعاني من اضطرابات اخذت تتسّع اكثر فتزيد من اضعافها
ولهذا فانها لم تعد مؤهلة لان تصد التطاولات العثمانية بحزم. وبعد ان قرر رأي
الباب العالي على الاستيلاء على الاقاليم الفارسية : اذربيجان واردلان ولورستان
كان عليه ان يفكر مسبقاً بتعزيز وضعه في هذه المنطقة القصية ، ولكن ان تحقيق هذا
الهدف لم يكن ممكناً دون تقوية السلطة ونفوذ باشوات بغداد لان مجد الحركة العربية
في العراق كان يتطلب يداً قوية تستطيع ان تحافظ على هدوء
__________________
العرب بعد ان تتوغل
القوات العثمانية في داخل فارس لكي لا تكون الانتفاضات التي سيقومون بها لصالح
الفرس. وهكذا تطابقت مساعي حسن باشا الرامية إلى ترسيخ وضعه في المنصب عن طريق
تقوية سلطته مع نوايا الباب العالي الهادفة إلى تقوية هذا الحاكم الحدودي بسبب
متطلبات الصراع المقبل مع فارس. وكانت النتيجة ان جميع اجراءات حسن باشا الموجهة
نحو زيادة قوته واهميته كانت تصادف العطف والموافقة من جانب الحكومة العثمانية
الامر الذي مكنه من تركيز قوة استثنائية في يده. ان السياسة البارعة التي اتبعها
حسن باشا وكذلك ابنه احمد باشا والقائمة على اخافة الباب العالي تارة بثورات العرب
التي يصطغانها اذ يصوران العرب مستعدين للاستسلام لفارس وطوراً بنية الباشوين
المزعومة في الانتقال إلى صف الشاه ، ساعدتهما على الاحتفاظ بالسلطة في العراق
بشكل راسخ إلى درجة ان ولاية بغداد اصبحت ارثاً في اسرتهما التي حكمت المنطقة لمدة
طويلة استغرقت ثلاثة ارباع القرن الثامن عشر.
لم يكن السبب في تعيين حسن باشا في منصب
والي بغداد هو العلاقات التي تربطه بالبلاط لكونه متزوجاً من ابنة احد اصحاب
الحظوة لدى السلطان محمد الرابع فقط ، وانما كان السبب ايضاً الخدماته الشخصية فقد
استطاع ان يظهر مواهبه العسكرية حتى في الحرب غير الموفقة مع النمسا وهي الحرب
التي انتهت بعقد صلح كارلوفتس المهين. ولهذا كرّم بعد انتهاء الحرب بالاطواغ
الثلاثة وعين في اول الامر والياً على قرمانيا ثم لم يلبث ان نقل إلى بغداد التي
بقى فيها احدى وعشرين سنة أي إلى ان توفي في عام ١٧٢٣.
كانت القضية الاولى التي انشغل فيها حسن
باشا بعد وصوله إلى بغداد عام ١٧٠٢ م هي ضرورة ايقاف الانكشارية عند حدهم ، فاذا
ما علمنا
بان هؤلاء الجنود
المشاغبين كانوا قد استحوذوا في عاصمة الامبراطورية نفسها على سلطة واسعة الى درجة
انهم كانوا لا يطيحون بكبار موظفي الدولة والسلاطين انفسهم فحسب بل انهم لم يكونوا
يحجمون عن قتل هؤلاء السلاطين ، فبامكاننا ان نتصور كيف سيكون جموحهم مع حكام
اللاقاليم ولا سيما القاصمية البعد كالعراق ، ولكي نتمكن من توضيح الدور الذي لعبه
الانكشارية في هذه المنطقة العثمانية لابد من التعوض بشكل مقتضب للحديث عن القوات
الانكشارية آنذاك.
ان مؤسس ألـ «يني تشري» أي القوات
الجديدة هو السلطان اور خان ابن السلطان عثمان مؤسس السلالة العثمانية وباني القوة
العثمانية ، الفها كلياً من الاطفال المسيحيين الذين كانوا يؤخذون من ذويهم
صبياناً فيجري تحويلهم إلى الاسلام ويخضعون لتربية عسكرية صارمة. لقد بعد هؤلاء
الانكشارية عن وطنهم وفقدوا عقيدتهم وجردوا من أي ارتباطات اذ لم يسمح لهم بالزواج
وتكوين اسر فيما بعد ، ولهذا فمن الطبيعي ان يعيشوا كلياً لمهنتهم العسكرية
ويخلصوا لثكناتهم. وهكذا فليس هناك ما يدهش في ان تؤلف هذه القوات زهرة الجيش
العثماني وان تظل لوقت طويل السبب الرئيس في كون السلاح العثماني سلاحاً لا يقهر.
ولكن هذا التنظيم اخذ يفقد طابعه الاول بالتدريج اذ اصبح يقبل في الصفوف
الانكشارية ابناء الانكشارية انفسهم في بداية الامر ثم اشخاصاً غرباء بل وجميع
الراغبين فيما بعد. وكان الانكشارية في العراق يؤلفون حاميات المدن التي يقود كلاً
منها اغا يرسل من اسطنبول مباشرة. وكانوا مخصصين كلياً لحماية المدن بحيث يستطيع
الباشوات المحليون ان يستخدموهم ضد العرب والاكراد ولكن بعد اخذ موافقة الباب
العالي أو الصدر الاعظم. غير ان الباشوات لم يكونوا يستطيعون اعتقال أو معاقبة
المذنبين أو مرتكبي
الجرائم من
الانكشارية لان هؤلاء لم يكونوا مسؤولين الا امام قائدهم فقط. وبفضل هذا التحديد
سلطة الباشوات تجاه الانكشارية وخروج هؤلاء خروجاً تاماً من صلاحيات حكام العراق
لم يكن الانكشارية لوحدهم بمنأى عن العقاب بل كان جميع من سجل نفسه في صفوفهم ممن
يهدده القصاص القانوني يتجنب التحقيق معه ومحاكمته بهذه الوسيلة. ولم يكن التسجيل
في صفوف الانكشارية يلزم الراغب في ذلك بتحمل اعباء الخدمة العسكرية وانما كان لكل
من يدخل في القائمة الحربية في ان يزاول اعماله الاعتيادية وليس عليه الا ان يدفع
ضريبة سنوية خاصة مقابل الحق في استخدام اسم انكشاري. واذا ما كان رجال الاعمال
الذين لا يتصفون النزاهة النصابون يسعون للانضمام إلى الانكشارية لتجنب الملاحقة
القضائية فان المواطنين المسلمين ولا سيما الموسرين منهم كانوا ينضمون إلى صفوف
هذه القوات لكي يضمنوا الامن لانفسهم وممتلكاتهم ذلك ان الانكشارية لم يكونوا
يتورعون عن التطاول على الاثرياء والوجهاء غير المنضمين إلى صفوفهم واستخدام العنف
ضدهم . وهكذا كان سكان
المدن بكليتهم تقريباً مسجلين لهذه الاعتبارات أو تلك في صفوف الانكشارية وكان
هؤلاء بفضل ذلك يمتلكون تأثيراً استثنائياً على سير الاحداث المحلية ويخضعون
بدورهم لتأثير الاحزاب والاتجاهات المحلية. ولهذا لم يكن بمقدور الولاة ان يفعلوا
شيئاً للانكشارية لانهم لم يكونوا اكثر من ادوات طبيعة في ايدي هؤلاء الجنود
المشاغبين الجامحين. وكان عدد الانكشارية الحقيقيين في العراق يزيد على ١٥ الف شخص
، ما يقرب
__________________
من ثمانية الاف منهم
في بغداد وما لا يقل عن خمسمائة في البصرة ، اما البقية فكانوا موزعين بشكل حاميات
صغيرة على مختلف القلاع.
من كل ذلك يكون من المفهوم ان يباشر حسن
باشا الذي كان هدفه ترسيخ وضعه في العراق بانشاء قوة تجابه الانكشارية قبل ان يفعل
أي شيء اخر ، فاسس لهذا الغرض بموافقة الصدر الاعظم - الذي خصص لذلك مبلغاً كبيراً
من المال ـ فيلقاً خاصاً من «اللاوند» أي الخيالة النظاميين الذين كانوا يؤلفون مع
حرس الباشا الخاص وقواته غير النظامية ، قوة عسكرية تتعادل مع الانكشارية فتحتم
على هؤلاء ان يستكينوا لحسن باشا ويتحولوا إلى منفذين مطيعين لاوامره.
وكان الاجراء التالي الذي اتخذه حسن
باشا بهدف تثبيت حكمه لولاية بغداد هو اخضاع القبائل العربية المحلية وقد استخدم
لذلك وسائل مختلفة ابتداءً من ارسال الحملات التأديبية ضد القبائل التي ترفض
الخضوع وانتهاء بالرشاوي والهدايا وكان هذا الوالي اول من استخدم مع العرب بنجاح
مبدأ «فرق تسد» الذي اصبح منذ ذلك الوقت حجر الزاوية في السياسة العثمانية في هذه
المنطقة. وقد انعكس استخدام هذا المبدأ بالدرجة الاولى في اخذ المراعي والاراضي
الحكومية من احدى القبائل واعطائها إلى اخرى وفي اسناد قريب طموح لهذا الشيخ
النافذ أو ذاك وذلك من اجل زرع الخلافات في عائلة هذا الاخير ، وكذلك في منح الرتب
والقاب الشرف والهدايا النقدية الكبيرة بهدف الحصول على صداقة اولئك الشيوخ الذين
كان اسنادهم له ضرورياً للكفاح ضد القبائل المعادية. ولم يتوصل حسن باشا بهذه
الاجراءات إلى اخضاع عرب العراق اخضاعاً تاماً فقط وانما حصل ايضاً على سلطة
استثنائية عليهم تسمح له بان يحول القبائل المحلية إلى اداة لتحقيق نواياه الطموحة
، وقد تعزز الحلف بين
حسن باشا والعرب
بزواج ابنه احمد من ابنة احد اكثر شيوخ العراق العرب ونفوذاً وهو امير الحلة.
بعد ان امن حسن باشا طاعة الانكشارية
وخضوع العرب اصبح بامكانه ان يفكر بتوسيع وزيادة قوته وهو امر كان يحتم عليه ان
يحصل على موافقة الباب العالي على ان تلحق بباشوية بغداد التي فوض حكمها المناطق
والاقاليم المجاورة لها ونعني شهروز أو الاجزاء الجنوبية من مناطق كردستان التي
كانت في حوزة العثمانيين والتي كان يحكمها باشا من مرتبة الاطواغ الثلاثة وماردين
التي يديرها حاكم خاص ثم البصرة التي كان يعيش بها باشا من مرتبة الطوغين يعينه
السلطان مباشرة .
وقد استغل لتحقيق هدفه هذا الاعداد للحرب ضد فارس اذ قدم للباب العالي تصورات
مدعومة بالحجج والبراهين تدلل على عدم امكانية والي بغداد مجابهة الفرس بنجاح
بالاستناد إلى قوات منطقته فقط وتعذر تسديد المصاريف الحربية بالاستناد إلى
ايرادات هذه الاخيرة لوحدها. ولم يتسطيعوا في استطنبول الا الموافقة على وجهة نظره
هذه وهكذا تقرر ان تكون كردستان وماردين تابعة له تبعية تامة.
اما ضم البصرة فكان اصعب من ذلك بكثير
ولكن ظروفاً ملائمة ساعدت هذا الرجل الطموح. وخلاصة القضية ان خليل باشا الذي عين
في ١٧٠٦م والياً للبصرة ارسل إلى هناك كهية ، أي مسؤول التموين في الجيش
قبله فاثار هذا باعماله التي تفتقر إلى الحذق والخبرة ثورة جدية
__________________
قام بها المنتفقيون
بزعامة ابن مانع المعروف. فبعد ان وصل خليل باشا إلى البصرة عزل ابن مانع وعين
بدلاً منه شيخاً اخر رفض المنتفقيون الاعتراف به ، وعندما جرب والي البصرة اجبارهم
على ذلك بالقوة وجرد عليهم حملة قادها بنفسه انتصر عليه المنتفقيون انتصاراً
ساحقاً ثم نهبوا البصرة نفسها. عند ذلك فوض حسن باشا والي بغداد مهمة تهدئة الثوار
فارسل لهذه المهمة كهيته مصطفى اغا ، واستحصل ـ بعد ان نفذ المهمة الموكلة اليه
بنجاح ـ موافقة الباب العالي على تعيينه والياً للبصرة. وقد ساد المنتفقيين الهدوء
طيلة حكم الكهية المشار اليه الذي استمر من ١٧٠٨ إلى ١٧١٢ م ولكن بمجرد ان فكر
الباب العالي بتعيين شخص اخر هو عثمان باشا تجددت الاضطرابات بنفس القوة السابقة ،
وهكذا فان جميع الولاة الذين اتوا بعد ذلك معينين من اسطنبول اما انهم لم يصلوا
إلى البصرة ابداً لان العرب كانوا يهاجموهم وينهبون قوافلهم بلو يقتلونهم في بعض
الاحيان واما انهم تحتم عليهم ان يغادروا المدينة بعد الوصول اليها مباشرة بسبب
الانتفاضات العربية المتواصلة التي كان اخمادها يتطلب جهوداً مضنية ومصاريف باهضة.
ولهذا لم يعد يوجد راغبون في تولي حكم البصرة ولا سيما بعد ان فشل اخر والي معين
في البصرة وهو حسن يوروك في القضاء على الاضطرابات التي قام بها المنتفقيون في عام
١٧١٥ م وشارك فيها ايضاً بنو لام الاقوياء. وهكذا تحتم على الباب العالي ان يستدعي
يوروك باشا ويفوض والي بغداد حسن باشا مرة اخرى مهمة تهدئة الانتفاضة التي كانت
تهدد في حالة التباطؤ باخمادها بالتوسع لدرجة خطرة نتيجة لان قسماً من بني لام وهو
القسم الذي كان قبل ذلك بقليل ينتقل داخل الحدود الفارسية كان يستعد للتوغل في
الاراضي العراقية مع فصيل من عرب الحويزة تعداده الفاً. وبعد ان نجح حسن باشا في
تهدئة العرب دون
اراقة دماء تقريباً اقترح على الحكومة ان تعين لولاية البصرة ابنه احمد متكفلاً
بان يحافظ على الهدوء التام في جنوب العراق وان يرسل إلى الخزينة بشكل منظم
الايرادات المحسوبة على تلك المنطقة ايضاً. ولم يبق امام الباب العالي الا
الموافقة على هذا الاقتراح وهكذا عين احمد باشا ابن حسن باشا في ١٧١٥م والياً
للبصرة .
وبهذا الشكل استطاع والي بغداد ان يضم
إلى الباشوات التي يحكمها جنوب العراق ايضاً ومعه البصرة مدينته الرئيسة التي اصبح
مصيرها ، بفضل ذلك مرتبطاً بشكل اوثق بسير الاحداث العام في بغداد وبنشاط الولاة
هناك. وفقدت البصرة منذ ذلك الوقت استقلالها الاداري ، ذلك ان ولاة بغداد اصبحوا
هم الذين يرسلون اليها حاكمها اذ يختارونه من بين الموظفين الذين يثقون بهم ، وكان
لقبه «المتسلم». وحتى «القبودان» باشا الذي كان السلطان حتى ذلك الوقت يختاره من
بين كبار البحارة ويرسله إلى هناك تحول إلى ضابط بسيط يخدم لدى والي بغداد ، وبذلك
اصبح هذا الاخير الرئيس الفعلي لاسطول البصرة الذي كان يتألف من بضعة عشرات من
السفن المسطحة القاع مخصصة لمكافحة القراصنة في انهار وقنوات جنوب العراق
وللمحافظة على النظام والامن في الطرق المائية في المنطقة.
لقد اصبحت تحت سلطة حسن باشا بعد ضم
العراق منطقة لاتقل في مساحتها عن مصر تشمل كل الاقاليم الواقعة بين الخليج
والحدود السورية من جهة وحدود فارس من جهة اخرى. ولهذا كاد والي بغداد ان يصبح
اقوى الولاة الاقليميين في الامبراطورية العثمانية جميعاً لا سيما اذا
__________________
اخذنا بنظر الاعتبار
انه يتصرف بكل ايرادات هذه المنطقة الواسعة وهي ايرادات تصل إلى مبالغ طائلة. فايرادات
الكمارك وحدها كانت تدر مبلغ لايستهان بها بسبب ازدهار التجارة بين اوروبا والهند
عبر فارس وعبر البصرة وبغداد ايضاً. لقد كانت قوة الوالي العسكري تتألف من جيش
تعداده اربعين الفاً اختير نصفهم من العرب ، بالاضافة إلى عدة الاف من الخدم
والوصفاء والحرس الشخصي وغيرهم من الافراد الذين يخدمون لديه شخصياً. ولم يكن
لبلاط بغداد في عظمته وترفه نظير في الامبراطورية ولا يمكن ان يساويه الا بلاط
السلطان نفسه ، ففي بغداد البعيدة كانت توجد الوظائف ذاتها الموجودة في اسطنبول
كما ان الباشا انشأ حريماً لا يكاد يختلف في شيء عن حريم السلطان ، واخيراً كان
هناك ، كما هي الحال في العاصمة ، الكثيرة من الوصفاء الذين يجلبون من القفقاس ولا
سيما جورجيا حيث يلتقي الذين يجلبون منها تعليماً عثمانياً يعتبر عالياً بمقاييس
ذلك العصر وذلك خصيصاً لكي يتولّى مناصب مسؤولة في ولاية بغداد. وقد برز من بين
هؤلاء الوصفاء فيما بعد عدد من الشخصيات المرموقة التي وصل بعضها بجهده الخاص إلى
منصب والي المنطقة. وقد شُكِلَ «الديوان» أو مجلس الباشا وكذلك مكتبه على غرار ما
هو قائم لدى الباب العالي بحيث ان دور الصدر الاعظم كان يقوم به في بغداد «كهية» الباشا
أي مساعده ومستشاره الموثوق الاقرب. وكانت اوامر الباب العالي تناقش فقط في هذا «الديوان»
لكنها نادراً ما كانت تنفذ .
وخلاصة الامر بدا كما لو ان ولاة بغداد كان هدفهم تذكير اهاليها بالفخامة والروعة
التي كان عليها بلاطهم في ايام عظمة الخلفاء العباسيين.
__________________
ولم يدخل مثل هذا الجهد المكثف من جانب
حسن باشا بالطبع في حسابات الحكومة التي حاولت عزل هذا الباشا القوي عدة مرات
ولكنه كان يتمكن في كل مرة من تأجيل اقالته. وهكذا طالت القضية إلى ان بدأت الحملة
على فارس وعندما لم يعد عزل باشا بغداد والقائد العام للقوات العراقية المسلحة
متأخراً فحسب ، بل اصبح خطراً ايضاً فلربما اجبره ذلك على التحول إلى فارس خوفاً
على حياته. ولهذا لم يبق امام الباب العالي الا استغلال قدرة والي بغداد وقوته ضد
الجارة الشرقية. وقد بدأت الحملة بالفعل في عام ١٧٢٣م عندما عبرت الحدود وتوغلت في
تخوم فارس ثلاثة جيوش عثمانية خصص احدها وهو الجيش الذي كان يقوده حسن باشا والي
بغداد للعمل ضد كرمنشاه وعموم المنطقة الجنوبية القريبة من فارس.
لقد كان الوقت الذي اختبره لبداية
الحملة في غاية الملاءمة ذلك ان فارس كانت تعيش انذاك اخر فصول الدراما الصفوية
فقد قام الافغان الذين كانوا قد تحرروا من السلطة الفارسية في ١٧١٧م بغزو فارس
بقيادة السلطان محمود .
ولم يكن الشاه سلطان حسين الذي ارتقى العرش في ١٦٩٤م والذي كتب عنه فولينسكي مبعوث
بطرس الكبير إلى الامبراطورية يقول : «يوجد هنا الان رئيس لا يقف فوق الرعية ولكنه
رعية لرعيته ....»
لم يكن ابداً في حالة تمكنه من صدّ محمود الذي احتل العاصمة اصفهان في ١٧٢٢م واطاح
بالشاه واستحوذ على تاج فارس. ولم تعترف اغلبية
__________________
مناطق فارس واقاليمها
بالمغتصب فهب سكانها للنضال ضد الافغان بقوة السلاح الامر الذي ادى إلى حدوث
اضطرابات وفوضى داخلية سيطرت على الدولة طيلة عقد كامل من السنين.
لم يكن الوضع الحرج الذي كانت تعاني منه
فارس هو وحده الذي دفع الدولة العثمانية إلى التعجيل بفتح العمليات العسكرية ضد
منافسيها وانما الذي دفعها إلى ذلك ايضاً هو موقف روسيا التي عانى رعاياها وتأثرت
تجارتها بشدة من الفوضى التي عمت فارس ، ولهذا فانها لم تستطع الا ان تهب دفاعاً
عن مصالحها لاسيما وان تمكن الدولة العثمانية من تحقيق مأربها تجاه الاقاليم
الشمالية من فارس العاجزة سيؤدي إلى تقدم الحدود العثمانية حتى تصل إلى شرق بحر
قزوين أي إلى عتبة شرق روسيا ذاتها. وهكذا اراد الامبراطور
ان يبادر العثمانيين وتحرك بنفسه إلى داغستان واحتل في ربيع ١٧٢٢م مدينة دربند.
وهناك التقى برسول من الشاه طهماسب
يتقرح عليه مساعدة الشاه عسكرياً ضد المغتصب والمنافق مقابل تخلي الشاه لروسيا
طوعاً عن داغستان والمناطق الاخرى المتاخمة لقزوين مما اثار احتمال اتخاذ بطرس
الكبير دور المدافع من فارس اشد المخاوف جدية لدى الباب العالي الذي خشي على نجاح
خططه التوسعية تجاه فارس ولهذا اعلنت الحكومة العثمانية حمايتها على داود بيك امير
ليزيكيا الذي كان يتمتع بسلطة وراثية ويعيش في شيماخ ويعتبر تابعاً لفارس ، واخذت
تطالب القيصر باخلاء داغستان التي تحتلها القوات الروسية مدعية انها تؤلف ملكاً
اقطاعياً للامير المذكور. وهكذا
__________________
كانت الدولة
العثمانية تنوي الحرب وهو امر لم يدخل اطلاقاً في خطط بطرس الكبير الذي اسرع
بتقديم تأكيدات مهدئة للدولة العثمانية تؤكد عم تدخل روسيا في مسألة ضم جزء كبير
من غرب فارس إلى ممتلكات السلطان. ولكن هذه التأكيدات لم تقنع الدولة العثمانية
التي بادرت فأمنت لنفسها وضعاً مساوياً لروسيا. ونعني قيامها بدور المدافع عن
الشاه طهماسب ، وبعدها رأت ان الضرورة تقضي ان تعقد في ١٧٢٤ م اتفاقية خاصة مع
الحكومة الروسية احتفظت بموجبها بالحق في ان تستولي دون عائق على جميع الاراضي
الفارسية الواقعة إلى الغرب من خط يمتد من مجرى نهر كورا واراكس إلى مدينة همدان .
كانت القوات العثمانية قبل توقيع هذه
الاتفاقية قد اجتازت حدود فارس واحتلت تفليس
وجزءاً من اذربيجان ثم كرمنشاه. وقد جرى الاستيلاء على هذه الاخيرة في عام ١٧٢٣م
من قبل القوات العراقية بقيادة حسن باشا والي بغداد الذي تحرك بعد ذلك نحو همدان
ولكنه توفي اثناء حصارها فسارع الباب العالي من اجل ان لاتتوقف الحملة إلى تعيين
احمد باشا الذي كان يرافق اباه في الحملة خلفاً لهذا الاخير فتسلم ولاية بغداد
والقيادة العامة للقوات العراقية في آن واحد. وقد سعى احمد باشا لان يثبت كفاءته
امام الحكومة فاستولى في ١٧٢٤ م على همدان وتوغل في السنة التالية في لورستان
واستولى على خرم آباد المدينة الرئيسة فيها ثم تغلب على البختياريين. وهكذا فآنه
لم يضم إلى الدولة العثمانية كل الجزء
__________________
الجنوبي من المنطقة
التي حددتها المعاهدة مع روسيا فقط ، وانما ضم اليها ايضاً اراضي اللوريين
والبختياريين المجاورة التي تقع خارج الخط المتفق عليه.
كان العرش الفارسي حتى هذا الوقت قد
انتقل إلى السلطان اشرف الذي اطاح بابن عمه السلطان محمود. وقد عزم اشرف هذا على
ان يصبح نداً للسلطان العثماني ويعلن نفسه خليفة للنصف الشرقي من العالم الاسلامي
أي لفارس وافغانستان فبادر إلى اخبار السلطان العثماني بذلك في بداية ١٧٢٦ م عن
طريق مبعوث خاص طلب من الباب العالي باسم اشرف اعادة جميع الاراضي الفارسية التي
استولى عليها العثمانيون مؤخراً باعتبارها ملكاً للخليفة الجديد الذي زعم انه احق
بالخلافة من السلطان العثماني لانه ينحدر من قريش قبيلة الرسول (ص) .
وطبيعي انه لم يكن بمقدور الدولة العثمانية السماح بوجود خليفتين لذا فقد قررت
اجبار اشرف على التخلي عن مطامعه بقوة السلاح رغم اتضاح عدم رغبة الجنود
العثمانيين في محاربة الافغان شركائهم في العقيدة.
غير ان احمد باشا الذي توغل في فارس مرة
اخرى في ١٧٢٦ م لم يصب النجاح في هذه المرة فقد اندحر في اول صدام جدي مع الافغان
وقع بالقرب من همدان. لذا فقد تحتم عليه ان يعجل بالتراجع إلى بغداد التي دعته
للعودة اليها ـ بالاضافة إلى ذلك ـ خطورة الوضع في العراق الذي كان قد تعرض إلى
غزو ماحق قام به اللوريون والبختياريون وسكان خوزستان وادى هذا الغزو إلى انعاش
الرغبة في الاستقلال لدى القبائل العربية المحلية التي كانت حتى قبل ذلك قد مالت
إلى اشرف ، بفضل
__________________
ادعاءاته بأصله
القرشي. ولذلك فقد كان لدى الباب العالي اساس قوي في خشيته من ان يقوم عرب العراق
بانتفاضة شاملة وان يستولي اشرف بمساعدتهم على مكة والمدينة لكي يعزز حقه
بالخلافة. ولم يكن هناك من يستطيع امساك العراقيين عن الانتقال إلى صف الافغاني
سوى احمد باشا الذي كان متزوجاً من ابنة شيخ الحلة النافذ ولذلك فقد ابقي في منصبه
بالرغم من الفشل الذي حاق به. وفضلاً عن ذلك فقد اقتنع الباب العالي بعدم امكانية
مواصلة الصراع مع الافغان بسبب التهديدات التي اخذ يتعرض لها من جانب النمسا
والبندقية وبسبب الاستياء الذي عم الامبراطورية العثمانية نفسها نتيجة للحرب ضد
الشركاء في المعتقد ، ولهذا علّه قرر البابا العالي تكليف احمد باشا بمهمة أجراء
مفاوضات الصلح مع اشرف. ولكن أحمد كان يتحرق رغبة في الثأر من أشرف للهزيمة التي
لحقت به ولذا فقد اجتاز الحدود الفارسية مرة اخرى بجيش تعداده ٦٠ الفاً من الجنود
ولم يستطع مبعوث السلطان اللحاق بجيش بغداد هذا الا بالقرب من همدان وهناك عقدت
بين احمد باشا ومبعوث من قبل الافغان معاهدة صلح عرفت باسم معاهدة همدان ، تخلى
اشرف بموجبها عن مطالبته بالخلافة واعترف بالسلطان خليفة اوحد للمؤمنين ورئيساً
للعالم الاسلامي باجمعه ووعد بذكر أسمه قبل أسم اشرف نفسه عند صلاة الجمعة في جميع
انحاء فارس ، وتنازل للدولة العثمانية تنازلاً ابدياً عن اذربيجان وكرمنشاه ومعها
همدان وخوزستان وزنجان وسلطانية وابخير وطهران. وفي مقابل ذلك اعترف به الباب
العالي حاكماً شرعياً لفارس ووعد بعدم اسناد الشاه الصفوي طهماسب .
__________________
وقد ثارت لدى الباب العالي بعد عقد
الصلح مخاوف جديدة من ان يجعل احمد باشا الاقاليم التي تنازل عنا اشرف وهي اقاليم
متاخمة لباشا بغداد مباشرة مناطق تابعة له مما سيوسع ولاية بغداد بحيث تصبح بحجم
دولة كاملة ولهذا تقرر نقل احمد باشا إلى ولاية اخرى ولكن احمد هذا الذي كان قد
حذره انصاره المقربون في اسطنبول في الوقت المناسب من نوايا الحكومة عمد إلى اثارة
عرب المنتفق فقاموا في بداية ١٧٢٨ م باضطرابات شديدة في جنوب العراق مما اجبر
الباب العالي على ابقاء الباشا الحاذق في بغداد لحين تهدئة العرب الثائرين نهائياً.
وفي هذه الاثناء جرت في فارس أحداث جاءت
لصالح أحمد باشا إذ مكنته من البقاء في العراق لمدة ربع قرن أي حتى وفاته ، فقد
ظهر لدى الشاه المطرود طهماسب قائد عسكري بارز وهو شخص تركماني من قبيلة الافشار
يدعى نادر قلي خان الذي باشر بطرد الافغانيين من فارس فاستولى في وقت قصير نسبياً
على خراسان وهرات ومن ثم حطم جيش اشرف في دامغان واستطاع في نهاية الامر ان يجبره
على الاختباء في بلوجستان حيث لم يلبث ان قتل على يد شخص مجهول من اهالي المنطقة .
وبعد ان طهر نادر قلي البلاد من الافغان ادخل في نهاية عام ١٧٢٩ م الشاه طهماسب
إلى اصفهان بشكل مهيب واقنعه بان يرسل إلى السلطان على الفور سفارة تطالب باعادة
الاراضي التي اخذت من فارس. وفي ربيع ١٧٣٠م تحرك الجيش الفارسي بقيادة نادر قلي
لتحرير همدان وبعدهما استعيدت من العثمانيين كرمنشاه وتبريز وغيرها من المدن بحيث
سارعت الدولة العثمانية التي لم تتمكن من تهيئة الرد المطلوب إلى عقد الهدنة وقد
وافق
__________________
نادر شاه على الهدنة
عن طيب خاطر لاسيما ان انتفاضة الافغان في هرات كانت تستدعي منه الذهاب إلى هناك.
وهكذا ظهر على مقربة من الدولة
العثمانية وبشكل غير متوقع عدوّ قوي وشجاع سيجري معه صراع عنيف ذلك ان حماية
المناطق الشرقية من الدولة منه لم تكن امراً سهلاً. لقد ادرك الباب العالي تمام
الادراك بان الوقت الراهن هو انسب الاوقات لاستخدام قوة احمد باشا ضد نادر قلي خان
، ولكنه لم يكن يثق باحمد باشا بل كان يخشاه وذلك بسبب الوشايات التي قام بها
اعداء احمد. ولهذا فلقد كلف احمد باشا البقاء في منصبه جهوداً كبيرة فهو لم يتمكن
من ذلك الا بفعل سياسته الحاذقة القائمة على التوازن الموفق ما بين السلطان ونادر.
ففي الوقت الذي كان فيه يمنع الاول من اتخاذ تدابير صارمة ضده عن طريق تخويفه
باحتمال تحوله إلى صف فارس ، كان يخدع الثاني واعداً اياه بالاعتراف الطوعي
بسيادته. وكانت هذه السياسة تثير اعداء احمد بمقدار ما كان هو يوسع من حيله وخدعه
للمحافظة على حياته ومنصبه. والواقع ان احمد باشا لم يكن يشعر بالامان الا في العراق
الذي كان وضعه فيه قد توطد بشكل راسخ. وهكذا فان تاريخ احمد باشا المقبل ماهو الا صراع
قام به احمد على جبهتين الاولى ضد نادر شاه من اجل العراق والثانية ضد اعدائه في
اسطنبول.
لقد كانت اهمية العراق بالنسبة إلى
الدولة العثمانية تزداد بمقدار ما كانت سلطة نادر قلي تتوطد في فارس المجاورة التي
كانت تشهد احداثاً سريعاً متعاقبة. وبينما كان نادر شاه منهمكاً في قهر الافغان في
المناطق الشرقية من فارس جهز أحمد باشا في ١٧٣١ م حملة على كرمنشاه بهدف اعادتها
إلى الدولة العثمانية .
ومع ان الشاه طهماسب تحرك بنفسه لنجدة
__________________
المدينة إلا انه سارع
بعد ان أصيب بعدة اندحارات على يد باشا بغداد إلى عقد الصلح متنازلاً للدولة
العثمانية عن أرمينيا وقره باغ وجورجيا. وقد اعطى فقدان هذه الاقاليم لنادر شاه
الحجة التي كان يبحث عنها منذ وقت طويل لعزل الشاه طهماسب. وبالفعل فقد قام بعزله
محتجاً بعدم اهليته ونصب بدلاً منه على العرش الفارسي ابن الشاه الذي كان عمره ستة
اشهر باسم عباس الثالث وعين نفسه وصياً على الشاه الجديد فأخذ بذلك زمام الامور
بيده.
كان أول عمل قام به رئيس الحكومة الفارسية
الجديد هو انه أرسل إلى الدولة العثمانية ، بواسطة أحمد باشا ، يهددها بالحرب اذا
لم تتخل طوعاً عن الاقليم التي تنازل لها عنها الشاه طهماسب. وقد اجاب الباب
العالي على نزوة نادر شاه هذه بارسال جيش قوي يتألف من قوات الانضول وقوات مصر
بقيادة والي طرابزون طوبال عثمان باشا. غير ان الوصي الفارسي كان قد بدأ العمليات
العسكرية ضد العثمانيين قبل وصول طوبال عثمان فاستعاد كرمنشاه في ١٧٣٣ م ثم حاصر
بغداد. وقد قاومت عاصمة العباسيين السابقة الفرس بصلابة طيلة ثلاثة اشهر إلى ان
تمكن طوبال عثمان الذي قدم للنجدة من ان يجتذب ، بحيلة عسكرية ، الجزء الرئيس من
جيش نادر ويحطمه في معركة عنيفة ودامية. اما الجزء الذي بقي تحت اسوار بغداد فقد
حطمته الحماية العثمانية المحاصرة بصولة قامت بها عليه. لكن هذا الخلاف لم يكسر
اصرار نادر شاه الذي تحرك ضد بغداد مجدداً في شتاء ١٧٣٣ م وقابل في وادي مندلي ، على
بعد خمسين ميلاً من بغداد ، طوبال عثمان والحق به هزيمة ساحقة. وفي هذه المعركة
مات القائد العثماني الذي كان قد تقادم به العمر
وبعد هذا النصر
__________________
اقترب نادر قلي خان
مرة اخرى من بغداد واتصل باحمد باشا طالباً تسليم المدينة طوعاً غير ان والي بغداد
اطال المفاوضات عمداً إلى ان اجبرت انتفاضة قامت في اقليم فارس الوصي على الاسراع
بالعودة إلى فارس .
لقد صور اعداء احمد باشا وعلى رأسهم
الصدر الاعظم على باشا تحطيم نادر شاه للجيش العثماني عند مندلي للسلطان على انه
نتيجة لخيانة والي بغداد فأقيل احمد باشا لهذا السبب من حكم العراق في بداية ١٧٣٤م
وطيلة سنتين من هذا التاريخ ظل الولاة هناك يعينون من اسطنبول مباشرة وقام احدهم
وهو اسماعيل باشا عندما عين صدراً اعظم في بداية ١٧٣٦م بالتوسط لاعادة احمد باشا
والياً على بغداد. وكان السبب في هذا العطف المفاجئ هو ان النجاحات غير الاعتيادية
التي حققها الوصي الفارسي في مسرح العمليات العسكرية في القفقاس واندحار
العثمانيين مجدداً في ١٧٣٥م بالقرب من يرفان جعلت الدولة العثمانية تقرر عقد الصلح
وعلقت على علاقات الصداقة التي تربط احمد باشا بنادر قلي خان امالاً خاصة في عقده.
ولهذا فقد انيطت مهمة اجراء مفاوضات الصلح بوالي بغداد الذي اعيد إلى منصبه فارسل
هذا مندوباً عنه إلى معسكر موغان الذي كان نادر شاه موجوداً فيه انذاك ، وكان هذا
الاخير قد نصب في السنة نفسها أي في ١٧٣٦م في موغان شاهاً لفارس بسبب موت عباس
الثالث فجأة ، الامر الذي دفع الباب العالي إلى التعجيل بتوقيع معاهدة الصلح. ولم
يستطع الشاه الجديد ان يعيد لصالح فارس الحدود التي كانت قائمة في زمن مراد الرابع
مما يعني تنازل الدولة العثمانية عن جميع ما استولت عليه من الاراضي الفارسية منذ
ذلك الوقت فحسب ، بل حصل ايضاً للحجاج الفرس
__________________
على حق المرور بحرية
إلى مكة عن طريق الحسا والسماح لهم بزيارة النجف وكربلاء وغيرها من العتبات
المقدسة في العراق دون عائق.
وفي الوقت نفسه طرح نادر شاه في اسطنبول
قضية الاعتراف بالمذهب الخامس أي الجعفري إلى جانب المذاهب السنية الاربعة وهي
الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وباتباعه الفرس الذين زعم انهم اعتنقوا منذ
الان الاتجاه السني في الاسلام. ولكي يقنع الدولة العثمانية اكثر بصحة قيام
الانقلاب الديني في فارس توجه نادر شاه إلى الشعب في فارس بمرسوم اكد فيه ضرورة
انهاء الانشقاق بين السنة والشيعة ودعا سكان ايران إلى التخلي بعد الان عن جميع
العقائد التي تميز التشيع ابتداءً من عدم الاعتراف بالخلفاء الثلاثة الاوائل.
وهكذا بدا كما لو ان نادر شاه كانت تحركه الحمية الدينية ولم يكن يسعى إلاّ إلى
انهاء الصراع بين السنة والشيعة. غير ان حاكم فارس كان في واقع الامر يمارس نوايا
الطموح تحت هذا الغطاء ساعياً لتوحيد تاجي فارس والدولة العثمانية في شخصه والتوصل
إلى اعلانه خليفة لكلا الدولتين بعد ربطهما مسبقاً بالمذهب السني المشترك .
لكن الدولة العثمانية ادركت هذه الخطط ورفضت الاعتراف بالمذهب الجعفري الجديد
وبذلك تكون قد قدرت تقديراً جيداً الخطر الذي يهددها من جانب نادر شاه واصبحت
تستعد بشكل افضل لمواصلة الصراع معه بعد فترة توقف في العمليات العسكرية استمرت من
١٧٣٧ إلى ١٧٤٠م استغلها حاكم ايران الذي لايكل للقيام بحملته الظافرة على الهند.
في أثناء هذه الفسحة غير الاختيارية
ارتاح العراق ايضاً بعض الشيء
__________________
من كوارث غزوات نادر
المتواصلة سيما ان الباب الذي كان مشغولاً بالحرب مع روسيا والنمساء لم يكن يتدخل
في الامور الداخلية للمنطقة موفراً لاحمد باشا والي بغداد صاحب الشعبية الواسعة
بين الاهالي امكانية معالجة الجروح التي سببتها لهذه المنطقة الحروب الفارسية
الاخيرة ولو جزئياً. ومع ذلك لم يتأت للعراق ان يرتاح طويلاً ذلك ان نادر شاه بعد
ان رجع من الهند عاد وركز انظاره عليه واخذ بتهيئة الجو لتنفيذ نيته بالاستيلاء
على هذه المنطقة. وقد انعكست هذه التهيئة بقيام انتفاضات عربية جديدة اثارها انصار
الشاه بسهولة. وقد زاد من هذه السهولة ان احدى القبائل العراقية الرئيسة ، وهي
المنتفق لم تكن على علاقات طيبة مع احمد باشا ، وكان سبب استياء المنتفقيين هو عزل
الباشا لشيخهم النافذ سعدون والقائه في السجن بسبب رفضه رفضه دفع الضرائب التي
طلبت منه للاعداد للحرب ضد فارس. لكن الشيخ الجديد الذي حتم اعادة المشيخة إلى
سعدون الذي لم يغفر لاحمد اذلاله له بهذا الشكل ، فقام في ١٧٤١ م وبعد ان وجد
سنداً له في شخص نادر شاه بانتفاضة في جنوب العراق الذي نهب من قبل المنتفقيين
واخذت فصائل الثوار العرب تستعد للاستيلاء على البصرة التي لم يتمكن متسلمها من
جعلها في وضع دفاعي الا بصعوبة. وبما ان المتسلم لم يكن يعتقد بامكانه حمايتها من
المنتفقيين فقد طلب من والي بغداد ارسال التعزيزات بسرعة ، وكان الوالي في ذلك
الوقت في الشمال مشغولاً في الكفاح ضد القبائل الكردية التي اثارها مساعي نادر شاه
ايضاً ضد العثمانيين .
__________________
اسرع أحمد باشا بقواته نحو البصرة ولكنه
بدلاً من معاقبة سعدون فانه لدهشة الجميع تصالح مع الشيخ المتمرد بعد بضعة صدمات
صغيرة مع العرب ، ولم يفعل له شيئاً بل انه لم يجرده من المشيخة ، وكان السبب في مثل
هذا التصرف هو ان اخباراً وصلت إلى احمد باشا من اسطنبول مفادها ان اعداءه هناك
سعوا لتعيينه «سر عسكر» أي قائداً اعلى للجيش العثماني المتوجه بعيداً إلى الشمال
لمجابهة نادر شاه وذلك بعد ان فشلوا في ابعاده عن حكم ولاية بغداد بطريقة اخرى .
لقد عدّ والي بغداد ابعاده عن العراق الذي جاء مقترناً مع فصل البصرة وجعلها ولاية
مستقلة عين لها والياً خاصاً شخص يدعى حسن باشا ، نذيراً للعاصمة التي كانت تتجمع
فوق رأسه ولهذا فانه قرر ان يستخدم الشيخ سعدون بمثابة مانعة صواعق وذلك بتخويلة
حرية العمل في جنوب العراق.
وقد فسر الشيخ سعدون من جانبه هذا
التخويل على انه حق مطلق يسمح له ان ينهب القوافل ويتسولي على البضائع من السفن
المارة في الانهار والقنوات ، مما كان يؤدي إلى اعاقة الحركة التجارية ولم يحجم
هذا القائد المنتفقي حتى عن طلب مبالغ نقدية كبيرة من التجار الاوروبيين والنقاصل
الاجانب في البصرة مهدداً اياهم بنهب ممتلكاتهم وممارسة العنف ضدهم في حالة عدم
الاستجابة لمطاليبه. ومع وصول متسلم الوالي الجديد اقام الشيخ سعدون مضاربه عند
ابواب المدينة مباشرة وقطع صلتها بالعالم الخارجي. وفي الوقت نفسه بدأ شيخ الحويزة
المجاورة الذي كان في الفترة الاخيرة يتذبذب بين الانضمام للدولة العثمانية
والعودة إلى سلطة فارس حتى اعترف اخيراً بسيادة نادر شاه ، بدأ يستعد للهجوم على
البصرة
__________________
التي اخذ جميع رعايا
فارس يغادرونها على عجل بشكل تظاهري فيزيدون بذلك من الارتباك الجماعي. وقد اقر
الباب العالي بسبب هذا الوضع الحرج بضرورة الغاء اوامره واعادة منطقة البصرة إلى
سلطة احمد باشا الذي بادر على الفور إلى ارسال متسلمه السابق يحيى اغا إلى هناك
فاستطاع هذا ان يجبر الشيخ سعدون على الانسحاب مع اتباعه إلى القرنة.
ولم يترك نادر شاه في خلال ذلك أي
مناسبة الا واستغلها للتأثير على عرب العراق باتجاه يلائمه ، حتى حوّل استعداداته
للاستيلاء على العراق إلى تظاهرة مفيدة لخططه ، فقد جمع كميات كبيرة من المؤن
والعلف وخزنها في الحويزة المجاورة للبصرة واشترى في العراق نفسه ٦٠٠٠٠ رأس من
الحيوان لخيالته .
وقد أثارت ضخامة هذه الاستعدادات العلنية للحرب بالاقتران مع التحريض الذي كان
يقوم به مبعوثو نادر شاه الحركة العربية في العراق مجدداً ، وهكذا اشتغلت في ١٧٤٢ م
انتفاضة الزبيديين وبعض العشائر القاطنة في الاهوار في مجرى الفرات الادنى ووقفت
هذه العشائر ضد العثمانيين بقوة السلاح وقد كلف تهدئتها جهوداً كبيرة تجشمها
سليمان اغا كهية والي بغداد. ولم تكد هذه الاضطرابات تنتهي حتى ثارت قبيلة كعب
التي تقطن المنطقة الواقعة على الضفة اليسرى لشط العرب حتى نهر الجراحي وهنديان.
لقد استاء هؤلاء من عزل شيخهم السابق فقتلوا الشيخ الجديد الذي عينه احمد باشا
واخذوا يستعدون للاغارة على البصرة لكن متسلم المدينة وجه اليهم فصيلاً من
الانكشارية استطاع ان يحطم الثوار ويأسر قائد الانتفاضة .
__________________
وبعد ان اعلم الباب العالي بهذه
الهبوبات العربية لصالح فارس طلب من احمد باشا ان يعمل ، قبل بدأ العمليات
العسكرية ضد نادر شاه ، على اتخاذ الاجراءات الكافية بمنع اكثر القبائل العراقية
قوة واكثرها اضطراباً ونعني المنتفقين وبنى لام من انتقال إلى صفوف الفرس. وقد
القى احمد باشا تنفيذ هذه المهمة على عاتق الكهية سليمان اغا وكان هذا قد قاد
باستمرار الحملات التأديبية ضد العرب فاستطاع بذلك ان يستوعب جميع خططهم وخدعهم
بحيث لم تنج واحدة من القبائل العربية من يد هذا المؤدب الرهيب. لقد كان هذا الكهية
ماهراً بشكل خاص في مباغته المعسكرات العربية بغارات ليلة ، وبسبب ذلك اطلق عليه
العرب اسم «ابو ليلة» وسماه اهالي بغداد اسد باشا تعظيماً له وما ان سمع الشيخ
سعدون باقتراب فيصل سليمان اغا حتى عجّل بالانسحاب إلى صحراء السورية وعد نفسه
هناك آمنا تماماً لان أي قائد عثماني لم يخطر قبل ذلك بتعقيب العرب في تلك المنطقة
الجرداء عديمة الحياة. غير ان الكهية سليمان الذي كانت له حسابات شخصية مع سعدون
لم تثنه صعوبات السير في الصحراء واستطاع ان يجد معسكر الشيخ الذي لم يكن يرتاب
بشيء فهاجمه قبل ان يستفيق من المفاجأة. وبعد مقاومة يائسة تحكمت قوات الشيخ سعدون
ولقى هو نفسه مصرعه في حومة القتال وقد فصل رأسه عن الجسد وارسل بين غنائم اخرى
إلى اسطنبول. وقد هرب اخو سعدون إلى فارس ثم عاد ومعه رسالة توصية من نادر شاه إلى
احمد باشا وقد بادر هذا إلى تعيينه شيخاً للمنتفقين على امل ان يجد في شخصه مطيعاً
لمخططاته ومنفداً لها وفي السنة نفسها أي في عام ١٧٤٢ م اقتص سليمان اغا بقسوة
لاتقل عن ذلك من بني لام متهماً اياهم بالمشاركة في انتفاضة المنتفقين في النسة
الماضية وفي الميل للانتقال إلى صف نادر شاه على غرار جزء
من ابناء قبيلتهم كان
ينتقل منذ ١٧١٥ م في منطقة الحويزة. ان هذه الاضطرابات العربية بالاقتران مع خراب
جنوب العراق بسبب نهب العرب الثائرين وبسبب الفيضانات والمجاعات ايضاً - حتى ان
سكان البصرة نجوا من الموت جوعاً بسبب سماح نادر شاه بشراء القمح من مخازن الحويزة
- اعطت خصوم احمد باشا حجة جديدة لاتهامه بالاهمال المقصود للعراق مؤكدين ان هدفه
من ذلك هو ان تذهب هذه المنطقة بسهولة إلى نادر شاه. وكانت هذه الاتهامات الجديدة
التي كان يؤيدها بحماس عدو احمد الرئيس ونعني علي باشا الذي كان قد عين في منصب
الصدر الاعظم مجدداً اثره ، فنقل احمد باشا في ١٧٤٣ م إلى دمشق. وقد عد احمد باشا
هذا النقل خدعة لابعاده عن العراق ومن ثم اعدامه ، ولهذا فانه رفض المنصب الجديد
واصر على البقاء في بغداد. وقد ظهر ان مخاوف احمد باشا لم تكن خالية من الاساس ، ذلك
ان الصدر الاعظم علي باشا وبهدف التخلص من والي بغداد اقترح منصبه على قائد قلعة
بغداد عثمان باشا ومنحه الحرية التامة في اختيار الوسائل لابعاد احمد باشا. وعندما
لم تتحقق هذه الخطة بسبب رفض القائد للصفقة ولكن ذلك لم يحدث ايضاً لان الباشا
اكتشف في الوقت المناسب مكيدة عدوه اللدود .
وبالاضافة إلى ذلك اخر الباب العالي
ارسال الفرمان السلطان القاضي باعادة احمد باشا إلى ولاية بغداد بدلاً من منصب
والي دمشق الذي رفضه ، الامر الذي اقنع حاك بغداد نهائياً بخسران قضيته في اسطنبول
إلى غير رجعة. وعلى ما يشهد به القنصل الفرنسي السيد اوتر
الذي كان معاصراً
__________________
لاحمد باشا ، فان خوف
احمد على حياته دفعه إلى ان ينتهج اسلوباً متطرفاً لافشال مكائد اعدائه ، فقد ارسل
شخصاً يثق به إلى نادر شاه دعاه إلى ان يترك صراعه غير المثمر مع اللزكيين ويتوجه
لاحتلال مابين النهريب حيث سيتمكن من احتلال كركوك والموصل وديار بكر بسهولة. وقد
استمع نادر شاه لطلب احمد باشا ولكنه بدلاً من أن يتجه إلى المدن التي اشار بها
عليه ارسل يقول له بانه ينوي ان يقوم بزيارة العتبات المقدسة في العراق. وهكذا عبر
في تلك السنة أي في ١٧٤٣م جيشان فارسيان الحدود العراقية وتوغلا في اراضي باشوية
بغداد. وقد اقلقت هذه الاحداث الباب العالي بحيث انه لم يكتف بتأكيد احمد في
المنصب الذي يحتله فقط بل ارسل له مبلغاً لا يستهان به من المال لتمكينه من الدفاع
عن المنطقة. لقد توجه احد الجيشين الفارسيين نحو بغداد في حين تحرك الاخر نحو
البصرة. لقد نهب العدو ومحق جميع القرى والمستوطنات المحيطة بالبصرة وذبح كل
سكانها الذكور واستعبد النساء والاطفال لكنه لم يستطع الاستيلاء على المدينة فاضطر
لان يضرب عليها الحصار. وفي هذا الثناء تمكنت الدولة العثمانية من تجهيز جيش احدهما
في ارضروم والاخر في ديار بكر وبدأت تستعد لتوجيههما ضد الفرس في آن واحد. ولكي
يدرأ اتحاد هاذين الجيشين ويحكم كلاً منهما على انفراد قرر نادر شاه التخلي عن
الاستمرار في محاولاته للاستيلاء على بغداد والبصرة ولهذا فقد امر القوات المحاصرة
لهاتين المدينتين بالتوجه نحو ديار بكر في حين استعد هو نفسه للزحف إلى وان .
__________________
ان فشل حصار الفرس للموصل
والاسلوب الدفاعي الذي أعتمده العثمانيون في الحرب ثم الانتفاضات التي قامت في
فارس التي انهكتها الحرب اخيراً والتي عمها الاستياء من اتجاهات نادر شاه السنية
دفعت هذا الاخير إلى ان يتجنب الصدام الحاسم مع العدو خشية ان تنهار سلطته
انهياراً تاماً في حالة الفشل. وقد ادت هذه الظروف مجتمعة إلى ان تتميز العمليات
العسكرية بالفتور بل والتردد بحيث لم تقع بين الطرفين معركة حاسمة حتى عام ١٧٤٥م
عندما جرت بالقرب من يريفان معركة كبيرة تحطم فيها العثمانيون كلياً. وقد لجأ نادر
شاه بالرغم من انتصاره إلى وساطة احمد باشا لعقد معاهدة صلح ، وقد وقعت المعاهدة
بالفعل في ١٧٤٦م وجاءت بشكل عام تأكيداً للبنود الرئيسة للمعاهدة السابقة .
وبعد مرور ستة اشهر على هذا الصلح أي في حزيران ١٧٤٧م مات نادر شاه مقتولاً ، وفي
السنة التالية لحقه إلى القبر صاحبه احمد باشا الذي توفي على ما تذكر المعلومات
الرسمية اثر اصابته في اثناء حملة تأديبية كان يقوم بها ضد احدى القبائل الكردية.
وهكذا اختفت عن المسرح في القوت نفسه شخصيتان سببتا للدولة العثمانية الكثير من
القلق والمخاوف ، ونعني نادر شاه الذي كان يحلم بان يوحد تحت سلطته العالم
الاسلامي باسره ولتحقيق ذلك كان يعدّ لازالة الخلافة العثمانية من على وجه الارض ،
وحاكم العراق القوي احمد باشا الذي كان الباب العالي على الدوام يرتاب
__________________
باخلاصه وهو امر لم
يعق ذلك الحاكم عن الاحتفاظ للدولة العثمانية بالعراق. لقد كان نادر شاه يقدر تمام
التقدير بان العقبة الرئيسة في استيلائه على باشوية بغداد هو احمد باشا المعروف
بصداقته له وهذا ما دفع نادر شاه إلى ان يصرح علناً بان الباشا دبلوماسي حاذق لم
يستطع خداع السلطان فحسب بل خدعه هو ايضاً .
ومما يشهد على مهارة احمد باشا ايضاً انه استطاع ان يحول إلى بغداد جميع التجارة
بين الهند واوروبا وهي تجارة مربحة كان جزؤها الرئيس يمر حتى ذلك الوقت عبر فارس ،
فقد استغل باشا بغداد افلاس الدولة الفارسية نتيجة لحروب نادر شاه التي لاتنتهي
فاستطاع بالتشجيع والامتيازات الاستثنائية ان يجذب إلى العراق جميع الوسطاء
الرئيسيين للتجارة المشار اليها ابتداءً من الارمن وانتهاءً بالانجليز. ولكن احمد
باشا باسناده لهؤلاء باعتبارهم الممثلين الاساسيين لتجارة الهند لم يتخل عن تعاطفه
مع الفرنسيين الذين كان لهم عن طريق سفارتهم في اسطنبول نفوذ كبير لدى الباب
العالي. وهكذا كان هو اول من سمح للكرمليين في بغداد ببناء مصلى لهم جرى تكريسه
باحتفال مهيب في ١٤ تموز ١٧٣١ م. والى جانب ذلك لم ينس الباشا ضرورة ترسيخ وضعه
الخاص فاظهر كرماً بلا حدود تجاه اتباعه ومستخدميه فشجع بذلك فيهم الاخلاص الاعمى
الذي لا يعرف التردد له ولقضيته .
ان السياسة الحاذقة التي انتهجها احمد باشا تجاه السلطان والشاه وكذلك الجذور التي
استطاع ان يمدها عميقاً في العراق نفسه لم يساعده على الاحتفاظ بمنصبه حتى مماته
فحسب ، بل مكنته ايضاً من الاحتفاظ برأسه فوق كتفيه رغم جميع دسائس ومؤامرات
اعدائه الذين لا يحصيهم عدد. لقد اطلق هؤلاء
__________________
الاعداء عليه لقب «احمد
باديشاه» ثم استبدلوه بلقب ينطوي على سخرية اكثر هو «نظام الملك» وقد ارادوا بذلك
ان يشيروا إلى الصداقة التي تربط بنادر شاه والعطف الذي يتمتع به لديه.
قررّ الباب العالي استغلال اختفاء نادر
شاه الرهيب من مسرح الاحداث وموت احمد باشا لاعادة تقسيم ولاية بغداد الواسعة إلى
نفس الاجزاء التي كانت تتألف منها في السابق. وبدا ان كل شيء يعمل لصالح خطط
الحكومة العثمانية ، ففي فارس ، حيث قام عدة مطالبين بالعرش وانهمكوا في صراع عنيف
فيما بينهم طال مختلف اجزاء فارس ، سادت فوضى شاملة شغلت الفرس عن العراق. وفي
العراق نفسه لم يكن هناك ما ينبئ بحدوث تعقيدات اذ لم يبق بعد احمد باشا خلف من
الذكور يستطيعون معارضة مساعي الحكومة لانهاء الوضع شبه المستقل الذي كان حكام
العراق يتمتعون به. وهكذا يسارع الباب العالي إلى تعيين الحاج احمد باشا ، وهوصدر
اعظم سابق والياً لبغداد بعد ان فصل البصرة وجنوب العراق عن سلطته وعين فيها
حاكماً اخر اسمه احمد باشا ايضاً ويلقب «قيصرية لي» وكان هذا قد ترأس اخر سفارة
عثمانية ارسلت إلى نادر شاه ولكنه عاد إلى بغداد دون ان يصل إلى هدفه وذلك بسبب
موت الحاكم الفارسي .
غير ان الباب العالي عندما عمد الي
الغاء ارث احمد باشا لم يأخذ بالحسبان ميول العراقيين انفسهم الذين اعتادوا على
استقلال تام تقريباً عن اسطنبول طيلة عهدي احمد باشا وابيه حسن باشا اللذين استمرا
نصف قرن. كما انه اسقط من حسابه ان كلاً من هاذين الواليين كان له عدد
__________________
لا يستهان به من
الانصار المخلصين لا بين القوات العسكرية واهالي المدن والقبائل العربية فقط وانما
في الجهاز الاداري الذي كان يتألف كلياً من صنائع حاكمي العراق المذكورين. ولهذا
فمن الطبيعي تماماً ان تثير التغيرات التي اجراها الباب العالي في هذه المنطقة - ولا
سيما تعيين اشخاص من اختياره هو هناك - اسيتاء عاماً بين العراقيين الذين اعتادوا
على ان يعدوا كهية احمد باشا سليمان اغا الخلف المباشر لاسرة ذلك الوالي. وكان
سليمان هذا ينحدر من الجورجيين وقد اصبح منذ صغره مملوكاً لدى احمد باشا وقد ساعده
انقاذه لحياة سيده في احدى المرات عندما كان هذا في رحلة لصيد الاسود على ان يصبح
اقرب الاشخاص اليه واكثرهم اهلية لثقته ، فقد كوفيء على ذلك بتزويجه من ابنة
الباشا عادلة خاتون.
لقد كان صهر الباشا يتمتع بشعبية كبيرة
في العراق وكان يحظى شخصياً باحترام وتبجيل كبيرين من جانب الاهالي للبطولة
والشجاعة التي اظهرها اثناء اخماده انتفاضات القبائل العربية الامر الذي جعله كما
رأينا يحظى من اهالي بغداد بلقب يدل على الاطراء (اسد باشا). وكان سليمان اغا الذي
عمل الكثير من اجل اشاعة الهدوء في هذه المنطقة يرى من جانبه ان تعيينه واليا
لبغداد هو مكافأة يستحقها تماماً ، ولكن الباب العالي الذي كان قد قرر انهاء حكم
اسرة حسن باشا الوراثي للعراق لم يكن يريد حتى مجرد سماع أي شيء يتعلق بابقاء صهر
احمد باشا في هذه المنطقة. وهكذا نقل سليمان اغا إلى اطنة.
لكن الحكومة لم تلبث ان اقتنعت بان الباشا
الجديد الذي لم يكن مرغوباً من العراقيين مقضي عليه بالفشل بهذا المنطقة العاصفة
والثائرة على الدوام وبالفعل لم يكن الحاج احمد باشا يباشر باداء واجباته والياً
جديد
لبغداد حتى قام في
المدينة في نفس السنة نفسها أي في ١٧٤٨م عصيان نظمه الانكشارية الذين كانوا هادئين
منذ زمن طويل ، فعمدوا إلى طرد صنيعة الباب العالي وطالبوا بتعيين والي البصرة
احمد قيصرية لي والياً في بغداد بدلاً منه. وما كادت الحكومة تستجب لمطاليب
الانكشارية حتى ثار أمير الحلة العربي الذي كان سليمان اغا متزوجاً من حفيدته
عادلة خاتون خاتون ، وطرق بغداد بعشيرته مطالباً بنقل صهره إلى العراق. وقد تحتم
على الباب العالي ان يتراجع في هذه المرة ايضاً فنقل سليمان اعا إلى منصب والي
البصرة الذي اصبح شاغراً بعد نقل قيصرية لي والي بغداد .
بعد ان رتب سليمان اغا عودته إلى العراق
بهذا الشكل اخذ يسعى للحصول على منصب والي بغداد مستنداً على تعاطف العراقيين
واسنادهم له. فاخذ الانكشارية بتحريض منه يمارسون الاساءة ونشر الاضطرابات مجدداً
مما اضطر الباب العالي الي استبدال احمد باشا قيصرية لي بحاكم الموصل محمد باشا
ترياكي
فكان هذا الثالث والي يعين في بغداد خلال سنة واحدة. وكان سليمان اغا في هذه
الاثناء يسعى بشكل موفق لان يظهر نفسه وهو يباشر مهامه والياً للبصرة في افضل صورة
امام اسطنبول ، فبعد ان قضى على تمرد قوات متحدة من بني لام وعرب الحويزة في موضع
على الفرات يقال له العرجة ارسل إلى السلطان رأسي قائدي الثوار الاساسيين وهما
برهان وابنه كلب علي ومن
ثم جعل الهدوء والنظام يستتبان في جنوب العراق الذي لم يعرفهما منذ زمن طويل وطهّر
الطرق
__________________
البرية والمائية من
قطاع الطرق والقراصنة. وبعد ان دلل سليمان اغا للحكومة على قدرته على ضبط
العراقيين غادر البصرة فجأة في ١٧٤٩م وقصد بغداد على راس فصيل لا يزيد عدد افراده
عن ئمانمائة شخص. وعندما اقتنع الوالي محمد باشا ترياكي بنية سليمان بمهاجمة بغداد
جمع على عجل اربعة عشر الف شخص وسار بهم لملاقاة خصمه بعد ان احتفل مسبقاً بالنصر
على هذه الحفنة الصغيرة من الاعداء. وعند اول صدام بين الطرفين جرى في الحلة انتقل
القسم الاغلب من قوات والي بغداد إلى صف سليمان آغا. الذي دخل بعد ذلك بغداد
منتصراً في الوقت الذي وجد فيه صنيعة الباب العالي محمد ترياكي الذي هرب من ساحة
المعركة ابواب المدينة موصدة في وجهه.
وهكذا نجحت جهود سليمان اغا للاستقرار
في بغداد ، ولكي يبرز موقفه امام الباب العالي عمد إلى عودة مجلس من اعيان المدينة
والنافذين فيها وجعله يتوجه إلى السلطان بطلب اشار فيه إلى عدم اهلية الباشوات
الذي عينهم الباب العالي لتهدئة البلاد والتمس ابقاء سليمان اغا في بغداد لكونه
الوالي الوحيد الذي برهن نشاطه السابق على مقدرته على تدبير امر هذه المنطقة. كذلك
سارع سليمان اغا من جانبه فارسل إلى اسطنبول تأكيدات باخلاصه وخضوعه التام. وكانت
نتيجة هذه الحملة التي اديرت بمهارة منحه لقب باشا من مرتبة الاطواغ الثلاثة
وتثبيته في منصب والي بغداد.
لقد ساعد على نجاح المغامرة الجريئة
التي قام بها سليمان اغا لدرجة ملحوظة القلق الذي اثاره في اسطنبول ظهور مصلح
اسلامي جديد في الجزيرة العربية هو عبد الوهاب
الذي ينتمي إلى قبيلة بني تميم. لقد
__________________
كان هذا يهدف إلى
اعادة تعاليم الاسلام إلى نقاوتها الاولى
فقرر القضاء على البدع الدينية الجديدة لدى المسلمين المعاصرين ابتداء من تقديس
قبر الرسول (ص) وقبور شخصيات الاسلام المقدسة من جهة ومن الجهة الاخرى العمل على
تقويم اخلاق شركائه في الدين عن طريق محاربة الترف واللبس الفاخر والافراط في
الاكل والشرب. وكان مؤسس طائفة متزمتي الاسلام هذا يبحث عن الاسناد لدى حكام سوريا
والعراق النافذين ولكنه بعد ان لم يعترف به في دمشق وبعد ان طرد من البصرة وبغداد
، وجد له حامياً لم يتوقعه احد ونعني محمد بن سعود امير الدرعية في نجد. وباسناد
فعال من جانب هذا القائد العربي القوي الذي اخذ يجلب قبائل الجزيرة العربية إلى
المعتقد الجديدة شملت حركة الوهابية بسرعة جزء كبير من شبه جزيرة العرب واصبحت
تهدد بالانتقال إلى الممتلكات العثمانية المجاورة أي سوريا وما بين النهرين
والعراق الجنوبي. لقد كان الخطر اكيداً بحيث بادر الباب العالي في نفس الوقت الذي
ثبت فيه سليمان آغا في منصب والي بغداد في ١٧٤٩م فارسل إلى حاكم مصر وحاكم جدة
وشريف مكة تعليمات صارمة يطلب فيها منهم ان ينسقوا جهودهم لضرب الحركة الوهابية .
بعد ان توصل سليمان اغا إلى تعيينه في
بغداد اخذ بالاستيلاء على المناطق الاخرى التي كانت تدخل ضمن باشوية بغداد في عهد
صهره الراحل احمد باشا وقد سنحت الفرصة له لتحقيق نواياه تلك ، ففي ١٧٥١ م
__________________
اشتغلت في جنوب
العراق انتفاضة جديدة قام بها المنتفقون الذين حرضهم في هذه المرة قبودان باشا
البصرة أي قائد الاسطول العثماني هناك الذي يعين من اسطنبول مباشرة حيث امل هذا في
ان يستولي بمساعدة العرب الثائرين على منصب متسلم البصرة الذي ظل شاغراً بعد نقل
سليمان باشا إلى بغداد وبمجرد ان وصل خبر هذه الانتفاضة إلى حاكم بغداد بادر هذا
على الفور بمهاجمة المنتفقين فحطمهم تحطيماً تاماً ثم حاصر القبودان باشا نفسه في
ضواحي البصرة واجبره على الهرب إلى بندر بوشهر ، فعين سليمان باشا في المدينة التي
حررها متسلماً من قبله ثم اخضع لسلطته بالتدريج المناطق الاخرى التي كانت في
السابق ضمن ولاية بغداد فاوصل هذه الولاية بهذا الشكل إلى حدودها السابقة .
ان سعي سليمان بشكل ظاهر في ان يحذو حذو صهره الراحل احمد باشا في كل شيء جعل
الباب العالي ينظر بعين الربية إلى القوة المتنامية لحاكم العراق الجديد ، ولهذا
كان على هذا الاخير ان يفكر بالوسائل التي تمكنه من البقاء في العراق اطول مدة
ممكنة ، وقد اعتقد بان افضل هذه الوسائل هو التدخل في شئون فارس المجاورة سيما وان
الصراع السابق على العرش بين مختلف المطالبين به ما زال مستمراً هناك. وهكذا اخذ
سليمان باشا يوفر الملجأ لمن يفر من فارس أو يطرد منها من هؤلاء المطالبين بالعرش
فلم يلبث ان اجتمع منهم في بغداد عدد لا يستهان به منهم : على مردان خان زعيم
البختياريين وقريبه اسماعيل خان حاكم لورستان الذي لم يوفّق في صراعه مع كريم خان
الزند وكذلك حسين مرزا الذي ادعى بانه ابن الشاه
__________________
طهماسب الصفوي. وكان
هذا الاخير يتطلع إلى استعادة العرش الفارسي بسماعدة واسناد الدولة العثمانية وكان
والي بغداد يؤيده في ذلك ، غير ان الباب العالي لم ير من المناسب الدخول في حرب مع
فارس والحركة الوهابية في الجزيرة العربية من خلفه تتنامى باستمرار ، كما انه لم
يكن يريد ان يضع في يد سليمان باشا تلك الورقة التي ربح بها احمد باشا صديق نادر
شاه اللعبة مع الحكومة ، ولهذا فقد طلب من سليمان باشا ان يحجم كلياً عن ممارسة أي
تأثير على سير الاحداث في فارس وان يرفض طلب الاصفهانيين الذين توجهوا اليه طلباً
للمساعدة ويبعد المدعي حسين مرزا عن بغداد فوراً. على اية حال فقد سليمان باشا اخر
امل في تقوية وضعه في العراق على حساب فارس المجاورة عندما استولى على العرش
الفارسي كريم خان الزند بعد ان رجحت كفته على بقية المطالبين بالعرش في ١٧٥٧ م
فاصبح الرأس الوحيد لا يران وان كان قد اتخذ لقباً متواضعاً هو «الوكيل» .
لكن القدر لم يلبث ان انجد سليمان باشا
فبعد ان فشلت حساباته التي علقها على فارس اصبح له وبشكل غير متوقع من يدافع عنه
بقوة في اسطنبول ونعني راغب باشا الذي عين صدراً اعظم في ١٧٥٥ م. فقد خدم راغب
باشا هذا بضعة سنوات تحت امرة حاكم العراق الراحل احمد باشا وكان من المعجبين به
حتى انه نظم في مدحة قصيدة تصدرت ديوان شعر صدر فيما بعد لهذا الصدر الاعظم
المشهور بعلمه
، ولهذا فليس من المستغرب ان يتعاطف مع صهر أحمد وربيبه سليمان باشا لاسيما انه
كان
__________________
يعرف سليمان معرفة
شخصية بفضل خدماتهما الطويلة سوياً. وقد مكنت حماية راغب باشا سليمان باشا من حكم
العراق دون خوف حتى وفاته في ١٧٦١ م. وقد جلب هذا الحاكم الذي يعتبر استمراراً
لاسرة وسياسة احمد باشا الخير للعراق الذي تمتع طيلة عهده بالرفاه والهدوء والنظام
بحيث نظمت لذكراه مراثٍ كثيرة ظلت تنشد في شوارع ومقاهي بغداد فترة طويلة بعد
وفاته.
وبعد وفاة سليمان باشا الذي لم يترك
اولاداً اوشك الصراع بين الباب العالي والعراقيين حول اختيار خلف له ان يحتدم
مجدداً لولا ان تلافاه الصدر الاعظم المذكور راغب باشا أو بشكل اصح احد المقربين
منه يثق بهم واسمه علي واصله من فارس. لقد اراد علي هذا ان ينقل متسلم البصرة
والياً إلى بغداد. وكان هذا المتسلم واسمه علي اغا فارسي الاصل ايضاً دخل منذ
الصغر في خدمة احمد باشا. وقد انتبه احمد باشا لذكاء الفتى فمكنه من الحصول على
تعليم جيد بالنسبة لظروف العصر فاستطاع علي اغا بفضل ذلك من التقدم : ان الاسناد
القوي الذي توفر لعلي اغا الذي كان يطلق عليه لقب «عجمي» أي فارسي اسطنبول والصلة
التي تربطه باسرة احمد باشا ساعتدته على ان يتولى منصب والي بغداد سيما ان ترشيحة
حظي بدعم الابنة الكبرى لاحمد باشا «عادلة خاتون» ، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في
بغداد والتي تأمل بان تلعب في عهد علي عجمي الذي خرج من صفوف خدم ابيها نفس الدور
الذي كانت تلعبه في عهد زوجها الراحل سليمان باشا.
لقد اظهر علي اغا الذي منح معه تعيينه
الجديد لقب باشا ، رغبة في الحكم بشكل مستقل منذ اللحظة التي تسلم فيها منصبه
الجديد ولهذا فقد سعى لان يؤلف له في بغداد حزباً من أنصاره الشخصيين. وقام
بالاستناد إلى هذا
الحزب بالاقتصاص بقسوة من الانكشارية الذين اشعلوا الاضطرابات في بغداد بعد وصوله
اليها مباشرة وتمكنوا من طرده منها لفترة قصيرة. كما انه اخمد بقسوة لا تقل عن ذلك
انتفاضة قام بها الاكراد. لكن حملته ضد عرب الخزاعل الذين يقطنون في اهوار لملون
هي وحدها التي انتهت بالفشل الذريع. وكان هذا الفشل شؤماً لانه مكن الحزب المعادي
الذي يقف على رأسه انصار عمر اغا المتزوجين من الابنة الصغرى لاحمد باشا من اتهامه
بموالاة الشيعة سراً مستندين في ذلك انه استطاع ان يعاقب الانكشارية والاكراد
وكليهما من السُنة بقسوة في حين لم يجرؤ على الاقتصاص كما يجب من الخزاعل الشيعة.
وقد نسب علي باشا هذه الدسائس إلى عادلة خاتون فقرر أبعادها عن المدينة الامر الذي
قضى بشكل نهائي على قضيته ودفع هذه المرأة النشطة والطموح إلى الانتقال علناً إلى
صفوف اعدائه. وفي الوقت نفسه كان اهالي بغداد الذين لم يقبلوا هذا الوالي الذي فرض
عليهم فرضاً الا بصعوبة ، قد قرروا ان الوقت قد حان للتخلص منه. وهكذا بدأ في
١٧٦٣م تمرد الانكشارية الذين لم يستطعوا ان يغفروا للوالي تصرفه القاسي تجاههم ، ولم
يلبث التمرد ان شمل بسرعة بغداد برمتها وكان اهاليها قد دعوا باشارة متفق عليها
مسبقاً للسلاح وحاصروا دار الوالي. وقد استطاع علي باشا عجمي النجاة من أيدي
الجمهور الحانق واختبأ في دار احد المتعاطفين معه غير ان الحرس الذين كانوا قد
وزعوا في الشوارع قبضوا عليه عندما خرج من مخبئه مرتدياً ملابس نسائية وفي نيته
الهرب من بغداد واقتادوه إلى «السراي» وهناك قتل على الفور .
__________________
وبعد هذا الاقتصاص القاسي من الباشا غير
المرغوب فيه اجتمع على الفور «الديوان» وهو مجلس يضم كبار الموظفين واعيان المدينة
النافذين وانتخب عمر اغا المذكور اعلاه والياً على بغداد ثم ارسل عمر اغا خبر هذا
الاختيار إلى اسطنبول ومعه تهديد بتسليم بغداد إلى الفرس في حالة عدم الموافقة على
من اختاره الشعب .
ولم يجرؤ الباب العالي الذي اخذ عبرة من الدروس السابقة على الرفض ، فارسل إلى عمر
اغا في ١٧٦٤ م الفرمان السلطاني الخاص بتعيينه والياً لبغداد. وطبيعي ان يكون اول
عمل يقوم به الوالي الجديد هو معاقبة عرب الخزاعل الذين منهم بالاساس كانت تعاني
ولايته. وهكذا قصفت الحملة التأديبية التي ارسلت في ١٧٦٥م بلدة لملون
مقر الشيخ حمود الشيخ الرئيس لسكان الاهوار هؤلاء ، لكن الشيخ حمود عاد بمجرد ان
غادرت قوات السلطة منطقة الخزاعل فعزل من نصبه عمر باشا الذي اضطر إلى السكوت على
ذلك لا بسبب نقص الاموال اللازمة لتجهيز حملة جديدة فحسب وانما وبدرجة اكبر بسبب
قيام احداث اكثر جدية في جنوب العراق وهي الاحداث التي تتعلق بالصراع الذي احتدم
بين حاكم فارس كريم خان الزند وشيخ قبيلة كعب العربية.
لقد انتقل هؤلاء العرب أي الكعبيون حسب
المعلومات التي اوردها كرزن .
من الساحل العربي للخليج وسكنوا في اول الامر في الاهوار بالقرب من القرنة حيث
اشتغلوا بتربية الجاموس ثم انتقلوا تحت ضغط
__________________
المنتفقين إلى منطقة
نهر الكارون وقناة قبان أو كبان تربط الكارون بنهر الجراحي ، واصبح معسكر الفلاحية
المحصن مقراً لشيخهم الرئيس بدلاً من بلده الدورق التي تقع على نهر الجراحي والتي
كانت المقر السابق لرئيس قبائل الافشار الذين ابعدهم الكعبيون. وقد مكنت الفوضى
التي سادت في فارس بعد موت نادر شاه الكعبيين من مد نفوذهم إلى الشرق بحيث اصبحت
في ايديهم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كل المنطقة الواقعة بين نهري
الكارون والنهديان والمجرى الادنى لشط العرب والخليج العربي. وفي ذلك الوقت كان
زعيم الكعبيين الشيخ سليمان قد امتلك قوة لا يستهان بها بفضل بنائه الاسطول اصبح
يتألف حتى عهد عمر باشا من عشر سفن كبيرة وسبعين سفينة صغيرة وقد استطاع سلمان هذا
ان يناور بمهارة بين فاوس والدولة العثمانية فلم يدفع الضرائب لاي منهما ولهذا فقد
كان من الناحية الواقعية مستقلاً تماماً الاستقلال.
في هذا الاثناء اخذ كريم خان الزند الذي
احكم سيطرته على العرش الفارسي واعاد الهدوء في الدولة ، يفكر بان يعيد لفارس
حصتها من التجارة القائمة بين الهند واوربا وهي التجارة المربحة التي غيرت اتجاهها
في عهد نادر شاه من فارس إلى البصرة وبغداد. وكان هذا يستلزم ان تكون قدمه راسخة
في الخليج الفارسي الذي كان قد تقوى فيه حتى هذا الوقت الشيوخ العرب الذين اقاموا
في الساحل الشرقي من الخليج الفارسي واخذوا يهددون بابعاد فارس عن الطريق البحري
المؤدي إلى الهند. ولهذا فقد قرر كريم خان الزند ان ينهي استقلال الشيوخ المذكورين
فبدأ بقواهم وهو شيخ الكعبيين فوجه ضده في عام ١٧٥٦م حملة تأديبية قوية ، غير ان
الشيخ سلمان ركب مع اتباع السفن واخذ ينتقل بها من مكان إلى اخر فنجع بذلك في تجنب
الفرس. وعندما لجأ إلى الضفة اليمنى من شط
العرب طلب حاكم فارس
من متسلم البصرة طرده من الاراضي العثمانية ، ومع ان المتسلم لم يرفض ذلك عاناً
الا انه لم يفعل شيئاً ضد الشيخ سلمان وهكذا تحتم على الجيش الفارسي في نهاية
الامر ان يعود من حيث اتى مكتفياً بنهب الفلاحية وبتخريب سد سايلي الذي ينظم جريان
المياه في نهر كبان .
لقد استند سلمان الكعبي في صراعه مع
الفرس على الشيخ العربي في ميناء بندر ريق الواقع إلى الشمال الغربي من بوشهر. وقد
عمل هذا الشيخ واسمه مير مهنا بتنسيق تام حليفه فقطع بغاراته حركة القوافل بكليتها
تقريباً بين شيراز مركز الاقامة المفضل لدى كريم خان الزند وبندر بوشهر الذي نقلت
شركة الهند الشرقية نشاطها التجاري اليه في ١٧٦٢م بعد ان نهبت حملة فرنسية بقيادة
الكونت d Estaing مركزها التجاري في بندر عباس .
وبسبب نشاط مير مهنا المعادي هذا وجه كريم خان الزند في نفس الوقت الذي سارت فيه
الحملة المذكورة نحو سلمان الكعبي فصيلاً قوياً ضد حليفة شيخ بندر ريق فاضطر هذا
إلى الفرار من البر والاستقرار في جزيرة صغيرة تسمى كوركو أو كاركو .
وقد انتهت بالفشل الذريع جميع محاولات طرده من هناك وهي المحاولات التي قام بها
انذاك شيخ بو شهر ناصر باسناد من اسطول شركة الهند الشرقية الانجليزية .
__________________
وكانت توجد إلى جوار مقر مير مهنا
الجديد جزيرة اسمها خرج يوجد فيها مركز تجاري هولندي مزدهر اسسه البارو نيبهاوزن
الذي احتجزه متسلم البصرة عندما كان ممثلاً لشركة الهند الشرقية الهولندية في
المدينة في ١٧٤٨م وصادر جميع البضائع الهولندية. وبعد ان حصل نيبهاوزن على حرّيتة
اثر دفعه مبلغاً ضخماً من المال قرر الانتقام من المتسلم ، فاحتل في ١٧٤٩م ، بمساعدة
فرقاطات حربية هولندية جلبها من باتافيا ، جزيرة خرج التي كانت تقع على الطريق
المؤدي إلى مصب شط العرب تماماً ولهذا لم يكن من الصعب على نيبهاوزن ان يقطع على
السفن التجارية الطريق المؤدي إلى البصرة فيجبر بذلك المتسلم على ترضيته. ومع ذلك
لم يعد البارون نيبهاوزن يريد العودة إلى البصرة وبقى في جزيرة خرج ، فلم تلبث ان
ظهرت هناك تحت حماية الاسطول الذي بناه مستوطنة كاملة بلغ عدد سكانها عدة الاف.
بعد ان استقر مير مهنا في جزيرة كاركو
طلب من الهولنديين مساعدته عندما خاصر اسطول انجليزي وفارسي مشترك ملجأه الجديد
لكن رئيس المركز التجاري الهولندي في خرج رفض الاستجابة لهذا الطلب ، خشية انتقام
الفرس فاكتسب بموقفه هذا عدواً لدوداً في شخص مير مهنا. فقد اصبح هذا الاخير ينتظر
الفرصة الملائمة للاستيلاء على المركز التجاري المزدهر وقد تمكن من ذلك اخيراً في
١٧٦٦م فحول هذا العمل إلى ذلك القرصان الشجاع الذي أصبح يؤلف خطراً كبيراً على
جميع من يمر في الخليج الفارسي وغم ان ذلك لم يستمر الا فترة محدودة .
وقد اجبرت هذه القوة التي حصل عليها مير مهنا في البحر ، كريم خان
__________________
الزند على طلب مساعدة
شركة الهند الشرقية الانجليزية مجدداً. وبعد ان اخذت هذه الشركة مكافأة لا يستهان
بها ثمناً لهذا المساعدة وجهت إلى جزيرة خرج عمارة كاملة من السفن لكنها لم تستطع
ان تحقق أي نجاح ، نظراً لتعذر الوصول من جهة البحر إلى الطابية التي اقامها
الهولنديون في حينه هناك .
وقد تحتم على كريم خان الزند بعد هذا الفشل ان ينزل في الجزيرة في السنة التالية
أي في ١٧٦٩م جيشاً كثير العدد حاصر وكر مير مهنا من كل الجهات لانهاكه واجباره على
الاستسلام. وبعد ان اقتنع مير مهنا بخسران قضيته هرب إلى الكويت ومنها تسلل إلى
البصرة فالقي القبض عليه هناك واعدم بامر من والي بغداد عمر باشا .
وبعد ان انتهى كريم خان الزند من حليف
سلمان الكعبي اخذ يستعد ثانية للسير ضد شيخ الكعبيين الذي كان عليه ، لكي يضمن
لنفسه الامان ان يختار بين الخضوع الطوعي للشاه
أو الانتقال إلى جانب الدولة العثمانية وقد فضل الاختيار الاول فاستقبله حاكم فارس
بحفاوة واخذ بعد ذلك يفكر بالاستيلاء على البصرة .
لقد كان الدافع الاول لكريم خان إلى مثل هذه الخطوة هو بالطبع رغبته في اعادة
التجارة بين الهند واوروبا إلى الطريق الفارسي القديم وهو امر كانت البصرة تؤلف
عقبة كأداء في سبيله سيما بعد ان امرت شركة الهند الشرقية الانجليزية في ١٧٦٨م
بغلق مركزها التجاري في بندر بوشهر ونقلت نشاطها التجاري باجمعه إلى البصرة وذلك
__________________
بعد ان اختلفت مع
فارس حول تعويضها عن مشاركة اسطولها في الحملة البحرية ضد جزيرة خرج
وقد أدّى تطور القضية على هذا النحو إلى حصول القطيعة بين الشركة وكريم خان الزند
فعمد هذا الاخير بعد أن فشل في اقناع الانجليز بالرجوع إلى بوشهر باختيارهم إلى
الدخول معهم في صراع مكشوف وذلك بان استولى على سفينة انجليزية حربية صغيرة كانت
متوجهة من البصرة إلى بومباي فأثار بهذا العمل الشركة ضده بشكل نهائي.
وبالاضافة إلى هذه الحجة الاساسية كانت
لدى كريم خان الزند دوافع اخرى ثانوية منها اعتقاده بسهولة الاستيلاء على البصرة
عدم وجود حامية كبيرة فيها وامله في امكانية اخضاعه للعراق باجمعه وبعتباته
المقدسة وكذلك رغبته في الانتقام من العثمانيين لسماحهم لسلمان الكعبي باللجوء إلى
اراضيهم ولاسنادهم لامام مسقط في صراعه مع فارس. .
وكانت الحجة الرسمية التي طرحها كريم خان لحملته على البصرة هي المضايقات التي كان
والي بغداد عمر باشا يسببها للزوار الفرس فقد طالب الباب العالي برأسه مهدداً
بالحرب في حالة الرفض. وقد وضع هذا الطلب الحكومة العثمانية في موضع صعب ذلك ان
المسألة تتعلق بواحد من اقوى الحكام العثمانيين الاقليميين ولذلك فقد كان جوابها
بالرفض الامر الذي قرر مصير البصرة.
وهكذا تحرك في بداية ١٧٧٥ براً جيش
فارسي تعداده خمسون الف بقيادة صادق خان اخي الشاه باتجاه البصرة في نفس الوقت
الذي سار فيه
__________________
بطريق البحر نحو مصب
شط العرب اسطول يتألف من ثلاثين سفينة غير كبيرة كانت قد جهزت محلياً في بندر
بوشهر وبندر ريق. لقد كان وضع البصرة حرجاً لا سيما اذا تذكرنا ان عدد افراد
الحامية هناك لم يكن يتجاوز ١٥٠٠ شخص وانه لم يكن يوجد للدفاع عن المدينة من جهة
النهر الا بضعة سفن تابعة للقبودان باشا. ومع ذلك فقد اظهر سليمان متسلم البصرة
شجاعة فائقة فلم يضطرب عند رؤيته للخطر وهو يقترب منه بل بادر فجند ١٥ الف من
المتطوعين من الاهالي واصلح اسوار المدينة واستعد لمجابهة حازمة .
في هذه الاثناء قام الشيخ سلمان الكعبي
بنقل الجيش الفارسي إلى الضفة الغربية من شط العرب كما سار الاسطول الفارسي صاعداً
في النهر حتى البصرة تقريباً غير ان السفن العثمانية مع فرقاطتين تابعتين لشركة
الهند الشرقية الانجليزية قطعت عليه الطريق هناك ومنعته من قصف المدينة. وقبل ان
يبدأ القائد الاعلى الفارسي حصاره للبصرة دخل في مفاوضات مع المتسلم العثماني
ومدير المركز التجاري الانجليزي هناك واقترح عليهما تسليم المدينة طوعاً مقابل
٠٠٠ر ٠٠٠ر ٢ روبية لكنه لم يحقق ما كان يصبوا اليه
، وبينما كانت هذه المفاوضات تجري تحت اسوار المدينة استطاع اسطول عثماني انجليزي
إلى ان يلحق بالاسطول الفارسي اضراراً ملموسة ولكن بعد مغادرة السفن الانكريزي
بوشهر لم بعد قبودان باشا البصرة الذي بقى وحيداً قادراً على التخلص من الفرس إلى
الاختباء مع قسم من الاسطول العثماني في الكويت التي كانت تابعة
__________________
لمتسلم البصرة. ومع
ذلك فقد تحمل المتسلم الحصار يعزم وكان يشجع المدافعين عن المدينة ويؤملهم بقدوم
التعزيزات من بغداد وهو امر لم يتأت له الحصول عليه ، ذلك ان الوضع في عاصمة
العباسيين السابقة لم يكن يسمح اطلاقاً بالتفكير بانجاد البصرة ، فقد رأى الباب العالي
بعد ان وصله خبر اعتداء صادق باشا على العراق الجنوبي ، ان ذلك لا يعدوا كونه
واحدة من دسائس والي بغداد عمر باشا الذي يرتاب في ان له علاقات سرية مع الفرس
وانه هو الذي دفعهم إلى القدوم إلى البصرة عن عمد لكي يدفع الدولة العثمانية إلى
الدخول في حرب ضد جارتها الشرقية فيستغل ذلك لترسيخ سلطته في العراق. ان اقتناع
الباب العالي المسبق هذا يفسر طلبه من ولاة الموصل وديار بكر ووان وحلب ودمشق
التحرك مع قواتهم إلى بغداد ظاهرياً للاشتراك مع والي بغداد في الزحف لتحرير
البصرة وواقعياً للتخلص من عمر باشا. وهكذا فقد اعيد افراد هذه القوات إلى بيوتهم
بمجرد ان نفذ حكم اسطنبول القاضي بقطع رأس والي بغداد لان الباب العالي كان يأمل
في ان يقنع اعدام عمر باشا
، كريم خان الزند برفع الحصار عن البصرة. وقد ارسلت إلى حاكم فارس لهذا الغرض
سفارة خاصة اخبرته بشكل احتفالي للغاية بتنفيذ الطلب الذي كان قد تقدم به في
السابق .
غير ان حسابات الدولة العثمانية المبنية
على حب كريم خان الزند
__________________
للسلام كانت خاطئة
حيث واصل الجيش الفارسي بنفس حماسة السابق حاصر البصرة التي اضطرت بعد ان تركت
لتعتمد على قواتها الخاصة فقط إلى التسليم بعد مقاومة استمرت ثلاثة عشر شهراً. وقد
امر صادق خان بعد ان دخل المدينة بارسال المتسلم سليمان اغا وبقية المفوضين
العثمانيين اسرى حرب إلى كريم خان الزند في شيراز ثم بدأ باحلال الادارة الفارسية
في البصرة. لقد برهن صادق خان في فترة بقائه على البصرة على مهارة ادارية وسياسة
فائقة فقد استطاع ان يقيم علاقات ممتازة لامع سكان البصرة فقط وإنما مع المنتفقين
المجاورين ايضاً وهو امر لا يمكن ان يقال عن نائبه الذي حل محله مؤقتاً بعد ان
استدعاه اخوه كريم خان في ١٧٧٧م إلى شيراز لبعض الامور. فلم يلبث محمد علي خان
الذي بقى على رأس الادارة في البصرة ان تدخل في النزاع الذي كان قائماً بين شيخي
المنتفق وانحاز إلى احدهما ضد الاخر لكنه اصيب باندحار شديد على يد الاخر
بحيث تحتم على صادق خان ان يعجل بعودته إلى البصرة لكي لا يسمح لهذا الحادث ان
يتحول إلى حرب حقيقة بين العرب والفرس. لقد ظلت البصرة تحت سلطة صادق خان حتى ١٧٧٩
م عندما دفعه موت اخيه كريم خان الزند وامله في الاستيلاء على العرش إلى اخلاء
المدينة بسرعة والعودة مع قواته إلى فارس. وعندما علم حسن باشا والي بغداد يؤمئذ
__________________
بانسحاب صادق خان
بادر فوجه إلى البصرة متسلماً من قبله فباشر هذا بحكم المدينة دون ان يواجه عقبات
تذكر وهكذا عادت المدينة إلى حوزة السلطان دون أي جهد من جانب الدولة العثمانية .
لقد وضع سليمان اغا تسليم البصرة على
رأس الادارة فيها مرة اخرى وذلك بعد ان تحرر من الامر بعد موت كريم خان الزند
مباشرة وعاد إلى العراق ، لكنه لم يبق في المدينة طويلاً اذ لم يلبث ان نقل في
بداية ١٧٨٠م إلى بغداد التي لم يستطع ان يحتفظ بالسلطان فيها حتى مماته في عام
١٧٠٢م فحسب بل تمكن ايضاً من جعل هذا المنصب يتعاقب في اسرته فوضع بذلك بداية
لسلالة المماليك
الذين اطلق عليهم هذا الاسم لان مؤسس السلالة كان عبداً مملوكاً في السابق.
كان حكم بغداد الجديد في اصله من
الجورجين وقع في شبابه في اسر العثمانيين فحولوه إلى الاسلام ثم باعوه ليصبح
واحداً من حرس البلاط الشخصي لباشوات بغداد وكان هذا الحرس في ذلك الوقت يتألف من
العبيد الجورجيين. وباستناده إلى ابناء جلدته هؤلاء الذين كانوا يؤلفون في النصف
الثاني من القرن الثامن عشر جالية كثيرة العدد في بغداد ويتمتعون بنفوذ لا يستهان
به ابداً سليمان اغا الذي حصل على لقب باشا
__________________
يحوز بالتدريج قوة
وسلطة متزايدة باستمرار. فبعد ان استطاع ان يخضع بغداد كما فعل في البصرة وجنوب
العراق وكذلك كردستان العثمانية باجمعه اصبح يضاهي في قوته وفخامة بلاط حاكمي
العراق السابق اللذين ذاع صيتهما في جميع انحاء الدولة العثمانية وهما حسن باشا
وابنه احمد باش اللذين انتهت اسرتهما بموت عمر باشا الذي اعدم في ١٧٧٦ م ارضاءً
لكريم خان الزند. لقد سعى سليمان باشا لتقليد سلفيه المشهورين هذين لا في نمط
حياته فقط بل في شؤون الحكم في هذه المنطقة ايضاً وذلك بسعيه المكثف مثلهم لحماية
التجارة واهتمامه برفاه السكان واتخاذ الاجراءات الكفيلة بالعناية بالمرافق العامة
في المنطقة وتحسينها. وقد تفوق في ذلك حتى على الواليين المذكورين فقد انشأ كوت الامارة
واعادة تعمير البصرة التي كانت شبه خربة حتى ظهرت على انقاض المدينة القديمة بلدة
الزبير ثم عمل على تزيين بغداد نفسها وحرص سليمان باشا مثل الواليين المذكورين على
اخضاع الانكشارية مما مكنه من اعادة الهدوء والنظام إلى بغداد بحيث ازداد سكانها
خلال فترة قصيرة بمقدار ٣٠ - ٤٠ الف نسمة اغلبهم من الهاربين من فارس دفعتهم إلى
اللجوء إلى هنا الاضطرابات التي عادت وتجددت في وطنهم
وخلاصة الامر تبيين ان سليمان باشا هو ذلك الحاكم العراقي النموذجي الذي كان يمتلك
وبأعلى درجة ، على ما يذكره معاصره القنصل الفرنسي في بغداد السيد روسو
، موهبة ثمنية هي قدرته على اجبار الاخرين على الخوف منه وحبه في الوقت نفسه وذلك
ما انعكس على التسمية التي اعطاها له العراقيون وهي «بيوك سليمان» أي
__________________
سليمان الكبير.
ولقد برر سليمان باشا هذا اللقب تماماً
لا في نشاطه الداخلي فقط وانما في نشاطه الخارجي ايضاً فولاية العراق التي ألت
اليه كانت قد ضعضعتها سرعة استبدال الولاة بعد اعدام عمر باشا كما ان ظهور الفرس
في جنوب العراق واستيلاءهم على البصرة ساعد على تدهور هيبة الدولة العثمانية
الكثيراً ، وقد انعكس ذلك كله فوراً على موقف القبائل العربية فسادها الاستياء
الذي لم يلبث ان تحول حتى الوقت الذي تولى فيه سليمان باشا منصب عامل بغداد إلى
تمرد مكشوف. وكان اول من بادر إلى التمرد هم عرب الخزاعل الذين انتفضوا في ١٧٨٣ ضد
العثمانيين ولم يكونوا في عملهم هذا بمنأى عن تأثير الشيخ سلمان الكعبي الذي كان
قد بدأ في ذلك الوقت استعداداته للاستيلاء على البصرة. وقد وجه سليمان الكبير صهره
وكهيئته احمد ضد الخزاعل فحطمهم واجبر شيخهم الرئيس على الالتزام بالعيش من الان
فصاعداً في بغداد نفسها كما التزم الخزاعل بان يرسلوا إلى هناك عدداً من الرهائن .
اما عن سلمان الكعبي فان هذا الشيخ العربي الطموح اغراء المثل الذي وفره الفرس
بامكانية استيلائه على البصرة التي كانت كالسابق لا تمتلك حامية كبيرة وليس عندها
من جهة النهر الا اسطول صغير من السفن سيئة التسليح. ولهذا فقد اعد جيشاً تعداده
أربعون الفاً واسطولاً لا يستهان به مجهزاً بمدافع من العيار الثقيل. وبادر متسلم
البصرة الذي علم بنوايا شيخ الكعبيين هذا في الوقت المناسب إلى تحذير بغداد فارسلت
من هناك إلى البصرة على الفور تعزيزات قوية ولهذا لم تكن بداية العمليات العسكرية
مؤاتية للشيخ
__________________
سلمان فارجأالاستيلاء
على البصرة نفسها إلى وقت اكثر ملاءمة.
ولم يكد سليمان الكبير يقضي على الخطر
الذي يهدد البصرة من جانب الكعبيين حتى خيم على المدينة خطر اخر. ففي نيسان ١٧٨٧
وصل شيخ المنتفقين ثويني مع فصيل غير كبير من اتباعه إلى بلدة الزبير. وعندما اتاه
متسلم البصرة إلى هناك ليستوضح سبب ظهور المنتفقين المسلحين فجأة بالقرب من البصرة
عمد إلى اختطافه ثم احتل البصرة بفصيل من اتباعه الذين استولوا على بيت الحاكم
والمؤسسات الحكومية الاخرى. وبعد ذلك دخل ثويني نفسه إلى المدينة واستبدل جميع
الموظفين العثمانيين باشخاص من قبله بعد ان ابعد اولئك إلى الهند. وبعد ان فعل لك
ولكي يبرز موقفه كتب رسالة مطولة إلى السلطان وارسلها إلى اسطنبول برر فيها تصرفه
بضرورة اعادة حقه في البصرة التي كانت في يوم ما تعود إلى اسلافه
. وقد استند الشيخ
لتأكيد نواياه السلمية على الرأفة التي اظهرها تجاه المدينة ووعد في ختام رسالته
بان يخدم السلطان واخلاص اذا ما ولاه الحكم في بغداد والبصرة.
كان الشيخ أحمد الذي تجاوزه اخوه الشيخ
ثويني ينتظر الفرصة المناسبة لكي يستعيد ارث ابيه ، فسارع بالذهاب إلى بغداد واخبر
سليمان الكبيرة بما حدث فامر والي العراق بجمع القوات فوراً وارسل في الوقت نفسه
يطلب المساعدة من سلمان الكعبي واعداً اياه بمكافأته على ذلك
__________________
باعطائه بعض الاراضي
التي كان هذا الاخير يتطلع اليها منذ زمن طويل. لقد اراد سليمان الكبير بذلك ان
يعيق تحالف الكعبيين والمنتفقين لا سيما وان الشيخ ثويني كان بهذا الخصوص يجري
مفاوضات مع سلمان الكعبي الذي لم يجرؤ على مد يد المساعدة إلى ابناء جلدته
المنتفقيين خشية من ان يتقوى هؤلاء اكثر من اللازم. وفي هذه الاثناء وصل من
اسطنبول امر يقضي باخماد الانتفاضة في الحال. ولم ينتظر ثويني هجوم قوات سليمان
الكبير على البصرة بل خرج للقائهم فحدثت في تشرين الاول ١٧٨٧ عند قرية نهر عنتر على
الفرات معركة خسرها الشيخ ثويني فاضطر مع بعض مقربيه إلى الهرب. وقد عين سليمان
الكبير أحد الاكراد هو مصطفى بيك متسلماً جديداً كما عين اخا ثويني وهو شيخ أحمد
الذي مر بناه ذكره شيخاً للمنتفقين.
وبدا ان الهدوء ساد العراق نهائياً لكن
عنصراً معادياً جديداً لم يلبث ان ظهر فجأة على مسرح الاحداث ، ونعني الاكراد
الذين كانوا حتى هذا الوقت يدفعون ولاة بغداد لتحرير الحملات التأديبية ضدهم لا
لكونهم مثل العرب يسعون لالقاء النير العثماني عن عاتقهم بل لرفضهم تأدية الخدمة
العسكرية فقط. ولا يمكن السبب في مثل هذا الخضوع الشديد من جانب الاكراد للسلطان
العثماني بالمقارنة مع العرب في كون الاكراد من السنة فقط وانما يمكن ايضاً في
نظام الادارة الخاص الذي اعتمد في كردستان. فقد قسمت هذه المنطقة منذ ان الحقت
بالدولة العثمانية في زمن مراد الرابع
الى سناجق منفصلة وضع على رأسها بيكات يتولى مناصبهم بالوراثة ويتسلمون اقراراً من
اسطنبول يؤكد سلطتهم. لكن تعيين هؤلاء البيكات اصبح من اختصاص ولاة بغداد منذ ان
الحق والي العراق حسن
__________________
باشا جنوب كردستان
الذي يؤلف ايالة شهروز ببغداد في بداية القرن الثامن عشر. وهكذا اصبح يقف على رأس
السناجق الستة التي تتألف منها الايالة وهي كركوك واربيل وكويسنحق وقره جولان
وراوندوز وحرير
بيكات اكراد يعينون ويلزمون من قبل ولاة بغداد ويتسلمون من الباب العالي بتوصية من
هؤلاء الاخرين لقب ميرميران او حتى لقب باشا من مرتبة الطوغ الواحد وهو امر لا
يعطيهم حقوقاً اضافية باستثناء السماح لهم بان يستخدموا في اثناء الحملات العسكرية
راياتهم الخاصة وجوقهم الموسيقي الخاص وقد حاول هؤلاء البيكات الذين كانوا مستقلين
بعضهم عن بعض ويخضعون جميعاً لولاة بغداد ان يعيشوا مع هؤلاء الاخرين وفي وئام
ووفاق لا سيما ان الالتزام الرئيس المفروض على الاكراد يقتصر على تقديم المساعدة
المسلحة للولاة في صد الاعداء في الداخل والخارج وتجهيز قوات العراق العثمانية
بالمؤن والعلف وفي مقابل ذلك اعفى الاكراد من جميع الضرائب والالتزامات الحكومية
الاخرى .
كان يحكم أحد السناجق المذكورة أعلاه
ونعني سنجق قره جولان بيكات اكراد من اسرة باب أو بابان وقد أصبح هؤلاء حتى عهد
سليمان الكبير اقوياء بحيث وسعوا سلطتهم لتشمل التون كوبري واربيل بل وجميع
الزواية الشمالية الشرقية من ولاية بغداد الحالية .
وقد اسس احد بيكات هذه الاسرة وهو ابراهيم باشا مدينة جديدة في
__________________
١٧٨٦ في موضع ملكندي
وسماها السليمانية على شرف سليمان الكبير وقد اصبحت هذه المدينة منذ ذلك الوقت
مقراً لبيكات اسرة بابان واعطى اسمها للسنجق كله فاصبح يسمى سنجق السليمانية بدلاً
من سيجق قره جولان .
لقد جذبت الحركة بين الاكراد انتباه
سليمان الكبير لاول مرة في ١٧٨٨ عندما اتفق الكردي مصطفى بيك الذي عينه سليمان
نفسه متسلماً للبصرة سراً مع الشيخ احمد شيخ المنتفقين الجديد على تحرير العراق
كله من سلطة العثمانيين بمساعدة عثمان باشا حاكم السليمانية انذاك. لقد كشفت
الاستعدادات التي كانت تجري بسرية تامة لتنفيذ هذا المشروع صدفة من قبل قومندان
البصرة الحجازي الاصل وكان مصطفى باشا ينوي جعله الضحية الاولى للانتفاضة التي
كانت يعد لها. وقد استطاع القومندان النجاة في الوقت المناسب فذهب الى بغداد واخبر
سليمان الكبير فجمع هذا جيشاً كبيراً نسبياً وسار به نحو البصرة بعد ان تمكن من
ضمان عدم مشاركة عثمان باشا الباباني في الانتفاضة مشاركة فعالة. وقد جرى الصدام
بين جيش بغداد وقوات المتسلم المتمرد ومعها المنتفقيون في موضع يقال له العرجة على
الفرات. وقد اندحر مصطفى بيك في هذا الصدام وهرب إلى الكويت ، فاحتل سليمان الكبير
بعد هذا النصر البصرة وعين لها متسلماً جديداً هو بيك المارديني ووضع الشيخ السابق
ثويني بعد ان استسلم للباشا واقر بذنبه على رأس المنتفقين بدلاً من الشيخ احمد
الذي لم يبرز اختياره .
ولم تكن هذه التغيرات كافية ابداً لتلافي اشتعال الحركة
__________________
الكردية مجدداً ولهذا
اتخذ سليمان الكبير قراراً بتغيير حكام مناطق كردستان من الاكراد المحليين بشكل
مستمر قدر الامكان بحيث لا يسمح لهم بالبقاء في مناصبهم مدة طويلة كما اخذ يطالبهم
برهائن نافذين من اقربائهم المقربين .
لقد تميز حكم سليمان الكبير ، بالاضافة
إلى ظهور الاكراد على مسرح الصراع السياسي ، باحداث لاتقل عن ذلك اهمية توافقت مع
نهاية القرن الثامن عشر وجلبت معها لتاريخ هذه المنطقة عاملين جديدين هما التنافس
العالمي الانجليزي والفرنسي ومهاجمة الوهابيين للعراق. وفي الوقت الذي كانت للعامل
الاول انعكاساته حتى في العراق بسبب الحملة التي فكر بها نابليون لغزو الهند فان
العامل الثاني كان نتيجة طبيعية لاستيلاء الوهابيين على اقليم الاحساء الواقع في
الزاوية الشمالية الشرقية من شبه جزيرة العرب أي على قرب مباشرة من البصرة.
لقد رسخت ايطاليا حتى نهاية القرن
الثامن عشر سيطرتها على الهند نهائياً حيث استطاعت بعد صراع استمر قرنين تقريباً
التفوق على منافسيها الاوروبيين المتمثلين بالبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين.
ان شركة الهند الشرقية والانجليزية التي تسلمت مرسوم تسليمها الاول من الملكة
ايزابيت في ١٦٠٠ دخلت بعد ظهورها في الهند مباشرة في صراع عنيف في البر مع
البرتغاليين الذين رسخ وضعهم في اليابسة وفي البحر مع الهولنديين الذين استولوا
ابتداءً من ١٦٠٥ على جزر المحيط الهندية باجمعها تقريباً. وفي دورة هذا الصراع
الذي كان يجري على جبهتين ظهر في الهند منافس اوربي جديد ونعني الفرنسيين الذين
__________________
قرروا في ١٦٦٤ ، وفقاً
لافكار كولبير
، المشاركة في تجارة الهند بشكل فعال. ولقد تحتم على شركة الهند الشرقية الفرنسية
كذلك ان تحمي طيلة قرن كامل تقريباً ، مراكزها التجارية من تطاولات البرتغاليين
والهولنديين ايضاً بحيث اصبحت رغم ارادتها حليفة لبريطانيا في مسألة طرد هؤلاء
المنافسين لكلتيهما من الهند .
وهكذا لم تدخل شركتا الهند الشرقيتين الفرنسية والنجليزية في صراع مع بعضهما الا
في ١٧٧٤. وقد خرجت الشركة الانجليزية من هذا الصراع منتصرة اذ لم يتبق لفرنسا
بموجب معاهدة صلح فرساي ١٧٨٣
من ممتلكاتها التي كانت يوماً ما واسعة في الهند الا منطقة صغيرة إلى درجة ان
الفرنسيين انفسهم عدوّا التنازل عنها لبريطانيا مقابل ٢٥ مليون فرنك صفقة ملائمة
لهم .
ومع ذلك ظلت حكومة بريطانيا العظمى على
الدوام تخشى على امبراطوريتها من فرنسا. وقد اشتدت هذه المخاوف عندما قام جنرال
الجمهوري بونابرت في ١٧٩٨ بحملته على مصر وهدفه ان يرسخ وضعه
__________________
في البحر الاحمر لكي
ينطلق لاحقاً نحو الهند. غير ان تحطيم الاميرال نلسن للاسطول الفرنسي في خليج ابي
قير بالقرب من الاسكندرية قضى على خطط نابليون وادى إلى اخلاء الفرنسيين لمصر
ولكنه لم يجبر نابليون على التخلي عن نواياه بشأن الهند .
ولهذا نجده ، بعد ان ابعده الانجليز عن مصر والبحر الاحمر يوجه اهتمامه نحو طريق
اخر إلى الهند ونعني الطريق الذي يمر عبر وادي الفرات والخليج الفارسي فاعطى بذلك
لهذا الطريق الذي كان يعد في السابق مجرد شريان تجاري يصل اوربا بالهند واهمية
استراتيجية كبيرة في نظر بريطانيا. كانت خطة نابليون تقضي بالنزول في مصب نهر
اورونت ثم الانحدار من مرعش الى الخليج الفارسي بواسطة نهر الفرات وشط العرب
وتحويل البصرة إلى قاعدة رئيسية للعمليات المقبلة ضد الهند .
ولهذا قررت بريطانيا العظمى ان تحمي بكل
ما لديها من وسائل مستعمرتها الهندية البعيدة من الغزو الفرنسي الذي يأتيها من
ناحية الخليج العربي ولتحقيق ذلك رأت ان نؤمن لنفسها التفوق في ذلك الخليج عن طريق
الاستيلاء على جميع الطرق المؤدية اليه واهمها الطريق الذي يمر عبر العراق. وهكذا
كان على باشوية بغداد ، ان تلعب دوراً بارزاً في الخطط التي رسمتها بريطانية
للدفاع عن الهند. وهذا هو في الواقع ما دفع شركة الهند الشرقية الانجليزية لان
تعمل بحماس منذ ذلك الوقت على ترسيخ نفوذها في البصرة وبغداد. وكانت خطوة الشركة
الاولى في هذا الاتجاه هي
__________________
تحويل ممثليها
التجاريين في المنطقة إلى وكلاء سياسيين منحوا صلاحيات واسعة ومبالغ نقدية اكبر
للصرف على الممثلية. فبعد ان رفعت الشركة مدير المركز التجاري في البصرة - وهو
مركز كان موجوداً هناك منذ ١٦٣٩ - إلى مرتبة مقيم ، ابدلت في ١٧٩٨ وكليها في بغداد
وكان من الاهالي المحليين بموظف منتظم في الملاك حمل في البداية رتبة قنصل ثم
ابدلت تسميته في ١٦١٢ إلى «الوكيل السياسي في بلاد العرب التركية». لقد كانت
التزامات وكيل حكومة الهند الانجليزية في بغداد تكمن رسمياً في المحافظة على سير
البريد بين النجلترا والهند عبر الصحراء السورية وفي مراقبة نشاط مبعوثي نابليون
في العراق فيما يتعلق بمشروع حملته على الهند .
اما في واقع الامر فقد استطاع ممثلو شركة الهند الشرقية ، بفضل قرب العراق من
الهند وعلاقاته التجارية الوثيقة معها منذ القديم ، ان يتحول وضعاً استثنائياً
مكنهم من ممارسة تأثير فعال على سير الاحداث المحلية الامر الذي لم يستطع ان يغفله
باشوات بغداد وفي مقدمتهم سليمان الكبير
كان الوهابيون هم العامل التاريخي
الثاني الذي اخل بمجرى الحياة الهاديء في هذه المنطقة وزاد من تعقيد وضع باشوات
بغداد المعقدة اصلاً. لقد استطاعت الحركة الوهابية التي نشأت كما لاحظنا اعلاه في
وسط شبه جزيرة العرب ان توحد حتى هذا الوقت اغلبية بدو الجزيرة العربية فاعطت بذلك
لهذه الحركة الاجتماعية في الاسلام طبعاً يرمز إلى يقظة الامة العربية. وكانت
الرغبة في انشاء مملكة عربية مستقلة قوية
__________________
ترتسم بشكل أوضح
بمقدار ما كانت تزداد قوة ونفوذ سلالة ابن سعود وهم حكام الدرعية في وسط الجزيرة
العربية الذين اصبحوا ابتداء من محمد بن سعود من اتباع التعاليم الجديدة واخذوا
يعملون على نشرها بين القبائل البدوية. لقد نظر الكثير إلى الوهابيين بانهم مسلمون
عميقو الايمان ويستندون إلى القرآن والسنة .
ان الفرق الرئيس بين الوهابيين وبقية المسلمين يمكن في موقفهم من النبي محمد (ص) فهم
يعتبرونه بشراً رسولاً له قدسية كما يعتبرون القرآن منزلاً من السماء مباشراً ولا
يقرون بوجود أي وسطاء بين الله والناس ولهذا فانهم يعدون ما شاع بين المسلمين من
تقديس لاضرحة مختلف الاولياء والانبياء من قبيل الشرك ذلك لانهم يعتقدون ان منحهم
التشريف والتبجيل الذي لا يليق الا بالله وحده هو خرق لفكرة وحدانية الله الرحيم
القادر على كل شيء .
ان الوهابيين في مسعاهم لانشاء مملكة عربية مستقلة اعطوا لمقاومتهم للعثمانيين - دون
ان يقصدوا ذلك - طابع الصراع الدموي العنيف من اجل الاستقلال .
لم تول الدولة العثمانية التي كانت
منشغلة بالحروب الخارجية والاضطرابات الداخلية الاهتمام الاواجب للوهابيين بعد ان
طلبت في ١٧٤٩ من حكام مصر وجدة وشريف مكة ان يتخذوا مجتمعين التدابير بشكل اكثر
جدية عندما اصبحت تحت سلطة اتباع هذه الفرقة في نهاية
__________________
القرن الثامن عشر
جميع الصحراء من نجد حتى حلب ودمشق ومن البحر الاحمر حتى الخليج الفارسي. لقد كان
استيلائهم على اقليم الاحساء الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية لشبه جزيرة العرب
على قرب مباشر من البصرة ، تهديداً للعراق نفسه ولهذا فقد علق الباب العالي كل
اماله في قمع الحركة الوهابية على باشا بغداد القوي سليمان الكبير.
لقد طلبت اسطنبول من سليمان الكبير في
١٧٩٦ ان يسير بالاشتراك مع امام مسقط نحو الدرعية عاصمة ابن سعود فيمحوها من على
وجه الارض ، فجهز حاكم العراق بعد استعدادات طويلة جيشاً بلغ تعداده خمسة عشر
الفاً تؤلف القوات التركية جزءاً منه يتألف قسمه الاغلب من القبائل العربية : الضفير
وشمر والمنتفقين وسيره تحت قيادة خازنه حافظ علي باشا إلى البصرة لكي يتم استعداده
نهائياً ، لكن هذه القوات لم تغادر البصرة الا في بداية ١٧٩٨ .
لقد توجه جيش بغداد نحو الهفوف ـ المدينة الرئيسة في الاحساء بطريق الصحراء فاقترب
منها بعد مسيرة صعبة استغرت اثنى عشر يوماً في منطقة جرداء لا ماء فيها. واستطاع
حافظ علي باشا ان يدخل إلى المدينة فترك جنوده ينهبونها غير ان الحامية الوهابية فيها
استطاعت ان تتحصن في القلعة واخذت تصدّ هجمات العثمانيين بنجاح ، ومن الناحية
الاخرى استطاع الامير الوهابي رشوة محمد بيك شاوي شيخ العبيد الذي كان في عداد
محاصري القلعة فتمكن بمساعدته من اطالة الحصار إلى ان نفدت المؤن لدى حافظ علي
باشا فأضطر لان يبدأ انسحاباً متعجلاً وغير منظم مات في اثنائه قسم لا يستهان به
من جنده
__________________
بسبب الجوع والعطش
وسيوف الاعداء .
لقد زادت حملة العثمانيين الفاشلة هذه
منعة الامير الوهابي وهو انذاك عبد العزيز الذي خلف اباه محمد بن سعود عام ١٧٦٥
فاستطاع بشجاعته وقوّة مراسه ان يجلب إلى صفه قبائل عربية جديدة ، كذلك دفع إلى
العثمانيين حتى القانطين على ساحل الخليج الفارسي من العرب الذين كانوا قبل ذلك
يرفضون باصرار الاعتراف بسلطة الوهابيين إلى الانضمام لعبد العزيز. وكان اتباع
عبدالوهاب الجدد هؤلاء يمتلكون اسطولاً شراعياً لا يستهان به واخذوا يمارسون «القرصنة
» بحجة تحويل جيرانهم
إلى الوهابية فأصبحوا بذلك سوطاً مسلطاً على الملاحة التجارية في هذا الطريق
البحري الذي يؤدي إلى الهند. وقد شدد «القراصنة» الوهابيين من مخاوف الباب العالي
على البصرة التي لم تكن محصنة بشكل جيد الا من جهة البر ، ذلك ان سليمان الكبير
كان يدفع لكل من عرب الزبير والمنتفقين مبلغاً سنوياً مقداره مائة الف قرش مقابل
حماية المدينة من غارات الوهابيين ، اما من جهة النهر فقد كانت المدينة مكشوفة ذلك
ان الاسطول الصغير الذي كانت تحت تصرف العثمانيين لم يكن قادراً على ان يبدي
مقاومة جدية
__________________
«للقراصنة» المذكورين
. ومن حسن الحظ ان
هؤلاء كان لديهم عمل كبير في الخليج الفارسي حيث لم تلبث هجماتهم ان اصبحت تصيب
حتى سفن شركة الهند الشرقية الانجليزية بالاضافة إلى السفن الشراعية المحلية التي
كانت تؤلف بالنسبة لهم غنيمة سهلة. ولم يكن الامير الوهابي عبد العزيز قد فكر بعد
الاستيلاء على البصرة بل كان عنده مشروع اخر يأمل بان يوفر له ثروات طائلة تتمثل
بالكنوز المحفوظة في مرقد الامام الحسين (ع) في كربلاء.
لقد رفعت حملة العثمانيين الفاشلة على
الاحساء لدرجة تفوق من اعتداد عبد العزيز بنفسه في حين عجل رفض سليمان الكبير
ترضيته عن مقتل عدة وهابيين سقطوا في صدام مع عرب العراق بقراره بمهاجمة كربلاء .
وهكذا باغت سعود بن عبد العزيز في ٢٠ نيسان ١٨٠٦ مدينة كربلاء وكان اغلب سكانها قد
ذهبوا إلى النجف لزيارة الامام علي (ع) فتركت دون حماية. لقد كان الفصيل السعودي
يتألف من سبعة الاف مردوف ، (جمل سريع العدو)
يحمل كل منها راكبين مسلحين. وقد عاشت اتباع عبد الوهاب المتعصبين هؤلاء في
المدينة طيلة يومين كاملين واحدثوا اضراراً في المنائر وفي قبة المرقد المذهبة
التي اعتقدوا ان كسوتها النحاسية في من الذهب الخالص .
لكن جميع الكنوز هذا المرقد التي تجمعت من هدايا وتبرعات الزوار المسلمين عشرات
السنين وقعت بالمقابل في ايدي الوهابيين الذين احتاجوا إلى مائتي بعير لنقل هذه
__________________
الغنيمة التي لاتقدر
بثمن والتي تتألف من احجار كريمة واغطية وسجاد واواني من الذهب والفضة واسلحة
مختلفة عليها نقوش ثمينة ولوازم وكمية كبيرة من النقود الذهبية والفضة الاجنبية .
لقد اوقع التعرض للمقدسات بهذا الشكل الفزع في العراق واثار لدى حاكم العراق
سليمان الكبير نفسه الخوف على الكنوز المحفوضة في ضريح الامام علي في النجف ولذلك
فقد نقلت إلى بلدة الكاظمين الواقعة بالقرب من بغداد ووضعت في مسجد الامام موسى [الكاظم]
(ع) القائم هناك تلافياً لنهبها من قبل الوهابيين .
ومن ناحية اخرى كان التعرض للعتبات المقدسة
بهذا الشكل يهدد بحدوث تعقيدات جدية مع فارس التي استطاعت حتى هذا الوقت ان تتقوى
بعد ان تغلب اغا محمد خان القاجاري على جميع حلفاء كريم خان الزند المتنازعين على
العرش الذين اشاعوا الفوضى في البلاد وقضى عليهم الواحد بعد الاخر. ومع ان محمد
خان هذا الذي اعلن في ١٧٩٦ شاها لفارس قتل في السنة التالية ، الا انه ترك لابن
اخيه فتح علي شاه دولة يسودها النظام في الداخل وتتمتع بنفس رفعتها السابقة في
الخارج. لقد عد حاكم فارس الجديد سرقة نفائس المرقد في كربلاء دون ان يعاقب السراق
تاوناً من جانب سليمان الكبير فهدده بانه سيأخذ الدفاع عن العتبات المقدسة في
العراق ضد الخطر الوهابيين على عاتقه اذا لم يكن حاكم
__________________
العراق مؤهلاً
لحمايتها من تطاولات الوهابيين.
جهز سليمان الكبير تحت تأثير هذه
التهديدات حملة ثانية ضد الوهابيين كان ثويني شيخ المنتفقين الذي سبق ذكره من شارك
فيها. وقد تقرر في هذه المرة تجاوز الحسا والسير إلى الدرعية مباشرة. ولكن ما ان
اصبح جيش بغداد على مسيرة اسبوع من عاصمة امير الوهابيين حتى سقط الشيخ ثويني
الملهم الاساس للجيش المهاجم قتيلاً على يد وهابي متعصب. وقد تحول الارتباك الذي
ساد المعسكر العثماني بسبب ذلك إلى فزع حقيقي انتهى بالهرب بشكل غير منظم بعد ان
قام فرسان الوهابيين بقيادة سعود
بالاغارة ليلاً على المعسكر واخذوا يذبحون كل من يقع في ايديهم من الاتراك والعرب
دون رحمة .
اما الذين نجوا من هذه الواقعة فقد مات اغلبهم في الصحراء من الجوع والعطش أو قتل
على يد القبائل البدوية المتحالفة مع الوهابيين. وهكذا باءت محاولة والي بغداد
الثانية للقضاء على الوهابيين بفشل اكثر ايلاماً من حملة الاحساء. وقد كانت هذه
الحملة الفاشلة على الدرعية اخر اعمال سليمان الكبير في مجال الصراع مع الوهابيين
، اذ لم يلبث بعد بقليل ان توفي في ١٨٠٢ بعد ان حكم العراق لمدة اثنين وعشرين
عاماً.
لقد جعل موت سليمان الكبير مسألة اختيار
خلف له تقفز إلى الصدارة. ولم يغير اهالي بغداد الذين اعتادوا منذ عهد احمد باشا
المشهور على اختيار حكامهم بانفسهم عادتهم هذه في هذه المرة ايضاً. وهكذا ايدت
الاغلبية ، على الرغم من احتجاج اغا الانكشارية وبعض الموظفين ،
__________________
ترشيح حافظ علي كهية
الباشا الراحل الذي ينحدر في اصله من الجورجيين ايضاً بيع وهو صغير حرساً لسليمان
الكبير وعمل هذا على تقريب عبده الذي ينتمي إلى ابناء جلدته وعينه خازناً له .
وقد زاد سليمان الكبير من تقريب حافظ علي بعد ان عمد هذا إلى قتل الكهية السابق
احمد وكان صهراً للباشا عند ما كان هذا خارجاً من احد لقاءاته مع سليمان الكبير.
وكان الكهية احمد الذي تميز بذكاء خارق ومؤهلات مشهورة قد ساعد بقسط كبير في تمتع
سليمان الكبير بمجد الحاكم الحكيم فلم يعد يقنع في ايامه الاخيرة بدور مساعد حاكم
العراق واستحوذ على سلطة كبيرة حتى انه انفرد بحكم الباشوات دون ان يظهر أي مراعاة
لسليمان الكبير الذي تقدمت به السن .
وكان سليمان الكبير قد ضايقته سيطرة كهيته ولهذا فقد عين القاتل في منصب المقتول
بدل من ان يفرض عليه العقاب الذي يستحقه ، وزوجه من ابنته التي ترملت بموت أحمد.
وبعد ان أصبح حافظ علي قريباً من سليمان الكبير بهذا الشكل وغدا كهيته وساعده
الايمن لم يعد من الصعب عليه التفوق على غيره من المرشحين لمنصب حاكم العراق
والحصول على مصادقة الباب العالي على تعيينه فيه.
كان الاستعداد للنضال ضد الوهابيين هو
اول اهتمام باشا بغداد الجديد سيما وان هؤلاء «البيورتان العرب»
تمكنوا من توجيه ضربة شديدة لهيبة السلطان باعتباره خليفة للمسلمين وحامياً
للمدينتين
__________________
المقدستين مكة
والمدينة عندما استولوا في نهاية ١٨٠٢ على مكة ونهبوا اغلب الكنوز المحفوظة فيها.
ولم يكن لدى الباب العالي في هذه اللحظة الحرجة التي زادت من صعوبتها الاضطرابات
الداخلية التي اثارتها الاصطلاحات العسكرية التي قام بها سليم الثالث عندما سعى
إلى اصلاح الجيش العثماني وجعله على المنط الاوربي فجابه لذلك معارضة الانكشارية
ورجال الدين ، امكانية تركيز جهوده في القضاء على الوهابيين فالقى هذه المهمة على
عاتق باشوات دمشق وحلب وجدة المجاورة لشبه جزيرة العرب في الغرب وعلى عاتق والي
بغداد في الشرق. ولم يكن حافظ علي يثق بامكانية النجاح في مجابهة الوهابيين بحزم
سيما وان الحملة الفاشلة على الاحساء ١٧٦٨
اعطته فرصة للتعرف شخصياً على المصاعب والتعقيدات التي تجابهها مثل هذه المشاريع
الحربية ، ولهذا فقد اخذ يتباطأ بالاستعدادات محاولاً ان يؤخر جهد الامكان موعد
قيام الجيش العراقي بالحملة.
وفي هذه الاثناء قتل الامير الوهابي عبد
العزيز في عام ١٨٠٣ على يد خادمه الفارسي الذي اعتنق الوهابية وحاز على ثقة سيده
انتقاماً منه لمقتل الثلاثة في اثناء نهب الوهابيين لمدينة كربلاء. وقد كان لهذه
الحادثة نتائج مهمة بالنسبة للعراق ، لان الوهابيين نسبوا الجريمة لتحريض حافظ علي
باشا ولذلك فقد كان على حافظ علي هذا ان يتوقع انتقامه من جانب الامير سعد بن عبد
العزيز وخليفته وهكذا وجد والي العراق نفسه مضطرباً للاستعداد لا للهجوم وانما
للدفاع عن النفس ولحماية المنطقة التابعة له من هجوم حتمي من جانب جحافل
الوهابيين. ولم يتأخر الامير سعود كثيراً فقد حاول في السنة ذاتها ان يستولي بغارة
ليلية مفاجئة على مدينة الزبير
__________________
التي قامت على انقاض
البصرة القديمة نتيجة لجهود سليمان الكبير ، في نفس الوقت الذي توجه فيه فصيل
وهابي اخر نحو البصرة بهدف الاستيلاء عليها. غير ان المحاولتين باءتا بالفشل نتيجة
للمقاومة التي ابداها الاهالي مما جعل سعود يكتفي بنهب القرى والمستوطنات القائمة
في الضواحي لانها لم تستطع ان تحتمي من الوهابيين بسبب افقتارها للاسوار .
لقد واصل حاكم العراق حافظ علي باشا جمع
وتجهيز الجيش ولكنه لم يكن متعجلاً لمباشرة عمليات فعالة ضد سعود على الرغم من
الحاح سيد سلطان امام مسقط الذي كان حليفاً لباشا بغداد ويتحرق شوقاً لمقاتلة
الوهابيين لانهم كانوا يهددون استقلال عمان ايضاً. وقد توجه سيد سلطان نفسه في
١٨٠٣ على رأس اسطول يتألف من خمس عشرة سفينة إلى البصرة رغبة منه في التعجيل بحركة
جيش العراق ، وهناك خاب امله في استعداد حافظ علي باشا للحرب فقرر وهو في ذروة
يأسه ان يلقن الاخير درساً بالاستيلاء على البصرة بمساعدة الاسطول الذي جاء به معه
غير ان المقربين منه تمكنوا بصعوبة من اثنائه عن ذلك .
وقد تخلى امام مسقط عن الحذر وهو في طريق عودته من البصرة وسبق اسطوله في سفينة
شراعية خفيفة ، فتعرض لغارة قام بها الوهابيون ومات اثناء المناوشة التي جرت معهم.
وهكذا فقد حافظ علي باشا حليفه النشط واصبح يعتمد من الان على قواه الخاصة فقط.
واخيراً قرر الباشا بعد استعدادات دامت
سنتين الخروج من بغداد في نهاية عام ١٨٠٤ على رأس جيش تعداده خمسة وسبعون الف شخص
ولكنه ما ان وصل إلى الحلة حتى قرر البقاء فيها لقضاء فصل الشتاء ولم
__________________
يخاطر بمواصلة السير
إلى الصحراء التي تبدأ بعد هذه المدينة مباشرة. ولم يقض حلول الربيع على تردد
الباشا فبقى في الحلة واخذ يرسل فصائل صغيرة كلاً على حدة إلى الصحراء محتجاً
يتعذر تأمين الماء والمؤن للجيش اذا واصل سيره بكليته في تلك الاصقاع المقفرة
الخالية من الماء وهو الذي صرف سنوات عديدة في جمعه. غير ان حرب الانصار لم تحقق
الهدف الذي علق عليها بتاتاً بخصوص الوهابيين الذين عاشوا في الصحراء واعتادوا
تماماً على ظروف وطبيعة الحياة فيها ولهذا فقد كانت الافضليات كلها إلى جانبهم حيث
كانوا يتجنوبن لقاء الفصائل المعادية التي تفوقهم عدداً بمهارة مشهودة ويبيدون ، دون
رحمة ، الوحدات الاصغر من القوات العثمانية. وهكذا ظل جيش العراق يتكبد الخسائر
دون جدوى إلى ان قرر حافظ علي باشا بعد ان اقام في الحلة ما يقرب من سنة ، العودة
إلى بغداد بقواته التي تقلصت إلى النصف نتيجة لغارات الوهابيين وهكذا انتهت الحملة
التي كلفت غالياً والتي علق عليها العالم الاسلامي كله واسع الامال دون نتيجة
تذكر.
في هذه الاثناء كان سعود مشغولاً بتثبيت
سلطته في الحجاز وهي المنطقة التي تقع فيها المدن المقدسة ، وذلك بعد ان استولى
على المدينة في نهاية ١٨٠٤. وقد ادى انتقال المدينة وقبلها مكة إلى الوهابيين إلى
زيادة مكان وقوة سعود لدرجةلم يسبق لها مثيل فأمر بان يخطب له في مساجد مكة
والمدينة بدلاً من السلطان - الخليفة .
وفي الوقت نفسه كان الوهابيون قد اوقفوا عملياً قدوم قوافل الحج من مصر وسورية
والعراق إلى الديار المقدسة في الحجاز واقتصر الوصول إلى هناك على بعض الحجاج
__________________
الجريئين الذين كانوا
يسلكون طرق البحر إلى جدة .
وقد اثار توقف الحج هياجاً مخيفاً بين المسلمين في جميع اصقاع العالم واخذت ترد
إلى الباب العالي من كل مكان مطاليب تلح على اتخاذ اجراءات فعالة لطرد الوهابيين
من مكة والمدينة. وهكذا اخذ ولاة دمشق وحلب وجدة بامر من اسطنبول ، يستعدون بشكل
مكثف للسير ضد الوهابيين اما والي بغداد فقد طلب منه القيام في الوقت المناسب
باعمال تخريبية من جهة العراق لتأمين نجاح القوات العثمانية في هجومها على الحجاز.
وكان حاكم العراق حافظ علي باشا قد عانى لتوه من مآسي غارة جديدة قام بها
الوهابيون الذين دأبوا طيلة ١٨٠٥ على القيام بعدة غارات جريئة قادها عبد الله بن
سعود للاستيلاء على النجف والسماوة والزبير ، دون جدوى. ولهذا فلم يكن من الحكمة
ان يمتنع صراحة عن المشاركة في الحملة المزمع تجهيزها ولم يستطع الاعتذار عن الانضمام
إليها إلا بحجة ضرورة مراقبة الأحداث الكردية والفارسية التي قد تفاقمت في هذا
الوقت بالذات.
لقد استطاع فتح علي باشا ثاني ممثل
السلالة القاجارية ان يتخلّص حتى بداية القرن التاسع عشر من جميع خصومه وتمكن من ان
يخضع حتى خراسان التي كانت ماتزال بيد حفيد نادر شاه. وبعد ان ثبت هذا الشاه
اقدامه في العراش ورسخ سلطته في فارس نهائياً اخذ يفكر في استقلال الوضع الصعب
الذي كان يعانيه حاكم العراق في صراعه مع الوهابيين. وكانت حجته للتدخل ، النزاعات
الحدودية في كردستان التي كانت تؤلف - بسبب تقسيمها نتيجة الغزوات المتقابلة
والمعاهدات بين الدولة العثمانية والفارسية - عدداً من المناطق المختلطة ببعضها
تقطنها بالاساس القبائل
__________________
الكردية البدوية.
وكان هؤلاء لا يعتبرون التفاتاً لتبعيتهم سواء كانت للسلطان أو للشاه بل ينتقلون
باستمرار بحثاً عن المراعي من المنطقة العثمانية إلى الفارسية وبالعكس الامر الذي
كان يؤيدي مع تواجد جزء من القبيلة نفسها في الاراضي الفارسية إلى الكثير من سوء
التفاهم الحدودي ، وقد سهل هذا الوضع لفتح علي شاه ان يمهد لنفسه السبل في باشوية
بغداد على امل ان يضمها في المستقبل إلى فارس.
لقد اعطى عبد الرحمن باشا وهو بيك كردي
من اسرة بابان ، وكان ابن اخ لابراهيم باشا مؤسس السليمانية اول حجة للتدخل فقد
ثار البيك المذكور علناً على حافظ علي باشا والي بغداد بعد ان عزله هذا من منصبه.
وقد طعن عبد
الرحمن بيده حاكم كويسنجق محمد باشا
حليف العثمانيين وقضى عن التون كوبري على خالد باشا الذي عين في السليمانية بدلاً
منه. وبعد ان هزم عبد الرحمن بدوره على يد والي بغداد حافظ علي باشا في ١٨٠٥ هرب
إلى حاكم كردستان فارس ومن هناك إلى فتح علي شاه في طهران
، لكن هذا اكتفى في هذه المرة بمجرد الشفاعة له لدى حافظ علي باشا وذلك بسبب
انشغاله في الحرب مع روسيا ، واتخذ في الوقت ذاته التدابير اللازمة لتأمين حدوده
القريبة ضد هجوم والي بغداد فعين ابنه الاكبر محمد علي مرزا في كرمنشاه وخوله - لكونه
والياً لمنطقة متاخمة لحدود العراق ـ صلاحيات واسعة ووضع تحت تصرّفه جيشاً كبيراً .
ولم يقبل حافظ علي باشا شفاعة الشاه وطلب من الفرس تسليم الهارب لكن
__________________
هؤلاء رفضوا بحزم
فأخذ والي بغداد يعمل اعتباراً من بداية ١٨٠٦ على تحشيد قواته في خانقين بالقرب من
الحدود الفارسية بنية واضحة للتوغل في فارس ، كما بدأ الامير محمد علي مرزا حاكم
كرمنشاه من جانبه الاستعداد للمجابهة. وهكذا بدا أنّ الحرب بين الدولة العثمانية
وفارس قائمة لامحالة.
ولم يكن باشا بغداد على ما يبدو ضد جر
حكومته إلى هذه النزاع الذي قد يؤدي إلى ترسيخ وضعه في العراق لكن الباب العالي
كانت له نظره مغايرة فطلب من حافظ علي باشا التخلي عن نواياه الحربية والعودة إلى
بغداد فوراً. ولكن ما كاد والي بغداد يبدأ بالانسحاب من خانقين حتى عبر عبد الرحمن
- الذي كان السبب في كل هذه التعقيدات - ومعه فصيل من انصاره الحدود العثمانية - الفارسية
وسار باتجاه السليمانية. عند ذلك بادر والي بغداد بارسال كهيته سليمان بيك لنجدة
المدينة ، ولم يكتف هذا الاخير بتحرير السليمانية بل واصل مطاردة عبد الرحمن باشا
حتى عبر وهو في غمار مطاردته هذه الحدود إلى المنطقة الفارسية وهناك تحطّمت خيالته
التي انهكها الانتقال السريع في اول لقاء لها مع قوات عبد الرحمن التي كانت تقل
عنها كثيراً في العدد ، ووقع قائد الفصيل العثماني نفسه في الاسر حيث نقل إلى
طهران ولم يعد منها إلى بغداد الا بعد ذلك بعدة اشهر .
في خلال ذلك واصل الوهابيون تهديد
العراق وتكررت غاراتهم كثيراً على هذه المنطقة العثمانية ، وقد عانت من نهبهم بشكل
خاص ضواحي البصرة التي عاش سكانها في هلع دائم على حياتهم وممتلكاتهم
__________________
لقد كان الوضع جدياً
إلى درجة ان ممثل شركة الهند الشرقية الانجليزية هناك حصل من والي بغداد على اذن
بأنشاء طابية على ضفة شط العرب المقابلة للبصرة في موضع يقال له كردلان يمكن
للتجار الانجليز وموظفي الشركة ان يختبأوا فيه عند هجوم الوهابيين على المدينة .
وقد تمكنت قوات عرب كعب والمنتفق في احد الغارات من استغلال انقسام الفصيل الوهابي
إلى مجموعات صغيرة لنهب القرى المجاوة فحطمت مجاميعهم المجزءة وانقذت المدينة من
استيلائهم الحتمي .
ولم يكن نصيب الاجزاء الشمالية من جنوب العراق بافضل من ذلك فقد جدد الوهابييون في
١٨٠٧ اكثر من مرة محاولاتهم للاستيلاء على كربلاء والنجف بحيث اضطر حافظ علي باشا
بعد ان عاد من خانقين إلى وضع فصيل لا يستهان به في الحلة لصد الغارات الوهابية.
وبيمنا كان والي بغداد يخوض كفاحاً على
ثلاث جهات ضد الوهابيين العرب وضد الاكراد في الشمال وضد الفرس في الشرق قامت في
بغداد نفسها حركة معادية له انتهت بقتله. فقد اخذ خصومه وعلى رأسهم ناصيف اغا الذي
كان هو ايضاً متزوجاً من ابنة سليمان الكبير وحاول بعد موت هذا الاخير منازعة حافظ
علي باشا منصب والي بغداد دون نجاح ، يبثون الدعاية في بغداد ضد الباشا متهمينه
بمناصرة الوهابيين سراً على اساس انه كان يتهرب على الدوام من مجابهتهم بحزم
مكتفياً طيلة الوقت باجراءات نصفية لا تغني. وقد تمكن المتآمرون في آب ١٨٠٧ من
تنفيذ خطتهم بعد استمالوا إلى جانبهم عدداً من العبيد المقربين من
__________________
حافظ علي باشا فقتلوه
ومعه بعض الشخصيات المقربة من اثناء ادائهم لصلاة الصبح في قصره الخاص. غير أنّ
سليمان كهية الباشا وابن اخيه استطاع النجاة من ايدي المتآمرين وتمكن من تزعم
القوات واستولى على القلعة والمؤسسات الحكومية وخزينة عمه ثم امر الضابط الفرنسي
الذي كان يقود فصيلاً من قوات حافظ علي باشا المدربة على النمط الاوروبي فقصف حي
المدينة الذي لجأ اليه المتآمرون وانصارهم بالمدفعية ، مما اضطر ناصيف اغا الذي لم
يعد بامكانه الصمود اكثر من ذلك إلى الهرب من بغداد فاستطاع ان يعبر دجلة بسلام
لكن جماعة المطاردين التي ارسلها خلفه سليمان ادركته بالقرب من الحلة ولم يرحمه
الجنود الذين كانوا يسعون للحصول على المكافأة التي وعدوا بها فقطعوا رأسه وجلبوه
معهم إلى بغداد .
ولم يعد يوجد لسليمان بعد ان انتقم بهذا
الشكل لعمه وصهره ، خصوم في بغداد فاختاره الديوان المحلي وهو مجلس يضم اعيان
المدينة وذوي النفوذ فيها ، بالاجماع لمنصب حاكم العراق ، ولم يبق الا الحصول على
تصديق الباب العالي لهذا الاختيار. غير ان الحكومة العثمانية قررت ان تعين هناك
والياً من عندها لكي تضع حداً لحكم امارة سليمان الكبير الوراثي في العراق ، وقد
احترم بخصوص هذا التعيين صراع حاد في اسطنبول ، فالدولة العثمانية التي كانت قد
اعلنت الحرب على فرنسا بعد احتلال نابليون لمصر عادت إلى علاقاتها السابقة معها
بعد عقد معاهدة الصلح في ١٨٠١
ولكنها لم تتخل في البداية عن شكوكها تجاه نابليون
__________________
حتى انها لم تعترف له
بلقب امبراطور ، ولم يتغير موقفها هذا الا بعد انتصار نابليون في أو سترليتز
عندها قامت بين السلطان سليم الثالث ونابليون عشرة ودية وثيقة مكنت سفير نابليون
في اسطنبول الجنرال سبستياني من ان يحتل لدى السلطان مكانة استثنائية. وقد ازداد
تأثير هذا الجنرال الفرنسي الذي كان اقرب مستشاري سليم الثالث في اصلاحها العسكري
التي كان ينوي القيام بها بعد ان اجبرت الاجراءات الدفاعية التي اتخذها سباستياني
الاسطول الانجليزي على مغادرة بحر مرمرة في شباط ١٨٠٧ دون ان يحقق نتيجة بعد ان
كان قد شق طريقه خلال الدردنيل واخذ يهدد العاصمة العثمانية .
في هذا الوقت تقريباً برزت قضية استبدال
والي بغداد. وقد كان الباب العالي يريد ان يعين في هذا المنصب كور محمد باشا الذي
قاد الجيش العثماني الذي ارسل إلى مصر والذي تغلب عليه الفرنسيون في هيليوبوليس .
ولهذا فمن غير الممكن ان يعد المرشح من انصار فرنسا ، في الوقت الذي كان من مصلحة
الجنرال سباستياني ان يكون على رأس باشوية بغداد الواقعة على الطريق الذي عينه
نابليون إلى الهند وصنيعة لفرنسا. وبسبب ذلك هدد سفير نابليون بالمغادرة عندما عين
الباب العالي مرشحه والياً على بغداد على الرغم من الحاحه عليه بالمصادقة على
اختيار سليمان باشا لهذا المنصب «الديوان» فارسل كور محمد باشا إلى ارضروم
__________________
وتسلم سليمان باشا
الفرمان السلطاني بتعيينه حاكماً على العراق .
وهكذا ثبت سليمان باشا في بغداد بفضل
تدخل فرنسا وقد اسماه العراقيون كجك سليمان أي الصغير وهو جوزجي في اصله ايضاً.
لقد ورث سليمان الصغير من عمه حافظ علي باشا ارثاً ثقيلاً تمثل بالتعقيدات الكردية
الفارسية والكفاح ضد الوهابيين فقرر ان يبدأ بالتخلص من البيك الكردي المتمرد عبد
الرحمن بابان ، وقد كان له معه حسابات قوية ذلك ان سليمان الصغير هو نفسه ذلك
الكهية الذي توجه لنجدة السليمانية ثم تعقب عبد الرحمن فتغلب عليه هذا الكردي
عندما اجتاز الحدود فاقتيد اسيراً إلى طهران. وقد اغتنم سليمان الصغير استيلاء عبد
الرحمن باشا مرة اخرى على الحكم في السليمانية وسعيه الواضح للتخلص من الخضوع
لبغداد فتحرك على رأس جيشه في بداية ١٨٠٨ قاصداَ جنوب كردستان وكان عبدا لرحمن
باشا قد اجاد تحصين الممر الرئيسي المؤدي اليها وهو ممر دربندبازيان حيث عزله بسور
عالي فيه بوابات قوية واقام على الروابي المحيطة به مدفعية قوية بحيث كان من الصعب
على سليمان الصغير ان يقتحم هذا الشعْب الجبلي لولا ابن البيك الكردي خالد باشا.
فقد كان هذا البيك قد عين قَبل ذلك بقليل حاكماً للسليمانية ولكن عبد الرحمن باشا
قد اطاح به ، لذلك قام بقيادة جيش بغداد في طريق لا يعرفه الا القليل من الاشخاص
وجعله يصل إلى ظهيرة الاكراد الثائرين. ولكن عبد الرحمن لم ينتظر وصول الاعداء
فنجا هارباً إلى فارس مرة اخرى وعين بدلاً منه في السليمانية باشا اخر من نفس
عائلة بابان هو ابن عم الهارب .
__________________
وبعد ان انتهى سليمان الصغير من هذه
القضية باشر فور عودته إلى بغداد بالاهتمام بالوهابيين الذين تمكنوا حتى هذا الوقت
من ترسيخ سيادتهم في جزيرة العرب نهائياً بعد ان اخضعوا نجداً واخذوا يسعون إلى ان
يمدوا سلطانهم إلى مصر وسوريا ولكن جميع جهودهم في هذا السبيل لم تؤد إلى نتيجة
تذكر. ولهذا كان من الطبيعي ان توجه انظار الامير الوهابي مرة اخرى إلى العراق
لاسيما وقد اصبح له فيه في اواسط ١٨٠٧ حليف غير متوقع في شخص زعيم عرب العبيد لطيف
بيك ابن محمد بيك الشاوي. لقد شارك لطيف بيك هذا في ١٧٩٨ -كما المحنا - مع الوالي
الراحل حافظ علي باشا عندما كان هذا ما يزال حازناً لسليمان الكبير في حملة
الاحساء التي انتهت بالفشل وكان السبب الرئيس في فشلها هو خيانة محمد بيك الشاوي
الذي دفع رأسه ثمناً لذلك عندما اصبح حافظ علي باشا حاكما للعراق فانتقل ابنه إلى
صف الوهابيين رغبة في الثأر لابيه واغار في اثناء الاضطرابات التي حلت بعد مقتل
حافظ علي باشا مع فصيل كبير يتألف من اتباعه والوهابيون على بلدتي عانة وهيت على
الفرات وخربها بدرجة لا تقل عما فعل الوهابيين في كربلاء .
ولهذا فقد قرر سليمان الصغير الذي كان في الوقت يستعد لمجابهة الوهابيين ان يبدأ
باستمالة العُبَيد وشيخهم لطيف بيك قبل ان يفعل أي شيئ اخر ، فسارع باعادة الارض
التي اخذها منه عمه اليه.
وجرب الامير الوهابي سعود من جانبه
الاتفاق مع سليمان الصغير قبل ان يبدأ عملياته الحربية ضده ولكنه لم يحقق في ذلك
أي نجاح لان باشا بغداد اراد ان يكون اعتراف سعود بسيادة السلطان العثماني اول شرط
__________________
في شروط الاتفاق. وهكذا
توغل زعيم الوهابيين بعد ان خابت توقعاته في العراق في ١٨٠٨ فمحق جميع المواضع
المأهولة على ضفة الفرات اليمنى ثم ارسل اربعة الاف شخص للاستيلاء على كربلاء في
حين شرع هو نفسه بالزحف على بغداد على رأس قواته الاساسية التي بلغ تعدادها خمسة
واربعين الف شخص وتولى السكان الفزع امام الخطر القادم لكم سليمان الصغير الذي كان
قد عاد قبل ذلك بقليل من حملته الموفقة إلى السليمانية عجل بارسال كهيته مع قوات
جمعها على عجل لتحرير كربلاء اما هو فقد انهمك باعداد الانكشارية ودعا كل القادرين
على حمل السلاح للاشتراك في الحملة وقبل ان يخرج الباشا من بغداد استطاع كهيته
التغلب على الوهابيين في عدة اشتباكات لذلك فقد بادر هؤلاء عند اقتراب سليمان على
رأس القوات الرئيسة إلى رفع الحصار عن الهندية وعين سعيد وباشروا بالانسحاب على
عجل تتعقبهم قوات بغداد. وهكذا كان مجرد ظهور سليمان كافياً لتشتيت قوات سعود
المخيفة واجباره على التخلي عن الاستمرار في حملته التي كانت اخر مشروع حربي جدي
قام به الوهابيون ضد بغداد .
لقد كان الدرس الذي اعطاه سليمان الصغير للوهابيين مؤثراً إلى درجة انهم لم
يخاطروا في السنة التالية بالتوغل في العراق بل اكتفوا بنهب القوافل وبالغارات
الصغيرة على القرى والمستوطنات الخالية من وسائل الدفاع.
وفي السنة نفسها أي في ١٨٠٩ تمكنت قوة
مشتركة من شركة الهند الشرقية الانجليزية وسلطان مسقط من تحطيم الوكر الرئيس
للوهابيين ونعني ميناء رأس الخيمة الواقع على ما يسمى بساحل «القرصنة»
وهو
__________________
جزء من ساحل الخليج
يمتد لمسافة ١٥٠ ميلاً من راس مسندم تقريباً حتى ساحل شبه جزيرة قطر .
وكانت ذريعتهم في ذلك هي ان الوهابيين الاقوياء المعروفين بالجو اسم «القواسم» الذين
كانوا يمتلكون اسطولاً يتألف من ٦٣ سفينة كبيرة و ٨١٣ سفينة صغيرة بلغوا في جرأتهم
حد الطلب من الحكومة بومباي ان تدفع جزية سنوية مقابل ان تتاجر السفن الانجليزية
بحرية ودون عوائق في الخليج الفارسي ، وعندما رفض طلبهم باشروا بنهب سفن شركة
الهند الشرقية التي وقعت في ايديهم بحمية مضاعفة .
وهكذا حطم انتصار سليمان الصغير على سعود من جهة وتدمير اسطنبول الهند الانجليزي
لرأس الخيمة من جهة اخرى اسطورة ان الوهابيين لا يقهرون ، وهي الاسطورة التي رسخت
اكثر بسبب ما كانوا يشيعونه من رعب.
غير ان سليمان الصغير تحتم عليه
الانشغال بالقضايا الكردية مرّة اخرى قبل ان يتمتع بثمار انتصاره على الوهابيين.
فقد استطاع حاكم السليمانية في ١٨٠٨ ان يستقر مرة اخرى في تلك المدينة بعد ان طرد
منها قريبه سليمان باشا صنيعة والي بغداد. ولهذا قام سليمان الصغير بحملة جديدة
على المتمرد متحالفاً في هذه المرة مع فارس فقد استطاع اقناع الامير محمد علي مرزا
حاكم كرمنشاه بان يرسل من جانبه فصيلاً للمساعدة ضد عبد الرحمن وتمكنت القوات
العثمانية الفارسية المشتركة من طرد هذا الاخير من السليمانية فهرب إلى كويسنجق
وهناك حاصره الجيش الفارسي ولكنه لم يصل بهذا الحصار إلى نهايته لان الامير
استدعاه
__________________
مرة اخرى إلى كرمنشاه
.
ومن الناحية الاخرى سارع عبد الرحمن فشكى
سليمان الصغير إلى الباب العالي متهما اياه بالسعي للاستقلال بحكم العراق بمساعدة
تعضيد امير كرمنشاه وكان اتهام من هذا النوع يكلف بعض حكام العراق السابقين حياتهم
لذلك فقد بان اثره بالنسبة لسليمان الصغير فوراً لاسيما ان هذا الاخير قد ابقي
حاكماً لبغداد بالحاح من الجنرال سباستياني بالضد من رغبة الحكومة التي كانت تسعى
باي ثمن لان تخرج حكم العراق من اسرة سليمان الكبير وهم من العبيد الجورجيين الذين
ينتمي اليهم ايضاً باشا بغداد المذكور. يضاف إلى ذلك كله ان سليمان الصغير قد دخل
مع مثلي شركة الهند الشرقية الانجليزية في نزاع حاد ان كان هذا الباشا ، صنيعة
فرنسا ، فقد اقام معهم في البداية علاقات ممتازة. لقد كانت هذه العلاقات في اول
الامر ممتازة بحيث تمكن الباشا من اقناعهم بعدم مغادرة البلاد عند قطع العلاقات
الدبلوماسية بين بريطانيا والدولة العثمانية في ١٨٠٧ بسبب قيام بريطانية بانزال
قواتها في مصر لاسناد المماليك ضد محمد على الوالي العثماني هناك. ولكن بعد ان تم
عقد صلح الدردنيل بين بريطانيا والدولة العثمانية في ١٨٠٩ ساءت العلاقات بين
سليمان الصغير وممثل شركة الهند الشرقية في بغداد إلى الحد الذي اضطر معه ممثل
الشركة إلى مغادرة بغداد ولم يعد اليها الا بعد ان استجاب سليمان الصغير لالحاج
حكومة بومباي فتعهد في ١٨١٠ بعد التدخل في شؤون الشركة وبالاعتراف لها بجميع
امتيازاتها .
__________________
ونتيجة لورود شكاوي متعددة من اكثر من
جهة ارسل من اسطنبول في ١٨١٠ خالد افندي السفير العثماني السابق لدى الجمهورية
الفرنسية وبادر هذا بمجرد وصوله إلى الموصل باسم السلطان بان سليمان الصغير يعد «فرمانلي»
أي محكوماً عليه بالموت ثم جمع قوات كردية وتحرك بها نحو بغداد .
وقد رفض الباشا المغضوب عليه ان يترك المدينة طوعاً وحشد القبائل العربية
المتحالفة معه ولاقى قوات مبعوث السلطان تحت اسوار بغداد فقامت معركة رجحت فيها
كفة الاكراد الذين اجبروا فرسان سليمان الصغير على الهرب واما سليمان نفسه فقد
تمكن بمساعدة حرسه الجورجي المخلص من اختراق صفوف الاعداء فعبر مع بعض المقربين
الى نهر ديالى ثم قرر وقد اعياه الكفاح ان يأخذ قسطاً من الراحة عند شيخ قبيلة
دفاعي المحلية. غير ان هذا الاخير بادر إلى قطع رأس الهارب وارسله إلى بغداد رغبة
منه في ارضاء خالد .
وهكذا مات سليمان الصغير الذي استطاع خلال حكمه القصير ان يحظى بتعاطف
__________________
شامل وان يبرهن على
انه اداراي ناجح يمكن ان يقارن بسلفه وسميه المشهور الكبير.
دخلت القوات الكردية بعد ان تغلبت على
قوات سليمان الصغير بغداد واستغلت الوضع الاستثنائي الذي اصبحت تتمتع بع فعينت
خازن الباشا الراحل والياً على بغداد. وكان هذا الشخص واسمه عبد الله على علاقات
سرية طيلة الوقت مع المتمرد عبد الرحمن بابان وقدم له اكثر من مرة خدمات غير قليلة.
لكن وضع الباشا الجديد كان حرجاً ، فحرس باشوات بغداد من الجورجيين واقرباؤهم
الكثيرون في المدينة يميلون إلى اسرة سليمان الكبير ، إلى جانب العدد الكبير من
انصار هذه الاسرة بين اهالي بغداد. كما ان سلطة الوالي الجديد صنيعة الاكراد ، لم
يعترف بهما الا في داخل المدينة ، لان احداً خارج اسوار بغداد لم يعترف بهذه
السلطة على الاطلاق ، فلا القبائل العربية فعلت ذلك ولا غيرهم من السكان. يضاف إلى
ذلك كله ان النفوذ الفارسي بدأ يظهر أكثر فاكثر في المنطقة المتاخمة للحدود وقد
وصلت المسألة إلى الجد الذي بدأ معه حاكم كرمنشاه الامير محمد على مرزا بأخذ
الاتاوات من سكان المناطق القريبة من فارس ، هذا في الوقت الذي اصبح فيه جنوب
كردستان مستقلاً عن بغداد يحكم بشكل مستقل تماماً بعد ان رسخت فيه مجدداً اقدام
عبد الرحمن باشا .
وغدت فيه جميع المنطقة الواقعة بين بغداد ومصب الفرات تحت سلطة شيخ المنتفق القوي
حامد الثامر
الذي كان يدافع عن استقلاله ضد تطاولات
__________________
باشا بغداد بقوة
السلاح .
لقد اصبح وضع عبد الله باشا الحرج
ميؤساً منه بعد ان اخذت فارس تتدخل بشكل مكشوف في شؤون جنوب كردستان ، فقد استغل
فتح علي شاه عقد معاهدة صلح بخارست بين الدولة العثمانية وروسيا في ١٨١٢ فاعلن بان
توقيع محمود الثاني للمعاهدة دون اعلام البلاط الفارسي بذلك مسبقاً يعد عاملاً
عدائياً قامت به الدولة العثمانية ضده على اعتبار انه كان هو ايضاً في حالة حرب مع
روسيا بالرغم من انه لم يكن في هذه الحرب متحالفاً مع السلطان .
ومنذ هذه اللحظة لم يعد حاكم كرمنشاه الامير محمد علي ميرزا يعير اهتماماً كبيراً
للسلطان العثماني في العراق فبادر إلى تعيين حاكم من قبله في السليمانية بدلا من
عبدالرحمن الذي لم يحظ باعجابه. وقد لجأ هذا الاخير إلى عبد الله في بغداد فقام
هذا بتأكيد تعيينه في منصبه السابق لكن عبد الرحمن لم يلبث ان تصالح مع الفرس بعد
ان حقق ما يريد واصبح يظهر استقلاله عن بغداد اكثر من السابق. وبادر والي بغداد
لكي يخضع البيك الكردي المتمرد إلى ارسال جيش كبير ضده اجبر عبد الرحمن على ان
يبحث عن ملجأ له لدى الامير الفارسي في كرمنشاه فبادر هذا إلى اجتياز الحدود
العراقية واعاد عبد الرحمن إلى السليمانية بقوة السلاح .
ان هذا الفشل الكبير الذي مني به عبد
الله اعطى خصومه كثيري العدد الحجة التي انتظروها طويلاً لكي يعلنوا بانه غير مؤهل
لحكم العراق
__________________
ولكي يثيروا استياء
عاماً ضده. وقد أيد أهالي
بغداد علناً استبداله بابن سليمان الكبير المشهور ، الشاب سعيد بيك الذي لم يكن
يقضي وقته بالاحلام بل تمكن من ان يؤمن لنفسه اسناد شيخ المنتفق القوي الذي رفع
علم الثورة لصالح تعيينه والياً لبغداد. وعندما انبرى عبد الله للمنتفقين بقواته
اصيب باندحار حاسم وسقط في ساحة المعركة. وهكذا دخل سعيد باشا الذي رحب به السكان
بسرور المدينة منتصراً فاضطر الباب العالي للمصادقة على اختيار اهالي بغداد هذا
تجنباً لتعقيدات جديدة في هذه المنطقة .
وهكذا عادت السلطة في العراق مرة اخرى
إلى اسرة سليمان الكبير على الرغم من ان حكم هذا الخلف الشاب لذلك الوالي المشهور
كان قصيراً جداً. لقد كان سعيد باشا أو اسد باشا كما دعاه اهالي بغداد شاباً قليل
التجربة ولذلك فان تقدمه في المناصب توقف بسرعة بعد ان بدأ بشكل رائع. فبعد ان احتل
منصب والي بغداد اختلف مع المماليك وهو الاسم الذي كان يطلق على حرس باشوات بغداد
من العبيد الجورجيين الذين كانوا السند الرئيس لكل من خلف سليمان الكبير ، بل ان
سليمان الكبير هذا نفسه برز من بين صفوفهم. كما انه جانب الحذر ودخل في صراع مع
الفرس لان هؤلاء عمدوا بعد ان مات عبدالرحمن الباباني في عام ١٨١٣ إلى تعيين ابنه
محمود حاكماً للسليمانية وكان محمود هذا قد عاش فترة طويلة رهيبة في كرمنشاه ، فتمكن
لهذا السبب من اقامة علاقات واسعة في بلاط فتح علي باشا. ولم يوافق سعيد باشا على
هذا الاختيار وعين بدلا من صنيعة فارس هذا واحداً من انصاره من عائلة بابان ايضاً
__________________
فادى ذلك إلى دخول
الفرس إلى كردستان العثمانية مرة اخرى وتنصيبهم محمود باشا حاكماً للسليمانية
بالقوة .
وقد بادر الباب العالي على الفور إلى استغلال فشل سعيد باشا في مجابهته للفرس
فنقله من بغداد إلى منصب والي حلب.
لقد كان هذا التحول في موقف الباب
العالي يعود لنفس الاسباب التي حتمت عزل سليمان الصغير وان كانت هذه الاسباب قد
تعمقت اكثر في حالتنا الراهنة لكون السلطان محمود الثاني قرر تقوية سلطة الحكام
المركزية عن الطريق التخلص إلى الابد من الحكام الاقطاعيين والولاة شبه المستقلين
في اصقاع الامبراطورية العثماني المختلفة. ولتحقيق هذا الهدف كان على السلطان ان
يزيل من طريقة جميع العناصر التي لا تخضع له ابتداءً من صغار الثوار والمتمردين
وانتهاءً بالاقطاعيين وكبار الاقاليم الذين كانوا يمارسون حكماً ذاتيا واسعاً. لقد
كان الاقتصاص من هذه العناصر جميعاً على درجة من القسوة بحيث ان رؤوس الذين اعدموا
في مختلف انحاء الامبراطورية العثمانية كانت ترسل إلى اسطنبول على شكل اكداس وقد
تركت الحكايات التي كانت تروى عنها اثاراً محسوسة على الاخبار العثمانية طيلة
العقد الاول من حكم محمود الثاني .
وهكذا فمع اتخاذ سياسة السلطان هذا الاتجاه يصبح من المفهوم تماماً لماذا كان على
باشوات بغداد ، الذين كانوا يثيرون الخوف الدائم لدى الباب العالي بسبب ما كانوا
يعتقدون به من قوة واستقلال منذ عهد احمد المفهوم ايضاً لماذا عزل ابن سليمان
الكبير لسبب تافه كالذي ذكرناه اعلاه. وقد رفض سعيد
__________________
باشا بالطبع الخضوع
لامر الباب العالي ورفض مغادرة بغداد ولكنه وقد اصبح في معارضة الحكومة صراحة لم
يحسب الحساب لحقيقة مهمة هي ان خلافه مع المماليك جرده من اكثر القوى فعالية في
اسناده داخل المدينة. يضاف إلى ذلك ان استبدال ممثلي نابليون ومنهم القنصل الفرنسي
العام في بغداد ريموند بعد سقوط نابليون وعودة الملكية جرد سعيد باشا من هذا السند
الفعال لعائلة سليمان الكبير التي كانت تعتبر مخلصة لفرنسا.
في هذه الاثناء لم يكن الحزب المعادي
لسعيد باشا يقضي وقته بالاحلام بل وجد من يحل محلّه وهو شخص اسمه داود وكان زوجاً
لشقيقة الوالي .
وكان هذا المرشح واحداً من العبيد الجورجيين في خدمة سليمان الكبير نال قسطاً
كبيراً من التعليم بالنسبة لظروف ذلك الوقت الامر الذي مكنه من ان يصبح «ملا» فكان
يجلس عند حائط مرقد عبد القادر متظاهراً بالتقوى .
وهكذا امن لنفسه حياة هادئة وجمع رأس مالٍ لا يستهان به. وبعد ان تأكدت اشاعة نقل
صهره إلى حلب رشح نفسه امام اسطنبول والياً لبغداد بالحاح واسناد من الحزب المعارض
لسعيد باشا. وقد وافق الباب العالي على ذلك على الرغم من علاقة داود باشا بعائلة
سليمان الكبير ومنحه في السنة نفسها أي في ١٨١٧ لقب باش من مرتبة الاطواغ الثلاثة
ولكنه اشترط عليه التخلص من سعيد باشا الذي لا يريد مغادرة بغداد. وبعد ان اعلم
سعيد باشا باخبار تعيين داود تحصن في قلعة المدينة على امل ان يصمد إلى ان يأتي
المنتفقيون المخلصون له لانه لم يكن يمتلك القوات التي تمكنه من مجابهة خصمه بشكل
مكشوف. ولكن داود
__________________
باشا عجل بالاغارة
على القلعة فاستولى عليها وارسل إلى اسطنبول راس سعيد باشا ومعه الهدايا المعتادة
إلى الوجهاء هناك بمناسبة تعيينه .
لقد ظل حكم العراق في اسرة سليمان
الكبير على الرغم من انه انتقل إلى داود باشا ذلك ان اهالي بغداد كانوا يعدون
الوالي الجديد - على الرغم من تصرفه الخارج على القيم العائلية تجاه سعيد باشا - ،
استمراراً للعائلة المذكورة ، لكونه صهراً لسليمان الكبير. لقد اظهر داود باشا
نفسه في اول مرة خاضعاً لاسطنبول ومنفذاً لاوامرها وحاول خلال ذلك ان يعزز وضعه في
بغداد فقد شد القوات اليه بالنفوذ وجذب الاهالي إلى صفه بالنعم والملاينة وامن
لنفسه اسناداً تاماً من جانب رجال الدين الذين كانت تربط بهم - لكونه ملا ـ علاقات
واسعة . واخذت شعبية داود
باشا بفضل الدأب في انتهاج هذه السياسة الحكيمة تزداد من يوم لاخر بل من ساعة
لاخرى ولهذا فانه لم يعد يخشى من ابني سليمان الكبير اللذين ما يزالون على قيد
الحياة واللذين لم يستطيعا ان يفعلا شيئاً لصهرهما الحاذق على الرغم من ثرائهما
ووجود حزب لا يستهان به من انصارهما في بغداد.
كان الوهابيون ـ العدو الاساس لحكام
بغداد ـ قد كسرت شوكتهم عندما تعزز حكم داود باشا نهائياً في بغداد. فقد تخلى
الباب العالي بعد حملة حافظ علي باشا في ١٨٠٥ عن امله في القضاء عليهم ، بواسطة
باشوات بغداد - وقرر بعد ان صادق في ١٨٠٦ بتوسط من فرنسا على تعيين محمد علي باشا
المشهور حاكماً لمصر اختياره للكفاح ضد الوهابيين .
__________________
ولكن محمد علي لم
يجهز ابنه طوسون باشا ويرسله إلى شبه جزيرة العرب الا في ١٨١١ بعد ان رسخت سلطته
في مصر. وقد استطاع طوسون هذا ان يستعيد من الوهابيين اولاً جدة وبعدها مكة
واخيراً المدينة التي احتلها في ١٨١٥. ثم عقدت بين القائد الاعلى للجيش المصري
والامير الوهابي عبد الله بن سعود هدنة لم تستمر طويلاً فقد توغل في الجزيرة
العربية في ١٨١٦ جيش مصري جديد بقيادة ابراهيم باشا الابن الاخر لمحمد علي وقد
مكنت الانتصارات الجديدة التي احرزتها القوات المصرية الامبراطورية العثانية من
التخلص من الخطر الوهابي ، ففي ايلول استلم الامير عبد الله لابراهيم باشا فارسل
إلى اسطنبول حيث تم اعدامه علناً وخربت عاصمته الدرعية تخريباً تاماً .
وهكذا لم يعد اتباع عبد الوهاب يؤلفون خطراً دائماً بالنسبة للسلاطين العثمانيين
بالرغم من ان اسرة ابن سعود لم تلبث ان بعثت واخذت تلعب كما سنرى لاحقاً دوراً
ملحوظاً في الاحداث التاريخية التي لها صلة مباشرة بتاريخ العراق المتأخر.
ان حاكم بغداد الجديد داود باشا ، وقد
تخلص من كابوس الغارت الوهابية الدائم الذي حرم اسلافه الهدوء ، اصبح يستطيع ان
يواجه كل اهتمامه إلى كردستان التي كان الوضع فيها ما يزال يثير القلق
، فحاكم السليمانية محمود باشا صنيعة فارس لم تؤثر فيه حتى اجراءات اللين الترضية فقد
ظل يعترف بسيادة الشاه وارسل ابنه وكان عمره سبعة اعوام رهينة إلى كرمنشاه على
الرغم من ان داود باشا وسع المنطقة تحت حكم اسرة بابان لدرجة لا يستهان بها .
ولهذا غير حاكم بغداد تكتيكه وقرر ان
__________________
يستبدل محمود باشا
باخيه الاصغر وتحرك على راس جيشه إلى كردستان لكي ينصب صنيعته هذا حاكماً على
السليمانية ، غير اننه اضطر إلى ان يعود ادراجه وهو في منتصف الطريق اليها لان
اخباراً وصلته مفادها ان الفرس قد حشدوا في ضواحي السليمانية قوات كبيرة تفوق جيشه
عدداً.
لقد عزا داود باشا فشله هذا إلى تأثير
مقيم شركة الهند الشرقية الانجليزية في بغداد ريتش الذي كان في هذا الوقت بالذات
يحل ضيفاً على صديقه الكبير محمود باشا في كردستان .
وقد اتهم داود باشا ريتش امام البابا العالي بتحريض الاكراد على المتمرد وبادر إلى
الدخول في صراع معه دون ان ينتظر تعليمات من العاصمة بهذا الخصوص.
لقد أنصبّ استياء الباشا على من يتمتع
بالحماية الانجليزية من التجار المحليين فبدأ يضايقهم بكل السبل في عملياتهم
التجارية ، بحجة انهم يتمتعون بامتيازات استثنائية بالمقارنة مع بقية التجار من
الاهالي. وقد اصبح وضع هؤلاء الذين يحميهم الانجليز في البصرة وبغداد لايطاق حتى
ان كثيرا منهم فضلوا التوقف مؤقتاً عن ممارسة أي نشاط تجاري في العراق .
عند ذلك قرر وكيل شركة الهند الشرقية اتخاذ تدابير متطرفة لانهاء هذا الوضع الشاذ
فعمد إلى تعزيز وسائل الدفاع في داره فصد كل هجوم غير متوقع من جانب الباشا ثم امر
بادخال السفن الحربية التابعة للشركة إلى النهر فقطعت هذه السفن أي اتصال بين
البصرة وبغداد .
ورد
__________________
داود باشا على ذلك
بمحاصرة المقيمية ولكنه جابه مقاومة مسلحة فاضطر إلى التراجع السماح لريتش بمغادرة
البلاد مع جميع الموظفين الانجليز العاملين في مؤسسات الشركة في البصرة وبغداد.
وأغلقت مقيمية بغداد مؤقتاً بعد هذه الاحداث التي وقعت في ١٨٢١ ولم ينتقل تالير
الذي خلف ريتش من محل سكنه في البصرة إلى بغداد الا بعد ان التزم داود باشا رسمياً
بالاعتراف للرعايا الانجليز ولمن هو تحت حماية بريطانيا بجميع الحقوق والافضليات
التي يقرها لهم نظام الامتيازات وبعد ان اقر باعادة قيمة جميع ما صودر من بضائع
وجميع ما نهب من اموال تخص موظفي شركة الهند الشرقية .
بعد ابعد داود باشا ريتش الذي اعتبره
المسئول الاول عن الاخفاق الذي اصابه في كردستان بادر إلى ارسال حملة جديدة ضد
محمود باشا غير ان جيشاً فارسياً ـ كردياً مشتركاً تمكن من التغلب على قوات بغداد
التي كانت بقيادة كهية داود باشا .
عندها امر حاكم بغداد - انتقاماً لذلك - باعتقال جميع الفرس الاغنياء والمنتفذين
في بغداد ومصادر املاكهم. وفعل الشيء نفسه في كربلاء والنجف حيث احتمى الفرس
باسوار المسجد لكن هذه جرت مهاجمتها واحتلت واسفر ذلك عن موت الكثيرين. ونقلت جميع
ثروات العتبات المقدسة في المدينتين المذكورتين إلى بغداد حيث جرى تحولهما تحت
اشراف صناع استقدموا من اسطنبول إلى سبائك ثم سكت نقوداً فيما بعد .
__________________
ولم يكن لهذا التحدي الذي مارسه داود
باشا تجاه رعايا الشاه الا ان يؤدي إلى القطيعة مع فارس سيما وان فتح علي شاه نفسه
كان يبحث عن حجة لكي يختبر قواته الجديدة التي دربها على انمط الاوربي في حرب مع
العثمانيين مستغلاً حقيقة ان الانتفاضة القائمة في اليونان والتعقيدات في ولاكيا
وملدافيا كانت تشل يد الدولة العثمانية وتمنعها عن ابداء اي اسناد فعال لباشا بغداد.
وكانت الدعاية الفارسية في شمال العراق تنطلق من كرمنشاه. اما بالنسبة لجنوب
العراق فقد كان مركز الدعاية للنفوذ الفارسي هو مدينة الحويزة وقد استوطن حولها ما
يقرب من ٠٠٠ر٢٠٠ نسمة من بني لام الذين كانوا ما يزالون حتى بدايت القرن الثامن
عشر يمارسون حياة التنقل. وقد تبعهم في ١٨١٢ نفس العدد من المنتفقين ، الذين ظلوا
بالطبع على صلة وثيقة مع اقربائهم في العراق.
لقد أدرك داود باشا تمام الادراك
الاخطار التي سيواجهها في اثناء صراعه المقبل مع الشاه فقد باشر قبيل اعلان الحرب
بحل قضية العرب بما يتصف به من نشاط ، فعمل اولاً على زرع العداوة بين المنتفقين
وذلك باستبدال الشيخ حمود الثامر ، الذي اصبح على درجة كبيرة من القوة باحد انصاره
من اقرباء ذلك الشيخ وهو شخص يدعى عجيل. غير ان انصار الشيخ المقال رفضوا الاعتراف
بعجيل هذا وهبوا للدفاع عن حمود الثامر بقوة السلاح. وقد استغل داود باشا هذه
الحرب التي يقاتل فيها الاخ اخاه فاختطف الشيخ المقال واخاه واعدمهما فقضى ذلك
قضاء تاماً تجاههم السياسة نفسها حيث عزل في ايار ١٨٢١ شيخهم عرار .
وقد اسرع هذا بالذهاب إلى الامير حاكم كرمنشاه الذي عزم على اعادته إلى منصبه
__________________
بمساعدة اللوريين
الفيلية ، لكن الرجل الذي اختاره باشا بغداد وهو شخص ذكي وحاذق اسمه مذكور بن
جنديل استطاع ، قبل ان يجري تنفيذ هذه المحاولة ان يزرع خلافاً كبيراً بين من ظل
من بني لام مخلصاً لمنافسه وتمكن من استمالة الجزء الاغلب من ابناء قبيلته .
وهكذا تمكن داود باشا من اخماد الفتنة التي كانت تستعد لها اقوى قبيلتين في العراق
وهي في مهدها ، الامر الذي قلّص كثيراً من فرص الشاه الفارسي للاستيلاء على العراق
بسهولة.
غير ان ذلك لم يثن فتح علي شاه فبدأ
عملياته العسكرية ضد العثمانيين مستغلاً الخلافات الحدودية التي قامت في ١٨٢١ بين
الامير عباس مرزا حاكم اذربيجان ووالي ارض روم العثماني. فقد بسط الوالي العثماني
حمايته على قبيلتين كرديتين انتقلتا من الاراضي الفارسية وكانتا تعتبران من رعايا
فارس. ومع ان الوالي العثماني استبدل ، الا ان من حل محله كان اكثر عداءً للفرس
منه ، فقد عمد إلى اعتقال المندوب الذي ارسله عباس مرزا للتفاوض. وهنا بادرت حكومة
الشاه إلى قطع الاتصالات مع سلطان ارضروم وتوغل جيش يقوده وريث العرش الفارسي في
الاراضي العثمانية واستولى على قلعتين تويراك قلعة وآق سراي
وتحطمت القوات العثمانية التي ارسلتها لمجابهة الفرس وباشر عباس مرزا باحتلال
المناطق الحدودية العثمانية : آب شهر وديادين وبيتليس وموش وغيرها ، الواحدة بعد
الاخرى.
طلب الباب العالي من داود باشا ان يسند
جيش ارضروم وذلك
__________________
بالدخول بجيشه إلى
اراضي اقليم كرمنشاه ، لكن جيش الحاكم المحلي محمد علي مرزا احرز على قوات داود
باشا نصراً حاسماً وتعقبها حتى بلدة بني سعد التي تقع على مسيرة يوم واحد من بغداد
. وفي هذا الموقع
توقف الجيش الفارسي لكي يستعد لاقتحام بغداد ورفض محمد علي ميرزا جميع طلبات داود
باشا على المدينة لانه لم يشأ التفريط بهذه الفرصة التي سنحت لالحاق العراق
بعتباته المقدسة بفارس مرة اخرى. ومع ذلك فقد كانت للقدر كلمة اخرى ففي حمأة
الاستعدادات مرض القائد الاعلى للجيش الفارسي والابن الاكبر لفتح علي شاه
بالكوليرا التي انتشرت انذاك في العراق ولهذا فقد صدر امر بانسحاب الجيش إلى
كرمنشاه فوراً اما الامير المحتضر فقد حمل إلى كرمنشاه من اقصر الطرق وهناك توفي
وخلفه في منصب حاكم كرمنشاه ابنه الامير محمد حسن الذي بادر على الفور باستئناف
العمليات العسكرية ضد العثمانيين وتمكن من الانتصار على جيش داود باشا مجدداً
بالقرب من الحدود الفارسية .
وفي هذه الاثناء استؤنفت العمليات
العسكرية في الجبهة الشمالية بعد ان توقعت خلال فصل الشتاء ، فحاصر العثمانيون في
ربيع ١٩٢٢ قلعة توبراك قلعة غير ان عباس ميرزا الذي لم يكن تحت قيادته اكراد فارس
فقط بل واكراد الدولة العثمانية ايضاً عجل بنجدة المحاصرين والحق بالعثمانيين
هزيمة كبيرة اخرى ، كذلك تغلب الفرس عند حدود اذربيجان
__________________
على الجيش العثماني
الاخر الذي كان يتقدم باتجاه تبريز .
وقد هددت هذه الانتصارات الدولة العثمانية لا بفقدان العراق فحسب بل وبفقدان جزء كبير
من اقاليمها الكردية والارمينية ايضاً لو لا الكوليرا التي كانت قد انقذت بغداد من
الخضوع للامير محمد علي مرزا فقد هبت هذه المرة ايضاً لنجدة العثمانيين فادت إلأى
فناء اعداد كبيرة من افراد المعسكر الفارسي حتى ان قوات عباس مرزا تفرقت مذعورة
خوفاً من هذا الضيف الذي لم يدعه احد.
وعند ذلك اقترح وريث العرش الفارسي علي
والي ارضروم الدخول معه في مفاوضات لعقد الصلح. وقد بدأت المفاوضات بالفعل في
السنة نفسها أي في ١٩٢٢ بعد ان غادرت بقايا الجيش الفارسي الاراضي العثمانية وعادت
إلى فارس. وتم ابرام معاهدة الصلح الرسمي المعروف بأسم معاهدة ارضروم نهائياً في
١٨٢٣ وقد تقرر بموجبها ان تحتفظ كل من الدولتين بممتلكاتها السابقة ، كما التزم
الجانبان بعد التدخل في المستقبل في الشؤون الداخلية لبعضها وتعهدت كل من الدولتين
بان تمنع رعاياها الاكراد من الانتقال إلى اراضي الدولة اخرى ، واقرتا اعتبار
القبائل الكردية التي تعبر الحدود من احدى الدولتين إلى الاخرى من رعايا تلك
الدولة التي انتقلت هذه القبائل إلى اراضيها ، وهكذا لم تجن فارس على الرغم من
انتصارها المشهود اية فائدة من هذه الحرب.
اعطى حلول السلام على الحدود العثمانية
- الفارسية الفرصة لداود باشا لان يهتم بالشؤون الدالخية لولاية بغداد فركز جل
اهتمامه على محاولة رفع ايرادات الولاية لكي يتمكن من توفير النقود لزيادة وتحسين
__________________
قوته العسكرية. وهكذا
احتكر داود باشا ، على ما يذكر نائب القنصل الفرنسي في البصرة فونتانية .
تجارة الحبوب والملح والتمر أي منتجات العراق الرئيسة وواستخدم لنقل هذه البضائع
سفناً بحرية ونهرية خاصة به. وقد جرب الباشا في ركضه وراء زيادة ايراداته ان يزرع
القطن وقصب السكر متشبهاً في ذلك بمصر ولكن التجارب لم تبرر النتائج المرجوة نتيجة
لقلة في اجرائها. وبالاضافة إلى المدخولات الكبيرة الواردة من الضرائب الكمركية
التي ازدادت كثيراً نتيجة للتطور التجاري بفضل اجراءات داود باشا التشجيعية كانت
ترد إلى الخزينة مبالغ ضخمة تأتي من الضريبة المفروضة على الزوار الذين يمرون
ببغداد بعشرات الالوف سنوياً في طريقهم إلى العتبات المقدسة في العراق. ولهذا فليس
من المستغرب ان يصل دخل ولاية بغداد في فترة حكم داود باشا النشط والكثير الحركة
سبعة وثلاثين مليون قرش أي ما يعادل اكثر من مليون روبل .
وهكذا اصبح بامكان داود باشا وقد امتلك
هذا القدر من الاموال ان يبدأ باجراء اصلاحات جذرية لتعزيز القدرة العسكرية
لباشوية بغداد. وكان سليمان الكبير وخلفه المباشر حافظ علي باشا قد اسسا فصيلاً
غير كبير تعداده ٥٠٠ شخص من القوات المنضبطة المدربة على النمط الاوربي مع مستودع
للذخيرة .
وبعد ان تولى داود باشا حكم العراق مباشرة وسع هذا الفصيل بعض الشيء فقدم له خدمات
جليلة في اثناء الحملة الفارسية التي
__________________
برهنت مع ذلك على ان
زيادة هذه القوات وتوسيعها ضرورة لا تقبل التأجيل. وقد زادت النجاحات التي حققها
جيش حاكم مصر محمد على المدرب على النمط الاوربي في الصراع مع الوهابيين من رغبة
باشا بغداد في توسيع الاصلاح العسكري الذي يريده جهد الامكان. وقد حظي الباشا في
هذا المجال باسناد حيوي من جانب المقيم الجديد لشركة الهند الشرقية العقيد تالير
الذي كان قد انتقل إلى بغداد وحاول ان يعقد صداقة مع داود باشا عارضاً خدماته
كمدرب فاسس فصيلاً تعداده الف شخص يماثلون السيبوي الانجليزي في تدريبهم ولباسهم .
لقد عمل داود باشا على زيادة عدد افراد قوته المدربين على النمط الاوربي لدرجة
ملحوظة ولم ينس في الوقت نفسه ان يحسن المدفعية في جيشه وقد استجلب إلى بغداد لهذا
الغرض الصناع الاوربيين وجعلهم يعملون تحت اشراف المدفعي التركي اسطة علي الذي كان
قد عاد لتوه من الاسر في روسيا. وقد رفع هؤلاء الصناع من الكفاءة مدفعية الباشا
وانشأوا في بغداد ترسانة تتوفر فيها كل وسائل التكنيك الحديث في ذلك الوقت.
والخلاصة ان داود باشا استطاع خلال بضع سنوات ان ينشئ قواة تتألف من بضعة الاف من
القوات المدربة على النمط الاوربي بالاضافة إلى فيلق من المشاة والخيالة غير
النظاميين تعداده خمسة وعشرون الفاً ، كان الباشا يتسطيع ان يضيف اليهم في وقت
الحاجة ضعف هذا العدد من الفرسان العرب من القبائل العربية الحليفة له .
لقد كان باستطاعة داود باشا بمثل هذه القوة ان يجابه
__________________
أي جيش يفكر الباب
بتوجيهه إلى العراق وقد وعى الباشا قوته هذه واخذ يفكر بالانفصال التام عن
العثمانية.
لقد عزز الوضع الحرج الذي كانت الدولة
العثمانية تعاني منه في ذلك الوقت النوايا الطموحة لحاكم العراق. فقد استغل
السلطان محمود الثاني الذي لم يتمكن من اخماد الثورة اليونانية اتساع الاستيلاء من
الانكشارية الذين برهنوا على عدم اهليتهم العسكرية مجدداً في اثناء مجابهة الثوار
اليونانيين فوجه اليهم ضربة قاضية. ففي حزيران ١٨٢٦ حصلت بين الانكشارية - على
غرار ما حدث في عام - حركة قوية ضد الفرمان الذي اعلنه السلطان بانشاء قوات جديدة
فامر محمود الثاني برفع راية الرسول (صلى الله عليه وأله) ودعا الناس إلى التكتل
تحتها معلناً الجهاد ووزع السلاح على سكان العاصمة ، واتجه الشعب المسلح نحو ساحة
ات ميدان الذي كانت تقع فيه ثكنة الانكشارية فطوقها وانتهى الامر بان قضت المدفعية
على المتمردين الذين رفضوا القاء السلاح طوعاً .
اما في الاقاليم فقد تطلب القضاء على الجيش الانكشاري جهداً اقل ما خلا بعض
الاستثناءات. وقد ظلت الدولة العثمانية دون قوات بعد ان تخلصت من هؤلاء الجنود
المشاغبين الذين كانوا مصدراً للاضطراب الدائم والتدهور الداخلي ذلك لان الجيش
الذي نظم على الطريقة الاوربية كان ما يزال في طريق النشوء يتطلب الوصول به إلى
العدد المطلوب والى المستوى القتالي اللائق وقتاً غير قليل. ولكي يكمل الحظ السيء
دمر الاسطول البحري الذي كان السلطان يعلق عليه اماله كلها في خليج نافارين في
تشرين الاول ١٨٢٧ على يد اسطول انجليزي - روسي- فرنسي
__________________
مشترك ، وبدأت في هذا
الوقت الحرج بالنسبة للدولة العثمانية الحرب مع روسيا. وقد انتهت هذه الحرب
بمعاهدة صلح ادريانوبل في ١٨٢٩. وقد التزمت الدولة العثمانية التي خسرت الحرب
بموجبها بان تدفع لروسيا غرامة حربية بلغت عدة ملايين من الدوكات الهندية .
ولما كانت خزينة الدولة فارغة فقد قرر السلطان الذي كان بحاجة ماسة إلى المال
التوجه إلى حكام الاقاليم طلباً للمساعدة وكان حاكم العراق من ضمن من توجه اليهم
حيث طلب منه دفع ما هو مفروض عليه باعتباره حاكماً للعراق ، من استحقاقات متأخرة.
وقد عد داود باشا الذي استطاع ان ينشئ
كما راينا قوة عسكرية كبيرة والذي كانت تحت تصرفه خزنة عامرة ، ان الوقت قد حان
لكي يعلن للسلطان استقلاله. وهكذا استجاب لطلب السلطان الاول فارسل له مبلغاً
صغيراً من المال ولكنه رفض بشكل قاطع جميع المطاليب الاخرى. وعندما نفد صبر
السلطان فارسل في ١٨٣٠ مبعوثاً خاصاً إلى العراقلجمع المبالغ المتأخرة ، امر داود
باشا بقتل مبعوث السلطان هذا على الفور بمجرد وصوله إلى بغداد .
ومنذ ذلك الوقت لم يعد داود باشا يخفي نواياه بالانفصال عن الدولة العثمانية فدخل
في مجابهة صريحة مع الباب العالي الذي قرر من جانبه التخلص من هذا الوالي الخطر
مهما كلف الامر. وقد زاد القلق الذي اثاره في اسطنبول سلوك التمرد الذي انتجه داود
باشا نتيجة الاخبار التي فصحها هناط ضابط المدفعية اسطة علي الذي كان قد وصل إلى
العاصمة العثمانية في هذا الوقت بالذات. وكان هذا بعد ان اتم انشاء
__________________
الترسانة في بغداد قد
عين في منصب قبو دان البصرة ولكنه لم ينسجم مع متسلمها وهو شقيق داود باشا فهرب
إلى فارس وبعد مصاعب مختلفة ومعاناة كثيرة وصل إلى مكة ثم غادرها خفية إلى اسطنبول
فوصلها في ١٨٣٠ واطلع الباب العالي على ما يضمره داود باشا من نية في ان يصبح
حاكماً للعراق وكل ما بين النهرين مستقلاً عن الدولة العثمانية على غرار محمد علي
حاكم مصر .
كان ذلك سبباً دفع الباب العالي إلى منح
حكم بغداد لوالي حلب علي رضا باشا الذي كان يتطلع إلى هذا المنصب منذ وقت طويل
مخولاً اياه في الوقت نفسه الحرية التامة في العمل على عزل داود باشا. وكان هذا
يعي تماماً عدم قدرته لوحده على التخلص من حاكم العراق القوي ، ولهذا فانه لم
يتقدم إلى ابعد من الوصول وظل في هذه المدينة لكي يحصل على اسناد واليها ومن اجل
ان يجذب إلى صفه الشيخ صفوك شيخ قبيلة شمر جربة القوية التي كانت تنتقل في المنطقة
الواقعة إلى الشمال من بغداد .
وبعد ان سمع داود باشا باقتراب الوالي الذي سيحل محله قرر ان ينتظره في بغداد
ولهذا فانه لم يفعل شيئاً عدا ارساله لجيش تعداده ثلاثون الف مقاتل إلى الشمال من
العاصمة لكي يمنع شمر من الانضمام إلى جيش علي رضا باشا .
كما انه استعد بعناية لمجابهة العدو بحزم مكتلاً حوله كثيراً من العراقيين ولا
سيما المنتفقين بحيث ان النصر اصبح مضموناً له تماماً. غير ان سوء حظه قضى بان
يحصل في العراق وفي آن واحد عدد
__________________
من الكوارث الطبيعية
مما جعل من المستحيل ابداً اية مقاومة. فالطاعون الذي تفشى في فارس اتجه نحو بغداد
تدريجياً فظهرت اولى حالاته في الحي الاوربي من المدينة في تشرين الثاني ١٨٣٠. وقد
اخفى الناس. كما هي العادة في الشرق ، ظهور المرض في أول الامر ولم يتخذوا ضده اية
تدابير إلى ان تفشى هذا «الموت الاسود» بدرجة أصبح من الصعب معها نجاح أي مكافحة
له وحتى داود باشا نفسه أرتاب بالحاح مقيم شركة الهند الشرقية في بغداد الذي دأب
ومنذ اقتراب المرض من بغداد على أقناع الباشا باقامة الحجر الصحي واتخاذ تدابير
واقعية اخرى لمنع انتقال المرض إلى المدينة .
وهكذا انتشر الوباء ابتداءاً من شهر اذار ١٨٣١ في كل مكان وكان يؤدي إلى وفاة ما
بين ١٠٠٠ و ١٨٠٠ شخص في اليوم بحيث لم يبق في المدينة قماش يكفي للاكفان كما لم
يعد يوجد فيها من يقوم بدفن الموتى الذين تناثرت جثثهم المتعفنة في الشوارع تأكلها
الكلاب الجائعة. وفي الوقت الذي اخذ قسم من سكان المدينة المسلمين يترك المدينة
على عجل فينقلون العدوى معهم إلى العراق باجمعه ظل القسم الاخر من السكان ينتظر
الموت في استسلام وديع للقدر. اما المسيحيون من السكان فقد اغلقوا البيوت على
انفسهم وحاولوا تجنب الاتصال بالعالم الخارجي قدر الامكان فكانوا يطهرون الاشياء
التي يتسلمونها من الخارج عن طريق تدخينها أو بوسائل اخرى. ولم تحقق هذه الاجراءات
الوقائية الهدف منها إلاً جزئياً لان القطط والفئران والجرذان كانت تنقل العدوى من
بيت إلى اخر بحيث لم تلبث الوفيات في الحي المسيحي ان بلغت حد لا يقل عن بقية
انحاء المدينة ، حتى ان المرض ظهر
__________________
في محل المقيم نفسه
فبادر إلى السفر إلى البصرة واخذ معه في يخته الجزء الاغلب من الاوربيين .
وهكذا لم تلبث بغداد ان تحولت إلى واحدة
من البؤر الملتهبة لهذا الموت الاسود الذي كان سيقضي - على كل ما هو حي في
المدينة. فقد تضاعفت نسبة الوفايات ابتداءً من بداية نيسان حتى ان الموت لم يوفر
قصر داود باشا الباذخ نفسه حيث ذهب المرض بالقوة العسكرية الرهيبة التي كان الباشا
يستند عليها بحيث لم يبق من الحرس الجورجيين الذين كان عددهم الف شخص على قيد
الحياة الا اربعة فقط كما لم يبق من الخيالة المحلية الذين دربهم العقيد تالير على
نمط السيبوي وكان عددهم الفاً ايضاً الا واحد فقط .
اما خدم القصر الذين لم يكن يحصيهم عدد فلم يبق منهم الا سائس واحد. وعندما صمم
داود باشا على مغادرة القصر لم يجد من يقوم له بالتجذيف حتى يعبر دجلة فاضطر إلى
البقاء في قصره الخاوي ، رغم ارادته .. ولم يلبث الطاعون ان اصاب داود باشا نفسه
وعندما استدعى الطبيب العسكري الايطالي انطوني الذي كان يخدم في الدولة العثمانية
لعياده وجده ، وهو الذي كان بالامس حاكم العراق القوي ، مرمياً يواجه مصيره وحيداً
في مستودع مظلم وقد اضطجع يصارع المرض على الواح خشبية عارية .
ولكي تتم المأساة فاض نهر دجلة في نهاية
نيسان وحطم السداد وتسربت المياه إلى المدينة فغطت الاجزاء الواطئة منها وجرفت
الابنية
__________________
الطينية وادت إلى
انهيارها فانطمر تحت انقاضها من ابقى عليهم المرض من السكان. وفي بداية ايار
انحسرت المياه ولم يلبث ان توقف المرض هو الاخر. ولكن مع حلول الحر ادت ابخرة
البرك المائية التي خلفها الفيضان ونتانة الجثث الاخذة في التفسخ في خندق المدينة
إلى ظهور حمى خبيثة قاتلة كالطاعون الذي ولى .
وبالاضافة إلى ذلك كله حلت في المدينة ، نتيجة لعدم وجود المواد الغذائية مجاعة
ذهب ضحيتها عدد من السكان في الوقت الذي كانت فيه عصابات للنهب تجوب المدينة
الخاوية فتدخل البيوت وتنهب الممتلكات التي ظلت دون صاحب وتجهز على المرضى الذين تصادفهم
في طريقها.
لقد ظل علي رضا باشا مع جيشه ساكناً
ينتظر باطمئنان نهاية هذه الكوارث التي اناخت على بغداد ولم يتحرك من حدود
الباشوية الشمالية الا بعد ان انتهى الطاعون تماماً من المدينة سيئة الحظ. بعد ذلك
فقط حاصرت قوات علي رضا باشا وقاسم باشا حاكم الموصل وصفوك شيخ شمر المدينة وبدأت
تدك اسوارها بالمدفعية .
والواقع ان جنود داود باشا الذين ظلوا على قيد الحياة دافعوا عن المدينة بشجاعة
لبعض الوقت ، إلى ان ادت الخيانة إلى مساعدة المهاجمين وفتحت لهم ابواب المدينة
وقد تمكن داود باشا من المحافظة على حياته بفضل تنازله عن جميع كنوزه وبسبب وساطة
بريطانيا فنقل مصفداً بالاغلال إلى اسطنبول وظل هناك إلى ان عفا عنه السلطان فيما
بعد ومات في عام ١٨٥٠ في اثناء تأديتة فريضة
__________________
الحج إلى مكة ودفن في
تلك المدينة .
وهكذا كان الطاعون هو وحده الذي اعاق تحقيق طموحات هذا الحاكم العراقي القوي ، الذي
اسس لنفسه جيشاً مدرباً على النمط الاوربي وجمع خزينة عامرة وكان يحلم بان ينفصل
عن الدولة العثمانية ويصبح حاكماً مستقلاً للمنطقة الشرقية من المبراطورية
العثمانية على غرار معاصره الشهير محمد علي حاكم مصر. لقد انتهى في شخص داود باشا
اخر ممثل لسلالة سليمان الكبير أو ما يسمى بسلالة العبيد الجورجيين (المماليك) الذين
حكموا العراق طيلة نصف قرن ، باستثناء فترة قصيرة.
__________________
الفصل
التاسع
يؤشر حكم علي رضا باشا بداية المرحلة
الثالثة من تاريخ العراق ، وهي المرحلة التي تتميز بتوطيد علاقات هذه المنطقة مع
بقية الدولة العثمانية وبسعي ولاتها إلى ادخال منجزات الحضارة الاوربية اليها.
وكان هؤلاء الولاة مجرد موظفين لدى الباب العالي يعينون من اسطنبول مباشرة. وقد
شملت التغيرات التي جرت في وضع العراق ، اقليم البصرة بالطبع ولكنها لم تؤدِّ إلى
منحه استقلالاً ادارياً حتى الربع الاخير من القرن التاسع عشر خاضعاً خضوعاً تاماً
لباشا بغداد. ولهذا السبب يتحتم علينا ان نواصل سرد تاريخ البصرة بالارتباط الوثيق
مع سير الاحداث التاريخية في بغداد.
كانت باشوية بغداد التي وصلت إلى حاكم
العراق الجديد علي رضا باشا - بعد ان تعرضت للعديد من الكوارث الطبيعية - قد تحولت
إلى منطقة شبه جرداء خالية من السكان. لقد اصبحت هذه المنطقة المزدهرة التي لم تكن
تقل في غناها الا عن نفسه بالمطالبة بها عندما كان مايزال والياً لحلب. يكفي ان
نذكر بان بغداد ، المدينة الرئيسة في الباشوية ، لم يبق بها من المئة والخمسين
الفاً من السكان ، على ما يذكره شاهد عيان عاش فيها في فترة الطاعون ، اكثر من
عشرين الفاً وان ثلثي المدينة كان عبارة اطلال من الخرائب .
لقد اختفت كثير من فروع الصناعة المحلية نهائياً
__________________
بسبب وفاة جميع
الاسطوات فلم بعد هناك من يمكنه ان ينقل معارفه للجيل الجديد .
ولم يكن وضع البصرة بافضل من ذلك فقد امر متسلمها في ذروة الطاعون باغلاق ابواب
المدينة منعاً للسكان من الهرب فادى ذلك إلى ان تكون نسبة الوفيات في المدينة اعلى
منها في بغداد ، ولذا فلم يبق في البصرة بعد الطاعون من سكانها البالغ عددهم
ثمانين الفاً الا عدد يتراوح ما بين خمسة إلى ستة آلاف نسمة .
لقد كان الخراب الذي سببه الوباء هنا كبيراً إلى درجة ام المفوض الروسي العقيد
تشري كوف - الوسيط في تخطيط الحدود العثمانية - الفارسية ، الذي زار البصرة في
١٨٤٩ أي بعد ثمانية عشر عاماً من انتهاء الوباء - وجد ان كل اربعة من خمسة دور في
المدينة مهجوراً وان اغلبية الدكاكين في السوق الجديد الذي بناه داود باشا - الذي
كان قد غادر مسرح الاحداث قبل قليل - كانت خالية أو ليس لها اصحاب .
ولم تكن الاحوال بافضل من ذلك بل ربما كانت اسوأ في انحاء العراق الاخرى ، فقد
اقفر الجزء الاغلب من القرى والمستوطنات واصبحت معدومة السكان. لقد كان الحال كذلك
في الحلة مثلاً حيث لم يبق كم سكانها العشرة ألاف على قيد الحياة الا بضعة اشخاص
فقط. ولهذا فليس هناك مايدهش مع وجود مثل هذا النقص الهائل في السكان ، في ان تبور
الحقول وتهمل البساتين. اما بساتين النخيل فكانت تذوب نتيجة لانعدام العناية فتزيد
بذلك من الخراب الاقتصادي الذي هو كبير اصلاً في هذه المنطقة.
__________________
ومما زاد من الصعوبة الوضع الذي كان
والي العراق علي رضا باشا يعاني منه القبائل المحلية التي لم تعد تمسك بها يد داود
باشا القوية وجيشه النظامي تحركت مجدداً واخذت تستعد كعادتها لتصفية الحساب مع
حاكم بغداد الجديد ، وكان علي رضا باشا لسوء حظه قد اثار ضده عندما كان يتقدم
باتجاه بغداد ، المنتفقيين وذلك بتحالفه مع اعداهم الالداء شمر جربة. ولهذا فقد
تحتم على الباشا ان يهتم قبل كل شيء بالمنتفقين وشيخهم عجيل الذي نصبه داود باشا
وهدفه ان يتلافى جهد الامكان مظاهر العداء الصريح من جانبهم. وقد لجأ في ذلك إلى
استخدام نفس التكتيك الذي اعتمده حيث بادر إلى استغلال هروب الاخ الاكبر لعجيل
وكان داود باشا يحتفظ به شبه سجين في بغداد ، ولجوئه والطاعون في ذروته إلى معسكر
علي رضا باشا فساعده على ان يكوّن لنفسه بين المنتفقين حزباً قوياً يستطيع به ان
ينازع اخاه السلطة بقوة السلاح. وهكذا وقعت المعركة الحاسمة بين انصار الاخوين
بالقرب من اطلال واسط على شط الحي وكان النصر فيها قد مال في البداية نحو عجيل
ولكنه لم يلبث ان تحول إلى اخيه بسبب اصابة الفرس التي كان يركبها عجيل بجرح ادى
إلى سقوطها فعجل فرسان الاعداء بطعنه برماحهم .
وقد افضى موت عجيل إلى نشوب نزاعات داخلية جديدة بين المنتفقيين فادى ذلك إلى
انشغالها بنزاعاتهم وخلافاتهم الداخلية هذه عن القيام بنشاط معادٍ للباشا وعن
المشاركة في الاضطرابات العامة التي شملت العراق.
كان المسؤول عن هذه الاضطرابات قبيلة
شمر جربة وشيخهم صفوك ، فقد اخذوا يطالبون علي رضا باشا بالمكافآت والامتيازات
__________________
المختلفة التي وعدهم
بها مقابل مساعدتهم له في الاستيلاء على بغداد ، ولكن الباشا استكثر مطاليبهم
فرفضها ، الامر الذي حدا بصفوك إلى ان يضرب حصاره على بغداد طيلة ثلاثة اشهر كاملة
إلى ان حل الشتاء فاجبر الشمريين على الابتعاد إلى الصحراء. ولما كان علي رضا باشا
لا يملك من القوات ما يكفي للقضاء على صفوك الذي كان سيعود بعد انتهاء البرد مع
انصاره لمواصلة عملياته الحربية ضد بغداد فقد قرر مجابهته بالعرب انفسهم .
وفي بحثه عن الحلفاء توجه إلى قبيلة عنزة القوية التي كانت شمر على عداء معها ، لان
عنزة التي خرجت من نجد بعد شمر دخلت معهم في صراع عنيف للسيطرة على الصحراء
السورية وتمكنت من ابعادها إلى ما بين النهرين وشمال العراق .
بعد ان ضمن علي رضا باشا مساعدة عنزة
بزرع الشقاق بين افراد شمر جربة انفسهم
فعمد إلى منح «شلاش» اخي صفوك رتبة باشا وعينه شيخاً لشمر جربة بدلاً من أخيه.
وبعد ان علم صفوك بوصول فصيل من عنزة يتألف من ٣٥ ألف مقاتل لمساعدة علي رضا
وازدادت مخاوفة من اشتداد المنازعات في داخل قبيلته نتيجة لتعيين شلاش ، تخلى عن
نيته بالاستيلاء على بغداد واسرع بالانسحاب إلى الشمال. اما حاكم بغداد الذي لم
يعد بحاجة إلى مساعدة عنزة فقد قرر ان ينتهز اول حجة ملائمة لابعاد
__________________
هولاء البدو الخطرين
على أمن البلاد. غير ان هؤلاء لم يكونوا ميالين للعودة خالي الوفاض فحاولوا في
السنة نفسها أي في ١٨٣٤ نهب بغداد لكن الباشا تمكن من صد المهاجمين ثم استدعى شلاش
لمساعدته فبادر هذا بالقدوم مع مقاتليه على الفور واشتبك مع عنزة عند اسوار بغداد
لكن النصر كان حليف عنزة فمات شلاش في ارض المعركة وقضي على فصيله. وبعد ان سمع
صفوك باندحار جزء من قبيلته على يد اعدائهم الالداء لم يصبر على العار وهب ضد عنزة
على الفور. وقد احرز صفوك النصر في الصدام الجديد ولكن بصعوبة كبيرة ، فقد انجدته
في اللحظة الحرجة قبيلة زبيد المتحالفة معه واستطاعت بفضل قواتها الجديدة ان تتغلب
على عنزة وتبعدهم الي الصحراء. وقد اشتهر بعد هذا النصر اسم «صفوك» في العراق
باجمعه واصبح له عدد كبير من الحلفاء بين القبائل العربية المحلية بحيث تحول
الشمريون الذين كانوا حتى هذا الوقت مغمورين إلى قوة رهيبة تحتم على باشا بغداد ان
يحسب لها الحساب.
وهكذا واجهت هذا الاخير مهمة جديدة
وصعبة هي كسر شوكة شمر التي تكونت ، لحدٍ ما ، نتيجة لجهوده هو ان كان ذلك قد جرى
رغم ارادته. ولم يكن علي رضا باشا يستطيع التخلص من هذا الخصم الا بالاستناد على
المنتفقيين الذين يساوون شمر بالقوة ، ولهذا فقد استغل كل الوسائل المتوفرة لكي
يحل بين المنتفقيين السلم الضروري جداً له. وقد تمكن من مصالحتهم بفضل موافقة
الفرقاء المتنازعين كلهم على ترشيح الشيخ عيسى الذي كان يتصف بالنزعة الحربية
وبالمهارة والنشاط وكان يتميز بصفات مهمة جداً في نظر العرب ونعني حُسن الضيافة
والكرم إلى درجة الاسراف الذي فاق عنده كل حد ، حتى انه كان يطبخ يومياً لاطعام
من يأكل في خيمته من
ابناء القبيلة ، على ما يذكر اينزورث .
الذي زار الشيخ عيسى شخصياً ، ما لايقل عن ٣٠ ـ ٤٠ خروفاً محمراً إلى جانب اكوام
من الرز المسلوق تقدم في جفنات بالغة السعة. ولهذا فقد كان من الطبيعي ان يحرز هذا
الشيخ المضياف حباً وتعاطفاً شاملين ويوحد حول شخصه المنتفقيين الذين كان بعضهم
يعادي البعض الاخر قبل ذلك. ولم يتردد الشيخ عيسى بعد ان تعزز وضعه بين المنتفقيين
في محاربة شمر واستطاع في المعركة التي حصلت بين الطرفين ان يطعن بيده احد شيوخهم
وهو بني فقطع رأسه وارسله غنيمة إلى باشا بغداد .
ولم يسكت الشمريون من جانبهم على الثار فقتلوا في اول صدام جديد الشيخ «عقيل» اخا
عيسى ، الامر الذي ادى إلى عمليات ثأر دموي لا تنتهي بين شمر والمنتفقيين وتفاقمت
العداوة التي كانت قائمة بينهما منذ زمن طويل فلم يعد علي رضا باشا يخشى قيام عرب
العراق بانتفاضة شاملة واصبح بامكانه ان يهتم وهو مطمئن بالشؤون الاخرى للمنطقة
التي يحكمها.
في هذا الوقت بالذات اصبح الوضع في
كردستان التي تتاخم باشوية بغداد من الشمال ينذر بالخطر بالنسبة إلى الدولة
العثمانية ونضجت هناك احداث ذات اهمية سياسية من الطراز الاول. ويحتم علينا توضيح
اسباب الحركة الجديدة في كردستان ان نتعرض للحديث بشكل مختصر عن الوضع الاستثنائي
الذي استطاع ان يكوّنه لنفسه والي مصر محمد علي. فقد استطاع ابنه ابراهيم باشا
الذي انتصر على الوهابيين ان يستولي على سوريا في ١٨٣٢ وان يحطم في ثلاث معارك
متعاقبة القوات العثمانية التي ارسلها
__________________
السلطان محمود الثاني
ضده فلم يبق والحالة هذه امام محمد علي عقبات تعيقه عن الزحف نحو اسطنبول. ولعله
ما كان ليتردد اما تعيير مصير الدولة العثمانية تغييراً تاماً لولا تدخل فرنسا
وبريطانية وروسيا التي اقنعت السلطان بالموافقة على ان يتنازل لتابعه عن سوريا
ومعها ولاية أطنة .
وهكذا اصبح والي مصر مالكاً للجزء الامامي من الطريق التاريخي المؤدي إلى الهند
عبر وادي الفرات الامر الذي يمكنه ، لو استولى على العراق ، من الاستحواذ على جميع
فوائد التبادل التجاري بين الهند واوربا عبر سوريا والخليج الفارسي ، علماً بان
محمد علي لم يخف تطلعه إلى هذه المنطقة وكان يعبر في كل مناسبة تسنح عن اسفه لانه
لم يستولِ على باشوية بغداد ايضاً .
ولهذا فقد تحتم على السلطان العثماني ان
يفكر جدياً بحماية هذه المنطقة الواسعة من تطاولات تابعة المصري سيما ان المثل
الذي ضربه هذا الاخير وتحريض مبعوثية اثار لدى البيكات الاكراد آمالاً مُبالغ بها
بالانفصال التام عن الدولة العثمانية. وقد اظهر الاكراد فعلاً بقيادة زعمائهم
الاساسيين محمد بيك الراوندورزي ووَعْدِيْ خان بيك وسعيد بيك واسماعيل بيك
، رغبة تامة بالاستقلال ، بحيث تحتم على الحكومة العثمانية ان ترسل في صيف ١٨٣٣
حملة تأديبية قوية بقيادة والي سيواس النشطِ رشيد باشا إلى كردستان لاخماد تلك
الحركة. وبعد ان تمكن رشيد
__________________
باشا هذا من تشتيت
فصائل الاكراد المتقدمة طلب منه السلطان ان يتوغل في قلب كردستان بنفسه ليعيد
الهدوء إلى هناك وارسل لمساعدته على تحقيق هذه المهمة كلا من علي رضا والي بغداد
ومحمد باشا حاكم الموصل .
وهكذا قام جيش عثماني تعداده اربعون الف مقاتل يقوده رشيد باشا المذكور بالتوغل في
صيف ١٨٣٤ في بلاد الاكراد الجبلية من ثلاث جهات ، وهناك كان عليه ان يخوض صراعاً
صعباً مع خصم كان يحتمي بالسلاسل الجبلية التي يصعب الوصول اليها أو في الشعاب
التي يعتذر اجتيازها. وقد ازدادت المصاعب التي واجهتها الحملة بسبب النقص الدائم
في الذخائر الحربية نتيجة للصعوبات الهائلة التي يواجهها عند نقلها وكذلك بسبب
الظروف الصحية السيئة التي كانت سائدة في القوات العثمانية واسلوب حرب الانصار
الذي اعتمده الاكراد ولهذا فقد تطلب اسقاط كل زوج من المقاتلين من اوكارهم العالية
جداً على رؤس الجبال ما يقارب الثلاثين أو الاربعين يوماً في الاقل .
وبالرغم من كل ذلك نفذ رشيد باشا بشكل رائع الواجب المُلقى على عاتقه واشاع الهدوء
في جزء لا يستهان به من كردستان واجبر القائد الاساسي للثوار هناك محمد بيك الراوندوزي
على الاستسلام فارسله إلى اسطنبول وهناك حصل على العفو من السلطان بعد ان اظهر
ندمه على ما فعل. لكن الصراع مع القبائل الكردية المتمردة الاخرى استمر بعد ذلك
إلى ان تمكن حافظ باشا الذي خلف رشيد باشا بعد موته في ١٨٣٦ ، بعد مصاعب جمة ، من
كسر مقاومة
__________________
الاكراد نهائياً
واشاعة الهدوء في ربوع كردستان العثمانية.
لم يشارك حاكم العراق علي رضا باشا في
الجزء الاخير من الحملة العثمانية ، بعد موت رشيد باشا وذلك لان وجوده في بغداد
كان ضرورياً لمراقبة ما يسمى بـ «بعثة الفرات» وهي البعثة التي جرت تحت قيادة
العقيد جسني لانشاء مواصلات بواسطة السفن التجارية في نهر الفرات. فقد كانت حكومة
الهند البريطانية مهتمة بالبحث عن اقصر طرق الاتصال بين الهند والمتربول
وجربت جميع الطرق لهذا الغرض. ففي نهاية القرن الثامن عشر أنشئ خط ملاحي لسفن شركة
الهند الشرقية بين مومباي والبصرة كان السفر فيه يستغرق اسبوعين ينقل البريد بعدها
من البصرة تحت اشراف مقيمي الشركة في البصرة وبغداد وبواسطة العرب على جمال سريعة
إلى حلب عبر الصحراء السورية ، ومن هناك ينقله الفرسان التتر إلى اسطنبول .
وبعد ذلك مباشرة جرت تجربة الطريق المار عبر البحر الاحمر ومصر حيث كانت سفن
الشركة تجلب البريد إلى ميناء القصير على البحر الاحمر ، ومن هذا الميناء ينقل
بواسطة الجمال اولاً ثم بواسطة القوارب في نهر النيل إلى الاسكندرية لكي يرسل من
هناك إلى بريطانيا بحراً. ومع اختراع السفن البخارية تكثفت مساعي الحكومة
البريطانية لحل مسألة التعجيل بالمواصلات التي تربط بريطانيا بالهند ،
__________________
فبادرت ابتداءً من
١٨٣٠ بالقيام بمحاولات لانشاء اتصال مباشر بالبواخر بين بومباي والسويس ومع ذلك
فانها لم تفقد اهتماماً بطريق الفرات ، ففي تلك السنة نفسها أي في ١٨٣٠ خرجت
مجموعة من الضباط الانجليز - يقودهم اخو مقيم شركة الهند الشرقية في بغداد تايلر ـ
من بغداد وهدفها التأكد من صلاحية نهر الفرات للملاحة بين الحلة وبيرجك غير انه لم
تستطع اتمام هذه المهمة لان نصف افرادها ماتوا نتيجة لهجوم مفاجئ شنه عليهم
الاعراب .
في هذه الاثناء كان العقيد المذكور جسني
ـ وكان انذاك مايزال نقيباً قد جاب الصحراء السورية وانحدر في نهر الفرات من عانة
إلى البصرة بواسطة قارب شراعي ودرس نهري الكارون وشط العرب ثم وصل إلى لندن في
١٨٣٢ ومعه خطة كاملة ، لانشاء ملاحة بخارية في نهر الفرات. وفي لندن لم يتأت له ان
يجعل مجلس العموم البريطاني يهتم بمشروعه فحسب بل تمكن من جعل الملك وليم الرابع
نفسه يهتم به ايضاً الامر الذي ضمن للمشروع النجاح التام. وهكذا نظمت بالاموال
التي خصصها مجلس العموم وحكومة الهند بعثة الفرات الشهيرة التي بدأت في ١٨٣٥
بانزال الباخرتين «الفرات ودجلة» اللتين جلبتا مفككتين من بريطانيا ، في السويداء
على خليج انطاكيا ثم نقلتا بطريق البر وبصعوبة كبيرة لا يمكن تصورها إلى شاطئ
الفرات حيث جرى تجميعها ونزالهما إلى الماء إلى الجنوب قليلاً من بيرجك.
تحركت الباخرتان في ربيع ١٨٣٦ هابطتين
في الفرات وهدفهما التحري الدقيق عن صلاحية النهر بين بيروجيك والقرنة لسير السفن.
وفي
__________________
ايار من تلك السنة
فقدت البعثة الباخرة «دجلة» التي غرقت نتيجة لعاصفة مفاجئة صادفتها إلى الشمال
قليلاً من عانة فمات من بحارتها عشرون شخصاً من ضمنهم ضابطان. وهكذا وصلت إلى
البصرة في ٣٠ حزيران ١٨٣٦ الباخرة «الفرات» لوحدها بعد ان تمكنت من تذليل صعوبات
السير في نهر لم يسبق معرفته نم قبل ولا يكاد يصلح حتى للسفن الصغيرة سيما في
منطقة مستنقعات لملون
حيث يضيع الفرات تقريباً في الاهوار المحيطة به .
وكانت اول نتيجة لهذا البعثة هي سعي العقيد جنسي لاقناع حكومة الهند بجعل المحمرة
بدلاً من البصرة مركزاً للمواصلات بين الهند وبريطانيا عير وادي الفرات على اعتبار
انها مهيئة بشكل افضل لتحويل بريد الهند من السفن البحرية التي تجلبه من الهند إلى
السفن النهرية التي تسير به في نهر الفرات .
لقد لفت مشروع جسني هذا انتباه والي
بغداد علي رضا باشا إلى المحمرة مرة اخرى علماً بانه كان حتى قبل ذلك ينظر بقلق
إلى هذه المدينة التي اخذت تنافس البصرة اهميتها التجارية بشكل جدي. وتقع المحمرة
حالياً عند مصب قناة الحفار في شط العرب وهذه القناة هي امتداد لنهر الكارون
انشأها في ١٨١٢ الحاج يوسف شيخ عشيرة محيسن الخاضعة للكعبيين
وقد اصبحت لبعض الوقت مقراً لممثل شركة الهند
__________________
الشرقية في البصرة
عندما اضطر هذا الاخير لمغادرة البصرة في ١٨٢٠ بسبب الحملة التأديبية القوية التي
وجهها والي بغداد داود باشا ضد شيوخ الزبير من اسرة الزهير العربية التي ازدادت قوتها
في البصرة بحيث تفوقت على المتسلم هناك .
وكان لانتقال المركز التجاري الانجليزي إلى المحمرة اهمية بالغة بالنسبة إلى تلك
المدينة فقد ادى إلى ان يتجمع فيها التجار ذوو الخبرة من العرب والفرس فجذب هؤلاء
الاهالي من العرب المحليين إلى الاشغال بالتجارة المربحة. وقد استجاب الشيخ ثامر
شيخ الكعبيين آنذاك ، وكان رجلاً ذكياً حازماً له مكانة كبيرة بين افراد عشيرة
لهذه الحركة وخفض الضرائب الكمركية إلى الحد الادنى فساعد بذلك على ان تصبح
المحمرة المستودع الرئيس بالنسية للعراق الجنوبي باجمعه. وقد ساعد على ذلك لدرجة
ملحوظة الوضع الذي كان قائماً في البصرة ، فقد كان المتسلم هناك خاضعاً كلياً لشخص
يدعى محمد بن طيب وكان قد حل محل آل الزهير وتمكن مثلهم من الاستحواذ على سلطة
كبيرة بحيث لم يكن بمقدور المتسلم ان يدير بُحرية ، أي مرفق من مرافق الادارة
باستثناء الكمارك .
وهكذا عمد متسلم البصرة بعد ان تعرض للتدخل المستمر من جانب الشيخ المذكور في عملة
الاداري في جنوب العراق ، إلي التركيز في سد حاجات حياته المرفهة علي ما يرد من
الكمارك ولم يعد يتعفف عن اللجوء إلى أي تدبير في سبيل جباية الضرائب المفروضة على
البضائع الواردة والصادرة سيما انه كان قد اشترى منصبه بمبلغ كبير. وكانت نتيجة
الطبيعية لمثل هذا التصرف زيادة هائلة في الضرائب
__________________
المفروضة على التجارة
، مما دفع التجار إلى تجنب كمارك البصرة. وهكذا اصبحت المحمرة بضرائبها الكمركية
الواطئة جداًّ مستودعاً ملائماً تفرغ فيه البضائع ثم تنقل بطريق التهريب إلى
الزبير وتوزع بالقوارب إلى جميع انحاء البلاد بواسطة عرب المنتفق وبني لام
القاطنين على ضفتي الفرات ودجلة. وهكذا نشأت تجارة واسعة جداً للتهريب شارك فيها
بنشاط إلى جانب الكعبيين كل من عرب الزبير والمنتفقيين وبني لام الامر الذي ساعد
على نمو المحمرة لدرجة كبيرة على حساب الازدهار التجاري للبصرة. وقد حاول متسلم
البصرة ان يضع حداً لهذا التهريب ولجأ إلى مختلف الوسائل حتى انه لم يتردد في قتل
شيخ الزبير القوي محمد بن طيب
لانه عدّه الملهم الرئيسي لعمليات نقل البضائع سراً إلى العراق ، غير ان الاجراء
الدموي لم يساعد على تحسين الوضع التجاري للبصرة. وكان علي رضا باشا حاكم العراق
قد بدأ بالتفكير بضرورة اتخاذ اجراءات جدية ضد المحمرة منذ ان عاد من حملة كردستان.
وجاء مشروع جسني الذي حَوّل هذه إلى مركز للمواصلات بين الهند وبريطانيا عبر
الطريق الفرات النهري فعزز هذه النية لدى الباشا كما ان التقارب الذي حصل بين
القبائل العربية على اساس المشاركة في تجارة التهريب ، هذا التقارب الذي كان يهدد
بان يتحول ، عند اول فرصة ساخنة ، إلى خطر على السيادة العثمانية في العراق ، اقنع
علي رضا باشا نهائياً بضرورة توجيه ضربة حاسمة للازدهار التجاري لمدينة المحمرة.
عمد الباشا عشية حملته على المحمرة إلى خلع شيخ المنتفق وبني لام المعنيين بتجارة
التهريب واستبدالهما بشخصين مخلصين له ثم انهى تجهيزاته على عجل وخرج من بغداد في
١٨٣٧ على رأس
__________________
فصيل يتألف من ستة
ألاف مقاتل انضم اليهم في الطريق ٠٠٠ر١٢ من العرب حلفاء الباشا. لقد سار جيش بغداد
بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر دجلة وكان تحت تصرفه اسطول نهري يحمل الذخيرة والعلف ، وعند
القرنة عبر بواسطة جسر من الاطراف العامة إلى الضفة اليسرى لشط العرب حيث حط الرحل
عند قرية كردلان الواقعة قبالة البصرة.
واصل الجيش تقدمه بمحاذاة الضفة اليسرى
لشط العرب باتجاة المحمرة التي تجمعت للدفاع عنها جميع القبائل الخاضعة لسلطة
الكعبيين ، حتى ان عدد المدافعين عنها وصل إلى ما يذكره المعاصرون إلى ٢٥ ألف شخص
ولكنهم لم يكونوا يمتلكون غير مدفع واحد انفجر عند الاطلاقات الاولى .
اما جيش بغداد فقد بدأ هجومه بعد ان مهد له بقصف حامٍ ومتواصل ، ولكن قبل ان يصل
المهاجمون إلى اسوار المدينة سارع المدافعون عنها إلى اخلائها فاشعلت فيها النيران
واعمل فيها السيف ونهبت من قبل قوات علي رضا باشا المنتصرة. لقد هرب الجزء الاغلب
من سكان المدينة فذهب بعضهم إلى فارس والبعض الاخر إلى ضفاف الخليج الفارسي ، اما
شيخ الكعبيين الرئيس فقد اختبأ في الدورق على نهر الجراحي في حين نجا الشيخ احمد
حاكم المحمرة باللجوء إلى سفينته. ونصب علي رضا باشا شخصاً من انصاره حاكماً
للمحمرة وكان يفكر بمواصلة السير إلى الدورق التي اختبأ فيها شيخ الكعبيين ثامر
ولكن اخباراً عن هروب هذا الاخير إلى شيخ البختياريين القوي محمد تقي خان وصلته
ففترت من حماسة الحربي ، يضاف إلى ذلك ان مبعوثين من الفرس
__________________
وصلوا إلى الباشا
واحتجّوا على انتهاك حقوق فارس بالاضافة إلى حلول الشتاء والنقص في المؤن التي
كانت تجهز من البصرة وهبوط الانضباط بين القوات العثمانية المرابطة في المحمرة
بشكل واضح كل ذلك اجبر علي رضا باشا على العودة بجيشه إلى بغداد .
ما ان غادرت القوات العثمانية المحمرة
حتى عاد ثامر شيخ الكعبيين من مخبئة فبادر إلى طرد الحاكم الذي عينه الباشا من
المدينة وعين الحاج جابر شيخ عيشرة محيسن الخاضعة للكعبيين بدلاً منه. وقد استطاع
هذا الاخير ان يكسب ود الحكومة الفارسية ولذلك فعندما احتلت القوات الفارسية
المحمرة في ١٨٤١ جرى تأكيد الشيخ جابر في المنصب الذي يشغله وحاول هذا ان يبقى
المنصب في ذريته. وبمقدار ما كان الشيخ جابر يرتقي كان نجم ثامر الشيخ الرئيس
للكعبيين وعشيرته البو ناصر يخفت إلى ان خبأ نهائياً عندما اضطر الشيخ ثامر للهرب
إلى المنطقة العثمانية طلباً للنجاة حين اعلنته الحكومة الفارسية متمرداً .
تحتم على علي رضا باشا بعد عودته إلى
بغداد مباشراً ان يهتم بشؤون العرب في ولايته ، وكان الباب العالي في الواقع قد
اولى القوة الكبيرة التي اصبح يتمتع بها صفوك شيخ شمر جربة اهتمامه الجدي قبل ان
يبدأ الباشا حملته على المحمرة في ١٨٣٦ بالذات فقد فوضت الحكومة العثمانية انذاك
القائد العام للجيش العثماني المتوجه لاخماد انتفاضة بيك راوندوز وبقية الاكراد
محمد رشيد باشا الذي مر بنا ذكره ان يكبح جماعة هذا الشيخ. وقد استطاع هذا الجنرال
العثماني ان يستدرج زعيم شمر
__________________
المُقلق إلى معسكره
حيث قبض عليه وارسله مخفوراً إلى اسطنبول غير ان صفوك استطاع الهرب من هناك بعد
بضعة اشهر فعاد إلى مضارب عشيرته وتزعمها مرة اخرى. لقد عدَّ صفوك علي رضا باشا
المسؤول الاول عن أسرة ولهذا فقد اخذ يقوم بغارات متواصلة على اراضي الباشوية
التابعة له .
واخذت مجاميع الشمريين وحلفائهم من الاعراب تتوسع في ممارسة النهب ولم تعد
عملياتها قاصرة على المنطقة الواقعة بين الموصل وبغداد بل تعدت ذلك إلى الاماكن
الاقرب من بغداد ونعني الجزء الشمالي الشرقي من الولاية وهو الجزء الواقع بين دجلة
والحدود الفارسية. ولم يكن علي رضا باشا يستطيع الاقتصاص من الشمريين لان علاقاته
مع بني لام ومع المنتفقيين لم تكن على ما يرام ، ذلك ان شيخيها اللذين عزلهما
عندما توجه إلى المحمرة بادرا بعد ان عاد هو إلى بغداد إلى طرد الشيخين اللذين
نصبهما الباشا وعادا إلى منصبهما مرة اخرى ولكنهما اصبحا في هذه المرة معاديين
للباشا. لهذا السبب كان من المستحيل على والي بغداد ان يلجأ كما في المرات السابقة
إلى استخدام المنتفقيين ضد الشمريين اعدائهم الالداء بحيث يبقى له الا مراقبة
الصراع بين هاتين القبلتين العربيتين ، بل تحتم عليه ان يتخذ التدابير اللازمة للدفاع
عن نفسه.
ولما كان علي رضا باشا لا يملك من
القوات ما يكفي لجعله متساوياً في القوة مع صفوك فقد توجه إلى الباب العالي طلباً
للاسناد فطلب الباب العالي من حافظ باشا الذي حل محل رشيد بعد وفاته في ١٨٣٦ في
قيادة الجيش العامل في كردستان ان يقتص من الشمريين. وكان القائد العام الجديد هذا
ينوي ان يتحرك ضد صفوك بقوات مشتركة يسهم فيها حاكما
__________________
ماردين والموصل غير
ان حاكم الموصل محمد باشا الملقب أينجه بيرقدار لم تكن لديه الرغبة اطلاقاً في
القيام بحملة لا تعود عليه الا باعباء زائدة ومصاريف لاحد لها ولهذا اخذ يتلكأ عن
عمد . وعندما قرر أينجة
بيرقدار اخيراً التحرك نحو صفوك سارع هذا وكان طيلة الوقت يراقب الاستعدادات
العثمانية بانتباه ، بالتراجع إلى الصحراء فقضى بذلك على خطة العثمانيين التي كانت
تقضي بمحاصرته والقضاء عليه مع قواته. وهكذا لم يبق اما علي رضا باشا الا اللجوء
إلى وسيلته المعتادة فاعلن خلع صفوك وعين لشمر شيخاً جديداً هو نجرس ابن عمه ، وساعده
على ان ينشء له حزباً قوياً بين افراد عشيرته. وكان هذا التكتيك الذي انقذ علي رضا
من المصاعب التي واجهته مع العرب فعالاً في هذه المرة ايضاً فقد ادى إلى حدوث
اضطرابات ونزاعات داخلية لانهاية لها بين الشمريين افضت في نهاية الامر إلى هلاك
صفوك كما سنرى لاحقاً.
وبينما كانت هذه الاحداث تجري في العراق
تجدد الصراع الذي كان تدخل الدول الاوربية قد اجله لبعض الوقت بين السلطان وتابعه
والي مصر بقوة جديدة فقد كان محمد علي يسعى لان يعترف السلطان لاسرته بحقها في ان
تحكم مصر والمنطقة التي استولى عليها من الدولة العثمانية حكماً وراثياً في حين لم
يكن السلطان محمود الثاني مستعداً الا للاعتراف بان تحتفظ ذرية محمد علي بمصر وعكا
وطرابلس اما سوريا وولاية اطنة فكان يطالب باعادتها إلى الدولة العثمانية. وقد
توقف الوالي عن دفع الاتاوة المعتادة علامة على الاحتجاج وحشد في سوريا جيشاً
قوياً فاجاب السلطان على ذلك بان امر القائد العام للقوات
__________________
المتواجدة في كردستان
حافظ باشا بالهجوم على محمد علي وابنه اللذين اعتبرا «فرمانلي» أي محكومين
بالاعدام. فحدثت نصيبين في شهر ايار ١٨٣٩ معركة بين المصريين والعثمانيين اندحر
فيها جيش السلطان اندحاراً تاماً .
ان القضاء على جيش حافظ باشا الذي اعاق
بوجوده في كردستان النزعات الاستقلالية لدى البيكات الاكراد انعكس على الفور على
الوضع هناك اذ لم تلبث الاضطرابات السابقة ان اشتعلت مجدداً واخذت تتحول بالتدريج
إلى انتفاضة كردية جديدة. وقد انتقلت الانتفاضة إلى منطقة السليمانية التابعة
لبغداد فقد اظهر حاكمه امن بيكات اسرة بابان الوراثيين محمود باشا رغبة واضحة
بالاستقلال التام. ورأى علي رضا باشا ، بعد تردد طويل ، ضرورة ابعاده عن حكم
السليمانية فعين بدلاً منه في ١٨٤١ شخصاً اخر من اسرة بابان نفسها هو احمد باشا ، وهرب
الحاكم المقاتل محمود باشا إلى فارس حيث وجد له مأوى واسناداً لدى حاكمها الجديد
محمد وهو ابن عباس مرزا الذي كان قد مات قبل الاوان وحفيد فتح علي باشا وقد خلف
هذا الاخير في ١٨٣٤ وكان مما زاد من رغبة محمد شاه في مساعدة الهارب انه لم يستطع
ان يغفر لعلي رضا باشا نهبه للمحمرة ولم يستطع الشاه في حينه ان يأتي لنجدتها
لانشغاله بحصار هرات. وهكذا اخذ حاكم فارس يطالب حاكم العراق بالحاح باعادة محود
باشا إلى منصبه السابق لكن وساطة الشاه لم تؤدِ الا إلى ان يعزل حاكم العراق احمد
باشا الذي كان قد عينه حكماً للسليمانية ولكنه لم ينصب المرشح الذي تريده فارس بدلاً
منه بل نصب شخصاً اخر من اقربائه هو عبدالله الذي
__________________
كان قريباً لاخر
بيكات اسرة بابان .
ولهذا فقد توغل فصيل فارسي في كردستان لاعادة محمود باشا إلى حكم السليمانية بقوة
السلاح ولكن حاكم المدينة الجديد تمكن من القضاء عليه ، وعندها امر الشاه بتجميع
القوات في همدان وطلب من التجار الفرس مغادرة الاراضي العثمانية. وهكذا بدا ان
الحرب بين السلطان والشاه اصبحت امراً حتمياً.
وحاول الباب العالي الذي كان مشغولاً
بالاصلاحات الداخلية بدرجة لا تقل عن انشغاله بالاضطرابات القائمة في ممتلكاته
الاوربية ان يتجنب الصدام المسلح مع جارته الشرقية فارسل إلى طهران مبعوثاً خاصاً
لازالة سوء التفاهم غير ان مبادرته هذه لم تصادف أي نجاح
، فدخلت القوات الفارسية في السنة التالية أي في ١٨٢٤ إلى الاراضي العثمانية مرتين
اجتاحت في المرة الاولى السليمانية وكربلاء احتلت هذه المدينة الاخيرة مؤقتاً. اما
في المرة الثانية فقد اصطدم الفرس عند هجومهم على منطقة بايزيد بالجيش العثماني
الذي كان يقوده حافظ باشا فاصيبوا على يده باندحار كبير. وهكذا كانت العمليات
العسكرية قد بدأت بالفعل عندما عرضت روسيا وبريطانيا واسطتهما فقبلها الطرفان ، ولكن
قبل ان يتمكن مبعوثو الدولة العثمانية وفارس ومندوبو الدولتين الوسيطتين من
الاجتماع في ارضروم جرى حادث كان ان يقضي على جهود الدولتين الوسيطتين الصادفة إلى
تلافي استمرار اراقة الدماء بين الدولتين المسلمتين الجارتين .
__________________
كانت كربلاء التي احتلتها قبل ذلك بقليل
حامية فارسية قد جذبت منذ وقت طويل انتباه حاكم بغداد علي رضا باشا الذي لم يستطع
ان يستوعب كون العتبات المقدسة ملاذاً يتمتع بالحصانة لا يمكن المساس بمن يلجأ
اليه ، فقد عَدّ ذلك محاولة من سكان كربلاء للخروج من تبيعتهم للسلطات العثمانية
وانشاء طائفة تتمتع بالحكم الذاتي. وهكذا بادر علي رضا باشا
الذي بذل كل جهده لكي يخضع العراق للسلطان خضوعاً تاماً ، فاغار في بداية ١٨٤٣
بقواته فجأة على المدينة. وقد ابدى السكان مقاومة عنيفة لقوات الباشا الامر الذي
حتم على تلك القوات ان تقتحم المدينة وتأخذ بالتقدم في شوارعها خطوة إلى ان وصلت
الصحن الذي اختبأ فيه ثمانمائة شخص من الفرس واخذوا يصدون هجمات الجنود العثمانيين
فعمد هؤلاء إلى اجتياز سياج الصحن وقتلوا جميع من كان يدافع عنه ثم
__________________
واصلوا المذبحة في
انحاء المدينة فكانوا يقتلون كل من يقع في ايديهم .
ويؤكد من عاش هذه الاهوال الدموية ان عدد من مات في كربلاء انذاك بلغ ما بين ١٥ - ١٨
ألف نسمة.
لقد اثارت اخبار هذه المذبحة غضباً
عاصفاً في طهران وفي جميع انحاء فارس حيث اخذ الشعب يطالب بالثأر لاخوانهم في
المعتقد وباعلان الحرب على الدولة العثمانية فوراً حتى ان وزير الشاه الاول حجي
ميرزا تحتم عليه ، برغم نزعته السلمية الاستجابة لغضب الشعب فأخذ يستعد للحرب ، لكن
هذه الاستعدادات طالت بحيث فاتت اللحظة المناسبة ولذا فقد تمكنت روسيا وبريطانيا
اللتان اخذتا على عاتقهما دور الوسيط ، من اقناع الحكومة الفارسية بصعوبة كبيرة
بقبول الاستعداد الذي أظهره الباب العالي لترضية فارس. وهكذا كان أول عمل للحكومة
العثمانية تجاه تلبية مطاليب فارس ، على أساس هذا الوعد ، هو عزل علي رضا باشا
المسؤل عن مذبحة كربلاء بوال اخر هو نجيب باشا الذي وصل إلى بغداد في السنة نفسها
أي في ١٨٤٣.
لقد حكم علي رضا باشا العراق طيلة اثنتي
عشرة سنة تمتد من ١٨٣١ إلى ١٨٤٣ أي ان نشاطه باجمعه ، باستنثاء السنوات الاخيرة ، يقع
ضمن فترة حكم السلطان محمود الثاني الذي توفي في ١٨٣٩ ولهذا السبب فان ذلك النشاط
يعكس الصفات المميزة لحكم هذا السلطان. لقد كانت المهمة الاساسية للسلطان المذكور
هي تحطيم النظام القديم وتمهيد الطريق امام الاصلاحات المقبلة مع المحافظة على
النظام والهدوء الداخلي في الامبراطورية بمساعدة الاجراءات القديمة للاستبداد
الشرقي. وكان هذه
__________________
هو ايضاً طابع حكم
علي رضا باشا الذي جهد طيلة الاثنتي عشرة سنة التي قضاها في العراق لان يقضي على
اثار الاستقلال الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة واخضاعها لاسطنبول اخضاعاً تاماً
ولم يتعفف في سبيل هذا الامر عن اللجوء في الحالات الضرورية ، إلى اساليب التي
ابتدعها أسلافه حكام العراق شبه المستقلين. وهكذا فان علي رضا باشا لم يكن يشبه
اسلافه اطلاقاً ، ففي الوقت الذي كان فيه اولئك الاسلاف يقفون على الدوام موقف
المعارضة من الحكومة ويركزون كل اهتمامهم لتعزيز استقلالهم الشخصي كان هو منفذاً
مطيعاً لكل ما يخططه الباب العالي ولم يظهر أي نية مهما كانت للانفصال عن السلطان.
ويبدو الاختلاف بين علي رضا باشا وحكام العراق السابقين في هذا المجال اكثر وضوحاً
اذا علمنا انه لم تحدث في وضعه بالمقارنة مع اولئك الحكام أي تغيرات جوهرية فقد
ظلت تتركز في يده كالسابق جميع السلطات العسكرية والادارية والقضائية والمالية
الامر الذي اتاح له ان يكون المتحكم غير المقيد بمصير المنطقة التي وضعت تحت
تصرفه.
لقد كان علي رضا باشا اخر حاكم عراقي
يتمتع بمثل هذه الاصلاحات الواسعة ذلك ان الحكومة التي كانت تسعى إلى تقوية السلطة
المركزية على حساب الولاة الاقليميين والى تحويل هؤلاء الولاة إلى مجرد موظفين لدى
الباب العالي كانت قد بدأت باجراء اصلاحات بهذا الاتجاه منذ اواخر عهد السلطان
محمود الثاني. وقد حصلت الخطوة الاولى في هذا السبيل في عام ١٨٣٨ حين عقدت معاهدات
تجارية مع النمسا وبريطانية وفرنسا تقررت بموجبها ضريبة كمركية محددة على البضائع
المستوردة والمصدرة الامر الذي ادى إلى ان تتخلص التجارة من تعسف الولاةالاقليمين
الذين. كانوا يعتمدون اسلوب الالتزام في هذا المرفق كل
في حدود المنطقة
الموضوعة تحت حكمه. وفي السنة نفسها أي في ١٨٣٨ صدر مرسوم اقر تخصيص راتب يحدده
القانون لجميع الاشخاص العاملين في خدمة الحكومة ، وكان الهدف من ذلك هو وضع حد
لسوء الاستغلال الناجم عن منح الموظفين الحرية في ان يبحثوا بانفسهم عن وسائل
عيشهم. كذلك الغيب بعض الاحتكارات الحكومية التي كانت اداة بيد الولاة لتحقيق
الانانية الطموحة .
بهذه الاجراءات المتواضعة اختتم عهد السلطان محمود الثاني ، اما اخراج الامور
العسكرية والمالية والقضائية من ايدي الولاة نهائياً وتحديد سلطاتهم في نطاق
النشاط الاداري الضيق فقد حدثت في عهد السلطان عبد المجيد الذي حكم الامبراطورية
العثمانية من عام ١٨٣٩ إلى ١٨٦١.
لقد بادر السلطان الجديد بمجرد ان ارتقى
العرش في ١٨٣٩ وكان عمره انذاك ست عشرة سنة فاصدر في خريف السنة نفسها مرسومه
الشهير «خطي شريف كولخانه» الذي اصبح حجر الزواية في جميع الاصلاحات المقبلة في
انحاء الدولة العثمانية كافة. لقد كان السبب في اصدار هذا المرسوم ، إلى حد معلوم
، هو رغبة رشيد باشا وزير الخارجية الليبرالي في ان يستثير تعاطف اوربا مع السلطان
العثماني في صراعه مع تابعه حاكم مصر. فمن هذا المنطقة اعيد تنظيم العلاقة بين
المسلمين والمسيحيين في الامبراطورية العثمانية وذلك بأن اعلن «خطي شريف كولخانه» المساواة
في الحقوق بين هؤلاء واولئك كما ان السلطان وعد «بأن يؤمن للرعاية العثمانيين
جميعاً دون تفريق في الدين حصانة ممتلكاتهم وحياتهم وشرفهم».
__________________
لقد اشرت هذه الكلمات التي وردت في
المرسوم السلطاني اصلاحات جذرية في الشؤون القضائية للدولة العثمانية حيث كانت
تسود حتى ذلك الوقت الشريعة أي التشريع الديني القائم على القرآن ، ولهذا فلم يكن
هناك وجود للمحاكم من النمط الاوربي أو للقوانين الموضوعة بروح اوربية. لقد بحثنا
التغييرات التي اجريت في القضاء العثماني في روح «خطي شريف كولخانه» والتي كان
هدفها ان يؤمن للرعية المسيحية في الامبراطورية العثمانية محاكمة نزيهة ، في الفصل
الثاني من كتابنا هذا .
ولذلك فاننا سنقتصر هنا على الاشارة إلى حقيقة واحدة فقط هي ان الاصلاح القضائي
كان في الوقت نفسه خطوة مهمة على طريق تحديد سلطة الباشوات ولاة الاقليم وذلك لانه
أخرج شؤون التشريع والقضاء بأجمعها من دائرة صلاحياتهم.
لقد ادى «خطي شريف كولخانه» إلى تغييرات
في النظام الضرائبي وفي الخدمة العسكرية نتج عنها تحديد صلاحيات ولاة الاقليم في
مجالات نشاطهم المالية والعسكرية وقد انشأ رشيد مجلساً خاصاً من كبار الاعيان
مهمته وضع الاصلاحات الداخلية هذه في الامبراطورية العثمانية ، وقد عرفت هذه
الاصلاحات في مجالها بأسم «التنظيمات» وهو اسم متأت من الفعل العربي «نظم».
لقد جرى اولاً اصلاح الضرائب ، التي
كانت في مبتدأ قيام الدولة العثمانية تؤخذ عيناً الامر الذي وضع مالية
الامبراطورية باجمعها في تبعية تامة للظروف الطبيعية التي قد تكون ملائمة أو غير
ملائمة ، كما جعلها ، بدرجة لا تقل عن ذلك تابعة لمدى نزاهة الحكوميين الذين كانت
مهمتهم
__________________
تحويل الانتاج
الزراعي إلى نقود. ومن اجل القضاء على المصاعب التي يسببها هذا النظام للخزينة
وبهدف تأمين ورود الضرائب بشكل منظم اقر منذ عهد السلطان محمد الثاني (الفاتح) أي
في القرن الخامس عشر اسلوب «الالتزام» أي أعطاء جميع الضرائب الحكومية تقريباً
بالالتزام. وكان الالتزام في البداية لمدة معينة ثم اصبح يعطي مدى الحياة. وقد ادى
هذا النظام إلى اخضاع دافعي الضرائب في كل اقليم للولاة المحليين الذي كانوا
يتمتعون بالسلطة المطلقة في المنطقة التي يحكمونها بما في ذلك التصرف بحياة سكانها
ولهذا فانهم يقضون على اية امكانية مهما كانت صغيرة لمنافستهم من جانب الاشخاص
العاديين فتحولوا لهذا السبب إلى ملتزمين يحتكرون ايرادات المنطقة المعينة .
ولهذا فقد تركزت في ايدي الباشوات الملتزمين الادارة المالية للاقليم باجمعها
علماً بانهم كانوا مطلقي الصلاحية في اعتماد وسائل جباية الضرائب التي يحتكرون
التزامها ، وفي اصدار ضرائب جديدة أو استبدال الضرائب القديمة باخرى غيرها وفي
اتخاذ مايرونه من تدابير لحماية مصالحهم. ثم جاء «خطي شريف كولخانه» فحرم بجرة قلم
ولاة الاقاليم من هذه الامتياز المالي وذلك بان استحدث في ١٨٤٠ في الاقاليم
المختلفة وظيفة جديدة هي وظيفة «جامع ضرائب عام» انيطت بمن يشغلها مهمة جباية
ايرادات الخزينة. ومع ان الحكومة لم تلبث ان اضطرت إلى العودة إلى اسلوب الالتزام
القديم في كثير من ابواب ايرادات الدولة فقد سمح للاشخاص العاديين باخذ الالتزام
فوضع بذلك حد للاحتكار الاستثنائي الذي كان الباشوات يتمتعون به في التزام الضرائب
في المناطق التي يحكمونها وكذلك لتصرف اولئك الباشوات بشكل غير مقيد بمالية
__________________
اقاليمهم نظراً لان
السيطرة المباشرة على المالية هناك اصبحت بيد موظفي الخزينة من مختلف الرتب.
اما بخصوص سلطة الولاة الاقليميين
العسكرية فقد انهاها القانون الذي صدر في ١٨٤٣ وقوانين ١٨٤٦ بشأن الادارة المدنية
والعسكرية. لقد نظم القانون الاول الجيش النظامي والتجنيد على النمط الاوربي فقسمه
إلى خمسة فيالق اضيف اليها في ١٨٤٨ فيلق سادس في العراق أو بغداد تشمل منطقتة في
الوقت الحاضر ولايات الموصل وبغداد والبصرة .
اما مجموعة قوانين ١٨٤٦ فقد وضعت على رأس كل منطقة عسكرية قائداً خاصاً أو «محافظاً»
تتركز في يديه السلطة العسكرية باجمعها بحيث اصبح الوالي مبعداً تماماً عن قيادة
قوات المنطقة التي يقوم بادارتها. وهكذا لم يبق للولاة الاقليميين الا مجال نشاط
اداري ضيق.
ولم تكتف الحكومة وفي سعيها الحثيث نحو
المركزية الصارمة ، بالتحديدات المذكورة اعلاه التي فرضتها على سلطة الولاة
الاقليميين بل جعلتهم حتى في نشاطهم الاداري تابعين لما يسمى بـ «المجلس الاداري» في
الولاية ووضعتهم تحت السيطرة. فلم يكن بمقدور قادة المنطقة ، بدون مصادقة هذا
المجلس ، القيام باي مبادرة كبيرة ولم يكن لهم الحق في ان يتخذوا بمفردهم التدابير
اللازمة للمحافظة على الهدوء والامن في المنطقة التابعة لهم لانهم كانوا ملزمين
بان يرسلوا إلى اسطنبول حتى المجرمين الذين يجري القبض عليهم لغرض محاكمتهم هناك .
وكانت النتيجة المباشرة لتجريد السلطات الاقليمية من الصلاحيات بهذا الشكل
__________________
الكامل قيام اضطرابات
شاملة لم يتمكن الولاة من اخمادها ابداً.
ولم يكن الوضع في العراق بافضل من ذلك.
فمع ان الانقلاب الكبير الذي حدث في وضع الولاة الاقليميين لم يتضح بشكل ملموس في
العراق في عهد الوالي علي رضا باشا ، فان هذه المنطقة اخذت في عهد خلفه محمد نجيب
باشا تتحول تدريجياً إلى المنط الجديد الذي املته التنظيمات. ومع ذلك فان تطيبق
المركزية بكل ابعادها لم يتم في العراق قبل بداية ١٨٤٨ حين شُكِل الفليق السادس
الخاص ببغداد وانتقلت السلطة العسكرية من يد والي بغداد محمد نجيب باشا إلى قائد
هذا الفليق عبد الكريم نادر باشا ولم يلبث تجريد حاكم هذه المنطقة الذي كان إلى
عهد قريب يتمتع بصلاحيات استثنائية من الكثير من صلاحياته ان ادى في العراق إلى
نتائج لاتقل في سوئها عما حصل في اقاليم الامبراطورية العثمانية الاخرى وقد انعكس
ذلك على طبيعة نشاط محمد نجيب باشا الذي ينقسم إلى مرحلتين متميزتين عن بعضهما
غاية التميز ، تمتد الاولى من ١٨٤٣ إلى ١٨٤٨ وتستمر الاخرى من ١٨٤٨ حتى استقلاله
في ١٨٤٩.
لم يكن نجيب باشا في الفقرة الاولى من
حكمه قد فقد بعد كل الامتيازات التي كان اسلافه يتمتعون بها فاظهر نفسه مواصلاً
نشطاً لسياسة سلفه علي رضا الذي سعى لان يجعل هذه المنطقة العاصفة والثائرة على
الدوام خاضعة لاسطنبول خضوعاً تاماً. فقد تمكن بعد وصوله إلى بغداد مباشرة من
الاقتصاص من عشائر الخزاعل الثائرة التي كانت تقطن في الاهوار الواقعة على جانبي
الفرات بين السماوة والهندية ، ومن الدليم في ضواحي الفلوجة
، كما انه اقتص بدرجة لا تقل شدة عن ذلك من بني لام
__________________
الذين جربوا الخروج
على طاعة باشا بغداد بقيادة شيخهم المذكور ، وكشفوا عن تمردهم بالقيام بالنهب
والسلب في المنطقة المتاخمة لنهر دجلة. واخيراً تمكن من ان يروّض لدرجة لا يستهان
بها عشيرة شمر جربة ، مستغلاً الاضطرابات التي قامت فيها بينهم بسبب التنافس بين
شيخهم المشهور صفوك ونجرس الذي كان قد نصبه حاكم بغداد السابق علي رضا باشا. فقد
ظهر ان صنيعة الباشا هذا شخص حاذق بحيث استطاع ان يستميل الجزء الاغلب من ابناء
عشيرته ، الامر الذي دفع صفوك إلى اغتياله غدراً بعد ان دعاه إلى معسكره زاعماً
انه يريد ان يصطلح معه. وقد ابعدت هذه الخيانة عن صفوك جميع من كان ما يزال مخلصاً
له من ابناء عشيرته ، الامر الذي استغله نجيب باشا للتخلص منه فقتل على يد افراد
من الباش بزغ ونصب شيخاً لشمر بدلاً منه فرحان بن صفوك الذي تربى في اسطنبول وكان
مناصراً للدولة العثمانية .
ولم يعق هذا النشاط الفعال في اخماد
اضطرابات القبائل العربية ، نجيب باشا عن المشاركة ، بصورة غير مباشرة في الاقل ، في
تهدئة الاكراد الذين ثاروا على العثمانيين بزعامة بيكيهم : امير الجزيرة بدرخان
بيك وامير حكياري نور الله بيك ، لقد كان هذا الاخير يثقل على النساطرة المسيحيين
القاطنين في المنطقة التي يحكمها بالضرائب والمضايقات ، مما اضطرهم إلى التوجه إلى
باشا الموصل محمد اينجه بيرقدار طالبين الحماية وغزل نور الله بيك .
وقد انتقم امير حكياري من النساطرة في ١٨٤٣ باجتياح منطقة برواري التي يسكنونها
فقتل الكثير من اتباع نسطور أو استعبدهم. وقد استمرت مذابح الاكراد للنساطرة طيلة
السنوات الثلاث التالية مرة
__________________
تتوقف ومرة اخرى
تتجدد بقوة اشد إلى ان تدخلت الدول الاوربية في القضية واصر ممثلوها في اسطنبول
على الباب العالي على ايقاف المذابح. وتحت تأثير هذه المطاليب جهز في ١٨٤٧ جيش قوي
تألف من قوات ارسلها باشوات خربوط واورفا وديار بكر وارضروم ، كذلك استجاب باشا
بغداد لطلب الباب العالي فامر تابعه الموصل بالانضمام إلى ذلك الجيش الذي عين
عثمان باشا قائداً عاماً له. وقد اندحر البيكات الاكراد الذين رفضوا القاء السلاح
طوعاً في عدة معارك متتالية استسلم بعدها بدرخان بيك ونورا لله بيك فطردا من
كردستان إلى الابد واخضع الاقليم للدولة العثمانية وعين لادارته موظفون عثمانيون
بدلاً من الذين البيكات كانوا يحكمونه في السابق حكماً وراثياً شبه مستقل .
تؤشر السنة التي اخمدت فيها الانتفاضة
الكردية انعطافاً في نشاط والي بغداد محمد نجيب باشا الذي كانت سلطته قد تعرضت منذ
قليل لجميع القيود المرتبطة بتطبيق المركزية في العراق ، فلم يعد بمقدور والي
بغداد الذي جُرد من وظائفه القضائية السابقة بما فيها الوظائف البوليسية وكذلك من
سلطته العسكريةَ ، مكافحة الفوضى المتزايدة في العراق. كما ادى استحداث منصبي
المراقب المالي العام وقائد الفليق السادس في بغداد ومنح الوالي الادارة المدنية
احتكاراً ، إلى تعدد مراكز السلطة وقد تجسد ذلك بشكل اوضح بسبب من ان جميع هؤلاء
الاداريين كانوا مستقلين بعضهم عن البعض الاخر ولم يكن الواحد منهم مسؤولاً إلا
امام الادارة التي ينتسب اليها أي وزارات المالية والحربية والداخلية .
وهكذا لم يعد بامكان محمد نجيب باشا الذي شلّ نشاطه بهذا الشكل ان يقتص لامن بني
__________________
لام عندما ثارت هذه
القبيلة القوية فقطعت ـ بغاراتها على السفن والقوافل ـ المواصلات البرية والنهرية
بين بغداد والبصرة ، ولا من الخزاعل الذين تمردوا مرة اخرى واستمالوا إلى جانبهم
اغلبية القبائل العربية القاطنة في الاهوار المتاخمة للفرات ، ولا كذلك من البدو
الذين استغلوا اضطراب النظام الداخلي في الولاية فباشروا باجتياح العراق ونهبه دون
رحمة . وقد عَدّ الباب
العالي محمد نجيب باشا غير اهل للتغلب على العرب ، لعزله في ١٨٤٩ وعين بدلاً منه
في منصب والي بغداد قائد الفليق السادس فيها عبد الكريم نادر باشا الذي اشتهر اكثر
باسمه المصغر : عبد باشا.
غير ان الوالي الجديد الذي برهن منذ
البداية على مهارة مشهورة لتمكنه من اخضاع القبائل بسرعة وبدون اراقة دماء تقريباً
، لم يلبث ان وجد نفسه في وضع ليس بافضل من وضع سلفه ، فلم يكن بمقدوره ايضاً
التخلص من الفوضى التي شملت العراق لأنّ سلطة الوالي التي اضعفتها المركزية الزائدة
عن الحد لم تعد الا سلطة وهمية. لقد ظل عبد باشا في منصبه مدة تربو قليلا على
السنة كما ان حكم الواليين اللذين حكما بعده مباشرة كان اقل من هذه المدة ، وهكذا
بلغ عدد الولاة الذين حكموا العراق في السنوات الاربعة التي تلت ١٨٤٨ وهي السنة
التي انجز فيها تطبيق المركزية ، اربعة ولاة.
كان ابرز حدث في حياة العراق في المرحلة
المذكورة هو وجود لجنة تخطيط الحدود بين الدولة العثمانية وفارس في هذه المنطقة ، ونعني
اللجنة التي شارك في اعمالها المندوب الروسي عقيد الاركان العامة تيشير كوف وزميله
الانجليزي المقدم وليامز. وكانت هذه اللجنة قد تألفت بالحاح من روسيا وبريطانية
اللتين امكن بفضل جهودهما تلافي الصدام
__________________
المسلح بين الفرس
والدولة العثمانية في ١٨٤٢ ، فوصلت محادثات صلح بين هاتين الدولتين المسلمتين إلى
نهايتها الناجحة بعد ان طالت المدة اربع سنوات كاملة. لقد تضمنت معاهدة ارضروم
التي قطعتها الدولتان في ١٨٤٦ وجرت المصادقة عليها نهائياً في السنة التالية ، تنازلات
اقليمية متبادلة فقد احتفظت فارس بالجزء الشرقي من منطقة زهاب مع وادي كرند ، وتنازلت
عن جزئها الغربي للدولة العثمانية كما تخلت نهائياً عن ادعاءاتها بسنجق
السليمانية. اما الدولة العثمانية فقد تخلت لفارس عن مدينة ميناء المحمرة وجزيرة
خضر [عبادان] مع منطقة على الضفة الشرقية لشط العرب واعترفت للفرس بحرية الملاحة
في هذا النهر إلى النقطة التي تلتقي عندها حدود الدولتين. ولكي تعين هذه التنازلات
الاقليمية بشكل دقيق ، التزمت الدولة العثمانية وفارس في المادة الثالثة من معاهدة
ارضروم بان ترسل كل منها إلى المنطقة المذكورة لجنة خاصة واضيف اليهما مندوبان
احدهما روسي والاخر انجليزي على هيئة مستشارين .
لقد تحتم على هذين المستشارين بعد ان
وصلا إلى بغداد في ايار ١٨٤٩ ، انتظار ممثل الدولة العثمانية درويش باشا الذي قام
مسبقاً بجولة في الحدود ثم احتل بقوة عثمانية في ١٨٤٨ قرية قطور الواقعة عند ممر
جبلي يؤدي الى مدينة خوي ، التي يفضي الطريق منها إلى تبريز واورميا .
ونظراً إلى حلول حرارة الصيف وسبب
الظروف المناخية التي لا تحتمل في العراق ، فقد تقرر ان يبدأ تخطيط الحدود من
المحمرة فبدأت فيها في كانون الثاني ١٨٥٠ جلسات اللجنة المختلطة لتخطيط الحدود.
وقد اقترح المندوبان الاوربيان في هذه الجلسات ان تكون حدود منطقة
__________________
المحمرة التي جرى
التنازل عنها لفارس عبارة عن خط يبدأ من مخرج قناة ابي جودي من شط العرب (على بعد
ساعة في النهر إلى الاعلى من المحمرة ويتجه عبر الصحراء إلى موقعين للاطلال
القديمة يُعرفان بقصري : البصرة والحويزة ، غير ان المندوب العثماني لم يقبل بهذا
الخط فَتَحَتّمَ تأجيل جلسات اللجنة إلى ان تأتي موافقة الحكومتين المعنيتين على
الحدود المقترحة. ولم تجتمع اللجنة مرة اخرى في المحمرة إلاّ في شباط ١٨٥١ ، ولكنها
في هذه المرة ايضاً لم تتوصل إلى اية نتائج ايجابية ، بسبب رفض المندوب العثماني
باصرار جميع المقترحات التي قدمها المندوب الروسي والانجليزي بشأن تعيين الحدود.
ونظراً لتهرّب الواضح من جانب دروي باشا
من قضية تعيين خط
الحدود بدقة بين الدولتين العثمانية والفارسية ، اضطر المندوبان إلى الاكتفاء
بالقيام بجولة في الشريط الحدودي موضوع النزاع باشرا بها في تشرين الثاني ١٨٥١
ابتداءً من منطقة زهاب التي كان حاكم كرمنشاه الامير محمد علي ميرزا قد اقتطعها من
العثمانيين في ١٨٢١. لقد جاب مندوب بريطانيا وفارس وروسيا كل نواحي الحدود إلى
الجنوب من المنطقة المذكورة حتى الحويزة وتعقبوا بالطريقة نفسها الحدود إلى الشمال
من زهاب حتى
__________________
ارارت الكبير والصغير
وانتهت رحلتهم في آب ١٨٥٢. وهكذا لم يستطع اللجنة المختلطة لتعيين الحدود خط فعلي
لحدود بين فارس والدولة العثمانية بسبب المعارضة المتعمدة من جانب المندوب
العثماني ولم تؤدِ استقصاءاتها التي دامت ثلاث سنوات الا إلى وضع خارطة لمناطق
الحدود عُين عليها شريط يتراوح عرضه ما بين ٢٥ إلى ٤٠ ميلاً ينبغي ان يسير في
داخله خط الحدود النهائي في المستقبل .
لقد ادى عدم تحديد خط الحدود إلى صدامات حدودية جديدة ولهذا فقد وقع في ١٨٦٩
مفوضون عن الدولة العثمانية وفارس وبمبادرة من روسيا وبريطانيا على بروتوكول يقضي
بالمحافظة على الوضع القائم على الحدود بين الدولتين إلى ان يتم تعيين خط الحدود
الذي كان يتأجل باستمرار ، نتيجة لعدم رغبة الدولة العثمانية في ان تنتهي مشكلة
الحدود نهائياً.
توافق انتهاء عمل لجنة الحدود مع صدور قانون
جديد للولايات تعززت بوجبه بعض الشيء سلطة الولاة الاقليميين بعد ان اقتنعت
الحكومة اخر الامر بضرر المركز الزائد عن الحد .
لقد اصبح موظفو الادارة المالية وكذلك المجالس الادارية في السناجق والاقضية بموجب
هذا القانون تابعين للوالي الذي اخضع له في الوقت نفسه البوليس والجندرمة فمكنه
ذلك بالارتباط مع اعادة سلطتة في تنفيذ احكام الموت التي تصدرها محاكم الاقاليم ، من
المحافظة على الامن والاستقرار بشكل جدي في المنطقة التي يديرها. وقد منح الوالي
بالاضافة إلى ذلك بعض الاشراف على نشاط القيادة العسكرية في الولاية بعد ان كانت
قبل ذلك
__________________
مستقلة تمام
الاستقلال عن الحاكم المدني ، ولم تكن الاجراءات باجمعها الا تدابير تمهيدية فقط
لاعادة تنظيم الولايات جّنرياً وهو ما حصل بموجب قانون ١٨٦٤ الذي اقر انتظيم
القائم في مختلف اقاليم الامبراطورية العثمانية.
وعلى الرغم من ان قانون ١٨٥٢ لم يعزز
سلطة حاكم العراق الا بمقدار ضئيل فقد اتيح لتأثيره الايجابي ان يظهر على الكفاح
الذي كان يخوضه ذلك الحاكم ضد الفوضى والاضطرابات التي شملت العراق في فترة تطبيق
المركزية الشديدة. لقد كانت اكثر العناصر قلقاً في هذه المنطقة هي القبائل العربية
طبعاً التي لم يعد الجيل الجديد من حكام العراق - بعد ان تحولوا إلى مجرد موظفين
لدى الباب العالي - بحاجة إلى تملقها كما كان يفعل الولاة السابقون شبه المستقلين
الذين لم يكونوا يستغنون عن اسناد القبائل في صراعهم مع الحكومة العثمانية. ولما
كان الولاة العراقيون ابتداءً من محمد رشيد باشا الكوزلكاي الذي اشغل هذا المنصب
في ١٨٥٢ وانتهاءً بتقي الدين باشا الذي بدأ حكمه للعراق في ١٨٦٧ تهمهم بدرجة لاتقل
عن الحكومة العثمانية ، المحافظة على النظام والهدوء في المنطقة التي يحكمونها
فانهم باشروا عملية تهدئة العشائر العربية بهمة كبيرة. وكان هؤلاء الولاة يستطيعون
بالاستناد إلى قوات الفيلق السادس في بغداد المدرية على النمط الاوربي والمسلح
بشكل افضل من العرب ان يقتصوا دون صعوبة ، من سكنة هذه المنطقة من القبائل العربية
التي لا تريد الخضوع للنظام العثماني الجديد طوعاً. وبالمقابل كان الولاة يمنحون
القبائل ، التي قبلت الخضوع ، كل حماية ممكنة ويسندون شيوخها بكل الوسائل
ويفوضونهم مهمة المحافظة على النظام والهدوء بين القبائل المجاورة لهم. وفي الوقت
نفسه لم تهمل اساليب التهدئة الاخرى فقد
قامت السلطات بنشاط
مكثف لتشجيع العشائر على الاشتغال بالزراعة ، وانشأت بنايات خاصة اقامت فيها مراكز
عسكرية لحماية طرق المواصلات الرئيسة ، وتعاقد محمد رشيد باشا الكوزلكلي في ١٨٥٥
على باخرتين لمكافحة «القراصنة» في الانهار ، وقد ساعدت هاتان الباخرتان كثيراً
على اشاعة الا من بالنسبة إلى الملاحة في انهار العراق.
والى جانب تهدئة القبائل العراقية
العصية كان يجري عمل ثقافي لنشر الحضارة الاوربية في هذه المنطقة ، وكانت الخطوة
الاولى في هذا السبيل هي اصلاح الملاحة النهرية التي كانت ، كالسابق بيد اصحاب
الزوارق العرب وكانت متأخرة جداً بحيث لا تفي بمتطلبات التطور اللاحق لتجارة
العراق. فقد انشأت حكومة الهند في هذا الوقت بالذات أي قبل ١٨٦٢ رحلات منتظمة
للبواخر بين الهند ومواني الخليج وكانت هذه الرحلات في البداية رحلة في كل ستة
اسابيع ، ثم اصبحت رحلة في كل شهر واخيراً اصبحت رحلة واحدة في كل اسبوعين.
وبالارتباط مع هذه التطورات أنشأ البيت التجاري الانجليزي في بغداد : C Stephen Lynch and
بموافقة الحكومة العثمانية سفرات منتظمة للبواخر بين البصرة وبغداد فقد انزل إلى
دجلة ، عوضاً عن الملاحة الانجليزية التي كانت قد توقفت في نهر الفرات ، باخرتين
هما : «لندن» و «دجلة» .
وقد اصبحت هاتان الباخرتان تقومان بعدة رحلات في الشهر تنقلان خلالها البريد
والمسافرين والبضائع ذات المنشأ الاجنبي والمحلي على السواء. ومن الناحية الاخرى
كانت الباخرتان «بغداد» و «البصرة» اللتان استوردهما الباشا محمد الكوزلكاي بهدف
__________________
مكافحة «قراصنة» الانهار
قد انهتا مهمتهما تلك فاستخدمها لمحمد نامق باشا والي بغداد آنذاك لاغراض تجارية.
وهكذا فقد قامت في دجلة منذ ١٨٦٢ مواصلات منتظمة ، لنقل البريد والمسافرين
والبضائع بين بغداد والبصرة ، حيث عملت أربع بواخر اثنتان منهما انجليزية واثنتان
عثمانيتان. وقد تم في ١٨٦٣ في عهد نامق باشا هذا تأسيس مدينة العمارة بهدف حماية
الملاحة من القبائل العربية القاطنة على ضفاف دجلة ، وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل
في الفصل الاول من هذا الكتاب .
وكانت المبادرة الحضارية الاخرى التي
اعقبت اصلاح الملاحة النهرية مباشرة هي ربط العراق مع اوربا والهند بخطوط للتلغراف.
لقد اصبحت بغداد منذ نهاية خمسينات القرن التاسع عشر على صلة مباشرة بالعاصمة
العثمانية بواسطة خط تلغرافي يمر عبر سكوتاري وسيواس وديار بكر. وقد مدد هذا الخط
في ١٨٦٤ إلى البصرة ثم إلى الفاو وهناك ربط التغراف العثماني بالهند بواسطة قابلو
مُدَ في قاع الخليج لقد مُدَ الخط التلغرافي الذاهب إلى البصرة براً حيث كان يتجه
من بغداد إلى كوت الامارة ثم العمارة فالقرنة بمحاذاة نهر دجلة. وقد مُدَ من
القرنة بعد مضي وقت قليل خط اخر هو خط الفرات الذي يذهب إلى سوق الشيوخ والناصرية.
وكان هناك ايضاً فرع اخر للخط التلغرافي يتجه من بغداد إلى خانقين الواقعة على
الحدود مع فارس وهناك يرتبط بخط التلغراف الذي يربط الهند باوربا عبر فارس والذي
يمر بكرمنشاه وهمدان وطهران ثم اصفهان وشيراز وبندر بوشهر .
وهكذا غطي العراق الجنوبي بشبكة من اسلاك التلغراف ادت إلى ربط هذه المنطقة
العثمانية التي كانت حتى
__________________
ذلك الوقت معزولة عن
بقية العالم ، باسطنبول وكذلك باوربا والهند الأمر الذي كان له أهمية كبيرة لا من
وجهة النظر السياسية فحسب بل من ناحية تأثيره الايجابي على تطور علاقات العراق
التجارية باسواق الهند واوربا.
لقد كان انشاء الملاحة في دجلة وبناء
خطوط التلغراف اضافتين ضروريتين للاجراء المهم الاخر الذي تم بموجب الاتفاقات
التجارية الجديدة التي عقدتها الدولة العثمانية مع الدول الاجنبية ابتداء من نيسان
١٨٦١ ونعني الغاء الضرائب الداخلية جميعاً. فقد عمد الباب العالي ، بعد ان حصل على
موافقة الدول على ذلك ، إلى رفع الضريبة المفروضة على البضائع الاجنبية المستوردة
من ٥% إلى ٨% من قيمة البضاعة والتزم في مقابل ذلك بالغاء جميع الحواجز والضرائب
الكمركية الداخلية أو ما يسمى بـ «قره كمرك» وهي ضرائب كانت تؤدي إلى فرض تكاليف
اضافية على البضاعة المستوردة تتراوح ما بين ١٥% - ٥٠% من قيمتها. وقد اعتبر هذا
الاجراء مفيداً للعراق الجنوبي بشكل خاص لان جباية الضرائب الداخلية فيه كانت في
الغالب تمنح بالالتزام للشيوخ العرب المحلين الذين كانوا يسببون للتجارة الكثير من
المضايقة .
وفي نفس الوقت الذي كان العراق الجنوبي
يشهد فيه انقلاباً حاسماً باتجاه الاصلاحات الحضارية كان السلطان الجديد عبدالعزيز
الذي خلف السلطان عبد المجيد بعد وفاته في حزيران ١٨٦١ يواصل اقتفاء اثر سلفه صاحب
الميثاقين العثمانيين الليبراليين المشهورين خطي شريف كلخانه وخطي همايون ، وكان
قانون الولايات لسنة ١٨٦٤ اولى مظاهر النشاط الاصلاحي للعهد الجديد. وقد اعطى
القانون المذكور لاقاليم الدولة
__________________
العثمانية المختلفة
التنظيم الذي ظل قائماً فيها منذ ذلك الوقت حتى الوقت الحاضر مع بعض التغييرات
الطفيفة وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في الفصل الثاني من هذا الكتاب .
وكان الاساس الذي قام عليه هذا القانون هو المبدأ الليبرالي القضائية والتنفيذية ،
فقد انيطت الاولى بمحاكم خاصة منتخبة مختلطة في حين منحت الثانية للولاة. وبعد ان
جربت القانون الجديد في ولاية الدانوب التي استحدثت خصيصاً لهذا الغرض من دمج
مناطق سيليستيريا وفيدين ونيش ، بدأ تنفيذه بالتدريج في ولايات الدولة العثمانية
المختلفة بحيث اصبح في ١٨٦٨ نافذاً في جميع انحاء الامبراطورية باستثناء اليمن
والعراق الجنوبي. وكان تنفيذه ي هذا الاخير من نصيب مدحت باشا الذي كان قد برهن
قبل ذلك بقليل على مقدرة ادارية متميزة وذلك بتجربته الناجحة لتطبيق هذا القانون
في ولاية الدانوب.
ولهذا فان هذه القضية لم تكن جديدة على
مدحت باشا عندما عين في بغداد عام ١٨٦٩ وانكب بحماس على اصلاح العراق جذرياً. وقد
سهلت له تنفيذ هذه المهمة لحد لا يستهان به الصلاحيات الواسعة التي منحته اياها
الحكومة التي لم تحجم حتى عن ان تجمع في يديه مجدداً للسلطتين المدنية والعسكرية
فعينته والياً للعراق وقائداً في الوقت نفسه للفيلق السادس في بغداد. وكان مدحت
باشا واضع دستور ١٨٧٧
واحداً من رجال الدولة الذين ينتمون إلى المدرسة الليبرالية والذين يناصرون «التنظيمات»
ويتحمسون لادخال الحضارة الاوربية الى الدولة العثمانية ، ولهذا فقد تميزت السنوات
الثلاث التي حكم فيها العراق بعدد كبير من
__________________
المبادرات الحضارية .
ونحن هنا لن ندخل في تفاصيل تطبيق مدحت
باشا لقانون الولايات لسنة ١٨٦٤ في العراق بل سنقتصر على الاشارة إلى الاصلاحات
الرئيسة التي جرت في روح القانون المذكور. لقد اسس مدحت باشا «محكمة نظامية» أي
محاكم جديدة منظمة وفق الاسس الاوربية واستحدث في بغداد والبصرة منصب «معاون» أي
نائب الوالي وكان يشغله شخص مسيحي وانشأ مجلس بلدية في المدن الرئيسة في العراق
واسس اغلبية المدارس المدنية والعسكرية القائمة في هذه المنطقة كما اسس اول جريدة
مطبوعة في العراق هي جريدة «الزوراء» التي اخذت تصدر في بغداد.
وكانت الاجراءات الموجهة لتطوير التجارة
في مقدمة المبادرات الاخرى التي قام بها مدحت باشا في العراق ، فقد أقام اتصالاً
بحرياً مباشراً مع كل من لندن واسطنبول عن طريق قناة السويس التي كانت قد افتتحت
قبل ذلك بقليل واشترى لهذا الغرض عدداً من سفن المحيطات القديمة وبدل اسماءها ثم
جعلها تعمل في الخطوط الجديدة تحت العلم العثماني ، وسعى في الوقت نفسه إلى تحسين
الملاحة العثمانية في نهر دجلة فأنشأ مصلحة خاصة سميت «عماني عصماني» (حرفها
الاوربيون إلى «اومان أو تومان») ووضع تحت تصرفها السفن العثمانية الخمس الموجودة
لديه ،
__________________
وهي السفينتان القديمتان
«البصرة» و «بغداد» ، والثلاث التي تعاقد عليها في ١٨٦٥ وهي : «الموصل» و «الفرات»
و «الرصافة». وكان في نيته ان يضيف اليها بضعة سفن جديدة اخرى لانه فكر بان يمدد
الملاحة البخارية في نهر دجلة إلى الموصل كما فكر بانشاء اتصال منتظم بواسطة
الوباخر بين بغداد وحلب عن طريق نهر الفرات الذي اجريت فيه لهذا الغرض اعمال الكري
والتصريف. غير ان المحاولتين كلتيهما لم يصادفا النجاح ولهذا فقد تحتم صرف النظر
عن مواصلة العمل في تعميق نهر الفرات وعن شراء بواخر نهرية جديدة. لكن مدحت باشا
حاول بالمقبل ان يحسن الملاحة في دجلة فانشأ لها ترسانة في البصرة وحوضاً جافاً في
ماركيل
أو كوت فرنجي ، الذي يقع على الضفة اليمنى لشط العرب على مسافة ستة فرستات إلى
الاعلى من البصرة.
ان همة الباشا العالي وطبيعته التي لا
تعرف الكلل جعلته شخصاً لا يعرف الراحة أو الهدوء ، لذا فانه لم يترك في اثناء
فترة حكمه للعراق أي ناحية من نواحي الحياة فيه دون أن يوليها عنايته ابتداءً من
طريق المواصلات وانتهاءً بالزراعة. لقد كان يسعى إلى ربط بغداد بواسطة طريق مريحة
بجميع العتبات المقدسة أي بكربلاء والنجبف وسامراء والكاظمين ولهذا فقد فكر ببناء
سكك حديد وحاول ان يثير اهتمام الشاه ناصر الدين نفسه بهذه المسألة عندما قام هذا
في ١٨٧٠ بزيارة إلى كربلاء والنجف ، حيث اقترح فتح النفائس الموجودة في مسجد النجف
وتقدير قيمة التحف
الموجودة فيه وبيعها في مزاد علني على ان تستخدم النقود المتأتية
__________________
من هذه العملية
لانشاء سكة حديد تمتد من خانقين إلى بغداد ومنها إلى كربلاء غير ان هذا الاقتراح
لم يجد قبولاً لدى رجال الدين .
ولهذا لم يتحقق ما كان مدحت باشا يحلم به من انشاء السكك الحديد في العراق ، ولكن
تحسين طرق المواصلات ادى إلى مَدْ خط للترامواي بين بغداد والكاظمين طوله سبعة
اميال قامت ببنائه شركة غير معروفة كانت مدينة بتأسيسها لجهود الباشا نفسه. ولم
تتميز باي نشاط اخر عدا الترامواي.
اما في ما يخص الزراعة فانها خطت في عهد
مدحت باشا خطوة كبيرة إلى الامام وكان ذلك بفضل ظرف عرضي ، ذلك ان مشاريع الباشا
المختلفة في هذه المنطقة كانت تتطلب مبالغ طائلة ولهذا فأنة كان يحتاج إلى المال
على الدوام فاستخدم كل ما يملك من مواهب للحصول عليه ، فمثلاً عندما ظهر ان
المبالغ التي حصل عليها من بيع الحبوب التي تجمعت في الخزينة نتيجة لضريبة العشر
التي تؤخذ عيناً ، غير كافية لتغطية المصاريف التي لا تحتمل التأخير ، امر مدحت
باشا بهدم الاسوار القديمة التي تحيط بمدينة بغداد وباع مواد البناء التي حصل
عليها من عميله الهدم هذه .
ومن الطرق الاخرى اتي استنبطها مدحت باشا للحصول على النقود هي بيع الاراضي
الخالية القليلة الايراد إلى اشخاص عاديين اذ قسمت إلى قطع صغيرة وبيعت للفلاحين
أو المزارعين من العرب بشروط مهاودة ، ولم تلبث مساحة الاراضي المزروعة في هذه
المنطقة ان اتسعت
__________________
بسبب ذلك واصبحت
المساحات الواسعة من الارض التي كانت في السابق خالية أو مستغلة كمراعٍ تغطيها
الان الحقول المزروعة أو بساتين النخيل.
ومع ذلك فان عمل مدحت باشا الاساس لا
يكمن في تحويل العراق إلى ولاية عثمانية على اساس قانون ١٨٦٤ ولا في المشاريع
الحضارية من النمط الاوربي التي نفّذها هناك ، بل في مواصلة ما كان قد بدأه اسلافه
من تهدئة قبائل العراق العربية بكل همة واصرار. وقد كانت النتائج التي تحققت في
هذا المجال محسوسة إلى درجة انها اعطت Lady Anne Blunt الرحالة
الانجليزية الجريئة التي زارت العراق في عام ١٨٧٨ اسساً لان تعبّر عن خشيتها من
انه لم يكون بعيداً ذلك اليوم الذي ستبعد فيه عشيرة عنزة البدوية عن الحدود
الشمالية للصحراء السورية وتتحول شمر إلى سكان مستقرين فيما بين النهرين وشمال
العراق .
بدأ مدحت باشا عمله في حل قضية العرب
بتجنيد عرب العراق فاخذ يرسل إلى مضارب العرب لهذا بعثات عسكرية لكي تجند البدو
الذين يرفضون الخدمة العسكرية بالقوة وتضمهم إلى الجيش. ولم يلبث التنكيل الشديد
الذي تعرض له هؤلاء ان ادى إلى القيام انتفاضة مكشوفة قام بها ابناء العشائر التي
تحرك مجندوها إلى بغداد واخذ السكان العرب في تلك المنطقة يستعدون لمساندة الثوار.
وقد قطع الباشا على الثوار طريق الوصول إلى المدينة وذلك بان امر بقطع الجسر الذي
يربط ضفتي دجلة في بغداد ثم قضى على المتمردين في المدينة بهجوم قامت به القوات
النظامية على محلة قنبر علي واستولى عليها بعد ان كان الثوار قد
__________________
احتلوها.
وانشغل مدحت باشا بدرجة من النشاط لا
تقل عن ذلك بتنظيم جباية الضرائب والالتزامات الحكومية من القبائل العربية التي
كانت تتهرب من دفع ضريبة العشر ومن تأدية الضريبة المفروضة على كل خيمة بكل
الوسائل الممكنة بما في ذلك رفع السلاح بوجه جباة الضرائب. ولم يكن مدحت باشا في
مثل هذه الحالات يتردد في اتخاذ اجراءات متطرفة ، فقد سار بنفسه على رأس حملة
تأديبية إلى الديوانية والدغارة عندم غار العرب على كتيبة ارسلها بقيادة احد
العقداء لجمع ضريبة العشر وقضوا عليها فتغلب على القبائل المسؤولة عن الحادث والقى
القبض على شيوخها وقدمهم إلى محكمهم عسكرية حكمت عليهم بالموت جميعاً ونفذ الحكم
فيهم على الفور.
وبعد ان نجح مدحت باشا لدرجة لا يستهان
بها فيحل مسألة تنظيم جباية الضرائب والاتاوات المفروضة على القبائل العربية وهي
مسألة صعبة ، قرر ان ينتهي بضربة واحدة من عشيرة شمر جربة التي كانت تنتقل في
المنطقة الواقعة إلى الشمال من بغداد وتشكل خطراً دائماً على الهدوء والنظام في
العراق. وقد اعتقد مدحت باشا بان من الضروري له ان يضمن تأييد اعداء شمر اللدودين
ونعني عرب المنتفق قبل ان يبدأ بتنفيذ الخطة التي اضمرها ، فسعى ، من اجل ذلك إلى
ان يجلب شيخهم ناصر السعدون إلى صفّه واستطاع ان يقنع الباب العالي بتعيين الشيخ
المذكور متصرفاً لسنجق المتنتفق الحالي الذي فصل عن باشوية بغداد خصيصاً لهذا
الغرض وبمنحة رتبة باشا. وقد رحب شيخ المنتفق بالتحالف مع مدحت باشا لانه كان
مدفوعاً بكرهه الشخصي وتنافسه مع شيخ شمر جربة عبد الكريم ابن الشيخ صوفك الشهير
في حينه بالاضافة إلى العدد بين المنتفق
وشمر جربة .
لقد اشتهر شيخ شمر الشاب بانه بطل حقيقي من الطراز العربي وكان يتمتع بشعبية واسعة
وحب كبير لا من جانب ابناء عشيرته فقط بل من لدن القبائل العراقية الاخرى ايضاً
وذلك لما كان يتصف به من كرم زائد وشهامة عالية وشجاعة نادرة. وقد استندت سلطة عبد
الكريم على الشمريين على هذه الصفات كلياً وعلى سحره الشخصي ذلك ان الحكومة
العثمانية لم تعترف به شخصياً لشمر بل ان الشيخ الذي خلف صفوك من الناحية الرسمية
كان ابنه الاخر فرمان الذي تربى بـ «شريعة مكتبي» وهي مدرستة خاصة انشأت في
اسطنبول خصيصاً لابناء الذوات العرب ولا سيما الشيوخ منهم. ولهذا فان العلاقات بين
عبد الكريم والسلطات العثمانية في بغداد كانت تتميز بالبرود اذا لم نقل انها كانت
عدائية ، بالرغم من ان عبد الكريم كان يتجنب جاهداً كل ما من شأنه ان يوفر لتلك
السلطات حجة لا تهامه بالعصيان المكشوف.
وكان من الطبيعي ان يجذب تقارب شيخ
المنتفق ناصر مدحت باشا انتباه عبد الكريم الذي قدر على الفور الخطر الذي يتهدده
من جانب هاذين الحليفين. ولكي يتلافى نوايا الحليفين قرر عبد الكريم القيام بخطوة
يائسة فقد فكر بان يقوم بالغارة بشكل مفاجئ على كل من بلدة الدير الواقعة على
الفرات وعلى الموصل وبغداد في آن واحد ولهذا فقد قسم قواته إلى ثلاثة فصائل قام هو
بقيادة احدها وتوجه به نحو بغداد .
وكان مدحت باشا الذي كان والي ديلر بكر قد نبهه إلى تحركات شمر المريبة في الوقت
المناسب ، قد استعد للمجابهة فتحطم الفصيلان الذان توجها إلى
__________________
الموصل والدير
كلاهما. اما عبد الكريم نفسه فقد دُفِع وانصاره باتجاه المنتفق وهناك هاجمهم ناصر
باشا الذي كان بأنتظارهم فأسر عبد الكريم بعد ان جرح في المعركة ثم ارسل إلى مدحت
باشا ، وقام هذا بدوره بارسال هذا الشيخ السئ الحظ إلى الموصل لمحاكمته هناك فحوكم
من قبل محكمة عسكرية قضت باعدامه فصلب فوراً وعلق على الجسر القائم على نهر دجلة
ليكون عبرة لغيره من العرب المتمردين ، اما شيخ شمر السابق فقد حصل على لقب باشا
وراتب سنوي مقداره ٠٠٠ر٣٠ روبل واخذ على عاتقه مسؤولية المحافظة على الهدوء بين
شمر وسكن في قلعة الشرقاط خصيصاً لكي يحبب ابناء عشيرته في زراعة الارض على ضفاف
دجلة.
لقد انتهى بتهدئة شمر جربة العمل الاساس
لمدحت باشا في مجال اخضاع عرب العراق بشكل تام للنظام العثماني الجديد واصبح
بامكانه ان يفكر بنشر سلطة الدولة العثمانية على القبائل البدوية التي كانت تنتقل
في الصحراء السورية إلى جوار العراق. وكانت الخطوات الاولى في مجال حماية وادي
الفرات من غارات القبائل البدوية قد اتخذت منذ ١٨٦٢ ، فقد سار عمر باشا والي حلب
انذاك هابطاً مع الفرات فأحتّل المدينتين الوحيدتين اللتين كان يسكنهما سكان
دائميون ونعني جابر والدير ووضع فيهما حاميتين عثمانيين. وقد اتخذت الدير مقراً
لمتصرف دير الزور التابع لحلب وتم بناء عدد من القلاع على طول النهر بين الدير
وحلب وقد امنت هذه القلاع للدولة العثمانية السيطرة على وادي الفرات الاعلى .
وجاء مدحت باشا فاتم هذا المشروع ووضع وادي الفرات الاوسط تحت سيطرة
__________________
الدولة العثمانية
وذلك ببناء عدد اخر من القلاع على الطريق من دير الزور إلى بغداد في مواضع عانة
والرمادي وغيرها.
كان المشروع السياسي التالي لمدحت باشا
هو جعل شيخ الكويت تبعاً للسلطان. ويذكر ابن مدحت باشا علي حيدر مدحت بيك في
الكتاب الذي اصدره عن حياة ابيه
ان احد الولاة الذين سبقوا مدحت وهو محمد نامق باشا جرب ان يخضع الكويت لسلطته
ويجبر سكانها على دفع الضرائب إلى الخزينة العثمانية غير ان هذه المحاولة لم تنجح
انذاك فاحتفظ الشيوخ هناك باستقلالهم وواصلوا استخدام عملهم الخاص. وقد تمكن مدحت
باشا من الاتفاق مع الكويتيين فاعترفوا بسيادة السلطان وقبلوا بالعلم العثماني
كعلامة على خضوعهم بشرط ان يحتفظوا بوضع شبه مستقل وان تبقى السلطة الادارية بايدي
شيوخهم. وبعد ان قبل الباب العالي بهذه الشروط اصبح الكويت سنجقاً من سناجق ولاية
بغداد وظل كذلك إلى ان انفصلت ولاية البصرة عن ولاية بغداد في ١٨٨٣ فاصبح الكويت
من ضمن ولاية البصرة ولكن في هذه المرة كقضاء صغير من أقضية سنجق البصرة.
لقد ادى اخضاع الكويت سلمياً وضمه إلى
باشوية بغداد إلى ان تمتد حدود هذه الاخيرة إلى منطقة القطيف وواحة الاحساء التي
تتاخمها مباشرة. وكانت هذه المنطقة كما يشهد التاريخ تعود منذ القديم إلى الدولة
العثمانية حتى انه كان هناك محافظون عثمانيون على شكل متصرفين .
ولكن الصلة بين الممتلكات العثمانية الاصلية وهذه المنطقة التي يفصلها
__________________
عن العراق الخليج
وصحاري يصعب اجتيازها كانت ضعيفة على الدوام ولهذا فانها كانت تنفصل عن الدولة
العثمانية بسهولة بمجرد ان تسنح الفرصة لذلك. وهكذا فمع ظهور الوهابيين في شبه
جزيرة العرب خرجت الاحساء من سلطة الدولة العثمانية وخضعت لهم على الفور. اما مدحت
باشا فلم يكن بامكانه ، بعد النجاحات التي حققها في اخضاع عرب العراق مد سلطة
الدولة العثمانية إلى الكويت ، الا ان يحاول استعادة الاحساء للدولة العثمانية.
وقد ساعدت الباشا في تلك ظروف ملائمة يحتم علينا ايضاحها ان نعود إلى الماضي بعض
الشيء لنتعقب باقتضاب تاريخ نجد منذ ان انهارت سلطة الوهابيين تحت ضربات القوات
المصرية.
بعد ان اجتاح ابراهيم باشا ابن حاكم مصر
محمد علي باشا الدرعية عاصمة الوهابيين في ١٨١٨ وبعد اعدام الامير عبد الله بن
سعود في اسطنبول في السنة ذاتها لم يعد اتباع عبد الوهاب في حالة تمكنهم من مد
سلطتهم خارج حدود شبة جزيرة العرب. ولكنهم تمكنوا مع ذلك من الاستفاقة بسرعة. فبعد
ان احتلت حاميات مصرية جميع ممتلكات الوهابيين ابتداءً من نجد وانتهاءً بالاحساء
وضمت هذه الممتلكات من الناحية العملية إلى مصر لم تلبث الوهابية ان أخذت تنتعش
مرة اخرى تحت زعامة الامير تركي وهو ابن عبد الله الذي اعدم في اسطنبول .
وقد
__________________
احس الوهابيون الذين
اتفقوا حول هذه الشخصية ذات الشعبية منذ ١٨٢٢ بانهم قد شفوا من الضربة التي وجهت
اليهم إلى الدرجة التي دفعتهم إلى القضاء على الحامية المصرية في بلدة الرياض التي
قامت على انقاض الدرعية .
واخذت الحركة التي شجعها هذا النجاح بالاتساع إلى ان تحولت في ١٨٢٤ إلى انتفاضة
حقيقية انتهت بطرد الحاميات المصرية من وسط شبه الجزيرة العربية واعلان تركي بن
عبدالله اميراً لنجد. وقد افلح الحاكم الوهابي الجديد في التصالح مع والي مصر بعد
ان اظهر له الطاعة ووافق ، من اجل ان يؤكد تبعيته له ، على ان يدفع لمصر جزية غير
كبيرة . وهكذا باشر تركي بن
عبد الله الذي لم يعد يشعر بالقلق من جانب المصريين ، باستعادة ممتلكات ابيه فاعاد
في فترة قصيرة من الزمن اخضاع وسط شبه جزيرة العرب باجمعه ثم استولى على الاحساء
واجبر عُمان وساحل الخليج الفارسي كله ابتداءً من رأس الحد وانتهاءً بالكويت على
الاعتراف بسيادته ودفع الجزية له. وقد قتل تركي بن عبد الله في ١٨٣١ على يد ابن
اخته مشاري الذي لم يستطع. مع ذلك ، ان يرث السلطة التي اشتراها بالجريمة ، لانه
لم يلبث ان قتل على يد فيصل ابن القتيل تركي .
وهكذا خلف فيصل أباه تركي ولكنه لم ينتهج السياسة الحكيمة التي سار عليها ابوه
تجاه مصر فهو لم يرفض مساعدة المصريين في صراعهم مع العثمانيين فحسب بل توقف عن
دفع الجزية لهم. لهذا فقد توغل في ١٨٣٨ جيش مصري في نجد مرة اخرى وتغلب على قوات
فيصل بن
__________________
تركي بالقرب من
الرياض وعين خالداً وهو ابن مشاري الذي سبق ذكره اميراً لنجد. اما فيصل فقد هرب
إلى الاحساء ثم غادرها بعد ان احتلتها القوات المصرية ، إلى قطر وهناك قبض عليه
وارسل اسيراً إلى القاهرة. وهكذا عادت السلطة المصرية على ممتلكات ابناء سعود
ولكنها لم تعمر اكثر من سنتين لان الحاميات المصرية سحبت من وسط شبه الجزيرة
العربية بعد حلول الصلح بين محمد علي والسلطان وظل خالد حاكماً لنجد بصفة والي
عثماني .
وقد استمر حكم خالد هذا إلى ان طرده من الرياض في ١٨٤٢ ابن عمه عبد الله بن سليمان
الذي تحتم عليه في السنة التالية ان يتنازل عن السلطة بدوره لفيصل بن تركي الذي
كان قد تمكن من الهرب من سجنه في القاهرة ، فاعلن اميراً لنجد مرة اخرى. وقد احتفظ
فيصل بهذا اللقب حتى وفاته في ١٨٦٥ واستطاع خلال حكمه الطويل ان يعيد فرض سلطته
على جميع المناطق التي كانت تابعة لابيه بما في ذلك الاحساء وعُمان. كما انه حاول
الاستيلاء على ارخبيل البحرين مرتين ولكن الاسطول الانجليزي الذي كانت حكومة الهند
ترسله إلى مياه البحرين في كل مرة يحاول فيها الاستيلاء على مملكة اللآلئ هذه ، منعه
من تحقيق ذلك في المرتين. لقد اصيب فيصل في السنوات الاخيرة من حكمه بالعمى واصبح
الحاكم الفعلي للامارة ابنه عبد الله الذي خلف اباه ولكن اخاه سعود لم يشأ ان يخضع
له طوعاً فلم يلبث ان شب بين الاخوين صراع عنيف وطويل حول السلطة انتهى في ١٨٧١
بالنصر النهائي لسعود .
اما عبد الله فقد اضطر إلى الهرب من نجد ولجأ إلى والي بغداد القوي
__________________
مدحت باشا ، ولم يدع
الوالي هذا الفرصة التي سنحت له لاستعادة الاحساء إلى سلطة الدولة العثمانية تفلت
من يده ، فبادر إلى تعيين عبد الله قائمقام لنجد باسم السلطان وجهز حملة كبيرة
تظاهر بان الغرض منها هو تثبيت عبد الله في منصبه الجديد. وقد نزل الجيش العثماني
الذي كان يتألفم ن ٥٠٠ مقاتل من القوات النظامية بقيادة حافظ باشا في القطيف في
حزيران ١٨٧١ في نفس الوقت الذي ذهب فيه عبدالله إلى نجد حيث جمع انصاره واغاربهم
على اخيه سعود ولكن الفشل كان نصيبه فهرب مرة اخرى إلى الاحساء تحت حماية القوات
العثمانية. ومع ذلك فان سعود لم يستطع ان يتصدى للعثمانيين بسبب ظهور منافس جديد
له في الرياض نفسها وهو عمه عبد الله بن تركي الذي تغلب في نهاية الامر على سعود
واجبره على الهرب إلى شبه جزيرة قطر .
وهكذا لم يصادف جيش بغداد اية مقاومة فاحتل القطيف في البداية وانطلق منها نحو
الاحساء فاحتل الهفوف - المدينة الرئيسة فيها ثم الحق اقليم الاحساء مرة اخرى
بممتلكات السلطان ونصب لادارته القائد العام لقوات الحملة العثمانية حافظ باشا
واصبح لقبه الرسمي : متصرف نجد. اما مدحت باشا الذي اتم بنجاح تام مهمته في تطبيق
الاصلاحات في العراق ووسع لدرجة لايستهان بها من مساحة باشوية بغداد بضم الاحساء
اليها فقد انعم السلطان عبد العزيز عليه بسيف مرضع بالماس منقوشة عليه كلمة «نجد» ثم
لم يلبث ان استدعى من بغداد ليشغل مناصب اعلى في الامبراطورية.
وقد راى رؤوف باشا بعد ان تسلم منصبه
خلفأ لمدحت باشا في ولاية بغداد مباشرة ان من الممكن الموافقة على عودة سعود بن
فيصل
__________________
وكان مايزال يعيش في
قطر إلى نجد بعد ان التزم بارسال اخيه عبد الرحمن رهينة إلى بغداد. وقد عاد سعود
بالفعل إلى الرياض في نفس تلك السنة أي في ١٨٧٢ فطرد عمه عبدالله بن تركي الذي لجأ
إلى الكويت ، واتخذ زمام الحكم بيده مرة اخرى وظل اميراً انجد إلى ان توفي في ١٨٧٤
اما اخوه عبد الرحمن الذي كان طيلة هذا الوقت رهينة في بغداد فقد توجه بعد ان اطلق
سراحه إلى الاحساء التي كانت قد حصلت فيها تغيرات جذرية اذ سحبت القوات النظامية
العثمانية منها في ١٨٧٣ واعطيت ادارة الاقاليم لبزيع بن عريعر شيخ قبيلة بني خالد
الصديقة واصبح هذا الشيخ الحاكم العثماني هناك .
وقد استغل عبد الرحمن عدم شعبية هذا الحاكم وافراد «ضبطيته» العثمانيي ، فحرض
عليهم القبائل البدوية المحلية فبادرت هذه القبائل إلى محاصرة صنيعة العثمانيين
هذا في مقره في الهفوف. ، وقد ارسل شيخ المنتفق المشهور ناصر باشا لنجدة المحاصرين.
وكما حصل في اثناء الحملة الاولى على الاحساء وضع شيخ الكويت سفنه تحت تصرف
العثمانيين فنقل عليها ناصر باشا قواته إلى ساحل الاحساء ومن هناك وصل زحف الهفوف.
وقد جرى تحرير المدينة من مسلحي البدو الذين يحاصرونهم دون صعوبة تذكر ، اما مسبب
الانتفاضة نفسه فقد هرب إلى الرياض واستطاع ان يستولي على السلطة فيها ولكنه اضطر
ان يتخلى عنها في بداية ١٨٧٥ لاخيه الاكبر عبد الله الذي كان قد عاد إلى الوطن
لتوه بعد محاولات فاشلة قام بها للاستقرار في نجد بمساعدة العثمانيين. .
اما الاحساء التي ظلت كالسابق تحت ادارة
شيخ بني خالد فقد
__________________
اصبحت في ١٨٧٨ - ١٨٧٩
مسرحاً لانتفاضة جديدة اشعلها ابناء امير نجد الراحل سعود الذين ارادوا اقتطاع هذا
الاقليم من الدولة العثمانية ، فحاصروا القطيف من البر والبحر. وقد جرى اخماد هذه
الانتفاضة ، مثل سابقتها بسرعة بواسطة قوات عثمانية ارسلت من العراق ، وبعد ان تم
ذلك عين للاحساء حاكم عثماني برتبة متصرف ووضعت في مدينتي الهفوف والقطيف حاميتان
عثمانيتان
، وهكذا اتخذ سنجق الاحساء أو سنجق نجد شكله الحالي نهائياً. اما فيما يتعلق
بالجزء الثالث من السنجق المذكور ونعني شبه جزيرة قطر فانه انضم إلى الممتلكات
العثمانية في ١٨٧١ ايضاً أي في نفس الوقت الذي جرى فيه الاستيلاء على الاحساء
والقطيف ، فقد وضع حاكم قطر الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني في السنة المذكورة نفسه
طوعاً تحت حماية الدولة العثمانية التي بادرت إلى تعيينه قائمقاماً من قبلها ووضعت
في البدع
عاصمة قطر حامية عثمانية .
ومع ذلك فان الدولة العثمانية ، حتى بعد
ان رسخت اقدامها في الزاوية الشمالية الشرقية ، من شبه جزيرة العرب لم تكن تستطيع
الاطمئنان إلى ان ممتلكاتها في الجزيرة العربية بل وحتى العراق ستكون بمنأىً عن
تطاولات امراء نجد من سلالة ابن سعود. ولكي تحل هذه القضية كان من الواجب عليها ان
تقضي على استقالال نجد وتمحو سلالة الوهابية المعادية لها محواً تاماً. ولما كان
من غير الممكن ، من الناحية الطبيعية ، التوغل في شبه الجزيرة نفسها فان كلّ جهود
الباب العالي تركزت منذ ذلك الوقت
__________________
باتجاه جذب اسرة ابن
رشيد الجديدة إلى صفها ، وهي اسرة ظهرت على مسرح التاريخ في نجد فجأة واصبحت بسرعة
نداً في القوة والجبروت لابناء سعود.
ولد مؤسس الاسرة النجدية الجديدة المدعو
عبد الله بن رشيد في حائل وهي المدينة الرئيسة في جبل شمر الذي يؤلف احد مناطق نجد
حيث يحتل الزاوية الشمالية الغربية منه وقد ساعد عبد الله على الشهرة حادث سعيد
ملخصه انه كان يخدم عند الامير تركي عندما قتل تركي هذا على يد ابن اخته مشاري
فانضم ابن رشيد إلى فيصل ابن القتيل تركي واستطاع ان يطعن قاتل سيده بيده ، فاستدعى
هذا العمل امتنان فيصل بن تركي فبادر إلى تعيين عبد الله بن رشيد بعد ان اصبح
اميراً لنجد حاكماً لموطنه جبل شمر في ١٨٣٥. وكان الحاكم هناك منذ فترة طويلة هو
ابن علي
من قبيلة تميم الذي اصبح بعد تدمير الدرعية واضمحلال قوة الامراء الوهابيين
مستقلاً تماماً لا يعترف بسيادة آل سعود الا اسمياً. وقج تمكن عبد الله بن رشيد
بمساعدة فيصل بن تركي من طرج آل علي من جبل شمر واجبر السكان على الخضوع لسلطته.
وقد تظاهر الحاكم الجديد بانه تابع مطيع لفيصل واستغل حمايته واسناده فارتفع نجمه
بسرعة وغدا في محله من الوقت اميراً في حائل يضاهي حاله حال ممثل سلالة آل سعود في
الرياض
وقد توفي عبد الله بن رشيد في ١٨٤٦ فواصل وريثه
__________________
(طلال) سياسة ابيه
بمهارة وكان في واقع الحال حاكماً لجبل شمر مستقلاً تمام الاستقلال عن الرياض. غير
ان طلال هذا اصيب بمرض عُضال لا يُرجى شفاؤه فاطلق النار على نفسه في ١٨٦٧ ، فانتقلت
السلطة إلى اخيه (متعب) الذي لم يلبث ان قتل بعد سنة من ذلك على يد ابناء اخيه
طلال فاخذ احدهم وهو بندر زمام الحكم بيده .
وفي هذه الاثناء كان محمد الابن الاصغر
لعبد الله بن رشيد يعيش في الرياض رهينة في بلاط آل سعود وكان منذ وقت طويل يتحين
الفرصة المناسبة لاستعادة إرث ابيه وقد استغل مقتل متعب غدراً لتحقيق نواياه
الطموحة هذه حيث سار ، بموافقة امير نجد انذاك عبد الله بن فيصل ، إلى حائل ومعه
فصيل من المتطوعين وقتل ابن اخيه بندر بيده ثم اعدم اخوته الخمسة واعلن نفسه في
١٨٦٨ اميراً لجبل شمر .
لقد حصل مع استيلاء محمد بن عبد الله بن
رشيد على الحكم انقلاب جذري في مصير هذه الاسرة التي تحولت من الخضوع لابناء سعود
تحكم باسمهم احدى مناطق نجد فقط ، إلى اسرة حاكمة تشمل سلطتها وسط شبه جزيرة العرب
باجمعه. لقد قرر امير حائل الجديد ان يعمل بشكل خفي غير ملحوظ على انتقال نجد
باجمعها إلى يده ولهذا فانه عمل بهمة وبدون كلل وطيلة ثماني عشرة سنة على ان يوجد
لنفسه حلفاء وانصاراً فجذب إلى صفه بالهدايا الثمينة والكرم الزائد البدو وعزز
سلطته بحكم صارم ولكنه عادل ، وما كان بامكان هذه السياسة ان تغيب عن اهتمام آل
سعود ، لذا فقد حصلت في ١٨٨٢ وفي السنة التي تلتها
__________________
صدامات عدائية بين
عبد الله بن فيصل وتابعه الاسمي الذي اصبح معروفاً اكثر باسم ابن رشيد ، لكن ابن
رشيد كان يعتقد بان فرصته لم تحن بعد ولهذا فانه احجم عن توتير علاقاته مع الرياض .
واخيراً حلت اللحظة التي انتظرها ابن
رشيد طويلاً ليضع يده على نجد بأسرها ، ففي ١٨٨٦ اطاح ابناء أخ عبد الله بن فيصل
بعمهم وألقوه في السجن ثم اعلن اكبرهم وهو محمد بن سعود نفسه حاكما للرياض ، فبادر
ابن رشيد ، كأي تابع مخلص ، إلى التحرك نحو الرياض واعدام جميع ابناء سعود
باستنثاء اصغرهم عبد العزيز الذي نقله إلى حائل ثم اطلق سراح عبد الله بن فيصل
واعاد اليه لقبه اميراً لنجد ولكنه اخذه معه إلى حائل ونصب أحد صنائعه حاكماً
للرياض. وهكذا انتهى استقلال اسرة ابناء سعود واستبدال علمهم الاحمر والابيض في
وسط شبه الجزيرة العربية بعلم آل رشيد الاخضر الفاقع .
ولم تحل سنة ١٨٨٩ وهي السنة التي توفي فيها عبد الله بن فيصل الذي سمح له ابن رشيد
فيما بعد إلى الرياض الا وكانت سلطة امير حائل قد جرى الاعتراف بها لا في نجد وحدها
بل في الصحراء باجمعها من حدود سوريا إلى النفوذ ومن وادي الفرات حتى حدود اليمن
وعمان. ومع ان عبد الرحمن بن فيصل وهو اخو عبد الله الراحل قام في ١٨٩٠ بمحاولة
لاحياء اسرة آل سعود وتمكن من طرد صنيعة ابن رشيد من الرياض ، الا ان نجاحه هذا
كان قصير الامد اذ لم يلبث حاكم وسط الجزيرة العربية القوي ان أخمد الانتفاضة
بسرعة وأخضع الرياض مجدداً .
__________________
لقد وجهت الدولة العثمانية التي لم تتخل
عن نيتها في التغلغل في نجد اهتمامها وتعاطفها نحو ابن رشيد لانها وجدت فيه حليفاً
لها في المستقبل في تحقيق نواياها التوسعية. وراى امير نجد من جانبه فائدة له في
اقامة علاقات صداقة مع السلطان. ولم يقتصر ابن رشيد على مجرد إعلان صداقته للسلطان
، وانما وافق على ان يكون تابعاً له ودفع لبعض الوقت جزية غير كبيرة لشريف مكة
علامة على خضوعه لـ «خليفة المسلمين». ولكن ابن رشيد تحرر من هذه الجزية بسرعة لان
الحكومة العثمانية عقدت معه اتفاقية خاصة التزم بموجبها بحماية قوافل الحجاج
المتوجهة إلى مكة عبر ممتلكاته والتزمت الحكومة العثمانية بان تدفع له مقابل ذلك
٠٠٠ر٤٠ روبل في السنة. وقد توفي محمد بن عبد الله بن رشيد في ١٨٩٧ تاركاً وراءه
ذكرى شيخ عادل كريم ومضياف إلى ابعد الحدود.
لم يترك امير حائل الذي طبقت شهرته شبه
جزيرة العرب باجمعها خلفاً له لذا فقد ورثه ابن اخيه عبد العزيز بن متعب الذي كان
يختلف عن عمه المشهور في الكثير من الامور. وقد قدر لعبد العزيز هذا ان يدخل في
علاقات صداقة وثيقة جداً مع السلطات العراقية ذلك ان خطراً مشتركاً كان يوحد امير
حائل الموجود بعيداً في قلب شبه الجزيرة والباشوات العثمانية الذين حكموا العراق ،
هو الخطر الذي يمثله شيخ الكويت مبارك بن صباح. فقد وفّر مبارك هذا ملجأ عنده لعبد
الرحمن بن فيصل ممثل اسرة آل سعود الذي هرب من الرياض في ١٨٩٠ بعد الانتفاضة
الفاشلة التي قام بها ضد محمد بن رشيد. وعبد الرحمن هذا هو الذي كان في يوم ما
رهينة محتجزة في بغداد وهو المسؤول ايضاً عن الانتفاضة التي قامت ضد العثمانيين في
الاحساء عام ١٨٧٤. ولهذا فقد ادرك ولاة العراق الخطر
الذي يمثله وجود مثل
هذا الامير المشاغب في الكويت على قرب مباشر من البصرة سيما انه ينتمي إلى آل سعود
زعماء الوهابية واعداء الدولة العثمانية الآلداء. وفضلاً عن ذلك فان مما يزيد من
مخاوف الباب العالي من لجوء أخصم بن رشيد ، حليف السلطان وتابعه ، إلى مبارك شيخ
الكويت هو ان صلة الكويت نفسها بالدولة العثمانية لم تكن راسخة ابداً.
ومع ذلك فان مبارك بن صباح لم يُعطِ حتى
بداية القرن العشرين حجة للعثمانيين وحليفهم ابن رشيد لان يعدوه عدوهم الصريح.
وفضلاً عن ذلك فانّ ممثلي الاسرة السعودية عبد الرحمن بن فيصل وابن اخيه عبد
العزيز بن سعود
عاشا في الكويت بعد ان لجا اليها ، هادئين بحيث اظهر انه ليس في نيتهما احياء سلطة
آل سعود في وسط الجزيرة العربية. ولم يظهر خطأ هذه الافتراضات الا في ١٩٠٠ عندما
تحرك مبارك بن صباح على رأس قواته إلى نجد وهدفه اعادة السعوديين إلى هناك. وقد
حالف الجيش الكويتي النجاح في البداية فاستولى على الرياض ومنها انطلق مبارك
الظافر نحو حائل عاصمة ابن رشيد ولكن ما ان قطع ١٢٠ فرستا
حتى تصدت له في موضع يقال له : بريدة ، قوات ابن رشيد التي احرزت على الكويتين
نصراً حاسماً إلى درجة انه لم ينقذهم من الفناء التام الا الاسراع بالهرب على
الجمال حتى ان كل ستة منهم كانوا يتمتطون
__________________
جملاً واحداً .
لقد كانت النتيجة الطبيعية لهذا العداء
الصريح من جانب شيخ الكويت هي رغبة رشيد في تلقين مبارك درساً قاسياً لكي يقضي على
اية رغبة لديه في مساعدة ابن سعود الذي لم يكن من اقربائه أو انسبائه. وهكذا بدأ
ابن رشيد استعداداته للقيام بحملة إلى الكويت واستطاع ان يجذب حلفاء العثمانيين إلى
صفه في هذه المنطقة ، لانه ادرك بان حملته لكن يكتب لها النجاح دون اسناد من
الاسطول العثماني وذلك لاحتمال ان يلجأ الكويتيون إلى التخلص من عدوهم باللجوء إلى
سفنهم الكثيرة والذهاب بها إلى عرض البحر. وقد انتهت استعدادات الحليفين في ١٩٠١ ،
غير ان الهجوم المشترك الذي كان ينويان القيام به من البر والبحر في آن واحد بحيث
يهجم جيش ابن رشيد من البر في حين يقوم الاسطول العثماني بهجومه من البحر ، لم
يُقدر له ان يتم لان عمارة انجليزية قوية احتلت خليج الكويت في الوقت المناسب ونزل
بحارتها إلى البر لمساعدة مبارك على اتخاذ التدابير الضرورية لحماية المدينة من
جهة البر .
وهكذا فعندما وصلت السفينة العثمانية «زحاف» محملة بالقوات إلى خليج الكويت اضطرت
إلى الانسحاب على الفور فسارعت سلطات بغداد إلى اخبار اسطنبول بان شيخ الكويت
مبارك بن صباح قد وضع نفسه تحت حماية بريطانية العظمى. وهذا هو في الواقع اصل «المسألة
الكويتية» المشهورة التي اهتمت بها في حينه صحف العالم اجمع والتي جرى حلها فيما
بعد على اساس موافقة الدولة العثمانية على المحافظة على الوضع
__________________
القائم في الاراضي
الكويتي.
لقد كانت هذه الاحداث نقطة تحول في مصير
كل من اسرة آل رشيد واشرة آل سعود ففي الوقت الذي خان فيه الحظ الاسرة الاولى
نهائياً على ما يبدو لمع نجم الثانية مجدداً بعد ان كان قد خمد ، فقد استطاع عبد
العزيز
وهو الوحيد الذي ظل على قيد الحياة من ابناء الامير سعود ، ان يستولي في ١٩٠٤
باسناد من الكويت وبمساعدة عمه عبد الرحمن لاعلى الرياض عاصمة اسلافه فحسب ، بل
على قسم كبير من نجد ايضاً بحيث لم يبق لال رشيد نجاحاً يذكر فحتى حملة «المشير» قائد
الفيلق السادس في بغداد المارشال فيضي باشا نفسه كان مصيرها الفشل .
الى هنا يكون عرضنا لتاريخ العراق وجزئه
الاساس ولاية البصرة قد انتهى وهنا نسمح لانفسنا بان نقول باننا لم نطمع في ان
نقدم عرضاً تاريخياً يبلغ حد الكمال بل ان هدفنا كان يقتصر على جمع كل المادة
المتعلقة بتاريخ المنطقة التي تهمنا والمبعثرة على شكل نتف متفرقة في الكتب
المختلفة في كل موحد وعرضها بالتتابع والترابط مع بعضها. ان مثل هذا العرض الموحد
لاحداث تاريخ العراق المتقطعة عن بعضها هو على حد علمنا او تجربة في الكتابة
التاريخية ، ولهذا فاننا نرجو القارىء ان يكون متسامحاً تجاه محاولتنا هذه للتأمل
في سير الاحداث التاريخية في هذه المنطقة العثمانية النائية.
__________________
الفصل
العاشر
كان افتتاح السويس ايذاناً بدخول تجارة
الخليج الفارسي ولا سيما تجارة العراق في المرحلة المعاصرة لنا من مراحل تطورها ، فالخليج
الفارسي لم يكن قبل ربط البحر المتوسط بالبحر الاحمر يمثل حلقة الوصل الرئيسة بين
اوربا من جهة وفارس والعراق من جهة اخرى ، ذلك ان هذين القطرين ضلا كالسابق يحصلان
على المنتجات الاوربية بواسطة طرق القوافل ، علماً بان الطريق التقليدي لاتصال العراق
بالغرب وهو وادي الفرات الذي كانت القوافل التجارية تسلكه إلى بغداد مروراً بحلب.
لقد قصرت قناة السويس الطريق البحري السابق الذي يدور حول رأس الرجاء الصالح إلى
الثلث تقريباً فقللت تبعاً لذلك كلفة النقل البحري الامر الذي ادى إلى تنقل
التجارة الاوربية مع العراق وفارس إلى الخليج الفارسي بالتدريج. ولم تكن الاتصالات
التجارية في اول الامر مباشرة وانما كانت الهند تقوم مقام المستودع تتجمع`فيه
منتجات المعامل والمصانع ثم تنتقل منه على سفن شراعية أو بواسطة البواخر التي
سيرتها هناك منذ ١٨٦٤ (British Indi Steam Navigation CO)
إلى موانيء الخليج الفارسي ومنها البصرة.
__________________
وهكذا وضعت بداية ازدهار الحركة
التجارية في الخليج الفارسي ، وكان مما ساعد على ان ينتقل مركز الثقل في علاقات
اوربا التجارية مع فارس والعراق إلى الخليج الفارسي بشكل نهائي ، قيام الحرب
الروسية التركية ١٨٧٧ - ١٨٧٨ التي ادت إلى توقف الحركة في طريق طرابزون - ارضروم
وكذلك انهاء تجارة الترانسيت فيما وراء القفقاس عام ١٨٨٣.
وانظر لتنامي اهمية الخليج الفارسي فان
سفن الشركة الانجليزية - الهندية التي مر ذكرها ومنها سفن شركة مومباي والخليج
العربي للملاحة البخارية ، (Bombay and Arabian Gulf Steam
Navigation CO) لم تعد تكفي الحركة التجارية فيه بل اصبحت هذه الحركة تتطلب
اقامة ارتباط مباشر مع موانيء اوربا الغربية. وهكذا ظهرت في الخليج الفارسي في
١٨٨٧ شركتان جديدتان للملاحة ، الاولى (Arabian Gulf Sream
Navigation CO)
ربطت بريطانيا بمواني الخليج الفارسي مباشرة والثانية (Mennier
et CO)
ربطت مرسيليا بتلك
الموانيء :
اما ارتباط بقية انحاء اوربا مع الخليج
الفارسي أو العراق فقد كان يجري اما بواسطة الشركتين المذكورتين الانجليزية
والفرنسية حيث تنقل البضائع لهذا الغرض إلى كل من لندن أو مرسيليا ، واما ان تنقل
البضائع إلى مينائي الهند وبومباي وكراجي ثم يعاد شحنها من هناك إلى المكان
المخصصة له على سفن تابعة لشركت الملاحة الهندية.
لقد كانت الملاحة البخارية في الخليج
العربي تتسع من سنة إلى اخرى فقد انضمت إلى الشركات التي سبق ذكرها في ١٨٩٠ شركة
__________________
انجليزية جديدة هي :
(Gray Dawes and CO)
التي اقامت رحلات شهرية لسفنها إلى هناك عبر كراجي وبومباي وفي ١٨٩٣ بدأت شركة
(Arabian and Persian Steam ship CO ـ Angio) بتسيير سفنها تلتها في ١٨٩٤ شركة
(Clan Line) ثم انضمت اليها في ١٨٩٥ شركة
(British and Colonial Steam Navigation CO) جائت بعدها
الشركة الفرنسية
(Messageries Martimes) التي حلّت محل (Mennier CO) بعد ان توقفت
تلك الشركة عند العمل من ١٨٨٨. وكانت نتيجة ذلك كله ان تجاوزت الحركة الملاحية في
الخليج في نموها تطور التجارة سيما التصدير بدرجة لا يستهان بها الامر الذي ادى
إلى نقص محسوس في كمية البضائع التي تنقل عند العودة مما حتم على الكثير من شركات
الملاحة ومنها (Messageries Martimes) ان توقف رحلاتها إلى موانيء الخليج. ولكن نرسم صورة واضحة لتطور
حركة الملاحة في مياه الخليج نورد فيما يلي جدولاً يبين عدد السفن البخارية
والشراعية التي زارت ميناء البصرة في السنوات العشرين الاخيرة أي من ١٨٨٧ إلى ١٩١٠
: ـ
__________________
السنة
|
١٨٨٧_٩١
|
١٨٩٢_٩٦
|
١٨٩٧_٩٠١
|
١٩٠٢_٩٠٦
|
١٩٠٦_٩١٠
|
العدد
البخارية
الحمولة
|
١١٠
١١٣٣٦٥
|
١٢٥
١٤٣٨٨٥
|
١١١
١٣١٤٥٥
|
١٥٣
١٨٠٤٠٠
|
١٩١
٢١٧٣٤٥
|
العدد
الشراعية
الحمولة
|
٦٠٣
٤٠١٣٥
|
٦٢٠
٣٣٢٦٠
|
٥٦٦
٢٩٥٠٠
|
٥٩٧
٣٣٩٨٠
|
٤٢٢
٢٣١٧٥
|
تشهد الارقام الواردة في هذا الجدول على
ان التعثر الذي حدث في نمو حركة البواخر في نهاية القرن التاسع عشر قد انتهى في
بداية القرن العشرين لان تطور التجارة واتساعها اصبح يؤمن البضائع الكافية لا
لخطوط الملاحة القائمة واستاعها اصبح يؤمن البضائع الكافية لا لخطوط الملاحة
القائمة فعلاً فقط وانما لخطوط جديدة يمكن ان يجري افتتاحها ايضاً. على اية حال
لقد وصل عدد خطوط البواخر التي تزور الخليج الفارسي حتى ١٩١٠ ثمانية خطوط قي :
أولاً : الخطوط
البريطانية :
١ ـ مع الهند :
(أ) (British Indi
Steam Navigation CO) تمولها الحكومة لنقل البريد ولها في الوقت الحاضر خطان الأول
أسبوعي سريع لنقل بريد الموانيء الرئيسة في الخليج الفارسي وهي مسقط وبندر بوشهر
والبصرة والثاني خليجي داخلي لخدمة ساحلي الخليج.
(ب) (Bombay and
Arabian Gulf Steam Navigation CO)
اسسها التجار
__________________
الهنود وتقوم برحلات
كل اسبوعين إلى موانيء الخليج.
٢ ـ مع بريطانيا :
(أ) (Anglo ـ Arabian and Persian Steamship CO) وتعرف اختصاراً بـ
(Strick Line) وهي موجودة منذ ١٨٩٣ وتقوم برحلات شهرية تمر اثناءها بمرسيليا.
(ب) (British and
Colonial Steam Navigation CO) وتسمي ايضاً
(Bucknall Steam Navigation CO) وهي قائمة منذ ١٨٩٥.
(ج)
(West HartlepooLine) وقد بدأت رحلاتها إلى موانيء الخليج الفارسي في ١٩٠٢ فقط.
ثانياً : غير
البريطانية :
١ ـ «الشركة الروسية البخارية والتجارة»
، اقامت لها ابتداءاً من ١٩٠١ اربع رحلات في السنة إلى الخليج الفارسي.
٢ ـ
(Hamburg ـ Amerika Linie) افتتحت رحلاتها إلى الخليج الفارسي في خريف ١٩٠٦ ومنذ ذلك الوقت
وهي ماضية في تطوير نشاطها بحزم ويمكن الحكم على ذلك من عدد رحلات التي قامت بها
وهي ٤ في ١٩٠٦ و ١٢ في ١٩٠٧ و ١١ في ١٩٠٨ و ٩ في ١٩٠٩ و ١٢ في ١٩١٠. ووكيل شركة
الملاحة الالمانية هذه في البصرة هو البيت التجاري
(Robert Wonckhaus and CO).
__________________
٣ ـ «اللويد النمساوية» وقد بدأت
بواخرها تقوم برحلات إلى الخليج اعتباراً من ١٨٩٧ ولكن هذه الرحلات لم تكن منتظمة
ويشير قيام شركة
(Societe Anonyme Commerce Austro ـ Orientale) النمساوية التي لم تستقر في العراق الا منذ فترة وجيزة بتعيين
وكيل لها في البصرة وبغداد في ١٩٠٨ ، يشير على ما يبدو إلى رغبة حكومة النمسا
والمجر في الاهتمام بتطوير هذه القضية.
لقد ادى ظهور شركات الملاحة الاوربية
الغربية في مياه الخليج الفارسي إلى تقويض الاحتكار البريطاني للملاحة هناك. ففي
حين بلغت نسبة السفن البخارية التي تحت العلم البريطاني في ١٩٠٠ ، (٩٦%) من مجموع
البواخر التي زارت الخليج ، فان عدد البواخر غير البريطانية التي زارت الخليج في
١٩٠٩ بلغ ٢٤ مقابل ١٣٨ باخرة بريطانية. اما في ١٩١٠ فقد بلغ عدد السفن البريطانية
١٧٤ وغير البريطانية ٢٨.
وتبعاً لتوسع التوجه الاجنبي نحو
المواصلات البخارية بين المراكز التجارية الاوربية وموانيء الخليج الفارسي ازداد
التنافس في مجال اجور النقل. فقد تحتم على شركات البواخر البريطانية في فترة
الاحتكار البريطاني للنقل التجاري في الخليج ان تدخل في تنافس شديد بعضها مع البض
الاخر من اجل تأمين الحمولة لها فيؤدي ذلك إلى انخفاض اجور النقل البحري. ومن
الطبيعي والحالة هذه ان ينعكس ظهور شركات البواخر الاجنبية في مياه الخليج بدرجة
اكبر على مقدار اجور النقل من الموانيء الاوربية إلى الخليج وبالعكس.
وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه اجرة نقل
الطن الواحد على
__________________
السفن الانجليزية من
مانجستر إلى البصرة جنيهاً استرلينياً واحداً و ١٥ شلناً ومن الموانيء البلجيكية
مالا يقل عن جنيه استرليني واحد ، فان الخط الآلماني الجديد خفض هذه الاجرة إلى
جنية واحد إلى الموانيء البريطانية وبهذا فقد تقلصت اجور النقل البحري بالنسبة إلى
الخامات التي تصدر من العراق. وهكذا انخفضت اجور النقل البحري إلى لندن في ١٩٠٨
إلى ١٢ شلناً و ٦ بنسات ولم ترتفع إلى اكثر من جنية استرليني واحد حتى في ذروة
موسم نقل التمور. اما في ١٩١٠ فقد تطلب الامر من شركات البواخر البريطاني ان تعتقد
فيما بينها اتفاقية خاصة للمحافظة على اجور النقل البحري في اثناء موسم التمور
بمستوى جنبية استرليني واحد و ٧ شلنات و ٦ بنسات للطن الواحد ، رغم ان هذا الاجر
كان قد اعتبر منذ ١٩٠٤ واطئا حتى بالنسبة لنقل البضائع غير المرغوبة مثل الحبوب.
والى جانب السفن البخارية كانت السفن
الشراعية تسهم ايضاً في الحركة التجارية في الخليج الفارسي. وكانت هذه السفن
الشراعية تبحر تحت اعلام مختلفة ابتداءً من العثماني والفارسي وانتهاءً بالبريطاني
والفرنسي ، علماً بأن هذا الاخير يعود إلى ميناء سور الواقع بالقرب من مسقط. وتأتي
هذه السفن الشراعية إلى البصرة لنقل التمر والحبوب ولكنها تجلب معها مختلف انواع
البضائع فالقادمة منها من الهند تجلب الاخشاب وفحم الخشب والكيروسين ، والقادمة من
زنجبار تجلب الاخشاب اللازمة لصناعة السفن ، والقادمة من مسقط تجلب السمك المجفف
والليمون وغير ذلك ، اما سفن الخليج نفسه الشراعية فأنها تجلب احجار الرحى
والحصران والخضروات. وهكذا فأن السفن القادمة من البحر الاحمر هي وحدها التي تأتي
بدون حمولة عادة. وحمولة السفن الشراعية تكون في العادة شديدة الاختلاف ، فهناك
سفن تبلغ حمولتها اكثر من ٣٠٠ طن غير ان السفن التي
تأتي البصرة تكون
عادة من السفن الصغيرة التي لا تزيد حمولتها على المائة طن. ويقلل تطور الملاحة
البخارية من فرص العمل للسفن الشراعية بشكل متزايد بحيث اخذ عدد السفن الشراعية
التي تزور ميناء البصرة بالنتاقص بشكل ملحوظ اعتباراً من بداية القرن العشرين ، ويمكننا
ان نلاحظ ذلك من الجدول المذكور اعلاه.
ان هذا الاسطول التجاري البخاري
والشراعي الضخم دائب على حمل كل انواع البضائع الاجنبية الجاهزة ونصف الجاهزة
والخام إلى البصرة الامر الذي يمكن هذا الميناء ، إلى جانب التصدير الذي يجري من
خلاله والذي لا يقل اهمية عن الاستيراد ، من المشاركة بشكل متميز في التبادل
التجاري القائم في الخليج الفارسي بحيث يمكن اعتبار البصرة ميناء الخليج الرئيس
بفضل صلاحية شط العرب لسير السفن البحرية ، فقد بلغت نسبة مشاركة البصرة في تجارة
الخليج في ١٩٠١ على مايذكره ويكهام
٣٢% في حين كانت حصة بوشهر ٢٤% فقط وبندر عباس ٦% والمحمرة ٤%.
ان المكانة المتميزة التي تحتلها البصرة
من حيث حجم الحركة التجارية بين موانيء الخليج الاخرى لا يمكن ان يكون سببها التسهيلات
الملاحية المتوافرة فيها بالمقاومة مع تلك المواني ، فاذا ما كان على السفن
التجارية المتوجهة إلى بوشهر وبندر عباس ان تفرغ حمولتها على بعد ميل أو ميل ونصف
عن ساحل ، بسبب ضحالة المياة ، فان الترسبات تعيق الدخول إلى شط العرب الذي تقع
عليه البصرة لدرجة كبيرة بحيث ان عمق المياة لا يكفي لسير السفن المحملة الا عندما
يكون القمر هلالاً أو بدراً. ولهذا يتحتم على البواخر ، من اجل ان لا تضطر إلى
توقف فيضيع
__________________
الوقت هباءً ، ان
تستخدم القوارب البخارية لتفريغ الحمولة عند الدخول إلى شط العرب وللتحميل عند
الخروج منه. وقد وصل عدد هذه القوارب في ١٩٠٧إلى ستة قوارب خمسة منها تحمل العلم
البريطاني. ويشير هذا العدد إلى وجود حاجة مستمرة لها. وفضلاً عن ذلك فان البصرة
حتى فيما يتعلق بالمصاريف الاضافية كأجرة نقل البضاعة إلى دائرة الكمارك مثلاً ، ليس
لها افضليات على بقية موانيء الخليج لان البواخر فيها لا تستطيع ايضاً الرسول على
قرب مباشر من دائرة الكمارك. كما ان ظروف نقل البضاعة من الباخرة إلى مستودع
الكمارك لم تكن جيدة سيما ان المسؤول عن هذا النقل أي «الحمال باشي» وهو متعهد
يختاره التجار بالاشتراك مع السلطات الكمركية لا يعد مسؤولاً عن تلف البضاعة أو
فقدانها ، علماً بأن هذا «الحمال باشي» يستوفي مقابل نقل البضاعة اجراً كبيراً
يبلغ ٢٠ كوبيكا عن كل صندوق من الشاي ومابين ٣٠ إلى ٤٠ كوبيكا عن كل بالة من اكياس
الجوت و ٤٠ الى ٥٠ كوبيكا عن كل رزمة من الاقمشة و ١٠ كوبيكات عن كل صفيحة من
الكيروسين ، أي ان هذا المتعهد يأخذ عن كل قطعة من البضاعة مبلغاً يتراوح مابين ١٠
و ٥٠ كوبيكا مقابل نقلها من الباخرة إلى دائرة الكمارك واعادة نقلها من مستودعات
الكمارك إلى مخازن التسليم. اما البضائع المرسلة إلى بغداد فأنها تنقل من البواخر
البحرية إلى سفن نهرية من قبل الوكلاء المعنيين ، علماً بان هذه العملية تكلف صاحب
البضاعة مايقارب الروبل الواحد والعشرين كوبيكا لكل طن ، وتتضاعف هذه الكلفة في
حالة تفريغ البضاعة في البصرة ثم ترسل منها إلى بغداد. ومن المصاريف الاضافية ايضاً
ما يسمى بـ «الاوردية» أي ضريبة الخزن وهي ضريبة تؤخذ على البضائع التي تبقى في
مستودعات الكمارك اكثر من ثمانية أيام وتؤلف في المتوسط مابين ١٠ و ٣٠ يارة أي من
٢٠ إلى
٦٠ كوبيكا في اليوم
لكل قطعة من البضاعة ويزداد مقدار هذه الضريبة بالنسبة للاشياء الكبيرة الحجم
فتتضاعف مرتين أو ثلاثاً أو حتى اربع مرات تبعاً لزيادة الحجم.
يظهر من ذلك ان ظروف البصرة فيها يتعلق
بعمليات شحن البضائع تشبه تماماً الظروف السائدة في موانيء الخليج هو كثرة البضائع
الاوربية التي تستورد إلى غرب فارس وتمر بشكل ترانسيت عبر العراق وكذلك سعة
التصدير المتوجهة من تلك المنطقة إلى الخارج. وهكذا فان الحركة التجارية عبر ميناء
البصرة تتألف من ثلاثة عناصر هي : استيراد البضائع الاجنبية سيما إلى العراق ، ومرور
هذه البضائع بشكل ترانسيت إلى فارس ، وتصدير الخدمات من العراق الجنوبي وما بين
النهرين وفارس ايضاً.
ومادامت اهمية البصرة بالنسبة لكتابنا
هذا تمكن بالدرجة الاولى في كونها ميناء العراق الجنوبي ، فأننا سنبحث اولاً تجارة
هذا الاخير مبتدئين بالتصدير الذي يلعب الدور الاساس في العلاقات التجارية بين هذه
المنطقة واوربا.
يتألف تصدير العراق كلياً من المنتجات الزراعية
والحيوية وذلك بسبب عدم وجود صناعة التعدين والصناعة التحويلية. ونظراً لان حجم
الصادرات يتأثر بشكل مباشر بالظروف المناخية فأنه يعاني من تذبذب ملحوظ من نسبة
إلى اخرى ويحكمه سوء الموسم أو جودته بالنسبة إلى الحبوب والتمر وكذلك بالنسبة إلى
المراعي الماشية. ولهذا فلا يمكن الحكم على التصدير في الوقت الحاضر الا على اساس
معدّله لعدة سنوات متتالية ، لذلك فأننا نورد ادناه جدولا مقارناً لحركة تصدير
مختلف المواد من العراق في السنوات العشرية الاخيرة أي من ١٨٩١ لغاية ١٩١٠ على
اساس المعدل لكل عشر سنوات توخياً لزيادة الفائدة : -
لا يمكننا ونحن ندقق الارقام الواردة في
هذا الجدول الا ان نستنتج بان العقد الاول من القرن الحالي تميز بزيادة ملحوظة في
تصدير الكثير من المواد ولا سيما التمر والحبوب. وبما ان ولاية البصرة تنتج التمور
باجمعها وقسماً لا يستهان به من الحبوب ، فمن المعتاد اعتبار ان صادرات البصرة
والمنطقتين المتاخمتين للفرات ودجلة إلى الجنوب من بغداد تؤلف خمسة صادرات اثمان
العراق الجنوبي باجمعها ، في حين تؤلف صادرات بغداد ومناطق ولاية الموصل المتاخمة
لها من الشمال ثمني صادرات العراق. اما الثمن الاخير فهو مقدارً الترانسيت من
فارس. وتتوزع مواد التصدير على هذه
المادة
|
العبوة
او
الوزن
|
معدل
السنوات العشر
١٨٩٠-١٩٠٠
|
معدل
السنوات العشر
١٩٠١-
١٩١٠
|
التمور
:
|
|
|
|
المجففة
|
كيس
|
١٨٩٦٠
|
٢٦٦٣٠
|
الطازجة
|
قفص
|
٦٧٨٢١٠
|
١١٤٧٥٦٠
|
الطازجة
|
سلة
|
٤٥٨٧٧٥
|
٤٥٧٨٧٢
|
الطازجة
|
كيس
|
١٩١٠٠
|
٤٨٧٨٠
|
الحبوب
:
|
|
|
|
الرز
|
بود
|
٣٥٨٤٢٥
|
١٠٦٧١٧٠
|
الشعير
|
بود
|
٢٣٧٣٨١٠
|
٢٤٤٢٢١٠
|
الحنطة
|
بود
|
١٥٦٣١٥٠
|
١١٩٢٤٧٠
|
حبوب
اخرى
|
بود
|
٦٧٣٣٨٠
|
١٠٦٦١٢٠
|
السمسم
|
كيس
|
١٨٨٥٠
|
٧٦٨٠
|
السمن
العربي المسلي
الجلود
الصوف
شعر
الماعز
الخيول
عرق
السوس
العفص
الصمغ
الافيون
السجاد
منتجات
جريرية
بضائع
مختلفة
فضلات
الكلاب
|
علبة
بالة
بالة
بالة
راس
رزمة
كيس
حزمة
علبة
بالة
حزمة
قطعة
كيس
|
١٥٠٥٥
٥٣٦٥
٣٨٥٣٠
٥٤٠
٢٦٣٠
٢٧١٤٠
٨٩٢٠
٦٥٧٥
٤٩٥
٩٨٠
١٠٨
٥١٠٠
ـ
|
١٢٦٢٠
٩٠٢٠
٣١٦٠٠
٢٤٤٠
١٩٨٥
٣٢٦٦٠
٨٥٤٠
٦٣٧٠
١٠٦٠
١٩٩٠
١٠٧
٨٥٦٠
٨٦٠٠
|
المناطق على النحو التالي : تصدر ولاية
البصرة الخيل والصوف الجلود إلى جانب التمر والحبوب ، وتصدر بغداد عرق السوس
والجلد المدبوغ والصوف والسمن العربي وشعر الماعز والصمغ والعفص ، إلى جانب مقادير
لا بأس بها من التمور والحبوب ، علماً بأن شعر الماعز والصمغ والعفص وجزءً من
الحنطة المصدرة من بغداد تأتي من ولاية الموصل. اما صادرات فارس عن طريق البصرة
فتتألف في غالبيتها من الافيون والسجاد وبدرجة أقل من الصمغ والعفص والجلد المدبوغ
والصوف.
ولم يتأت لهذه الخدمات باجمعها الوصول
إلى اسواق اوربا الغربية
الا بعد افتتاح قناة
السويس التي قلّلت من اجور الشحن البحري إلى درجة ان تلك الاجور لم تعد تشكل عبءاً
حتى بالنسبة إلى منتجات الزراعة الرخيصة. وهكذا وجدت هذه المنتجات الزراعية التي
لم تكن تباع قبل الان الا في الهند ، طلباً عليها في بريطانيا نفسها حيث اصبحت
لندن سوقاً مركزية للصادرات العراقية ولم تجد من ينافسها في هذا المجال سوى مرسيليا
رغم ان هذه المنافسة لم تكن كبيرة. وهناك الكثير من الاسباب التي ساعدت على ان
تتبوأ لندن هذه المكانة الاستثنائية ، أو لها ان خطوط البواخر الملاحية المباشرة
كانت تربط العراق الجنوبي بعاصمة بريطانيا ومرسيليا في المقام الاول ، فضلاً عن
ذلك فأن اول الشركات الاوربية التي استقرت في العراق كانت شركات انجليزية ، لهذا
فأنها عندما تشارك في التصدير توجهه إلى سوقها الوطني بالدرجة الاولى.
ومن الناحية الاخرى كانت البيوت
التجارية الكثيرة العدد من مسيحي ويهود بغداد التي استقرت في لندن ومرسيليا بعد
حفر قناة السويس مباشرة واصبحت وسطاء حقيقيين بين التجار العراقيين وتجار الجملة
هناك ، تساعد على توجيه الصادرات العراقية إلى الاسواق الاوربية المذكورة. وهكذا
اصبحت لندن وجزئياً مرسيليا ايضاص مركزين عالميين لتوزيع خامات العراق التي اصبحت
اسعارها في الاسواق الاوربية والامريكية تعتمد كلياً على بورصة لندن. وابتداءً من
مفتتح القرن العشرين لوحظ ان بعض الدول الاوربية المهتمة بالصادرات العراقية اخذت
تسعى للتخلص من وساطة لندن وقد جاءت الخطوة الحاسمة الاولى في هذا الاتجاه من
المانيا التي اقامت منذ ١٩٠٦ خطاً مباشراً للسفن التجارية بين البصرة وهامبورغ
فمكنت بذلك اصحاب المصانع الألمان من أقامة صلات مباشرة مع منطقة الانتاج في
العراق. ومع ذلك فقد ظل التفوق في التصدير
العراقي حتى الآن من
حصة سوق لندن الذي مايزال المستهلك الاساس للخدمات التي تصدر إلى الخارج عن طريق
ميناء البصرة.
اما الجهات التي تشتغل بتصدير البضائع
من العراق فهي البيوت التجارية اليهودية القائمة في البصرة التي ينتمي اصحابها إلى
القومية الانجليزية ، وكذلك شركات الاهالي المحلية التي تبقى لها الاولوية بسبب
كثرة عددها. واغلبية هذه الشركات هي شركات رصينه أهل للثقة ، غير ان الربح الذي يدرّه
الاشتغال بالتصدير جذب إلى هذه القضية الكثير من صغار التجار الذين يندفعون ، رغم
انهم لا يملكون الا رؤوس اموال محدودة جداً ، في مشروعات ضخمة تنطوي على المخاطرة.
ويستفيد صغار المصدرين هؤلاء من خدمات الوسطاء من مسيحيي ويهود بغداد الذين
استقروا في لندن ومرسيليا فيأخذون منهم على اساس وثيقة الشحن مابين ٧٥% و ٨٠% من
سعر البضائع المذكور في الفاتورة بكمبيالات مدتها اربعة اشهر ثم يصرفون هذه
الكمبيالات لدى الصرافيين المحليين ويسددون بالنقود التي يحصلون عليها بهذه
الطريقة للمجهزين ثمن البضاعة التي كانوا اخذوها منهم بالدين.
ولا يمكن في ظل مثل هذا الاسلوب البسيط
للمشاركة في التصدير الا ان تزدهر المضاربة التي كان من نتيجتها ان ارسلت إلى
الخارج خامات من نوعية رديئة كما انها ادت إلى ان ترتفع الاسعار المحلية بشكل
مصطنع وذلك لان المضاربين كانوا يضخمون درجة اعتماد الاسواق الاوربية على كمية
الصادرات العراقية فيرسخون بذلك اعتقاداً خاطئاً مفاده ان سوء المحصول لهذه المادة
أو تلك من مواد التصدير المحلي يؤدي حتماً إلى ارتفاع سعرها في اوربا. وانطلاقاً
من هذا الاعتقاد يزيدون اسعار بضاعتهم زيادة كبيرة الامر الذي يؤدي إلى ان تتراكم
هذه البضائع لديهم دون ان
تجد من يشتريها في
احسن الحالات ، اما في اسوئها فأنهم يتخلصون من البضاعة ببيعها باسعار بخسة
فتصيبهم الخسارة. وتؤدي مثل هذه الاخفاقات إلى افلاسات يشتد انعكاسها على استقرار
السوق بقدر ما يزداد عدد الاشخاص الذين يعلنون افلاسهم.
تحتل بريطانيا كما ذكرنا المركز الاول
في استهلاك خامات العراق تأتي بعدها حسب الترتيب كل من : أمريكا وفرنسا وتركيا
والهند والمانيا والنمسا. اما توزيع مواد التصدير الرئيسة على الدول المختلفة فهو
على النحو التالي : التمور تستهلكها بالدرجة الاولى بريطانيا وامريكا وموانيء
البحر الاحمر والهند والشرق الادنى والنمسا ، والحبوب ترسل إلى بريطانيا وموانيء
البحر الاحمر والهند والشرق الادنى والمانيا ، والسمسم يصدر إلى فرنسا ، والجلود
المدبغة تستهلكها روسيا (فراء الحملان) ، وبريطانيا وفرنسا والمانيا والنمسا ، والصوف
يباع في بريطانيا والخيول ترسل إلى الهند وعرق السوس إلى امريكا وبعضه إلى فرنسا ،
والصمغ إلى بريطانيا وبدرجة أقل إلى امريكاو فرنسا والمانيا والعفص يصدر إلى
بريطانيا وفرنسا وامريكا.
ان المادة الاساسية في صادرات ولاية
البصرة هي التمور وذلك فأننا سنبدأ استعراضنا لموارد تجارة التصدير العراقي
المختلف بها.
كانت الهند وموانيء الخليج الفارسي
والبحر الاحمر قبل ان تفتتح قناة السويس تستهلك كميات لا يستهان بها من تمور
البصرة فقد نقلت السفن الشراعية إلى هناك في اربعينات القرن التاسع عشر على مايذكر
V. Fontanier
ما يقرب من ٩٠٠٠ طن من التمور المعبأة في سلال أو في اكياس من الخوص. وقد نقلت
التمور إلى اسواق لندن لاول مرة في
__________________
١٨٧٠ وكانت الكمية
التي نقلت إلى هناك آنذاك ٣٠٠ طن ، ومنذ ذلك الوقت اخذ بيع التمر في لندن يزداد من
سنة إلى اخرى واصبحت التمور ترسل حتى إلى امريكا من لندن التي اصبحت مركز تجارتها
الرئيسي.
ونتيجة لتنامي تصدير التمور اتسعت
المساحة التي تشغلها بساتين النخيل في العراق حتى انها تضاعفت خلال العشر سنوات (من
١٨٨٦ إلى ١٨٩٦) اكثر من خمسة مرات. وقد ارتفعت مناسيب المياه في شط العرب في ١٨٩٦
اكثر من المعتاد فأدى ذلك إلى موت أكثر من مليون نخلة ، الامر الذي اعاق استمرار
تطور انتاج.
التمور الذي لم يتمكن من التخلص من
عواقب هذا الفيضان قبل ١٨٩٩. ويمكن على مقدار تزايد تصدير التمور من البصرة خلال
الخمس والثلاثين سنة الاخيرة من الجدول التالي الذي يبين متوسط كمية التمور
الصادرة في كل خمس سنوات :
العبوة
|
معدل
للسنوات
١٨٧٩_٨٣
|
معدل
للسنوات
١٨٨٣_٨٧
|
معدل
للسنوات
١٨٨٧_٩١
|
معدل
للسنوات
١٨٩٢_٩٦
|
معدل
للسنوات
١٨٩٧_٩٠١
|
معدل
للسنوات
١٩٠٢_٩٠٦
|
معدل
للسنوات
١٩٠٦_٩١٠
|
صندوق سلة جراب كيس
|
١٠٥٥٩٠
٥٦٦٦٠
٦٦٩٩٠
ـ
|
٢٥٧٨٣٠
٤٠٦٩٠
٦٦٦٧٠
ـ
|
٥٣٨٧٥٠
٤٢٣٦٢٠
٤٣٨٨٠
٤٧٦٠
|
٥٨٨٨٨٠
٤٩٠٩٠٠
٥٠٠٧٠
١٤٧٤٠
|
٧٣٨٦٣٠
٤٣٦٤٨٠
١٣٩٢٠
١٧٩٤٠
|
٩٨٨٦٧
٥٣٣٤٤٠
١٤٢٧٠
١٦٦٠٠
|
١٣٠٦٤٥٠
٣٣٦٩٠٠
٣٤٦٧٠
٤١٠٤٠
|
ان مشاركة بغداد في هذه الكميات الهائلة
من التمر المصدر هي في الواقع قليلة للغاية فقد بلغ المتوسط السنوي للتمور التي
صدرتها إلى الهند وسوريا ومصر اسطنبول (٢٠٦٣٠) كيساً للفترة ١٩٠٣ - ١٩٠٦ و (٢٦٢٩٠)
كيساً و (٢٧٦٨٠) جراب و (٢١٨١٠) صناديق في الفترة من ١٩٠٧ - ١٩١٠.
وتشير حسابات التجارة وهي حسابات
تقريبية إلى ان ثلث حاصل التمر في ولاية البصرة ينقل بواسطة البواخر إلى اوربا
وامريكا ، وثلثه الاخر ينقل على سفن شراعية إلى موانيء الهند والخليج الفارسي
والبحر الاحمر ، اما الثلث الاخير فيبقى للاستهلاك المحلي. وكان التمر المصدر إلى
امريكا يذهب إلى هناك في اول الامر عبر لندن ، غير ان سنة ١٨٩٦ شهدت اول باخرة
ذهبت من البصرة إلى العالم الجديد وعليها (٥٣٠٠٠) صندوق من التمر. ومنذ ذلك الوقت
اصبح نقل التمر إلى السوق الامريكي مباشرة يجري بواسطة باخرة في البداية ثم
باخرتين بعد ذلك وابتداءً من ١٩٠٦ اصبح عدد البواخر ثلاثاً اضافت اليها الشركة
الآلمانية (Hamburg Amerika) في ١٩١٠ باخرة رابعة. ولم تلبث دول اخرى ان حذت حذو امريكا في
نقل التمر مباشرة من البصرة ، فقد نقلت شركة لود النمساوية في ١٩٠٠ مثلاً (٦٠٠٠٠) صندوق
إلى النمسا و (٢٥٠٠٠) صندوق إلى المانيا. ولكي نوضح نسبة مشاركة البلدان المختلفة
في استهلاك التمر المصدر ، نورد ادناه الجدول التالي المستخلص من الاحصاءات
التجارية للقنصل البريطاني في البصرة والمتضمن عدد صناديق التمر والجهة التي ارسلت
اليها في السنوات ١٩٠٤ ـ ١٩٠٧ :
الجهة
المرسلة
اليها
|
بالاطنان
|
١٩٠٤
١٩٠٥ ١٩٠٦ ١٩٠٧
|
لندن
والبحر المتوسط
أمريكا
النمسا
والبلدان الاخرى
|
١٤٠٠٠
١٨٦٠٠ ١٩٢٥٠ ٢٣٤٠٧
٦٠٠٠
٧٠٠٠ ١١٢٥٠ ٨٥١٥
١٣٧٥
غير معروف ٧٥٠ ٢١٦٢
|
وتتألف التمور المشار اليها في الجدول
والمصادرة إلى اوربا وامريكا من ثلاثة انواع هي : «الحلاوي» و «الخضراوي» و «الساير»
التي لا ينافسها بشكل جدي في الاسواق الغربية سوى تين أزمير ، حيث لوحظ بأن سوء
موسم هذا الاخير يؤدي إلى زيادة الطلب على التمر وبالعكس ينخفض تصدير التمور في
حالة وفرة محصول ذلك التمر الذي ينافسها.
ويعتبر «الحلاوي» و «الخضراوي» النوعين
الاكثر رواجاً بين الانواع المذكورة فمتوسط انتاجها السنوي لايكفي الا بالكاد
لتغطية الطلب عليهما في اوربا وامريكا في الوقت الحاضر ، ولهذا فأن أي قلّة في
محصولها كما حصل مثلاً بعد شتائي ١٩٠٥ - ١٩٠٦ و ١٩٠٦ ١٩٠٧ اللذين جاء شديدي
البرودة ، تؤدي على الفور إلى ارتفاع اسعارهما المحلية ارتفاعاً شديداً. وتستخدم
في عقد صفقات تجارة التمور عملة خاصة ليس لها وجود في الوقت الحاضر هي «الشامي» التي
تعادل كل ٥ ، ١٥ منه ليرة عثمانية واحدة. وقد عانت الاسعار في القرن الحالي
تذبذباً حاداً فقد كان سعر «الكارة» الواحدة وهي وحدة للكيل تعادل ١٥٠ بوداً
من «الحلاوي» ٣٠٠ شامي
__________________
في ١٩٠٠ و ٥٠٠ شامي
في ١٩٠٧ و ٣٣٠ شامياً في ١٩١٠. اما «الكارة» الواحدة من الخضراوي فقد كان سعرها في
السنوات المذكورة ٢٦٠ و ٣٦٠ و ٢٥٠ شامياً على التوالي في حين كانت «الكارة» الواحدة
من الساير تباع في السنوات المذكورة أيضاً بـ ١٦٠ و ٢٥٠ و ٢٣٠ شامياً على التوالي.
واذا حولنا هذه القيمة إلى العملة الروسية يكون البود الواحد من النوع الاول قد
بيع في السنوات المذكورة بروبل واحد و ١٢ كوبيكا وروبل واحدة و ٩٠ كوبيكا وروبل
واحد و ٢٣ كوبيكا على التوالي ، ومن النوع الثاني بـ ٩٧ كوبيكا و ٩٣ كوبيكا و ٨٥
كوبيكا على التوالي. ان تذبذب الاسعار بهذا الشكل مرتبط بسوء المحصول أو جودته في
السنة المعينة وكذل بحقيقة ان الكثير من مصدري التمور كانوا يبيعون بضاعتهم في سوق
لندن قبل ان ينضج التمر بفترة طويلة فيقعون بذلك تحت رحمة منتجي التمر الذين
يرفعون الاسعار واثقين من ان عملاءهم الذين صرفوا أموالاً على شراء الصناديق
وأجروا البواخر سيوافقون على جميع شروطهم.
والي جانب ذلك فأن المنافسة المتزايدة
في سوق البصرة ادت إلى ان يصبح مالكو بساتين النخيل سادة الوضع الآن بعد ان كانوا
في السنوات السابقة يجهدون للحصول على مشترين وذلك لان المشترين انفسهم يسلفونهم
النقود على الحاصل قبل ٨ - ٩ أشهر من الموسم لالشيء الا لكي يؤمنوا لأنفسهم الحصول
على الكمية المطلوبة من التمور الامر الذي يمكن منتجي التمور من تحديد السعر الذي
يريدونه. ولم تؤد الجهود التي بذلها كبار تجار التمور في البصرة للقضاء على هذا
التذبذب الحاد في الاسعار إلى اية نتائج ايجابية حتى الان. فالاجتماعات التقليدية
التي يعقدها جميع ذوي العلاقة في كل سنة بعد انتهاء جمع حاصل التمور لتسعيرها
بالاستناد إلى اسعارها في اسواق لندن وامريكا ، فقدت أي معنى لها ، كما
فشلت ايضاً محاولات
تجار الجملة لانشاء جمعية خاصة بهم.
وتقوم الشركات التجارية الاوربية التي
تغلغلت في العراق بالاضافة إلى مشاركتها في تجارة التمور مباشرة ، بالمشاركة في
هذه التجارة بشكل غير مباشر ايضاً. ويتمثل ذلك بتوفيرها البواخر اللازمة لهذه
التجارة ذلك ان كل شركة من هذه الشركات تمثل احدى شركات الملاحة. وفي السابق عندما
كانت صادرات التمور تتجه كلياً إلى لندن وتنقل على بواخر بريطانية فقط كانت
الشركات الانجليزية ذات تأثير حاسم فيما يتعلق بتعيين اوقات نقل التمر وفي تحديد
اجور الشحن على السواء. وعلى هذا الاساس كانت الدفعة الاولى من التمر تنقل عادة في
اواسط أيلول في الوقت الذي يحصل فيه اول ارتفاع لمناسيب المياه فوق الحاجز القائم
في مصب شط العرب وذلك لتمكين البواخر من اجتياز هذا الحاجز وهي محملة بالبضاعة.
وتكون الدفعة الثانية تبعاً لذلك في الاول من تشرين الاول عادة والثالثة في الخامس
عشر منه ، علماً بأن اياً من تجار التمور لم يكن يستطيع ان يرسل بضاعته قبل هذه
المواعيد ، الامر الذي يؤدي إلى ان يستفيد الجميع بشكل متساوٍ من طرح حاصل الموسم
الجديد لاول مرة. اما اجور الشحن فان الشركات البريطانية كانت تقررها تبعاً
للدفعات المذكورة علماً بان اعلى الاجور كانت تقع في الدفعة الاولى ثم تنخفض
بالتدريج إلى الدفعة الرابعة التي تقع في نهاية تشرين الاول. ومع عدم وجود
المنافسة الاجنبية فان اجور الشحن كانت عالية جداً اذ تصل إلى ٣٠ شلناً عن كل طن
ينقل إلى لندن وسبعة وثلاثين شلناً ونصف الشلن عن كل طن ينقل إلى امريكا و ٤٠
شلناً عن كل طن ينقل إلى اسطنبول. وقد ادت المنافسة الجدية المتأتية من امريكا في
استهلاك تمور البصرة إلى التعجيل في فترات النقل ، لان السوق الامريكي كان يطالب
بالحصول على
التمر بشكل مبكر دون
ان يأخذ بنظر الاعتبار حلول موسم التمر بل وحتى قبل ان ينضج التمر. اما دخول بواخر
شركة اللويد النمساوية والشركة الروسية للملاحة البخارية والتجارة والشركات
الالمانية «هامبورغ ـ امريكا» إلى ميناء البصرة في موسم جني التمور ، فكان يؤدي
إلى هبوط حاد في اجور الشحن فقد تحتم على ثلاث شركات انجليزية في ١٩٠٦ أن تخفض
اسعار نقل التمور إلى عشرة شلنات للطن الواحد من أجل ان تعيق تأجير السفن الاجنبية.
على اية حال لقد حصلت في مسألة تصدير التمور تغييرات جذرية هزت النفوذ الاستثنائي
الذي كانت تتمتع به بريطانيا في السابق.
اما الحبوب التي تشترك في تصديرها
ولايات البصرة وبغداد والموصل فأنها تحتل من حيث القيمة المركز الاول بين صادرات
العراق وتتألف من الحنطة والشعير والرز المنقى والفول والفاصوليا والحمص والذرة
والسمسم. وتصدر ولاية البصرة بالدرجة الاول الرز الذي يأتي من سنجق العمارة
والحنطة والشعير والعدس التي ينتجها سنجق المنتفق ولاسيما الشعير فأنها تأتي من
ولاية بغداد التي تعتبر مناطق. السماوة والحلة والدغارة والديوانية الواقعة على
الفرات اكثر مناطقها انتاجاً للحبوب. اما ولاية الموصل فأن مشاركتها تظهر في
تقديمها للحنطة التي تأتي من القنطرة الواقعة على الفرات اكثر مناطقها انتاجاً
للحبوب. اما ولاية الموصل فأن مشاركتها تظهر في تقديمها للحنطة التي تأتي من
القنطرة الواقعة على الزاب الصغير ومن السليمانية وكركوك وأربيل وهي مناطق تشتهر
بجودة الحاصل لدرجة غير اعتيادية.
ترجع اول محاولة لتصدير الحنطة العراقية
على ما يذكر المفوّض الوسيط الروسي العقيد تشيركوف
إلى عام ١٨٤٦ ففي تلك السنة ارسل
__________________
التاجر لنج الذي كان
قد استقر في بغداد كمية من الحنطة إلى لندن مدفوعاً بسوء المحصول في بريطانيا فحصل
من هذه العملية على ربح صافٍ مقداره ٥٠% ومع ذلك فأن تصدير الحبوب من مابين
النهرين إلى اوربا لم يبدأ بشكل منتظم الا بعد ان افتتحت قناة السويس ، فقد كانت
الحبوب قبل ذلك ترسل إلى الهند وموانيء الخليج والبحر الاحمر فقط. لقد اصبح رخص
النقل البحري عن طريق القناة التي بناها دي ليسبس القوة التي فتحت امام منتجات
الزراعة العراقية الطريق إلى الاسواق الاوربية فلم تلبث الحبوب العراقية أن أمنت
لنفسها سوقاً ثابتاً ودائماً للبيع هناك ، يشهد على ذلك بشكل جلي الجدول ادناه
الذي يتضمن كميات الحبوب المصدرة في العشرين سنة الاخيرة (١٨٩١ - ١٩١٠) بالاطنان :
المادة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠
|
الحنطة ٥٥٣٤٤ ٢٣٥٢٤ ١٣٢٢٣ ٢٣٠٦٦ ٥٦٨١٨
٢٩٣٢٨ ١٢٣٢ ٩٧٨ ٢٢٨٠ ٦٨٤٨
|
الشعير ٣٨٠٦٥ ٣١٣٢٧ ٣٩١٧٨ ٣٨٩٣٠ ٥٦٦٦٣
٣٨٧٣٤ ٢٣٠٤ ٢٧٥٥ ٣٨٩٣٦ ٨١٨٥٤
|
الرز المنقي وغير منقي ٣٥٩٨ ١٤٨٥٩ ٧٧٨٦
١٢٩٤٣ ٦٣٥٥ ٦١٨ ٦٩٣ ٨٤ ٣٩٥٥ ٧٣٦٢
|
حبوب اخرى ٦٩٧٦ ٨٧١٠ ١١٩٢٢ ٧٨٢٥ ١٤٦٧٤
١٠٧٤٠ ٩٩١٣ ٧٧٥٨ ١٣٦٨٤ ٢٢٧٦٨
|
المادة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠
|
الحنطة ٥٨٤٠ ١٥٢٩ ٥٧٦٢ ١٠٧٣٧ ١٣٨١٩ ٢٤٠٠٠
٣١٢٩٧ ٣٠١٣٦ ١٣٣٠ ٨٣٦٣
|
الشعير ٤٧٢٧٦ ١٥٤٤٢ ٤٩٤٩٧ ٤٢١٣٩ ٤٥٢١٢
٣٧٣٠٠ ٧١٠١٣ ٥٢٩٩٦ ١١٠٣٨ ٢٧٦١٩
|
الرز المنقي وغير منقي ٣٦٤٣ ١٢٠٥ ٥٩٣٠
٢٨٤٨ ٢٠٤٥ ١٣٨٩٨ ٢٦٤٨٨ ١٧١٢٣ ٩١٦٠ ١٦٥١٤
|
حبوب اخرى ١٨٩٩٩ ١٣٢٠٠ ١٧٤٨٠ ١٦٩٥٢
٢٢٥٢٨ ٢١١٩٥ ١٤١٢٦ ٢٥٣٣٨ ١٤١٥٦ ١١٠١٧
|
ويستحيل علينا ونحن نقارن الارقام
السنوية للتصدير ان لا نستنتج بان الصادرات تسير ببطء ولكن باطراد نحو الارتفاعات
على الرغم من وجود اسباب كثيرة تشكل عقبات جسمية امام تطورها. ويكاد يكون وضع
الزراعة العراقية غير المرضي اهم هذه الاسباب ، فالزراعة في العراق تحتاج بسبب عدم
كفاية الامطار إلى الري الاصطناعي وهو امر لا يمكن تامينه لها دون مصاريف هائلة
تنفق على احياء شبكة قنوات الري القديمة ومع ان سوء المحصول يؤلف في الوقت الحاضر
، رغم كل شيء ظاهرة نادرة فان ارتفاع مناسيب المياه في دجلة والفرات يؤلف بالنسبة
الى المزارعين كارثة لا تقل عن ذلك ، لان هذا الارتفاع يتحول في بعض سنوات كما حصل
مثلاً في ١٨٩٦ وفي ١٩٠٨ إلى فيضانات حقيقية تدمر جزءاً كبيراً من المحصول. وكانت
الحكومة في السنوات كهذه تضطر إلى منع تصدير الحبوب وهذا ما يفسر الانخفاض الشديد
في تصدير الحبوب في السنوات التي تعقب الكوارث التي تصيب الزراعة المحلية.
والسبب الهم الثاني التقليل من صادرات
الحبوب في العراق هو تراكم الترسبات في قاع نهر الفرات الذي يؤلف الشريان الرئيس
لنقل الحبوب من منطقة الفرات الاوسط التي تشتهر بانتاجها ، ذلك أن اخفض مستوى
للمياه في الفرات وفي شط الحي الذي يصب فيه يتزامن مع نهاية موسم حصاد الشعير
والحنطة بحيث لا يصبحان جاهزين للنقل إلى البصرة قبل شهر تشرين الثاني. ولهذا فأن
القسم الاغلب من المحصول يتكدس إلى ان يصبح الفرات صالحاً للملاحة تماماً في شباط
من السنة التالية علماً بأن الحاصل يبقى ـ بسبب عدم وجود مستودعات ـ مطروحاً في
العراء لا يغطى الا بحصران لا تحفظه بالطبع من التلف الذي تسببه له امطار الشتاء.
وينطبق هذا الوضع ايضاً على نقل الحبوب في نهر دجلة الذي يقع اوطأ
مستوى للمياه فيه في
شهري آب وايلول ، ولهذا فأن نقل الحبوب إلى البصرة بواسطته لايبدأ الا في اواخر
الخريف ويستمر حتى نيسان التالي.
وتعد الانتفاضات التي تقوم بها القبائل
العربية المتنقلة على ضفاف الفرات ودجلة من الاسباب العريضة التي تعيق نمو تصدير
الحبوب كما حصل مثلاً في ١٩٠٨ و ١٩٠٩ و ١٩١٠ عندما توقف نقل الحبوب إلى البصرة
تقريباً بسبب مهاجمة الثوار للسفن النهرية. واخيراً يتحتم ان نشير إلى ظرف آخر
يمكن ان ينعكس سلبياً على تصدير الحبوب اذا لم تتخذ التدابير اللازمة لمعالجته
ونعني خلط الحاصل بمختلف الشوائب كالرمل وقطع الطين وما اشبه ذلك الحوض الادنى
لدجلة والفرات. لقد لوحظ سوء الاستغلال هذا لاول مرة في ١٩٠٢ وأخذ يزداد منذ ذلك
الوقت بحيث وصلت نسبة الشوائب في بعض دفعات الحبوب في الفترة الاخيرة إلى ٠٢٠ / ٠ حتى
ان تجار الحبوب المحليين تعرضوا إلى اللوم في جدة.
ويعد الطلب المستمر على الحبوب العراقية
في موانيء الخليج الفارسي والبحر الاحمر من الظروف الملائمة لزيادة تصدير الحبوب
من العراق ، وتكون جدة في هذا المجال باعتبارها ميناء لمكة ولا ينتج الحبوب ، معتمدة
على العراق على الدوام. والشيء نفسه يمكن ان يقال عن الهند حيث المجاعات الدائمة
التي تضطرها إلى التوسع في استيراد الحبوب من البصرة ومن الظروف التي لا تقل أثراً
عن ذلك في المساعدة على زيادة تصدير الحبوب توسع دائرة البلدان المستهلكة في اوربا
نفسها وقد تمثل ذلك بالمانيا وبلجيكا اللتين بدأ تصدير حبوب العراق اليهما من ١٩٠٥
علماً بأن التصدير بلجيكا مباشرة بواسطة بواخر الخط الألماني قد ازداد في ١٩١٠ إلى
أربعة أطنان و ٣٩ كغم من الشعير و ٩٢ طناً من الحنطة وثمانية أطنان و ٨٠٨ كغم من
الرز غير المنقى.
اما فيما يتعلق بالجهات التي تذهب اليها
انواع الحبوب العراقية المصدرة فهي على النحو التالي : ـ يصدر الرز والدخن والبقول
والذرة والحنطة والشعير إلى موانيء الخليج الفارسي والبحر الاحمر ، وتستهلك الهند
في المقام الاول الرز والذرة والعدس والفول ، في حين يصدر الشعير والحنطة والرز
غير المنقى إلى بريطانيا ، ويؤلف الرز غير المنقى والسمسم مواد الطلب الرئيسة في
فرنسا. والرز العراقي لا يمتاز بنوعيته الجيدة فضلاً عن ان تنقيته التي تجري بدوات
يدوية في العمارة وبواسطة محطتين بخاريتين في البصرة لا تتسم بالاتقان ، ولهذا
فأنه يصدر إلى اوربا لغايات صناعية ولتقطير الكحول فقط. اما اصناف الحبوب الاخرى
فان نوعيتها مرضية بحيث يعد بيعها في اوربا مضموناً تماماً سيما الشعير والحنطة بل
ان الدخن الذي بدأ تصديره إلى اوربا في ١٩٠٢ استطاع ان يجد بسرعة طلباً متناميا
عليه.
تتركز تجارة الحبوب مع موانيء الهند
والخليج الفارسي والبحر الاحمر بيد الشركات التي يملكها الاهالي في بغداد والبصرة.
اما تصدير الحبوب إلى اوربا فتقوم به بالدرجة الاول البيوت التجارية الاوربية التي
استقرت في البصرة وفي مقدمتها البريطانية بالطبع. ويجري شراء الحبوب اما مباشرة من
المستودعات الموجودة في البصرة والتي يطلق على الواحد منها اسم «علوة» أو من
الزرّاع والشيوخ في اماكنهم ، وفي هذه الحالة الاخيرة يلتزم اولئك الزراع والشيوخ
بايصال الحبوب على حسابهم الخاص إلى المكان الذي تسلم فيه إلى المشتري .
اما نقل الحبوب إلى البصرة فيجري في العادة بواسطة السفن الشراعية ، وذلك بسبب
انخفاض اجور
__________________
النقل فيها وكذلك
بسبب امكانية نقل الحبوب عليها دون ان تُعّبأ باكياس ، رغم ان بواخر الشركة
النهرية البريطانية منها والعثمانية كانت تقوم بهذه المهمة عن طيب خاطر سيما في
الحالات التي كان فيها تجار الحبوب لايترددون امام ارتفاع اجور الشحن ، لرغبتهم ، في
سرعة ايصال البضاعة إلى البصرة. اما سفن المحيطات فأنها لا تنقل الحبوب إلا عندما
لا تجد حمولة اخرى غيرها ويحدث ذلك في العادة في موسم الصيف الراكد ، والسبب في
ذلك هو ان اجور نقل الحبوب منخفضة بالمقارنة مع الخدمات الاخرى ولذلك فأنها لا
تعتبر حمولة مرغوبة. وفي ١٨٩٥ غيرت شركات البواخر البريطانية مقاييس الحمولة
بالنسبة إلى الحبوب فجعلت الطن الواحد منها يساوي ١٨ هندردريتاً
بدلاً من عشرين هندوردويتاً كما كان في السابق وذلك لكي تعوّض عن هذا الطريق عن
الخسارة التي تصيبها من نقل هذا الحاصل.
وادى اتساع تصدير الحبوب إلى ان ترتفع
اسعارها المحلية بشدة في الفترة الاخيرة ، ويمكن ان نحكم على ذلك من الاحصاءات
التالية : - لقد كان سعر الجملة للطن الواحد في البصرة في ١٨٩٨ هو ٦١ روبلاً و ٤٤
كوبيكا للحنطة و ٣٠ روبلاً و ٧٢ كوبيكا للشعير و ٣٩ روبلاً و ٣٦ كوبيكا للرز
المنقى و ٢٥ روبلاً و ٩٢ كوبيكا للرز غير منقى و ٣٥ روبلاً و ٣٦ كوبيكا للعدس
والذرة و ٨٠ روبلاً و ١٠ كوبيكات للسمسم ، وقد ارتفعت هذه الاسعار في ١٩٠٧ أي بعد
ذلك بعشر سنوات فاصبحت ١١ روبلاً و ٥٢ كوبيكا للطن الواحد من الحنطة والرز المنقى
والسمسم و ٨ روبلات و
__________________
٦٤ كوبيكات للطن
الواحد من الشعير وروبلين و ٨٨ كوبيكا للطن الواحد من الرز غير المنقى و ٢١ روبلاً
و ٦٠ كوبيكا للطن الواحد من الرز غير المنقى و ٢١ روبلاً و ٦٠ كوبيكا للطن الواحد
من العدس والذرة.
وقبل ان تنتقل من المنتجات الزراعية إلى
بحث مواد التصدير من المنتجات الحيوانية المختلفة لابد لنا ان نضيف إلى ماذكرناه
في الفصل الثالث من كتابنا هذا
بضعة اسطر حول تصدير الخيول من البصرة إلى الهند. لقد انخفض هذا التصدير بشدة رغم
ان الضريبة التي كانت عليه ومقدارها ٤٣ روبلاً على الرأس الواحد قد الغيت في ١٩٠٢
، وكان السبب في هذا الانخفاض هو المنافسة الشديدة التي جابهتها الخيول
الاسترالية. وهكذا فقط هبط عدد الخيول المصدرة من البصرة من ٢٦٣٠ رأساً في الفترة
من ١٨٩١ - ١٩٠٠ إلى ١٩٥٨ رأساً في العقد التالي أي من ١٩٠١ حتى نهاية ١٩١٠.
يعد الصوف دون شك اكثر صادرات المنتجات
الحيوانية قيمة. ومع ذلك لم يصبح بيعه في الاسواق الاوربية منتظماً الا بعد افتتاح
قناة السويس شأنه في ذلك شان خامات العراق الاخرى ، اما قبل فأن تصريفه يجري في
الصحراء حيث يباع للعرب المنتقلين الذين كانوا يصنعون منه الخيام والعباءات
والمفارش واحزمة السروج وغير ذلك من الاشياء التي يحتاجها الرُحّل. واخذت فارس
تسهم بدرجة لا يستهان بها في تصدير الصوف بعد ان انتظم وصوله إلى اوربا (اثر
افتتاح قناة السويس) فاخذ الصوف يرد إلى اوربا لامن اقاليم فارسي الغربية فقط بل
من منطقة الكارون ايضاً. غير ان تصدير صوف الكارون عن طريق البصرة توقف بعد ان فتح
نهر الكارون
__________________
للملاحة الاجنبية في
١٨٨٨ وبعد تأسيس البيوت التجارية البريطانية في الاحواز وشوشتر والمحمرة. اما بشأن
الصوف القادم من غرب فارس فأن تصديره عن طريق البصرة تقلص بشكل كبير ايضاً أبتداً
من ١٩٠٠ عندما الغيت ال «راهداري» أي ضريبة الطرق الداخلية لان ملتزمي الصوف
اصبحوا بسبب ذلك يفضلون ارساله إلى مراكز السجاد الايرانية مثل سلطان آباد بدلاً
من تصديره إلى اميركا. وهذا هو في الواقع السر الكامن وراء الظاهرة التي تبدو غير
مفهومة لاول وهلة ونعني ظاهرة هبوط كميات الصوف المصدرة عن طريق البصرة بحيث
انخفضت هذه الكمية من معدل سنوي مقداره ٣٨٥٣٠ بالة في العقد الاخير من القرن
الماضي إلى ٣١٦٠٠ بالة في المعدل في العقد الاول من القرن الحالي. ولكي نوضح كميات
الصوف العراقي المصدر وحده نورد أدناه احصائيات للسنوات ١٩٠١ - ١٩١٠ أي للفترة
التي هبط فيها تصدير الصوف من فارس إلى حده الادنى.
السنة
١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٣٠ ١٩٠٤ ١٩٠٥
|
بالة
٣١٧٩٥ ٢٨٩٨٩ ٤٣٠٤٨ ٣٠٤١٧ ٣٨٦٥١
|
السنة
١٩٠٦ ١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠
|
بالة
٣٩٧٢٦ ٢٨٠٥٦ ١٧٦٢٤ ٤١١٤٦ ٣٦٢٢٣
|
ان مصدر الصوف العراقي الذي يرسل إلى
الاسواق الخارجية هو ولايات العراق الثلاثة : البصرة وبغداد والموصل علماً أن
الاثنتين الاولى والثانية تصدر ان نوعاً من الصوف يعرف في التجار باسم «العربي» بينما
تصدر الموصل بالاساس النوع الذي يطلق عليه اسم «العواسي». اما
الصوف من النوع «الكردي»
فأنه يأتي كما يظهر من اسمه من كردستان سيما مناطق كركوك والسليمانية كما انه يجلب
ايضاً من منطقة الحدود العثمانية ـ الفارسية. وبما ان نوعي «العواسي» و «الكردي» يأتيان
من المنطقة الواقعة إلى الشمال من بغداد ، فأن القسم الاغلب من الصوف ينقل إلى تلك
المدينة لغرض كبسه في المكابس الهدروليكية واليدوية القائمة فيها ولهذا اصبحت
اهمية بغداد التي تمر عبرها ثلاثة ارباع كمية الصوف المصدر تفوق اهمية البصرة
بالنسبة لهذه المادة من مواد التصدير.
كان الصوف المصدر يتوزع حتى الفترة
الاخيرة بين لندن التي تشتري نصفه وفرنسا وامريكا اللتين تقتسمان فيما بينهما
النصف الاخر. وترسل إلى امريكا الانواع الدنيا من الصوف أي «العواسي» و «الكردي» فقط
اذ كانت تفرض عليها ضريبة مقدارها ٤ سنتات عن كل باوند انجليزي وقد زيدت الضريبة
في ١٩٠٣ فاصبحت سبعة سنتات عن كل باوند إنجليزي. اما النوع الجيد أي «العربي» فقد
فرضت عليه ابتداءً من ١٨٩٧ ضريبة عالية مقدارها ١١ سنتاً عن كل باوند انجليزي زيدت
في ١٩٠٣ إلى ٢١ سنتاً ، وابتداءً من ١٩٠٥ زاد عدد الاقطار التي تستهلك صوف مابين
النهرين ، فبالاضافة إلى لندن التي اشترت نصف كمية الصوف المصدرة في تلك السنة
توزع النفص الاخر بين مارسيليا وبريمن وبوسطن وفيلدليفيا وهامبورغ ويوكوهاما التي
ارسلت اليها للمرة الاولى ٤٠٠ بالة ازدادت في السنة الثالية أي في ١٩٠٦ إلى ٨١٤
بالة. وفي الوقت نفسه اصبحت المانيا التي كانت حتى هذا الوقت تحصل على صوف مابين
النهرين عن طريق لندن ، تشترك مباشرة في تصديره من العراق وذلك بفضل خط السفن البخارية
المباشر الذي اقامته في ١٩٠٦ بين هامبورغ والبصرة. وقد ازدادت اسعار الصوف
العراقية المحلية بدرجة ملحوظة
بسبب زيادة الطلب
عليه في الخارج فاذا ما كان سعر المن ومقداره اثنتا عشر حقة أي سبعة وثلاثون
باونداً روسياً ونصف الباوند من الصوف من نوع «العواسي» هو ٨ روبلات و ٧٠ كوبيكا ،
ومن النوع «الكردي» هو ٨ روبلات و ٢٠ كوبيكا في بداية القرن الحالي ، فان هذا
السعر قد ارتفع ١٩١٠ فاصبح بالنسبة للنوع الاول ٩ روبلات و ٨٤ كوبيكا وللنوع
الثاني ٩ روبلات و ٣٦ كوبيكا. اما النوع «العربي» فأنه وحده الذي ظلت اسعاره دون
تغيير اذ ان المن الواحد منه يباع : ٧ روبلات و ٧٠ كوبيكا.
اما شعر الماعز المعروف في العراق باسم
«المرعز» فيجلب من كردستان حيث يتم الحصول عليه من الماعز من نوع الانغورا. وتحتكر
بضعة شركات مسيحية في بغداد التجارة به وهي تجارة مربحة لان الطلب على الشعر مستمر
في لندن التي يجري تصديره اليها باجمعه تقريباً. وقد ازدادت كمية الشعر المصدر في
القرن الاخير من القرن التاسع عشر إلى ٢٤٤٠ بالة للفترة من ١٩٠١ إلى ١٩١٠ علماً
بأن متوسط سعر شعر الماعز في بغداد هو ١٦ كوبيكا للباوند الواحد من الشعر الاسود و
١٣ كوبيكا للباوند الواحد من الشعر الاصفر.
والمادة المهمة التالية من مواد التصدير
هي الجلود المدبوغة التي تحتل بغداد ايضاً باعتبارها مركزاً للدباغة في العراق
المحل الاوّل في تصديرها ، حتى ان الجلود غير المدبوغة تنقل اليها من البصرة نظرا
لطلب الكبير على الجلود المدبوغة في اوربا. ولهذا فأن ولاية البصرة لا تسهم الا
بثلاثة اعشار الكمية المصدرة. فهي تقدم الجلود غير المدبوغة فقط في حين تقدم بغداد
سبعة اعشار الكمية المصدرة من الجلود المدبوغة وغير المدبوغة ، علماً بأن عشر
الكمية هو عبارة عن ترانسيت من فارس التي تصدر جلود الماعز بشكلها غير المدبوغ
بالاساس إلى جانب كمية اقل من
جلد الماعز المدبوغ.
وتنقسم الجلود المدبوغة المصدرة إلى
الخارج من حيث النوعية إلى ثلاثة انواع هي : ـ
١ ـ فراء الحملان ويصدر بالدرجة الاولى
إلى روسيا.
٢ ـ جلود الغنام والماعز والابقار
بشكلها المدبوغ وغير المدبوغ وتصدر إلى اوربا.
٣ ـ جلود الجاموس المدبوغة وغير
المدبوغة وتصدر إلى فارس.
وتتركز تجارة فراء الحملان
بالدرجة الاولى في ثلاثة اماكن من ولاية بغداد وهي بلدة الكاظمية التي تبعد عن
بغداد بمسافة سبعة فرستات وكربلاء والنجف حيث يتجمع في هذه المدن في شهر كانون
الثاني من كل عام مشترو الجملة مع بضائعهم في ختام جولة يطوفون خلالها مضارب البدو
من العرب ، وتستمر عملية بيعهم لجلود الحملان الصغار للتجار المصدرين حتى شهر
نيسان. وهؤلاء المصدرون هم اما الشركات المحلية وهي فارسية بالاس أو من تجارنا
المسلمين من منطقة ماورا القفقاس الذين كثيراً ما يسافرون بانفسهم إلى العراق أو ـ
وهذا هو الاغلب ـ يرسلون إلى هناك وكلاء لهم يثقون بهم. وتختلف نوعية وكلفة فراء
الحملان العراقية اختلافاً كبيراً ، ففي تجارة الجملة تعد فراء الحملان الكويتية
الأفضل وتكون اغلى من غيرها اذ يتراوح ما بين ٥٨ و ١٠٠ روبل لكل مائة منها وتأتي
بعدها من حيث النوعية فراء الحملان القادمة من منطقة السماوة وبعدها فراء النجف
وكربلاء والحلة ثم الفراء القادمة من سنجق العمارة ومنطقة الدليم واخيراً تأتي
فراء بغداد والفراء القادمة من
__________________
منطقة الحدود
العثمانية - الفارسية ، ويتراوح متوسط سعر هذه الانواع مابين ٣٠ و ٦٠ روبلاً لكل
حسب النوعية.
على اية حال يختلف فراء الحملان العراقي
في نوعيته لدرجة ملحوظة عن فراء بخارى والقرم وكذلك عن الفراء الفارسي القادم من شيراز
وقم ولكن يتفوق في جودته على فراء شوشتر ودزفول. وتتذبذب صادرات فراء الحملان
كثيراً من سنة لاخرى تبعاً لملاءمة الظروف المناخية أو عدم ملاءمتها لمربي الماشية
في السنة العنية فعندما يزيد العشب في المراعي يجري الاحتفاظ بالحملان لتربيتها
فتتقلص كمية الفراء الواردة إلى السوق ، اما في حالة احتباس المطر أو حلول البرد
وما يؤدي اليه من انعدام الشعب فيذبح القسم الاغلب من الحملان المولودة حديثاً كما
حصل مثلاً في عام ١٨٩٨ عندما ورد إلى السوق ما يقرب من مليون جلد ، وقد تكرر ذلك
ولو بدرجة اقل في ١٩٠٥. والى جانب روسيا هناك طلب على فراء الحملان العراقي في
المانيا وفرنسا واسطنبول وفي الموانيء السورية. غير ان الكمية التي تذهب إلى هناك
اقل مما يذهب إلى السوق الموسمي في نيزجورد. ويمكن ان نحكم على مقدار مايباع في
هذه الاخيرة من الارقام التالية التي تبين الكميات التي صدرت اليها في السنوات
الخمس من ١٨٩٩ إلى ١٩٠٣ .
في
١٨٩٩
|
٢٨٨٧٥٠
|
جلداً
|
في
١٩٠٠
|
١٧٠٨٠٠
|
جلد
|
في
١٩٠١
|
٢٠٠٢٠٠
|
جلد
|
في
١٩٠٢
|
٢٥٦٩٠٠
|
جلد
|
__________________
وتنقل هذه الكميات من بغداد إلى رشت عن
طريق خانقين وكرمانشاه وهمدان وقزوين بواسطة القوافل التي تبدأ بالمسير اعتباراً
من شهر نيسان وتستمر حتى نهاية حزيران ، علماً بأن كلفة نقل الحمل الواحد أي
حزمتين من فراء الحملان تبلغ في فارس وحدها ٣٥ روبلاً و ٢٠ كوبيكا في المتوسط.
اما تصدير الجلود والجلود المدبوغة إلى
اوربا الغربية فقد كان في العشرين سنة الاخيرة (من ١٨٩١ إلى ١٩١٠) على النحو
التالي حسب ما جاء في التقارير التجارية للقناصل البريطانية في البصرة : -
واذا استخرجنا من هذه الارقام المعدل
لكل عشر سنوات على حدة سيظهر لنا ان تصدير الجلود والجلود المدبوغة قد ازداد من
٥٣٦٥ بالة في العقد الاخير من القرن التاسع عشر إلى ٩٠٢٠ بالة في العقد الاول من
القرن العشرين ، أي انه تضاعف تقريباً ، وقد ارتفع تبعاً لذلك سعر الانواع التي
يكثر عليها الطلب في اوربا وتعني جلود الابقار بشكلها غير المدبوغ التي تصدر
بالدرجة الاولى إلى فرنسا.
أ السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠
|
بالة ٣١٢٨ ٢٢٠٦ ١٨٦٨ ٢٠٤٥ ٢٧٥١ ٥١٧٦٩ ٥٣٨٤
٩١٠٢ ٩٢٣٢ ١١١٥٠
|
ب السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠
|
بالة ٤٥٣٤ ٩٥٢١ ٩٥٥٧ ١٠٤٤٢ ١١٩٠٧ ١٢٠٤٨
٨٤٧١ ٥٢٤٨ ٩٤٢٩ ٩٠٤٣
|
والمانيا حيث ارتفع سعر المن الذي يحوي
ستّ حقق أي ١٨ باوندا روسياً في السنوات العشر الاخيرة من ٣ روبلات و ٦٠ كوبيكا
إلى ٤ روبلات و ٤٨ كوبيكا اما جلود الماعز غير المدبوغة التي كانت تستهلكها
مرسيليا ولندن وهامبورغ فقد ارتفع سعر الجلود الكبير منها في ١٩١٠ فاصبح روبلاً
واحداً وستة كوبيكات بدلاً من السعر السابق ومقداره ٨٠ كوبيكا. هذا في الوقت الذي
وصل فيه جلد الحمل الذي يتراوح عمره ما بين نصف شهر أربعة اشهر إلى روبل واحد
وعشرين كوبيكا للجلد الواحد بدلاً من السعر السابق ومقداره ٧٠ كوبيكا وكانت جلود
الحملان هذه تصدر الى النمسا والمانيا. كذلك ارتفعت اسعار جلد الماعز المدبوغ الذي
يسمي محلياً «السختيان» والذي يصدر بالدرجة الأولى إلى بريطانيا ومنها إلى النمسا
والمانيا وكذلك جلد الغنم المدبوغ الذي يسمى «ميش» والذي يصدر إلى تلك الاقطار
ايضاً ، غير ان هذا الارتفاع لم يكن كبيراً فقد ارتفع سعر الحقة الواحدة ومقدارها
ثلاثة باوندات روسية من روبل و ٢٠ كوبيكا إلى روبل و ٤٠ كوبيكا بالنسبة إلى الاول
في حين ارتفع سعر الجلد من جلود الغنم المدبوغ من ٤٠ كوبيكا إلى ٤٨ كوبيكا.
بقي علينا لكي ننتهي من الحديث عن تصدير
الجلود والجلود المدبوغة من العراق الجنوبي ان نذكر بان جلود الجاموس لاتجد طلباً
عليها في اوربا وذلك لعدم ملاءمتها لصنع نعال الاحذية لانها لا تتحمل الرطوبة
ولهذا فأن كل ما يصدر منها مقداره ٧٠٠٠ جلد الجاموسة الكبيرة وبين روبلين و ٨
روبلات لجلد الجاموسة الصغيرة.
وتشمل صادرات العراق بالاضافة إلى
المنتجات الزراعية والحيوانية التي ذكرناها على عرق السوس والصمغ والعفص وهي مواد
تنتجها تربة ما بين النهرين ولاتكون ثمرة لجهد الانسان الزراعي وانما يجري الحصول
عليها من النباتات
التي تنمو هناك بشكل طبيعي.
ينمو نبات Glycyrrhiza
glabra
أي جذر عرق السوس بشكل طبيعي وبكثرة في جميع انحاء العراق الجنوبي ولم يكن يستغل
في هذه المنطقة باي شكل من اشكال الاستغلال إلى ان قامت شركة Zerlendi et Essayie
وهي شركة نصفها اوربي ونصفها محلي استقرت في البصرة بتصدير هذه الجذور في
ثمانينيات القرن الماضي إلى امريكا حيث كانوا هناك يخلطونه بالتبغ. وقد حصلت هذه
الشركة على ارباح كبيرة من تصدير هذه المادة ، نظراً لقلة التكاليف التي تدفعها
إلى البدو الذين يجمعون هذه المادة وبسبب رخض النقل النهري في دجلة والفرات. غير
ان فائدة هذه التجارة لم تخف على الاهالي فاخذوا يمارسون تصدير عرق السوس ويتوسعون
في ذلك بالتدريج فادى ذلك إلى تنافس حاد في ما بينهم ومن ثم إلى هبوط مردود هذه
التجارة. والواقع ان الحصول على هذه المادة اصبح يكلف اكثر من السابق فقد تحتم
نقله من مناطق ابعد بسبب نفاده تماماً من ضفاف الانهار كما ان المنافسة ادت إلى
ارتفاع الاجور وان المصدرين كانوا مضطرين لغرض تأمين اليد العاملة إلى ان يدفعوا
للبدو مقدمة على الحساب عالية نسبياً. وفي الوقت نفسه كانت نوعية عرق السوق تسوء
بالتدريج لان العمال بعد اصبحوا يتسلمون اجورهم مقدماً أخذوا يصمون آذانهم عن صوت
ضمائرهم اكثر فاكثر عند جلب الجذور التي غالباً ما كان يظهر انها لا تصلح الا لان
تكون حطباً. وقد ادى تصدير عرق السوس الرديء إلى امريكا إلى هبوط اسعاره هناك بشكل
حاد وقد ظهر ذلك واضحاً بشكل خاص في ١٩٠٠ عندما اعتبر ٠٣٠ / ٠ من الوارد منه إلى
__________________
هناك غير صالح
للاستعمال ولم يستطع المصدرون العراقيون الا بالكاد تغطية مصاريف جمع عرق السوس
ونقله إلى الولايات المتحدة. وكانت النتيجة ان ورود عرق السوس حدا بالشركات
الامريكية التي يهمها الامر ان ترسل إلى العراق وكيلاً خاصاً لها. وقد زاد من
ضرورة هذا الاجراء ان البيت التجاري (Hotzand C)
في البصرة الذي كان يعمل في تصدير عرق السوس بكميات كبيرة كان قد اغلق في سنة ١٩٠٣
بالذات. وقد استطاع المندوب الامريكي رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهته ان يجعل
التصدير يستقيم مرة اخرى ويمكن الحكم على ذلك من الجدول ادناه الذي يبين الكميات
المصدرة من عرق السوس في السنوات من ١٨٩١ إلى ١٩١٠ :
__________________
أ السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠
|
رزمة ١٥٨٢ ٤٩١٩ ١١٣٣٢ ١١١٨٥ ١٥٦٩٠ ١٧٥٢٠
١٧٥٥١ ٢٩٢٩١ ٦٠٢٦٦ ٥٤٢٥٧
|
ب السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠
|
رزمة ١٩٠٧٧ ٢٦٤٦١ ١٥٤٥٦ ٢٣٦٥٩ ٤٨٩٥٧ ٤٧٤٧٧
٢٣٣٣٧ ٢٥٩٣٢ ٤٨٧٧٨ ٤٧٤٧٦
|
وهكذا يظهر ان المعدل السنوي لتصدير عرق
السوس قد ارتفع ، في العقد الثاني (من ١٩٠١ إلى ١٩١٠) ، رغم الهزات التي اصابته
بحيث بلغ ٣٢٦٦٠ رزمة بدلاً من معدل العقد الذي سبقه والبالغ ٢٧١٤٠ رزمة. والواقع
ان السبب في تذبذب تصدير عرق السوس بشكل كبير نسبياً في السنوات الاخيرة ، كما
يتضح من الجدول ، هو قيام الحكومة في ١٩٠٦ بزيادة الضريبة المفروضة عليه إلى الضعف
وكذلك الصعوبات المختلفة التي يسببها الموردون المحليون والسلطات المحلية. وما
تزال البصرة التي يوجد فيها مكبس هيدروليكي لعرق السوس المصدر الرئيس الذي يصدر في
المادة ، غير ان بغداد اخذت تؤدي فيه دوراً يزداد اهمية من سنة إلى اخرى. ولم تتعد
قيمة عرق السوس في البصرة في الفترة الاخيرة الباون الاسترليني الواحد في المعدل
لكل رزمة مقدارها ثلاثة هندردويتات ونصف النهدردويت أي ما يقرب ٩١ ، ٤ كوبيكا
للبود الواحد.
وفي الوقت الذي يرد فيه عرق السوس من
العراق الجنوبي بشكل كلي فان الصمغ والعفص يرد بالدرجة الاولى من فارس ومن ولاية
الموصل سيما منطقة السليمانية ، ولهذا فمن البيعي أن يعود الدور الرئيس إلى هاتين
المادتين في بغداد.
يصدر الصمغ بالدرجة الأولى إلى لندن
التي ماتزال حتى الان تحتفظ بأهميتها كسوق عالمي لتجارة الصمغ ولا تذهب إلى امريكا
وفرنسا والمانيا بشكل مباشر الا كميات قليلة منه. وقد ظل تصدير الصمغ في العقدين
الاخيرين على حاله تقريباً كما يظهر من الجدول التالي الذي يبين تصدير هذه المادة
من ١٨٩١ إلى ١٩١٠ ، سيما اذا اخذنا معدل الكميات المصدرة لكل عقد على حدة :
ولم يحصل في اسعار الصمغ في الفترة
الاخيرة تذبذب حاد فقد
ظلت قيمة بعض انواعه
في ١٩١٠ في نفس المستوى الذي كانت عليه في ١٩٠٠ عندما كان المن الذي يعادل اثنتي
عشرة حقة ونصف الحقة أي مايعادل سبعة وثلاثني باونداً انجليزياً ونصف الباوند من
الصنف الجيد يباع في بغداد بـ ٢٨ روبلاً و ٨٠ كوبيكا ومن الصنف الثاني بـ ١٦
روبلاً ومن النوع الثالث بـ : ٨ روبلات. اما الخليط من الانواع الثلاثة فكان سعره
٢٢ روبلاً و ٤٠ كوبيكا للبود الواحد.
اما بخصوص العفص الذي هو كالصمغ يرد إلى
بغداد من كردستان العثمانية وكردستان الفارسية ومن غرب فارس ثم يرسل عن طريق
البصرة إلى بريطانيا
أ السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥
١٨٩٦ ١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
حزمة ٤٨٢١ ٢٩١٥ ٥١٠٩ ٥٦٨٧ ٩٩١٦ ٩٨٣٥
٣٨٥٠ ٧٨٩٧ ٧٢٥٠ ٤٤٥٨ ٦٥٧٥
|
ب السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥
١٩٠٦ ١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
حزمة ٥٥٩٣ ٦٠٩٨ ٦٥٣٧ ٧٦٨٣ ٧٦٧٩ ١٠٠٠٤
٤٣٥٢ ٦١٥٧ ٥٢١١ ٣٣٤٢ ٦٣٧٠
|
وفرنسا وامريكا ، فانه
يختلف في نوعيته (بمعنى نسبة احتوائه على الحوامض ومواد الدبغ) عن العفص الصيني
لدرجة ملحوظة. ولهذا فأن هذا الاخير يكون منافساً قوياً للعفص الكردي والفارسي
الذي لا يمكنه ان يتحمل المنافسة الا بفضل رخص الاسعار. ولذلك فان كمية الصادر منه
تهبط على الفور عندما ترتفع اسعاره المحلية بسبب سوء المحصول أو المضاربة. وقد
هبطت اسعار العفص في ١٩١٠ عما كانت عليه في ١٩٠٠ بشكل ملحوظ ففي الوقت الذي كان
فيه سعر القنطار الواحد ومقداره ٢٢٣ حقة أي ١٦ بوداً و ٢٩ باونداً من العفص الازرق
والاخضر في بغداد ١٤٨ روبلاً والابيض أو بالاحرى الاخضر المبيض ١٢٨ روبلاً في ١٩٠٠
، لم يتعد سعر القنطار الواحد في ١٩١٠ ال ١٣٨ روبلاً و ٤٨ كوبيكا بالنسبة للازرق و
١١١ روبلاً و ٣٦ كوبيكا بالنسبة للاخضر و ١٠٣ روبلات و ٦٨ كوبيكا بالنسبة للابيض
اما عن كميات العفص المصدرة فقد انخفضت هي ايضاً
خلال العقدين الاخيرين فلقد هبط معدل
الكمية المصدرة منه من ٨٩٢٠ كيساً في العقد الاخير من القرن التاسع عشر إلى ٨٥٤٠
كيساً في العقد الاول من القرن العشرين كما يظهر ذلك واضحاً من الجدول التالي :
بقي علينا ان نقول كلمتين أو ثلاثاً عن
بضائع الترانسيت الفارسية ونعني الافيون والسجاد. فقد ازداد متوسط الكمية المصدرة
من الافيون من ٤٩٥ علبة في الفترة من ١٨٩١ إلى ١٩٠٠ إلى ١٠٦٠ علبة في العقد الاول
من القرن العشرين. ويرسل الافيون باجمعه تقريباً إلى الهند لكي يعاد ارساله من
هناك إلى الصين. والافيون يؤلف واحدة من اهم مواد الترانسيت من فارس ، علماً أن
سعر الصندوق الواحد الذي يزن ١٤٠ باونداً انجليزياً منه بلغ في سوق بغداد في ١٩١٠
إلى ١٩٠٨ جنيها استرلينية.
اما السجاد الايراني
فلا يتحتم علينا التوسع في الحديث عنه بل يكفي ان نلاحظ ان معدل الكميات المصدرة
منه ازداد زيادة كبيرة فوصل في السنوات العشر الاولى من القرن الحالي إلى ١٩٩٠
بالة في السنة بدلاً من ١٩٨٠ بالة في السنة كمعدل للفترة من ١٨٩١ إلى ١٩٠٠. والسبب
في هذه الزيادة هو اتساع الطلب على السجاد في امريكا التي ترسل اليها الانواع
الفاخرة منه وكذلك كثرة الطلب في مصر وموانيء الشرق الادنى واسطنبول على انواع
السجاد الاقل سعراً الذي يجلبه إلى العراق بكميات كبيرة الزوار الفرس القادمون إلى
العتبات المقدسة.
أ ـ السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥
١٨٩٦ ١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
كيس ١١٥٧٦ ٣٨٣٣ ٥٠٠٤ ٥٦٤٣ ١٢٩٧٥ ٩١٧٧
٦١٢٧ ١٠٥٥٠ ١١٨٦٦ ١٢٣٩١ ٨٥٤٠
|
ب ـ السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥
١٩٠٦ ١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
كيس ١٢٧٢٥ ٩٦٥٤ ١١٤٩١ ٨٩٦٦ ٩٤٠٥ ٩٠٠٧ ٦٠١٥
٥٢٩٧ ٥٣٢٦ ٧٦١٦ ٨٩٢٠
|
__________________
ولا يجوز لنا ونحن نجمل نتائج ما ذكرناه
عن التصدير من العراق إلى ان نستنتج بانه لا يزال بعيداً عن حدوده القصوى سيما وان
الزراعة التي هي الان المصدر الرئيس لخامات التصدير لم تبدأ السير في طريق التقدم
الحقيقي الاّ الان ، ولذلك فأنها تعد بان تصل في المستقبل إلى مستويات مدهشة من
التطور سيما اذا اتخذت التدابير اللازمة لتأمين الا رواء الكافي لها.
اما فيما يتعلق بالاستيراد فأنه
كالتصدير عاني في البداية من سيادة نفوذ بريطانيا التي حازت بفضل اقامتها لأول
خطوط مباشرة للسفن التجارية بين البصرة ولندن على المركز القيادي في توريد منتجات
مصانع ومعامل اوربا الغربية إلى اسواق مابين النهرين. وقد عززت الصادرات العراقية
التي تذهب بكليتها تقريباً إلى لندن ، الدور الذي كانت تؤدي بريطانيا كوسيط بين
اوربا القارية المستهلكين العراقيين لمنتجاتها لسبب بسيط هو انه كان من الافضل
لشركات الاهالي والأسهل لها في كل المجالات ان تحصل على البضائع الاوربية التي
تحتاجها من لندن التي ترسل اليها خامات العراق. وقد وصل الامر في هذا المجال درجة
ان الكثير من منتجات اوربا الغربية كانت إلى وقت قريب تعتبر في العراق منتجات
النجليزية لا لشيء الا لان تسلمها جرى بواسطة لندن ولانها نقلت إلى البصرة على سفن
انجليزية. ولكن عهداً جديداً في توريد المنتجات الاوربية إلى العراق بدأ منذ مفتتح
القرن الحالي عندما اقامت شركات البواخر الاوربية صلات مباشرة بين هذا القطر
والدول المنتجة ، فوضعت بذلك بداية لتحرر الاستيراد من اوربا من وساطة لندن.
تتوزع البضائع التي تستورد عن طريق
ميناء البصرة كما ذكرنا بين العراق وغرب فارس. والواقع ان العراق لا يعد المستهلك
الرئيس لمنتجات
الصناعة الاوربية
المستوردة بل يتخلى عن المركز الاول في هذا المجال لفارس المجاورة .
وهكذا فان ما لا يقل عن ٦٠% من الواردات تذهب إلى فارس في حين تتوزع الـ ٤٠١%
الباقية في العراق نفسه ، علماً أن البصرة تستهلك اقل من بغداد بمقدار مرتين ولما
كان المحرك الأساس لتجارة البصرة هو تصدير التمور والحبوب فأن الاستهلاك المحلي للبضائع
الاجنبية يقتصر على المواد التي تستخدم للتعبئة كالصناديق للتمر واكياس الجوت
للحبوب وما أشبه ، بالاضافة طبعاً إلى بضائع الاستهلاك الضرورية كالمنسوجات والسكر
والمعادن. اما في بغداد فأن الامور تجري بشك مغاير تماماً لان بغداد يمر فيها
سنوياً مابين ٥٠ إلى ٦٠ ألفاً من الزوار القادمين من فارس إلى العتبات المقدسة في
كربلاء والنجف وسامراء والكاظمين بالإضافة إلى بضعة آلاف أخرى من الحجاج الهنود
القادمين عن طريق البصرة. فحركة الزوار هذه لا يمكن الا ان تساعد على زيادة
استهلاك البضائع المستوردة فتؤثر بذلك ايجابياً على تجارة بغداد التي تتميز اساساً
بازدهار كبير نظراً لان البضائع المستوردة من اوربا إلى غرب فارس تنقل إلى هناك
باجمعها عن طريق بغداد. على آية حال ينبغي اعتبار حركة الزوار التي ترتبط بالتجارة
منذ القدم على انها شرط رئيس لحالة الازدهار التي يعيشها السوق في بغداد ز وفي كل
مرة ، يقل فيها سيل الزوار
__________________
بسبب اقامة مراكز
الحجر الصحي على الحدود تلافياً للاوبئة التي تظهر في فارس تحس بغداد على الفور
ركوداً في التجارة وتبدو أسواقها غاصة بالبضائع المستوردة.
والجدول ادناه يبين مواد الاستيراد
المختلفة ومعدل الاستيراد السنوي لكل مادة في العقد من القرن التاسع عشر والعقد
الاول من القرن العشرين : ـ
المادة
|
العقد
الاخير من القرن
التاسع
عشر
|
العقد
الاول من القرن
العشرين
|
شموع
فحم الخشب
خزف وزجاج
اقمشة قطنية
اقمشة حريرية
اقمشة صوفية
فحم حجري
بن
نحاس
قصدير ، رصاص ، وغيرها
حديد من مختلف الانواع
بضائع خزفية
حجر الطاحون
خرداوات
نيلة
|
٥٦٢٠ - صندوق -
٢٣٧٤٠ - حزمة -
١٨٩٠ - صندوق -
١٤٩٢٠ - رزمة -
١٨٥ - رزمة -
٨١٥ - رزمة -
٧٤٠٠ - طن -
٥٩٨٠ - كيس -
٤٤٤٠ - حزمة -
٣٢٤٠ - قطعة -
٣٩٤٠٠ - قطعة -
٨١٠ - رزمة -
١٢٠٢٠ - قطعة -
٢٩٠ - صندوق -
٦٧٥ - صندوق -
|
١١٠١٧ - صندوق
٣٦٩٤٠ - حزمة
٣٤١٥ - صندوق
٢٥٨٠٠ - رزمة
٢١٥ - رزمة
٨١٥ - رزمة
١٤٦٥٠ - طن
١٥٠٣٠ - كيس
٧٠٩٠ - حزمة
٥٢٠٠ - قطعة
٤٨٧٠ - قطعة
١١٦٠ - رزمة
٩٦٥٠ - قطعة
٩٠٠ - صندوق
٩٠٥ - صندوق
|
كيروسين
مكائن
اكياس الجوت
الثقاب
أدوية
اصباغ
مأكولات
رز
حبال وخيوط
صابون
توابل
ورق
سكر مخروطي
سكر ناعم
شاي
تبغ
حنطة
زجاج النوافذ
مشروبات
صناديق للتمر بشكل مفكك
الواح خشبية
اعمدة خشبية وما اشبه
غزول
|
٥٥٢٩٠- علبة -
١٤٧٥ - صندوق -
٤٥٦٠ - بالة -
١٦٠٥ - صندوق -
٣٠٨٠ - رزمة -
٢٣١٥ - صفيحة -
٧٤٩٠ - صندوق -
٧٧١٠ - كيس -
٣٧٤٠ - حزمة -
١٥٣٠ - صندوق -
١٥٤٨٥ - بالة -
٢٠٠٥ - صندوق -
٥٠٤١٠ - صندوق -
٣٠٦٧٥ - كيس -
٥٢٤٠ - صندوق -
٤٠٢٠ - بالة -
٣٢٨٠ - كيس -
٢١٠٠ - صندوق -
٤٧٤٠ - صندوق -
١٠٣٤١٠ - حزمة -
٦٩٢٤٠ - قطعة -
٣٣٩٩٠ - قطعة -
٣٢٣٥ - رزمة -
|
٩٤١١٥ - علبة
٣٥٧٠ - صندوق
١١١٨٠ - بالة
٦٢١٥ - صندوق
٥٦٦٠ - رزمة
٥٨٢٠ - صفحة
١٨٧٨٠ - صندوق
١٨٣١٠ - كيس
٤٥٣٥ - حزمة
٤٩٤٠ - صندوق
١٤٣٥٥ - بالة
٤٣٣٠ - صندوق
٦٥٤٣٥ - صندوق
٧٥٨٧٠ - كيس
١٧١٤٠ - صندوق
٥٤١٠ - بالة
٣٠٢٠ - كيس
٦٩٢٠ - صندوق
٩٦٩٠ - صندوق
١٩٣٨٣٠ - حزمة
١٦٣٠٧٠ - قطعة
٣٣٢٩٠ - قطعة
٤٨٧٠ - رزمة
|
بضائع مختلفة
(شب، حناء، جلود، مسامير،ماء
الورد ، ... الخ)
|
٣٠٠٤٠ - قطعة -
|
٢٠٥٥٥ - قطعة
|
يظهر من مقارنة الارقام الواردة في هذا
الجدول ان هناك زيادة ملحوظة حدثت في بداية القرن العشرين في جميع البضائع التي
استوردت من اوربا ، وينبغي ان يعد ذلك علامة واضحة جداً على نمو الاستيراد آخذين
بنظر الاعتبار الظروف المعوّقة التي كان عليه ان يتطور في ظلها والتي كان أكثره
سوءاً حتى الفترة الاخيرة وضع الملاحة النهرية.
ففي الوقت الذي كانت فيه الملاحة
البحرية تتسع من سنة إلى اخرى ويزداد بالتدريج عدد البواخر التي تزور البصرة
سنوياً ، الامر الذي تحدثنا عنه بالتفصيل في بداية هذا الفصل ، فأن وضع الملاحة
النهرية ظل على حاله دون تغير منذ ان وجدت هذه الملاحة أي منذ ١٨٤٦. صحيح ان شركة
الملاحة النهرية الانجليزية :
(Euphrates and
Tigris Steam Navigation CO)
اصبحت تمتلك ثلاث بواخر هي : «مجيدية» و «خليفة» و «بلوص لنج» ، لكنه لم يسمح لها
بتسيير الاثنتين منها اما الثالثة فقد ظلت بدون عمل واعتبرت احتياطاً تحل محل أية
باخرة يصيبها العطل أو تسحب للتصليح من الباخرتين العاملتين. اما الشركة العثمانية
فكان لديها اربع بواخر هي : «موصل» و «فرات» و «رصافة» و «بغداد» لان الباخرة «البصرة»
كانت قد سحبت بسبب تقادمها. ولم يعد بمقدور هذه البواخر باجمعها ومنذ طيول ان
تستوعب
__________________
حركة الاستيراد والتصدير
المتنامية في نهر دجلة وذلك بسبب صغر حجمها فاكبرها وهي الباخرة «خليفة» تبلغ
حمولتها الاجمالية ٤٧٠ طناً لذلك فقد اضطرت الحكومة العثمانيبة لان تسمح للشركتين
بان تسحب بواخرهما «جنائب» حديدية لكي تتلافى بهذه الطريقة تراكم البضائع بشكل
يزيد عن الحد في مستودعات البضائع في البصرة. غير ان هذا التدبير لم يكن مؤثراً
الا لوقت قصير لان الحمولة الاجمالية للبواخر الست باجمعها مع جنائبها لم تكن
تتعدى ، بسبب تراكم الرمال في قاع دجلة ونقصان عمقه باستمرار الألف والثمانمائة طن
إلى ثلاثة آلاف وستمائة طن في الشهر ، لان السفن تقوم بسفرتين عادة في الشهر
الواحد ، وهذا بالطبع لم يكن يكفي لان تنقل إلى بغداد جميع البضائع التي تفرغها في
البصرة الملاحة البحرية الاخذة بالاتساع تدريجياً. يضاف إلى ذلك ان الفترة الاكثر
ازدهاراً في الحركة تقع بين شهري آب وتشرين الاول حين يصل إلى البصرة عدد كبير
نسبياً من البواخر لنقل التمر ولكن المياه في دجلة في هذه الفترة تكون في اوطأ
مستوى لها مما يحتم على السفن النهرية ان تقلل حمولتها إلى ادنى حد. ولهذا كله لم
تلبث الملاحة النهرية ان عادت إلى عجزها عن استيعاب البضائع المتراكمة كلها حتى ان
كمية البضائع الفائضة عن النقل في مستودعات الشركة الانكليزية بلغت في ١٩٠٦ مايزيد
على ٣٠٠٠ طن. وكان هذا الوضع ينعكس سلبياً على الاستيراد للتأخير الذي يسببه في
نقل البضاعة الموسمية إلى بغداد ومنها إلى فارس والزيادة التي يحدثها في اجراء
النقل النهري. وهكذا ففي الوقت الذي تكون فيه المدة الملازمة لنقل البضائعة من
الموانيء الاوربية إلى البصرة مابين ثلاثة إلى اربعة اشهر كان نقل هذه البضاعة من
البصرة إلى بغداد يستغرق مالا يقل عن شهرين إلى ثلاثة اشهر. ولذلك فكثيراً ماكان
التجار
يتسلمون الاقمشة
الشتوية في بداية حرارة الصيف الامر الذي يضطرهم إلى خزن الجوخ والمنسوجات الصيفية
التي تسلموها فورا في المستودعات. يضاف إلى ذلك ان عدم ايصال البضائع في وقتها
المناسب غالباً ما كان يؤدي إلى عدم سد احتياجات سكان القرى والمستوطنات الذين
اعتادوا على ان يجهزوا انفسهم بمؤونة الشتاء من البضائع المستوردة بعد جمع الحاصل
وبيعه في اواخر الخريف. من ذلك يظهر إلى أي مدى كانت تجارة الاستيراد تعاني من عدم
كفاية وسائل النقل في نهر دجلة علما ان السفن الشراعية لم يكن بمقدورها المساعدة
في هذا الامر لان شركات التأمين كانت ترفض التأمين على البضائع التي تنقل عليها مما
جعل النقل بواسطة السفن الشراعية يقتصر على الاشياء الكبيرة الحجم والقليلة القيمة
كالفحم وخامات المعادن وما اشبه. اما عن اجور الشحن فان حركة البضائع الواسعة
وانعدام المنافسة جعل الشركتين النهريتين كلتيهما لا تجدان حرجاً في ان تأخذ مقابل
نقل البضاعة من البصرة إلى بغداد نفس المبلغ تقريباً الذي يكلفه نقلها من لندن إلى
البصرة مثلاً بالرغم من الاختلاف الكبير في المسافة. ففي الوقت الذي كان فيه معدل
كلفة نقل الطن الواحد من البضاعة من لندن إلى البصرة هو جنيهاً استيرالينياً
واحداً و ١٥ شلناً بما في ذلك مصاريف التفريغ في البصرة ، كان معدل اجرة نقل الطن
الواحد من البصرة إلى بغداد جنيهاً استرلينياً واحداً و ١٢ شلناً.
كانت الخطوات الاولى باتجاه تحسين وضع
الملاحة النهرية غير الطبيعي قد اتخذت من قبل «اراضي السنية» أي ادارة الضياع
السلطانية التي انتقلت اليها في بداية القرن العشرين ملكية شركة الملاحة البخارية
العثمانية «عماني عصماني» او «اومان أو اوتومان» كما ينطقها الاوربيون. لقد ابدلت
هذه الارادة اسم الشركة إلى «حميدية» وقررت ان تبدأ بتجديد
سفنها العاملة فاوصت
لهذا الغرض في انجلترا على باخرتين جديدتين هما : «برهانية» و «حميدية». وقد نقلت
هاتان الباخرتان إلى البصرة مفككتين في اواخر ١٩٠٣ ولكنهما لم تباشرا القيام
بسفرات منتظمة إلى في ١٩٠٧ ، بسبب التعديلات الكبيرة التي تطلب الامر اجراءها
عليهما. وفي ١٩٠٨ اضافت الادراة المذكورة إلى هاتين الباخرتين اخريين حصلت عليهما
من بلجيكا ، واطلقت عليهم اسم «بغداد» و «بصرة». وهكذا اصبح لديها في ١٩٠٩ خمس
بواخر قيد الاستعمال اربع منها جديدة وواحدة فقط قديمة وهي الباخرة «رصافة». اما
الباخرتان «موصل» و «فرات» فقد تركتا بسبب تقادمهما في حين جرى تحويل الباخرة «بغداد»
القديمة إلى سفينة صغيرة للدفاع عن السواحل. وفي هذا السياق سمحت الحكومة
العثمانية العثمانية للشركة الانجليزية في اذار ١٩٠٧ بان تسير باخرة ثالثة فانتظم
بذلك نقلها للبضائع من البصرة إلى بغداد. وهكذا ادت الجهود المشتركة التي بذلتها
الشركتان النهريتان إلى تعجيل النقل في نهر دجلة بحيث اصبحت البضائع تصل إلى بغداد
اسرع بمرتين عما كان الحال في السابق كما ان المنافسة التي اخذت تجابهها شركة
النقل النهري الانجليزية من جانب الشركة العثمانية بعد الاصلاحات التي اجريت فيها
ادت إلى تقليص اجور الشحن بمقدار ١٠% بالمقارنة مع السنوات السابقة. ولا يزال الاثر
الذي تركه تحسن النقل النهري في بدايته ولا يمكن حساب المدى الذي سيبلغه الا في
السمتقبل.
وهناك إلى جانب هذه العقبة الجدية التي
نمت ازالتها بشكل جيد حالياً كما رأينا ، عقبات اخرى اقل اهمية تعترض نمو وارادت
العراق وفارس المجاورة من اوربا. واول هذه العقبات بالطبع هي المضاربة التي
يمارسها المستوردون الصغار كثير والعدد من الاهالي فهم يوصون على
طلبات تفوق قدرتهم
على الدفع معتمدين على ان اصحاب المصانع الاوربيين الذين يسعون إلى اقامة صلات
مباشرة مع العراق لن يهتموا بان يجمعوا المعلومات عن قدرة عملائهم الجدد على ايفاء
ديونهم. وبما ان هؤلاء المضاربين لم يكونوا يمتلكون أي سيولة نقدية ، فأنهم يعمدون
إلى بيع الطلبات التي أوصوا عليها إلى تجار المفرد مسبقاً وبالدَيْن لمدة ثلاثة
إلى خمسة أشهر ثم يصرفون الكمبيالات التي يأخذونها على تجار المفرد هؤلاء لدى
الصرافين المحليين بعد ان يخصموا لهم ما بين ٩ إلى ١٠% من قيمتها وبالنقود التي
يحصلون عليها بهذه الطريقة يتسلمون البضاعة التي تصل باسمهم. وطبيعي ان صاحب الطلب
الذي لا يملك نقوداً لا يكون قادراً على اتمام هذه العملية بنجاح في حالة هبوط
الاسعار المحلية للبضاعة التي اوصى عليها فيضطر في هذه الحالة إلى ممارسة كل الحيل
الممكنة لكي يتنصل من تسلم الطلب الذي أوصى عليه. وفي النهاية يتحمل المجهز
الاوربي ، الذي لا يرغب في اللجوء إلى الروتين القضائي الذي لا نهاية له ، كل
الخسائر الناجمة عن بيع البضاعة بالمزاد العلني بعد ان يتخلى الذي اوصى عليها عن
تسلمها. وحتى في الحالات التي يكون فيها هؤلاء المضاربون قادرين على دفع قيمة
البضاعة التي اوصوا عليها لا يخلو نشاطهم من الضرر على التجارة وذلك لان صاحب
الطلب الذي لا يملك نقوداً لا يهتم بحالة السوق فيملأه بالبضائع التي اوصى عليها
على أمل ان يصرفها بسرعة.
ان الوسيلة الوحيدة امام اصحاب المصانع
الاجانب لحماية انفسهم من أمثال رجال الاعمال هؤلاء هي ان يستعلموا مسبقاً من
قناصل دولهم عن مقدرة من يوصي على الطلبات ممن لا يعرفونهم شخصياً على ايفاء
الدَيْن أو في الاقل ارسال وثيقة الشحن الخاصة بالبضاعة التي ارسلوها إلى
البنك العثماني لان
هذا الاخير لا يسلمها إلى صاحبها الا بعد ان يدفع هذا الاخير قيمة الفواتير ، كما
ان بأمكان هذا البنك على العموم ان يأخذ على عاتقه حماية مصالح المجهز. غير اننا
يجب ان نعترف بان افضل ضمان ضد المضاربين هو ان تقوم الشركات الاجنبية بتعيين
وكلاء خاصين لها في العراق ويفضل ان يكون من تلك الشركات نفسها. ومن بين الظروف
غير الملائمة للاستيراد الابتعاد عن المرونة وانحسار الثقة في التعامل التجاري حتى
من جانب اكثر تجار الجملة رصانة فكثيراً ما يعد هؤلاء التجار زياد اصحاب المصانع
الاوربيين لاسعار بضائعهم مجرد مضاربة ولهذا فأنهم يتقصدون في الاحجام عن الايصاء
على الطلبات أو يقللونها إلى النصف على الرغم من وجود الطلب على البضاعة المعنية
في السوق.
وبعد ان بحثنا الاسباب الرئيسة التي تضر
بالاستيراد سنعدد باختصار الظروف التي تؤثر في نجاح المنافسة القائمة بين الاقطار
المختلفة في قضية توريد منتجاتها إلى السوق العراقي. واول هذه الاسباب دون شك هو
رخص السعر ذلك ان الفئات المتوسطة والفقيرة بل والطبقات الغنية ايضاً من سكان
العراق يقومون بشراء البضائع بكميات تفيض عن حاجتهم اذا كان سعرها رخيصاً لانهم
بذلك يوفرون لانفسهم ولوقت طويل البضائع غالية الثمن. ان هذه الخاصة التي يمتاز
بها المشتري العراقي هي التي تفسر مثلاً نجاح الاواني الرخيصة المطلية بالمينا
التي تنتجها النمسا والمانيا والتي اخذت تزيح الادوات النحاسية الغالية من السوق
شيئاً فشيئاً. والواقع ان الموردين الاوربيين الذين استجابوا لهذه الطلب الذي
يتميز به المستهلك المحلي فرخصوا بضائعهم ، حتى لو كان ذلك على حساب نوعيتها - هم
الذين اصابوا الربح وتفوقوا على منافسيهم. وتقدم النمسا المثل الاكثر وضوحاً الذي
يؤكد هذا التصور فقد استطاعت ان تتفوق على النرويج في
مجال توريد الصناديق
الخاصة بنقل التمر وذلك بفضل تخفيضها لثمن هذه البضاعة ، فقد كان ثمن الصناديق
النمساوية واصلة البصرة هو ٢٦ جنيهاً استرلينياً لكل الف ، في حين أن سعر الصناديق
النرويجية التي هي احسن من حيث النوعية لم يكن يقل عن ٢٨ جنيهاً استرلينياً وشلناً
واحداً لكل ألف.
ويمكن ان يكون تكليف الموردين الاجانب
لظروف التجارة المحلية بدرجة لا تقل عن تكليفهم لاذواق ومطاليب السكان ضماناً آخر
للنجاح. فمطالبة اصحاب الطلبات العراقيين بفتح حساب في احد البنوك الاوربية تعني
مثلاً غلق الطرق إلى السوق العراقي ، لان العراق له وضع استثنائي فيما يتعلق
بالناحية المالية فشركات الاهالي المحلية فيه بشكل عام لا تمتلك مايكفي من رأس
المال من جهة ومن الجهة الاخرى لا يوجد هناك من المؤسسات المصرفية التي تعمل على
النمط الاوربي الا مؤسسة واحدة فقط هي البنك العثماني. اما البيوت التجارية
الاوربية الرصينة المتواجدة في العراق فأنها لا تستطيع ان تفتح للتجارة المحلية
اعتمادات واسعة لان ذلك يتطلب رأس مال متداولاً كبيراً ، ولهذا فأنها تقتصر في منح
اعتماداتها على التجار المحليين الذين يرتبطون معها بعمليات تجارية.
ومن الناحية الاخرى ينبغي الاهتمام
بدرجة لاتقل عن ذلك بتكيف اصحاب المصانع الاجانب للذوق المحلي لان الزخارف
والألوان ترسم في العراق ، شأنه في ذلك شأن الاقطار الشرقية الاخرى ، وفق الطراز
الخاص به وهو طراز يتبدل باستمرار وتلتزم به الفئات الغنية والفئات الدنيا من
السكان على السواء ، حيث نجدهم يفضلون الاقمشة القطنية الرخيصة المصنوعة وفق
السائد على الاقمشة الفاخرة. ويلعب التكيف دوراً مهماً حتى في قضية تبدو ثانوية
كقضية تعبئة البضاعة أو رزمها اولاً لان السكان الريفيين
وهم أميون في اغلبهم
يشترون انواع البضاعة المفضلة لديهم بالتعرف عليها من شكل واسلوب تعبئتها ولهذا
فمن الضروري الاهتمام بتغليف البضاعة بالشكل الذي يقربها اكثر ما يمكن من البضائع
الواسعة الرواج ، وثانياً : لان المنتجات التي استطاعت الاستحواذ على السوق المحلي
مهيئة في تعبئتها ورزمها بشكل افضل لجميع انواع النقل المحلي وفي مقدمتها بالطبع
النقل على الدواب وهو أمر له اهمية كبيرة بالنسبة للترانسيت الفارسي الذي ما يزال
يجري بكليته بواسطة القوافل.
وهكذا فأن كل صاحب معمل يرغب في ان
ينافس الاخر في توريد بضاعته إلى السوق العراقي ، بأمكانه ان يعد نجاحه مضموناً
اذا مارعى ، جهد الامكان ، الشروط التي ذكرناها اعلاه وسيما وان اغلبية شركات
الاهالي الاجنبية في البصرة وبغداد هي شركات اهل للثقة لانها قادرة على الايفاء
بديونها وتحرص على سمعهتها التجارية.
ويشتغل بالاستيراد ، إلى جانب الاهالي ،
البيوت التجارية الاوربية التي استقرت في العراق علماً بان فروع البيوتات في
التبصرة تركز جل اهتمامها على التصدير وتولي اهتماماً بالاستيراد اقل من فروعها في
بغداد. ولهذا السبب فأن اصحاب المصانع والمعامل الاوربية يلجأون ، عند عدم وجود
شركات من اوطانهم ، إلى وساطة فروع البيوتات المذكورة في بغداد كما حصل للبيت
الألماني (Berk, puttman CO)
الذي ظل لوقت طويل ممثلاً لمعامل السكر الفرنسية التابعة لشركة (Mediterrannee).
اما من حيث درجة مشاركة الدول الاوربية
المختلفة في توريد
__________________
المنتجات الصناعية في
العراق ، فان بيرطانيا العظمى تحتل مع الهند المركز الاول اذ تبلغ حصتها ثلثي قيمة
الاستيراد باجمعه ، تأتي بعدها فرنسا التي كانت تشغل المركز الثاني حتى الفترة
الاخيرة ، ثم سبقتها النمسا بعض الشيء في ١٩٠٩ كما يشير إلى ذلك تقرير القنصل
البريطاني العام في البصرة
، كما ان بلجيكا تقدمت فأحتلت المركز الثاني في ١٩١٠ مع ان النمسا كانت قبل ذلك
تحتل المركز الثالث وبلجيكا المركز الرابع ، وتأتي بعد هاتين الدولتين كل من
المانيا وروسيا والسويد على التوالي.
وتورد بريطانيا بالدرجة الاولى الاقمشة
القطنية والفحم الحجري والنحاس والغزل. وتؤلف الاقمشة ذات المصدر الانجليزي ٧٠% من
الكمية المستوردة من هذه البضاعة عن طريق ميناء البصرة وتبلغ من حيث القيمة نصف
الاستيراد باجمعه ، وتورد الهند النسبة الباقية كلها تقريباً ومقدارها ٣٠% بحيث لا
يبقى للدول الاخرى الا جزء في غاية الصفر. والمصدر الرئيسي للاقمشة الانجليزية هو
مانجستر التي استقرت فيها منذ زمن طويل شركات يهودية من بغداد واخذت تعمل كوسطاء
بين اصحاب المصانع المحليين وتجار الجملة من اهالي بغداد. وقد احتفظت بيرطانيا
بتوفقها في مجال توريد المنتوجات القطنية حتى الوقت الحاضر بفضل كون سوق لندن ما
يزال المستهلك الرئيس لخامات العراق وبسبب كون ظروف بريطانيا في مسألة المحافظة
على الميزان التجاري افضل من ظروف الاقطار الاوربية الاخرى. اما عن كميات النسيج
القطني المستورد إلى البصرة فيمكن استخلاصها من الجدول التالي الذي يبين هذه
الكميات في العشرين سنة
__________________
الواقعة بين ١٨٩١ - ١٩١٠
:
يظهر من مقارنة الارقام الواردة في هذا
الجدول أن أستهلاك الاقمشة في العقد الاول من القرن العشرين قد ازداد باضطراد بحيث
وصل المعدل السنوي لاستيرادها للسنوات من ١٩٠١ - ١٩١٠ إلى : ٨٠٠ و ٢٥ رزمة بعد ان
كان في العقد السابق ٩٢٠ و ١٤ رزمة فقط وسبب الارتفاع الحاد الذي حصل في ١٩٠٧ هو
زيادة الضريبة الكمركية العثمانية في منتصف السنة المذكورة من ٨% إلى ١١% الامر
الذي دفع الكثير من التجار إلى التوسع في الشراء لزيادة احتياطياتهم بموجب التعريف
القديم. اما المستوى العالي للاستيراد في السنوات التي تلت ذلك فسببه توجيه جزء من
النسيج المستورد إلى طريق بغداد - كرمنشاه بدلاً من طريق بندر بوشهر الذي اصبح
يفتقر إلى الامان ، بسبب اتساع السلب والنهب في جنوب فارس. وقد ادى رخص الاقمشة
الاوربية إلى القضاء تدريجياً على انتاج النسيج المحلي الذي كان قد هبط بشدة اصلاً
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، بل حتى عملية صبغ الاقمشة الاجنبية البيضاء
التي كانت حتى الفترة الاخيرة تجري محلياً اخذت بالانقراض ، لان الرغبة فيها اصبحت
اقل من استقدام «الشيت» الجاهز.
أ السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥
١٨٩٦ ١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
رزمة ٢٣٩٤٦ ١٣٠٣٣ ١٠٣٧٠ ٢٣٨٥٨ ٢٦٧٦٠
١٤٩٤٧ ٦٨١١ ٢١٣٤٦ ١٦٢٢٧ ١٧٧٦٠ ١٤٩٢٠
|
ب السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥
١٩٠٦ ١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
رزمة ١٨٨٥٠ ٢٠١٥٢ ٢٠٦٣٧ ٢١٢٠٥ ٢٢٣٣٨
٢٥٠٦٠ ٣٢٧٩١ ٣١٨٢٤ ٣٢٤١٨ ٣٣٣١١ ٢٥٨٠٠
|
اما مشاركة الاقطار الاخرى في توريد
النسيج فتظهر بالدرجة الاولى في جلب الاقمشة المخملية والصوفية من فرنسا والمنتجات
الصوفية من النمسا والمانيا. وقد ازداد استيراد هذه الانواع جميعها في بداية القرن
الحالي رغم ان استهلاكها قليلاً مايزال فقد ارتفع متوسط الاستيراد السنوي من فرنسا
من ١٨٥ رزمة في نهاية القرن التاسع عشر إلى ٢١٥ رزمة للفترة من ١٩٠١ إلى ١٩١٠. اما
شراء القماش النمساوي والألماني فقد ازداد في الفترة ذاتها من ٨١٥ رزمة إلى ١١٣٠
رزمة.
لقد اتبع في التعامل بين اصحاب المصانع
وتجار الجملة في تجارة الاقمشة نظام الدفع نقداً على اساس وثيقة الشحن وفي حالات
منفردة يجري البيع بالدَيْن لمدة يجري تحديدها بالاتفاقر بين الجهات ذات العلاقة.
ويبيع تجار الجملة الاقمشة إلى تجار المفرد في اغلب الحالات بالدَيْن لمدد مختلفة
، علماً بأن اصحاب المصانع في مانجستر يخفضون قيمة البضاعة لتجار الجملة بمقدار
١٥% في حالة البيع نقداً في حين يخفض هؤلاء أي تجار الجملة قيمتها عند بيعها لتجار
المفرد نقداً بما لا يزيد عن ٢% من السعر الاصلي.
اما فيما يتعلق بالهند فأنها تورد
بالدرجة الاولى التوابل والغزل والشاي واكياس الجوت والنيلة إلى جانب المنتوجات
القطنية التي ذكرناها. وتتركز تجارة هذه المنتوجات بكليتها في يد شركات الاهالي
المحلية في البصرة وبغداد. والواردات من الهند ذات قيمة عالية إلى درجة انها تحتل
حتى لو اخذت منفردة بدون الواردات من بريطانيا ، المركز الثاني وتعادل ما يقرب من
نصف ما يستورد من الهند من الجدول التالي الذي يبين استيراد المواد التي ذكرناها
اعلاه في العقد الاول القرن العشرين : -
المادة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
التوابل ١٩٨٨٠ ١٦٤٦٠ ١٤٩٠٨ ١٣٦٦٣
١٣٥٦٠ ١٣٢٥١ ١٢٧٠٢ ١٢٨٥١ ١٢٨٦٧ ١٢٥٩١ ١٤٣٥٥
بالبالات
|
الغزل بالرزم ٣٠٠٣ ٢٧٦٩ ٢٨٦٥ ٣٣٥٢
٢٤٣٩ ٢٣٤٦ ٤٠٣٨ ٤٩٢٦ ٤٧٨٨ ٥٢٧١ ٤٨٧٠
|
الشاي ٨٤٦٧ ١٣٣٧٦ ١٢٩٢٤ ١٣٥١٢ ١٤٥٨٣
١٦٥٨٦ ٢٠٣٢١ ٢٢٨١٠ ١٨٠٨٧ ١٨٢٠٢ ١٧١٤٠
|
الجوت اكياس في ٧٩٣٧ ٧٢٣٦ ٨٣٠٤ ٩٦٨٨
١٢٢٥٨ ١٣٧١٩ ١٣٥٩٢ ١٣٨٩٨ ١٠٤٤٧ ١٣٠٩٢ ١١١٨٠
بالات
|
النيلة بالصناديق ٧٠١ ٨٠٢ ٨٠٨ ٨٨١ ٨٠٢
٩٨٠ ٨٦٤ ٩٤٤ ٧٩٦ ٨١٠ ٩٠٥
|
يظهر الجدول المذكور اعلاه تقلصاً
ملحوظاً في استيراد التوابل فقط ، اما المواد الاخرى سيما الشاي فتميل إلى زيادة.
وحتى ولو افترضنا ان السبب في زيادة استيراد الشاي يعود لدرجة ملحوظة إلي انعدام
الامن في طريق بوشهر ، يبقي من غير الممكن مع ذلك ان ننسب لهذا السبب بشكل كلي
حقيقة ان المعدل السنوي لاستيراده ازداده من ٥٢٤٠ صندوقاً للفترة : ١٨٦١ - ١٩٠٠ ، إلى
١٧١٤٠ صندوقاً للفترة : ١٩٠١ - ١٩١٠ ، أي انه ازداد باكثر من ثلاث مرات. ولهذا
يتحتم علينا ان نفترض عن استهلاك الشاي يزداد في العراق ذاته ، وان المشروب الوطني
العربي وهو القهوة قد وجد له منافساً متمثلاً في الشاي الأرخص ثمناً طالما ان
الانواع الدنيا من الشاء هي وحدها التي تورد إلى العراق وان قيمة هذه الانواع في
الهند ثلاثة أرباع الشاي الذي يستورد عن طريق البصرة اما الربع الباقي فيأتي من
جزيرة سيلان.
اما عن الغزل الذي يجلب من الهند فأنه
يخصص لانتاج السجاد بالدرجة الاولى ولهذا فأنه يذهب بكليته تقريباً إلى فارس نظراً
لانعدام الطلب عليه في العراق حيث اختفت في الوقت الحاضر تقريباً صناعة النسيج
التي كانت مزدهرة في السابق. وللاسباب ذاته يتجه القسم الاغلب من المادة الاخرى
التي تستورد من الهند ونعني النيلة التي تستخدم لصنع الأنسجة والغزول إلى فارس
أيضاً ، أما أكياس الجوت التي تستخدم لنقل الحبوب فلا تجد من يشتريها في فارس بل
تستهلك بكميات كبيرة في البصرة ذاتها وقد ازداد المعدل السنوي لاستيراد اكياس
الجوت من ٤٥٦٠ بالة للفترة : ١٨٩١ - ١٩٠٠ إلى ١١١٨٠ بالة للفترة : ١٩٠١ - ١٩١٠
الامر الذي يدلل بوضوح على زيادة تصدير الحبوب من العراق.
وكانت فرنسا حتى الفترة الاخيرة تحتل
المركز الثاني بعد بريطانيا والهند في مجال توزيع البضائع إلى العراق وذلك لانها
إلى جانب توريدها لاقمشة ليون الصوفية والمخملية التي ذكرناها عند الحديث عن
النسيج ، تعد المورد الرئيس للسكرالمخروطي الذي يؤلف بعد الاقمشة مادة الاستهلاك
المهمة فيا لعراق نفسه وفي فارس المجاورة ويعد الجدول التالي دليلاً على تزايد
كميات استيراد السكر المخروطي خلال الفترة ١٨٩١ - ١٩١٠ ، علماً بأن ١٠% من الكمية
المستوردة تستهلك في البصرة وما لا يقل عن ٣٠% في بغداد واما الباقي فيمر على شكل
ترانسيت إلى غرب فارس.
أ المادة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥
١٨٩٦ ١٨٩٧ ١٨٠٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
سكر مكرر ٢٢٦١٩ ٣٦٧٤٦ ٢١٨٤٤ ٤٧٠٢٨
٣٦٢٢٢ ٦١٤٠٢ ٦١١٩٥ ٤٢٠٧٦ ٨٩٦٧٣ ٩١٢٦٣ ٥٠٤١٠
بالصناديق
|
ب المادة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥
١٩٠٦ ١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
سكر ناعم ٨٩١١٨ ٦٠٤٦٩ ٦٥٦٦٥ ٥١٥١٩
٤٨٢٩٨ ٥٧٩٧١ ٣٣٥٤٥ ٨٢٨٣٥ ٣٨٩٩١ ١٢٦٥٠١ ٦٥٤٣٥
بالصناديق
|
والسبب في الزيادة الملحوظة في استيراد
السكر المكرر في بداية القرن العشرين هو نشاط شركة الملاحة الألمانية (Hamburg Amerika Linie) التي باشرت ، بفضل انشاء خط بواخر مباشر مع البصرة مروراً
بانتويرت ، بنقل السكر البلجيكي إلى سوق العراق وغرب فارس على نطاق واسع ، حتى ان
مانقلته بواخر الشركة المذكورة من هذا السكر بلغ ٢٢٧٠ صندوقاً في ١٩٠٦ و ١١٦٠٠
صندوق في ١٩٠٧ و ٢٠٧٠٠ قطعة في ١٩٠٨ و ٢١٦٦٠ قطعة في ١٩٠٩ و ٧٥٨٩٧ قطعة في ١٩١٠.
وكان لابد ان يؤدي توسيع بلجيكا في
توريد سكرها إلى تقلص بيع السكر المكرر الفرنسي الذي كان حتى ذلك الوقت يحتكر
تقريباً اسواق العراق الجنوبي وغرب فارس. وكان مماساعد على ذلك الاحتكار ان معامل
((St. Louis و ((Mediterrannee كانت تمنح شركات الاهالي المحلية قروضاً لمدة تصل إلى ستة اشهر.
ان الرؤوس الصغيرة من السكر صغير الحبيبات من انتاج المعمل المذكورة الذي كان يورد
عادة في صناديق يحوي كل منها ٣٦ رأساً ويبلغ وزنه الكلي ٨٩ كغم والصافي ٧٦ كغم
ويباع واصلاً البصرة بسعر معدله خمسة وأربعون فرنكاً ونصف الفرنك لكل ١٠٠ كغم ، قد
لاءمت اذواق المستهلكين المحليين إلى درجة ان التنافس مع فرنسا بدا مستحيلاً. لذلك
فقد كان بيع سكر الرؤوس القادم من بلجيكا والنمسا ومصر عندما ظهر في سوق بغداد في
تسعينات القرن التاسع عشر محدوداً إلى درجة ان حصص الدول المختلفة في توريد السكر
المكرر في ١٩٠٥ كانت ٥ / ٣ بالنسبة إلى فرنسا و ٥ / ١ بالنسبة إلى بلجيكا و ٢ / ١
بالنسبة إلى مصر والنمسا. وقد استغلت بلجيكا سوء محصول بنجر السكر في فرنسا وماتبع
ذلك من تقلص في انتاج السكر لزيادة توريدها لهذه المادة بمساعدة بواخر الشركة
الامانية. (Hamburg
(Amerika Linie..
وسعى اصحاب مصانع السكر البلجيكيون إلى
النجاح في المنافسة فأخذوا ينتجون رؤوساً من السكر اصغر حجماً من الفرنسية
واستبدلوا الصناديق الغالية التكاليف بتعبئتها في اكياس يسع الواحد منها ٣٢ رأساً
الامر الذي مكنهم من بيع سكرهم باسعار ارخص من سكر مرسيليا. وقد حققت هذه التدابير
الهدف المرجو منها فقد جذب رخص السعر المستهلكين. كما ان العتبئة في اكياس وهي
اكثر ملاءمة للنقل على الدواب إلى فارس حازت استحسان التجار ولهذا لم يلبث السكر
البلجيكي ان دخل في الاستعمال على الفور واصبح في ١٩٠٩ - ١٩١٠ يفضّل حتى على
الانواع التي كانت مرغوبة في السابق من انتاج معامل ((St.
Louis و ((Mediterrannee ، الامر الذي ادى إلى تقلص استيراد هذه المادة من فرنسا التي
اضطرت في ١٩١٠ إلى التنازل عن مركزها في هذا المجال لصالح بلجيكا اما عن اسعار
السكر البلجيكي والفرنسي المكرر فكانت بالنسبة للاول تتراوح بين ٩ روبلات و ٢٠
كوبيكا و ١٠ روبلات و ٦٠ كوبيكا للهندردويت الواحد واصل البصرة ، وبالنسبة للثاني
تتراوح بين ١٨ روبلاً و ٥٠ كوبيكا و ٢١ روبلاً و ٦٥٠ كوبيكا لكل ١٠٠ كغم من السكر
المكرر المعبأ في اكياس.
وكانت النمسا تورد السكر البلوري
ومنتجات الاصواف البضائع الزجاجية والخردوات والاواني المطلية بالمينا والصناديق
لتعبئة التمر. ويؤلف السكر البلوري مادة مهمة في التوريد النمساوي رغم ان السكر
الناعم الذي يجلب إلى العراق وفارس المجاورة لم يكن له من مصدر نمساوي. وبالامكان
الحكم على كميات السكر الناعم المستوردة في العشرين الواقع ين ١٨٩١ - ١٩١٠ من
الجدول الاتي :
تشير الارقام الواردة في الجدول إلى
زيادة مضطردة في استيراد السكر الناعم وسبب ذلك هو زيادة استهلاك الشاي الذي يُحلى
في العراق بمادة السكر البلوري. اما القفزة غير الاعتيادية التي حققها الاستيراد
ابتداء من ١٩٠٧ فان سببها المنافسة من جانب المانيا ، فقد باشرت هذه الاخيرة
باجتهاد وبفضل ربط هامبورغ مع البصرة بمواصلات بحرية مباشرة ، بتوريد انتاجها من
السكر حتى بلغ ١٩٢٨٥ كيساً ازدادت في ١٩٠٧ إلى ٣٧١٥٢ كيساً ، اما في ١٩٠٩ فقد امكن
اعتبار السوق مضموناً للسكر الالماني الناعم اذا حاز على استحسان عام. وهكذا ابعدت
النمسا عن الموقع القوي في الظاهر الذي احتلته في توريد هذه البضاعة.
وقد ادت زيادة توريد السكر البلوري إلى
هبوط اسعاره بدرجة ملحوظة ففي الوقت الذي كانت فيه قيمة الكيس الواحد في ١٩٠٧ هي
١٥ روبلاً و ٣٦ كوبيكا فأنها اصبحت في ١٩١٠ تسعة روبلات و ١٢ كوبيكا. واخذت روسيا
تشارك ايضاً في توريد السكر البلوري بفضل اقامة مواصلات تجارية مباشرة بين
السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
كيس ١٢٥٤٨ ١٧١٧٤ ٣١١٥٠ ٢٣١٢٧ ٣٤٤٩٤
٣٩١٧١ ٢٤٨٥٤ ٢٦٧٣٥ ٣١٥٤٤ ٣٤٣١٥ ٣٠٦٧٥
|
السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
كيس ٢٧٨٣١ ٣٤٨٥٦ ٣٨١٩٩ ٣٥٢١٠ ٣١١٩٠
٣٩٢٥٧ ١١٥٢٠٣ ١٠٢٤٤٨ ١٥٠٣٢٧ ١٤٢٢٧٤ ٧٥٨٧٠
|
اوديسا والبصرة لكن توريد روسيا لهذه
المادة مايزال قليلاً اذ لم يرد منها على سفن الشركة الروسية في ١٩٠٨ إلا ٥٢٠١ من
الاكياس هبطت في ١٩٠٩ إلى ٢٣٠ كيساً فقط.
سنترك الان بحث المواد الاخرى التي
توردها النمسا مثل المنتجات الصوفية والبضائع الزجاجية والخردوات والاواني المطلية
بالمينا ، وذلك لقلة الطلب عليها وننتقل مباشرة إلى الحديث عن توريد النمسا
للصناديق التي تستخدم لنقل التمر حيث تصادف النمسا في هذه القضية منافسة من جانب
روسيا.
يحتم تصدير التمور المتنامني من سنة إلى
اخرى زيادة الطلب على الصناديق التي تستخدم لتعبئتها ، وبامكاننا الحكم عن ذلك من
الجدول التالي الذي يبين استيراد هذه الصناديق في الفترة من ١٨٩١ إلى ١٩١٠ : -
وتستورد صناديق نقل التمور مفككة بشكل
حزم. وقد زيد حجم هذه الحزم بدرجة ملحوظة اعتباراً من ١٩٠٧ وذلك لتقليل اجور نقلها
، فاصبحت كل ست رزم في الوقت الحاضر تحوي ٧٥ صندوقاً حتى ١٨٩٩ ترد من النرويج بشكل
كلي تقريباً وقد كانت تنقل في بداية الامر عن طريق لندن ثم اخذت النرويج بعد ذلك
ترسلها إلى البصرة مباشرة على سفنها الخاصة. وفي السنة المذكورة ظهرت النمسا لأول
مرة في سوق الصناديق وكانت تستخدم الواحاً من نوعية أردأ مما مكنها من تخفيض السعر
المعتاد حتى ذلك الوقت من ٢٨ جنيهاً استرلينياً وشلن واحد لكل ألف صندوق واصل البصرة
إلى ٢٦ جنيهاً استرلينياً فاستطاعت بفضل ذلك ان تورد في السنة الاولى ٢٠٠٠٠ صندوق
من أصل ٧٠٠٠٠٠ استوردت في تلك السنة ، اما في السنة التالية أي في ١٩٠٠ فأنها وردت
ثلثي الكمية التي احتاجها السوق.
ومع اقامة خطوط ملاحية للشركة الروسية
للملاحة البخارية والتجارة اخذ تجار الاخشاب اروس يشتغلون ايضاً بتوريد صناديق نقل
التمور وقد وردها لاول مرة في ١٩٠١ وكانت الصناديق الروسية تتميز بكبر حجمها بعض
الشيء بالمقارنة مع الصناديق النرويجية والنمساوية ، وهو امر بدا ملائماً لتجار
التمور في البصرة لانه يمكنهم من ان يقصلوا لدرجة ملحوظة من مصاريف التعبئة التي
كانت تدفع عادة على اساس عدد الصناديق المعبأة. وفي الوقت نفسه أخذت روسيا تنافس
النمسا ايضاً في توريد اخشاب البناء إلى العراق الجنوبي الذي يعاني من عجز كبير
فيها ، ففي الوقت
السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠
|
حزمة ٨٣٨٣١ ٨٥٧٤٩ ١١٠٤١٠ ٩٧٤٠٢ ١١٣٦٤٢
٩٥٧٤٩ ٨٣٠٧٧ ٦١٦٨٠ ١١٦٦٠٧ ١٨٥٨٩١
|
السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠
|
حزمة ١٨٩٧٨٩ ١٨٣٠٠٢ ٢٠٣٧٨٦ ١٦٩٢٤٤
١٥٧٤٤٢ ٢١١٤٦٩ ١٣٢٦٣٤ ٢٣٣٤٨٢ ١٨٢٤٨١ ٢٧٤٩٦٤
|
الذي تسد فيه بغداد حاجتها من الاعمدة
والألواح الخشبية من ولاية الموصل ، فان استهلاك البصرة من المواد الخشبية كله يرد
من الخارج. وكان الخشب في السابق يأتي من الهند ومن جاوة وزنجبار على السفن
الشراعية التي ترد إلى البصرة لنقل التمور ، ثم اصبحت النمسا بعد ذلك تورده من
فيومي. اما عن مقدار مشاركة روسيا في توريد صناديق نقل التمور واخشاب البناء فأنه
كان ٣١٨٢١ قدماً مكعباً في ١٩٠٧ و ١٤٣١٣٥ قطعة من الالواح والاعمدة في ١٩٠٨ و ١٥١٥
متراً مكعباً في ١٩٠٩ و ٣١١١ متراً مكعباً في ١٩١٠.
كذلك تعتبر روسيا - إلى جانب ماذكرناه
من توريدها للسكر البلوري وصناديق تعبئة التمور واخشاب البناء ـ المورد الاساس
للكيروسين إلى اسواق العراق وغرب فارس. الاتي يبين الكميات المستوردة من هذه
المادة في الفترة من ١٨٩١ ـ ١٩١٠ :
يتضح من مقارنة الارقام الواردة في هذا
الجدول ان استيراد
الكيروسين اخذ يظهر ميلاً واضحاً إلى
الزيادة منذ بداية القرن العشرين ، والسبب في ذلك هو توريده من باطوم مباشرة
بواسطة الشركة الورسية للملاحة البخارية والتجارة التي بدأت رحلاتها إلى البصرة من
١٩٠١. وكان الكيروسين الروسي الذي ساد في السوق المحلي بلا حدود ينقل باجمعه عن
طريق بومباي أو كراتشي ، علماً بأن نقله بهذا الطريقة الدائري الطويل كان يؤدي مع
عمولات القومسيون التي يأخذها الوسطاء الانجليز إلى رفع كلفته كثيراً. وكانت تجارة
الكروسين الروسي في العراق محتكرة ، بسبب عدم وجود المنافسة من قبل التاجر الهندي
الحاج علي مميني الذي كان لهذا السبب يفرض له الاسعار التي يريدها. وهكذا كان ثمن
الصندوق الواحد من الكيروسين يتراوح بين روبلين و ٣٦ كوبيكا
وثلاثة روبلات و ١٥
كوبيكا مما يجعله بعيداً عن متناول المشتري متوسط الحال ولايساعد على زيادة الطلب
عليه. ولكن توريده إلى البصرة مباشرة ادى إلى انخفاض اجور نقله بشكل حاد فظهرت
تبعاً لذلك امكانية لتقليل سعره في السوق. ومن الناحية الاخرى ظهر ابتداء من ١٩٠٥
منافس للكيروسين الروسي هو الكيروسين الامريكي من النوع الرديء الذي استورد إلى
العراق لاول مرة في السنة المذكورة وقد وجد بفضل رخص اسعاره طلباً عليه بين
الطبقات الفقيرة من السكان في الارياف. ولم يتوقف توريد الكيروسين الامريكي منذ
ذلك الوقت حتى أن امريكا وردت في ١٩٠٦ (٥٩٠٠٠) صندوق بينما لم تورد ورسيا الا
٥٢٠٠٠ صندوق من اصل الـ ١١١٠٠٠ صندوق التي استوردت في تلك السنة وابتداء من ١٩٠٧.
السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
صندوق ٣٠١٧٩ ٥٧٩٩٣ ٣٧٦٦١ ٩٩٧٩٣ ٤٥٥١٢
٥٤٠٩٣ ٩٥٠٢٩ ٤٧٠٠٨ ٤٢١٣٧ ٤٣٤٩٨ ٥٥٢٩٠
|
السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ ١٩١١ معدل السنوات العشر
|
صندوق ١٢٥٣٥٨ ٥٢٤٢٠ ٦٣٩٩٠ ٦١٤٧٦ ٥٧٨٩١
١١١٠٠٠ ٨٣٥٨٢ ١٧٢٥٧٩ ١٠٤٤٧٧ ١٠٨٤٠٠ ٩٤١١٥
|
بدأت النمسا تورد الكيروسين إلى جانب كل
من روسيا وامريكا فقد جلبت بواخر Hamburg Amerika Linie)) منها في تلك
السنة ولاول مرة ٢٦٩٣٢ صندوقاً. وقد اثر ظهور هذا المنافس الجديد على الكيروسين
الامريكي بالدرجة الاولى فهبط استيراده في ١٩٠٧إلى ٥٦٥٠ صندوق بينما وردت روسيا في
تلك السنة ٥١٠٠٠ صندوق. اما في ١٩٠٨ فقد وردت روسيا ٧٤٠٠٠ صندوق في حين وصل من
تريستا
٦١٥٧٩ صندوقاً. وبلغت حصة روسيا من هذه المادة في ١٩٠٩ : ٤٥٠٠٠ صندوق في حين كانت
حصة امريكا ٣٥٨١٠ صندوق وحصمة النمسا ٢٢٣٩٦ صندوق والهند ١٥٠٠ صندوق. اما في ١٩١٠
فقد كانت حصة روسيا ٧٣٠٠٠ صندوق وحصمة النمسا ٥٧٠٠ صندوق وحصة امريكا ٢٩٧٠٠ صندوق.
يتضح من هذه الارقام ان الكيروسين
الروسي فقد سيادته الكلية السابقة في السوق العراقي لكنه ظل يعتبر الافضل من حيث
النوعية سيما الكيروسين علامة «المرساة» و «الهلال والنجمة» ولهذا فأن سعره كان
اعلى دائماً من سعر الانواع الاخرى ، ففي ١٩٠٨ مثلاً كان الصندوق الواحد من
الكيروسين الروسي يكلف في البصرة ما بين روبلين و ٤٠ كوبيكا ، وثلاثة روبلات في
حين ان سعر الكيروسين الامريكي والنمساوي كان يتراوح مابين روبل واحد و ٨٠ كوبيكات
وروبلين و ٤٠ كوبيكا.
وهنا ينبغي ان نتذكر ان الكيروسين شأنه
في ذلك شأن المواد الاخرى سريعة الألتهاب كالسبيرتو والبنزين وما أشبه يجب ان يحفظ
في مستودعات خاصة خارج المدن. وتأخذ بلديات المدن ضريبة خاصة في
__________________
مقابل خزنه مقدارها
قرش واحد ونصف القرش أي ١٢ كوبيكا عن كل صندوق في الشهر الاول وثمانية كوبيكات عن
كل شهر لاحق. اما الكيروسين الذي يمر من البصرة على شكل ترانسيت فأنه يحمل مباشرة
إلى الجنائب ويحتفظ فيها لحين خروجه من المدينة غير ان بقاءه هناك ينبغي ان لا
يتعدى ثلاثة ايام والا فتؤخذ بعد انقضاء هذه الايام الثلاثة خمسة قروش أي ٤٠
كوبيكا على كل صندوق عن كل يوم يمر بعدها واذا تجاوز بقاؤها الاسبوع فتؤخذ عليه
ضريبة شهر كامل.
اما للسويد فتصدر إلى العراق وفارس
الحديد غير المصنع الوثقاب. ومع ان بلجيكا التي تستخدم السفرات المباشرة التي تقوم
بها بواخر الشركة الالمانية (Hamburg Amerika Linie) قد بدأت تنتزع
منها المركز الاول في توريد الحديد فليس هناك من ينافسها في توريد الثقاب. والواقع
ان الثقاب السويدي الامين لم يدخل راساً في الاستخدام الواسع في العراق ، فقد ظلت
الطبقات الدنيا من السكان تتمسك طويلاً بالكبريت الذي كانوا يحملونه في جيوبهم دون
اية علبه ويشعلونه باي شيء خشن. وقد ظلت النمسا المورد الرئيسي ان لم تكن المورد
الوحيد للكبريت ، حتى تسعينيات القرن السابق عندما بدأت ترد من اليابان عيدان
الكبريت من النوعية الرديئة وكان يؤخذ بسبب رخصة فقط. ولم يؤد رسوخ عيدان الثقاب
السويدي في السوق العراقي إلى ان يتقلص بشدة توريد اليابان لهذه المادة فقط وانما
ادى ايضاً إلى تقلص استيراده من امريكا نفسها التي اصبحت ، بسبب غلاء منتجاتها غير
قادرة على منافسة البضاعة السويدية الرخيصة. وقد أستحوذت أعواد الثقاب السويدي
التي تمتاز بالامان على السوق نهائياً في الوقت الحاضر علماً بأن اكثر الانواع
رواجاً هي ماركة. (
Ship)
الذي يباع الصندوق الواحد منه الذي يحوي ٥٠ كروصاً
بثلاثة جنيهات استرلينية وخمسة شلنات ، وماركة
(Cannon) الذي يباع الصندوق الواحد منه بثلاثة جنهات استرلينية وشلنين
وستة بنسات وماركة
(Bird) الذي يباع صندوقه بجنيهين استرلينيين و ١٦ شلناً.
وهكذا لم يبق للنمسا الا توريد الثقاب
الفسفوري الذي يستورد بكميات قليلة وهو لا يزال يستعمل في القرى والمستوطنات إلى
الشمال من بغداد وكذلك في فارس جزئياً. اما اسعاره فهي بالنسبة للصندوق المختلف
الالوان والذي يضم ١٢٠٠ علة تتراوح بين ٢٠ روبلاً و ٨٠ كوبيكا و ٢٢ روبلاً. اما
بالنسبة للنوع الاحمر فأن سعر الصندوق الواحد منه الذي يحوي ٣٦٠٠ علبة يتراوح ما
بين ٢٦ روبلاً و ٢٨ روبلاً. ويمكن الحكم على تنامي استيراد الثقاب في الفترة من
١٨٩١ إلى ١٩١٠ من الجدول الآتي :
__________________
السنة ١٨٩١ ١٨٩٢ ١٨٩٣ ١٨٩٤ ١٨٩٥ ١٨٩٦
١٨٩٧ ١٨٩٨ ١٨٩٩ ١٩٠٠ معدل السنوات العشر
|
صندوق ٨٠٢ ٨١٧ ١١٧٣ ٧٤٣ ١٥٤٢ ٣٢٧٦
١٨٩٧ ١٠٢٢ ١١٦٣ ٢٦١٧ ١٦٠٥
|
السنة ١٩٠١ ١٩٠٢ ١٩٠٣ ١٩٠٤ ١٩٠٥ ١٩٠٦
١٩٠٧ ١٩٠٨ ١٩٠٩ ١٩١٠ معدل السنوات العشر
|
صندوق ٣٩٦٨ ٤٣٠١ ٥٢٢٢ ٦٢١٣ ٦١٨٠ ٨٤٦٤
٨٧٨٩ ٦٧٨٤ ٤٧٩١ ٧١٠٥ ٦٢١٥
|
ومن الخصائص التي تتميز بها تجارة
الثقاب هي الدَين طويل الامد الذي يعطي التجار الذين بهم حاجة مؤقته إلى النقود
امكانية الاقتراض من الصرّافين المحليين مع ما يكلفهم ذلك من فائدة عالية ، ذلك
انهم يشترون كمية معينة من صناديق الثقاب بالدَيْن ثم يبيعونها على الفور نقداً
وباسعار مخفضة إلى العطارين فيكون ما يفقدونه في هذه العملية اقل من الفائدة التي
تفرض على القروض. وفي ١٩٠٥ قررت بلدية بغداد ان تطبق على الثقاب تعليمات تقضي
بخزنه في مستودعات خاصة خارج المدينة شأنه في ذلك شأن الكيروسين والسبيرتو ، مقابل
مبلغ شهري معين غير ان هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح لان تجار الجملة المحليين
اشتكوا لدى اسطنبول مشيرين إلى ان فرض ضريبة اضافية على تجارة الثقاب من شأنه ان
يضيق على تجارة هذه المادة الرخيصة. والجديدة في هذه التجارة هو ان الانتاج
السويدي الذي كان في السابق يجلب كلياً عبر لندن اصبح منذ ١٩٠٦ أي منذ افتتاح خطوط
(Hamburg Amerika Linie) يجلب عن طريق هامبورغ ، علماً بان المانيا تحاول ان تنشر في
العراق استعمال انتاجها الخاص من الثقاب وهي تبيعه بسعر ثلاثة جنيهات استرلينية و ١٥
شلناً للصندوق الواحد وقد جلبت منه ١٢٨٨ صندوقاً في ١٩٠٦ و ٢٦٩٣٢ صندوقاً في ١٩٠٧.
ولم تكن المانيا تشارك ، قبل اقامة
اتصال بحري مباشر بين هامبورغ والبصرة في ١٩٠٦ ، مشاركة متفوقة في أي من المواد
التي يستوردها العراق وفارس وكانت تجارتها عبارة عن توريد غير منتظم لمختلف انواع
البضائع التي هي في غالبيتها بضائع منافسة للبضائع النمساوية. فقد وردت مثلاً ٣٠%
من المصابيح مقابل ٧٠% منها وردتها النمسا و ٢٥% من الجوخ مقابل ٧٥% وردتها النمسا
ايضاً. كما انها شاركت في توريد نصف الاواني
المطلية بالمينا
وهكذا. على اية حال لا يمكننا حتى بالاستناد إلى تقرير النقصل الألماني الموجود
لدينا ان نكوّن لانفسنا تصويراً محدداً لمواد التوريد الألماني الاساسية في
السنوات السبع من ١٩٠٠ إلى ١٩٠٦. ولكن الصورة تغيرت بشكل ملحوظ ابتداء من ١٩٠٦
عندما دخلت المانيا السوق العراقي بعزم ببضاعتها المعروفة كالسكر البلوري والثقاب
والرصاص والصفائح ومكائن الخياطة ، والسكاكين والخردوات والجلد المدبوغ والانسجة الصوفية
والحريرية والمخملية ومااشبه. وهكذا فلم تعد الصناعة الألمانية تنافس النمسا فقط
بل اخذت تنافس السويد في تجارة الثقاب وفرنسا في توريد المدبوغ والحرير والمخمل
وامريكا فيتوريد مكائن الخياطة ... الخ. وبالاضافة إلى ذلك فأن المانيا تهدف على
ما يظهر إلى ان تكون وسيطاً بين دول شمال اوربا والمستهلكين في العراق وغرب فارس ،
وذلك بأن تنقل على البواخر العائدة لها إلى البصرة صناديق تعبئة التمر من النرويج
والثقاب والحديد من السويد والسكر المخروطي وزجاج النوافذ والحديد والفولاذ من
بلجيكا بل أن شركة الملاحة البخارية (Hamburg Amerika Linie) تحال ان تستحوذ
حتى على بضائع من أمثال البن البرازيلي الذي كان ينقل دائماً عبر لندن فقد حملت
بواخر هذه الشركة عبر هامبورغ في ١٩٠٦ : (٦٤١١) كيساً من البن أي ثلاثة اثمان كمية
البن التي مرت عبر ميناء البصرة في السنة المذكورة. واذا اضفنا إلى ذلك كله أن
المانيا استغلت اقامة خطوط مباشرة لبواخر شركة (Hamburg
Amerika Linie) إلى البصرة لكي تحرر صناعتها من سوق لندن فيما يتعلق بشراء ، خامات
العراق ، فلا يمكننا الا ان نعترف بان خطوط البواخر الالمانية قد حققت نجاحات مهمة
جداً على الرغم من قصر مدة وجودها.
لم نتحدث عن الترانسيت إلى فارس الا
عرضاً وعندما بحثنا مواد
الاستيراد المختلفة
حسب الدول ، ولهذا فأننا سنحاول في السطور التالية ان نرسم صورة عامة لهذا الموضوع.
ابتداء ينبغي ان نلاحظ ان النسبة
المتعارف عليها بين التجار العراقيين والتي تعطي للترانسيت إلى فارس ومقدارها ٦٠%
من مجموع الاستيراد إلى البصرة لا يمكن ان تعد الا نسبة تقريبية جداً نظراً لان
بعض البضائع تذهب باجمعها تقريباص إلى فارس ، ويمكن ان يعد الغزل مثالاً على ذلك
فهو ينقل بكليته تقريباً بشكل ترانسبت إلى فارس نظراً لضعف تطور صناعة النسيج في
العراق هذا في الوقت الذي لا يوجد فيه أي طلب في فارس على الفحم الحجري وصناديق
تعبئة التمر واخشاب البناء والاكياس الجوت. وقد اخذنا ذلك كله بنظر الاعتبار
وحاولنا في الجدول التالي ان نحسب ، على اساس احصاءات دوائر الكمارك الفارسية
الخاصة باستهلاك بضائع الاستيراد المختلفة ، المعدل السنوي لما تستورده منطقة غرب
من فارس من اوربا عبر العراق للفترة : ١٩٠١ ١٩١٠ : ـ
المادة
|
الكمية
|
المادة
|
الكمية
|
شموع
|
٦٦٠٠ صندوق
|
مكائن
|
٢١٤٠ صندوق
|
خزف واواني زجاج
|
٢٠٤٦ صندوق
|
ثقاب
|
٣٧٢ صندوق
|
الاقمشة :
|
|
|
|
قطنية
|
١٥٤٨٠ رزمة
|
اصباغ
|
٢٩١٠ صفيحة
|
حريرية
|
١٢٥ رزمة
|
مؤن غذائية
|
١١٢٦٨ صندوق
|
صوفية
|
٦٧٨ رزمة
|
حبال وخيوط
|
٢٢٦٧ حزمة
|
بن
|
٩٠١٨ كيس
|
صابون
|
٢٤٧٠ صندوق
|
نحاس
|
٤٢٥٤ حزمة
|
توابل
|
٨٦١٣ بالة
|
حديد من مختلف الانواع
|
٢٩٢٢٠ قطعة
|
ورق
|
٢٥٩٨ صندوق
|
قصدير ، رصاص ، وغيرها
|
٣١٢٠ قطعة
|
سكر مخروطي
|
٣٩٢٥٨ صندوق
|
بضائع خزفية
|
٨١٠ رزمة
|
سكر ناعم
|
٢٥٢٩٠ كيس
|
مشروبات
|
٤٨٤٥ صندوق
|
شاي
|
١٠٢٨٤ صندوق
|
خردوات
|
٥٤٠ صندوق
|
زجاج نوافذ
|
٤١٥٢ صندوق
|
نيلة
|
٦٤٨ صندوق
|
غزول
|
٣٢٤٦ رزمة
|
كيروسين
|
٤٧٠٥٧ علبة
|
بضائع مختلفة
|
١٢٣٣٠ قطعة
|
ان جميع هذه البضائع تصل إلى البصرة
بواسطة السفن البحرية ثم تنقل إلى بغداد بواسطة نهر دجلة ومنها ترسل بواسطة
القوافل إلى كرمنشاه عن طريق بعقوبة وخانقين. وتعد كرمنشاه مركز توزيع المنتجات
الصناعية الاوربية المستوردة إلى كل المنطقة الزراعية الغنية التي لا يقل نصف
قطرها عن مائة ميل والتي تمد بالغذاء مدناً مهمة مثل : همدان وخرم آباد عاصمة
لورستان وبوروجيرد وسلطان آباد ودولت آباد وغيرها. ومع ان طريق بغداد ـ كرمنشاه ، طريق
بدائي يصعب على الوسائط ذات العجلات السير فيه شأنه في ذلك الطريق الفارسية الاخرى
، فانه يعد بالمقارنة مع الشريان الرئيس لتغلغل البضائع الاوربية في جنوب فارس
وتعني طريق بوشهر ـ شيراز ، ملائمها جداً. ففي حين لا يوجد في الطريق الاول أي
مضيق جبلى يصعب عبوره يحوي الطريق الثاني الكثير من هذه المضايق ، كما ان الاجزاء
الصعبة من الطريق في الاول اقصر السلاسل الجبلية لها ممرات طبيعية في حين تتتابع
في الثاني وعلى الطريق كله تقريباً المرتفعات الحادة المنحدرات العمودية وافضل
دليل على ان طريق بغداد ـ كرمنشاه اسهل من طريق بوشهر ـ شيراز ، هو ان جميع
البضائع الثمينة والكبيرة الحجم تنقل إلى فارس بالاول منها. ومن الافضليات الاخرى
التي يتميز بها طريق كرمنشاه قربه الكبير من طهران عاصمة فارس فهو يقصر مسافة سير
القوافل بمقدار مائتي
ميل كاملة. ومع ذلك فأن البطء الشديد في نقل البضائع من البصرة إلى بغداد وارتفاع
اجرة النقل النهري والضريبة التي كانت الكمارك العثمانية تفرضها على بضائع
الترانسيت إلى فارس ومقدارها ١% كانت حتى وقت قريب تقضي على جميع هذه الافضليات
التي يتميز بها طريق كرمنشاه ، وتجبر التجارة الاوربية على ان تفضل عليه طريق
بوشهر ـ شيراز الأطول والاقل ملاءمة.
وينبغي ان نفترض أن التحسينات الاخيرة
التي حصلت في وضع الملاحة النهرية في دجلة ستنعكس بشكل ايجابي على الترانسيت
الفارسي ايضاً وبمعنى انها ستؤدي إلى زيادة التوريد الاوربي إلى غرب فارس سيما وان
هذا الترانسيت لا يعتمد على السوق في بغداد رغم انه يجري بواسطة الشركات المحلية
التي تقوم بالنسبة إلى البيوت التجارية في كرمنشاه مقام موردي الجملة.
ويجري نقل البضائع من بغداد إلى كرمنشاه
بواسطة قوافل البغال والجمال ، اما الاولى فتعمل في جميع الاوقات بينما يقتصر عمل
الثانية على الفترة من نيسان حتى نهاية أيلول من كل عام ويكون النقل على البغال
اسرع بمرتين من النقل على الجمال التي تقطع المسافة التي تفصل بغداد عن كرمنشاه
ومقدارها ٢٢٠ ميلاً بـ : ١٨ ـ ٢٠ يوماً. ولكن بطء حركة قوافل الجمال يعوّضها رخص
اجور النقل بواسطتها وقابليتها على نقل بضائع اكثر فالجمل يحمل من البضائع ضعف ما
يحمل البغل تقريباً. وتقطع البغال المسافة من كرمنشاه إلى همدان في خمسة أيام ، اما
الطريق من بغداد إلى طهران وطوله ٥٥٠ ميلاً فتقطعه في الظروف العادية بـ : ٢٣ ـ ٢٥
يوماً.
اما اجور النقل على هذا الطريق فأنها
تتذبذب كثيراً حسب فصول
السنة وحسب حركة
الزوار القادمين من فارس ، ففي الشتاء عندما لا تعمل الجمال يرفع البغّالون اجور
النقل لدرجة لا يستهان بها ، كذلك تتضاعف اجرة النقل على الدواب في ذروة حركة
الزوار ، على اننا يمكن ان نقرر ان معدل اجرة نقل الطن الواحد من البضاعة من بغداد
إلى كرمنشاه هو ٥٧ روبلاً و ٦٠ كوبيكا ومن بغداد إلى همدان هو ٧٦ روبلاً و ٨٠
كوبيكا ومن بغداد إلى طهران هو ١٣٤ روبلاً و ٤٠ كوبيكا. ولكن يجب ان نضيف ١٩
روبلاً و ٢٠ كوبيكا لكن طن وهي اجرة نقله من البصرة إلى بغداد بواسطة نهر دجلة
وكذلك نسبة ١% وهي الضريبة التي تأخذها سلطات الكمارك العثمانية على بضائع
الترانسيت الذاهبة إلى فارس عبر بغداد. ان ذلك كله يجعل المصاريف الاضافية للطن
الواحد المنقول من البصرة إلى طهران كبيراً جداً بحيث تصل إلى ١٧٢ روبلاً و ٨٠
كوبيكا أي روبلين و ٨٠ كوبيكا للبود الواحد.
اما فيما يتعلق بالتصدير من غرب فارس
إلى اوربا عن طريق بغداد والبصرة فأنه يتألف كما رأينا سابقاً من الافيون والسجاد
والصمغ والعفص والصوف ، وتبلغ قيمته الاجمالية ٢٠% من قيمة الاستيراد من اوربا إلى
غرب فارس ولهذا فأنه ليس في صالح الميزان التجاري لفارس. واذا قبلنا القول أن نسبة
مشاركة فارس قي استهلاك مواد الاستيراد الاساسية من اوربا إلى البصرة هي ٦٠% فان
حصة خامات فارس ومنتجاتها من التصدير عن طريق البصرة لا تزيد في مجملها على ١٢%
والان وبعد القضاء على العقبة الاساسية التي كانت تعترض تطور العلاقات التجارية
بين اوربا وغرب فارس ونعني عدم كفاية وسائل النقل في نهر دجلة فأن تصدير الخامات
الفارسية إلى اوربا اصبح يمتلك كل الفرص لان يزداد بشكل ملحوظ سيما ان المنتجات
التي تقدمها فارس لاتشكل منافسة مباشرة
لخامات العراق وان
التصدير الفارسي يمكن ان ينمو ويتطور بغض النظر عن ارتفاع انتاجيّة العراق أو
انخفاضها.
بقي علينا في الختام ان نبحث الجانب
المالي لتجارة العراق ، ونعني انجاز العمليات المالية ونظام العملة والتحويل
الخارجي والاعتماد والشؤون المصرفية.
ولكي نوضح بشكل جلي التداول النقدي
الواسع الذي يجري في البلاد بالارتباط مع حركة التجارة فأننا سنورد ادناه جدولاص
يبين القيمة التقريبية بالروبلات الروسية لمجمل الواردات والصادرات المارة من
ميناء البصرة في العشرين سنة من ١٨٩١ إلى ١٩١٠ :
السنة
|
قيمة
الواردات
|
قيمة
الصادرات
|
السنة
|
قيمة
الواردات
|
قيمة
الصادرات
|
١٨٩١
|
١٠٨٠٧٢٣٠
|
١٩١٣٥٥٦٠
|
١٩٠١
|
١٢٠٧٥٩٤٠
|
١٠٨٨٨٠٨٠
|
١٨٩٢
|
٧٩٢٦٠٦٠
|
١٠٥٣٠٢٨٠
|
١٩٠٢
|
١٢٠٥٨٩٣٠
|
٩٠٥٠٢٩٠
|
١٨٩٣
|
٦٤٦٧٨٣٠
|
٧٢٣١٩١٠
|
١٩٠٣
|
١١٨٦٣٧٥٠
|
١٢٢٥٤٤٩٠
|
١٨٩٤
|
١٠٩٢١٣٤٠
|
٨١٦٥٠١٠
|
١٩٠٤
|
١١٩١٣٧٠٠
|
١٢٣٣٩٦٣٠
|
١٨٩٥
|
١٣٢٢٤٩٤٠
|
١٠٣٠٧٤٤٠
|
١٩٠٥
|
١٣٢١٢٧٢٠
|
١٤٢٢٠٣١٠
|
١٨٩٦
|
١٠٠٥٩٢٧٠
|
١١٠٨٥٣٩٠
|
١٩٠٦
|
١٤٢٨٤١٠٠
|
١٥٥٣٧٨٨٠
|
١٨٩٧
|
٦٧٩٨٦٦٤٠
|
٩٦٤١٣٦٠
|
١٩٠٧
|
١٧٧٦١٨٩٠
|
١٨٦١٩٤٨٠
|
١٨٩٨
|
١١١٢٩٤٠٠
|
٧٨٧٤٢٨٠
|
١٩٠٨
|
٢٢٧٨٩٣٢٠
|
١٦٨٧٢٤١٠
|
١٨٩٩
|
١١٢٤٧١٠٠
|
١٠٧٣١٢٥٠
|
١٩٠٩
|
٢٢٣٠٢٩٦٠
|
١٤٢١٢٨٤٠
|
١٩٠٠
|
١١٩٤٥٣٢٠
|
١٤٧٥٤٠٧٠
|
١٩١٠
|
٢٤٩٧٢٣٠
|
١٥٧٦٩٣٥٠
|
لقد كان هذا التداول النقدي الضخم الذي
يصل إلى اكثر من عشرين مليون روبل في السنة ، يجري قبل ١٨٩٠ بدون مساعدة أو اسناد
من مؤسسة اعتماد تقوم على اسس اوربية ، ذلك ان فرع البنك الشاهنشاهي الفارسي لم
يفتتح في بغداد الا في تلك السنة. وقد رسخ هذا البنك فيما بعد في البصرة لكنه
اضطره في ١٨٩٣ ـ ١٨٩٤ إلى التخلي عن حقل نشاطه في العراق للبنك العثماني الذي لم
يتمكن حتى الان ورغم نشاطه الواسع من القضاء على الصرافين المحليين واغلبهم من
يهود بغداد الذين يركزون في ايديهم حتى الان العمليات المالية باجمعها.
والاسباب التي سهلت ازدهار نشاط
الصرافين المحليين في السابق ومنافستهم الناجحة للبنك العثماني في القرن الحالي ، هي
التنوع الكبير في العمليات الاجنبية المطروحة في سوق المال العراقي من جهة ، ووجود
اكثر من سعر للعملة المحلية في آن واحد الامر الذي يربك انجاز العمليات المالية
لدرجة كبيرة من جهة اخرى. ولكي نتصور مدى تعقيد الحساب بالعملة الاجنبية يكفي ان
نقول بان عالم التجارة مضطر إلى التعامل بالجنيهات الاسترلينية الانجليزية
والنابليونات الفرنسية وتاليرات ماريا تيريزا وسندات الاعتماد والعملة الذهبية
الروسية والروبيات الفضية الهندية والقرانات الفارسية. ان تحويل جميع هذه العملات
الاجنبية إلى العملة المحلية وبالعكس مع وجود عدة اسعار لهذه الاخيرة هو مسألة في
غاية التعقيد تفتح امام الصرافين عند انجازها مجالاً واسعار للاثراء على حساب
العملاء. ومما يزيد من البلبلة في الحسابات كذلك ان هناك اختلافاً لا يستهان به
بين الاسعار في كل من سوق بغداد والبصرة الماليين ، ولهذا ولكي نتجنب الغموض يتحتم
علينا ان نبحث كلاً من هذين السوقين بالتفصيل.
ان وحدة النقد العثماني الاساسية هي
الليرة العثمانية الذهبية باجزائها المعروفة المجيدي والقرش التي تتجزأ بدورها إلى
فئة اصغر هي البارة. وتتألف كل ليرة ذهبية بموجب سعر الحكومة العثمانية الرسي من
١٠٠ قرش فضي في حين يتألف المجيدي من ١٩ قرشاً فضياً ، علماً بأن القرش الفضي
يتألف من ٤٠ بارة. على أننا ينبغي ان نتذكر بان المؤسسات الحكومية المختلفة في
العراق لا تلتزم بهذا السعر بل تضع كل منها سعراً للّيرةخاصاً بها فالبنك العثماني
مثلاً ينظم سجلاً على اساس قرش ذهبي لاوجود له ولهذا فأنه يقبل الليرة الذهبية عند
حسابها بالعملة الفضية على انها تساوي مائة وقرشين من الفضة ، بينما تعتبر الليرة
الذهبية بالنسبة إلى الكمارك العثمانية التي تأخذ ضرائبها على اساس السعر بالذهب
مساوي لمائة وقرشين ونصف القرش من الفضة ، وتلتزم ادارة احتكار التبغ «ريجي» بسعر
متوسط مقداره مائة وقرشان وستة اعشار القرش لكل ليرة. اما شركة الملاحة الانجليزية
(Eupnrates and Tigris Steam Navigation CO.) فانها تعتبر
الليرة الواحدة مساوية لمائة قرش وواحد ، في حين يتألف المجيدي بالنسبة لها من
ثمانية عشر قرشاً وثلاثة ارباع القرش.
اما عن عالم التجارة في بغداد فان سعر
الليرة فيه اكثر تنوعاً وتعقيداً فتجارة الجملة هناك تقيم حسابها على اساس «قرش
صاغ» أي قرش كبير في حين يجري تجارة المفرد والعطارون حساباتهم على اساس قرش صغير
«قرش رائج» وقيمته ربع القرش الاول. وهكذا ففي حين يقبل تجار الجملة في بغداد
الليرة العثمانية الواحدة بـ ١٠٨ قرش صاغ فان تجار المفرد واصحاب الدكاكين في
الاسواق يعدونها مساوية ل ٤٣٢ قرشاً رائجاً. والي جانب هذه الاسعار المعتاد اذا
جاز القول فأن الكثير من شركات الاهالي المحلية بل وحتى بعض الشركات الاوربية في
بغداد
تتعامل بسعر خاص
تساوي الليرة العثمانية قروش صاغ ونصف وهي تجري حسابها هذا لا بالقرش الصاغ
الاعتيادي وانما بالقروش الجيدة. اما عن الفئات الصغيرة من العملة فان لها هي
الاخيري سعرين هما : ١ ـ سعر الطنبول الذي يساوي القرش الصاغ بموجبه ٤٠ بارة
والقرش الرائج ١٠ بارات. ٢ ـ سعر بغداد الذي يتألف القرش الصاغ من ١٦ بارة والقرش
الرائج من ٤ بارات أو فلوس علماً الفلس يعد مساوي لشاهي نحاس فارسي واحد. واذا ما
أخذنا كل ذلك بالحسابان فبامكاننا ان نتصور كم هي صعبة عملية تحويل العملة
الاجنبية التي ليس لها سعر ثابت حتى بالقرش الصاغ البسيط والجيد. وكمثل على ذلك
نذكر انه في حالة كون الجنية الاسترليني الانجليزي مساوياً ١١٧ قرشاً صاغاً اعتيادياً
فأنه لا يساوي الا ١١٢ قرشاً صاغاً جيداً وفي حالة سوف يكون النابليون الفرنسي
مساوياً لثلاثة وتسعين قرشاً صاغاً اعتيادياً وثلاثة ارباع القرش أو ٩٠ قرشاً
صاغاً جيداً وهكذا. ولابد ان نذكر هنا أن بضعة آلاف من الرعايا الروس من ماوراء
القفقاس وبخارى يمرون سنوياً من بغداد مع بقية الزوار القادمين من فارس لزيارة
العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وغيرها من المدن فيجلبون معهم عملة روسية ذهبية
وكذلك سندات اعتماد روسية ، ولهذا فان الاثنيني يجري تداولها في سوق النقد في
بغداد ولهما اسعار بالقرش الصاغ الاعتيادي والجيد فيكون نصف امبريال
معادلاً لستة وتسعين قرشا صاغاً اعتيادياً وثلاثة ارباع أو اثنين وتسعين قرشاً
صاغاً جيداً وثلاثة ارباع القرش فيما يعادل الروبل الواحد في سندات الاعتماد ثلاثة
عشر قرشاً
__________________
صاغاً اعتيادياً
وخمسة وأربعين بالمائة من القرش أو احد عشر قرشاً صاغاً جيداً وثلاثة ارباع القرش.
اما في البصرة فان النظام المالي يقوم
على اسس مغايرة بعض الشيء فعلى الرغم من ان الليرة العثمانية باجزائها تظل وحدة
النقد الاساسية هناك فان القران الفارسي يعلب دوراً مهماً في تجارة الجملة والمفرد
على السواء لانه يعوّض عن عدم وجود العملة العثمانية من فئة القرش الفضي أو
القرشين الفضيين. وبما ان قيمة القران الفارسي تتميز بعدم الثبات اكثر من أي علمة
اجنبية اخرى ، فقد عين له في تجارة الجملة بالنسبة إلى الحاصلات الزراعية باستثناء
التمور سعر ثابت هو أربعة وثلاثون قراناً وأربعة اعشار القران لكل ليرة عثمانية
واحدة. وقد سميت هذه القرانات الوهمية التي اعطيت سعراً ثابتاً هو السعر الذي كان
قائماً قبل ربع قرن قرانات «صاغ» تمييزاً لها عن القرانات الجرخي والقرانات البيض
أي قرانات العملة الفارسية الجديدة والقديمة. وتجري تجارة المفرد والبيع بالدكاكين
بالقران الابيض الذي يتراوح سعره باستمرار بين ٥٠ و ٥٥ قراناً ابيض لكل ليرة
عثمانية واحدة ، في حين انها تساوي بالقرانات الجرخي اكثر من ذلك بنصف قران
دائماً. ويتألف القران الابيض من ١٠ قمريات يحوي كل منها ٤ بولات عجمية علماً بان
العملة العثمانية البرونزية المعروفة بأسم متليك قد هبطت قيمتها في الوقت الحاضر
إلى درجة أن اصبح القران الابيض الواحد يستبدل بثمانية متليكات فقط. وتظهر عند
تحويل العملة الاجنبية إلى قرانات صاغ وقرانات بيض صعوبات لاتقل عن الصعوبات التي
تظهر عند تحويلها إلى قرش صاغ اعتيادية وجديدة ، لانه في حالة كون سعر الليرة
العثمانية خمسين قراناً ابيض ونصفاً مثلاً فأن الجنية الاسترلينية الواحد يساوي ٥٥
قراناً ابيض ولكن سعره في تجارة
الجملة حيث تتمتع
الليرة العثمانية بسعر ثابت هو اربعة وثلاثين قراناً صاغاً واربعة اعشار القران ، سيكون
ثمانية وثلاثون قراناً صاغاً ونصف. اما النابليون الفرنسي فسيكون في ظل هذه
الاسعار ذاتها معادلاً لثلاثين قراناً صاغاً أو أربعة وثلاثين قراناً ابيض وهكذا.
وفضلاً عن ذلك توجد في البصرة وحدة نقدية وهمية اخرى لا وجود لها مثل القران الصاغ
هي «الشامي» تجري بها كل الحسابات المتعلقة بتجارة التمور ولها سعر ثابت هو خمسة
عشر شامياً لكل ليرة عثمانية أي شاميان وتسعة اعشار الشامي لكل مجيدي فضي علماً
بأن كل شامي يتألف من ١٠ قروش يحوي كل منها بدوره ١٠ «دوكره». اما في التعامل مع
البدو فيستخدم تالير ماريا ايريزا لان البدو يرفضون قبول أي عملة اخرى. واذا اضفنا
إلى ذلك كله بانه الروبيات الهندية تكاد تكون العملة الاكثر رواجاً في البصرة بعد
القران الفارسي ، نظراً لان كل تبادل تجاري ذي قيمة بين العراق والهند يجري
بالروبية وان هذه العملة تجلب بكميات كبيرة من قبل الزوار القادمين من الهند إلى
العتبات المقدسة في النجف وكربلاء عن طريق البصرة ، سيتضح لنا تماماً ان التعقيد
الموجود في البصرة في مجال تحويل النقود من عملة إلى اخرى لا يقل عنه في بغداد.
وليس هناك مايدهش ، مع وجود نظام العملة
المعقد هذا في بغداد والبصرة ، في ان يدر العمل في شراء وبيع الكمبيالات والصكوك
وغير ذلك من وثائق الديون المالية ارباحاً هائلة تكون مصدر الرفاه بالنسبة
للصرافين المحليين من الاهالي بالدرجة الاولى. ونظراً لقلة حجم الاستيراد من اوربا
إلى البصرة ولان فرع البنك العثماني الذي افتتح في البصرة في ١٨٩٤ اغلق في نهاية
السنة ذاتها ، فقد ظلت اسعار التحويل الخارجي في البصرة حتى العقد الاول من القرن
العشرين تابعة لبغداد حيث كان تجار البصرة يبحثون
في بغداد عن مشترين
للحوالات الأجنبية التي حصلوا عليها مقابل ماصدره من خامات إلى اوربا. وكانت اسعار
الحوالات تتغير تبعاً للتذبذب المستمر على مدار السنة في اسعار العملات في سوق
بغداد. ويمكن ان تساعدنا المعطيات التالية على ان نكون تصوراً واضحاً حول ذلك : ـ
في ١٩٠٩ كانت الحوالات التي قيمتها ١٠٠
جنية استرليني والمسحوبة على لندن تساوي ما بين ٢ / ١ ١٠٨ و ٤ / ٣ ١١٠ ليرة
عثمانية اذا كانت تدفع عند الطلب وما بين ١٠٧ و ٤ / ١ ١١٠ ليرة عثمانية اذا كانت
مدتها ثلاثة اشهر وما بين ٨ / ٧ ١٠٦ و ١١٠ ليرة عثمانية اذا كانت مدتها اربعة اشهر.
اما فيها يخص الحوالات المسحوبة على بومباي فان الحوالة التي قيمتها ١٠٠٠ روبية
وتدفع عند الطلب كانت تساوي ما بين ٢ / ١ ٧٢ و ٢ / ١ ٧٤ ليرة عثمانية.
وفي ١٩١٠ كانت الحوالة التي قيمتها ١٠٠
جنية استرليني والمسحوبة على لندن تساوي ما بين ٢ / ١١٠٨ و ٤ / ٣ ١١٠ ليرة عثمانية
اذا كانت تدفع عند الطلب ومابين ٤/١ ١٠٧ و ٨ / ١ ١١٠ ليرة عثمانية اذا كانت مدتها
ثلاثة اشهر ومابين ٧ / ١ ١٠٧ و ٤ / ٣ ١٠٩ اذا كانت مدتها اربعة اشهر. اما فيما بخص
احوالات المسحوبة على بومباي فان الحوالة التي قيمتها ١٠٠٠ روبية وتدفع عند الطلب
كانت تساوي مابين ٢ / ١ ٧٢ و ٢ / ١ ٧٤ ليرة عثمانية.
ومن الطبيعي ان تتعرض اسعار التحويل
الخارجي التي كانت قبل ظهور البنك العثماني في العراق تعتمد كلياً على ارادة
الصرافين من الاهالي إلى تذبذبات حادة وفجائية انذاك اكثر مما نشاهده هنا وذلك لان
العلاقات المعروفة بين التصدير الذي لا يتميز بالثبات وبين كثرة أو قلة عرض
الحوالات الاجنبية كانت تسمح لاولئك الصرافين بان يتلاعبوا بنجاح في
رفع أو خفض سعر
التحويل.
علينا ونحن ننتقل إلى الحديث عن نشاط
البنك العثماني ان نذكر القاريء باننا قد تحدثنا بشكل عام عن نشاط كخزينة
للامبراطورية العثمانية في الصفحتين ٨٤ - ٨٥ من هذا الكتاب
ولهذا فسوف نقتصر في السطور التالية على توضيح أثره في التجارة فقط.
كان ظهور البنك العثماني الذي له صلات
بجميع المراكز التجارية في اوربا حدثاً حقيقاً بالنسبة إلى العراق الجنوبي الذي
يبعد مسافة اشهر كاملة من السفر عن الاسواق الاوربية التي تستهلك خاماته وتويّد له
المنتجات الصناعية التي يحتاجها. لقد حصل التجار من الاهالي في البنك المذكور على
وسيط ثمين في علاقاتهم مع اوربا سيما وان البنك كان بامكانه مساعدتهم في بيع
الخامات المحلية في أي من الاسواق الاوربية وفي استيراد منتجات أي دولة يرغبونها
من دول اوربا الغربية على حد سواء.
وبالمقابل اصبح بامكان اصحاب المعامل
والمصانع في الغرب البعيد اقامة علاقات مباشرة مع العراق على اساس ان اسناد البنك
سيكفل لهم تسلم اثمان الطلبات التي قاموا بتنفيذها.
وفي الوقت الذي ازدادت فيه تجارة
الاستيراد لدرجة كبيرة بعد ظهور البنك العثماني في العراق ، فان نشاط هذا البنك
انعكس بشكل ايجابي بدرجة لاتقل عن ذلك على التصدير ايضاً ذلك ان مصدري الخامات
المحلية اصبحوا قادرين على توسيع عملياتهم التجارية بالاقتراض من البنك بشروط جيدة
جداً بالمقارنة مع الفوائد العالية التي كان الصرّافون
__________________
من الاهالي يتقاضونها.
لقد كان البنك الامبراطوري العثماني باختصار هو المحرك الذي ساعد لدرجة كبيرة على
تقدم التجارة المحلية الذي اوضحناه اعلاه كما انه كان في الوقت نفسه صمام الامان
ضد ممارسة المضاربة على نطاق واسع في العمليات التجارية والمالية.
والبنك العثماني يواصل نشاطه في بغداد
بشكل مستمر منذ ١٨٩٣ ولهذا فأن تأثيره على السوق المالي المحلي اتيح له ان ينعكس
هناك بشكل اقوى منه في البصرة التي لم يجدد نشاطه فيها الا منذ ١٩٠٤ بعد فشل
افتتاحه لفرع له هناك في ١٨٩٤. وهكذا فاذا ماكان فرع البنك في بغداد قد تمكن حتى
بداية القرن الحالي من توسيع عملياته بحيث زادت دورة رأس المال السنوي فيه عن نصف
مليون ليرة عثمانية أي مايعادل اربعة ملايين روبل وربع المليون ، فان نشاطه في
البصرة مايزال في بداية تطوره. ومع هذا فان ذلك لم يعق البنك عن ان يؤثر ايجابياً
على الكثير من نواحي الحياة المالية هناك ومن ذلك وفي المقام الاول هبوط نسبة
الفائدة التي كانت في السابق عالية جداً في العمليات المالية المختلفة. فهو يأخذ
على القرص فائدة مقدارها ٩% بدلاً من ١٢% كما كانت في السابق ، وياخذ على الرهونات
والقروض التي يقدمها لاصحاب التمور ١٨ إلى ٢٠% بدلاً من ٢٤% وهو مقدارها السابق ، اما
الفائدة على القومسيون فقد انخفضت إلى١٠٢ ، وهكذا. وقد استطاع البنك فضلاً عن ذلك
ان يركز في يديه بالتدريج جميع عمليات التحويل تقريباً الامر الذي مكنه من المحافظة
على سعر التحويل في البصرة قريباً من مستوى سعره في بغداد من جهة ، ومن تلافي
الاثارة التي تحدث في البورصة في موسم التمور الذي يعاني فيه سعر التحويل عادة
قفزات حادة ومفاجئة من الجهة الاخرى. كذلك استطاع البنك ان يحول اصحاب التمور
المحليين إلى عملاء له ذلك ان اصحاب
التمور هؤلاء لم
يكونوا قبل ان يظهر البنك في البصرة يقبلون الشيكات المسحوبة على البيوت المصروفية
المحلية بل يطالبون مشتري التمور بأن يدفعوا حسابهم نقداً ، اما الان فقد اصبحوا
يثقون بالبنك العثماني ثقة تامة الامر الذي اعفى تجار التمور من ضرورة ان تكون تحت
ايديهم مبالغ كبيرة من السيولة النقدية. واخيراً لابد من الاقرار بان سوق البصرة
مدينة بثباتها لدرجة كبيرة لوجود البنك العثماني الذي هب في ١٩٠٦ مثلاً لمساعدة
تجارة المفرد التي اخذت تعاني بشدة من اختفاء الفئات الصغيرة من العملة من السوق
مثل القران الابيض ، أي القران الفارسي من السكة القديمة. وكان السبب في هذا
الاختفاء هو ان سعر القران المنخفض الذي يبلغ ٥٤ قراناً لكل ليرة عثمانية لم يكن
يطابق قيمته الحقيقية ، ولهذا فقد اسرع البنك برفع سعره على الفور بحيث بلغ ٥٠
قرانا ابيضاً لليرة الواحدة فضلاً عن انه سعى لأن يؤمن للسوق احتياطياً كافياً من
العملة العثمانية من الفئات الصغيرة.
وقد استطاع البنك منذ ان ظهر في البصرة
ان يضع مقياساً لمعادلة العملات المختلفة كان معدله على النحو التالي :
ـ الليرة العثمانية الواحدة تساوي ١٠٠
قرش أو ١٨ شلناً وبنسين أو ٢٢ فرنكاً ٧٧ سنتيماً.
ـ المجيدي يساوي ٢٠ قرشاً فضياً أو ٣
شلنات و ٦ بنسات أو ٤ فرنكات و ٢٠ سنتيماً.
ـ الروبية تساوي ٧ قروش أو شلناً واحداً
و ٤ بنسات أو فرنكاً واحداً و ٦٧ سنتيماً.
ـ القران الفارسي يساوي قرشين أو ٤
بنسات أو ٤٢ سنتيماً.
ولم يكن البنك يقبل الدفع الا بعملة العثمانية
إلى جانب الجنيهات
الانجليزية والفرنكات
الفرنسية من فئة العشرين فرنكاً فاستطاع بذلك ان يُعَوّد السوق المحلي لدرجة
ملحوظة على ان يقيم سعر التحويل الخارجي بالقرش الذهبي على اساس ان كل ١٠٠ قرش
ذهبي تساوي ليرة عثمانية واحدة. أما سعر التحويل الخارجي الذي كان قائماً في
البصرة في السنوات الاخيرة فقد كان متوسطه على النحو التالي :
- في ١٩٠٨ للحوالات المسحوبة على لندن
ومدتها ٤ أشهر متوسط سعر التحويل هو ١٦ / ٧ ١٨٠ قرش للجنيه الاسترليني الواحد.
- في ١٩٠٨ للحوالات المسحوبة على بومباي
وتدفع بعد سبعة ايام من المطالبة بها ، متوسط سعر التحويل هو ٨ / ٧ ٧٢ ليرة
عثمانية لكل ١٠٠٠ روبية.
وفي ١٩٠٩ اصبح سعر التحويل بالنسبة
للاولى أي الحوالات المسحوبة على لندن ومدتها ٤ اشهر هو ١٠٨ قروش للجنية
الاسترليني الواحد وبالنسبة للثانية أي الحوالات المسحوبة على بومباي وتدفع بعد
سبعة ايام من المطالبة بها هو ٢ / ١ ٧٢ ليرة عثمانية لكل ١٠٠٠ روبية - اما في ١٩١٠
فقد اصبح سعر التحويل بالنسبة للاولى ٤ / ٣ ١٠٨ قرش للجنية الاسترليني الواحد ، وة
بالنسبة للثانية ٥ / ٣ ٧٢ ليرة عثمانية لكل ١٠٠٠ روبية.
ومن الضروري هنا ان نلاحظ أن سعر
التحويل الخارجي كان مرتفعاً في السنوات المذكورة بسبب منع تصدير الحبوب وماادى
اليه قلة عرض الصكوك الاجنبية في وقت كان الطلب عليها في بغداد كبيراً بسبب الوضع
التجاري القلق لفارس.
اما فيما يخص النقود الورقية المتداولة
في العراق فأنها تقتصر كلياً على سندات الاعتماد الروسية ثم على الاوراق المصروفة
الهندية بدرجة
أقل ، وذلك لأن اوراق
البنكنوت التي اصدرها البنك العثماني نفسه ليست واسعة الانتشار في السوق المحلي.
وخلاصة القضية ان البنك طرح منذ اللحظة التي ظهر فيها في العراق في عام ١٨٩٤ كميات
من النقود الورقية من فئة الليرة العثمانية الواحدة والخمس ليرات ، وكانت الكمية
التي طرحها كبيرة بحيث عجز البنك بعد ذلك عن استبدالها بعملية معدنية في بغداد
ذاتها ولهذا فقد تحتم على حاملي هذه النقود الورقية بيعها بعد خصم كبير من قيمتها
إلى التجار الذين لهم علاقات مباشرة مع اسطنبول وقد ادى ذلك إلى تقويض الثقة
بالنقود الورقية .
يستحل علينا ونحن نحصي نتائج كل ماذكرناه
في هذا الفصل عن التجارة العراقية ، ان لانستنتج بان تحولاً حاسماً فصل فيها إلى
الاحسن مع بداية القرن الحالي وادى إلى زيادة كبيرة في الاستيراد والتصدير على
السواء. وتمكننا هذه الحقيقة من ان نفترض بأن التجارة المحلية قد انطلقت اخيراً من
نقطة الركود التي توقفت عندها في نهاية القرن السابق واخذت بالتطور منذ ان افتتحت
قناة السويس بسبب التغيّر الحذري الذي حصل في ظروف العراق.
وفي هذه الاثناء يجري الان تحديد حلول
مرحلة تاريخية جديدة تعد باحداث التغييرات جوهرية في النظام الاقتصادي لهذه
المنطقة. ونقصد هنا انشاء سكة حديد بغداد التي يستحيل علينا لهذا السبب اغفالها في
هذا الفصل المخصص لبحث التجارة العراقية. لقد وضعت بداية العهد الجديد على الورق
في ١٩٠٣ عندما شركة سكك حديد الانضول العثماني
__________________
على امتياز الخط
المذكور ولكن البداية الفعلية لن تحل قبل اليوم الذي يربط فيه خط حديدي متصل سواحل
البصر المتوسط بضفاف الخليج فيعيد بذلك لوادي الفرات اهمية التاريخ كأقصر طريق بين
هاذين البحرين.
وكانت بريطانيا باعتبارها مالكة للهند
اول من قدر قيمة هذا الدور المهم لوادي الفرات فعمدت ، منذ ان قامت بعثة العقيد
جسني في ١٨٣٥ ببحث صلاحية الفرات للملاحة إلى طرح عدد كبير من المشاريع لمد خط
حديدي من البحر المتوسط إلى الخليج. غير ان جميع هذه المشاريع ظلت مجرد اقتراحات
لان الحكومة البريطانية التي كانت مشغولة في اجزاء اخرى من العالم لم تُعِرْ هذه
القضية ماتستحقه من اهتمام ، ولان اصحاب الاعمال لم يجرؤوا على المخاطرة برؤوس
اموالهم في بناء خط اعتقدوا انه غير مربح. وهكذا اصبح تحقيق هذه المشاريع من نصيب
شركة سكك حديد الأنضول العثماني التي طرحت ألمانيا من خلالها خطة ضخمة لبناء السكك
الحديد هدفها سد حاجة الامبراطورية العثمانية العسكرية والادارية إلى طرق مواصلات
جيدة وايضاً وبدرجة لا تقل عن ذلك تطمين حاة الصناعة الالمانية الملحة إلى المواد
الخام والى اسواق جديدة لبيع منتجاته.
ولا يبدو ضرورياً التوسع في الحديث عن
الاهمية العسكرية والادارية لربط المناطق البعيدة والتي لم تهدأ نهائياً لحد الآن
كالعراق بالعاصمة بخطوط حديدية بالنسبة للدولة العثمانية. اما فيما يتعلق بمصالح
المانيا في هذا المشروع فان المسالة تبدو اكثر تعقيداً وان كانت لا تقل وضوحاً. ان
التحول الذي طرأ على الحياة الاقتصادية في امبراطورية آل هوهنزليرن في الرعب قرن
الاخير ونعني التطور الهائل في شبكة المصانع والمعامل فيها وانتقال السكان من
العمل الزراعي إلى العمل الصناعي ، ادى في الوقت الحاضر إلى تعجز تربة المانيا عن
اطعام السكان جميعهم وعن سد
حاجة الصناعة
المعملية إلى
الخامات .
هذا في حين ان الانضول وسوريا وما بين وجنوب العراق التي كانت في السابق كثيفة
السكان تمتلك كل المؤهلات التي تجعلها تعطي في المستقبل ، على ما يعتقده رورباخ
نفس كمية الحبوب التي تستوردها المانيا حالياً من روسيا إلى جانب امكانية تطوير
زراعة القطن على نطاق واسع فيها. وهكذا فأن مناطق الدولة العثمانية الآسيوية هذه
مدعوة لان تكون المورّد الطبيعي للخامات التي تحتاجها المانيا والمستهلك لمنتجاتها
الصناعية في الوقت نفسه.
ومع ذلك فقد كانت هناك صعوبات كبيرة
جداً تعترض تحقيق هذه الخطة الضخمة ، ابتداء من وجوب الاهتمام بمد الطريق في
الاتجاه الذي يحقق اقصى مايمكن من الربح وانتهاء بضرورة اخذ المصالح التجارية
للدول الكبرى الاخرى بنظر الاعتبار. ولهذا فليس هناك مايدهش في ان اتجاه سكة حديد
بغداد تغير بشكل جذري اكثر من مرة بسبب ظهور هذه المشكلة أو تلك.
لقد شمل الامتياز الاول الذي حصل عليه
البنك الألماني في ١٨٨٨ بناء سكة من حيدر اباد إلى انقرة مع وعد بمد أجزاء اخرى
إلى سيواس فبغداد اعتماداً على الغاء الضمانات الكيلومترية
بالنسبة للاجزاء التي
__________________
ستبني من السكة.
وكانت الحكومة العثمانية التي مازالت تحت تأثير حربها الاخيرة مع روسيا
تحلم بهذا الخط الاستراتيجي المهم ، كما ان توقف الترانسبت فيما وراء القفقاس في
عام ١٨٨٣ جعل اصحاب الاعمال الألمان يأملون في ان يتحول تبادل البضائع بين اوربا
وفارس إلى طريقهم الجديد. وقد ادت هذه الظروف إلى وضع ما يسمى بالخيار الشمالي
لسكة حديد بغداد ، الذي بمد الخط من انقرة إلى يوزكات فسيواس ثم كنكال وفي هذه
الاخيرة يتفرع إلى فرعين يذهب احدهما نحو ارزنجان فارضروم
ثم إلى بايزيد باتجاه الحدود الفارسية ، بينما يذهب الآخر إلى بغداد عن طريق خربط
وديار بكر. وقد انشئت لبناء هذا الخط وتشغيله شركة اسمها (Societe
Othomane des Chemins de fer d Anatolie)
تالفت من البنك الألماني في برلين وWuthem bergische
Vereinshonk
في شتوتكارت .
وقد وصلت السكة حتى عام ١٨٩٣ إلى انقرة غير ان مواصلة بنائها باتجاه الشمال اهملت
لاسباب عديدة ليس اخرها الموقف السلبي الذي وقفته روسيا وكذلك عدم تحقق الامال
بجذب الترانسيت الاوربي الذي اتجه إلى الخليج بدلاً من ان يتحول إلى السكة الجديدة.
وفضلاً عن ظهر انه من الصعب جداً تنفيذ الخيار الشمالي من وادٍ إلى اخر ثم الهبوط
إلى الفرات الامر الذي كان يتطلب بناء الكثير من المنشأت الاصطناعية كالانفاق
__________________
والجسور وغيرها على
امتداد هذه السكة الجبلية. وقد اجبرت هذه الاعتبارات كلها شركة سكك حديد الانضول
على ان تحصل في السنة ذاتها أي في ١٨٩٣ على امتياز بمواصلة مد السكة من انقرة إلى
قيصرية فملاطية فديار بكر أي باتجاه يميل إلى الجنوب اكثر من الاتجاه السابق وقد
عرف هذا الاتجاه الجديد بين التغيرات التي اجريت على خطة سكة حديد بغداد الاولى
بأسم الخيار الاوسط .
ومع ذلك فلم يباشر ببناء الطريق الجديد ايضاً بسبب الصعوبات التكنيكية نفسها لان
الاتجاه الجديد كان يحتّم بناء السكة في منطقة تتخللها السلاسل الجبلية ، ولهذا
فقد تحولت الشركة المذكورة تلافياً للجبال إلى الجنوب اكثر وباشرت بانشاء السكة
الحديد من اسكي شهر إلى قونية. وقد أريد لهذا الخط الجديد ان يمتد إلى هرقليا
ومنها إلى أطنة ومرعش وعينتاب واروفة وديار بكر وماردين والموصل وكركوك ودلي عباس
حيث يذهب فرع إلى مندلي والحويزة والمحمرة بمحاذاة نهر دجلة في حين يتجه فرع اخر
إلى بغداد ثم إلى كربلاء والنجف وسوق الشيوخ والبصرة والكويت بمحاذاة نهر الفرات.
وقد شكل هذا الاتجاه ما يعرف بالخيار الجنوبي لسكة حديد بغداد. وقد حصلت شركة سكك
حديد الانضول على الأمتياز الاول للخط المذكور في ١٨٩٩ ووقع الفرمان النهائي الخاص
به وشروطه التفصيلية في ١٩٠٣ وذلك بعد ان تجولت لجنة خاصة من المهندسين الألمان
برئاسة القنصل الألماني العام في اسطنبول السيد شتمريخ في المنطقة التي سيمر فيها
الخط المذكور ودرستها دراسة تفصيلية انتهت بعدها إلى مساندة الاتجاه الذي جرى
اختيار بشدة. ومع ذلك لم ينجح الخيار الجنوبي لسكة حديد بغداد
__________________
من تغيرات جوهرية
اجريت على خطته الاولى ، وهي تغييرات حتمتها رغبة بناة السكة الالمان في تجنب مد
خط السكة في مناطق طوروس وجبال ارمينيا وكردستان. وهكذا فقد جري تعيين الاتجاه
الاتي بخطوطه العامة : - تسير السكة من اطنة مباشرة إلى جرابلس (جيرابوليس القديمة)
الواقعة على نهر الفرات إلى الجنوب من برجك ومن هناك تستمر عبر حلف إلى نصيبين عبر
الصحراء بمحاذاة الضفة اليمنى للفرات إلى الزبير فالبصرة .
ولو امعنا النظر في خط سير سكة حديد
بغداد هذا فسنلاحظ حتماً ان السكة تجتاز على طول امتدادها من أطنة إلى البصرة
مناطق خصبة كل قطعة من الارض فيها صالحة للزراعة. فسهل قليقيا مثلاً الذي تحميه
جبال طوروس من الرياح الشمالية وترويه إرواءً جيداً ثلاثة أنهار هي بدران وسيحون
وجيهان ، يمكن مقارنته من حيث ثرائه النباتي بمصر السفلى فهو ينتج إلى جانب الكثير
من القطن وقصب السكر والبنجر والتوت والزيتون والبرتقال والليمون .
اما سوريا التي تجاور وادي قليقيا وولاية حلب التي تتاخمها مع متصرفية دير الزور
فقد اشتهرت منذ القدم بزراعة القطن يؤكد ذلك ان كلمة «بامبيك» وهي التسمية القديمة
للمنطقة الواقعة بين حلب وبرجك على الفرات اصبحت تسمية عامة للقطن باللغة
اليونانية وكذلك باللغات اللاتينية ((bombyx كما هي الحال مع
التركية (بامبوك) .
اما إلى الشرق من الخابور رافد الفرات أي في ولاية اموصل فقد ادت غارات
__________________
الاكراد من الشمال
والعرب من الجنوب ، إلى تقلص مساحة الارض المزروعة ومع ذلك فقد ظلت الولاية
المذكورة تشتهر بزراعة التبغ وتشارك كما رأينا مشاركة كبيرة في تصدير الحنطة وكذلك
الصوف وشعر الماعز والعفص والصمغ عن طريق البصرة. ويتاخم ولاية الموصل من الجنوب
العراق الذي تحدثنا في الفصل الحالي بالتفصيل عن تصديره الواسع للمنتجات الزراعية
، ولم يبق الا ان نضيف ان هذه المنطقة صالحة ايضاً لزراعة القطن واشجار التوت وهي
امور مهملة حالياً.
ان هذا الاستعراض السريع الذي قمنا به
للأقطار التي ستمر فيها سكة حديد بغداد على اقتضابه كافٍ لان يجعلنا نتبين كم هو
دقيق اهتمام رجال الاعمال بتطمين المطلب الاساس الذي توخنه الصناعة الألمانية من
سكة حديد بغداد وتعني تزويدها بالخامات وتأمين سوق جديد لتصريفها. وجميع هذه
المنطقة الغنية التي تقطعها السكة هي الان في حالة تدهور شديد بحيث انه سيكون على
الرأسمال الالماني والهمة الألمانية ان يقوما بعمل صعب ولكن جيد المردود لاعادة
الحياة إلى هذه الاقاليم العثمانية الاسيوية. ويكاد يكون العراق الذي يعتمد تطوير
قواه المنتجة تمام الاعتماد على تأمين الري الصناعي له اسوأ هذه الاقطار حالاً.
وفي الوقت الذي اناطت فيه الحكومة
العثمانية قضية إرواء وادي قونية عن طريق سحب المياه من بحيرة بايشهر بشركة مغمورة
تألفت بمشاركة مباشرة من البنك العثماني واضطلعت الشركة المذكورة ذاتها بري وادي
قليقيا ايضاً
، فأن قضية وضع خظة الاحياء العراق كان قد بدأها منذ عهد السلطان عبد الحميد ، المهندس
الانجليزي ويلكوكس الشخصية
__________________
المعروفة في ري مصر.
وكان هذا الاخير قد توصل بعد أن درس المنطقة ومصادرها المائية بعناية ، إلى
الاستنتاج بأن أفضل توزيع لمياه دجلة والفرات يمكن التوصل اليه عن طريق احياء نظام
الي القديم مع بعض التغييرات التي يحتاجها تقدم التكنيك المعاصر. وانطلاقاً من
وجهة النظر هذه وضع ويلكوكس خطة واسعة لاصلاح قنوات التي كانت قائمة منذ العهد
الكلداني وبناء خزانات خاصة لخزن مياه الانهار الزائدة اثناء الفيضان والحفاظ على
المياه في القنوات بالمستوى الذي تتطلبه الزراعة بمساعدة نظام معقد من القناطر
والسدود والخزانات الصغيرة. ومع ذلك فقد اعتقد ويلكوكس بانه حتى لو جرى هذا
التحسين الجذري للري فأن المياه المتوفرة لن تكفي لارواء ٥٠٠٠٠٠٠ هكتار هي مساحة
دلتا الفرات ودجلة ابتداء من هيت على الاول وبلد الواقعة إلى الجنوب من سامراء على
الثاني ، فالري لن يؤمن في هذه الحالة الال ٣٠٠٠٠٠٠ هكتار للمحاصيل الشتوية و ٠٠٠ر١٦٥
هكتار للمحاصيل الصيفية منها ٤٠٠٠٠٠ هكتار لزراعة الرز والباقي لزراعة الحبوب
الاخرى والقطن .
ولا يبدو الامل بتحقيق هذا المشروع
الجسيم في المستقبل القريب ممكناً وذلك لان الكلفة التقريبية التي حددها ويلكوكس
لتوفير الارواء للعراق هي ١٠ ملايين جنية استرليني وهو مبلغ لا يتحمله الوضع
المالي للدولة العثمانية ، ولذلك فأنها لا تستطيع ان تستغني في هذه المسألة عن
مساعدة رؤوس الاموال الاجنبية. غير ان الحصول على مثل هذا المبلغ الضخم تعترضه
عقبات لا تنتهي سيما ان المشروع نفسه لا يعد بالنجاح الا بعد ان تحل قضية جوهرية
اخرى هي توفير الايدي العاملة نظراً لقلة
__________________
لكثافة السكانية في
المنطقة. ولهذا ينبغي قبل البدء باحياء القنوات القديمة ، التفكير جدياً بجذب
الزراع إلى هذا القطر وهو امر تعيقه لدرجة كبيرة ظروف المناخ في جنوب الحراق حيث
لا يستطيع العيش الا الهنود والمصريون ، فهل سيوجد بين افراد هذين الشعبين من يريد
النزوح إلى هنا اختيارياً؟ تلك مسالة ما تزال مثار بحث حتى الوقت الحاضر. وقد
اوقفت صعوبة هذه المسألة ويلكوكس نفسه فارتأى تنفيذ الخطة التي وضعها على مراحل
وذلك بأن تكون البداية بارواء ٥٥٠٠٠٠ هكتار تقع بين بغداد على دجلة والكوفة على
الفرات يباشر بعدها بري منطقة قنوات شط الحي وبلد والدجيل والنهروان على التوالي ،
وستبلغ المنطقة المروية باجمعها بموجب حسابات ويلكوكس في هذه الحالة ما يقرب من
١٢٠٠٠٠٠ هكتار وستعطي حاصلاً سنوياً مقداره مليون طن من الحنطة و ٤٠٠٠٠٠ بالة من
القطن.
وتشهد هذه الارقام على المدى الهائل
الذي سيبلغه حجم التصدير العراقي عند تأمين الري الصناعي للزراعة المحلية واسنادها
لنقل ملائم بوساطة السكك الحديد. ولكن هذا التطور في القوى المنتجة للعراق لن
يتحقق الا في المستقبل القريب أو البعيد فأننا الان على ايضاح التأثير الذي يمكن
ان تحدثه سكة حديد بغداد ذاتها على التجارة العراقية.
ينبغي ان نلاحظ ابتداءً ان بناة سكة
حديد بغداد انفسهم حرصوا على ان يجعلوها تمتد باتجاه ملائم يهدف إلى ان يجذب لها
اكثر ما يمكن من تبادل البضائع بين اوربا ومقدمة اسيا. وطالما أن جعل نقطة انطلاق
السكة في ميناء حيدر باشا على البسفور وهو ميناء يقع بعيداً عن الطريق البحري
المطروق القادم من اوربا ، لا يمكن ان يساعد على تحقيق هذا الهدف ، فقد اندمجت
شركة سكك حديد الانفضول مع شركة السكك الحديد الفرنسي «سميرنا - قصبة» وجعلت خطها
يلتقي مع الخط الفرنسي
في افيون قرة حصار
ذلك ميناء سميرنا
نقطة امامية لسكة حديد بغداد. ومع ذلك فأن الاتجاه الجديد ايضاً لم يقنع رجال
الاعمال الألمان الذين ماكان بامكانهم ، مع تقدم بناء الخط الا ان يقتنعوا بان نقل
البضائع من سميرنا إلى المراكز الرئيسة في سوريا ومابين النهرين بواسطة السكة
الحديد يكلف غاليا إلى درجة لا يستطيع معها منافسة الطرق البحرية الرخيصة. ولهذه
الاسباب اختارت شركة سكة حديد بغداد في ١٩٠٦ مرسين لتكون نقطة انطلاق للسكة واشترت
اسهم شركة السكك الحديدية الفرنسية «اطنة - مرسين» ، وفي ١٩١١ وقع اختيارها
نهائياً على مدينة الاسكندرونة ، وقد تخلى اصحاب الاعمال للحكومة العثمانية في
السنة المذكورة عن حصتهم التي تضمنها الامتياز ببناء الجزء الاخير من السكة وهو
الجزء الواقع بين بغداد والخليج ، وحصلوا على امتياز لتجهيز الميناء وربطه على
الفور مع محطة عصماني الواقعة في وادي أطنة على الخط الرئيسي للسكة ، بفرع من
السكة طوله ٦٠ كم ، علماً بأن ربط الميناء المذكور في السمتقبل مع مدينة حلب
بواسطة سكة حديد لن يسبب صعوبة تذكر باستنثاء بناء طريق جبلي صغير عبر سلسلة
امانوس التي تفصل الاسكندرية عن سهل حلب.
وهكذا اتضح الان نهائياً ان الاختيار قد
وقع على الاسكندرونة لتكون نقطة الانطلاق لسكة حديد الالمان بغداد ، الأمر الذي
يُحوّل هذه السكة ، بالارتباط مع قرار المهندسين اللمان بمد خط بغداد إلى حلب
مباشرة ثم الاستمرار به من هناك ، إلى ان يقطع الفرات في نقطة تبعد ٢٥ كم إلى
الجنوب من برجك ، إلى أقصر وافضل طريق بين البحر المتوسط والخليج. ولن يستغرق نقل
البضائع من لندن إلى الاسكندرونة ومن هذه الاخيرة بواسطة السكة إلى بغداد ، بفضل
الاتجاه الجديد لسكة حديد بغداد اكثر
__________________
من ثلاثة اسابيع ، في
الوقت الذي يتطلب فيه ايصال البضائع حالياً إلى بغداد عن طريق قناة السويس مالا
يقل عن شهرين في الفضل الاحوال. اما فيما يخص كلفة نقل البضاعة بطريق البحر أو
بواسطة السكة فحتى في هذا المجال لا يمكن ان يكون هناك اختلاف كبير لصالح الطريق
الاول. فالواقع ان اجرة نقل الطن الواحد من البضاعة عن طريق قناة السويس ستكون في
حالة كون اجرة الشحن البحري جنيهاً استرلينياً واحداً للطن ، ١٥ روبلاً حتى لو
أفترضنا بان شركات الملاحة النهرية العاملة في دجلة ستوافق على تخفيض اجور الشحن
التي تتقاضاها حالياً بمقدار الثلثين فتصبح ١١ شلناً أي خمسة روبلات وربع للطن
الواحد. هذا في حين ان كلفة الطن الواحد من البضاعة بحراً إلى الاسكندرونة ثم
بواسطة السكة الحديد عبر مسافة تصل إلى ١٠٠٠ كم تفصل الاسكندرونة عن بغداد لن
تتعدى بشكل عام ستة عشر روبلاً ونصفاً
، آخذين بنظر الاعتبار ان كلفة التفريغ في الاسكندرونة تقابلها كلفة التفريغ في
البصرة مع تجاوز التفريغ الجزئي الذي يحدث احياناً بسبب الحاجز الرملي في شط
العرب. وينبغي ان نلاحظ أن الاختصار الواضح في الوقت وما يؤدي اليه ذلك من تزويد
سوق بغداد بالبضائع بشكل اكثر انتظاماً ومن استقرار كبير في اسعار السوق يعوض
التجار تماماً عن الفرق في اجزاء النقل بين الطريقين ومقداره روبل ونصف للطن
الواحد سيما بالنسبة إلى البضائع الثمينة كالاقمشة والسكر وما أشبه. ولهذا يمكننا
الان نتنبأ بدرجة لا يستهان بها من اليقين بان القسم الاغلب من واردات العراق وغرب
فارس من اوربا سوف يفضل السكة على الطريق البحري وهناك احتمال كبير بأن البضائع
التي تذهب الان عن طريق بوشهر ستأخذ بالتوجه إلى فارس اولاً بواسطة السكة إلى
بغداد ومن هناك بواسطة خط صديجة - خانقين إلى الحدود الفارسية لكي تنقل من هناك
إلى كرمنشاه. ولكن البضائع الكبيرة الحجم والقليلة القيمة كالمعادن غير المصُنّعة
والمواد الخشبية وما أشبه ستظل طبعاً كالسابق تُنقل
__________________
عن طريق قناة السويس
والخليج. وهكذا سوف تخسر البصرة الكثير باعتبارها ميناء الاستيراد للعراق وغرب
فارس ولن يتبقى لها الا اهميتها السابقة بالنسبة إلى الاستيراد من الهند لان ذلك
الاستيراد لن يغير خط سيره القديم إلى البصرة وبغداد ولن يستخدم السكة اللهم الا
للتغلغل في الاسواق السورية. اما فيما يتعلق بالتصدير فان السكة لن تحدث تغيرات
جوهرية فيه وذلك لان الامل قليل وفي البداية على الاقل ، في ان تترك خامات العراق
واتجاهها الحالي إلى البصرة ومنها إلى أوروبا لان تعريفة النقل بالسكك الحديد تؤلف
رغم كل شيء عب ءاً لا يحتمل بالنسبة لهذه البضائع الرخيصة وأغلب الظن أن الجزء
الأخير من السكة وهو الجزء الواقع بين بغداد والبصرة سوف يشارك في التصدير العراقي
وذلك لان صعوبات الملاحة في الفرات ودجلة تزداد من سنة إلى اخرى نتيجة لتراكم
الترسبات ولان طريق السكة الذي هو اقصر من الطريق النهري بسبب التعرجات الكثيرة
التي يمتاز بها مجرى النهرين ، سيمكن مؤسس الجزء المذكور من السكة من اعتماد
تعريفة النقل بواسطة السكة لا تزيد عن أجرة النقل النهري. وفي حالة تمتد السكة إلى
الكويت أو إلى أي نقطة أخرى على الخليج سيكون من المتوقع تماماً أن يفضّل القسم
الأغلب من الخامات المصدرة طريق السكة على الطريق النهري تجنباً للتفريع الذي لا
ضرورة له في البصرة أو عند الحاجز الرملي في مصب شط العرب.
لم يبق لنا إلاّ أن نضيف إلى ما ذكرناه
عن التأثير المحتمل لسكة حديد بغداد على التجارة العراقية ، القول بأن تقدير
الانقلاب الذي ستحدثه السكة في الحياة الثقافية والاقتصادية لهذه المنطقة مسبقاً
أمر غير ممكن ، ولكن لا يمكن إلاّ ان يكون انقلاباً كبيراً ويكفي ان نتذكر في هذا
الصدد مدى التأثير المفيد الذي أحدثته السكك الحديد على مناطق نائية تشبه العراق
في روسيا.
الفهرس
تقديم.......................................................................... ٣
مقدمة الجزء الثاني.............................................................. ٥
الفصل السادس................................................................. ٧
الفصل السابع................................................................ ٨١
الفصل الثامن............................................................... ١٢٣
الفصل التاسع............................................................... ٢٢٣
الفصل العاشر............................................................... ٢٨٢
الفهرس..................................................................... ٣٩٣
|