


(٤٢)
درّة نجفيّة
في رسالة الهادي عليهالسلام
إلى أهل الأهواز حول الجبر والتفويض
رسالة مولانا
علي بن محمد الهادي عليهماالسلام إلى أهل الأهواز في الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين
، رواها الحسن بن علي بن شعبة من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في كتاب (تحف
العقول) أحببت إيرادها في هذا الكتاب ، حيث إنها قليلة الدوران في كتب الأصحاب ،
مع ما فيها من الفوائد التي لا تخفى على ذوي الألباب. إلّا إن النسخة المنتسخ منها
لا تخلو من الغلط ، وهي هذه : «من علي بن محمد ، سلام على من اتّبع الهدى ورحمة
الله وبركاته ، فإنّه ورد عليّ كتابكم ، وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم
وخوضكم في القدر ، ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض ، وتفرّقكم في
ذلك وتقاطعكم ، وما ظهر من العداوة بينكم ، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم ، وفهمت
ذلك كله. أعلموا ـ رحمكم الله ـ أنا نظرنا في الأثار وكثرة ما جاءت به الأخبار ،
فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن الله عزوجل ، لا تخلوا عن معنيين : إمّا حق فيتبع ، وإمّا باطل
فيجتنب.
وقد اجتمعت
الامّة قاطبة أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق ، وفي حال اجتماعهم
مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون مهتدون ، وذلك بقول رسول الله : لا تجتمع
أمّتي على ضلالة ، فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الامة كلّها حق. هذا إذا لم يخالف
بعضها بعضا.
__________________
والقرآن حق لا
اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه ، فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه وأنكر الخبر
طائفة من الامة ، لزمهم الإقرار به ضرورة ، حيث اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب
، فإن هي جحدت وأنكر لزمها الخروج عن الملة.
فأول خبر يعرف
تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه ، خبر ورد عن رسول الله وجد بموافقة
الكتاب وتصديقه ، بحيث لا تخالفه أقاويلهم حيث قال : إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب
الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما تمسّكتم بهما وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض . فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا ، مثل قوله عزوجل (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) . وروت العامة في ذلك أخبارا لأمير المؤمنين عليهالسلام أنه تصدّق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل
الآية فيه . فوجدنا رسول الله قد أتى بقوله : من كنت مولاه فعلي
مولاه ، وبقوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا إنه لا نبي بعدي ، ووجدناه
يقول : عليّ يقضي ديني وينجز موعدي ، وهو خليفتي عليكم من بعدي .
فالخبر الأول
استنبط منه هذه الأخبار ، وهو خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضا
موافق للكتاب. فلمّا شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الاخر ، لزم الامة
الإقرار بها ضرورة ؛ إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة
__________________
ووافقها القرآن ووافقت القرآن.
ثم وردت حقائق
الأخبار عن رسول الله عن الصادقين عليهمالسلام نقلها قوم ثقات معروفون ، فصار الاقتداء بهم بهذه
الأخبار فرضا واجبا على كل مؤمن ومؤمنة لا يتعدّاه إلى أهل العناد ؛ وذلك أن
أقاويل آل الرسول صلىاللهعليهوآله متّصلة بقول الله و ذلك مثل قوله في محكم كتابه (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) .
ووجدنا نظير
هذه الآية قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : من آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ومن
آذى الله يوشك أن ينتقم منه وكذلك قوله صلىاللهعليهوآله : من أحبّ عليا فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحب الله . ومثل قوله
لبني وليعة : لأبعثن غدا عليهم رجلا كنفسي يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ،
قم يا علي ، فسر إليهم . وقوله : يوم خيبر : لأبعثن إليهم غدا رجلا يحبّ الله
ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله عليه. فقضى
رسول الله صلىاللهعليهوآله بالفتح قبل التوجيه ، فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلما كان من الغد دعا عليا عليهالسلام فبعثه إليهم ، فاصطفاه بهذه المنقبة ، وسمّاه كرارا غير فرار ،
وسماه محبا لله ولرسوله ، وأخبر أن الله ورسوله يحبانه.
وإنّما قدمنا
هذا الشرح والبيان دليلا على ما أردناه وقوّة لما نحن مبينوه من أمر
__________________
الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوّة ، وعليه
نتوكّل في جميع امورنا ، فإنا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليهالسلام : لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين ، وهي :
صحة الخلقة ، وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت ، ومثل الزاد والراحلة ، والسبب
المهيج للفاعل على فعله. فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق عليهالسلام جوامع الفضل ، فإذا نقص العبد منها خلّة كان العمل عنه
مطروحا بحسبه ، فأخبر الصادق عليهالسلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ونطق الكتاب
بتصديقه ، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله ؛ لأن الرسول صلىاللهعليهوآله [وآله عليهمالسلام لا يعدون] شيء من قوله وأقاويلهم حدود القرآن ، فإذا وردت حقائق
الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل ، فوجد لها موافقا وعليها دليلا كان الاقتداء
بها فرضا لا يتعداه إلّا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب.
ولما التمسنا
تحقيق ما قاله الصادق عليهالسلام من المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر
والتفويض ، وجدنا الكتاب قد شهد له وصدّق مقالته في هذا. وخبر عنه أيضا موافق لهذا
أن الصادق عليهالسلام سئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال الصادق عليهالسلام : هو أعدل من ذلك. فقيل له : فهل فوّض إليهم؟
فقال : هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك.
وروي عنه أنه
قال : الناس في القدر على ثلاث أوجه : رجل يزعم أن الأمر مفوض إليه ، فقد وهّن
الله في سلطانه ؛ فهو هالك.
ورجل يزعم أن
الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون ، فقد ظلم الله في
حكمه ؛ فهو هالك.
ورجل يزعم أن
الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا
أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ.
__________________
فأخبر عليهالسلام أن من تقلد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف
الحقّ. فقد شرحت الجبر الذي من دان به لزمه الخطأ ، وأن الذي يتقلد التفويض يلزمه
الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما».
ثم قال عليهالسلام : «وأضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلا يقرّب المعنى
للطالب ، ويسهل له البحث عن شرحه ، يشهد به محكمات آيات الكتاب وتحقّق تصديقه عند
ذوي الألباب وبالله التوفيق والعصمة : فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو
قول من زعم أن الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها. ومن قال بهذا
القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه وردّ عليه قوله (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ
أَحَداً) ، وقوله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقوله (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) مع آي كثير في ذكر هذا.
ومن زعم أن
الله مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله
فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الامة.
ومثل ذلك مثل
رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه ولا يملك عرضا من عرض الدنيا ويعلم مولاه ذلك
منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملّكه ثمن ما
يأتيه به من حاجته ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه
إلّا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار
الحكمة ونفي الجور ، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب
الذي على حاجته أن سيمنعه ، وعلمه أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه
__________________
ذلك. فلما صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى إليها
وجد عليها مانعا يمنع منها إلّا بشراء ، وليس يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه
خائبا بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه. أليس يجب في
عدله وحكمته ألّا يعاقبه وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا ، ولم
يملّكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله
وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده إياه حين أوعده [ب] الكذب والظلم اللذين
ينفيان العدل والحكمة ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فمن دان بالجبر
أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ونسبه إلى الجور والعدوان ؛ إذ أوجب على من
أجبر العقوبة ، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله أن الله يدفع
عنهم العقوبة ، ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده
حيث يقول (بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً
حَكِيماً) ، مع آي كثير في هذا الفن فيمن كذب وعيد الله ، ويلزمه
في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممن قال الله (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلّا خِزْيٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) .
__________________
بل نقول : إن
الله جلّ وعزّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي
ملّكهم إياها ، فأمرهم ونهاهم ، بذلك نطق كتابه (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، وقال جل ذكره (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، وقال (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) . فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به. ومثلها في
القرآن كثيرا اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب وبالله التوفيق.
وأمّا التفويض
الذي أبطله الصادق عليهالسلام وأخطأ من دان به وتقلّده فهو قول القائل : إن الله جل ذكره
فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم. وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره
ودقته. وإلى هذا ذهبت الأئمّة المهتدية من عترة الرسول صلىاللهعليهوآله ؛ فإنهم قالوا : لو فوض إليهم على جهة الإهمال لكان
لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب ، ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب
إذا كان الإهمال واقعا.
وتنصرف هذه
المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ؛
كره ذلك أم أحبّ ، فقد لزم الوهن ، أو يكون جلّ وعزّ عجز عن تعبّدهم
بالأمر والنهي على إرادته ؛ كرهوا أو أحبّوا ففوّض أمره إليهم وأجراهما على
محبّتهم ؛ إذ عجز عن تعبدهم بإرادته ، فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان.
__________________
ومثل ذلك مثل
رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل روايته ، ويقف عند أمره ونهيه ، وادّعى
مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ، ووعده على اتّباع أمره عظيم
الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند
أمره ونهيه ، فأي أمر أمره وأي نهي نهاه لم يأته على إرادة المولى ، بل كان العبد
يتبع إرادة نفسه واتّباع هواه ، ولا يطيق المولى أن يردّه إلى اتّباع أمره ونهيه
والوقوف على إرادته ففوّض اختيار أمره ونهيه إليه ، ورضي منه بكل ما فعله على
إرادة العبد لا على إرادة المالك ، وبعثه في بعض حوائجه وسمّى له الحاجة ، فخالف
على مولاه ، وقصد لإرادة نفسه ، واتّبع هواه ، [فلمّا] رجع إلى مولاه نظر إلى ما
أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به ، فقال له : لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال
العبد : اتّكلت على تفويضك الأمر إلي فاتّبعت هواي وإرادتي ، لأنّ المفوض إليه غير
محظور عليه ؛ فاستحال التفويض. أو ليس يجب على هذا السبب : إما أن
يكون المالك للعبد قادرا [يأمر] عبده اتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد ،
ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه
الثواب والعقاب عليهما. وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه
بما ملكه من الطاعة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه ، فيكون عدله وإنصافه شاملا له
وحجته واضحة عليه للإعذار والإنذار ، فإذا اتّبع العبد أمر مولاه جازاه ، وإذا لم
يزدجر عن نهيه عاقبه.
أو يكون عاجزا
غير قادر ، ففوّض إليه أمره ؛ أحسن أم أساء ، أطاع أم عصى ، عاجزا عن عقوبته وردّه
إلى اتّباع أمره ، [و] في [إثبات] العجز نفي القدرة والتألّه ، وإبطال
__________________
الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، ومخالفة الكتاب ؛ إذ يقول (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وقوله عزوجل (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، وقوله (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) ، (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ، وقوله (وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ، وقوله (أَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) ؟
فمن زعم أن الله
تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما
عملوا من خير وشر ، وأبطل أمر الله ونهيه ، ووعده ووعيده ؛ لعلة ما زعم أن الله
فوضها إليه لأن المفوض إليه يعمل بمشيئته ، فإن شاء الكفر أو
الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور. فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل
جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه وهو من أهل هذه الآية (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلّا خِزْيٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوّا كبيرا.
لكن نقول : إن
الله جلّ وعزّ خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة تعبدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما
أراد ، فقبل منهم اتّباع أمره ، ورضي بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته ، وذمّ من عصاه
وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به وينهى ، عما
يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملّكها عباده لاتّباع أمره واجتناب
__________________
معاصيه ؛ لأنّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة. بالغ الحجة بالإعذار
والإنذار ، وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده
، اصطفى محمدا صلىاللهعليهوآله وبعثه برسالاته إلى خلقه ، فقال من قال من كفّار قومه
حسدا واستكبارا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعني بذلك اميّة بن أبي الصلت ، وأبا مسعود الثقفي ،
فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ) .
ولذلك اختار من
الامور ما أحبّ ، ونهى عمّا كره ، فمن أطاعه أثابه ، ومن عصاه عاقبه ولو فوض
اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار اميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي ؛
إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلىاللهعليهوآله.
فلهذا أدّب
الله المؤمنين بقوله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم ، ولم يقبل منهم إلّا
اتّباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه ، فمن أطاعه رشد ومن عصاه ضلّ وغوى
ولزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه ؛ فمن أجل ذلك حرمه
ثوابه وأنزل به عقابه.
وهذا القول بين
القولين ليس بجبر ولا تفويض ، بذلك أخبر أمير المؤمنين عليهالسلام عباية ابن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها
يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين : سألت عن الاستطاعة ، تملكها من دون
الله أو مع الله؟ فسكت عباية فقال له
__________________
أمير المؤمنين عليهالسلام : قل يا عباية. قال : وما أقول؟ قال : إن قلت : إنك
تملّكها مع الله قتلتك ، وإن قلت : تملّكها من دون الله قتلتك. قال عباية : فما
أقول يا أمير المؤمنين؟
قال : تقول إنك
تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن يملّكها إياك كان ذلك من عطائه ، وإن
يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملك والقادر على ما عليه أقدرك ،
أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون : لا حول ولا قوة إلّا بالله؟
قال عباية :
وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول عن معاصي الله إلّا بعصمة الله ، ولا
قوّة لنا على طاعة الله إلّا بعون الله». قال : «فوثب عباية فقبّل يديه ورجليه.
وروي عن أمير
المؤمنين عليهالسلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال : يا أمير
المؤمنين بما ذا عرفت ربك ؟ قال : بالتمييز الذي خوّلني ، والعقل الذي دلّني. قال :
أفمجبول أنت عليه؟ قال : لو كنت مجبولا ما كنت محمودا على إحسان ولا مذموما على
إساءة ، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء ، [فعلمت] أن الله قديم
باق ، وما دونه حدث حائل [زائل] ، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل. قال نجدة :
أجدك أصبحت حكيما يا أمير المؤمنين ، قال : أصبحت مخيّرا ؛ فإن أتيت السيئة بمكان
الحسنة فأنا المعاقب عليها.
وروي عن أمير
المؤمنين عليهالسلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام ، فقال : يا أمير
المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر ؟ قال عليهالسلام : نعم يا شيخ ؛ ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا إلّا بقضاء وقدر من الله . فقال الشيخ :
عند الله
__________________
أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ فقال : مه يا شيخ ، فإن الله قد عظم اجوركم
في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ،
ولم تكونوا في شيء من اموركم مكرهين ولا إليه مضطرّين ، لعلّك ظننت أنه قضاء حتم
وقدر لازم ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ولسقط الوعد والوعيد ، ولما
ألزمت الأشياء أهلها على الحقائق ، ذلك مقالة عبدة الأوثان وأولياء الشيطان. إن
الله عزوجل أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، ولم يطع مكرها ، ولم يعص
مغلوبا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) . فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين عليهالسلام وأنشأ يقول :
أنت الإمام
الذي نرجو بطاعته
|
|
يوم النجاة
من الرحمن غفرانا
|
أوضحت من
ديننا ما كان ملتبسا
|
|
جزاك ربّك
عنا فيه رضوانا
|
فليس معذرة
في فعل فاحشة
|
|
عندي لراكبها
ظلما وعصيانا
|
فقد دلّ قول
أمير المؤمنين عليهالسلام على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان
من دان بهما وتقلّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ، ونعوذ بالله من الضلالة
والكفر.
ولسنا ندين
بجبر ولا تفويض لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين ، وهو الامتحان والاختبار
بالاستطاعة التي ملّكنا الله وتعبّدنا بهما على ما شهد به الكتاب ودان به الأئمّة
الأبرار من آل الرسول ، صلوات الله عليهم.
ومثل الاختبار
بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا وملك مالا كثيرا أحب أن يختبر عبده على علم منه بما
يؤول إليه ، فملّكه من ماله بعض ما أحب ، وأوقفه على امور عرّفها العبد فأمره أن
يصرف ذلك المال فيها ، ونهاه عن أشياء لم يحبّها ، وتقدم إليه أن يجتنبها
__________________
ولا ينفق من ماله فيها ، والمال ينصرف في أي الوجهين ، فصرف العبد أحدهما
في اتّباع أمر المولى ورضاه ، والآخر صرفه في اتّباع نهيه وسخطه ، وأسكنه دار
اختبار أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار ، وأن له دارا غيرها ، وهو مخرجه
إليها فيها ثواب وعقاب دائمان ، فإن أنفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه
الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها ،
وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار
الخلود. وقد حد المولى في ذلك حدّا معروفا وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الاولى
، فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال وبالعبد ، على أنه لم يزل مالكا للمال
والعبد في الأوقات كلّها إلّا إنه وعد ألّا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار
الاولى إلى أن يستتم سكناه فيها ، فوفى له لأن من صفات المولى العدل والوفاء
والنصفة والحكمة.
أو ليس يجب إن
كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب ،
وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيما دائما في دار
باقية دائمة ، وإن صرف العبد المال الذي ملّكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الأولى
في الوجه المنهيّ عنه ، وخالف أمر مولاه كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره
إياها غير ظالم له ؛ لما تقدم إليه ، وأعلمه وعرّفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده؟
بذلك يوصف القادر القاهر.
أما المولى ،
فهو الله جلّ وعزّ ، وأما العبد فهو ابن آدم المخلوق ، والمال قدرة الله الواسعة ،
ومحنته إظهار الحكمة والقدوة ، والدار الفانية هي الدنيا ، وبعض الذي ملكه مولاه
هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم ، والامور التي أمر الله بصرف المال إليها هي
الاستطاعة لاتّباع الأنبياء والإقرار بما أوردوه عن الله جلّ وعزّ ، واجتناب
الأشياء التي نهى عنها [هي] طريق إبليس.
وأما وعده
فالنعيم الدائم وهي الجنة ، وأما الدار الاخرى فهي الدار الباقية وهي
الدار الآخرة. والقول بالجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان
والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد وشرحها في خمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليهالسلام أنها جمعت جوامع الفضل ، وأنا مفسرها بشواهد من القرآن
والبيان إن شاء الله تعالى.
تفسير
صحة الخلقة
أما قول الصادق عليهالسلام فإنّ [معناه] كمال الخلق للإنسان [و] كمال الحواس وثبات العقل
والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق ، وذلك قول الله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ، فقد أخبر عزوجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع
ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنطق ، وذلك
قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وقوله (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ
فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ، [و] في آيات كثيرة.
فأول نعمة الله
على الإنسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان ، وذلك
أن كل ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسه مستكمل في ذاته ، ففضّل ابن
آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس ، فمن أجل النطق ملّك الله
ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمرا ناهيا وغيره مسخّرا له ، كما قال الله (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) ، وقال (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) ، وقال :
__________________
(وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) .
فمن أجل ذلك
دعا الله الإنسان إلى اتّباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال
النطق والمعرفة بعد أن ملّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلّا وُسْعَها) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلّا ما آتاها) [و] في آيات كثيرة.
فإذا سلب العبد
حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) ـ الآية ـ فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد
والأعمال التي لا يقوم بها ، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحجّ والزكاة لما ملّكه من
استطاعة ذلك ، ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج بقوله (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وقوله في الظهار (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) إلى قوله (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) ، كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده
إلّا ما ملّكهم استطاعته بقوة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك. فهذه صحة الخلقة.
تفسير
تخلية السرب
وأما قوله :
تخلية السرب ، فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمر الله به
وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولم يهتد
__________________
سبيلا (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ، فأخبر أن المستضعف لم يخلّ سربه ، وليس عليه من القول
شيء إذا كان مطمئن القلب بالإيمان.
تفسير
المهلة في الوقت
وأما المهلة في
الوقت ، فهو العمر الذي يمنع الإنسان من حد ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ،
وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم [إلى أن] يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير ،
وذلك قوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ـ الآية ـ وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما ، لم
يمهله في الوقت إلى استتمام أمره. وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم
يبلغ الحلم في قوله (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) ـ الآية ـ فلم يجعل عليهن حرجا في [إبداء] الزينة [للطفل
و] كذلك لا تجوز عليه الأحكام.
تفسير
الزاد والراحلة
وأما قوله :
الزاد ، فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمر الله به ،
وذلك قوله (ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ـ الآية ـ ألا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق ،
وألزم الحجة على كل من أمكنه البلغة والراحة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، [و] كذلك
قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقا في مال الأغنياء بقوله (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ) ـ الآية ـ فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الإعداد لما لا
يستطيعون ولا يملكون.
__________________
تفسير
السبب المهيّج
وأما قوله السبب
المهيج ، فهو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلب ، فمن
فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك ، لم يقبل الله منه عملا إلّا بصدق النية
، كذلك أخبر عن المنافقين بقوله (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ، ثم أنزل على نبيه صلىاللهعليهوآله توبيخا للمؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ـ الآية ـ فإذا قال الرجل قولا واعتقد في قوله دعته
النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل ؛ وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته ، وقد
أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في
قوله (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، وقوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ، الآية.
فدل القرآن
وإخبار الرسول أن القلب مالك لجميع الحواس يصحّح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحّح
القلب شيء.
فهذا شرح جميع
الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق عليهالسلام أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين وهما الجبر والتفويض.
فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كملا لما أمر الله
به ورسوله ، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسب ذلك.
وأما شواهد
القرآن على الاختيار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن
ذلك قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ، وقال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، وقال (الم * أَحَسِبَ
__________________
النّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) . وقال في الفتن التي معناها الاختبار (وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ) ـ الآية ـ وقال في قصة قوم موسى (فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ
السّامِرِيُّ) وقال موسى (إِنْ هِيَ إِلّا
فِتْنَتُكَ) أي اختبارك ، [فهذه] الآيات يقاس
بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.
وأما آيات البلوى [بمعنى]
الاختبار ، فقوله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما
آتاكُمْ) ، وقوله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ، وقوله (إِنّا بَلَوْناهُمْ
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) ، وقوله (خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وقوله : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ، وقوله (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ، وكل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها
فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة ، فهي إثبات الاختبار والبلوى. إن الله جلّ
وعزّ لم يخلق الخلق عبثا ولا أهملهم سدى ولا أظهر حكمته لعبا ، بذلك اخبرني قوله :
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) .
فإن قال قائل :
فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم؟
قلنا : بلى ،
قد علم الله ما يكون منهم قبل كونه ، وذلك قوله (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) ، وإنما اختبرهم ليعلّمهم عدله ولا يعذّبهم إلّا بحجة
بعد الفعل ، وقد أخبر
__________________
بقوله : (وَلَوْ أَنّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً) ، وقوله : (وَما كُنّا
مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ) . فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده وهو قول
بين الجبر والتفويض. بهذا نطق القرآن وجرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرسول صلىاللهعليهوآله.
فإن قالوا : ما
الحجة في قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، وما أشبهها ؟
قيل : مجاز هذه
الآية كلها على معنيين :
أما أحدهما ،
فإخبار عن قدرته ، أي أنه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء ، وإذا أجبرهم
بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب [على] نحو ما شرحناه في الكتاب.
والمعنى الآخر
أن الهداية منه تعريفه كقوله : (وَأَمّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) أي عرفناهم (فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمى عَلَى الْهُدى) . فلو جبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا ، وليس كلما
وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّة على محكم الآيات اللواتي امرنا بالأخذ بها ؛ من
ذلك قوله : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ
تَأْوِيلِهِ) ـ الآية ـ وقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، أي أحكمه وأشرحه ، (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) .
__________________
وفقنا الله
وإياكم [إلى] القول والعمل لما يحب ويرضى ، وجنّبنا وإياكم المعاصي
بمنّه وفضله ، والحمد لله كثيرا كما هو أهله ، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل» .
__________________
(٤٣)
درّة نجفيّة
في أن ولد الولد ولد على
الحقيقة أو على المجاز
اختلف الأصحاب
ـ رضوان الله عليهم ـ في المنتسب إلى هاشم رضياللهعنه جد النبي صلىاللهعليهوآله بالام خاصة في أن حكمه حكم المنتسب بالأب فتحرم عليه
الزكاة المفروضة ويباح له أخذ الخمس أم لا ، بل يجوز له أخذ الزكاة ويحرم عليه
الخمس؟ قولان مبينان على أن المنتسب بالام هل يكون ابنا حقيقة أو مجازا؟
ظاهر المشهور
الثاني وإلى الأول ذهب جمع أولهم السيد المرتضى رضياللهعنه ، وتبعه جملة من أفاضل متأخّري المتأخّرين ، وهو الحقيق
بالاتّباع وإن كان قليل الأتباع. ونقل أيضا عن ابن
حمزة وابن إدريس ، ونقله في (المسالك) في بحث ميراث أولاد الأولاد عن المرتضى ،
وابن إدريس ومعين الدين المصري ، ونقله في بحث الوقف على الأولاد عن جماعة منهم
الشيخ المفيد والقاضي ،
__________________
وابن إدريس ، ونقل بعض أفاضل العجم [١] في رسالة له صنّفها في هذه المسألة
واختار فيها ما اخترناه هذا القول عن القطب الراوندي والفضل بن
شاذان ، ونقله المقداد في كتاب الميراث من كتابه (كنز العرفان) عن الراوندي ،
والشيخ أحمد ابن المتوج البحراني الذي كثيرا ما يعبّر عنه بالمعاصر.
ونقله في
الرسالة المشار إليها أيضا عن ابن أبي عقيل وأبي الصلاح والشيخ الطوسي في (الخلاف)
، وابن الجنيد وابن زهرة في (الغنية) ، ونقل عن الملّا أحمد الأردبيلي الميل إليه
أيضا.
ويدل على
المشهور قول الكاظم عليهالسلام في مرسلة حماد بن عيسى : «ومن كانت امه من بني هاشم
وأبوه من سائر قريش فإنّ الصدقات تحل له ، وليس له من الخمس شيء ؛ إن الله تعالى
يقول (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) » ، وهي صريحة في المدعى.
واحتجوا على
ذلك أيضا بأن الولد حقيقة إنّما يقال على ابن الابن دون ابن الابنة ، كما ورد عن
العرب من قولهم :
__________________
__________________
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
احتج السيد المرتضى رضياللهعنه على ما نقل عنه بأن ولد البنت ولد حقيقة وذلك أنه لا خلاف بين
الامة في أن بظاهر قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) حرمت علينا بنات أولادنا ، فلو لم يكن بنت البنت بنتا
على الحقيقة لما دخلت تحت هذه الآية. قال : (ومما يدل على أن ولد البنت يطلق عليه
اسم الولد على الحقيقة أنه لا خلاف في تسمية الحسن والحسين عليهماالسلام ابني رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ وأنهما يفضلان بذلك ويمدحان ، ولا أفضلية ولا مدح في
وصف مجازي مستعار. فثبت أنه حقيقة).
ثم قال : (ولا
زالت العرب تنسب الولد إلى جدّه إما في موضع مدح أو ذم ولا يتناكرون ذلك ولا
يحتشمون منه. ولا خلاف بين الامّة في أن عيسى من بني آدم وولده ، وإنما ينسب إليه
بالامومة دون الأبوة).
ثم اعترض على
نفسه فقال : (إن قيل : اسم الولد يجري على ولد البنات مجازا وليس كل شيء استعمل
في غيره يكون حقيقة). ثم أجاب فقال : (قلت : الظاهر من الاستعمال الحقيقة ، وعلى
من ادّعى المجاز الدلالة) انتهى كلامه زيد مقامه.
واعترض عليه في
(المدارك) بـ (الاستعمال كما يوجد مع الحقيقة فكذا يوجد مع المجاز ، فلا دلالة فيه
على أحدهما بخصوصه. وقولهم : الأصل في الاستعمال الحقيقة إنما هو إذا لم يستلزم
الاشتراك ، وإلّا فالمجاز خير منه كما قرر في محله) انتهى.
__________________
وأجيب عنه بأن
الاستعمال هنا على سبيل الحقيقة لا يستلزم الاشتراك اللفظي الذي يترجّح عليه
المجاز لجواز أن يكون استعمال الابن في ولد الابن والبنت على سبيل الاشتراك
المعنوي.
أقول
: والحق كما
قدمنا هو ما ذهب إليه السيد رضياللهعنه ويدل عليه وجوه :
الأول
: الآيات
القرآنية الواردة في باب النكاح والميراث فإنها متفقة في صدق الولد شرعا على ولد
البنت والابن وصدق الأب على الجدّ منهما ، ولذلك ترتبت عليه الأحكام الشرعية في
البابين المذكورين ، والأحكام الشرعية لا ترتب إلّا على المعنى الحقيقي اللفظ دون
المجازي المستعار الذي قد يثبت وقد لا يثبت.
وها أنا أتلو
عليك شطرا من تلك الآيات الواردة في هذا المجال لتحيط خبرا بأن ما ذهبنا إليه لا
تعتريه غشاوة الإشكال ، فمن ذلك قوله عزوجل (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ؛ فإنه لا خلاف في أنه بهذه الآية يحرم على ابن البنت
زوجة جدّه من الامّ لكونه أبا له بمقتضى الآية. فهي تدلّ على أن أب الأم أب حقيقة
؛ إذ لو لا ذلك لما اقتضت الآية تحريم زوجة جدّه عليه ، فيكون ولد البنت ولدا
حقيقة ؛ للتضايف.
ومن ذلك قوله عزوجل في تعداد المحرمات (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) ، فإنه لا خلاف أن بهذه الآية يحرم نكاح الرجل لزوجة
ابن بنته ؛ لصدق الابنية عليه في الآية المذكورة.
ومن ذلك قوله
تعالى في تعداد المحرمات أيضا (وَبَناتُكُمْ) ، فإنه بهذه حرمت بنت البنت على جدّها.
ومنه أيضا في
تعداد من يحل له النظر إلى الزينة قوله سبحانه :
__________________
(أَوْ أَبْنائِهِنَّ) ، فإنه بهذه الآية يحل لابن البنت النظر إلى زينة جدّته
لأمّه ، بل زوجة جدّه بقوله (أَوْ أَبْناءِ
بُعُولَتِهِنَّ) .
ومنه في
الميراث في باب حجب الزوجين عن السهم الأعلى ، وحجب الأبوين عما زاد على السدس
قوله سبحانه (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ) ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) ، (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فإن الولد في جميع هذه المواضع شامل بإطلاقه لولد البنت ، والأحكام
المذكورة مرتبة عليه بلا خلاف كما ترتبت على ولد الصلب بلا واسطة. ومن الظاهر
البين أنه لو لا صدق الإطلاق حقيقة لما جاز ترتب الأحكام الشرعية المذكورة في جملة
هذه الآيات ونحوها عليه.
وأما ما أجاب
في (المسالك) في بحث الوقف على الأولاد من دخول أولاد الأولاد بدليل من خارج لا من حيث الإطلاق ،
فهو مردود بأن الروايات قد فسرت الآيات المذكورة بذلك ، وأنه قد اريد بها هذا
المعنى ، ومنها الروايات الآتية في المقام حيث استدل الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ
بالآيات على هذا المطلب ، لا أن هذا المعنى إنما استفيد من الأخبار خاصة فخص به إطلاق
الآيات. فلو لا أن أولاد الأولاد مطلقا داخلون في الإطلاق ومستفادون منه لما صحّ
هذا الاستدلال الذي أوردوه عليهمالسلام.
وبالجملة
فكلامه رحمهالله شعري لا يعتمد عليه.
__________________
الثاني :
الأخبار الظاهرة المنار ، الساطعة الأنوار ومنها ما رواه ثقة الإسلام وعلم الأعلام
ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب روضة (الكافي) بسنده عن أبي الجارود قال : قال
لي أبو جعفر عليهالسلام : «يا
أبا الجارود ، ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهماالسلام؟». قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله. قال : «فأي شيء احتججتم عليهم؟». قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم عليهالسلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى) [فجعل] عيسى بن مريم من ذرية نوح عليهالسلام. قال : «فأي شيء قالوا لكم؟». قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون
من الصلب. قال : «فأي
شيء احتججتم عليهم؟». قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآله (فَقُلْ تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) . قال : «فأي شيء قالوا؟». قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر
يقول : أبناؤنا.
قال : فقال [أبو]
جعفر عليهالسلام : «يا
أبا الجارود ، لأعطينّكها من كتاب الله عزوجل أنّهما من صلب رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يردها إلّا كافر». قلت : فأين ذلك جعلت فداك؟ قال : «من حيث قال الله عزوجل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) ـ الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى ـ (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ) ، فسلهم يا أبا الجارود : هل كان لرسول الله صلىاللهعليهوآله نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن
قالوا : لا ، فهما ابناه لصلبه» الحديث.
ولا يخفى ما
فيه من الصراحة في المطلوب والظهور والتشنيع الفظيع على من
__________________
قال بالقول المشهور في الخبر كما ترى دلالة واضحة على أن إطلاق الولد في
الآيات المتقدمة على ابن البنت على جهة الحقيقة وأنه ولد للصلب حقيقة وإن كانوا
بواسطة لا فرق بينه وبين الابن للصلب كما هو متفق عليه بينهم.
ومنها ما رواه
في (الكافي) أيضا في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام أنه قال : «لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلىاللهعليهوآله لقول الله عزوجل : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) حرم على الحسن والحسين عليهماالسلام لقول الله تبارك وتعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جدّه ، والتقريب فيها ما
تقدم عند ذكر الآية المشار إليها.
ومنها ما رواه
الطبرسي قدسسره في كتاب (الاحتجاج) في حديث طويل عن الكاظم عليهالسلام يتضمن ذكر ما جرى بينه وبين الخليفة الرشيد العباسي لما
ادخل عليه. وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد : لم جوّزتم للعامة والخاصة أن
ينسبوكم إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ويقولون : يا بن رسول الله ، وأنتم من علي وإنما ينسب
المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والنبي صلىاللهعليهوآله جدكم من قبل امكم؟ فقال : «يا أمير المؤمنين ، لو أن النبي صلىاللهعليهوآله نشر فخطب إليك كريمتك
، هل كنت تجيبه؟». فقال : سبحان الله ولم لا اجيبه ، بل أفتخر على العرب وقريش بذلك. فقال :
«لكنه لا
يخطب إليّ ولا أزوجه». فقال : ولم؟ فقلت : «لأنّه ولدني ولم يلدك». فقال : أحسنت يا موسى ، الحديث.
ومرجع
الاستدلال بالخبر إلى الآية التي قدمناها في تحريم البنات من قوله سبحانه (وَبَناتُكُمْ).
__________________
وأنت خبير بما
في هذه الروايات :
أولا من
الصراحة في أن إطلاق الولد في تلك الآيات على ولد البنت حقيقة لا مجاز.
وثانيا من حيث
دلالتها على أن نسبهم ـ صلوات الله عليهم ـ بالبنوّة إلى الرسول صلىاللهعليهوآله حقيقة لا مجازا كما يدّعيه الخصم في هذه المسألة.
ولا يخفى عليك
أيضا ما في الرواية الأخيرة من الدلالة الصريحة على خلاف ما تضمّنته مرسلة حمّاد
المتقدّمة عن الكاظم عليهالسلام ؛ فإنه عليهالسلام حكم في تلك المرسلة بأن المرء إنما ينسب إلى أبيه
واستدلّ بالآية (ادْعُوهُمْ
لِآبائِهِمْ) ، وفي هذه الرواية لمّا أورد عليه الرشيد ذلك ، الموجب
لعدم جواز نسبتهم بالبنوّة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، احتجّ عليه بعدم جواز تزويج رسول الله صلىاللهعليهوآله ابنته ، الموجب لكونه ابنا له صلىاللهعليهوآله بمقتضى الآية المتقدّمة. وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد
تحقيق الجواب عن المرسلة المذكورة.
ومنها أيضا ما
رواه ثقة الإسلام قدسسره في (الكافي) والصدوق في (الفقيه) والشيخ بطرق عديدة
ومتون متفاوتة عن عابد الأحمسي قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام وأنا اريد أن أسأله عن صلاة الليل ، فقلت : السلام عليك
يا بن رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقال عليهالسلام : «وعليك
السلام ، إي والله إنا لولده وما نحن بذوي قرابته» الحديث.
أقول
: فانظر إلى
صراحة كلامه عليهالسلام في المطلوب والمراد ، وقسمه على ذلك
__________________
بربّ العباد ، وأنه ليس انتسابهم إليه صلىاللهعليهوآله بمجرد القرابة كما يدّعيه ذوو العناد والفساد وإن تبعهم
من حاد في هذه المسألة من أصحابنا عن طريق السداد ؛ حيث حملوا لفظ الابنيّة في
حقهم ـ صلوات الله عليهم ـ على المجاز ، وهي صريحة كما ترى في الابنيّة الحقيقية
لا مسرح للعدول عنها والجواز.
ومنها ما رواه
في (الكافي) في أبواب الزيارات بسنده عن بعض أصحابنا قال : حضرت أبا الحسن الأول عليهالسلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر وجعفر بن يحيى بالمدينة
وقد جاءوا إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : هارون لأبي الحسن عليهالسلام تقدم ، فأبى ، فتقدم هارون فسلم وقام ناحية ، وقال عيسى
بن جعفر لأبي الحسن عليهالسلام : تقدّم. فأبى عليهالسلام ، فتقدّم عيسى فسلم ووقف مع هارون ، فقال جعفر لأبي
الحسن عليهالسلام : تقدم. فأبى ، فتقدّم جعفر وسلم ، ووقف مع هارون ،
وتقدم أبو الحسن عليهالسلام وقال : «السلام عليك يا أبه ، أسأل الله الذي اصطفاك
واجتباك وهداك أن يصلّي عليك». فقال هارون لعيسى سمعت ما قال؟ قال : نعم. قال هارون :
أشهد أنه أبوه حقا . فانظر أيدك الله إلى شهادة هارون بابوته صلىاللهعليهوآله حقا ، وأي مجال للحمل على المجاز كما لا يخفى على من لا
حظ قرائن الحال .
وبالجملة ، فإن
هذه الأخبار ـ كما ترى ـ صريحة في أن بنوّتهم بالنسبة إليه صلىاللهعليهوآله إنما هي بطريق الحقيقة التي لا ينكرها إلّا جاهل عادم
الفهم والسليقة ، أو من لم يقف على هذه الأخبار العالية المنار ، كجملة من قال
بالقول المشهور من علمائنا الأبرار ، فإنهم لم يعطوا النظر حقه في تتبع الأخبار
كما لا يخفى على من راجع كلامهم في المقام بعين الاعتبار.
__________________
وحينئذ ، فمتى
ثبت ذلك في حقهم عليهمالسلام ثبت في حقّ غيرهم من أولاد الرسول صلىاللهعليهوآله ، المنتسبين إليه بالام بلا ريب ولا إشكال في المقام ،
بل تثبت البنوّة لكلّ من انتسب بالامّ في سائر الأحكام كما لا يخفى على ذوي
الألباب والأفهام.
الثالث
: أن جملة
الأخبار التي وقفت عليها بالنسبة إلى مستحقّي الخمس غير مرسلة حمّاد المتقدّمة
إنما تضمنت التعبير عنهم بكونهم آل محمد صلىاللهعليهوآله أو ذريّته أو عترته أو ذوي قرابته أو أهل بيته ، ونحو
ذلك من الألفاظ التي لا تناكر في دخول المنتسب بالأم إليه صلىاللهعليهوآله فيها. فإن معنى الآل على ما رواه الصدوق ـ طاب ثراه ـ في
كتاب (معاني الأخبار) عن الصادق عليهالسلام : «من
حرّم على محمد صلىاللهعليهوآله نكاحه» .
وفي رواية اخرى
فسّره بالذرية .
ولا ريب أيضا
في صدق الذرية على من انتسب بالامّ ؛ للآية الدالة على كون عيسى من ذرية نوح ،
صلوات الله عليهما. ولما في رواية الطبرسي المتقدم نقلها في حديث الرشيد مع الكاظم
عليهالسلام حيث قال له الرشيد أيضا بعد الكلام المتقدم آنفا : كيف
قلتم : إنا ذرية النبي صلىاللهعليهوآله ، والنبي صلىاللهعليهوآله لم يعقب وإنما [العقب] للذكر لا
للأنثى ، وأنتم ولد الابنة ، ولا يكون لها عقب؟
ثم ساق الخبر
إلى أن قال : «فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا
وَيَحْيى وَعِيسى) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟». فقال : ليس لعيسى أب.
فقلت : «إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهمالسلام من
__________________
طريق مريم عليهاالسلام ، وكذلك الحقنا بذراري النبي صلىاللهعليهوآله من قبل امّنا فاطمة الزهراء عليهاالسلام » الحديث.
وحينئذ ، فإذا
كان التعبير عن مستحقّي الخمس في الأخبار إنما وقع بأمثال هذه الألفاظ التي لا
إشكال في دخول المنتسب بالامّ إليه ـ صلوات الله عليه وآله ـ فيها ؛ فإنه لا مجال
لنزاع القوم في هذه المسألة باعتبار عدم صدق البنوّة على من انتسب إلى هاشم بالامّ
؛ لأن علة النسبة إلى هاشم لم نقف عليه إلّا في المرسلة المتقدمة حيث قال فيها : «وهؤلاء
الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي الذين ذكرهم الله فقال (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم ؛ الذكر منهم والانثى».
إلى أن قال : «ومن كانت امّه من بني
هاشم» إلى آخر ما
تقدم ، وكذا في رواية زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لو كان عدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة
إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم» .
والثاني منهما
لا صراحة فيه في المنع ممّا ندّعيه ؛ لأن النسبة إلى هاشم تصدق بكونه من الذرية ،
وهي حاصلة بالانتساب إليه بالامّ كما عرفت. فلم تبق إلّا المرسلة المتقدّمة ،
وموضع المنافاة فيها ـ وهو الصريح في المنافاة ـ إنما هو في قوله : «ومن كانت امّه من بني
هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له» إلى آخره. وإلّا فتفسيرهم بالقرابة وأنهم بنو عبد
المطلب لا صراحة فيه : أما أولا ، فإن ظاهر قوله : القرابة «الذين ذكرهم الله
بقوله (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
__________________
، إنما يتبادر من الموجودين يومئذ كما يؤكده قوله : «وهم بنو عبد المطلب
أنفسهم».
وأما ثانيا ،
فإنا قد أثبتنا بالآيات والروايات المتقدّمة حصول البنوّة بالامّ ، وتعلق الخصم
بعدم صدق الابنيّة الحقيقية. والاستناد إلى ذلك الشعر المنقول في مقابلة ما ذكرنا
من المنقول غير معقول عند ذوي الألباب والعقول ، بل هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه
لأوهن البيوت ؛ لما شرحناه من صراحة الآيات القرآنية والأحاديث المعصومية.
وما ذكره شيخنا
الشهيد الثاني قدسسره في قرينة المجاز من صحة السلب في قول القائل : (هذا ليس
ابني بل ابن بنتي ، أو ابن ابني) مردود :
أوّلا بأنّه
غير مسلم على إطلاقه ، فإنا لا نعلم سلب الولدية حقيقة ؛ إذ حاصل المعنى بقرينة
الإضراب أن مراد القائل المذكور : إنه ليس بولدي بلا واسطة ، بل ولدي بالواسطة ،
فالمنفيّ حينئذ إنما هو كونه ولده من غير واسطة ، والولد الحقيقي عندنا أعمّ
منهما. ولو قال ذلك القائل : ليس بولدي من غير الإتيان بالإضراب منعنا صحة السلب.
وبالجملة ، فقد
تلخّص ممّا ذكرناه ونتج ممّا حققناه أنه لم يبق هنا شيء ينافي ما ذكرناه إلّا
قوله في المرسلة المذكورة : «ومن
كانت أمه من بني هاشم» إلى آخره. ولا ريب أن مقتضى القواعد المقررة عن أهل
العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ عرض الأخبار على (القرآن) والأخذ بما يوافقه وطرح ما
يخالفه ، وكذا العرض على مذاهب العامة والأخذ بما يخالفها وطرح ما وافقها.
__________________
وبمقتضى هاتين
القاعدتين يجب طرح هذا الحكم الذي تضمنته هذه المرسلة ؛ أما مخالفته
لـ (القرآن) مع الأخبار المتقدمة فقد عرفته ؛ وأما موافقته للعامة فهو أظهر ظاهر
ممّا عرفت من الأخبار المتقدمة ولا سيما رواية أبي الجارود ، وكذا رواية الطبرسي ،
وما وقع بين الكاظم عليهالسلام وبين الرشيد في ذلك ، ورواية عابد الأحمسي.
ومما يؤكد ذلك
أيضا ما نقله الفقيه محمد بن طلحة الشامي الشافعي في كتابه (مطالب السؤول في مناقب
آل الرسول) ، قال : (وقد نقل أن الشعبي كان يميل إلى آل الرسول صلىاللهعليهوآله وكان لا يذكرهم إلّا ويقول : هم أبناء رسول الله صلىاللهعليهوآله وذريته. فنقل عنه ذلك إلى الحجاج بن يوسف ، وتكرر ذلك
منه وكثر نقله عنه ، فأغضبه ذلك من الشعبي ونقم عليه ، فاستدعاه الحجاج يوما وقد
اجتمع لديه أعيان المصرين : الكوفة والبصرة وعلماؤهما وقرّاؤهما ، فلما دخل الشعبي
عليه وسلم لم يبشّ له ولا وفاه حقّه من الرد عليه ، فلما جلس قال له : يا شعبي ما
أمر يبلغني عنك فيشهد عليك بجهلك؟ قال : ما هو يا أمير؟ قال : ألم تعلم أن أبناء
الرجل هل
__________________
__________________
ينسبون إلّا إليه ، والأنساب لا تكون إلّا بالآباء؟ فما بالك تقول عن أبناء
علي : إنهم أبناء رسول الله صلىاللهعليهوآله وذرّيته؟ وهل لهم اتّصال برسول الله صلىاللهعليهوآله إلّا بامّهم فاطمة ، والنسب لا يكون بالبنات وإنما يكون
بالأبناء؟
فأطرق الشعبي
ساعة حتى بالغ الحجاج في الإنكار عليه وقرع إنكاره مسامع الحاضرين ، والشعبي ساكت
، فلما رأى الحجاج سكوته أطمعه ذلك في زيادة تعنيفه ، فرفع الشعبي رأسه فقال : يا
أمير ما أراك إلّا متكلما بكلام من يجهل كلام الله تعالى وسنّة نبيّه ، أو من يعرض
عنهما. فازداد الحجّاج غضبا وقال : ألمثلي تقول هذا يا ويلك؟ قال الشعبي : نعم ،
هؤلاء قرّاء المصرين حملة (الكتاب) العزيز فكل منهم يعلم ما أقول ، أليس قد قال
الله تعالى حين خاطب عباده (يا بَنِي آدَمَ) ، وقال (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، وقال عن إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) إلى أن قال (وَعِيسى) ، فترى يا حجاج اتصال عيسى بآدم وإسرائيل نبي الله
وإبراهيم خليل الله بأي آبائه كان؟ أو بأي أجداد أبيه؟ هل كان إلّا بامّه مريم ،
وقد صح النقل عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : «ابني هذا سيد»؟ فلما سمع منه ذلك أطرق خجلا ثم عاد يتلطّف بالشعبي
واشتدّ حياؤه من الحاضرين) انتهى.
الرابع : أن
الظاهر أن معظم الشبهة عند من منع في هذه المسألة من تسمية المنتسب بالامّ ولدا
حقيقيا بالنسبة إلى جده من امّه هو أنّه إنما خلق من ماء الأب. والامّ إنما هي ظرف ووعاء كما
سمعته من كلام الرشيد للإمام الكاظم عليهالسلام في حديث (الاحتجاج). ويومئ إليه أيضا كلام الحجّاج ،
وهذا في البطلان أظهر
__________________
من أن يحتاج إلى بيان ، لدلالة الآيات الشريفة والأخبار المنيفة على أنه
مخلوق من مائهما معا كقوله سبحانه وتعالى (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي صلب الرجل وترائب المرأة ، وقوله عزوجل (مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشاجٍ) أي مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة.
ودلالة جملة من
الأخبار على مشابهة الولد امّه وقرابتها تارة ، ولأبيه وقرابته اخرى باعتبار سبق
نطفة كل منهما فإن سبقت نطفة المرأة أشبه الولد امّه ومن يتقرّب بها ، وإن سبقت
نطفة أبيه أشبه الأب ومن يتقرب به .
هذا ، وممّن
وافقنا على هذه المقالة فاختار ما اخترناه ورجّح ما رجّحناه المحقق المدقق العماد
مولانا المير محمد باقر الداماد ، وقد وقفت له على رسالة في خصوص هذه المسألة قد
أطال وأكثر من الاستدلال فيها على صحة هذا القول ورد القول المشهور.
ومنهم الفاضل
المدقق الملّا محمد صالح المازندراني قدسسره في شرحه على اصول (الكافي) حيث قال في شرح حديث أبي
الجارود المتقدم عند قوله : (ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله) ما صورته : (أي أبناؤه حقيقة من صلبه ؛ إذ لا نزاع في
إطلاق الابن والبنت والولد والذرية على ولد البنت ، وإنّما النزاع في أن هذا
الإطلاق من باب الحقيقة أو المجاز ، فذهب طائفة من أصحابنا ومنهم السيد المرتضى رحمهالله إلى الأول ، وذهب طائفة منهم ومنهم الشهيد الثاني
وجمهور العامة إلى الثاني. وتظهر الفوائد في كثير من المواضع كإطلاق السيد وإجراء
أحكام السيادة والنذر لأولاد الأولاد والوقف عليهم.
والظاهر هو
الأول ؛ للآيات والروايات ، وأصالة الحقيقة. وضعف هذه الرواية
__________________
بأبي الجارود الزيدي الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية لا يضر ؛ لأن
المتمسّك هو الآية ودلالة الآيتين الاوليين على المطلوب ظاهرة ، والثالثة صريحة ،
واحتمال التجوّز غير قادح لإجماع أهل الإسلام على أن ظاهر (القرآن) لا يترك إلّا
بدليل لا يجامعه بوجه. وما روي عن الكاظم عليهالسلام ـ وهو مستند المشهور على تقدير صحة
سنده ـ حمله على التقية ممكن ، واستناده باستعمال اللغة غير تامّ ؛ لأن اللغة لا
تدلّ على مطلوبه. قال في (القاموس) : (ولدك من دمّى عقبيك ، أي من نفست به فهو
ابنك) فليتأمل) انتهى كلامه ، علت في الخلد اقدامه.
أقول
: قد عرفت أن
رواية حماد بن عيسى المشار إليها أيضا ضعيفة بالإرسال ولهذا أن شيخنا الشهيد
الثاني لم يعتمد عليها في الاستدلال ، وإنما اعتمد على ما ادّعوه من حمل ذلك
الاطلاق على المجاز كما عرفت آنفا. وقد عرفت ممّا قدمنا أن ما حكمنا به غير مقصور
على هذه الرواية إن كانت باصطلاحهم قاصرة ، بل الآيات والروايات به متظاهرة
متضافرة.
وقال شيخنا
المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ نوّر الله مرقده ، وقد سئل عن هذه المسألة
فأجاب بما ملخصه ، ومن خطه قدسسره نقلت إلّا إنه طويل قد كتبته على جهة الاستعجال وتشويش
من البال فانتخبنا ملخصه قال ـ : (إنه قد تحقق عندي وثبت لديّ بأدلة قطعية عليها
المدار والمعتمد من (كتاب الله) وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله ـ وكفى بهما حجة ـ مع اعتضادهما بالدليل العقلي أن
أولاد البنات أولاد لأبي البنت حقيقة لا مجازا ؛ خلافا للأكثر من علمائنا وفاقا
للسيد المرتضى وأتباعه ، وهم جماعة من المتأخّرين كما حققته في (من لا يحضره
النبيه في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه) مبسوطا منقحا بحيث لا يختلجني فيه
__________________
الرين ، ولا يتطرق إليّ فيه المين ، ولكن حيث طلبت بيان الدليل فلنشر الآن إلى
شيء قليل).
ثم ذكر آية
عيسى عليهالسلام وأنه من ذرية نوح عليهالسلام ، وذكر آية (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) إلى أن قال : (ويدل عليه ما رواه الكليني في (الكافي)
في صحيح محمد بن مسلم).
ثم ساق الرواية
كما قدمناه ، إلى أن قال : (فقد وضح من هذا أن الجد من الام أب حقيقة لا مجازا).
ثم ذكر آيتي (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) ، وقوله (مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) ، وعضدهما بالأخبار التي أشرنا إليها آنفا في مشابهة
الولد لأمّه ومن يتقرب بها تارة ، ولأبيه ومن يكون من جهته اخرى ، ثم أضاف إلى ذلك
أنه لو اختص الولد بنطفة الرجل لم يكن العقر من جانب المرأة وإنما يكون من جانب الرجل خاصة مع أنه
ليس كذلك ثم قال : (وأما السنة فالأخبار فيها أكثر من أن تحصى ، ومنها ما سبق ، ومنها
قول النبي صلىاللهعليهوآله فيما تواتر عندنا للحسنين عليهماالسلام : «ابناي
هذان إمامان قاما أو قعدا» ، وقوله للحسين عليهالسلام : «ابني
هذا إمام ابن إمام أخو إمام» .
وبالجملة
فتسميتهما ـ صلوات الله عليهما ـ ابنين ، وكونهما وجميع أولادهما التسعة المعصومين
يسمونه صلىاللهعليهوآله أبا ، وخطاب الامة إياهم بذلك من غير أن ينكر أمر
متواتر لا شبهة فيه ، ومن أنكره فهو منكر للضروريات.
__________________
والأصل في
الإطلاق الحقيقة حتى إنه قد روى الكليني في (الكافي) والصدوق في (الفقيه)
بإسنادهما الصحيح عن عائذ الأحمسي).
ثم ساق الرواية
بزيادة (ثلاث مرات) بعد قوله : «والله
إنا لولده وما نحن بذوي قرابته» ، قال : (ولا وجه لتقرير السائل على ما فعله ، وقسمه عليهالسلام بالاسم الكريم وتكريره ذلك ثلاثا للتأكيد ـ لأنه في
مقام الإنكار ونفيه انتسابهم إليه صلىاللهعليهوآله من جهة القرابة ، بل من جهة الولادة ـ دليل واضح وبرهان
لائح على أنهم أولاده حقيقة ، وليس كونهم أولاده إلّا من جهة امّهم لا من أبيهم.
فما ادّعاه الأكثر من علمائنا ـ من أن تسميته صلىاللهعليهوآله إيّاهم أولادا وتسميتهم عليهمالسلام إياه صلىاللهعليهوآله أبا مجازا ـ لا حقيقة له بعد ذلك.
وقولهم : إن
الإطلاق أعمّ من الحقيقة والمجاز كلام شعري لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه بعد ثبوت
ذلك. ولو كان الأمر كما ذكروه لما جاز لأئمتنا ـ صلوات الله عليهم ـ الرضا بذلك
إذا خاطبهم من لا يعرف كون هذا الإطلاق حقيقة ولا مجازا ؛ لأن فيه إغراء بما لا
يجوز ، مع أنه لا يجوز لأحد أن ينتسب لغير نسبه أو يتبرّأ من نسب وإن دقّ ، فكيف
بعد القسم والتأكيد ودفع ما عساه يتوهم؟ وأما قول الشاعر :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
__________________
فقول بدويّ لا يتمّ حجة ،
ولا يوضح محجة ، فلا يجوز الاستدلال به في معارضة (القرآن) والحديث والدليل
العقلي.
أما استدلال
بعض فقهائنا بصحة السلب في قول أب الأم لولدها لمن سأله : هذا ابنك أم لا؟ فإنه
يصح أن يقول : هذا ليس بابني بل ابن بنتي ، فكلام ساقط عن درجة الاعتبار وخارج عن
الأدلّة الواضحة المنار ؛ لأنّه إن كان مراد السائل من كونه ابنه لصلبه بلا واسطة
صح السلب ولا ضرر فيه ، وإلّا فهو عين المتنازع.
ونحن نقول : لا
يصح سلبه لما أثبتناه من الأدلة مع أنه بعينه جار في ولد الولد الذي لا نزاع فيه.
والفرق بينهما لا يمكن إنكاره. وعلى هذا فقد تبين لك الجواب ، وأن من كانت امّه
علوية ، أو أمّ أبيه ، أو أمّ أمّ أبيه فقط ، أو أمّ امّه ، أو أمّ أمّ امّه
فصاعدا ، وأبوه من سائر الناس ؛ فإنه علوي حقيقة وفاطمي إن كان منسوبا إلى جدّه أو
جدته أبا أو امّا إلى فاطمة بغير شك وترتب عليه كل ما يترتب على
السيادة من جواز الانتساب إليهم ـ صلوات الله عليهم ـ والافتخار بهم ، بل لا يجوز
إخفاؤه والتبري منه لما عرفت. وعلى هذا فيجوز النسبة لهم في اللباس وغير ذلك.
نعم ، عندي
توقّف في استحقاق الخمس لحديث رواه الكليني في الكافي) وإن كان خبر
واحد ضعيف الإسناد محتملا للتقية وأن الترجيح لعدم العمل به للأدلّة الصحيحة
الصريحة المتواترة الموافقة لـ (القرآن) المخالفة للعامة ، إلّا إن
__________________
التنزه عن أخذ الخمس أولى خصوصا عند عدم الضرورة ، والعلم عند الله.
وكتب خادم
المحدّثين ، وتراب أقدام العلماء والمتعلمين ، العبد الجاني عبد الله ابن صالح
البحراني بضحوة يوم الاثنين من الثاني والعشرين من ربيع الثاني [ال] سنة الرابعة
والثلاثين بعد المائة والألف ، بالمشهد الحسيني ـ على مشرّفه السلام ـ حامدا
مصلّيا مسلما ) انتهى.
أقول
: ما ذكره قدسسره جيد إلّا إن توقفه أخيرا في جواز أخذ الخمس للرواية
المشار إليها التي هي مرسلة حمّاد المتقدمة لا وجه له ؛ وذلك لأنه قد علل فيها عدم
جواز أخذ الخمس بعدم صحة النسبة بالبنوّة ، كما ينادي به استدلاله بالآية : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ، وهو قد صرّح في صدر كلامه بأن ثبوت البنوّة قد تحقق
عنده وثبت له بالأدلّة القطعية ، واعترف أخيرا بأن هذه الرواية مخالفة لـ (القرآن)
وموافقة للعامّة. وبذلك يتعين وجوب طرحها من غير إشكال ولا ريب من هذه الجهة.
نعم ، لو كانت
الرواية قد منعت من الخمس بقول مجمل من غير ذكر هذه العلة لأمكن احتمال ما ذكره ،
ولكن مع وجود العلة وظهور بطلانها يبطل ما رتب عليها البتة.
على أن هذا
الكلام منه خلاف المعهود من طريقته في غير مقام ، بل طريق جملة العلماء الأعلام ؛
فإنه متى ترجّح أحد الدليلين ـ ولا سيما بمثل هاتين القاعدتين المنصوصتين ـ فإنهم
يرمون بالدليل المرجوح ، ولا يلتفتون إليه بالكلية ، بل قد يرجّحون بامور
استحسانية غير منصوصة ، ويعملون على الراجح
__________________
بذلك ، ويرمون بالمرجوح ، فكيف في مثل هذا المقام؟
وبالجملة ،
فكلامه قدسسره غير موجّه ، وقد شاع عن شيخنا العلّامة الشيخ سليمان
ابن عبد الله البحراني ـ نوّر الله مرقده ـ أنه كان يتوقف في دفع الخمس للمنتسب
بالامّ ، ويحتاط بمنعه من الخمس والزكاة ، مع ترجيحه لمذهب السيد المرتضى.
والظاهر أن
شيخنا الصالح المشار إليه ، جرى على ما جرى عليه استاذه المشار إليه. وظاهر صاحب (المدارك)
أيضا التوقف في أصل المسألة ، وكذا ظاهر المولى الفاضل محمد باقر
الخراساني في (الذخيرة) . ولعمري إن من سرح بريد نظره فيما سطرناه لا يخفى عليه
صحة ما اخترناه ، ولا رجحان ما رجحناه وأن خلاف من خالف في هذه المسألة أو توقّف
من توقف إنما نشأ عن قلّة إعطاء التأمّل حقه في أدلة المسألة والتدبر فيها ، وإلّا
فالحكم أوضح واضح والصبح فاضح.
وممن صرّح بهذه
المقالة أيضا السيد المحدّث السيد نعمة الله الجزائري ـ عطر الله مرقده ـ قال في
شرح قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ
ابني هذا سيد» من كتاب (عوالي اللآلي) ما صورته : (وفي قوله : «إن ابني هذا ..» نص على أن ولد البنت ابن على الحقيقة ، والأخبار به
مستفيضة ، وذكر الرضا عليهالسلام في مقام المفاخرة مع المأمون أن ابنته عليهالسلام تحرم على النبي صلىاللهعليهوآله بآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) ، وإليه ذهب السيد المرتضى ـ طاب ثراه ـ وجماعة من أهل
الحديث وهو الأرجح والظاهر من الأخبار ، فيكون من امّه علوية سيدا يجري عليه وإليه
ما يكون للعلويّين ، وإن
__________________
وجد ما يعارض بالأخبار الدالّة على ما ذكرناه فسبيله إمّا الحمل على التقية
أو التأويل كما فصّلنا الكلام فيه في شرحنا على (التهذيب) ، و (الاستبصار) ..) انتهى.
وما نسبه للرضا
عليهالسلام مع المأمون إما سهو من قلمه ؛ فإن ذلك كما عرفت إنما هو
للكاظم عليهالسلام مع الرشيد ، أو مضمون خبر آخر اطّلع عليه ، والله
العالم.
(٤٤)
درّة نجفيّة
الصوارم القاصمة لظهور
الجامعين بين ولد فاطمة عليهاالسلام
قد اتفق بعد
توطننا في العراق أن بعض السادة من أهل البحرين جمع في نكاحه بين فاطميتين ،
فأنكرنا ذلك عليه ، ومنعناه من الجمع بينهما لما استقر عليه رأينا من التحريم في
المسألة المذكورة وإن كانت في كتب الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ غير مشهورة ، وشاع
الأمر عند علماء العراق فخالفوا في ذلك كملا ومنعوه من الطلاق وأفتوه بالكراهة دون
التحريم ، وجوّزوا له المقام على ذلك الأمر الذميم حيث إن المسألة لم تطرق أسماعهم
قبل ذلك ، ولم يقفوا عليها في (المدارك) ، ولا (المسالك) ولم يجر لها ذكر في كلام
المتقدمين ولا المتأخّرين وإنما تفطن لها [شذاذ] من أفاضل
متأخّري المتأخّرين.
فلذا خفي أمرها
على أكثر الناس ووقع الإشكال فيها والالتباس ، وقال كثير منهم بالصدّ عما ذكرناه
والاستكبار لما عليه جملة من الناس في تلك الأوقات من الابتلاء بهذه المصيبة من
غير تناكر ولا إنكار ، وكثر فيها القيل والقال والبحث والسؤال ، وكتب فيها بعض
فضلاء الوقت شرحا شافيا بزعمه في رد القول بالتحريم وتأويل الخبر الوارد في
المسألة بما يرجع إلى الكراهة الغير الموجبة
__________________
للذم والتأثيم ، فألجأنا الحال إلى أن كتبنا في المسألة رسالة شافية بسطنا
فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام ، وأحطنا بأطراف المقال بما لم يجد به
الخصم مدخلا للنزاع في ذلك المجال. ونقلنا كلام ذلك الفاضل وبيّنّا ما فيه ،
وكشفنا عن ضعف باطنه وخافيه ، فرجع فضلاؤهم عن ذلك بعد الوقوف على ما قررناه
والتأمل فيما سطرنا ، ومنهم الفاضل المشار إليه ، وكتبوا خطوطهم على حواشي الرسالة
بالرجوع عما كانوا عليه وها أنا ذاكر هنا صورة الرسالة المذكورة وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد حمد
الله سبحانه على مزيد أفضاله ، والصلاة على محمّد وآله ، فيقول الفقير إلى جود
ربّه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم ـ وفّقه الله للعمل في يومه لغده ، قبل أن
يخرج الأمر من يده ـ : هذه كلمات رشيقة وتحقيقات أنيقة ، قد رقمتها في مسألة قد
كثر الكلام فيها في هذه الأيام بين جملة من الأعلام ، فأخطأ من أخطأ ، وأصاب من
أصاب بتوفيق من الملك العلّام ، وهي مسألة الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ـ عليها
الصلاة والسلام ـ وقد وسمتها بـ (الصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين ولد فاطمة).
فأقول ـ وبه
سبحانه الاستعانة لإدراك كلّ مأمول ـ : لا يخفى أن هذه المسألة لم يجر لها ذكر في
كلام أحد من علمائنا المتقدّمين ولا المتأخّرين ، ولم يتعرّضوا للبحث عنها في
الكتب الفروعيّة ، ولا ذكروا حكمها في الكتب الاستدلاليّة ، ولم أقف على قائل
بمضمونها سوى شيخنا الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي قدسسره ؛ فإنّه جزم بالتحريم في هذه المسألة ، عملا بالخبر
الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
__________________
وكذلك شيخنا
الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني ، على ما وجدته بخط والدي قدسسره ، نقلا عنه ، حيث قال ـ بعد نقل الحديث الآتي برواية
الصدوق ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب (العلل والأحكام) ـ ما صورته : (قد
نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني قال قدسسره عقيب ذكره ما صورته : (يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن
كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ، ولا معارض له ، فيجوز أن يخصّص به عموم (القرآن)
، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين بالنكاح حراما ، والله أعلم)
انتهى كلامه قدسسره.
وهذا الحديث
ذكره الشيخ في (التهذيب) أيضا ، إلّا إن سنده فيه غير صحيح ، وهذا الشيخ كما ترى
قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر ، ولا نعلم من أين أخذه ـ قدس الله روحه ـ ولكن
كفى به ناقلا. وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم) انتهى كلام والدي ، طيّب الله ثراه ،
وجعل الجنّة مثواه.
وأقول : إنّه قد أخذه من
كتاب (العلل) ، ولكنّ الوالد لم يطّلع عليه ، وليته كان حيّا فاهديه إليه ،
والمفهوم كما ترى من كلام الشيخ جعفر المذكور القول بمضمون الخبر.
وأمّا شيخنا علّامة
الزمان ونادرة الأوان ، الشيخ سليمان ـ عطّر الله مرقده ـ فقد اختلف النقل عنه في
هذه المسألة ، فإني وجدت بخط بعض الفضلاء الموثوق بهم نقلا عن خطّه ـ طاب ثراه ـ بعد
نقل الخبر الوارد في المسألة ما صورته : (ومال إلى العمل به بعض مشايخنا. وهو
متّجه بجواز تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الصحيح وإن توقّفنا في المسألة
الاصوليّة. ولا
__________________
كلام في شدّة المرجوحيّة ، وشدّة الكراهة) انتهى.
ونقل شيخنا
المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في
كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) عنه التوقّف ، حيث قال ـ بعد ذكر
المسألة المذكورة ـ : (وكان شيخنا علّامة الزمان يتوقّف في هذه المسألة ويأمر
بالاحتياط فيها ، حتّى إني سمعت من ثقة من أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه
؛ لأنه كان تحته فاطميّتان ، ونقل عنه أنه يرى التحريم ، إلّا إنّي لم أعرف منه
غير التوقّف) .
ثم قال قدسسره بعد كلام في البين : (إلّا إنّي بعد ، عندي نوع حيرة
واضطراب ودغدغة وارتياب ، فأنا في المسألة متوقّف ، والاحتياط فيها عندي لازم. وقد
سألني بعض الإخوان المتورّعين عن هذه المسألة سابقا وكان مبتلى بها ، حيث إنّه
جامع بين فاطميّتين ، فكتب له جوابا يشعر بالتوقّف والأمر بالاحتياط ، فامتثل ما
كتبته ، وطلّق واحدة. ولا شكّ أن في هذا الطريق السلامة والسلوك في مسالك
الاستقامة. نسأل الله الوقوف عند الشبهات والتثبّت عند الزلّات) انتهى كلامه ،
علت في الخلد أقدامه.
أقول
: أمّا ما نقله
عن شيخه العلّامة من التوقّف ، فإنّه لا ينافي النقل عنه بالجزم ، كما نقلناه ،
ونقله هو عن ذلك الرجل المذكور ؛ إذ يجوز أن يكون مذهبه صار إلى التحريم بعد
التوقّف أوّلا فلا منافاة.
وما ذهب إليه
هو قدسسره من التوقّف فإنّما أراد به التوقّف في الفتوى بالتحريم
وإن كان يقول بالتحريم من حيث الاحتياط ، كما صرّح به في قوله : (والاحتياط عندي
فيها لازم) ؛ وذلك أن الأحكام عند أصحابنا الأخباريين ثلاثة : حلال بيّن ،
__________________
وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، والحكم عندهم في موضوع الشبهة وجوب
الاحتياط. فليس الفرق بينه وبين من قال بالتحريم ـ ممّن قدّمنا ذكره ـ إلّا من حيث
المستند ، وإلّا فالجميع متّفقون على التحريم في المسألة. والعجب من شيخنا المحدّث
الصالح المشار إليه مع تبحره في الأخبار لم يطّلع على حديث (العلل) ، كما يدلّ
عليه كلامه في الكتاب المتقدّم ذكره ، ولعلّه لذلك حصل له التوقف.
ثم أقول :
والقول بالتحريم أيضا ظاهر شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (العلل) وها
أنا اوضّح لك المقام بما ترتاحه الأفهام ، ولا يخفى على المنصف من الأنام ؛ وذلك فإنّه لا ريب
في أن إيراد الصدوق للخبر المذكور إنّما هو من حيث اشتماله على تعليل عدم الحليّة
في الخبر بالمشقة ، فإن كتابه موضوع لبيان العلل الواردة في الأخبار كما ينبئ عنه
اسمه.
ولا يخفى على
العارف بطريقة الصدوق قدسسره في جملة كتبه ومصنّفاته أنه لا يذكر من الأخبار إلّا ما
يعتمده ويحكم بصحّته متنا وسندا ويفتي به ، وإذا أورد خبرا بخلاف ذلك ذيّله بما
يشعر بالطعن في سنده أو دلالته ونبّه على عدم قوله بمضمونه ، هذه طريقته المألوفة
وسجيّته المعروفة. وهذا المعنى وإن كان لم يصرّح به إلّا في صدر كتابه (من لا
يحضره الفقيه) إلّا إن المتتبّع لكلامه في كتبه ، والواقف على طريقته
، لا يخفى عليه صحّة ما ذكرناه.
وحيث إن هذا
الكلام ممّا يكبر في صدور بعض الناظرين القاصرين ، فيقابله بالإنكار والصدّ
والاستكبار ؛ لقصور تتبّعه في ذلك المضمار ، فلا بأس لو أرخينا زمام القلم في
الجري في هذا الميدان ، وأملينا له في الجري ساعة من الزمان وإن
__________________
طال به ؛ فإنّه من أهم المهام في جملة من الأحكام ، فنقول : من
المواضع التي تدلّ على ما ادّعيناه ما صرّح به في كتاب (العلل والأحكام) في جملة
من المواضع ؛ منها في باب العلّة التي من أجلها حرّم على الرجل جارية ابنه وأحلّ
له جارية ابنته ، فإنّه أورد خبرا يطابق هذا المضمون ، ويدلّ على جواز نكاح جارية
الابنة ؛ لأن الابنة لا تنكح ، ثم قال عقيبه : (قال مؤلّف هذا الكتاب).
وساق الكلام
إلى أن قال : (والذي افتي به أن جارية الابنة لا يجوز للأب أن يدخل بها) .
ومنها في باب
علّة تحصين الأمة الحرّ ، فإنّه أورد خبرا يدلّ على أن الأمة يحصل بها الإحصان ،
ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي رضياللهعنه مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته كما
جاء في هذا الموضع ؛ لما فيه من ذكر العلّة.
والذي افتي به
وأعتمد عليه ما حدّثني به محمّد بن الحسن) ثم ساق جملة من الأخبار دالة على أن الحرّ لا تحصنه
المملوكة.
ومنها في باب
علّة شرب الخمر في حال الاضطرار ، فإنّه أورد خبرا يدلّ على أن المضطر لا يجوز له
أن يشرب الخمر ، وقال بعده : (قال محمّد بن علي بن الحسين مصنّف هذا الكتاب : جاء
هذا الحديث هكذا كما أوردته ، وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح) ، إلى آخر
كلامه.
ومنها في باب
العلّة التي من أجلها جعلت أيام منى ثلاثة أيام ، فإنّه أورد حديثا يدلّ على أن من
أدرك شيئا من أيام منى ، فقد أدرك الحجّ ، ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي مصنّف
هذا الكتاب : جاء هذا الحديث هكذا ، فأوردته في
__________________
هذا الموضع ؛ لما فيه من ذكر العلّة ، والذي افتي به وأعتمده في هذا المعنى
ما حدّثنا به شيخنا محمّد بن الحسن) ، ثم ساق الخبر بما يدلّ على تخصيص إدراك الحجّ بإدراك
المشعر قبل الزوال ، و [إدراك المتعة بإدراك] عرفة قبل الزوال.
ومنها في باب
العلّة التي من أجلها تجزي البدنة عن نفس واحدة ، وتجزي البقرة عن خمسة ، فإنّه
أورد خبرا بهذا المضمون ، وقال بعده : (قال مصنّف هذا الكتاب : جاء هذا الحديث
هكذا ، فأوردته. كما جاء ؛ لما فيه من ذكر العلّة.
والذي افتي به
وأعتمد عليه أن البدنة والبقرة تجزيان عن سبعة نفر) إلى آخره.
ومنها في حديث
ورد فيه : أن «من برّ
الولد ألّا يصوم تطوّعا ولا يحجّ تطوّعا ولا يصلّي تطوّعا إلّا بإذن أبويه ..
وإلّا كان قاطعا للرحم» ، ثم قال بعده : (قال محمّد بن علي مؤلّف هذا الكتاب : جاء هذا الخبر هكذا
، ولكن ليس للوالدين على الولد طاعة في ترك الحجّ تطوّعا كان أو فريضة ، ولا في
ترك الصلاة ، ولا في ترك الصوم تطوّعا كان أو فريضة) إلى آخره.
ونحو ذلك في
باب العلّة التي من أجلها لا يجوز السجود إلّا على الأرض ، أو ما أنبتت ، وفي باب
العلّة التي من أجلها قال هارون لموسى (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا
بِرَأْسِي) .
إلى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبّع لكتبه. فكلامه ذيل هذه الأخبار أدلّ دليل على أنه
متى ذكر خبرا ولم يتعرّض لردّه ولا القدح في دلالته ،
__________________
بل تعدّى عنه إلى غيره ، فهو ممّا يفتي به ويقول بمضمونه.
وقال قدسسره في كتاب (عيون أخبار الرضا) ـ بعد نقل حديث في سنده
محمّد بن عبد الله المسمعي ما صورته : (قال مصنّف هذا الكتاب : كان شيخنا محمّد بن
الحسن سيّئ الرأي في محمّد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنّما أخرجت
هذا الخبر في هذا الكتاب ؛ لأنّه كان في كتاب (الرحمة) ، وقد قرأته عليه فلم ينكره
، ورواه لي) .
وهذا الكلام ـ كما
ترى ـ صريح الدلالة في أنه لا يخرج شيئا من الأخبار في كتبه إلّا وهو صحيح عنده ،
لا يعتريه في صحّته شكّ ولا ريب ، ومتى كان ليس كذلك نبّه عليه ذيل الخبر.
وقال في كتاب (من
لا يحضره الفقيه) في باب ما يجب على من أفطر ، أو جامع في شهر رمضان ـ بعد أن أورد
خبرا يتضمّن أن من جامع امرأته وهو صائم وهي صائمة أنه إن كان أكرهها فعليه
كفارتان وإن كانت طاوعته فعليه كفارة ـ ما صورته : (قال مصنّف هذا الكتاب : لم أجد
ذلك في شيء من الاصول ، وإنّما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم) .
وقال في كتاب (الغيبة)
ـ بعد أن أورد حديثا عن أحمد بن زياد ـ : (قال مصنّف هذا الكتاب رضياللهعنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا عن أحمد بن زياد بعد منصرفي من حجّ
بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة ديّنا) إلى آخره.
وقال في الكتاب
المذكور ـ بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الورّاق ـ : (قال مصنّف هذا الكتاب :
لم أسمع هذا الحديث إلّا عن عليّ بن عبد الله الورّاق ،
__________________
ووجدته بخطّه مثبتا فسألته عنه ، فرواه لي عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن
إسحاق ، كما ذكرته) .
إلى غير ذلك
ممّا يطول ذكره ، وهي شاهدة بأفصح لسان ، وناطقة بأصرح بيان بأن جميع ما يرويه في
كتبه ، ولا يتعرّض للكلام عليه فهو مقطوع [بصحّته] عنده ، ومن
الاصول المتواترة في زمانه ، ويفتي بمضمونه ، ويعتمد عليه. وبذلك يظهر لك أن هذا
الخبر حيث نقله ولم يتعرّض لردّه ولا تأويله ولا الطعن عليه بوجه ، فهو ممّا يفتي
به. وبذلك يظهر أنه قائل بالتحريم كما هو صريح الخبر لا تعتريه الشبه ولا الغير ،
حسب ما سنوضّحه ونشرحه إن شاء الله تعالى.
وظاهر الشيخ قدسسره في كتاب (العدّة) وأوّل كتاب (الاستبصار) هو العمل
بالخبر المذكور وأمثاله حيث صرّح بأن الخبر إذا لم يكن متواترا وتعرّى عن أحد
القرائن الملحقة له بالمتواتر ؛ فإنّه خبر واحد ، ويجوز العمل به إذا لم يعارضه
خبر آخر ، ولم تعلم فتوى الأصحاب على خلافه. وهذا الخبر ـ كما ترى ـ ليس له معارض
من الأخبار فيما دلّ عليه ، ولم يعلم فتوى الأصحاب على خلافه ، فيجوز العمل به
حينئذ ، وهذا ظاهر.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : إن الخبر الذي يدلّ على هذا الحكم هو ما رواه شيخ الطائفة ـ عطّر الله
مرقده ـ في (التهذيب) عن علي بن الحسن بن فضّال عن السندي بن الربيع عن ابن أبي
عمير عن رجل من أصحابنا قال : سمعته يقول : «لا يحلّ لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليهاالسلام ، إنّ ذلك يبلغها
فيشق عليها».
قلت : يبلغها؟
قال : «إي والله» .
__________________
ورواه شيخنا
الصدوق قدسسره في كتاب (العلل) عن محمّد بن علي ماجيلويه عن محمّد بن
يحيى عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حمّاد قال :
سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «لا يحلّ» الحديث.
وأنت خبير بأن
الكلام في هذا الخبر من حيث السند مفروغ منه عندنا على أي الروايتين كان ، فإن هذا
الاصطلاح المبني عليه تضعيف أخبارنا أصل متزعزع الأركان ، متداعي البنيان ، قد خرج
عنه مؤسسوه في غير موضع ومكان ؛ لضيق الخناق وإن أطالوا الكلام فيه وسوّدوا فيه
الأوراق ، كما أوضحنا ذلك في جملة من مؤلّفاتنا ، ولا سيما في مقدمات كتاب (الحدائق
الناضرة) وفّق الله تعالى لإتمامه.
فالطاعن في سنده
وإن تمّ له في رواية (التهذيب) إلّا إنه لا يتمّ له في رواية (العلل) ؛ لعدّ جملة
من أساطين أصحابنا رجال هذا السند في الصحيح. على أنه من الظاهر البيّن الظهور أن
الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ إنّما نقل أخبار كتبه من الاصول المحقّقة الثبوت
والمعلومة الاتّصال بالأئمّة عليهمالسلام ، وإنّما يذكر الوسائط في الأسانيد إلى أصحاب الاصول
تيمّنا وإخراجا للخبر عن قيد الإرسال ، كما نصّ على ذلك جملة من محقّقي علمائنا
الأبدال ؛ لأن الاصول في زمانه موجودة ، وحينئذ فالكلام في
السند لا طائل تحته.
بقي الكلام في
متن الخبر ودلالته على التحريم ، فنقول : وجه الاستدلال بذلك أن لفظ «لا يحلّ» صريح في التحريم ؛ فإنّه المعنى المتبادر عند الإطلاق ،
والتبادر أمارة الحقيقة ، كما نصّ عليه محقّقو علماء الاصول . ويؤكّده
التعليل بالمشقّة
__________________
لها ، صلوات الله عليها. ومن الظاهر البيّن أن الأمر الذي يشقّ عليها
يؤذيها ، وإيذاؤها محرّم بالاتّفاق ؛ لأنّه إيذاء للرسول صلىاللهعليهوآله بالحديث المتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة : «فاطمة بضعة مني ،
يؤذيني ما يؤذيها» .
فإن قيل : إن
لفظ «لا يحلّ» قد ورد بمعنى الكراهة ، فلا يكون نصّا في التحريم ؛ لما
رواه الكليني والصدوق ـ رضياللهعنهما ـ عنه صلىاللهعليهوآله من قوله : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تدع عانتها فوق عشرين يوما» .
مع أن ذلك غير
واجب بالإجماع ، وحينئذ فيحتمل حمل هذا الخبر على ذلك ، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال كما
ذكروه ، ولفظ (المشقّة) ربما لا يستلزم الإيذاء ، وحينئذ فلا ينهض الخبر دليلا على
التحريم.
قلنا : لا يخفى
على الفطن اللبيب ، والموفّق المصيب ، ومن أخذ من القواعد المقرّرة ، والضوابط
المعتبرة بأوفر نصيب ، أن الواجب هو حمل الألفاظ على حقائقها متى اطلقت ، وإنّما
تحمل على مجازاتها بالقرائن الحاليّة أو المقاليّة الموجبة للخروج عن تلك الحقيقة
، لا بمجرّد التخرّص والتخمين ، كما هو بيّن لدى الحاذق المكين ؛ إذ لو جاز ذلك
لبطلت جملة القواعد الشرعيّة ، واختلّت تلك الأحكام النبويّة ، ولا
قرينة في الخبر من نفسه ، ولا من خارج يؤذن بإخراج لفظ «لا يحلّ» عن حقيقته.
واستعمال «لا يحلّ» في الخبر الذي ذكره المعترض في الكراهة لا يستلزم حمل
ما لا قرينة فيه على الكراهة.
__________________
وأمّا قوله : (وإذا
قام الاحتمال بطل الاستدلال) فهو كلام شعري ، وإلزام جدلي لا يصحّ النظر إليه ،
ولا التعريج في مقام التحقيق عليه ، وإلّا لانسدّ بذلك باب الاستدلال ، واتّسعت
دائرة الخصام والجدال ؛ إذ لا قول إلّا وللخصم فيه مقال ، ولا دليل إلّا وللمنازع
فيه مجال ؛ فإن مجازات الألفاظ لا تعدّ ولا تحصى وإن تفاوتت قربا وبعدا وظهورا
وخفاء ، وللزم بذلك انسداد باب إثبات التوحيد والنبوّة والإمامة ، وقامت الحجّة
للمخالفين في هذه الاصول بما يبدونه من الاحتمالات في أدلّة المثبتين ، بل الحقّ
الحقيق بالقبول كما صرّح به محقّقو الاصول من أن المدار في الاستدلال على النصّ أو
الظاهر ، ولا يلتفت إلى الاحتمال في مقابلة شيء منهما.
وأمّا حديث
المشقّة واستلزامها الأذى كما ندّعيه ، فإنّه لا يخفى أن المشقّة لغة إنّما هي
بمعنى : الثقل والشدّة والتعب ، فيقال : أمر شاق ، أي ثقيل شديد متعب صعب.
قال في كتاب (القاموس)
: (شق عليه الأمر شقا : صعب) .
وقال ابن
الأثير في كتاب (النهاية) : (وفيه : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند
كلّ صلاة» أي لو لا أن
أثقل عليهم. من المشقّة ، وهي الشدّة) .
وقال المفسّرون
في قوله سبحانه (وَما أُرِيدُ أَنْ
أَشُقَّ عَلَيْكَ) : (أي لا أحمّلك من الأمر ما يشتدّ عليك) .
وقال الهروي في
كتاب (الغريبين) : (قوله تعالى (لَمْ تَكُونُوا
بالِغِيهِ إِلّا بِشِقِّ
__________________
الْأَنْفُسِ)
قال قتادة : أي بجهد الأنفس).
وحينئذ ، فإذا
كانت المشقّة عبارة عن هذا المعنى الذي ذكروه ، وهو : ما يصعب تحمّله ويشتدّ على
الإنسان قبوله والقيام به ويبلغ به الجهد ، فكيف لا يكون مستلزما للأذى ، وهل يشكّ
عاقل في أن من وقع في شدّة وأمر صعب لا يتأذّى به؟ على أن الأذى لغة إنّما هو
الضرر اليسير كما صرّح به في (القاموس) ، وكما في قوله سبحانه (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلّا أَذىً) أي ضررا يسيرا ، مثل التهديد ونحوه.
وعلى هذا فيكون
الأذى إنّما هو أقل مراتب المشقّة ، فكيف لا يكون لازما لها؟ ولكن من منع ذلك إنّما
بنى على مقتضى هواه وعقله بغير ارتياب من غير مراجعة لكلام العلماء الأعلام في هذا
الباب ، فضلّ عن سواء الطريق وأوقع من سواه في لجج المضيق.
لا يقال : إن
هذا الخبر قد روته العلماء في كتبهم ، واطّلعت عليه الفضلاء منهم ، ولم يصرّحوا
بما دلّ عليه من هذا الحكم في محرّمات النكاح من كتبهم الفروعيّة ، وأعرضوا عن
التعرّض له بالكليّة ، ولو كان ذلك حقا لذكروه ، وفي مصنّفاتهم سطّروه.
لأنّا نقول :
هذا القائل إمّا أن يسلّم ما ذكرنا من صحّة الحديث وصراحته ، [أو] لا. فعلى
الثاني يكون الكلام معه في الدليل ، وإثبات صحّته وصراحته ، وكلامه لا وجه له
حينئذ ، وعلى الأوّل ، فكلامه هنا مردود بما صرّح به غير واحد من أجلّاء المحقّقين
، منهم شيخنا الشهيد الثاني في مواضع من (المسالك)
__________________
منها في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصيّة ، حيث قال ـ ونعم ما قال
بعد الطعن في الإجماع ـ ما هذه صورته : (وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخّر
لغيره من المتقدّمين في كثير من المسائل التي ادّعوا فيها الإجماع ، إذا قام الدليل
على ما يقتضي خلافهم. وقد اتّفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلّة المتقدّم [مسامحة] بين الناس دون
المتأخّر) انتهى كلامه زيد مقامه.
وحينئذ ، فإذا
جاز مخالفتهم في المسائل التي ادّعوا فيها الإجماع حتى قام الدليل على خلافه ، مع
أن الإجماع عندهم أحد الأدلّة الشرعيّة ، فكيف لا يجوز القول بما لم يصرّحوا به
نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل عليه؟
ومجرّد رؤيتهم
الدليل وروايتهم له في كتب الأخبار مع عدم ذكر حكمه في كتب الفروع الاستدلاليّة ،
لا يدلّ على ردّ الخبر وضعفه ، مع عدم تصريحهم بالردّ والتضعيف. وكم خبر
رووه ولم يتعرّضوا لذكر معناه في الكتب الفروعيّة ، وهل هذا الكلام إلّا مجرّد
تمويه على ضعيفي العقول ، ومن ليس له رويّة في معقول أو منقول؟
على أنه لا
يشترط عندنا في الفتوى في الأحكام تقدّم قائل بها ، كما صرّح به جملة من محقّقي
أصحابنا وإن ادّعاه [شذّاذ] منهم .
نعم اشترطوا
عدم مخالفة الإجماع على ما عرفت فيه من النزاع ، وكيف ، ولو تمّ هذا الشرط لما اتّسعت دائرة
الخلاف وتعدّدت الأقوال في الأحكام الشرعيّة على ما هي عليه الآن ، حتّى إنّك لا
تجد حكما من الأحكام غالبا إلّا وتعدّدت فيه أقوالهم إلى خمسة أو ستة أو أزيد أو
أنقص ، وكلّها تتجدّد بتجدّد العلماء؟
__________________
وقد نقل بعض
مشايخنا انحصار الفتوى في زمن الشيخ قدسسره فيه ، وكذا ما بعد زمانه ، ولم يبق إلّا حاك عنه وناقل
، حتّى انتهت النوبة إلى ابن إدريس ، ففتح باب الطعن على الشيخ والمخالفة له ، ثم
اتّسع الباب وانتشر الخلاف إلى ما ترى. فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف استجاز هذا القائل
المنع من الفتوى بشيء لم يتعرّض له الأصحاب نفيا ولا إثباتا إذا قام الدليل
الشرعي عليه.
هذا ، وممّن
جرى على هذا المنوال ـ الذي يستبعده من قصر حظّه عن العروج إلى معارج الاستدلال ـ جملة
من علمائنا الأبدال منهم المحدّث المحسن الكاشاني قدسسره ، فإنّه صرّح في (المفاتيح) بتحريم كتابة (القرآن)
على المحدث ؛ لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام أنه سأله عن الرجل أيحلّ له أن يكتب (القرآن) في
الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء؟ قال : «لا» . مع اعترافه قدسسره بأنه لم يجد به قائلا.
وهذه الرواية
نظير ما نحن فيه من التعبير بلفظ «لا يحل» ، وهي بمنظر ومرأى من العلماء قبله ، مع أنه لم يذهب
إلى القول بها أحد لا على جهة التحريم ولا الكراهة ، ولم نر ما ذكره هذا القائل
مانعا لمن قال بالتحريم عملا بها ، ولا موجبا للطعن والردّ عليه عند أحد ممّن
تأخّر عنه ، بل ربما يتّبعونه في ذلك.
وهذا المحدّث
الأمين الأسترآبادي صاحب (الفوائد المدنية) في حواشيه على كتاب (المدارك) ـ على ما
رأيته بخطّه ـ حيث صرّح بعدم العفو عن نجاسة دم الغير وإن كان أقل من درهم ،
إلحاقا له بدم الحيض ؛ لمرفوعة البرقي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النضح
من دمك فلا
__________________
بأس ، وإن كان دم غيرك قليلا كان أو كثيرا فاغسله» .
ولم يقل بمضمون
هذه الرواية أحد قبله ، مع أن الرواية مرويّة في كتب الأصحاب.
ومنهم : شيخنا
البهائي وشيخنا المجلسي ـ عطّر الله مرقديهما ـ حيث ذهبا إلى تحريم التقدّم حال
الصلاة على قبر الإمام عليهالسلام ؛ لصحيحة الحميري ، مع أنه لم يذكر هذا الحكم أحد
قبلهما ، والرواية بذلك موجودة في (التهذيب) . وقد تبعهما في الحكم المذكور الجمّ الغفير ممّن تأخّر
عنهما. إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع الماهر ، والخبير الباهر.
فإن قيل : إن
عمومات الآيات ـ مثل قوله سبحانه (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) ، وقوله سبحانه (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) ، وكذا قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ـ وكذا عمومات السنّة مخالفة لهذا الخبر ، وهو قاصر عن
معارضتها ، فالعمل عليها أرجح ، والقول بها أولى.
قلنا : هذا
القائل أيضا إمّا أن يوافقنا على صحّة الخبر وصراحته في ما ندّعيه ، [أو] لا. وعلى
الثاني ، فكلامه هنا لا وجه له ، بل الأولى أن يقول : إن هذا الخبر غير صحيح ، أو
غير دالّ على المدّعى ، ويكون محلّ البحث معه هنا ، وعلى
__________________
الأوّل ، فكلامه أيضا ساقط ؛ لاتّفاق أجلّة الأصحاب ومعظمهم ـ قديما
وحديثا ـ على تخصيص عمومات (الكتاب) والسنّة ، وتقييد مطلقاتهما بالخبر الصحيح
تعدّد أو اتّحد. وها نحن نتلو عليك منها جملة من المواضع إجمالا ؛ لكسر سورة
الاستبعاد الذي لا يصرّ عليه إلّا من أقام على العناد ، فمنها مسألة التخيير في
المواضع الأربعة بين القصر والإتمام ، مع دلالة الآية وجملة من
الأخبار على وجوب القصر على المسافر مطلقا.
ومنها منع من
ثبت له الإرث بالآيات والروايات من الولد والوالد والزوجة ونحوهم ، بالموانع
المنصوصة من القتل والكفر والرقيّة واللعان ، فإنّه لا خلاف في منعهم.
ومنها مسألة
الحبوة ، ودلالة الآيات والروايات على أن ما يخلّفه الميت يقسّم على جميع الورثة
على (الكتاب) والسنّة ، مع استثناء أخبار الحبوة لتلك الأشياء المخصوصة واختصاص
أكبر الولد بها .
ومنها ميراث
الزوجة غير ذات الولد على المشهور ، ومطلقا على المختار ؛ لدلالة الآيات المتضافرة
على أن لها الثمن أو الربع من جميع التركة من منقول أو غيره ، مع دلالة
الأخبار على حرمانها من الربع ، على التفصيل المذكور في محلّه.
ومنها قولهم
بعدم نشر حرمة الرضاع بين الأجنبيتين إذا ارتضعتا من امرأة مع
__________________
تعدّد الفحل ، للأخبار الدالّة على ذلك ، مع أن آية (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) ، وجملة من الأخبار قد دلّت على نشر الحرمة بذلك .
ومنها ميراث
زوجة المريض إذا طلّقها في مرضه ، وخرجت من العدّة ، فإنّها ترثه إلى سنة ، مع أن
الروايات والآيات متّفقة على أن الميراث لا يكون إلّا بسبب أو نسب ، وهذه
أجنبيّة.
إلى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبّع البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.
وهذه المواضع
منها ما هو إجماعي ومنها ما فيه خلاف ، إلّا إن معظم الأصحاب على القول بما ذكرنا.
وحينئذ ، فإذا
ثبت جواز تخصيص عمومات (القرآن) وإطلاقاته بالخبر متى كان صحيحا صريحا ، كما في
جميع هذه المواضع ونظائرها ، فليكن هذا الموضع منها ؛ لما حقّقناه من صحّة الخبر
وصراحته في المدّعى. وجميع ما ذكرناه ظاهر بحمد الله سبحانه لمن أخذ بالإنصاف ،
وجانب جادّة الاعتساف.
تحقيق
مقام وكلام على كلام بعض الأعلام
قد وقفت على
كلام لبعض السادة الأجلّاء والفضلاء النبلاء في هذه المسألة ، حيث قد سأله بعض عن
الحديث الوارد في هذه المسألة ، وعلى ما يدلّ عليه من التحريم ، أو الكراهة ، فكتب
له في الجواب ما هذه صورته : (هذا الحديث وإن كان
__________________
باعتبار السند الوارد في (العلل) وظهور لفظة «لا يحلّ» في الحرمة يوهم جواز تخصيص عمومات الآيات والأخبار ، وتقييد إطلاقهما به
كما في نظائره ، إلّا إن في التعليل الوارد فيه نوع إشعار بالكراهة ، كما ورد أمثاله في
أمثلة من المكروهات ؛ لأنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ لفرط شفقتهم على الناس يعلّلون
المكروهات بعلل منفّرة للطباع عن فعلها ، مرغبة في تركها ، حتّى تهتم بالترك ، ولا
تستهين بالفعل ، كما يذكرون في المستحبات أيضا ما يوجب رغبة الطباع من العلل
الباعثة على الفعل ، الصارفة عن الترك.
ومعلوم أنه يشق
على نفوسهم القدسيّة السليمة ، ويصعب عليها مخالفة الأمّة لهم في فعل المكروهات
وترك المستحبات ، كما يشق ويصعب عليهم المخالفة في ارتكاب المحرمات وترك الواجبات.
ففي الاكتفاء في مقام التنفير بهذه العلّة المشتركة وعدم الترقي في التعليل إلى ما
يفرض الترقّي ، دليل للمتتبّع الفطن على الكراهة.
فظهر أن كون
أمر شاقا عليهم ـ صلوات الله عليهم ـ لا يستلزم الأذيّة المحرّمة حتّى يقال : إنّه
كنّى به في الحديث عنها. فبمجرّد ورود مثل هذا الخبر المحتمل للكراهة إن لم يكن
ظاهرا فيها الحكم بحرمة الجمع ثم بالتفريق بعده ، وطرح العمومات والإطلاقات في
الآيات والروايات ، ومخالفة ظاهر جلّ الأصحاب ، مشكل عندي.
ولعلّهم ـ رضوان
الله عليهم ـ ظهر لهم جواز الجمع من تقرير أئمّتهم ـ صلوات الله عليهم ـ لأن وقوع
الجمع ـ كما ترى الآن ـ كان غير نادر في الأمصار والأقطار سيما في عصرهم وزمنهم ؛
لأنه كان موجبا لمزيد المجد والشرف
__________________
والافتخار ، فلو كان محرّما لكانوا ـ صلوات الله عليهم ـ يمنعون الناس عنه أشد المنع
أوّلا ، ثم يأمرون بالتفريق ثانيا ، ولكانت الفاطميّات عنه يتأبّين كالجمع بين
الاختين ؛ لأن أهل البيت أدرى بما في البيت. ولو كان كذلك لكان مشهورا بين القدماء
مذكورا في ألسنة الفقهاء ، مسطورا في كتب الاستدلال والفتوى ، ولكان يوصل إلينا
وما يخفى هذا الخفاء ؛ لتعظيم الكلّ أمر الفروج كالدماء.
ومع ما في هذا
التعليل من أنّه لو كان كذلك لكان جمع الفاطميّات مع غير الفاطميّة أشق عليها ـ صلوات
الله عليها ـ أو مثله كما يتراءى ، مع أني لم أر قائلا فيه بالكراهة فضلا عن القول
بالحرمة. ومع ذلك كلّه ، فـ «دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، لأنّ أحدا على ترك الجمع لا يعيبك ، والله يعلم حقائق
الأحكام) انتهى كلامه.
أقول
: لا يخفى على
ذوي الأفهام وأرباب النقض والإبرام ما في هذا الكلام من اختلال النظام ، وانحلال
الزمام ، والبناء على مجرّد التخرصات الوهميّة ، والتخريجات الظنيّة من غير دليل
يركن إليه ، ولا وجه يعتمد عليه سوى مجرّد الدعاوى العريّة عن البرهان ، التي لا
توصل في مقام التحقيق إلى مكان. وها نحن بحمد الله سبحانه نوضّح لك زيادة على ما
قدّمناه في المسألة من الإيضاح ، ونفصح عنه أيّ إفصاح ، فنقول : إن وجه النظر
يتوجّه إليه في مقامات :
مناقشة
المصنّف رحمهالله لهذا القائل بالكراهة
الأوّل
: قوله : (وظهور
لفظ «لا يحلّ» في الحرمة) فإن فيه أن دلالة «لا يحلّ» على التحريم إنّما هي بالنصّ الصريح ؛ وذلك لما حقّقه
علماء الاصول من أن دلالة اللفظ في محلّ النطق ـ وهي الدلالة المطابقيّة
والتضمّنيّة ـ تسمّى صريح
__________________
المنطوق ، ولا ريب أن دلالة «لا يحلّ» على الحرمة دلالة مطابقية ؛ لأنّها المعنى الحقيقي لهذا
اللفظ بدليل التبادر الذي هو أمارة الحقيقة ، كما حقّقه علماء الاصول .
وبذلك يظهر لك
ضعف قوله : (يوهم جواز تخصيص عمومات الآيات) ، فإن الدلالة متى كانت صريحة مع صحّة
الخبر ـ كما هو ظاهر كلامه ـ جاز تخصيص العمومات به اتّفاقا كما قدّمنا ذكره ، لا
أن ذلك وهم كما توهّمه. على أنه مع تسليم كون دلالة هذا اللفظ ظاهرة في الحرمة
يكفينا في المقام ، فإن مدار الاستدلال ـ كما لا يخفى على من شرب بكأس مائه العذب
الزلال ـ إنّما هو على النصّ أو الظاهر ، ولا يلتفت في مقابلتهما إلى مجرّد
الاحتمال كما حقّقناه سابقا ، إلّا أن تقوم هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة صارفة عن
مقتضى ظاهر اللفظ ، فيجب العدول إلى ما دلّت عليه القرينة ، وصرف اللفظ عن ظاهره
أو صريحه.
وما نحن فيه
ليس كذلك ؛ إذ لا قرينة توجب صرف اللفظ عن ظاهره كما علمت وستعلم ؛ فيجب الوقوف
على ما دلّ عليه بظاهره حينئذ.
الثاني
: قوله : (إلّا
إن في التعليل نوع إشعار بالكراهة) ؛ فإنّه :
أوّلا
: مجرّد دعوى
عارية عن الدليل ، وهي مردودة عند ذوي التحصيل ، وليس فيها وفي ما فرّعه عليها
إلّا مجرّد التطويل والتسجيل بما لا يشفي العليل ، ولا يبرد الغليل. وكيف لا ،
ولفظ المشقّة ـ كما حقّقناه سابقا ـ صريح في استلزام الأذى؟ وكان الواجب عليه
إيضاح هذه الدعوى بالدليل ، وبيانها على وجه لا يداخله القال والقيل.
وثانيا
: أن مقتضى
اعترافه أوّلا بكون «لا
يحلّ» ظاهرا في
الحرمة ، وقوله ثانيا :
__________________
(إن في التعليل نوع إشعار بالكراهة) يؤذن بكون قرينة المجاز عنده الموجبة
لإخراج لفظة «لا
يحلّ» عن ظاهرها ـ وهو الحرمة
ـ إلى الكراهة ، هو التعليل المذكور. ولا ريب أنه من المقرّر في كلام العلماء
الأعلام وأرباب النقض والإبرام ، أن القرينة الموجبة لصرف اللفظ عن حقيقته ما لم
تكن صريحة الدلالة ، واضحة المقالة ، فإنّه لا يجوز صرف اللفظ بها عن حقيقته ، ولا
إخراجه عن طريقته. وغاية ما ادّعاه هنا أن في التعليل نوع إشعار بالكراهة.
ولا يخفى ما في
دلالة الإشعار من الضعف ، ويتأكّد بقوله : (نوع) فهو في معنى إشعار ، كما هو
الجاري في ألسنة الفصحاء ، ومحاورات البلغاء. وحينئذ ، فبمجرّد هذا الإشعار الضعيف
لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره ، ولا إخراجه عن حقيقته.
الثالث
: قوله : (لأنّهم
لفرط شفقتهم على الناس) ـ إلى آخره ـ فإنه مردود ، بأنه لا يتمّ حتّى يثبت أوّلا
الكراهة التي ادّعاها في التعليل المذكور في الخبر. ونحن لا نمنع أنهم ـ صلوات
الله عليهم ـ يفعلون ما ذكره ، ولكن كون ما نحن فيه من ذلك القبيل يتوقّف على
الدليل ، وإلّا فهو مجرّد تطويل لا اعتماد عليه ولا تعويل.
على أن كلامه
هذا غير منطبق على أصل المدّعى ، ولا موافق لموضوع المسألة ، لأن موضوع المسألة
وأصل المدّعى هو إطلاق ما ظاهره التحريم ـ كما اعترف به ـ وإرادة الكراهة منه
بالقرينة كما زعمه.
وما سجّله
وأطال به في المقام ، غير منسجم على هذا الكلام ؛ لأنّه إنّما ذكر ما هو معلوم
الكراهة أو الاستحباب ، بحيث لا يحتمل غيرهما في الباب ، ولكنّهم عليهمالسلام علّلوها بالعلل المنفّرة عن الفعل في الأوّل ، والموجبة
للترغيب في
__________________
الثاني. وأين هذا ممّا نحن فيه.
ومقتضى سياق
الكلام المنطبق على ما ادّعاه ، هو أن يقول : إنّهم عليهمالسلام كثيرا ما يعبّرون عن المكروهات بالألفاظ الموضوعة
للمحرمات ، وعن المستحبات بالألفاظ الموضوعة للوجوب ، زجرا في الأوّل عن الفعل ،
وتأكيدا وتشديدا وحثّا على الإتيان به في الثاني ، وذلك مثل حديث العانة المتقدّم ،
حيث عبّر بلفظ : «لا
يحلّ» الذي هو موضوع
للتحريم ، ومثل التعبير بلفظ الوجوب في غسل الإحرام وغسل الجمعة ونحو ذلك.
هذا مقتضى
السياق الذي عليه يقع الانطباق ، لا ما ذكره. وكيف كان ، فقرائن الاستحباب فيما
ذكرناه من هذه الأفراد واضحة ، دون ما هو محلّ البحث كما عرفت.
الرابع : قوله
: (ومعلوم أنه يشق على نفوسهم) ـ إلى آخره ـ فإنّه من قبيل ما تقدّم من الدعاوى
العارية عن البرهان ، المحتاجة إلى مزيد تحقيق وبيان ، ومن أين حصل هذا العلم له ،
وفي أي حديث ورد ، وعلى أي دليل فيه اعتمد ، وما أراه زاد في كلامه على مجرّد
الدعوى التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، كما لا يخفى على من له
إلى الإنصاف أدنى رجوع ؛ إذ الأدلة على خلافه ظاهرة ، والحجج متضافرة ؛ فإنّه لا
يخفى على من تطلّع في الأخبار وكلام الأصحاب ؛ أنّه كثيرا ما يرد في الخبر ما يؤذن
بفعل الإمام عليهالسلام للمكروه وتركه للمستحب المتّفق على كراهته واستحبابه ،
فيحملون الخبر على بيان الجواز ، بمعنى أن فعله عليهالسلام أو
__________________
تركه إنما هو لبيان أن الأوّل غير محرم والثاني غير واجب.
وهذا ممّا لا
يكاد يجسر على إنكاره إلّا من لم يتطلّع في كتب الأخبار ولا كلام الأصحاب ، فإذا
كان الأئمّة عليهمالسلام يفعلون ذلك أحيانا ، فكيف يجوز أن يدّعي أن ذلك يشقّ
عليهم لو وقع من شيعتهم؟
ويزيدك بيانا
لما قلناه وإيضاحا لما أجملناه ما رواه في (الكافي) عن أحدهما عليهماالسلام قال : «قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : إنّ للقلوب إقبالا
وإدبارا ، فإذا أقبلت فتنفلوا ، وإذا أدبرت فعليكم بالفرائض» .
وما رواه
الصدوق قدسسره في (الفقيه) في الصحيح عن معمّر بن يحيى قال : سمعت أبا
عبد الله عليهالسلام ، يقول : «إذا جئت بالصلوات الخمس لم تسأل عن صلاة ،
وإذا جئت بصوم شهر رمضان لم تسأل عن صوم» .
وما رواه في (التهذيب)
عن معمّر بن يحيى ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنه سمعه يقول : «لا يسأل الله عبدا عن صلاة بعد الفريضة ، ولا
عن صدقة بعد الزكاة ، ولا عن صوم بعد شهر رمضان» .
ومثل ذلك رواية
ثالثة لمعمّر بن يحيى .
وهذه الأخبار
كما ترى مرخّصة للشيعة في ترك النافلة ، وكيف يتّفق هذا مع كون ترك المستحبات
ليشقّ عليهم كما ادّعاه في المقام.
ويوضّح ما
قلناه أيضا رواية عائذ الأحمسي قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام ، وأنا اريد أن أسأله عن صلاة الليل ، فقلت : السلام
عليك يا بن رسول الله. فقال عليهالسلام :
__________________
«وعليك
السلام ، إي والله إنّا لولده ، وما نحن بذوي قرابته» ، ثلاث مرّات قالها ، ثم قال من غير أن أسأله : «إذا لقيت الله
بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عمّا سوى ذلك» .
فإن ظاهر الخبر
أن السائل كان غرضه السؤال عن صلاة الليل ، أي عن تركها تهاونا وتثاقلا ، وخاف المؤاخذة بذلك ، فأجاب عليهالسلام بما يندفع به وهمه وخوفه. فإن هذا هو الذي ينطبق عليه
الجواب.
وبالجملة ،
فهذه الأخبار واضحة في الترخيص في الترك للمستحبات كما ذكرناه ؛ إذ لا غرض من
إلقاء هذا الكلام ، ولا أثر يترتب عليه في المقام غير ما ذكرنا ، وإلّا فكلّ أحد
يعلم أن المستحب لا يسأل عنه المكلّف ؛ لأنه غير مفروض عليه ، فلو لم يحمل على ما
ذكرناه لكان إلقاء هذا الكلام منه عليهالسلام يجري مجرى العبث الذي تجلّ عنه مرتبته في كلّ مقام.
وأمّا ما ورد
من الأخبار المستفيضة من أنه صلىاللهعليهوآله همّ بإحراق قوم لم يحضروا الجماعة في المسجد ، وما في
صحيحة زرارة الواردة في عدد الفرائض اليوميّة ونوافلها ، حيث قال عليهالسلام في آخرها : «إنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض ، إنّ تارك
الفريضة كافر ، وإنّ تارك هذا ليس بكافر ، ولكنّها معصية» .
وما في موثقة
حنان بن سدير ، حيث قال الراوي ـ بعد عدّه عليهالسلام سنة النوافل التي كان يصلّيها النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ : [إن كنت أقوى على أكثر من هذا] أيعذّبني الله
__________________
على كثرة الصلاة ؟ قال عليهالسلام : «لا
، ولكن يعذّب على ترك السنّة» .
ونحو ذلك ممّا
يدلّ بظاهره على ترتّب العقاب على ترك المستحبات ، فإنّه يحتمل وجهين :
أحدهما : أن
تحمل هذه الأخبار على ظاهرها ، ويحمل الترك على حدّ يؤذن بالتهاون بالدين وقلة
المبالاة بكمالات الشرع ، والاستخفاف بالوظائف الدينيّة ، فيكون عصيانا موجبا
للمؤاخذة ، كما ورد من أنه لو أصرّ أهل مصر على ترك الأذان حاربهم الإمام . وحينئذ ،
فتكون هذه الرواية حجّة لنا ، بناء على ما زعمه هذا القائل ؛ لأن الترك على هذا
الوجه يكون شاقا عليهم ، ويترتّب عليه العقاب والعذاب.
وثانيهما :
الحمل على مجرّد التأكيد والتغليظ ؛ لئلا يتهاون الناس بتركها وإهمالها. ولا يخفى
على المتتبّع للأخبار وما يلقونه عليهمالسلام لشيعتهم في أمثال هذا المقامات أنهم يوقفونهم دائما على
الجادة الوسطى بين طريقي الخوف والرجاء ؛ فيرخّصون لهم تارة ؛ ويشدّدون عليهم اخرى
كما في هذا المقام ، فإنّهم تارة يلقون إليهم أن الله سبحانه لا يسأل عن شيء بعد
الفرائض ، وتارة يقولون : إن ترك النوافل معصية وإنه يعذّب عليها.
__________________
والمراد من ذلك
أنهم لو تركوها أحيانا حسب الترخيص فلا ينبغي لهم الإهمال بالكليّة على وجه يؤذن
بالتهاون وقلّة المبالاة والاستخفاف بالوظائف الدينيّة. والغرض من ذلك تأديب
شيعتهم وهدايتهم إلى ما فيه مصالحهم دينا ودنيا ، وأن تأكيدهم في ذلك ؛ لأنه يدخل
عليهم مشقّة في ترك السنن والمستحبّات ، ألا ترى أنه ورد أيضا : ملعون من بات وحده
في بيت ، وملعون من سافر وحده ، وملعون من أكل زاده وحده ، مع أن هذه
الأشياء امور مباحة لا يترتّب على فعلها ولا تركها إثم ولا ثواب ، ولا يدخل عليهم
مشقّة بسببها؟ وليس الغرض منها إلّا تأديب الشيعة وتعليمهم وتكميلهم.
وبالجملة ، فما
ذكره من هذا الكلام ناقص العيار ، ساقط عن درجة الاعتبار كما لا يخفى على ثاقبي
الأفهام والأنظار.
الخامس : قوله
: (ففي الاكتفاء في مقام التعليل) ـ إلى آخره ـ فإنّه مبنيّ على ذلك الأساس الذي
قد آل بما ذكرناه إلى الانطماس والاندراس ، وكان الواجب عليه بيان [أن] دلالة لفظ (المشقّة)
على الكراهة دلالة ظاهرة توجب صرف لفظة «لا يحلّ» عن ظاهرها ؛ ليتمّ له ما ادّعاه ويبني عليه ما بناه.
وهو إنّما ادّعى ـ مع الإغماض عن كونها دعوى عارية عن الدليل أيضا ـ كون نوع إشعار
في التعليل ، وقد عرفت ما في هذه العبارة من ضعف الدلالة ، فإن قولهم : (نوع إشعار)
يعني : إشعار ما. وما في هذا الموضع للتقليل كما صرّحوا به ، أي إشعار قليل.
__________________
ثم إن قوله : (إن
العلة مشتركة) ـ يعني : بين التحريم والكراهة ، فلا يصلح لأن تكون قرينة صارفة للفظ «لا يحلّ» عن حقيقته التي هي التحريم كما عرفت ؛ لأن القرينة التي
توجب صرف اللفظ عن حقيقته يجب أن تكون صريحة أو ظاهرة فيما يوجب صرف ذلك اللفظ ،
فيكون الواجب حينئذ هو إبقاء «لا
يحلّ» على معناه
الحقيقي وهو التحريم ؛ لعدم مخرج له عنه ، ويجب حمل هذا المشترك ـ كما زعمه ـ على
الحرمة ، التي هي أحد معنييه ـ بزعمه ـ لينطبق التعليل على المعلّل.
وأيضا فإنّه
بمقتضى ما ادّعاه هنا من اشتراك المشقّة بين التحريم والكراهة ، وما ذكره سابقا من
أن دلالته على الكراهة إنّما هو بنوع إشعار ، يلزمه أن يكون المعنى الآخر الذي هو
التحريم هو المعنى الظاهر من لفظ المشقّة. ولا ريب أن الواجب حينئذ في مقام
الاستدلال ـ كما لا يخفى على من خاض تيار ذلك البحر الزلال ـ هو الحمل على المعنى
الظاهر دون الضعيف البعيد القاصر. وبذلك يظهر لك ما في بقية الكلام
من القصور الظاهر ، كالنور على الطور لكلّ ناظر ؛ لابتنائه على ذلك الأصل المتزعزع
الأركان ، فبتزعزعه ينهدم ما عليه من البنيان ، كما هو بحمد الله سبحانه ظاهر
لثاقبي الأفكار والأذهان.
السادس : قوله
: (فبمجرّد ورود مثل هذا الخبر) ـ إلى آخره ـ فإنّه من ذلك القبيل الذي ليس فيه
إلّا مجرّد التطويل ، مع خلوّه عن الحجيّة والدليل ؛ فإن دعواه الكراهة من الخبر
الذي هو الأساس لهذا الكلام والتطويل في المقام يحتاج إلى الإثبات بالدليل الصريح
والبيان الفصيح ؛ ليصحّ له أن يرتّب عليه أمثال هذه الدعاوى ، وإلّا فمن يعجز عن
الدعوى بمجرّد اللسان من غير حجّة ولا برهان؟
__________________
ونحن بحمد الله سبحانه قد أوضحنا لك التحريم في المقام بالأدلّة التي لا
يحوم حولها نقض ولا إبرام ، حسب ما قرّره العلماء الأعلام من القواعد المقرّرة في
الاستدلال ، والضوابط المحرّرة التي لا يعتريها الإشكال.
السابع : قوله
: (ومخالفة ظاهر جلّ الأصحاب) ، فإنّه من أعجب العجاب ، ولكن سيأتي ما هو أعجب منه
في الباب ؛ إذ المخالفة إنّما تطلق لغة وعرفا في مقام السلب والإيجاب والإثبات
والنفي ، بأن يثبت مثبت حكما وينفيه آخر أو بالعكس ، لا في مقام السكوت عن الحكم
وعدم التعرّض له بنفي ولا إثبات ؛ إذ من الظاهر البيّن أن أحدا من الأصحاب سابقا
لم يتعرّض لذكر هذه المسألة بنفي ولا إثبات ؛ فكيف تحصل مخالفتهم لمن قال بها
وأثبتها؟
ويلزم على كلام
هذا القائل ، أنّه لو فعل أحد فعلا ، أو لبس ثوبا ، أو أكل شيئا ولا يعلم عن
الأئمّة عليهمالسلام فيه نفيا ولا إثباتا ، أنّه خالف الأئمّة عليهمالسلام. على أنّا قد أوضحنا سابقا تصريح محقّقي الأصحاب بجواز
المخالفة لما ادّعي فيه الإجماع منهم ، إذا قام الدليل للفقيه على خلافه ، فكيف ما
لم يذكروه بالكليّة بنفي ولا إثبات؟
وقد ذكرنا أيضا
ما ذهب إليه المحدّثان المتأخّران وشيخنا البهائي والمجلسي ـ قدس الله
أرواحهم وطيّب مراحهم ـ ممّا هو من قبيل ما نحن فيه ، ولم أره ولا غيره يطعن في
ذلك ، بل ربّما يتبعهم ويسلك معهم في تلك المسالك ، لكنّ الأمر كما قاله شيخنا
الشهيد الثاني ـ كما قدّمنا من كلامه ـ من أن زلّة المتقدّم متسامحة بين الناس دون
المتأخّر .
الثامن : قوله
: (ولعلّهم رضوان الله عليهم) ـ إلى آخره ـ فإن فيه :
__________________
أوّلا
: أن هذا الكلام
إنّما يصحّ لو كانوا صرّحوا بجواز الجمع في هذه المسألة ، وإلّا فسكوتهم عن الحكم
وعدم ذكرهم له بنفي ولا إثبات لا يدلّ على قولهم بجوازه وحكمهم بصحّته ، حتّى
يفرّع عليه هذه التفريعات ، ويطوّل به هذه التطويلات. ولم نر أحدا عدّ السكوت
دليلا على الجواز والرضا ، إلّا في استئذان البكر البالغ في التزويج ، فإنّهم
جعلوا سكوتها إقرارها ، فإن كان هذا قياسا على هذا فيمكن تمشية هذا الكلام ، وكفى
به وهنا وضعفا لا يخفى على أحد من الأنام.
وثانيا
: أنّه لو جاز
ردّ النصوص بمثل هذه التخرّصات البعيدة ، والتمحّلات الغير السديدة لتعطّلت
الأحكام في كثير من الموارد و المواضع ، واتّسع الخرق فيها على الراقع ؛ إذ مثل هذه
التخرّصات غير عزيزة الوجود لكلّ قائل ، ولا صعبة الحصول على المجادل ؛ إذ التخرّص
بـ (لعلّ) ممكن في كلّ حكم قلّ أو جلّ.
ومن أين علم أن
وقوع الجمع كان غير نادر في عصر الأئمّة عليهمالسلام؟ أبحديث بلغه؟ أم بتواتر اتّصل به؟ وما رأينا أعجب من
أن يقول الصادق عليهالسلام : لا يحلّ الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ، ثم يتجاسر
متجاسر بعد سماعه هذا الكلام ويقول : إن الجمع في زمانهم عليهمالسلام كان جائزا ، وأنّهم لم يمنعوا عنه ، ويجزم بذلك ويفتي
به بمجرّد هذه التخرّصات والترهات من غير دليل شرعي يبني عليه ، ولا معتمد قطعي
يلجأ إليه. إن هذا لمن أعجب العجاب عند ذوي الأذهان والألباب ،
__________________
وهل هو إلّا ردّ لكلامه عليهالسلام ومقابلة لنصّه بالاجتهاد الذي هو ظاهر الفساد بين جملة
العباد.
وليت شعري ،
أين ما دلّت عليه الزواجر القرآنيّة والأخبار النبويّة من المنع في الحكم ،
والفتوى بمجرّد الظنّ والتخمين ، ووجوب البناء فيهما على العلم واليقين المستند
إلى آية قرآنيّة ، أو سنّة معصوميّة حتّى يجوز التعويل في الأحكام الشرعيّة على
مثل هذه التخرّصات في مقابلة النصوص الواضحة؟
وبذلك يظهر لك
ما في قوله : (ولو كان محرّما لكانوا يمنعون الناس أشدّ المنع) ، فإنّه موقوف على
إثبات أنّه وقع الجمع في زمانهم عليهمالسلام بأمرهم ورضاهم ، أو باطّلاعهم ، وهذا ممّا لم يقم عليه دليل. ثم أيّ
منع أشدّ من أن يقول عليهالسلام : لا يحلّ لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة ،
ويعلّل ذلك زيادة في التأكيد والتشديد بكونه يبلغها عليهاالسلام ويشقّ عليها ـ بمعنى يصعب عليها تحمله ـ كما عرفته من
معنى هذا اللفظ الذي هو زيادة على مجرّد الأذى بمراتب كما عرفت آنفا؟ ولكن الكلام
من غير تأمّل في المقام قد يضع صاحبه في مضيق الإلزام.
وبذلك يظهر لك
ما في بقيّة الكلام من التطويل بغير طائل سوى مجرّد إيقاع الناس في المشاكل والمعاضل.
التاسع
: قوله : (مع ما
في هذا التعليل من أنّه لو كان كذلك) ـ إلى آخره ـ فإنّه عجيب غريب ، كما لا يخفى
على الموفّق المصيب ؛ وذلك لأنه قد حقّق المحقّقون من علماء الاصول ، ومن عليهم
المعتمد في هذه الأبواب وبهم الوصول أن مرجع مفهوم الأولويّة إلى التنبيه بالأدنى
ـ أي الأقل مناسبة ـ على الأعلى أي الأكثر مناسبة ، وهو حجّة إذا كان قطعيّا ،
بمعنى قطعيّة العليّة في الأصل ، كالإكرام في
__________________
منع التأفّف في قوله عزوجل (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ) ـ الآية ـ وعدم تضييع الإحسان والإساءة في الجزاء في
قوله (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ) ، وكون العلّة أشد مناسبة في الفرع.
وأمّا إذا كان
ظنيّا ، فيدخل في باب القياس المنهي عنه ، كما يقال : يكره جلوس الصائم المجبوب في
الماء ، لأجل ثبوت الكراهة للمرأة الصائمة ، لعدم علم كون علة الكراهة للمرأة هو
جذب الفرج الماء.
وحينئذ ،
فبمقتضى هذا التقرير يتوقّف الحكم بالأولوّية هنا على بيان العلّة في المشقة
الحاصلة بالجمع بين اثنتين من أولادها ؛ ما هي؟ وأنّها عبارة عن ما ذا؟ ثم بعد ذلك
لا بدّ من القطع والجزم بكونها هي العلّة على الخصوص ، لا بالظنّ والتخمين ، وإلّا
لكان من قبيل القياس الذي عليه اتّباع الوسواس الخناس. وأنت خبير بأن العلّة هنا
غير معلومة لنا على اليقين ، كما في الآيتين المشار إليهما آنفا ، فلا يتمشّى
الحكم بالأولويّة.
على أن كلامه
هنا إذا تأمّلته بعين التحقيق ، ونظرته بالنظر الدقيق ، وجدته ردّا على الإمام عليهالسلام ؛ إذ لا اختصاص له بالقول بالتحريم كما نذهب إليه دون
الكراهة كما يقول به هو في هذا المقام ، فإن الأولويّة لو وجدت وثبتت لترتّبت على
كلّ من القولين ، بمعنى أنّه إذا حرم الجمع بين اثنتين من ولدها عليهاالسلام حرم بطريق الأولى الجمع بين واحدة [منهن] وبين غير
الفاطميّة ، وإن كره الجمع بين الاثنتين من ولدها كره بطريق الأولى بين واحدة
منهنّ وعاميّة.
فحاصل كلامه
حينئذ أنّه لا يجوز تعليل المنع من الجمع سواء كان على جهة التحريم أو الكراهة
بالمشقّة ؛ لما يلزم منه من أولويّة التحريم أو الكراهة في
__________________
الفاطميّة وغير الفاطميّة ، وهذا محض الردّ على الإمام عليهالسلام ، ونسبته في هذا المقام إلى زلّة القلم أولى من نسبته
إلى زلّة القدم ، وهي غفلة عجيبة منه ، سلّمه الله.
ومن ذلك يعلم ما
في قوله : (مع أني لم أر قائلا بالكراهة) ، فإنّه ردّ عليه ؛ إذ لو كان مفهوم
الأولويّة ممكنا هنا للزم كراهة الجمع بين الفاطميّة وغيرها بطريق الأولى ؛ لأنه
يدّعي أن لفظ (المشقّة) إنّما يستلزم الكراهة ، فلو كان كذلك للزم بمقتضى مفهوم
الأولويّة المترتّب على المشقّة ـ كما زعمه ـ أن يكون الجمع بين الفاطميّة وغيرها
مكروها ، مع أنّه لم يصرّح به أحد.
العاشر : قوله
: (ومع ذلك كلّه فدع ما يريبك إلى مالا يريبك) ، فإنّه يجب على خصمه في هذا المقام
أن يوليه من الثناء التام والتبجيل والإعظام ما لا تحيط به الأقلام ، حيث هداه إلى
ما كان غافلا عنه ممّا هو أوضح واضح في الردّ عليه ، وأظهر ظاهر في ضعف ما جنح
إليه ؛ إذ لا يمتري ذو مسكة من أرباب العقول في أن الريبة إنّما هي في الجمع بين
الفاطميّتين ، لا في عدم الجمع ؛ لأن النصّ قد ورد بالمنع.
غاية الأمر أن
بعضا يتمسّك به في التحريم وآخر يتأوّله بالحمل على الكراهة ، فالجمع حينئذ دائر
بين التحريم والكراهة ، فهو محلّ الريبة حينئذ.
وأمّا عدم
الجمع فلا ريبة فيه بوجه ، فمقتضى الخبر الذي أورده : دع الجمع الذي يريبك إلى عدم
الجمع الذي لا يريبك. ويؤيّده تتمّته التي ذكرها أيضا (لأنّ أحدا في ترك الجمع لا
يعيبه ).
وأمّا في الجمع
، فهو معاب البتة ، أمّا على التحريم فظاهر ، وأمّا على الكراهة أيضا فكذلك وإن
كان أقل مرتبة ؛ لأن ارتكاب المكروه عيب ولو في الجملة ،
__________________
سيّما بناء على ما قدّمه من أنّهم عليهمالسلام يعلّلون المكروهات بعلل منفّرة للزجر عنها كالمحرمات.
وقد عرفت من
كلام مشايخنا المتقدّم نقله في صدر المسألة ما هو صريح في ما ذكرناه ونصّ في ما
سطرناه ، ولكنه ـ سلّمه الله تعالى ـ أجرى قلمه في هذا المجال على سبيل الاستعجال
من غير اعطاء التأمّل حقه في صحة أو إبطال ، فلزمه ما لزمه من الإشكال.
ومن الأخبار
الآمرة بالاحتياط زيادة على هذا الخبر قولهم عليهمالسلام : «ليس
بناكب عن الصراط من عمل بالاحتياط» . وقولهم عليهمالسلام : «احتط
لدينك» .
ولخصوص النكاح
قول الصادق عليهالسلام في رواية شعيب الحداد : «هو الفرج ، وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد
، ونحن نحتاط ، فلا يتزوّجها» .
وقوله عليهالسلام في رواية العلاء بن سيابة المرويّة في (الفقيه) في
امرأة وكلت رجلا أن يزوّجها : «إنّ
النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه. وهو فرج ، ومنه يكون الولد» .
وقول النبيّ صلىاللهعليهوآله في حديث مسعدة بن صدقة ، عن جعفر ، عن آبائه عليهمالسلام : «لا
تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من
الاقتحام في الهلكة» .
__________________
وبذلك يظهر لك
أن من أفتى في هذه المسألة بالحلّ خلافا على الخبر المذكور ، فهو تارك للاحتياط ،
ناكب عن سويّ ذلك الصراط.
فهذه وجوه عشرة كاملة ،
بردّ ما ذكره هذا الفاضل ضامنة كافلة ، والله سبحانه يعلم أن ليس الغرض من هذا
الكلام في هذا الباب سوى تحقيق حقيقة الحقّ والصواب ، وكشف نقاب الشكّ عن هذه
المسألة والارتياب ، وحلّ هذه المعضلة التي أشكلت على أذهان جملة من ذوي
الألباب.
تتمّة
مهمّة في أن حرمة الجمع تقتضي البطلان أم ترتّب الإثم
قد تحقّق ممّا
حقّقناه تحريم الجمع بين الفاطميّتين بما لا يحوم حوله شكّ ولا شبهة في البين. لكن
يبقى الكلام في أن التحريم هل يكون مقتضيا لبطلان النكاح ، أو إنّما يترتّب عليه
مجرّد الإثم وإن صحّ النكاح؟
وعلى الأوّل ،
فهل يختصّ الحكم بالثانية خاصّة ، فيبطل عقدها ، أو يتخيّر في طلاق أيّتهما شاء؟
لم أقف على تصريح صريح لمن تكلّم في هذه المسألة سوى ما يفهم من كلام شيخنا
العلّامة أبي الحسن المنقول عنه آنفا ، وتلميذه المحدّث الصالح قدسسرهما ـ المتقدّم نقله في صدر المسألة ـ من أمرهما بطلاق
واحدة ، ومقتضاه صحّة عقد الثانية ، وأنّه يتخيّر في إمساك أيّتهما شاء. إلّا إن
الوجه الثاني من الوجهين الأوّلين ممّا ينبغي الجزم ببطلانه ؛ لأنّه لو تمّ لجرى
في نظائر هذه المسألة ممّا يأتي ذكره ، وهو باطل نصّا وإجماعا ؛ ولما سيأتي في
كلام شيخنا الشهيد الثاني قدسسره.
وأنت خبير بأن
الظاهر أن هذه المسألة من قبيل مسألة الجمع بين الاختين ، والجمع بين الزوجات
الخمس ، والكلام فيها يجري على حسب الكلام في
__________________
المسألتين المذكورتين حذو النعل بالنعل ؛ لرجوع التحريم في الجميع إلى
الجمع ، لا إلى عين الثانية ، كما في المحرّمات النسبيّة. إلّا إن الكلام ولا
سيّما في مسألة الجمع بين الاختين لا يخلو من الإشكال أيضا بالنسبة إلى اختلاف
الأدلّة ومخالفتها لكلام الأصحاب.
وتحقيق القول
فيها أن يقال : لا يخفى أن ظاهر الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ الاتّفاق في المسألتين
المذكورتين على بطلان عقد الأخيرة من الاختين أو الخمس لو تأخّر عقدها ، وأمّا لو
تزوّج الجميع من الاختين أو الخمس في عقد واحد ، فالمشهور أيضا بطلان العقد من
أصله. وعلّله شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في (شرح الشرائع) : (بأن العقد على
كلّ واحدة منهما محرّم للعقد على الاخرى ، ونسبته إليهما على السويّة ، فلا يمكن
الحكم بصحّته فيهما ؛ لمحذور الجمع ، ولا في إحداهما على التعيين ؛ لأنّه ترجيح
بغير مرجّح ، ولا لغير معيّنة ؛ لأن الحكم بالإباحة غير معيّن فلا بدّ له من محلّ
جوهريّ معيّن يقوم به ؛ لأن غير المعيّن في حدّ ذاته لا وجود له.
وإذا بطلت هذه
الأقسام لزم الحكم بالبطلان فيهما ؛ ولأن العقد عليهما معا منهيّ عنه نهيا ناشئا
عن عدم صلاحيّة المعقود عليها على الوجه المخصوص للنكاح وإن كانت صالحة لغير هذه
الجهة. والنهي على هذا الوجه يقتضي بطلان العقد وإن لم يكن مطلق النهي موجبا
لبطلان العقود) انتهى.
وقيل في
الاختين بصحة العقد ، وإنّه يتخيّر أيّتهما شاء . وعليه تدلّ
صحيحة جميل المرويّة في (الفقيه) عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل تزوّج اختين في عقد
__________________
واحد ، قال : «يمسك
أيّتهما شاء ، ويخلي سبيل الاخرى».
وقال في رجل
تزوّج خمسا في عقد واحد : «يخلي
سبيل أيّتهن شاء» .
إلّا إن الحكم
الذي ظاهرهم الاتّفاق عليه من بطلان عقد الاخت الثانية لو سبق عقد أحدهما ممّا قد
اختلفت الأخبار فيه ، فمنها ما يدلّ على صحّة عقد الثانية والتخيير في إمساك
أيّتهما شاء ، كحسنة أبي بكر الحضرمي قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : رجل نكح امرأة ثم أتى أرضا فنكح اختها وهو لا يعلم.
قال : «يمسك
أيّتهما شاء ويخلّي سبيل الاخرى» .
وحملها الشيخ
في (التهذيبين) ـ بناء على الإجماع الذي تقدّم نقله عنهم في المسألة ـ على أنّه (إذا
أراد إمساك الاولى فليمسكها بالعقد الأوّل ، وإذا أراد الثانية فليطلّق الاولى ،
ثم يمسك الثانية بعقد مستأنف) انتهى.
ولا يخفى بعده
من سياق الخبر.
ومنها ما يدلّ
على ما ذهب إليه الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ وهو موثقة زرارة قال : سألت أبا
جعفر عليهالسلام عن رجل تزوّج بالعراق امرأة ، ثم خرج إلى الشام فتزوّج
امرأة اخرى ، فإذا هي اخت امرأته التي بالعراق. قال : «يفرّق بينه وبين
المرأة التي تزوّجها بالشام ، ولا يقرب العراقيّة حتّى تنقضي عدّة الشاميّة » .
وروى ثقة
الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدسسره في (الكافي) في الصحيح عن
__________________
محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في اختين نكح إحداهما
رجل ثم طلّقها وهي حبلى ، ثم خطب اختها فجمعها قبل أن تضع اختها المطلّقة ولدها ،
فأمره أن يفارق الأخيرة حتّى تضع اختها المطلّقة ولدها ، ثم يخطبها ويصدقها صداقا
مرّتين» .
قال المحدّث
الكاشاني في (الوافي) ـ بعد نقل هذه الرواية ـ ما صورته : (بيان : «فجمعها» كذا في أكثر النسخ ، والصواب (فجامعها). وربّما يوجد في
بعض النسخ : «فجمعهما» ، وفي (الفقيه) : «فنكحهما » ، وهو أوضح. وفيه : «فأمره أن يطلّق الاخرى» ، وهو يشعر بصحّة العقد على الأخيرة. ويدلّ عليه أيضا
إيجاب الصداق مرّتين ، إلّا أن يقال : إن ذلك لمكان الوطء.
ثم إن صحّ
العقد على الأخيرة فما الوجه في التفريق ، ثم الخطبة وتثنية الصداق؟ وإن جعل «يطلّق» من الإطلاق وحمل النكاح والجمع على الوطء وقيل بإبطال العقد على
الأخيرة صحّت النسختان وزال الإشكال) انتهى.
أقول
: وهذه الرواية
كما ترى ـ باختلاف نقل الشيخين المذكورين لها ، والإشكال المذكور على تقدير
نقل الصدوق رضياللهعنه ـ لا يمكن الاعتماد عليها في ترجيح أحد الطرفين.
وأمّا الأخبار
الواردة بالنسبة إلى الزوجات الخمس ، فمنها ما رواه الشيخان
__________________
الأقدمان ثقة الإسلام والصدوق ـ عطّر الله تعالى مرقديهما ـ في الصحيح ،
على رواية الصدوق عن محمّد بن قيس قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول في رجل كان تحته أربع نسوة فطلّق واحدة ، ثم نكح
اخرى قبل أن تستكمل المطلّقة العدّة قال : «فليلحقها بأهلها حتّى تستكمل المطلّقة أجلها ،
وتستقبل الاخرى عدّة اخرى ، ولها صداقها إن كان دخل بها ، وإن لم يكن دخل بها فله
ماله ، ولا عدّة عليها ، ثم إن شاء أهلها بعد انقضاء عدّتها
زوّجوه ، وإن شاءوا لم يزوّجوه» .
وروى المشايخ
الثلاثة ـ نوّر الله تعالى مضاجعهم ـ بأسانيدهم عن عنبسة بن مصعب قال : سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن رجل كانت له ثلاث نسوة فتزوّج عليهنّ امرأتين في عقد
، فدخل بواحدة منهما ثم مات. قال : «إن كان دخل بالمرأة التي بدأ باسمها وذكرها
عند عقدة النكاح فإنّ نكاحها جائز ولها الميراث وعليها العدّة ، وإن كان دخل
بالمرأة التي سمّيت وذكرت بعد ذكر المرأة الاولى فإنّ نكاحها باطل ولا ميراث لها» .
وزاد في رواية (التهذيب)
: «ولها ما
أخذت من الصداق بما استحلّ من فرجها» .
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أن ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من بطلان العقد على الثانية في
الاختين ، والخامسة ، وبطلان العقد على الجميع لو وقع دفعة واحدة هو الموافق
لمقتضى القواعد الشرعيّة والضوابط المرعيّة ؛ لأنه متى كان الجمع في النكاح محرّما
ـ وفائدة التحريم إنّما ترجع إلى بطلان النكاح ، كما عرفت من الأخبار وكلام
الأصحاب ، لا إلى مجرّد الإثم ، وإن صح النكاح كما ربما يتوهّم ـ فإنّه يتعيّن
الحكم حينئذ ببطلان نكاح الأخيرة ، وبطلان العقد الواقع
__________________
دفعة على الجميع ؛ لما ذكره شيخنا الشهيد الثاني وإن اختار
القول بمضمون الخبر الوارد في المسألة ؛ لأن ما ذكره من التعليل وجيه جيّد. إلّا
إن صحيحة جميل قد دلّت على صحّة العقد الواقع دفعة على الجميع ،
والتخيير للزوج في اختيار أيّتهن شاء. ورواية الحضرمي قد دلّت على
ذلك في المتأخّر عقدها من الاختين ، والثانية منهما معارضة بحسنة زرارة المتقدّمة.
ويؤيّد الحسنة
المذكورة صحيحة زرارة أيضا عن أبي جعفر عليهالسلام الواردة في رجل تزوّج امرأة ثم تزوّج امّها ، وهو لا
يعلم أنّها امّها ، فقال : «إذا
علم أنّها امّها ، فلا يقربها ولا يقرب البنت ، حتّى تنقضي عدّة الامّ ، فإذا
انقضت عدّة الامّ حلّ له نكاح الابنة» الحديث.
فإن مسألة
الجمع بين الامّ والبنت من باب مسألة الجمع بين الاختين ، والحكم فيهما واحد ؛
لتعلّق التحريم بمجرّد الجمع في الجميع. وأمّا الاولى فلا معارض لها سوى ما عرفت
من التعليل الجاري على مقتضى القواعد الشرعيّة.
وظنّي أن
الروايتين المذكورتين قد خرجتا على وجه آخر من تقيّة ونحوها ؛
__________________
لمخالفة ما دلّا عليه لمقتضى الاصول. ويؤيّد ذلك ما دلّت عليه رواية عنبسة ، فإنّه نظير
ما دلّت عليه صحيحة جميل ، ولا سيّما بالنسبة إلى العقد على الخمس دفعة ، فإنّها
دلّت على أنّه يختار أيّتهن شاء. ورواية عنبسة دلّت على صحّة عقد المتقدّمة في
الذكر خاصّة وبطلان عقد المتأخّرة.
وكون العقد في
الصحيحة المشار إليها على الخمس دفعة ، وفي رواية عنبسة إنّما هو على الرابعة
والخامسة خاصّة لا يصلح وجها للفرق بين الخبرين ، ولا يوجب المغايرة بين الحكمين ؛
لأن الكلام في حصول الإبطال للعقد وعدمه بضمّ الخامسة في العقد سواء ضمّت إلى
الأربع أو لواحدة منهن.
ولا يخفى أن
رواية محمّد بن قيس ورواية عنبسة وصحيحة زرارة المذكورات أوفق بمقتضى الاصول من ذينك
الخبرين.
وبالجملة ،
فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال الموجب لسلوك جادّة الاحتياط على كلّ حال. وعلى
ذلك يتفرّع القول في الجمع بين الفاطميّتين ، والاحتياط هو طلاق الثانية من
الاختين والفاطميّتين لو تأخّر عقدها ، وإن كان الأقرب بطلان العقد من أصله.
وكذا الأحوط
أيضا بطلان العقد على الجميع دفعة وإن كان العمل بصحيحة جميل لا يخلو من قرب.
__________________
وأمّا ما ذكره
شيخنا المحدّث الصالح ونقله أيضا عن شيخه العلّامة المتقدّم ذكره من التخيير في
اختيار أيّتهما شاء وطلاق واحدة ، فظنّي أنّه وقع غفلة منهما عن إعطاء التأمّل
حقّه في المقام ؛ لأنّه يلزمهما القول بمثل ذلك في الاختين ، ولا أظنّهما يلتزمانه
لما عرفت.
فإن قيل : إن
النصوص قد وردت في مسألة الجمع بين الاختين ، ومسألة الجمع بين الامّ وابنتها ،
والجمع بين الخمس ، ببطلان عقد المتأخّرة ، وحمل مسألة الجمع بين الفاطميّتين على
ذلك قياس.
قلنا : قد عرفت
أن الدليل قد دلّ في جميع هذه المسائل على تحريم الجمع ، ومقتضى تحريم الجمع ـ كما
قدّمنا ذكره ـ هو بطلان نكاح المتأخّرة ، بل بطلان عقد الجميع من أصله لو وقع
عليهنّ دفعة.
غاية الأمر أن
الأخبار قد صرّحت بذلك في هذه المسائل الثلاث ، ونطقت به على اختلاف في بعض
مواردها ، وأمّا في مسألة الجمع بين الفاطميّتين فلم يرد فيها ذلك. وخروج الأخبار
في المسائل الثلاث مصرّحة بالبطلان ، إنّما هو من حيث العلة المشار إليها ، كما لا
يخفى على من راجع روايات المسائل المذكورة ، وهي كثيرة لم نأت عليها في المقام ،
والعلّة المذكورة في مسألة الجمع بين الفاطميّتين موجودة بنصّ الخبر المتقدّم ،
فيترتّب عليها الحكم المذكور بغير إشكال ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.
هذا ما جرى به
القلم في هذه الرسالة وخطر بالخاطر في هذه العجالة على تشويش من البال ، وتفاقم من
الأهوال الموجبة لاضطراب الفكر والخيال ، والله سبحانه أسأل أن يهدي بها الطالبين
لتحقيق الحقّ واليقين من الاخوان المؤمنين.
وكتب الفقير
إلى ربّه الكريم يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني ـ غفر الله له
__________________
ولوالديه ولإخوانه المؤمنين ـ لسلخ شهر ذي القعدة الحرام ، سنة التاسعة
والستين بعد المائة والألف في كربلاء المعلّى ، على ساكنه أفضل صلوات ذي العلا ،
والحمد لله وحده ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
ثم إنه لما وقف
السيّد الأجلّ الأفضل السيد الميرزا ـ سلّمه الله ـ صاحب الكلام المذكور في متن
الرسالة رجع عمّا كتبه أوّلا ، وكتب على حاشية الرسالة ما صورته : (قد أفاد وأجاد
، متّع الله ببقائه العباد ، وكثّر أمثاله في البلاد وأزال عنا دواعي اللجاج
والعناد ، وأرشدنا بمنّه وجوده إلى سبيل السداد والرشاد) انتهى.
ولمّا وقف
عليها شيخنا الأجلّ البهيّ الشيخ محمّد المهدي ـ سلّمه الله تعالى ـ وكان أيضا ممن
أفتى بالكراهة أولا ، كتب على الحاشية ما لفظه : (بسم الله. إن ما كتبه شيخنا
العلّامة متّعه الله بالصحّة والسلامة هو التحقيق الذي هو بالقبول حقيق والعمل على
ما استند إليه وعوّل عليه سيّما على طريقتنا المثلى وسنتنا الفضلى من العمل على مضمون الأخبار وإن لم يقل به أحد من
الفقهاء الأخيار. وكتب الاقل محمّد مهدي الفتوني) انتهى.
أقول
: وهذان
الفاضلان هما يومئذ عمدة البلاد ، ومرجع من فيها من العباد ، وكانا على غاية من
الإنصاف ، والتقوى والعفاف ، متّع الله تعالى ببقائهما الإسلام ونفع بوجودهما
الأنام ، وجعل مآلهما إلى دار السلام في جوار الأئمّة الأعلام.
__________________
(٤٥)
درّة نجفيّة
في مشروعية الإجارة في
الصلاة والصوم
الظاهر أنه لا
خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في جواز الاستيجار للصلاة والصوم عن الميّت
فيما أعلم ، إلّا إن بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين ممّن سيأتي ذكره ناقش في ذلك ،
وقد ذكر بعضهم أن هذه المسألة لم يجر لها ذكر في كلام القدماء من الأصحاب ولم يكن
الكلام في ذلك مشهورا بينهم ، وإنما حدث الكلام فيها فيما بعد.
وقال السيّد
الزاهد العابد رضيّ الدين أبو القاسم علي بن طاوس الحسيني ـ نوّر الله
مرقده ـ في كتاب (غياث سلطان الورى لسكان الثرى) : (وقد حكى ابن زهرة في كتابه في
قضاء الصلاة عن الشيخ أبي جعفر محمد بن حسين الشوهاني أنه كان يجوز الاستيجار عن
الميّت. واستدلّ ابن زهرة على وجوب قضاء الولي الصلاة بالإجماع على أنها تجري مجرى
الصوم والحج.
وقد سبقه ابن
الجنيد بهذا الكلام حيث قال : (والعليل إذا وجبت عليه الصلاة
__________________
وأخّرها عن وقتها إلى أن فاتت قضاها عنه وليّه كما يقضي حجّة الإسلام
والصيام).
قال : (وكذلك
روى أبو يحيى عن إبراهيم بن هشام عن أبي عبد الله عليهالسلام فقد سوّى بين الصلاة وبين الحجّ . ولا ريب في
جواز الاستيجار على الحج) .
وقال شيخنا
الشهيد في (الذكرى) بعد نقل هذا الكلام : (الاستيجار على فعل الصلاة الواجبة بعد
الوفاة مبنيّ على مقدّمتين.
إحداهما
: جواز الصلاة
عن الميّت. وهذه إجماعية ، والأخبار الصحيحة ناطقة بها كما تلوناه.
والثانية
: أنّه كلّ ما
جازت الصلاة عن الميّت جاز الاستيجار عنه. وهذه المقدّمة داخلة في عموم الاستيجار
على الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر ولا يخالف فيها أحد من الإماميّة
بل ولا من غيرهم ؛ لأن المخالف من العامّة إنما منع لزعمه أنه لا يمكن وقوعها
للمستأجر عنه.
وأمّا من يقول
بإمكان وقوعها ـ وهم جميع الإمامية ـ فلا يمكنه القول بمنع الاستيجار إلّا أن يخرق
الإجماع في إحدى المقدّمتين. على أن هذا النوع قد انعقد عليه الإجماع من الإمامية
الخلف والسلف من المصنّف وما قبله إلى زماننا هذا ، وقد تقرّر أن إجماعهم حجّة
قطعيّة.
فإن قلت : فهلا
اشتهر الاستيجار على ذلك والعمل به عن النبي صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ، كما اشتهر الاستيجار على الحج حتّى علم من المذهب
ضرورة؟
قلت : ليس كل
واقع يجب اشتهاره ولا كل مشهور يجب الجزم به ، فرب
__________________
مشهور لا أصل له ، وربّ متأصّل لم يشتهر ؛ إما لعدم الحاجة إليه
في بعض الأحيان ، أو لندور وقوعه.
والأمر في
الصلاة كذلك ؛ فإن سلف الشيعة كانوا على ملازمة الفريضة والنافلة على حدّ لا يقع
من أحد منهم إخلال بها إلّا لعذر بعيد كمرض موت أو غيره ، وإذا اتّفق فوات الفريضة
بادروا إلى فعلها ؛ لأن أكثر قدمائهم على المضايقة المحضة فلم ، يفتقروا إلى هذه
المسألة واكتفوا بذكر قضاء الولي لما فات الميّت من ذلك على طريق النذور.
ويعرف هذا
الدعاوى من طالع كتب الحديث والفقه وسير السلف معرفة لا يرتاب فيها ، فخلف من
بعدهم خلف تطرّق إليهم التقصير واستولى عليهم فتور الهمم ، حتى آل الحال إلى أنه
لا يوجد من يقوم لكمال السنن إلّا أوحدهم ، ولا يبادر بقضاء الفائت إلّا أقلّهم ،
فاحتاجوا إلى استدراك ذلك بعد الموت ، لظنهم عجز الوليّ عن القيام به ، فوجب ردّ
ذلك إلى [الاصول] المقرّرة والقواعد الممهّدة ، وفيما ذكرناه كفاية) انتهى ، وهو
جيّد متين.
واعترضه الفاضل
المولى محمّد باقر الخراساني في (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد) حيث قال بعد نقله :
(قلت : ملخّص ما ذكره الشهيد رحمهالله أن الحكم بجواز الاستيجار للميّت مبني على الإجماع على
أن كل أمر مباح يمكن أن يقع مستأجرا يجوز الاستيجار فيه. وقد نبهت مرارا بأن إثبات
الإجماع في زمن الغيبة في غاية الإشكال خصوصا في مثل هذه المسألة التي لم تشتهر في
سالف الأعصار ، وخلت عنها مصنفات القدماء والعظماء.
__________________
ثم إن قوله : (على
أن هذا النوع قد انعقد عليه الإجماع) يدلّ على أنه زعم انعقاد الإجماع عليه في
زمان السيّد وما قاربه.
ولا يخفى أن
دعوى [انعقاد] الإجماع بالمعنى المعروف بين الشيعة في مثل تلك الأزمان بيّن
التعسّف واضح الجزاف. ثمّ ما ذكره في تعليل عدم اشتهار هذا [الحكم] بين السلف لا
يخلو عن تكلّف ؛ فإن ما ذكره من ملازمة الشيعة على مداومة الصلوات وحفظ حدودها
والاستباق والمسارعة إلى قضاء فوائتها على تقدير تمامها إنما يجري في العلماء وأهل
التقوى منهم لا عوامّهم ، وأدانيهم ، وعموم السفلة والجهلة منهم. ويكفي ذلك داعيا
للافتقار إلى هذه المسألة والفتوى بها واشتهار العمل لو كان لها أصل.
وبالجملة ،
للنظر في هذه المسألة وجه تدبّر) انتهى.
أقول
: لا يخفى ما
فيه على الفطن النبيه ؛ فإنه ظاهر البطلان غنيّ عند التأمّل عن البيان :
أمّا
أوّلا ، فلأن قوله : (قلت
: ملخص ما ذكره الشهيد ـ إلى قوله ـ : الفقهاء والعظماء) مردود :
أولا : بأن هذا
الإجماع الذي ادّعاه الشهيد وادّعى به صحّة الاستيجار في كل الأعمال المباحة التي
يمكن أن تقع للمستأجر عنه إن كان المناقشة فيه إنما هو بالنسبة إلى الصلاة والصوم
فهذا ممّا لا معنى له عند المحصّل ؛ لأنه متى سلم تلك القاعدة الكلّيّة فعليه في
الاستثناء ما ذكره الدليل ، وإن كان بالنسبة إلى جميع أفراد تلك الكليّة ، فالواجب
عليه طلب الدليل في كل فرد فرد من أفراد الإجارات ، وألّا يجوّز الإجارة في عمل من
الأعمال ولا فعل من الأفعال إلّا
__________________
بنص ناصّ بذلك العمل والفعل يدلّ على جواز الإجارة بخصوصه وإلّا فلا.
ولا أراه
يلتزمه ، بل لو انفتح هذا الباب لأدّى إلى اطّراده في جميع أبواب المعاملات من
البيوع والمصالحات والسلم والمساقاة ونحو ذلك فيشترط في كلّ فرد فرد ممّا يجري فيه
أحد هذه العقود ورود نصّ فيه ، وإلّا فلا يجوز أن يدخله البيع ونحوه من تلك
المعاملات ؛ إذ العلة واحدة في الجميع ، والمناقشة تجري في الكلّ مع أنه لا يرتاب
هو ولا غيره. على أن المدار في جميع المعاملات إنما هو على ما يدخل به ذلك الفرد
الذي يراد إجراء تلك المعاملة عليه في جملة أفرادها الشائعة ، وينتظم به في جملة
جزئياتها الذائعة إلّا أن يقوم على البيع منه دليل من خارج.
وهذه قاعدة
كليّة في جميع المعاملات ، فإن سلّمها وقال بها لزمه إجراء ذلك في محل النزاع ؛
فإنه أحد أفرادها إلّا أن يأتي بدليل على إخراجه ، وإن منعها ـ ولا أراه يقوله ـ فهو
محجوج بما ذكرنا ، وأنّى له بالمخرج! وثانيا : بأن الشهيد رضياللهعنه لم يستند هنا إلى مجرّد الإجماع وإنما استند أوّلا إلى
عموم ما دلّ على الإجارة في الأعمال المباحة ، ثم أردفه باتّفاق الإماميّة ؛ لأنه
قال : (وهذه المقدّمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة ـ أي عموم
أدلّة الاستيجار ـ بمعنى أن دليلها عموم الأدلّة الدالّة على الاستيجار على
الأعمال المباحة). ثم قال : (ولا يخالف فيها أحد من الإماميّة) إلى آخره.
فاستند أوّلا
إلى عموم الادلّة وثانيا إلى الإجماع ، وهذا هو الواقع والجاري في جميع المعاملات
من إجارة وغيرها. فالمدّعي لإخراج فرد من أفراد بعض تلك القواعد عليه إقامة
الدليل.
ومن الأخبار
الدالّة على هذه القاعدة بالنسبة إلى الإجارة ما رواه الحسين بن شعبة في كتاب (تحف
العقول) عن الصادق عليهالسلام في وجوه المعايش قال : «وأمّا
تفسير الإجارات ، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو
دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات ، أو يؤجر نفسه أو داره أو أرضه أو
شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع ، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه أو
أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي».
إلى أن قال : «وكلّ من آجر نفسه أو
آجر ما يملك أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرناه ممّا يجوز
الإجارة فيه فحلال محلّل فعله وكسبه» انتهى.
قال بعض
المحدّثين من أفاضل متأخّري المتأخّرين بعد نقل هذا الحديث : (أقول : فيه دلالة
على جواز إجارة الإنسان من يلي أمره من قرابته وأن يوجر نفسه للعمل للعبادات).
إلى أن قال : (وبالجملة
، المستفاد منها جواز أن يستأجر لكل عمل وأن يؤجر نفسه من كل أحد لكل عمل إلا ما
أخرجه الدليل) انتهى.
وأمّا قوله : (ثم
إن قوله على أن هذا النوع) ـ إلى آخره ـ فهو في محلّه ، إلّا إنه لا يضرّ بما
قلناه ، فإن المطلوب يتم بما قدمناه وأحكمناه. وأمّا ثانيا فلأن قوله : (ثم ما
ذكره في تعليل عدم اشتهار هذا الحكم) ـ إلى آخره ـ سقيم عليل لا يبرد الغليل ،
وكلام شيخنا الشهيد قدسسره هنا حقّ لا ريب فيه ، وصدق لا شبهة تعتريه ؛ فإن ما
ذكره قدسسره من [أن] الاستيجار على الصلاة والوصيّة بها إنما يترتب
على ترك العلماء وأهل التقوى والعارفين بوجوب قضائها الخائفين من تبعاتها وخرابها
لو كان يتركونها ، فإنّهم كانوا يوصون بها ، ولكنّهم لما كانوا يحافظون عليها في
حال الحياة تمام المحافظة أداء وقضاء واجبا وسنّة لم يقع ذلك ولم يشتهر.
فأمّا اعتراضه
بالجهلة والسفلة الّذين لا يبالون بالصلاة صحيحة كانت أو
__________________
باطلة في حياتهم أو بعد موتهم ، فغير وارد ؛ لأنهم ـ لما ذكرنا ـ يتركونها
ويتهاونون بها ويموتون على ذلك من غير فحص ولا وصيّة بقضائها لجهلهم وقلة مبالاتهم بالدين ،
فكيف يكون ذلك حينئذ داعيا إلى الافتقار إلى هذه المسألة والفتوى بها واشتهار
العمل بها. على أن مساق كلام شيخنا الشهيد إنما هو بالنسبة إلى شهرة الاستيجار على
الصلاة وأنه لم لا اشتهر كاشتهار الاستيجار على الحج ، لا بالنسبة إلى الفتوى بهذه
المسألة.
ويزيدك تأييدا
لما ذكرنا ثمة تتمّة كلام شيخنا الشهيد وقوله : (فخلف بعدهم قوم تطرّق إليهم
التقصير) ـ إلى آخره ـ ممّا يدلّ على أن اشتهار الوصيّة بالصلاة والاستيجار عليها في الوقت الأخير إنما كان لتهاون
العلماء والعارفين بما يعلمون وجوبه عليهم وفتور هممهم عن القيام بالواجبات حقّ
القيام فضلا عن السنن الموظّفة في ذلك المقام. فالكلام أوّلا وآخرا إنّما ترتب على
العلماء والعارفين لا ما توهّمه من ضمّ السفلة والجاهلين.
وبالجملة ،
فكلامه قدسسره ليس بموجّه يعتمد عليه ، وكلام شيخنا الشهيد أحرى
بالرجوع إليه. وممّن ناقش في هذه المسألة أيضا المحدّث الكاشاني في
كتاب (المفاتيح) ، حيث قال في آخر الخاتمة التي في الجنائز من الكتاب المذكور ـ بعد
أن ذكر أنه يصل إلى الميّت ثواب الصلاة والصوم والصدقة والحجّ ـ ما صورته : (وأمّا
العبادات الواجبة عليه ، التي فاتته فما شاب منها المال كالحج يجوز الاستيجار له ،
كما يجوز التبرّع به عنه بالنص والإجماع. وأمّا البدني المحض كالصلاة والصيام ،
ففي النصوص يقضيها عنه أولى الناس به . وظاهرها
__________________
التعيّن عليه ، والأظهر جواز التبرع بها عنه من غيره أيضا. وهل يجوز
الاستيجار لهما؟ المشهور نعم. وفيه تردّد ؛ لفقد نصّ فيه ، وعدم حجيّة القياس حتّى
يقاس على الحجّ أو على التبرّع ، وعدم ثبوت الإجماع بسيطا ولا مركّبا ؛ إذ لم يثبت
أن كل من قال بجواز العبادة للغير قال بجواز الاستيجار لها.
وكيف كان ، فلا
يجب القيام بالعبادات البدنيّة المحضة له تبرّع ولا استيجار إلّا مع الوصيّة) إلى آخر
كلامه.
وقال في كتاب
المعايش والمكاسب بعد كلام في المقام : (والذي يظهر لي أن ما يعتبر فيه التقرّب لا
يجوز أخذ الاجرة عليه مطلقا لمنافاته الإخلاص ، فإن النيّة ـ كما مضى ـ : ما يبعث
على الفعل دون ما يخطر بالبال.
نعم ، يجوز فيه
الأخذ إن أعطى على وجه الاسترضاء أو الهديّة أو الارتزاق من بيت المال ونحو ذلك من
غير تشارط ، وأمّا ما لا يعتبر فيه ذلك بل يكون الغرض منه صدور الفعل على أيّ وجه
اتّفق ، فيجوز أخذ الاجرة عليه مع عدم الشرط فيما له صورة العبادة.
وأمّا جواز
الاستيجار للحجّ مع كونه من القسم الأوّل فلأنه إنما يجب بعد الاستيجار. وفيه
تغليب لجهة الماليّة ؛ فإنه إنما يأخذ المال ليصرفه في الطريق حتّى يتمكن من الحجّ
، ولا فرق في صرف المال في الطريق بأن يصدر من صاحب المال أو نائبه. ثم إن النائب
إذا وصل إلى مكّة وتمكّن من الحجّ أمكنه التقرّب به ، كما لو لم يكن أخذ اجرة فهو
كالمتطوّع. أو نقول : إن ذلك أيضا على سبيل الاسترضاء للتبرع ، أمّا الصلاة والصوم
فلم يثبت جواز الاستيجار لهما) انتهى. وفيه نظر من وجوه :
__________________
الأوّل
: أن ما ذكره في
الكلام الأوّل من التردّد في جواز الاستيجار لفقد النصّ مردود :
أوّلا
: بما عرفت آنفا
من أن فقد النصّ في خصوص الاستيجار للصلاة والصيام لا يصلح للمانعيّة. ومن ذا الذي
اشترط وجود نصّ في خصوصيّة كل عمل أو فعل يراد الاستيجار عليه حتى يشترط هنا؟!
والنصوص العامّيّة كافية كما في غير الإجارة من المعاملات.
وثانيا
: أنه قد روى
الصدوق قدسسره في (الفقيه) عن عبد الله بن جبلة عن إسحاق ابن عمّار عن
أبي عبد الله عليهالسلام في رجل يجعل عليه صياما في نذر فلا يقوى ، قال : «يعطي من يصوم عنه كلّ
يوم مدّين» . وهي صريحة في المطلوب والمراد ، عارية عن وصمة
الإيراد.
وثالثا
: النقض بالحج
أيضا كما سيأتي بيانه.
الثاني
: ما ذكره في
كلامه الثاني بقوله : (والذي يظهر لي أن ما يعتبر فيه نيّة التقرّب) ـ إلى آخره ـ فإن
فيه :
أوّلا
: ما ذكرنا في
الوجه الأوّل من ورود النصّ في الصوم وكذا في الحجّ وما اعتذر به في الحجّ ،
فسيأتي بيان بطلانه.
وثانيا
: أنه متى كان
العلّة في عدم جواز الاستيجار ذلك ؛ فإنه لا يجوز وإن أوصى الميت بذلك ؛ لأن
الاستيجار متى كان باطلا لبطلان العبادة والأجير لا يستحق أجرة ، فالوصيّة غير
مشروعة ، فتكون باطلة ، مع أنه قد استثنى الوصيّة كما عرفت.
وثالثا
: أن لقائل أن
يقول : إن الفعل المستأجر عليه هو الصلاة المتقرّب بها إلى
__________________
الله سبحانه ، فإنّها هي المستقرّة في ذمة المستأجر عنه فالاجرة في مقابلة
المجموع لا الصلاة حاصلة ليحصل منافاة الاجرة للقربة. والفرق لطيف يحتاج إلى مزيد تأمّل.
وتوضيحه أن
النيّة مشتملة على قيود ، منها كون الفعل خالصا لله سبحانه ، ومنها كونه أداء أو
قضاء عن نفسه أو عن غيره تبرّعا أو باجرة. وكل من هذه القيود الأخيرة غير مناف
لقيد الإخلاص ، والاجرة فيما نحن فيه إنما وقعت أوّلا وبالذات بإزاء القصد الثاني
ـ أعني : النيابة عن زيد مثلا ـ بمعنى أنه استؤجر على النيابة عن زيد في الإتيان
بهذه الفريضة المتقرّب بها ، وقيد القربة على حاله ، وفي محله لا تعلق للإجارة به
إلّا من حيث كونه قيدا للفعل المستأجر عليه.
نعم ، لو اشترط
في النيابة عن الغير التقرب زيادة على التقرب المشروط في صحّة العبادة ، اتّجه
منافاة الاجرة لذلك ، إلّا إنه ليس بشرط إجماعا.
وبالجملة ، فإن
أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه ، ولكن الحامل عليها والباعث عليها مع التقرّب
هو هذا المبلغ الذي قرر له. ولذلك نظائر في الشرع توجب دفع الاستبعاد مثل صلاة
الاستسقاء وصلاة الاستخارة ، وصلاة الحاجة ، وصلاة طلب الولد وطلب الرزق ونحو ذلك
، فإن أصل الصلاة مقصود بها وجهه سبحانه ، ومتقرب بها إليه ، ولكن الباعث عليها هو
أحد هذه الأغراض المفصّلة ، يعني أنه يأتي بالصلاة خالصة لوجهه سبحانه لأجل هذا
الغرض الحامل عليها.
فإن قيل : إن
هذا ممّا قام الدليل على صحّته وورود الخبر به دون موضع النزاع.
__________________
قلنا : إن
الخصم إنما تمسك بأن الصلاة بالاجرة [منافية] للقربة والإخلاص بها لله سبحانه ، حيث إن الحامل عليها
إنما هو الاجرة دون قصد وجهه سبحانه.
وبمقتضى تعليله
أنه لا يصحّ شيء من هذه الصلوات بالكلية ، فإن الباعث عليها امور اخر ـ كما عرفت
ـ مع أن الشرع قد ورد بصحّتها ، وليس الوجه في ذلك إلّا ما قلناه من أن هذه
الأسباب إنما هي أسباب حاملة على الإتيان بالصلاة الخالصة له سبحانه. ومثله يجري
في مسألة الإجارة فلا فرق حينئذ.
وبالجملة ،
فكما يصحّ أن يكون الحامل على العبادة أحد هذه الامور ، كذلك يجوز أن يكون الحامل
استحقاق الاجرة والانتفاع بها.
الثالث
: ما ذكره بقوله
: (وأما جواز الاستيجار للحجّ مع كونه من القسم الأوّل) ـ إلى آخره ـ ففيه :
أوّلا
: أنه من الجائز
الواقع أن يكون الاستيجار من الميقات أو من مكة وهو ممّا لا يجري فيه هذا التخرّص
الذي ذكره والتمحّل الذي اعتبره ، فلا يكون ما ذكره كليّا مع أن ظاهر النصوص كليّة
الحكم ، وهو كاف للخصم في التعلّق به ؛ فإنه لا ينكر صحّة.
وثانيا
: أنه يمكن أيضا
إجراء ما فرضه في الحج في الصلاة بأن يقبض الأجير الاجرة
ويتصرّف فيها بعد الاستيجار ، ولا يأتي بالصلاة إلّا بعد نفاد الاجرة ؛ إذ الإجارة
لا تقتضي الفورية كما هو الأشهر الأظهر. وحينئذ ، فيمكنه التقرّب بها كما لو لم
يكن أخذ اجرة ، فهو كالمتطوّع.
وثالثا : أن
بقوله : (أو نقول : إن ذلك على سبيل لاسترضاء للمتبرّع) مناف لفرض المسألة أولا ،
فإن المفروض الاستيجار للحجّ كما صرّح به في كلامه ،
__________________
فكيف يجعله تبرعا وأن المدفوع من الاجرة على سبيل الاسترضاء ، والفرق بين
الأمرين أوضح واضح؟
وبالجملة ،
فإنه لو جاز بناء الأحكام الشرعيّة على مثل هذه التخرّصات البعيدة والتمحّلات
الغير السديدة لاتّسع المجال ، وكثر القيل والقال ، ولم يبلغ المجتهدون الذين قد
أكثر من التشنيع عليهم في رسائله ومصنّفاته إلى مثل هذه التخريجات الواهية الباردة
، والتخرّصات البعيدة الشاردة ، والله العالم.
(٤٦)
درّة نجفيّة
في الجمع بين حديثي : زدني
فيك معرفة ، ما ازددت يقينا
قد اشتهر بين
الطلبة السؤال عن الجمع بين قوله صلىاللهعليهوآله : «اللهم
زدني فيك تحيّرا» ، «اللهم
زدني فيك معرفة» ، وبين قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «لو
كشف الغطاء ما ازددت يقينا» . وهذا يدلّ على بلوغه عليهالسلام في المعرفة غاية لا تتصوّر الزيادة عليها ، فيلزم أن
يكون أكمل فيها من النبي صلىاللهعليهوآله ، وهو خلاف الإجماع.
وقد اجيب عن
ذلك بوجوه :
منها ما نقل عن شيخنا بهاء
الملة والحقّ والدين ـ قدّس الله روحه ـ وهو أن كلام أمير المؤمنين عليهالسلام منزّل على امور الآخرة من الجنة والنار والصراط
والميزان ، يعني : لو كشف الغطاء عن الامور الاخرويّة لم أزدد فيها يقينا ، كما
قال عليهالسلام : «كأنّي
أنظر إلى جهنّم وزفيرها على أهل المعاصي ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة متكئين فيها
على أرائكهم» ، ونحو ذلك.
منها ما نقله
السيّد الفاضل المحدّث السيّد نعمة الله الجزائري ـ نوّر الله
تعالى مرقده ـ عن بعض معاصريه ، وهو أن يكون نصب «يقينا» على المفعول به
__________________
لـ «ازددت» ، لا على الظرفية والتمييز.
حاصل المعنى أن
لي علما ومعرفة بوجود الصانع حتى لو كشف الغطاء لما حصلت علما يغاير ما علمته به ،
ككونه في زمان أو مكان ممّا يغاير العلم الأوّل لا أن العلم الذي عندي لا يحصل له
الزيادة ؛ لأن العيان أبلغ من المعرفة القلبية .
ومنها ما حكاه قدسسره عن العلّامة الحلّي قدسسره وهو : (أن مادّة النبوّة أقبل من مادة الإمامة ، فمن ثم
قال عليهالسلام : «لو
كشف الغطاء» ، يعني أن ما تقبله مادتي من المعارف قد استكملت. وأمّا قوله صلىاللهعليهوآله : «ربّ
زدني فيك معرفة ..» فهو إشارة إلى أن مادة النبوّة لم يستكمل قبولها بعد) .
__________________
__________________
قال بعض
مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ بعد نقله : (ولا يخفى ما فيه من الخفاء والضعف ، وفي
نفسي من نسبة مثله إلى جناب آية الله العلّامة شيء) انتهى.
ومنها ما نسبه
السيّد المشار إليه إلى نفسه ، وحاصله أن النبي صلىاللهعليهوآله كانت مراتب علومه ومعارفه تتزايد يوما فيوما حتّى إنه
ربّما عدّ مرتبته أمس تقصيرا وذنبا بالنسبة إلى مرتبته في يومه ، وعليه نزل قوله عليهالسلام : «إنّي
لأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرة من غير ذنب» ؛ ولمّا تكامل عمره الشريف تكاملت معرفته اللائقة
بالمادة النبويّة.
وقد سلّم تلك
العلوم التي حصلت له مدّة عمره الشريف لعليّ عليهالسلام في ساعة واحدة بحكم قوله : «علّمني ألف باب من
العلم ، يفتح من كل باب ألف باب» ، وكلام علي عليهالسلام إنما هو بعد موت الرسول صلىاللهعليهوآله ، فلا منافاة بين طلب الرسول صلىاللهعليهوآله زيادة المعرفة أيام حياته وكلام عليّ عليهالسلام بعد مماته ؛ لأنه إنما حصّل هذه المرتبة من ذلك العلم
الذي أفاضه عليه ، فلا يلزم زيادة علمه عليهالسلام على علمه صلىاللهعليهوآله .
ومنها ما ذكره
شيخنا العلّامة الشيخ سليمان البحراني ـ عطّر الله مرقده ـ وهو
__________________
__________________
أن كشف الغطاء إنما هو بعد الموت ، ومعنى قوله : «لو كشف الغطاء» أنه بعد الموت لا تزداد معرفته.
وكشف الغطاء
عبارة عن التجرّد عن التعلّق بالبدن والانسلاخ عن ملابسته ، وهذا لا ينافي تزايد
معرفته في الدنيا قبل الموت. وقوله صلىاللهعليهوآله : «ربّ
زدني فيك معرفة» إنما أراد بلوغه الغاية الممكنة له في المعرفة في الدنيا. وهذا لا يقتضي
زيادة معرفته بعد كشف الغطاء والتجرّد المحض على معرفته الكاملة نهاية مراتب
المعرفة الحاصلة في النشأة الدنيوية .
أقول
: فيه :
أوّلا
: أن ظاهر كلامه
قدسسره تخصيص كشف الغطاء بهذا المعنى الذي ذكره ، والظاهر بعده
، بل المراد ـ والله سبحان وأولياؤه أعلم ـ إنّما هو الكناية عن جواز الرؤية
البصريّة ، بمعنى أنه لو جازت الرؤية البصرية لم يزدد يقيني بالمعرفة بالله سبحانه
وبصفاته على ما أنا عليه الآن.
وثانيا
: أنه على تقدير
المعنى الذي ذكره ـ طاب ثراه ـ لا يتمّ أيضا ، وذلك فإن كلامه عليهالسلام ظاهر في أنه في وقت قوله عليهالسلام وهذا الكلام قد بلغ مرتبة لا تقبل الزيادة ؛ لأنه إذا
كان بعد الموت لا يحصل له زيادة على هذه المرتبة التي هو عليها وقت تكلّمه بهذه
الكلمة ، فلو جازت الزيادة في الأيّام الباقية من عمره بعد كلامه بهذا الكلام
لحصلت المنافاة في المقام. إلّا أن يقال بتزايد المعرفة في الدنيا زيادة على
الآخرة وبعد الموت ، وهو باطل قطعا ، بل الأمر بالعكس.
ومنها ما ذكره
شيخنا المشار إليه أيضا قال : (وهو من السوانح أيضا ، وهو أن الإمام عليهالسلام إنّما قال : «ما ازددت يقينا» ، ولا ينافي ذلك إلّا زيادة المطلق. كيف ،
__________________
والزيادة على اليقين إنما هو بعين اليقين ، وهو اليقين كما قرّر في محلّه ؟
ومنها ما ذكره
أيضا قدسسره وهو أن المفهوم من قوله عليهالسلام : «لو
كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أنه بلغ في المعرفة السبحانية غاية لا يتصوّر الزيادة عليها ، وليس فيه
أنه بلغ من جميع العلوم والمعارف إلى الحد المذكور.
وحديث : «رب زدني فيك تحيرا.» إنما يقتضي زيادة الحيرة ، وهي الحيرة المحمودة. وليست
الحيرة المذكورة نفس اليقين ، ولا يلزم من تزايدها تزايده كما لا يخفى.
وأما حديث : «رب زدني فيك معرفة» ، فيمكن حمله على ما يوافق هذا ، وهي الحيرة المحمودة. وتسمى معرفة
لنشوئها عنها .
ومنها ما ذكره
أيضا ـ طاب ثراه ـ وهو أن يحمل اليقين في : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» على التصديق بوجوده تعالى وصفاته الجمالية والجلالية ،
والمعرفة في قوله صلىاللهعليهوآله : «ربّ
زدني فيك معرفة» على معارف اخرى تتعلّق به سبحانه وراء ذلك التصديق .
أقول
: لا يخفى ما في
جميع هذه المعاني المذكورة من التكليف الظاهر والتمحّل الغير الخفي على الماهر ،
بل عدم الاستقامة والمطابقة.
أمّا الأوّل ـ وهو
المنقول عن شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ ففيه أن هذا المعنى مع كونه خلاف
ظاهر اللفظ وتخصيصا له من غير دليل ممّا لا اختصاص له بأمير المؤمنين عليهالسلام ، لما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث الشاب الذي رآه رسول الله صلىاللهعليهوآله في المسجد ، وهو يخفق ويهوي برأسه
__________________
مصفرا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : «كيف
أصبحت يا فلان؟». قال : أصبحت يا رسول الله موقنا. فعجب رسول الله صلىاللهعليهوآله من قوله : وقال له : «إن لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟». فقال : إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي
وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب
للحساب ، وحشر [الخلائق] لذلك وكأني فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون
على الأرائك متكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون يصطرخون ،
وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله لأصحابه : «هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان» الحديث.
وروى في الكتاب
المذكور أيضا حديثا آخر بهذا المضمون عنه صلىاللهعليهوآله مع حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري .
وأنت خبير بأن
ظاهر كلام أمير المؤمنين عليهالسلام اختصاص هذه المرتبة به دون سائر الناس ، فإن كلامه في
مقام الافتخار ببلوغ هذه المرتبة الّتي لا رتبة أعلى منها ولا يصلها سواه وسوى
أبنائه الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين.
وأمّا الثاني ـ
وهو المنقول عن العلّامة ـ فقد عرفت ما فيه ممّا أشار إليه بعض مشايخنا المتقدّم
ذكره.
وأمّا الثالث ـ
وهو ما ذكره المحدّث السيّد نعمة الله قدسسره ـ ففيه :
أوّلا
: أن ما ذكره من
تزايد معرفته صلىاللهعليهوآله يوما فيوما على الوجه الذي ذكره وإن كان لحديث اطّلع
عليه ، وإلا فأخبار الأسرار بظاهرها تردّه ؛ لدلالتها على
__________________
بلوغه صلىاللهعليهوآله مرتبة لا تكاد تقبل الزيادة ، من الاطلاع على
عالم الملكوت وأسرار الجبروت ، وما في السماوات من عجائب الصنع وآثار القدرة
الباهرة والجنّة والنار وما فيهما ، ومشاهدة أنوار العظمة الإلهيّة ، وقربه كقاب
قوسين أو أدنى كما أفصحت به الآية القرآنية. ومن راجع الأخبار المذكورة وما اشتملت
عليه من الأسرار ولا يخفى عليه صحّة ما قلناه.
نعم ، التزايد
كان يحصل له باعتبار علوم الحوادث والقضايا ، لا باعتبار المعارف الإلهية.
وثانيا
: أن جلّ
علمائنا قد صرّحوا بمنع التقليد في المعارف الإلهيّة لسائر الناس ، فكيف يجوز
بالنسبة إلى أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ مع أن مرآة نفسه القدسيّة أشرف
المرايا وأجلاها لاستشراق أنوار تلك المعارف من الجناب الأقدس ، كما صرّحوا به
بالنسبة إلى أصحاب الرياضات ، المستعدين للسلوك ، وهو سيّد المرتاضين وإمام
السالكين ومقدام الواصلين؟ فكيف تكون معارفه التي من جملتها هذه المرتبة إنّما هي
مأخوذة بالتقليد والتعليم؟
وأما الحديث
الذي استند إليه فظاهر الأخبار تدلّ على اختصاصه بعلوم الشريعة وأخبار القصص
والملاحم ونحو ذلك ممّا كان أو سيكون إلى يوم القيامة ، لا بالنسبة إلى
المعارف الإلهيّة.
وأمّا الرابع ـ
وهو ما ذكره شيخنا المشار إليه آنفا ـ فقد عرفت ما فيه ، وكذلك الوجوه الثلاثة
التي ذكرها فإنها لا تخلو من غموض وخفاء وتكلف لا يخفى.
والذي يظهر لي
في الجمع بين هذه الأخبار هو أن هذه المرتبة التي ذكرها أمير المؤمنين عليهالسلام هي المرتبة التي طلب الرسول صلىاللهعليهوآله الزيادة فيها ، فتكون هذه
__________________
الزيادة هي الفارقة بين مقام النبوّة ومقام الإمامة. فإن أحاديث طلب الرسول صلىاللهعليهوآله الزيادة في المعرفة لا تدلّ على بلوغه مرتبة مخصوصة في
ذلك الوقت بحيث تنقص عن مرتبة أمير المؤمنين عليهالسلام حتّى تحصل المنافاة بين الأخبار المذكورة ، بل هي
مطلقة.
وحينئذ ، فيحمل
إطلاقها على هذه المرتبة التي عناها أمير المؤمنين عليهالسلام ممّا لا يبلغ لها أحد من البشر غيرهما ـ صلوات الله عليهما ـ وابناؤهما
الغرر ، والرسول صلىاللهعليهوآله مع بلوغه إيّاها طلب الزيادة فيها تحقيقا لعلوّ مقامه
على الباقين.
وهو معنى صحيح
لا غبار عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.
لا يقال : إنه
ينافي ذلك قوله عليهالسلام إنه لو كشف له الغطاء لم يحصل له زيادة اليقين على ما
علمه أوّلا بأنّه إذا كانت هنا أفراد زائدة للمعرفة على ما بلغ إليه وهي التي
ذكرتم أن الرسول صلىاللهعليهوآله طلبها ، يلزم أن تكون موجودة بعد كشف الغطاء ، ومنها
تحصل زيادة اليقين على ما كان عليه أولا.
لأنّا نقول :
إن اليقين بالمعرفة كما يقبل الشدّة والضعف والزيادة والنقيصة قبل كشف الغطاء كذلك
بعده ؛ فإن الإحاطة بالشيء والعلم به قد تكون من جميع جهاته ومتعلقاته ومنسوباته
، وقد يكون من أكثرها ، وقد يكون من بعضها ، وهو يتفاوت بتفاوت الاستعدادات
والقابلية ، فهي قابلة للشدة والضعف.
وغاية ما يلزم
أن هذه الزيادة لا تحصل في علم علي عليهالسلام بعد كشف الغطاء له وإنما تحصل للرسول صلىاللهعليهوآله ، ولا ضير فيه ؛ لأنّه قد زاد بها قبل كشف الغطاء ،
واختصّ بها فكذلك يختصّ بعده. فلا إشكال بحمد الله الملك المتعال ، والله العالم
بحقيقة الحال.
__________________
(٤٧)
درّة نجفيّة
في معنى قوله صلىاللهعليهوآله
: نيّة المؤمن خير من عمله
في الحديث : «نيّة المؤمن خير من
عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله» .
وفي (المحاسن) : «ونيّة الفاجر» ، بدل : «الكافر».
وقد تكلم
علماؤنا ـ رضوان الله عليهم ـ في تأويل هذا الخبر بوجوه ؛ فمنهم شيخنا الشهيد ـ عطّر
الله مرقده ـ في قواعده قال قدسسره : (روي عن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ
نيّة المؤمن خير من عمله» ، وربما روي «ونيّة
الكافر شرّ من عمله» ، فورد سؤالان :
أحدهما
: أنه روي عن
النبي صلىاللهعليهوآله «أن
أفضل العبادة أحمزها» ، ولا ريب أن العمل أحمز من النيّة فكيف يكون مفضولا؟
وروي أيضا أن المؤمن إذا همّ بحسنة كتبت بواحدة ، فإذا فعلها كتبت له عشرا وهذا صريح في
أن العمل أفضل من النيّة وخير.
السؤال
الثاني : أنه روي أن
النيّة المجرّدة لا عقاب فيها ، فكيف تكون شرّا من العمل؟
__________________
اجيب
بأجوبة منها أن المراد : أن نيّة المؤمن بغير عمل خير من عمل بغير نيّة ، حكاه المرتضى
رضياللهعنه . وأجاب عنه بأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل
بغير نيّة لا خير فيه ، فكيف يكون داخلا في باب التفضيل؟ ولهذا لا يقال : العسل
أحلى من الخلّ.
ومنها أنه عامّ
مخصوص أو مطلق مقيّد ؛ إذ نيّة بعض الأفعال الكبار كنية الجهاد خير من بعض الأفعال
الخفيفة كتسبيحة أو تحميدة أو قراءة آية ؛ لما في تلك النيّة من تحمل النفس
المشقّة الشديدة والتعرّض للغمّ والهمّ الذي لا توازنه تلك الأفعال. وبمعناه قال
المرتضى ـ نضّر الله وجهه ـ قال : (وأتى بذلك لئلا يظنّ أن ثواب النيّة لا يجوز أن
يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال).
ثم أجاب بأنه
خلاف الظاهر لأنه إدخال زيادة ليست في الظاهر .
قلت : المصير
إلى خلاف الظاهر متعيّن عند وجود ما يصرف اللفظ إليه ، وهو هنا حاصل ، وهو معارضة
الخبرين السالفين ، فتجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وغيره.
ومنها أن خلود
المؤمن في الجنّة إنّما هو بنيّة أنه لو عاش أبدا لأطاع الله أبدا
، وخلود الكافر في النار بنيّة أن لو بقي أبدا لكفر أبدا. قاله بعض العلماء .
ومنها أن
النيّة يمكن فيها الدوام بخلاف العمل ؛ فإنه يتعطّل عنه المكلّف أحيانا ، فإذا
نسبت هذه النيّة الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه ، وكذا نقول في نيّة
الكافر.
__________________
ومنها أن
النيّة لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ؛ لأنّا نتكلّم على تقدير النيّة المعتبرة
شرعا بخلاف العمل ؛ فإنه يعرضه ذلك.
ويرد عليه أن
العمل وإن كان معرضا لهما ، إلّا إن المراد به : العمل الخالي عنهما ، وإلّا لم
يقع التفضيل.
ومنها أن
المؤمن يراد به المؤمن الخالص كالمؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فإن غالب
أفعاله جارية على التقيّة ومداراة أهل الباطل ، وهذه الأعمال المفعولة تقيّة ؛
منها ما يقطع فيه بالثواب كالعبادات الواجبة ، ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب
كالباقي ، وأمّا نيته فهي خالية عن التقيّة ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ،
ونطق بها بلسانه إلّا إنه غير معتقد لها بجنانه ، بل آب عنها ونافر عنها.
وإليه الإشارة
بقول أبي عبد الله الصادق عليهالسلام ـ و [قد] سأله أبو عمرو الشامي عن الغزو مع غير الإمام
العادل ـ : «إنّ الله
يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» ، وروي مرفوعا عن النبي صلىاللهعليهوآله .
وهذه الأجوبة
الثلاثة من السوانح ، وأجاب المرتضى رضياللهعنه أيضا بأجوبة.
ومنها أن
النيّة لا يراد بها : التي مع العمل ، والمفضّل عليه هو العمل الخالي من النيّة.
وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف مع أنه قد ذكره كما حكيناه عنه.
ومنها أن لفظة «خير» ليست التي بمعنى أفعل التفضيل ، بل هي الموضوعة لما فيه
منفعة ، ويكون معنى الكلام : أن نيّة المؤمن من جملة الخير من أعماله حتى لا يقدّر
مقدّر أن النيّة لا يدخلها الخير والشر كما يدخل ذلك في الأعمال.
__________________
وحكي عن بعض
الوزراء استحسانه ؛ لأنه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات .
ومنها أن لفظ
أفعل التفضيل قد تكون مجرّدة عن الترجيح كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، وقول المتنبّي :
أبعد بعدت
بياضا لا بياض له
|
|
لأنت أسود في
عيني من الظلم
|
قال ابن جني : (أراد
: لأنت أسود من جملة الظلم ، كما يقال : حر من أحرار ، ولئيم من لئام ، فيكون
الكلام قد تمّ عند قوله : لأنت أسود) ، ومثله قول الآخر :
وأبيض من ماء
الحديد كأنّه
|
|
شهاب بدا
والليل داج عساكره
|
وقول الآخر :
يا ليتني
مثلك في البياض
|
|
أبيض من اخت
بني إباض
|
أي أبيض من
جملة اخت بني إباض ومن جملة عشيرتها.
فإن قلت :
فقضية هذا الكلام أن يكون في قوّة قوله : النيّة من جملة عمله ، والنيّة من أفعال القلوب
، فكيف تكون عملا؟ لأنه يختص بالعلاج.
قلت : جاز أن
تسمى عملا كما جاز أن تسمى فعلا أو يكون إطلاق العمل عليها مجازا.
قلت : وقد أجيب
أيضا بأن المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير نحو الصدقة
__________________
والصوم والحج ، ولعلّه يعجز عنها أو عن بعضها فيؤجر على ذلك لأنه معقود
النيّة عليه. وهذا الجواب منسوب إلى ابن دريد.
وأجاب الغزالي بأن النيّة
سرّ لا يطّلع عليه إلّا الله تعالى ، وعمل السرّ أفضل من عمل الظاهر. واجيب بأن
وجه تفضيل النيّة على العمل أنّها تدوم إلى آخره حقيقة أو حكما ، وأجزاء العمل لا
يتصور فيها الدوام ، إنما تتصرّم شيئا فشيئا) انتهى ما نقله الشهيد ـ نوّر الله مرقده ـ وأفاده في
قواعده.
وممن تكلم في
ذلك شيخنا البهائي ـ طيّب الله مضجعه ـ في (الأربعون) فإنه ذكر بعض أجوبة شيخنا
الشهيد ، وقال بعدها : (ومنها أن المراد بنيّة المؤمن : اعتقاد الحق ، ولا ريب أنه
خير من أعماله ؛ إذ ثمرته الخلود في الجنّة ، وعدمه يوجب الخلود في النار بخلاف
الأعمال.
ومنها أن طبيعة
النيّة خير من طبيعة العمل ؛ لأنه لا يترتّب عليها عقاب أصلا ، بل إن كانت خيرا
اثيب عليها وإن كانت شرا كان وجودها كعدمها بخلاف العمل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، فصحّ أن النيّة بهذا الاعتبار خير من العمل.
ومنها أن النية
من أعمال القلب وهو أفضل الجوارح فعمله أفضل من عملها ، ألا ترى إلى قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ، جعل سبحانه الصلاة وسيلة إلى الذكر ، والمقصود أشرف
من الوسيلة. وأيضا فأعمال القلب مستورة عن الخلق لا يتطرق إليها الرياء ونحوه ،
بخلاف أعمال الجوارح.
ومنها أن
المراد بالنيّة تأثير القلب عند العمل وانقياده إلى الطاعة وإقباله على
__________________
الآخرة وانصرافه عن الدنيا ، وذلك يشتد بشغل الجوارح في الطاعات وكفها عن
المعاصي ؛ فإن بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثر كل منهما بالآخر ، كما إذا
حصل للجوارح آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب ، وإذا تألم القلب لخوف مثلا سرى أثره
إلى الجوارح فارتعدت. والقلب هو الأمير والمتبوع ، والجوارح كالرعايا والأتباع.
والمقصود من
أعمالها : حصول ثمرة للقلب ، فلا يظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه
جمع بين الجبهة والأرض ، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكّد صفة التواضع في القلب ؛
فإن من يجد في نفسه تواضعا إذا استعان بأعضائه وصوّرها بصورة المتواضع تأكّد بذلك
تواضعه ، وأما من يسجد غافلا عن التواضع وهو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من
وضع الجبهة على الأرض أثر إلى قلبه ، بل سجوده كعدمه ؛ نظرا إلى الغرض المطلوب
منه. فكانت النيّة روح العمل وثمرته والمقصد الأصلي من التكليف به ، فكانت أفضل.
وهذا قريب بما تقدّم من كونها من أعمال القلب.
ومنها أن
النيّة ليست مجرّد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس : اصلّي أو أصوم أو ادرّس
قربة إلى الله ، ملاحظا معاني هذه الألفاظ بخاطرك ، ومتصورّا بقلبك. هيهات إن هذا
تحريك لسان وأحاديث نفس ، وإنّما النيّة المعتبرة انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى
ما فيه غرضها ومطلبها إمّا عاجلا وإمّا آجلا. وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن
حاصلا لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق بتلك الألفاظ ، وتصوّر تلك
المعاني ، وما ذلك إلّا كقول الشبعان : أشتهي الطعام وأميل إليه ، قاصدا حصول
الميل والاشتهاء. وكقول الفارغ : أعشق فلان واحبه وأنقاد إليه واطيعه. بل لا طريق
إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وإقباله عليه إلّا بتحصيل الأسباب
الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب
الامور المنافية لذلك المضادّة له ، فإن النفس إنما تنبعث إلى الفعل وتقصده
وتميل إليه تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات.
فإذا غلب على
قلب المدرس مثلا حب الشهرة وإظهار الفضيلة وإقبال الطلبة عليه وانقيادهم إليه ،
فلا يتمكّن من التدريس بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه بنشر العلم وإرشاد الجاهلين
، بل لا يكون تدريسه إلّا لتحصيل تلك المقاصد الواهية والأغراض الفاسدة ، فإن قال
بلسانه : ادرّس قربة إلى الله وتصوّر ذلك بقلبه وأثبته في ضميره ما دام لم يقلع
تلك الصفات الذميمة من قلبه [فـ] لا عبرة بنيّته أصلا.
وكذلك إذا كان
قلبك عند نيّة الصلاة منهمكا في امور الدنيا والتهالك عليها والانبعاث في طلبها ،
فلا يتيسر لك توجيهه بكليّته إلى الصلاة وتحصيل الميل الصادق إليها والإقبال
الحقيقي عليها ، بل يكون دخولك فيها دخول متكلّف لها متبرّم بها ، ويكون قولك : أصلّي
قربة إلى الله ، كقول الشبعان : أشتهي الطعام ، وقول الفارغ : أعشق فلان مثلا.
والحاصل ، أنه
لا يحصل لك النيّة الكاملة المعتدّ بها في العبادات من دون ذلك الميل والإقبال
وقمع ما يضاده من الصوارف والأشغال ، ولا يتيسّر إلّا إذا صرفت قلبك عن الامور الدنيويّة
، وطهرت نفسك من الصفات الذميمة الدنيّة ، وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكليّة.
ومن هنا يظهر
أن النيّة أشقّ من العمل بكثير ، فتكون أفضل منه ، وتبيّن لك قوله صلىاللهعليهوآله : «أفضل
الأعمال أحمزها» غير مناف لقوله عليهالسلام : «نيّة
المؤمن خير من عمله» ، بل هو كالمؤكد والمقرر له) انتهى ما ذكره شيخنا البهائي ملخصا.
وهاهنا وجوه
اخر ذكرها بعض العامة أيضا وغيرهم :
__________________
ومنها أن نيّة
المؤمن بجملة الطاعات خير من عمله ، يعني عملا واحدا ونيّة الفاجر كذلك ، فالنيّة دائمة
والعمل مؤقّت ، والدائم خير من المؤقّت.
ومنها أن العمل
يوجد بالنيّة لا النيّة بالعمل.
ومنها أن سبب
هذا الحديث ، أن رجلا أنصاريا نوى أن يعمل جسرا كان على باب المدينة قد انهدم
فسبقه يهودي فعمله فاغتم الأنصاري لذلك فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «نيّة
المؤمن خير من عمله» ، يعني اليهودي .
ومنها أن
المراد من النيّة : الإرادة ، بمعنى إرادته وإخلاصه لجميع الأعمال خير من عمله.
ومها أن نيّته
ألّا يرجع عن الإيمان خير من عمله ، والكافر على ضدّه.
ومنها نيّة
المؤمن على أن يزداد خيرا إن قدر خير من عمله ، وكذا نيّة الفاجر. انتهى.
ولا يخفى أن
بعض هذه المعاني يرجع إلى بعض ما سبق وإن كان فيه نوع مغايرة في الجملة.
ومنها ما ذكره
بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين وهو أن «خير» و «شر» منصوبان على أنهما مفعولا فيه ، وكأن وجه حذف الألف
منهما تبادر كونهما صيغتي تفضيل ، وأنهما خبرا المبتدأين ، فوقع فيهما تحريف ،
والمعنى أن المؤمن إذا نوى خيرا وإن لم يفعله كان ذلك محسوبا من جملة أعماله ،
والكافر إذا نوى شرا كان ذلك من أعماله فيثاب المؤمن بذلك ويعاقب الكافر به.
وفيه تنبيه على
أن هذا من العمل الذي في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ) . وفي تنكير «خير» و «شرّ» في
__________________
الحديث دلالة على أن كلّا منهما وإن كان قليلا يكتب له وعليه.
وقد دلّ الحديث
الذي نقله الشهيد رحمهالله على أن المؤمن يكتب له الحسنة بمجرد النية ولا يعد في
كون السيّئة تكتب على الكافر بمجرّد النيّة.
وبالجملة ، فإن
كان ما تكلم به العلماء على هذا الحديث بعد ثبوته عندهم بالنقل مرفوعا ، وإلّا
فهذا وجه وجيه.
واعلم أنه على
تقدير النصب يكون «نيّة» مصدرا مضافا إلى الفاعل مبتدءا خبره «من عمله» ، وعلى الرفع يكون اسم مصدر خبره «شر» و «خير») انتهى.
أقول
: والذي وقفت عليه من الأخبار ممّا يصلح أن يكون تفسيرا
لهذا الخبر ، منه ما رواه في (الكافي) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّما خلد أهل النار لأنّ نيّاتهم كانت في
الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلد أهل الجنّة لأنّ نيّاتهم
في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ـ ثمّ
تلا قوله تعالى ـ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ) » .
أقول
: وهذا الخبر
يؤكد المعنى الأخير من المعاني التي نقلها شيخنا الشهيد ، وهو الذي قبل الثلاثة
التي ذكر أنها من سوانحه ، وهو الذي نسبه إلى بعض العلماء.
ومنها ما رواه
شيخنا الصدوق رحمهالله في كتاب (العلل والاحكام) بسنده إلى زيد الشحام قال :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إني سمعتك تقول : «نيّة المؤمن خير من عمله» ، فكيف تكون النيّة خيرا من العمل؟ قال : «لأنّ العمل ربّما كان
رياء للمخلوقين ، والنيّة خالصة لربّ العالمين ، فيعطي الله على النيّة ما لا يعطي
على العمل».
__________________
قال أبو عبد
الله عليهالسلام : «إن
العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام فيثبت الله له صلاته ،
ويكتب نفسه تسبيحا ، ويجعل ثوابه عليه صدقة» .
وبإسناده عن
أبي جعفر عليهالسلام أنه كان يقول : «نيّة المؤمن أفضل من عمله ؛ وذلك لأنه ينوي من
الخير مالا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ؛ وذلك لأن الكافر ينوي الشرّ ويأمل
من الشرّ ما لا يدركه» .
وقد تقدّم ما
تضمّنه هذان الحديثان في بعض الأوجه المتقدّمة. وهذا في الحقيقة يرجع إلى طبيعة
النيّة والعمل.
ثم أقول : الظاهر
أنه لا منافاة بين هذا الخبر وبين قوله : «أفضل الأعمال أحمزها» ؛ لأن التفاضل باعتبار الأحمزيّة وقع في الأعمال ،
والنيّة ليست من الأعمال. وكيف كان فالعمل في معنى الخبر المذكور على ما تضمّنته
هذه الأخبار.
__________________
٤٨
درّة نجفيّة
في إيمان ولد الزنا
من المسائل
التي سئل عنها شيخنا العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدسسره : ولد الزنا هل يحتمل أن يدخل الجنة مع إمكان أن يكون
مؤمنا متشرّعا؟ فأجاب ـ طاب ثراه ـ بما صورته : (إن جواز إيمانه وإمكان تدينه عقلا
ممّا لا خلاف فيه ، كيف ولو لم يكن كذلك لزم التكليف بالمحال ، وهو باطل عقلا
ونقلا إلّا عند [شذاذ] من المخالفين؟ وإنّما الخلاف في الوقوع ؛ [أي أنه] هل
يقع منه الإيمان والتدين ، أم يقطع بعدم وقوع ذلك؟
والمنقول عن رئيس
المحدّثين أبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه والمرتضى علم الهدى وأبي عبد الله محمد بن إدريس الحلّي ـ روّح الله
أرواحهم ، وقدّس أشباحهم ـ هو الثاني ، وهو أنه لا يكون إلّا كافرا بمعنى أنه لا
يختار إلّا الكفر ، وهم لا ينكرون أنه لو فرض إيمانه وتديّنه أمكن دخوله الجنّة ،
بل وجب [إن وافى به] وإن كان عندهم أن هذا الفرض غير واقع ، لا لأنه
__________________
جلّت كلمته أجبره على الكفر وسلبه القدرة على الإيمان ؛ لأنه فاسد عند
أصحابنا باطل بالأدلّة العقليّة القاهرة والآيات المحكمة الباهرة والأخبار
المستفيضة عن العترة الطاهرة ، بل لأنه لا بدّ وأن يختار من قبل نفسه الكفر. وعلم
الله بذلك تابع للواقع ؛ إذ هو حكاية للمعلوم ، ولا موجب له كما قرّر في علم
الكلام ، فلا يكون ذلك مبطلا لقدرة العبد واختياره ، وإلّا لأبطل قدرة الربّ
واختياره في فعله ؛ فإنه كان في الآزال عالما بما سيفعله ، فيما لا يزال إمّا
واجبا أو ممتنعا ، هذا خلف.
وقد حقّق ذلك
المحقّق في (نقد المحصّل) . وفي ظواهر الأخبار ما يشهد بهذا القول ، مثل قوله عليهالسلام : «ولد
الزنا شرّ الثلاثة» .
ومثل قوله : «لا يبغضك يا علي إلّا
ولد زنا» .
ومثل ما رواه
ثقة الإسلام في (الكافي) عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله حرّم
الجنّة على كل فحّاش بذيء قليل الحياء لا يبالي بما قال ولا [ما] قيل له ، فإنّك
إذا فتّشته لم تجده إلّا لغية أو شرك شيطان». قيل : يا رسول الله ، وفي الناس شرك شيطان؟ فقال : «ما
تقرأ قول الله عزوجل (وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ؟» . فإن ظاهره تحريم الجنة على الصنف المذكور تحريما
مؤبّدا.
وقد علّل عليهالسلام ذلك بأنك «إن فتّشته لم تجده إلّا لغية أو شرك شيطان» ،
__________________
و (اللغية) ـ بضمّ اللّام وإسكان الغين المعجمة وفتح الياء المثنّاة من تحت
ـ أي ملغى ، والمراد به : المخلوق من الزنا.
والأظهر عندي
ضبطه بكسر اللام وتشديد الياء وخفض الهاء في آخره ؛ بجعل اللّام حرف جرّ ، والمراد
: لم تجده إلّا [ولد] غيّة ، والغية : خلاف الرشد ، وفي (القاموس) : (ولد غية ـ ويكسر
ـ : زنية ) .
وذكر بعض
المحقّقين في ترجمة (شرح الأربعين) أن خاتمة المحدّثين الميرزا محمّد الأسترآبادي
ـ عطّر الله مرقده ـ ضبطه كذلك ، فرجع حاصل كلامه عليهالسلام إلى أنه إنما حرّمت الجنّة على هذا الصنف ؛ لأنه لا
يكون إلّا ابن زنا أو شرك شيطان.
ولا يخفى أنه
يمكن حمل الخبر على تحريم الجنّة عليهم زمانا طويلا ، أو تحريم جنّة خاصّة معدّة
لغير هذا الصنف كما احتمله شيخنا البهائي ـ نوّر الله مرقده ـ في (شرح الأربعين) .
ومثل ما رواه
رئيس المحدّثين قدسسره في (الفقيه) عن الصادق عليهالسلام قال : «ومن وجد برد حبّنا على قلبه فليكثر الدعاء
لأمّه ؛ فإنها لم تخن أباه» .
وكان الصبي على عهد
رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا وقع شكّ في نسبه عرضت عليه ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام ، فإن قبلها الحق نسبه بمن ينتهي إليه ، وإن أنكرها نفي
.
وفي (الفقيه)
أيضا كان جابر بن عبد الله الأنصاري يدور في سكك الأنصار بالمدينة وهو يقول : عليّ
خير البشر ، ومن أبى فقد كفر. يا معشر الأنصار ،
__________________
[أدبوا] أولادكم على حبّ علي ، فمن أبى فانظر إلى شأن امّه .
وجه الاستدلال
أنه إذا جاز كون ولد الزنا مؤمنا متديّنا انتفت العلامة طردا ، ولم يدلّ حبّه عليهالسلام على صحّة النسب ، وعكسا ؛ إذ ليس البغض حينئذ [معلولا] لفساد النسب
ولا لازما لماهيّته لزوما بيّنا لا بالأخصّ ولا بالأعم ، ولا غير بيّن ، ولا لازما
لوجودها ، فيتفارقان من الجانبين جزئيا لصدق الجزئيتين السالبتين ، فلا يدلّ البغض
على فساد النسب ، ومنطوق النصّ خلافه.
وقريب من ذلك
ما رواه الشيخ في (التهذيب) في باب الاستخارة للنكاح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الرجل إذا دنا من المرأة وجلس مجلسه حضر
الشيطان ، فإن هو ذكر اسم الله تنحى عنه
الشيطان ، وإن فعل ولم يسمّ أدخل الشيطان ذكره فكان العمل منهما جميعا ، والنطفة
واحدة». قلت : بأي شيء
يعرف هذا؟ قال : «بحبّنا
وبغضنا» .
وتقريب
الاستدلال جعله عليهالسلام الحبّ علامة على عدم مشاركة الشيطان والبغض عليها ، واكتفى في الحكم
بالمشاركة بمجرّد عدم التسمية ، يعني عمدا.
وهو يدلّ
بالتنبيه وطريق الأولويّة على لزوم البغض والنصب لولد الزنا كما لا يخفى.
ومثل ما رواه
الشيخ في (التهذيب) ، وثقة الإسلام في (الكافي) عن
__________________
الوشاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه كرّه سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك
وكلّ من خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب.
والمراد
بالكراهة هنا هو التنجيس وتحريم الاستعمال لا المعنى المصطلح بين الاصوليّين
والفقهاء ؛ لعدم تأتّيه في سؤر المشرك للإجماع على نجاسته وحمل الكراهة على ما هو
أعمّ من كراهة التنزيه والتنجيس. وتحريم الاستعمال موجب لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه
، وهو ممتنع عند جمع من الاصوليّين وحمله على القدر المشترك ـ وهو [مطلق]
المرجوحية ـ يوجب الإخلال بالبيان ، مع أن السيّد العلّامة السيّد محمدا في (المدارك)
، وتلميذه الفاضل الأمين الأسترابادي في (حواشي الفقيه) ذكرا أن الكراهة
في إطلاقاتهم عليهمالسلام حقيقة في التحريم. ولنا فيه بحث ليس هذا موضعه.
وبالجملة ،
فالأخبار المشعرة بهذا المعنى كثيرة ، إلّا إنّها قابلة للتأويل ، غير خالية من
قصور في سند أو دلالة ، والقائل بمضمونها قليل نادر ، وأكثر أصحابنا على إسلامه
وطهارته وإمكان تديّنه وعدالته وصحّة دخوله الجنّة.
وأنا في هذه
المسألة متوقّف وإن كان القول الثاني لا يخلو من قوّة ومتانة ، وهو فتوى الشيخين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وكافة
المتأخّرين . ويعضده الأصل والنظر إلى عموم سعة رحمة الله وتفضّله
بالألطاف الربّانيّة والعنايات السبحانية على كافة البريّة.
وتحقيق البحث
في ذلك يفضي إلى الإسهاب ، وفيما ذكرناه كفاية لاولي
__________________
الألباب) انتهى كلامه ، زيد مقامه.
أقول
: لقد دخل شيخنا
قدسسره في هذه المسألة من غير الطريق ، وعرّج على الاستدلال
فيها من واد سحيق ، ولم يمعن النظر فيها بعين التحقيق ، ولا الفكر الصائب الدقيق ،
ولم يورد شيئا من أخبارها اللائقة بها حسبما يراد ؛ فلذا صار كلامه معرضا للإيراد
؛ حيث لم يوافق المطلوب والمراد. وبيان ذلك يظهر من وجوه النظر التي تتوجّه على
كلامه ، الظاهرة في تداعي ما بنى عليه وانهدامه :
فأحدها : جعله
محلّ الخلاف في المسألة أنه هل يقع من ابن الزنا الإيمان والتديّن أم يقطع بعدمه؟
وجملة القول بكفره على معنى أنه لا يقع منه إلّا الكفر ، وإلّا فانه لا ينكرون أنه
لو فرض إيمانه وتديّنه أمكن دخوله الجنّة ، بل وجب ؛ فإنّه ليس في محلّه ، بل
هؤلاء القائلون بكفره يقولون به وإن أظهر الإيمان كما صرّح بذلك جملة من علمائنا
الأعيان منهم شيخنا خاتمة المحدّثين صاحب (بحار الأنوار) حيث قال فيه : (ونسب إلى
الصدوق والسيّد المرتضى وابن إدريس القول بكفره وإن لم يظهره).
ثم قال : (وهذا
مخالف لأصول العدل ؛ إذ لم يفعل باختياره ما يستحق به العقاب فيكون عقابه ظلما
وجورا والله ليس بظلام للعبيد) انتهى.
وهذا المعنى هو
الذي تدلّ عليه الأخبار كما ستمر بك قريبا إن شاء الله تعالى ؛ فإنّها صريحة في
حرمانه الجنّة وإن كان ظاهره التديّن بالإيمان.
نعم ، ما ذكره
من القول بالكفر إنما هو وجه تأويل حيث حمل القائلون بإسلام ولد الزنا الأخبار
الدالّة على عدم دخوله الجنّة على أنه لكونه يظهر الكفر ، فجعلوه جوابا عن الأخبار
المذكورة ، مع أنها صريحة في ردّه كما سيظهر لك ،
__________________
لا أن ذلك مذهب القائلين بكفره.
وثانيها : من
نقله من الأدلّة للقائلين بالكفر وقوله في آخر الكلام : (وبالجملة ، فالأخبار
المشعرة بهذا المعنى كثيرة إلّا إنها قابلة للتأويل) ، فإنه مسلّم بالنسبة إلى
أخباره التي أوردها ، لكنها ليست هي أدلّة هذا القول كما توهّمه قدسسره ، بل أدلّته ما سنذكره من الروايات الصحيحة الصريحة
المستفيضة الغير القابلة للتأويل.
والعجب منه ـ عطّر
الله مرقده ـ مع سعة دائرته في الاطّلاع ، وكونه ممن لا يجارى في سعة الباع كيف
غفل عن الوقوف عليها مع كثرتها وانتشارها وتكررها واشتهارها حتى اعتمد في
الاستدلال على هذه الأخبار البعيدة عن المقام بمراحل ، بل لا تنطبق عليه إلّا
بمزيد تكلّف كما لا يخفى على الخبير الفاضل؟
وثالثها : ما
ذكره من قوله : (إن أكثر أصحابنا على إسلامه وطهارته ، وإمكان تدينه وعدالته ،
وصحّة دخوله الجنّة) ، وميله إلى هذا القول بعد توقّفه ، وقوله : (إنه لا يخلو من
قوة ومتانة) ، فإنه مخالف لهذه الأخبار الواردة عن العترة الأطهار في هذا المضمار في
جملة من موارد الأحكام ، فمن ذلك دعوى الطهارة ، فإن ظواهر الأخبار تدلّ على
النجاسة ، ومنها مرسلة الوشاء الّتي ذكرها ، واعترف بأن الكراهة فيها بمعنى
التنجيس.
ومنها رواية
ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة
الحمام ، فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة
الناصب وهو شرهما» .
__________________
ورواية علي بن
الحكم وفيها : «لا تغتسل
من [غسالة] ماء الحمام ؛ فإنّه يغتسل فيه من الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب
لنا أهل البيت وهو شرّهم» .
ومن ذلك دعوى
العدالة. ولا يخفى أن المواضع التي تشترط فيها العدالة هي الإمامة في الصلاة ، وقد
اتّفق الأصحاب والأخبار على اشتراط طهارة المولد فيها وأنّها لا تنعقد بابن الزنا.
والشهادة ، وقد استفاضت الأخبار بأنّه لا يقبل شهادته والقضاء ، وقد اتّفقت كلمة
الأصحاب على أنه لا يجوز له تولّي القضاء. وحينئذ ، فأيّ ثمرة لهذه العدالة الّتي
ادّعاها في المقام؟
فمن الأخبار
الدالة على عدم جواز إمامته موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خمسة لا يؤمنون الناس ولا يصلّون بهم صلاة
فريضة في جماعة : الأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي حتّى يهاجر والمحدود» .
وروى الصدوق في
(الفقيه) مرسلا عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «لا يصلينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون
والمحدود وولد الزنا» الحديث.
والحكم اتّفاقي
بين الأصحاب ، فلا ضرورة إلى الإطالة في الاستدلال.
ومن الأخبار
الدالة على عدم جواز قبول شهادته موثقة زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «لو أن أربعة شهدوا عندي على رجل بالزنا وفيهم
ولد زنا لحددتهم جميعا ؛ لأنه لا تجوز شهادته ، ولا يؤم الناس» .
__________________
وبهذا المضمون
صحيحة محمّد بن مسلم أو موثقته ، ورواية أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ قال : «لا». قلت : إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز. فقال : «اللهم
لا تغفر ذنبه ، ما قال الله للحكم بن عتيبة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) » .
ويدلّ على ذلك
أيضا صحيحة الحلبي .
نعم ، في رواية
عيسى بن عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تجوز إلّا في الشيء اليسير إذا رأيت منه
صلاحا» .
ومن الأحكام
الزائدة على ما ذكر هنا ما ورد في ديته من أنّها كدية اليهودي والنصراني : ثمانمائة
درهم ، روى ذلك الشيخ في (التهذيب) عن عبد الرحمن ابن عبد الحميد عن بعض مواليه
قال : قال لي أبو الحسن عليهالسلام : «دية
ولد الزنا دية اليهود : ثمانمائة درهم» .
وروى المشايخ
الثلاثة في الكتب الثلاثة عن جعفر بن بشير عن بعض رجاله قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن دية ولد الزنا؟ فقال : «ثمانمائة درهم مثل دية اليهودي
والنصراني والمجوسيّ» .
__________________
ومثل ذلك رواية
إبراهيم بن عبد الحميد .
وفي رواية عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته كم دية ولد الزنا؟ فقال : «يعطي الذي أنفق عليه
ما أنفق» .
وقد حكم بمضمون
هذه الأخبار الصدوق والمرتضى وابن إدريس بناء على مذهبهم في المسألة ، والمشهور بناء على الحكم
بإسلامه أن ديته دية المسلم ، مع أنه لا معارض لهذه الأخبار في المقام.
وأنت خبير بأن
جملة هذه الأحكام إنما ترتّبت على ابن الزنا من حيث كونه ابن زنا وإن كان متديّنا
بظاهر الإسلام كما لا يخفى على ذوي الأذهان والأفهام ، فإن الكفر مانع من
الإمامة وقبول الشهادة وتولّي القضاء وإن لم يكن ابن الزنا ، وكذا في حكم الدّية ،
وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.
ومن ذلك دعوى
دخول الجنة الذي بنى فيه على مجرد التخمين والظنّة ؛ فإن الأخبار مستفيضة برده
فمنها ما رواه الصدوق في كتاب (العلل) بسنده عن سعد ابن عمر الجلّاب قال : قال أبو
عبد الله عليهالسلام : «إنّ
الله عزوجل خلق الجنّة طاهرة مطهّرة فلا يدخلها إلّا من طابت ولادته» ، وقال أبو عبد الله عليهالسلام : «طوبى
لمن كانت امّه عفيفة» .
وروى في الكتاب
المذكور بسنده فيه إلى محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه
__________________
رفع الحديث إلى الصادق عليهالسلام قال : «يقول ولد الزنا : يا رب فما ذنبي ؛ فما كان لي
في أمري صنع؟». قال : «فيناديه
مناد ؛ فيقول : أنت شرّ الثلاثة ؛ أذنب والداك فتبت عليهما ، وأنت رجس ولن يدخل
الجنة إلّا طاهر» .
أقول
: انظر إلى
صراحة هذا الخبر في أن منعه وطرده عن الجنّة إنّما هو من حيث كونه ابن زنا ، حيث
إنه احتج بأنّه (لا ذنب لي يوجب بعدي وطردي من الجنّة) ، فلو كان كافرا لم يحتج
بهذا الكلام ، ولو احتجّ لأتاه الجواب : بأن طردك من الجنّة لأجل كفرك. وهذا بحمد
الله ظاهر.
ومثله ما رواه
في (الكافي) وغيره بسنده عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لو كان أحد من ولد الزنا نجا ، لنجا سائح بني
إسرائيل». فقيل له :
وما سائح بني إسرائيل؟ قال : «كان
عابدا فقيل له : إن ولد الزنا لا يطيب أبدا ولا يقبل الله منه عملا». قال : «فخرج يسيح بين الجبال ويقول : ما ذنبي».
وروى البرقي في
كتاب (المحاسن) بسنده عن سدير قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : «من
طهرت ولادته دخل الجنّة» .
وروى فيه أيضا
بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «خلق الله الجنّة طاهرة مطهّرة لا يدخلها إلّا
من طابت ولادته» .
وهذه الأخبار
كما ترى صريحة في أن منع ابن الزنا من دخول الجنّة إنما هو
__________________
من حيث خبث الولادة لا من حيث الكفر الذي زعموا حمل الأخبار عليه كما
قدّمنا نقله عنهم.
وروى في كتاب (المحاسن)
أيضا بسنده عن أيّوب بن الحرّ عن أبي بكر قال : كنا عنده ومعنا عبد الله بن عجلان
، فقال عبد الله بن عجلان : معنا رجل يعرف ما نعرف ويقال : إنه ولد زنا. فقال : ما
تقول؟ فقلت : إن ذلك ليقال له. فقال : إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر
يرد عنه وهج جهنّم ويؤتى برزقه .
قال بعض
مشايخنا ـ عطّر الله مراقدهم ـ بعد نقل هذا الخبر : (قوله : (من صدر) أي يبنى له
ذلك في صدر جهنّم وأعلاه. والظاهر أنه تصحيف الصبر ـ بالتحريك ـ وهو الجمد) .
وروى في (الكافي)
بسنده عن ابن أبي يعفور قال قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إن
ولد الزنا يستعمل ؛ إن عمل خيرا جزي به وإن عمل شرا جزي به» .
أقول
: هذا الخبر
موافق للمشهور من أن ولد الزنا كسائر الناس مكلّف باصول الدين وفروعه ، وتجري عليه
أحكام المسلمين ويثاب على الطاعات ويعاقب على المعاصي ، إلّا إنه لا يبلغ قوة
المعارضة لما سردناه من الأخبار أولا وآخرا.
وممّا يؤكّدها
أيضا ما رواه الصدوق في كتاب (عقاب الأعمال) والبرقي في (المحاسن) بإسنادهما عن
أبي بصير ليث المرادي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن نوحا عليهالسلام حمل في السفينة الكلب
والخنزير ولم يحمل فيها ولد الزنا ، والناصب شرّ من ولد الزنا».
__________________
وما رواه في (ثواب
الأعمال) في الموثق عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «لا خير في ولد الزنا ولا في بشره ولا في شعره
ولا في لحمه ولا في دمه ولا في شيء منه» يعني ولد الزنا.
وروى الشيخان
بسنديهما عن أبي خديجة قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «لا يطيب ولد الزنا ولا يطيب ثمنه» الحديث.
وبالجملة ، فإن
المفهوم من هذه الأخبار التي ذكرناها أن ابن الزنا له حالة ثالثة غير حالتي
الإيمان والكفر ؛ لأن ما تقدّم من الأخبار الدالة على أحكامه في الدنيا من النجاسة وعدم
العدالة وحكم ديته ، وكذا الأخبار الدالّة على عدم جواز دخول الجنة لا تجامع
الإيمان بوجه ، وأسباب الكفر الموجبة للحكم بكونه كافرا غير موجودة فيه ؛ لأن
الفرض أنه متديّن بظاهر الإيمان كما عرفت من الأخبار المذكورة.
وكيف كان
فالحقّ عندي في هذه المسألة ما أفاده خاتمة المحدّثين غوّاص (بحار الأنوار) ، ومستخرج ما فيه
من لآلئ الآثار ـ قدّس الله روحه ، ونوّر ضريحه ـ حيث قال ـ بعد نقله جملة من الأخبار
الدالّة على عدم دخوله الجنّة ـ ما صورته : (أقول : يمكن الجمع بين الأخبار على
وجه آخر يوافق قانون العدل بأن يقال : لا يدخل ولد الزنا الجنّة ، لكن لا يعاقب في
النار إلّا بعد أن يظهر منه ما يستحقه ، ومع فعل الطاعة وعدم ارتكاب ما يحبطه يثاب
في النار على ذلك ، ولا يلزم على الله أن يثيب الخلق في الجنّة. يدل عليه خبر عبد
الله بن عجلان ؛ ولا
__________________
ينافيه خبر عبد الله بن أبي يعفور ؛ إذ ليس فيه تصريح بأن جزاءه يكون في
الجنّة.
وأمّا العمومات
الدالّة على أن من يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله الله الجنّة [فـ] يمكن أن تكون
مخصّصة بتلك الأخبار) انتهى.
والذي يظهر لي
أن مقتضى هذه الأخبار الكثيرة المستفيضة الواردة في أحكامه دنيا وآخرة أنه في
الغالب والأكثر لا يطيب ولا يكون مؤمنا ، وإن كان مؤمنا فإيمانه يكون مستعارا ،
وربّما ثبت على إيمانه ، وكان إيمانه مستقرّا إلّا إن ثوابه يكون في النار على
الوجه الذي ذكره شيخنا المشار إليه.
وهذا الوجه
يمكن ردّه إلى كلام شيخنا المذكور ودخوله فيه كما لا يخفى ، ولله درّ شيخنا المشار
إليه حيث قال على أثر هذا الكلام الذي نقلناه هنا : (وبالجملة ، فهذه المسألة ممّا
قد تحيّر فيه العقول وارتاب فيها الفحول ، والكف عن الخوض فيها أسلم ، ولا تجد
فيها شيئا أحسن من أن يقال : الله أعلم) انتهى.
وبما حقّقناه
في المقام ، وكشفنا عنه غشاوة الإبهام يظهر لك ما في كلام شيخنا المتقدّم ذكره من
القصور والجور من غير تحقيق على ظاهر المشهور ، والله العالم.
وبعد الوصول
إلى هذا المقام من الكلام وقفت على كلام للسيّد الفاضل المحدّث السيّد نعمة الله
الجزائري ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ قال في كتاب (الأنوار النعمانية) : (تذييل في
حال ولد الزنا إذا ورد على ربّه عزوجل : اعلم أن المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ هو
أنه إذا أظهر دين الإسلام كان مسلما بحكم المسلمين في الطهارة ودخول الجنّة ، وقد
نقل عن المرتضى والصدوق وابن إدريس ـ قدّس الله أرواحهم ـ أنه كافر نجس يدخل
النار كغيره ونظيره من الكفّار.
__________________
ولكن وجد بخطّ
شيخنا الشهيد الثاني ـ قدّس الله روحه ـ مسائل نقلها عن المرتضى ـ تغمّده الله
برحمته ـ وهذه عبارته : وسئل عن ولد الزنا وما روي فيه من أنه في النار ، وأنه لا
يكون من أهل الجنّة ، فأجاب رضياللهعنه : (إن هذه الرواية موجودة في كتب أصحابنا إلّا إنه غير
مقطوع بها ، ووجهها ـ إن صحّت ـ أن كل ولد زنية لا بد أن يكون في علم الله أنه
يختار الكفر ويموت عليه ، وأنه لا يختار الإيمان ، وليس كونه من ولد الزنية ذنبا
يؤاخذ به ، فإن ذلك ليس ذنبا له في نفسه وإنما الذنب لأبويه ، ولكنّه إنما يعاقب
بأفعاله الذميمة القبيحة التي علم الله أنه يختارها. ويصير كونه ولد زنا علامة على
وقوع ما يستحق من العقاب ، وأنه من أهل النار بتلك الأعمال ، لا لأنه مولود من زنا)
..).
ثم قال السيّد
: (وهذا لا ينافي ما حكيناه عنه رحمهالله فإنه قد يذهب في المسألة الواحدة إلى مذاهب مختلفة ،
يكون له في كل كتاب من مصنّفاته مذهب من المذاهب. والحقّ أن الأخبار متضافرة في
الدلالة على سوء حاله وأنه من أهل النار ، فروى الصدوق رحمهالله بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام قال : «ولد الزنا يقول : يا ربّ
ما ذنبي فما كان في أمري من صنع» ).
ثم ساق الرواية
كما قدّمنا ، ثم قال : (وهذا ممّا لا مسلك فيه للعقول ، وإن أردت تأويل مثل هذا
الخبر لينطبق على أقوال الأصحاب فاحمله إلى إرادة ولد الزنا إذا كان مخالفا في
المذهب ، مع أن هذه سياسة شرعية أظهرها الشارع للحكم بحكم ومصالح ؛ حتى لا يتجرّأ أحد
على الزنا. وله نظائر كثيرة ، مع أن الغالب في ولد الزنا سوء الحال والأعمال ، حتى
يكون هو الذي يدخل النار بعمله.
__________________
على أنه يجوز
أن الله تعالى يحتج عليه يوم القيامة بدخول نار يؤجّجها ، كما يحتج على الأطفال
الذين يموتون من أولاد الشرك والكفّار ممّن تحقّقت سابقا) انتهى.
وأنت خبير بما
في تأويله للخبر الذي نقله من البعد كما أشرنا إليه آنفا ، ثم إن في كلامه قدسسره تأييدا لما ذكرناه من أن محلّ الخلاف في المسألة هو ما
إذا كان مظهر الإيمان ؛ ولهذا أنه بعد أن نقل عن المرتضى خلاف ذلك أجاب عنه بما
ذكر.
وبالجملة ، فما
ذكره شيخنا المتقدّم ذكره في المسألة غفلة بلا ريب ، والله العالم.
__________________
(٤٩)
درّة نجفيّة
في شرح حديث الرفع
روى الصدوق ـ عطّر
الله مرقده ـ في كتاب (التوحيد) و (الخصال) في الصحيح عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : رفع عن أمّتي تسعة
أشياء : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا
إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».
أقول
: هذا الخبر قد
رواه أيضا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مرسلا عنه صلىاللهعليهوآله. ورواه ثقة الإسلام قدسسره في (الكافي) عن محمّد بن أحمد النهدي رفعه عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : وضع عن امتي تسع
خصال : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه وما استكرهوا
عليه والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» .
والمراد بالرفع
أو الوضع في الخبر : ما هو أعمّ من عدم المؤاخذة والعقاب كما
__________________
في بعض ، أو عدم التكليف كما في آخر ، أو عدم التأثير كما في ثالث .
ومفهوم الخبر
مؤاخذة من تقدّم من الامم بذلك ، كما يعطيه تمدّحه صلىاللهعليهوآله بذلك وتخصيص الرفع بامته لأجله ـ صلوات الله عليه وآله
ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحه.
ونحن
نتكلم في الخبر على كلّ من هذه التسعة
بما يوجب مزيد
الإيضاح له والبيان ، ويجعله في قالب العيان ، فنقول وبه سبحانه التوفيق لبلوغ
المأمول :
الأوّل
والثاني : الخطأ والنسيان
ولا ريب في رفع
المؤاخذة بهما ، في قوله سبحانه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) وقوله عزوجل (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . وانتفاء الإثم والمؤاخذة فيهما لا ينافي ترتب
بعض الأحكام عليهما ، كالضمان في خطأ الطبيب ، والدّية والكفارة في قتل الخطأ ،
وإعادة الصلاة لنسيان ركن ، وسجود السهو ، وتدارك بعض الواجبات المنسيّة ونحو ذلك.
الثالث :
الإكراه
ويدلّ عليه
أيضا قوله عزوجل (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) .
والمراد به ما
هو أعمّ من أن يكون في اصول الدين أو فروعه ، وأن يبلغ الوعيد حد
القتل أو غيره ممّا لا يتحمّل عادة. وكيف كان ، فهو مخصوص بما إذا لم يتعلّق
بالدماء بأن يكون على قتل مؤمن ؛ فإنه لا تقيّة في الدماء.
__________________
ويؤكد ما
ذكرناه في هذه المواضع ما رواه في (الكافي) عن عمرو بن مروان قال : سمعت أبا عبد
الله عليهالسلام يقول : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله رفع عن امتي أربع خصال : خطؤها ونسيانها وما أكرهوا عليه وما
لم يطيقوا ، وذلك قول الله عزوجل (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا) ، وقوله (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) » . فإنه عليهالسلام استشهد لرفع هذه الخصال بالآيتين الكريمتين.
(قيل : ظاهر
الآية الأولى الدلالة على المؤاخذة والإثم بالخطإ والنسيان وإلّا فلا فائدة في
الدعاء بعدم المؤاخذة ، فكيف تكون دليلا على الرفع؟
وأجيب
:
أوّلا
: بأن السؤال
والدعاء قد يكون للواقع ، والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب وعرض الافتقار إليه ،
كما قال خليل الرحمن وابنه إسماعيل عليهماالسلام : (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنّا) ، مع أنهما لا يفعلان غير المقبول.
وثانيا
: بأنّه قد صرّح
بعض المفسّرين بأن الآية تدلّ على أن الخطأ والنسيان سببان للإثم
والعقوبة ، ولا يمتنع عقلا المؤاخذة بهما ؛ إذ الذنب كالسمّ يؤدّي إلى الهلاك وإن
تناوله خطأ ، وكذلك الذنب ولكنه عزوجل وعد بالتجاوز عنه رحمة وتفضّلا وهو المراد من الرفع ،
فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة لها وامتدادا بها) انتهى.
والجواب الأوضح
في ذلك أن يقال : إن هذا السؤال في الآية إنما وقع في مبدأ
__________________
التكليف ؛ لأن التكاليف الشرعيّة إنما كانت تتجدّد شيئا فشيئا ، ولمّا كانت
هذه الأشياء ممّا وقع التكليف بها في الامم السالفة خاف رسول الله صلىاللهعليهوآله على امّته أن يكلّفوا بها مع صعوبتها ومشقتها ، فسأل
الله سبحانه رفعها عن امّته ، وألّا يكلّفهم بها كما كلّف الامم الماضية ، فأجابه
الله تعالى إلى ذلك.
فالاستدلال
بالآية على الرفع في الخبر المذكور مبنيّ على سؤاله صلىاللهعليهوآله وإجابته تعالى وإن كان مطويا في الكلام ؛ لمعلوميّته.
ودلالة الآية على المؤاخذة بالخطإ والنسيان كما ذكره المعترض إنما هو بالنسبة إلى
من تقدم من الامم لا بالنسبة إلى هذه الامّة ، فالرفع وعدم الرفع بالنسبة إلى هذه
الامة قبل هذا السؤال غير معلوم.
ومن أوضح
الأخبار في المقام ما رواه الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) عن الكاظم عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث يذكر فيه مناقب رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «إنه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسير خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة ،
حتّى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى له من الجنّة رفرف أخضر ، وغشي
النور بصره ، فرأى عظمة ربّه عزوجل بفؤاده ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينهما وبينه
أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى فكان فيما اوحي إليه الآية التي في سورة البقرة
، قوله تعالى (لِلّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وكانت الآية قد
عرضت على الأنبياء من لدن آدم ـ على نبيّنا وعليهمالسلام ـ إلى
__________________
أن بعث الله تبارك اسمه محمّدا صلىاللهعليهوآله ، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها وقبلها
رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرضها على امته فقبلوها ، فلما رأى الله عزوجل منهم القبول [علم] أنهم لا يطيقونها ، فلما أن سار إلى [ساق]
العرش كرر عليه الكلام ليفهمه فقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فأجاب صلىاللهعليهوآله عنه وعن امّته : (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فقال جل ذكره : لهم الجنّة والمغفرة على أن فعلوا ذلك.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : أما إذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربّنا وإليك المصير.
يعني المرجع في الآخرة».
قال : «فأجابه
الله تعالى جلّ ثناؤه : وقد فعلت ذلك بك وبأمّتك.
ثم قال عزوجل : أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها
على الامم وأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمّتك فحقّ عليّ أن أرفعها عن أمّتك ، وقال (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها
لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من شرّ.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله لما سمع ذلك : أما إذ فعلت ذلك بي وبامّتي فزدني. فقال
: سل قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). قال الله عزوجل : لست اؤاخذ امتك بالنسيان أو الخطأ ؛ لكرامتك علي.
وكانت الامم
السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك.
وكانت الامم
السالفة إذا أخطؤوا أخذوا بالخطإ وعوقبوا عليه ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ؛ لكرامتك
علي.
__________________
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني. فقال الله تعالى له :
سل. قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، يعني بالإصر : الشدائد التي كانت على من كان قبلنا. فأجابه
الله تعالى إلى ذلك ، فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار التي كانت على
الامم السالفة ، كنت لا أقبل صلاتهم إلّا في بقاع من الأرض معلومة
اخترتها لهم وإن بعدت ، وقد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجدا وطهورا. فهذه من الآصار
التي كانت على الامم قبلك فرفعتها عن امتك.
وكانت الأمم
السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه من أجسادهم ، وقد جعلت الماء لأمّتك طهورا.
فهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك.
وكانت الأمم السالفة تحمل
قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه أرسلت إليه نارا فأكلته ،
فرجع مسرورا ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا ، وقد جعلت قربان أمّتك في بطون
فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه أضعفت له ذلك أضعافا مضاعفة
ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، وهي من
الآصار التي كانت على الأمم قبلك.
وكانت الأمم
السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار وهي من الشدائد التي
كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك وفرضت عليهم صلواتهم في أطراف الليل والنهار وفي
أوقات نشاطهم.
وكانت الامم
السالفة قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار الّتي كانت عليها
فرفعتها عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات ، وهي
__________________
إحدى وخمسون ركعة ، وجعلت لهم أجر خمسين صلاة.
وكانت الأمم
السالفة حسنتهم بحسنة وسيّئتهم بسيّئة ، وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها
عن أمتك ، وجعلت الحسنة بعشرة والسيّئة بواحدة.
وكانت الأمم
السالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له ، فإن عملها كتبت له حسنة ،
وإن أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة. وهذه من الآصار التي كانت
عليهم فرفعت ذلك عن امتك.
وكانت الامم
السالفة إذا أذنبوا ذنبا كتبت ذنوبهم على أبوابهم ، وجعلت توبتهم من الذنوب أن
حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم ، وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، وجعلت ذنوبهم
فيما بيني وبينهم ، وجعلت عليهم ستورا كثيفة ، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ، ولا
اعاقبهم بأن احرّم عليهم أحبّ الطعام إليهم.
وكانت الامم
السالفة يتوب أحدهم من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا
أقبل توبته دون أن اعاقبه في الدنيا بعقوبة ، وهي من الآصار الّتي كانت عليهم
فرفعتها عن امتك. وإن الرجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة
أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر له ذلك كلّه.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : اللهم إذ أعطيتني ذلك كلّه فزدني. قال : سل. قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا
بِهِ). قال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بك وبامّتك ، وقد رفعت
عنهم عظيم بلايا الامم ، وذلك حكمي في جميع الامم ألّا أكلف خلقا فوق طاقتهم.
__________________
قال صلىاللهعليهوآله : (وَاعْفُ عَنّا
وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا). قال الله عزوجل : قد فعلت ذلك بتائبي امتك. قال صلىاللهعليهوآله : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ). قال الله جل اسمه : إن أمّتك في الأرض كالشامة البيضاء
في الثور الأسود ، وهم القادرون وهم القاهرون ، يستخدمون ولا يستخدمون ؛ لكرامتك
علي ، وحقّ علي أن اظهر دينك على الأديان ، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين
إلّا دينك ، أو يؤدّون إلى أهل دينك الجزية» .
أقول
: وإنما نقلنا
الخبر المذكور بطوله لما فيه من الفوائد التي يرجع إليها في جملة من الموارد.
الرابع
: ما لا يعلم
ويجعل جهله
جهلا ساذجا على وجه يكون عادما للتصوّر بالكليّة ، فإن الجاهل بهذا المعنى ممّا
لا ريب في معذوريّته وإن أباه كثير من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لعدم قولهم
بمعذوريّة الجاهل إلّا في موارد نادرة ، وهو ضعيف ، لقيام الدليل العقلي على عدم جواز توجّه
الخطاب لمن كان كذلك ، فإن تكليف الجاهل بهذا المعنى من قبيل التكليف بما لا يطاق.
وأمّا المتصور
له بوجه ـ وإنما يجهل التصديق ـ فهذا ممّا دلّت الأدلّة الشرعيّة على أنه يجب عليه
الفحص والسؤال وتحصيل العلم بالحكم ، ومع تعذّر ذلك فالوقوف
على جادة الاحتياط. وعلى هذا الفرد تحمل الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم
والتفقه في الدين.
وتفصيل الكلام
في هذه المسألة قد مرّ مستوفى في الدرّة الثانية من درر
__________________
الكتاب ، وهذا الفرد ممّا يرجع إلى عدم المؤاخذة.
الخامس
: ما لا يطاق
ويدلّ عليه
أيضا قوله سبحانه (وَلا تُحَمِّلْنا ما
لا طاقَةَ لَنا بِهِ) ، وقوله سبحانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلّا وُسْعَها) . والوسع دون الطاقة ، وفي (التوحيد) عن الصادق عليهالسلام : «ما
أمر العباد إلّا بدون سعتهم ، وكل شيء أمر الناس بأخذه فهم متّسعون له ، وما لا
يتّسعون له فهو موضوع عنهم ، ولكن الناس لا خير فيهم» .
ومثله في حديث
آخر أيضا في (الكافي) .
وروى الصدوق في
كتاب (الاعتقادات) عن الصادق عليهالسلام مرسلا قال : «والله ما كلّف العباد إلّا دون ما يطيقون ؛
لأنه كلّفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات ، وكلّفهم في السنة صيام ثلاثين يوما ،
وكلّفهم في كل مائتي درهم خمسة دراهم ، وكلّفهم حجّة واحدة ، وهم يطيقون أكثر من
ذلك» .
وهذا ممّا يرجع
إلى عدم التكليف.
السادس
: ما اضطرّ إليه
ويدلّ عليه
أيضا قوله سبحانه (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وهو أعمّ من أن يكون سبب الاضطرار من الله عزوجل كأكل الميتة والتداوي بالمحرّم والإفطار بالمرض في شهر رمضان
، أو من جهة التكليف أو غيره كمن جرح نفسه أو غيره حتّى اضطرّ إلى الإفطار في شهر
رمضان ونحو ذلك.
__________________
السابع
: الحسد
والكلام فيه لا
يخلو من الإشكال ؛ وذلك لأن هذا الخبر دلّ على رفع المؤاخذة به. ويعضده أيضا جملة
من الأخبار منها ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) وغيره في غيره
أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه : التفكر في
الوسوسة في الخلق ، والطيرة ، والحسد إلّا إن المؤمن لا يستعمل حسده» وفي بعض الأخبار التي لا يحضرني الآن موضعها : «إلّا إن المؤمن لا
يظهر حسده» . مع أنه قد استفاضت الأخبار بأن الحسد من الصفات
المهلكة . وقد فسّره غير واحد من المحقّقين بأنّه عبارة عن أن
يتمنّى الحاسد زوال نعمة المحسود ؛ لكراهته ؛ لاتّصافه بتلك النعمة ، فيتمنّى
زوالها لنفسه أو مطلقا .
ومن الأخبار
الدالة على ذمّه ما رواه في (الكافي) في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب» .
ومثله روى فيه
أيضا عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليهالسلام .
وروى فيه أيضا
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال الله عزوجل
لموسى بن عمران : يا بن عمران ، لا تحسد الناس على ما آتيهم من فضلي ، ولا تمدّن
عينيك إلى ذلك ، ولا تتبعه نفسك ؛ فإنّ الحاسد ساخط لنعمتي ، صادّ لقسمي الذي قسمت
بين عبادي ، ومن يكن كذلك فلست منه وليس منّي» .
__________________
وروى فيه أيضا
عنه عليهالسلام : «اصول
الكفر ثلاثة ..» ، وعدّ منها الحسد.
وجمع بعض
مشايخنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين بين هذه الأخبار بتقييد هذه الأخبار
الأخيرة بالأخبار [الاولى] ، بمعنى أن المذموم من الحسد هو ما ظهر أثره بقول أو
فعل دون ما خطر في القلب من غير ترتب أثر عليه كما يدلّ عليه قوله في بعض تلك
الأخبار : «إلّا إن
المؤمن لا يستعمل حسده» ، أي لا يستعمله قولا ولا فعلا ولا قلبا بالتفكر في
كيفية إجرائه على المحسود وإزالة نعمته.
وفي آخر : «إلّا إن المؤمن لا
يظهر حسده».
وما في رواية
النهدي المتقدّمة نقلا عن (الكافي) : «ما لم يظهر بلسان أو يد» ، فإن الظاهر تعلقه بالحسد وإن احتمل بعض تعلّقه
بالوسوسة.
ويؤيّد ذلك
أيضا ما رواه الشيخ أبو علي ابن شيخنا الطوسي قدسسره في أماليه بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام عن أبيه عن جدّه عليهماالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ذات يوم لأصحابه :
ألا إنه قد دبّ إليكم داء الامم من قبلكم وهو الحسد ، وليس بحالق [الشعر] لكنه
حالق الدين ، وينجي منه أن يكفّ الإنسان يده ، ويخزن لسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه
المؤمن» .
وحينئذ ، فيحمل
ما تقدّم من أنه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب على إظهاره بقول أو فعل.
واحتمل بعض أصحابنا ـ رضياللهعنهم ـ أيضا حمل تلك الأخبار الدالّة على ذمّه ، على الترغيب
في معالجته ليحصل الإيمان الكامل وإن
__________________
لم يكن مؤاخذا به ، وهو قريب أيضا.
ويؤيّده أنّهم
ـ صلوات الله عليهم ـ كثيرا ما يردفون بعض المكروهات بما يلحقها بالمحرّمات تأكيدا
في الزجر عنها ، ويردفون بعض المستحبّات بما يكاد يجعلها في قالب الواجبات تأكيدا
في الحثّ عليها ، كما لا يخفى على من له انس بالأخبار.
ولا استبعاد في
نسبة الحسد بهذا المعنى إلى الأنبياء ؛ لما رواه الصدوق رحمهالله في كتاب (معاني الأخبار) في حديث ابتلاء آدم وحوّاء عليهماالسلام بالأكل من الشجرة من أن ذلك كان بسبب نظرهما إلى أنوار
النبي صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام وتمنيهما لتلك المنزلة . ولكن الأقرب
عندي حمل حديث آدم عليهالسلام على الغبطة دون الحسد بالمعنى المتقدّم ، والحسد بمعنى
الغبطة وإن لم يكن ذنبا يوجب العقوبة ، إلّا إن ذنوب الأنبياء من قبيل (حسنات
الأبرار سيّئات المقرّبين) .
الثامن
: الطيرة
بفتح الياء ،
وزان عنبة : التشؤّم ، وهي مصدر (تطيّر) طيرة كـ (تخيّر) خيرة. قالوا : ولم يأت من
المصادر على هذا الوزن غيرهما قال الفيّومي في كتاب (المصباح المنير) : (وكانت
العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطير وأثارتها لتستفيد هل تمضي أو ترجع؟
فنهى الشارع عن ذلك ، وقال : «لا
هام ولا طيرة» .
__________________
وقال : «اقرّوا الطير في
وكناتها» أي في مجاثمها)
.
وقال المارزي :
(كانوا يتطيّرون بالسوارح والبوارح ، وكانوا يثيرون الطير والظباء ، فإذا أخذت ذات اليمين تبرّكوا ومضوا
لحاجتهم ، وإذا أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم ، فكان ذلك يطردهم في كثير من
الأوقات عن مقاصدهم. وهذا أمر وهميّ أبطله الشارع بقوله : «ولا طيرة» ، وأخبر أن ذلك لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرّا) .
أقول
: لا ينافي ذلك
ما ورد في بعض أخبارنا من التشؤّم ببعض الأشياء كما رواه الصدوق في (الفقيه) و (الخصال) والبرقي في (المحاسن) عن سليمان بن
جعفر الجعفري عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : «الشؤم للمسافر في طريقه في خمسة : الغراب الناعق
عن يمينه ، والكلب الناشر لذنبه ، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع
على ذنبه يعوي ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا ، والظبي السانح من يمين إلى شمال ،
والبومة الصارخة ، والمرأة الشمطاء يلقى
__________________
فرجها ، والأتان العضباء ـ يعني الجدعاء ـ فمن أوجس في نفسه منهنّ شيئا فليقل
: اعتصمت بك يا ربّ من شرّ ما أجد في نفسي فاعصمني من ذلك». قال : «فيعصم من ذلك» ؛ فإنه مستثنى بالنصّ.
وقد روى ثقة
الإسلام في (الكافي) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الطيرة على ما تجعلها شيئا إن هوّنتها تهوّنت
، وإن شددتها تشدّدت وإن لم تجعلها شيئا
لم تكن شيئا» ، وهو محتمل الرجوع إلى كلّ من الفردين المتقدّمين أو ما هو أعم
، وحاصله الرجوع إلى الاعتقاد بصحّتها وعدمه. وهذا أمر تجريبي ؛ فإن كثيرا من
الامور وإن لم تكن في حدّ ذاتها موجبة لنفع أو ضرّ ، إلّا إنه برسوخ الاعتقاد في
ترتيب النفع أو الضر عليها يظهر أثره للمعتقد ذلك.
وكذا في بعض
الامور الموجبة للنفع مثل الرقيّ والعوذ ونحوها لو استعملها من غير اعتقاد لم
يترتّب عليها نفع غالبا ، وكذا الموجب للضرر أيضا. ومن هذا القبيل ما روي عن أبي
الحسن الثاني عليهالسلام أنه كتب إليه بعض البغداديّين يسأله عن الخروج يوم
الأربعاء لا يدور فكتب عليهالسلام : «من
خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة ، وعوفي من كلّ عاهة
، وقضى الله له حاجته» .
وروى في (الكافي)
أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «كفّارة
الطيرة التوكّل» ، وهذا الفرد ممّا يرجع إلى عدم ترتّب التأثير عليه.
التاسع
: التفكّر في الوسوسة في الخلق
وهو ما يخطر في
القلب من تطلب أسرار الأقضية والأقدار ، وأنه كيف يصحّ
__________________
خلق هذا الشيء بغير مادّة؟ أو ما الغرض والعلّة في إيجاد الشيء الفلاني؟
ونحو ذلك.
وفي الخبر عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله
، هلكت. فقال له : أتاك الخبيث ، فقال
لك : من خلقك؟ فقلت : الله ، فقال لك : الله من خلقه؟ فقال : أي والذي بعثك بالحقّ
لكان كذا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ذلك والله محض
الإيمان» قال أبو عبد
الله عليهالسلام : «إنما
قال : هذا والله محض الإيمان ، يعني خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض ذلك في قلبه» .
وقد ورد في خبر
آخر إنّكم إذا وجدتم مثل ذلك [فـ] قولوا : «لا إله إلّا الله» .
وروي أيضا : «قولوا : آمنّا بالله
وبرسوله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله» .
وقال بعض
مشايخنا في معنى هذه الفقرة : (إنه يحتمل أن يكون المعنى : التفكر فيما يوسوس
الشيطان في القلب في الخالق ومبدئه وكيفية خلقه ؛ فإنه معفوّ عنها ما لم يعتقد
خلاف الحقّ وما لم ينطق بالكفر الذي يخطر بباله. أو المراد : التفكر في خلق
الأعمال ، ومسألة القضاء والقدر. أو المراد : التفكر فيما يوسوس الشيطان [به] في
النفس من أحوال المخلوقين وسوء الظنّ بهم في أعمالهم ، ويؤيّد الأخير كثير من
الأخبار ) انتهى.
__________________
(٥٠)
درّة نجفيّة
في مشروعيّة نقل الموتى إلى
المشاهد المشرّفة
روى الصدوق رحمهالله في (من لا يحضره الفقيه) ـ وغيره ، ورواه غيره أيضا ـ عن
الصادق عليهالسلام : «إنّ
الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف عليهالسلام من مصر ، ووعده طلوع
القمر» .
وساق الخبر إلى
أن قال : «فاستخرجه
من شاطئ النيل في صندوق مرمر ، فلمّا أخرجه طلع القمر فحمله إلى الشام».
وورد في عدة
أخبار أيضا حمل نوح عظام آدم عليهماالسلام من الكعبة ودفنها في الغري .
والإشكال في
هذه الأخبار من وجهين :
أحدهما : أن
ظاهر هذه الأخبار جواز نقل الموتى بعد الدفن إلى المواضع الشريفة ، وظاهر الأصحاب
تحريم ذلك حتى قال ابن إدريس : إنه بدعة في
__________________
شريعة الإسلام ، سواء كان النقل إلى مشهد أو غيره .
وقال الشيخ في (النهاية)
: (وإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله من موضعه ، وقد وردت رواية بجواز نقله إلى
بعض مشاهد الأئمّة عليهمالسلام سمعناها مذاكرة) .
وأسند الجواز
في (التذكرة) إلى بعض علمائنا.
ونقل بعض
مشايخنا من متأخّري المتأخّرين عن الشيخ وجماعة أنهم جوّزوا
النقل إلى المشاهد المشرّفة ، ولم أقف عليه في كلامه إلّا إن ظاهر عبارة (المبسوط)
ذلك. حيث قال بعد ذكر المسألة والإشارة إلى ورود الرواية المذكورة وأنهم سمعوها
مذاكرة قال : (والأوّل أفضل) ؛ فإن ظاهره الجواز وإن كان خلاف الأفضل. ونقل عن ابن
حمزة القول بالكراهة .
وقال ابن
الجنيد : (لا بأس بتحويل الموتى من الأرض المغصوبة ، ولصلاح يراد بالميّت . وظاهره
الجواز من غير كراهة في الصورتين المذكورتين).
وأنت خبير بأنا
لم نقف على حجّة على التحريم في المقام أزيد من تحريم النبش ، مع أن الحجّة على
تحريم النبش ليس إلّا الإجماع المدّعى بينهم ، وإلّا فلم أقف على خبر يدلّ عليه ،
وإثبات الإجماع فيما نحن فيه ، ممنوع ؛ لما عرفت من الخلاف. وما اعتمده صاحب (الوسائل)
من الأخبار الدالة على حدّ النبّاش ، فظنّي أنّها لا تقوم حجّة ، لإمكان حمل الحدّ على ما
يتعلّق بسلب الأكفان ، أو تكرر ذلك منه. ودخول ما نحن فيه من النبش لأجل نقل
الميّت إلى
__________________
محل شريف يترتّب عليه النفع بالنسبة إليه ممنوع.
فالقول بالجواز
في نقل الأموات إلى المشاهد المشرّفة كما صار إليه بعض مشايخنا المعاصرين غير بعيد ،
وتكون هذه الأخبار من جملة الأدلّة على ذلك.
وما ذكره
الفاضل الخراساني في (الذخيرة) ـ من أن وقوع ذلك في شرع من قبلنا لا يدلّ على
جوازه في شرعنا ـ مردود بأن الظاهر من نقلهم عليهمالسلام ذلك للشيعة وتقريرهم عليه ، هو جواز ذلك ، كما وقع
القول به في جملة من المواضع ؛ منها حديث : «ذكري حسن على كل حال» الذي جوّزوا به ذكر الله سبحانه في الخلاء ؛ لنقلهم عليهالسلام عن موسى عليهالسلام ذلك.
ومنها جواز جعل
المهر إجارة الرجل نفسه مدّة ، كما حكاه الله تعالى عن موسى عليهالسلام في تزويجه بابنة شعيب ، فإن أكثر
الأصحاب على القول بذلك استنادا إلى الدليل المذكور ، إلى غير ذلك ممّا يقف
عليه المتتبّع الخبير.
ويعضد ذلك عموم
جملة من الأخبار الواردة في فضل الدفن في المشاهدة المقدّسة ولا سيّما الحائر
الحسيني والغري ، على مشرفيهما أفضل الصلاة والسلام.
ويؤكّده أيضا
وقوع ذلك بجملة من فضلاء الطائفة المحقّقة ، وأساطين الشريعة الحقّة مثل الشيخ
المفيد فإنه دفن في داره مدّة ثم نقل إلى جوار الإمامين الكاظمين ـ صلوات الله
عليهما ـ والسيّد المرتضى رضياللهعنه فإنه دفن في داره مدّة
__________________
ثم نقل إلى جوار الحسين عليهالسلام ، ذكر ذلك علماء الرجال. ونقل أيضا مثل ذلك عن الشيخ
البهائي فإنه دفن في أصفهان ثم نقل إلى المشهد المقدّس الرضوي على مشرفه
السلام. ومن الظاهر أن وقوع ذلك في تلك الأيام المملوءة بالعلماء الأعلام لا يكون
إلّا بتجويزهم وإذنهم.
وبالجملة ،
فالظاهر عندي هو جوازه ، بل استحبابه. على أنا لا نحتاج في ذلك إلى دليل بل الأصل
الجواز ، وبه نتمسّك إلى أن يقوم الدليل على المنع ، وليس فليس.
وثانيهما : أنه
قد ورد في جملة من الأخبار : أن الأنبياء والأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ يرفعون
بعد الدفن بأبدانهم من الأرض ، فروى المشايخ الثلاثة ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ عن
زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ما من
نبي أو وصي نبيّ يبقى في الأرض [بعد موته] أكثر من ثلاثة أيّام حتى يرفع روحه
ولحمه وعظامه إلى السماء ، وإنّما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغونهم من بعيد السلام
ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب» .
وروى الشيخ في (التهذيب)
عن عطيّة الأبزاري قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «لا تمكث جثّة نبيّ ولا وصيّ نبيّ في الأرض
أكثر من أربعين يوما» .
ووجه مدافعة
هذين الخبرين الأخبار السابقة ظاهرة ؛ لدلالة هذين الخبرين على أنهم يرفعون
بأبدانهم العنصريّة من الأرض ، ودلالة تلك الأخبار على بقائهم
__________________
فيها ، وأن الأرض تأكل من أبدانهم كما يدلّ عليه تخصيص النقل بالعظام ، مع
أنه قد روى الصدوق في (الفقيه) عن الصادق عليهالسلام مرسلا قال : «إنّ الله عزوجل حرّم لحومنا على الأرض ، وحرّم
لحومنا على الدود أن تطعم منها شيئا» .
وروى فيه أيضا
عنه عليهالسلام : «إنّ
الله تبارك وتعالى حرّم لحومنا على الأرض تأكل منها شيئا » .
وهذان الخبران
وإن كانا مجملين بالنسبة إلى الرفع إلّا إنهما صريحان بالنسبة إلى عدم تغيّر
أبدانهم بالأرض كسائر الناس.
ولم أقف على
كلام شاف وبيان واف في الجمع بين هذه الأخبار إلّا إن شيخنا المجلسيّ قدسسره في كتاب مزار (البحار) قال ـ بعد نقل خبري عطية
الأبزاري وزياد ابن الحلال المذكورين ـ ما هذا لفظه : (ثم إن في هذين الخبرين
إشكالا من جهة منافاتهما لكثير من الأخبار الدالّة على بقاء أبدانهم في الأرض ،
كأخبار نقل عظام آدم عليهالسلام ونقل عظام يوسف عليهالسلام ، وبعض الآثار الواردة أنهم نبشوا قبر الحسين عليهالسلام فوجدوه في قبره ، وأنهم حفروا في الرصافة قبرا فوجدوا فيها شعيب بن
صالح ، وأمثال تلك الأخبار كثيرة.
فمنهم من حمل
أخبار الرفع على أنهم يرفعون بعد الثلاثة ثم يرجعون إلى قبورهم ، كما ورد في بعض
الأخبار أنّ كلّ وصيّ يموت يلحق بنبيّه ثم يرجع إلى مكانه .
__________________
ومنهم من حملها
على أنها صدرت لنوع مصلحة تورية لقطع طمع الخوارج والنواصب الذين كانوا يريدون نبش
قبورهم عليهمالسلام وإخراجهم منها ، وقد عزموا على ذلك مرارا فلم يتيسّر
لهم .
ويمكن حمل
أخبار نقل العظام على أن المراد : نقل الصندوق المتشرّف بعظامهم وجسدهم في ثلاثة
أيّام أو أربعين يوما ، وأن الله تعالى يردهم إليها لتلك المصلحة. وعلى هذا تحمل
الأخبار الاخر ، والله يعلم) انتهى كلامه ، زيد مقامه.
وأنت خبير بما
فيه بجميع احتمالاته من البعد الظاهر كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وقال المحدّث الكاشاني
في (الوافي) ـ بعد نقل حديث زياد المتقدّم ـ ما صورته : (حمل هذا الحديث على ظاهره
ليس بمستبعد في عالم القدرة وفي خوارق عاداتهم عليهمالسلام ، مع أنه يحتمل أن يكون المراد باللحم والعظم المرفوعين
: المثاليّين منهما أعني : البرزخيّين ، وذلك لعدم تعلّقهم بهذه الأجساد العنصريّة
، فكأنّهم وهم بعد في جلابيب من أبدانهم قد نفضوها وتجرّدوا عنها ، بعد وفاتهم.
والدليل على
ذلك من الحديث قوله عليهالسلام : «إنّ
الله خلق أرواح شيعتنا ممّا خلق منه أبداننا» ، فأبدانهم ليست الّا تلك الأجساد اللطيفة المثاليّة.
وأما العنصريّة
فكأنها أبدان الأبدان ، ويدلّ على ذلك أيضا ما يأتي في باب زيارة أمير المؤمنين عليهالسلام بالغريّ في حديث المفضّل بن عمر : «إنّ الله أوحى إلى
__________________
نوح عليهالسلام أن يستخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم عليهالسلام فيدفنه في الغري ففعل» .
وما ورد : أن
الله سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران عليهالسلام أن أخرج عظام يوسف بن يعقوب عليهماالسلام من مصر ، فاستخرجها من شاطئ النيل في صندوق مرمر.
فلو لا أن
الأجسام العنصريّة منهم تبقى في الأرض لما كان لاستخراج العظام ونقلها من موضع إلى
آخر بعد سنين مديدة معنى) انتهى.
وأنت خبير بأن
ما ذكره من الاحتمال الذي بنى عليه هذا المقال إنما يتم لو ثبت ما ادّعاه من
الأجساد المثاليّة في النشأة الدنيويّة بحيث يكون للرّوح فيها جسدان : مثالي
وعنصري ، وهذا ممّا لم يقم عليه دليل.
وغاية ما
يستفاد من الأخبار أن المؤمن إذا مات جعل الله تعالى روحه في النشأة البرزخيّة في
قالب كقالبه في الدنيا بحيث لو رأيته لقلت : فلان ، ثم ينقل إلى وادي السلام
من ظهر الكوفة وأنهم يجلسون حلقا حلقا يتحدّثون
ويتنعمون . وأيضا فتصريح الخبر برفع اللحم والعظم لا ينطبق إلّا
على الجسد العنصري ؛ لأن إثبات ذلك للجسد المثالي لا يخلو من تمحّل وتعسّف ؛ لعدم
إدراك أحوال تلك النشأة البرزخيّة على الواقع والتفصيل. وغاية ما صرّحوا به أن تلك
الأجساد المثاليّة ليست في لطف المجرّدات ولا كثافة الماديّات ، بل لها حالة
متوسّطة.
__________________
وأمّا ما استند
إليه من حديث الطينة فلا مانع من حمل أبدانهم ـ صلوات الله عليهم ـ على
الأبدان العنصريّة ، فإن تلك الطينة لصفاء جوهريتها ونورانية مادتها في ذلك العالم
لا تقصر عن مناسبة أخذ أرواح الشيعة من فضلها وبقيّتها. وأمّا حديث عظام آدم ويوسف
عليهماالسلام فلا دلالة فيه ؛ إذ هو بعد الموت وهو ممّا لا إشكال
فيه.
نعم ، فيه
دلالة على بقاء الأجسام العنصريّة بعد الموت في الأرض ، وهو موضع الإشكال لدلالة
تلك الأخبار على رفعها من الأرض بعد الثلاثة أو الأربعين. وما زعمه من تخصيص الرفع
بالأجساد المثاليّة قد عرفت ما فيه ، فالإشكال باق بحاله.
وممّا يؤيّد
الخبرين المتقدّمين أيضا ، الدالّين على الرفع بالأبدان العنصريّة ما رواه الشيخ
في (التهذيب) عن سعد الإسكاف قال : حدّثني أبو عبد الله عليهالسلام قال : «إنّه لما أصيب أمير المؤمنين عليهالسلام قال للحسن والحسين عليهماالسلام : غسّلاني وكفّناني
وحنّطاني واحملاني على سريري ، واحملا مؤخره تكفيا مقدّمه ، فإنكما تنتهيان إلى
قبر محفور ولحد ملحود ولبن موضوع ، فألحداني واشرجا اللبن علي وارفعا لبنة ممّا
يلي رأسي ، فانظرا ما تسمعان. فأخذا اللبنة من عند رأسه فإذا ليس في القبر شيء ،
وإذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فألحقه الله بنبيّه ، وكذلك يفعل
بالأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أن نبيّا مات في المشرق ومات وصيّه بالمغرب لألحق
الوصيّ بالنبيّ» ، وهو ظاهر الصراحة نقي الساحة في الدلالة على ما دلّ عليه
الخبران المتقدّمان.
__________________
وأمّا ما
تكلّفه المحدّث الكاشاني أيضا في هذا الخبر بناء على ما قدّمنا من كلامه : (فحمل
الرفع على رفع البدن المثالي دون العنصري) ، فهو من التكلّفات الباردة والتمحّلات الشاردة ، قال
بعد نقل الخبر : (لعل المراد بإلحاقه إلحاق البدن المثالي البرزخي ، وأمّا فقد البدن
العنصري عن نظرهما في القبر ، فلعل ذلك لغيبته عنهما وقتئذ ؛ لأنهما كانا حينئذ إنما
يسمعان ويبصران بمشاعرهما الباطنية المشاهدة لما في الغيب دون مشاعرهما المشاهدة لما في
الشهادة ؛ ولهذا كانا يسمعان من الهاتف الغيبي ما يسمعان ، مع أنا لا نستبعد نقل
بدنه العنصري أيضا وإلحاقه بالبدن العنصري للنبي صلىاللهعليهوآله كما أشرنا إليه ؛ فإن مثل هذه الخوارق للعادات دون
مرتبته عليهمالسلام) انتهى.
وفيه زيادة على
ما تقدّم أن المزيّة لا تظهر لهم عليهمالسلام إلّا بنقل البدن العنصري ، وإلّا فالبدن البرزخي الذي
يجعل للرّوح بعد الموت ممّا يشاركهم فيه سائر المؤمنين كما عرفت آنفا ؛ فإن الروح
بعد الموت تجعل في قالب كقالبه في الدنيا وينقلون إلى الجنّة البرزخيّة في ظهر
الكوفة.
وحينئذ ، فأيّ
فضيلة ومزية له عليهالسلام في النقل ببدنه البرزخي؟ على أن إطلاق النقل على البدن
البرزخي من القبر فرع ثبوت وجوده أولا في حال الحياة كما ادّعاه أولا ، وقد عرفت
أنه لا دليل عليه. ولكن المحدّث المذكور لما كان مذاقه على مذهب الصوفية الجارين
في تفسير الأخبار على طريق الملاحدة من الباطنيّة كان هذا دأبه في تفسير الأخبار
وارتكاب التمحّلات في معانيها ، والخروج عن ظواهر ألفاظها كما لا يخفى على من طالع
كتبه ومصنّفاته.
__________________
وبالجملة ، فإن
الظاهر عندي هو الوقوف على ظواهر هذه الأخبار الدالة على نقلهم ـ صلوات الله عليهم
ـ بالأبدان العنصريّة وأنهم يتنعمون فيها في تلك النشأة كما نقل عيسى عليهالسلام وهو حي كذلك.
وقد صرّح بما
اخترناه جملة من علمائنا الأعلام مثل شيخنا مفيد الطائفة الحقة ومقدّم الفرقة
المحقّة أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان قدسسره في كتاب (شرح عقائد الصدوق) حيث قال ـ بعد نقل الخلاف
فيمن ينعّم ويعذّب بعد الموت هل هو الروح التي توجّه إليها الأمر والنهي والتكليف
ونحوها جوهرا ، أو روح الحياة جعلت في جسد كجسده في الدنيا؟ واختياره الأوّل ـ ما
صورته : (وقد جاء في الحديث أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ خاصّة والأئمّة عليهمالسلام من بعدهم ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء
فينعّمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا. وهذا خاصّ لحجج الله
دون من سواهم من الناس) انتهى كلامه ، طيّب الله ثراه وجعل الجنّة مثواه.
أقول
: وهذا هو الحق
الحقيق بالاتّباع ، فإنا لم نقف في الأخبار على ما يدلّ [على] ثبوت الأجساد
المثالية للأنبياء والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ بعد الموت فضلا عما ادّعاه ذلك
المحدّث من الوجود في الدنيا ؛ إذ غاية ما يستفاد من الأخبار بالنسبة إلى المؤمن
أنه بعد الموت تجعل روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، بحيث لو
رأيته لقلت : فلان. وأمّا بالنسبة إلى المعصومين عليهمالسلام فلم نعثر على خبر يدلّ على ذلك بالنسبة إليهم.
__________________
وظواهر هذه
الأخبار وكذا أخبار المعراج في حكاية النبي صلىاللهعليهوآله الاجتماع بالأنبياء والمرسلين في بيت المقدس ، وكذا في
السماء إنما تدلّ على ما ذكره شيخنا المفيد قدسسره.
ونقل شيخنا
المجلسي قدسسره في كتاب (البحار) عن الشيخ أبي الفتح الكراجكي في كتاب (كنز
[الفوائد] ) أنه قال : (إنّا لا نشكّ في موت الأنبياء عليهمالسلام غير أن الخبر قد ورد : [ب] أن الله تعالى يرفعهم بعد مماتهم
إلى سمائه ، وأنهم يكونون فيها أحياء منعّمين إلى يوم القيامة.
وليس ذلك بمستحيل في قدرة الله تعالى ، وقد ورد عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «أنا
أكرم على الله من أن يدعني في الأرض أكثر من ثلاث».
وهكذا عندنا
حكم الأئمّة عليهمالسلام ، قال النبي صلىاللهعليهوآله : «لو
مات نبيّ في المشرق ، ومات وصيّه بالمغرب لجمع الله بينهما» . وليست زيارتنا لمشاهدهم على أنّهم بها ولكن لشرف
المواضع ؛ فكانت غيبة [الأجساد] فيها ، وللعبادة أيضا ندبنا إليها) إلى آخر
كلامه.
وأمّا ما ذكره
شيخنا المجلسي فيما قدمنا من كلامه من حكاية نبش قبر الحسين عليهالسلام ، وأنهم وجدوه فيه ، وحكاية شعيب بن صالح ونحو ذلك ،
فظنّي أن أمثال هذه الحكايات لا يمكن الخروج بها عن صريح هذه الروايات. وأما ما
ذكره من بقيّة التأويلات فهي في البعد أظهر من أن تبيّن.
بقي الكلام في
تأويل خبري عظام آدم وعظام يوسف عليهماالسلام ، ويخطر ببالي في
__________________
ذلك وجه وجيه لم أعثر على من تقدّمني فيه ، وهو يتوقّف على بيان مقدّمة هي
أن المستفاد من جملة من الأخبار أن دفن الميّت إنما يقع في موضع تربته التي خلق
منها ، فروى في (الكافي) في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : «من خلق من تربة دفن فيها» .
وروى فيه أيضا
عن الحارث بن المغيرة قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله تعالى
ملكا فأخذ من التربة التي يدفن فيها فماثها في النطفة فلا يزال قلبه يحنّ إليها
حتى يدفن فيها» .
وروى فيه أيضا
في حديث دخول عبد الله بن قيس الماصر على أبي جعفر عليهالسلام وسؤاله له عن العلّة في تغسيل الميّت غسل الجنابة وهو طويل قال عليهالسلام فيه : «إنّ الله عزوجل يخلق خلّاقين ، فإذا أراد أن يخلق خلقا أمرهم فأخذوا من
التربة التي قال في كتابه (مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) ، فيعجن النطفة بتلك التربة التي يخلق منها بعد أن أسكنها
في الرحم أربعين ليلة ، فإذا تمّت له أربعة أشهر قال : يا ربّ تخلق ما ذا؟ فيأمرهم
بما يريد من ذكر أو انثى ، أبيض أو أسود. فإذا خرجت الروح من البدن خرجت هذه
النطفة بعينها كائنا ما كان ؛ صغيرا أو كبيرا ، ذكرا أو انثى فلذلك يغسل غسل
الجنابة» الحديث.
وحينئذ ، نقول
: ما ورد من الأخبار دالا على رفعهم عليهمالسلام من الأرض بالأبدان العنصريّة يجب تقييده بما دلّت عليه
هذه الأخبار من الدفن في الموضع الأصلي والمقر الحقيقي الذي أخذت منه الطينة. ويجب
حمل خبري عظام آدم
__________________
ويوسف عليهماالسلام على الدفن في غير الموضع المشار إليه ، فكأنه إنما وقع
على جهة الإيداع في هذا المكان لمصلحة لا نعلمها ، والمقرّ الحقيقي إنما هو الموضع
الذي أمر الله سبحانه بالنقل إليه بعد ذلك ، فيصير الدفن في ذلك الموضع من قبيل ما
لو بقي على وجه الأرض من غير دفن في وجوب بقاء الجسد العنصري وإن جاز انتقال كل
منهما عليهماالسلام إلى بدن مثاليّ في ذلك العالم ؛ لعدم إمكان نقل البدن
العنصري ؛ حيث إنه مأمور بنقله إلى ذلك المكان الآخر بعد الإيداع في هذا المكان
مدّة ، فمن أجل ذلك لم يرفعا به.
وأمّا وجه
الحكمة في الدفن أوّلا في ذلك المكان مع كونه ليس هو المكان الأصلي والتربة الحقيقية
فلا يجب علينا تطلّب وجهه ولا تحصيل علّته ، وإنما يجب علينا الإيمان بما وقع ،
كما في كثير من أسرار القدر والقضاء. وهو وجه وجيه تلتئم عليه الأخبار من غير
تأويل ولا خروج عن ظواهر ألفاظها.
بقي الكلام في
الجمع بين خبري (الثلاثة) و (الأربعين) ، ويمكن أن يكون وجهه حمل الأول على أقل
المدّة ، والثاني على أكثرها. ولعل ذلك يتفاوت بتفاوت مراتبهم عنده سبحانه
ومنازلهم لديه ، والله سبحانه وقائله أعلم.
فإن قيل : إنه
قد روى المشايخ الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ في الكتب الثلاثة وغيرهم في غيرها أن طينة
الأنبياء عليهمالسلام إنما اخذت من تحت صخرة في مسجد السهلة ، ففي حديث عبد
الله بن أبان عن الصادق عليهالسلام المرويّ في (الكافي) : «وإنّ فيه لصخرة خضراء فيها مثال كل نبيّ ، ومن
تحت تلك الصخرة اخذت طينة كل نبيّ» .
وفيما رواه في (الفقيه)
مرسلا عنه عليهالسلام قال في الخبر : «وتحته صخرة خضراء
__________________
فيها صورة وجه كلّ نبيّ خلقه الله عزوجل ، ومن تحته أخذت طينة كلّ نبيّ» .
وفي (التهذيب)
بسنده عنه عليهالسلام أيضا : «وفيه صخرة خضراء فيها صورة جميع النبيّين عليهمالسلام ، وتحت الصخرة الطينة
التي خلق الله منها النبيين عليهمالسلام » .
ولا ريب في
ظهور منافاة هذه الأخبار لما قدمتم من الأخبار الدالّة على أن كلّ أحد إنما يدفن
في الموضع الذي أخذت منه طينته ؛ لظهور أن الأنبياء عليهمالسلام قبورهم متفرّقة في الأرض ، مع أن طينتهم بمقتضى هذه
الأخبار من هذا الموضع المخصوص.
قلت : الأمر
كما ذكرت ولكن الظاهر في وجه الجمع بين أخبار الطرفين بأن يقال : إنه يجوز أن يكون
أصل الطينة من الموضع المذكور وإن عرض لها التفرق في المواضع التي صارت محلّا
لقبورهم. ويشير إلى ذلك ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن محمّد بن سليمان بن زرقان وكيل
الجعفري اليماني قال : حدّثني الصادق ابن الصادق عليّ بن محمّد صاحب العسكر قال :
قال لي : «يا زرقان
، إن تربتنا كانت واحدة فلما كان أيام الطوفان افترقت التربة فصارت قبورنا شتّى
والتربة واحدة» .
ومن الظاهر
البيّن الظهور أن تربتهم عليهمالسلام من تربة جدّهم صلىاللهعليهوآله الذي هو أحد الأنبياء الذين صرحت تلك الأخبار بأن
تربتهم اخذت من تحت تلك الصخرة.
وحينئذ ،
فالخبر ظاهر فيما قلناه واضح فيما ادّعيناه ، وفيه تأكيد أيضا للأخبار التي قدّمنا
، الدالّة على أن قبر كلّ أحد يقع في موضع تربته المأخوذة
__________________
منه ؛ ولهذا فرّع عليهالسلام افتراق قبورهم على افتراق التربة فقال : «افترقت التربة
فافترقت قبورنا شتى» . وأمّا قوله عليهالسلام في آخر الخبر : «التربة واحدة» ، فمعناه أنه مع افتراق أجزاء التربة في تلك المواضع
الشتّى لم يداخلها شيء من غيرها ، بل هي على حقيقتها ، وهي الطينة المقدّسة
المطهّرة المختارة عنده سبحانه كما استفاضت به الأخبار.
وقد وقفت في
هذا المقام على جواب لشيخنا العلّامة الشيخ سليمان البحراني قدسسره عن مثل هذه المسألة حيث قال السائل : ما اشتهر بين
الناس من أن كلّ إنسان لا بدّ أن يدفن في المكان الذي اخذت منه طينته ، هو صحيح أم
لا؟
فعلى الأوّل ما
تقول في بعض الروايات الواردة عن الأئمّة عليهمالسلام المشعرة بأن مسجد السهلة فيه صخرة اخذ من تحتها طينة
كلّ نبي ، مع أن كثيرا من الأنبياء لم يدفن فيه؟
فقال قدسسره : (الجواب أن الرواية بذلك غير صحيحة السند ، فلا
يتعيّن التعويل عليها في مثل هذا المقام ، وعلى تقدير تسليمها فيمكن أن تكون
الطينة التي تحت الصخرة انموذج طين الأنبياء المتفرّقة ، التي كل طينة في موضع.
ويمكن أن يكون هذا مخصّصا لعموم ما دلّ على أن كلّ إنسان يدفن في المكان الذي أخذت
منه طينته ؛ فيكون هذا العموم في غير الأنبياء عليهمالسلام. على أن الأحاديث من الجانبين غير نقية الأسناد ؛ فلا
يلزم الاعتماد عليها ، والله أعلم بذلك) انتهى.
أقول
: ظاهر جواب
شيخنا المذكور قدسسره يعطي أنه لم يتتبّع أخبار المسألة من الطرفين ، ولم يعط
التأمّل حقّه فيها في البين ؛ ولهذا أن معتمد جوابه إنما هو ردّ الأخبار من
الجانبين. وما ذكره من الاحتمالين في الجواب فإنما هو على تقدير
__________________
المماشاة والتسليم ، ولا يخفى ما فيه على الخبير العليم ؛ فإن أخبار
الطرفين كثيرة مروية في الاصول المعتمدة ، متّفق عليها بين علماء الطائفة. وكيف
كان فقد عرفت الجواب ، والله الهادي لمن يشاء.
(٥١)
درّة نجفيّة
في قاعدة التسامح في أدلّة
السنن
قال شيخنا
العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدسسره في رسالة له تتضمّن ذكر الأدلّة الدالة على التساهل في
أدلّة السنن والتسامح في مدارك الاستحباب ـ بعد نقل الأخبار الدالة على حصول
الثواب لمن بلغه ثواب على عمل فعله وإن لم يكن كما بلغه ، وهي اثنا عشر خبرا ،
والكلام في المسألة ـ ما صورته : (ورأيت لبعض الفضلاء هنا كلاما لا بأس بإيراده
والنظر فيه ، قال رحمهالله ـ بعد ذكر جملة من تلك الأحاديث التي أوردناها ـ : (قد
اعتمد هذا الاستدلال الشهيد الثاني وجماعة من المعاصرين).
وعندي فيه نظر
؛ إذ الأحاديث المذكورة إنما تضمّنت ترتّب الثواب على العمل ، وذلك لا يقتضي طلب
الشارع له ؛ لا وجوبا ولا استحبابا ، ولو اقتضى ذلك لاستندوا في وجوب ما تضمّن
الخبر الضعيف وجوبه إلى هذه الأخبار كاستنادهم إليها في استحباب ما تضمّن الخبر
الضعيف استحبابه.
وإذا كان الحال
كذلك فلقائل أن يقول : لا بدّ من شرعيّة ذلك العمل وخيريته بطريق صحيح ودليل مسلم
صريح جمعا بين هذه الأخبار وبين ما دلّ على اشتراط العدالة في الراوي. وأيضا الآية
الدالّة على ردّ خبر الفاسق ـ وهي قوله
تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ـ أخصّ من هذه الأخبار ؛ إذ الآية مقتضية لرد خبر
الفاسق سواء كان ممّا يتعلّق بالسنن أو بغيره .
وهذه الأخبار
تقتضي ترتّب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم سواء كان المخبر عدلا أو
غير عدل ، طابق الواقع أم لا. ولا ريب أن الأوّل أخصّ من الثاني ؛ فيجب تخصيص هذه
الأخبار بالآية جريا على القاعدة من العمل بالخاصّ في مورده ، وبالعام فيما عدا
مورد الخاصّ. فيجب العمل بمقتضى الآية ـ وهو ردّ الخبر الفاسق ـ سواء كان عن عمل
يتضمّن الثواب أو غيره ، ويكون معنى قوله عليهالسلام : «وإن
لم يكن كما بلغه ونحوه» إشارة إلى أن خبر العدل قد يكذب ؛ إذ الكذب والخطأ جائزان على غير المعصوم
، والخبر الصحيح ليس بمعلوم الصدق) انتهى كلامه .
وأنت خبير بما
فيه :
أمّا الأوّل :
فقد ظهر ممّا حرّرناه ضعفه ، على أن الحكم بترتّب الثواب على عمل يساوق رجحانه
جزما ؛ إذ لا ثواب على غير الواجب والمستحبّ كما لا يخفى.
وأمّا الثاني :
فمرجعه بعد التحري إلى أن الثواب كما يكون للمستحب كذلك يكون للواجب ، فلم خصّصوا
الحكم بالمستحبّ؟ كذا قرر السؤال بعض علمائنا المعاصرين . وجوابه أن
غرضهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ أن تلك الأحاديث إنما تثبت ترتّب الثواب على فعل ورد
فيه خبر يدلّ على ترتّب الثواب ، لا أنه يعاقب على تركه وإن صرّح به في الخبر
الضعيف ؛ لقصور في حدّ ذاته عن إثبات ذلك الحكم ، وتلك الأحاديث لا تدلّ عليه ،
فالحكم الثابت لنا من هذا الخبر بانضمام تلك الأخبار ليس إلّا الحكم الاستحبابي.
__________________
أقول : قد يقال
: إن اللازم ممّا حرّرناه كون الحكم الثابت بانضمام تلك الروايات هو مطلق الرجحان
الشامل للوجوب والاستحباب لا الحكم الاستحبابي بخصوصه ؛ إذ كما أن قيد
العقاب على تركه ممّا لا تدلّ عليه تلك الأخبار ، فكذلك جواز تركه لا إلى بدل لا
تدلّ عليه أيضا ، ولا سيّما مع تصريح الخبر الضعيف بضدّه ، أعني : العقاب على
تركه.
نعم ، قد يختصّ
الحكم بالاستحبابي باعتبار ضميمة أصالة عدم الوجوب ، وأصالة براءة الذمّة منه ،
فتأمّل. ولو لم يحرّر السؤال الثاني على الوجه الذي قررناه ، كان بطلانه أظهر
وفساده أبين كما لا يخفى.
وأمّا السؤال
الثالث ففيه :
أوّلا
: أن التحقيق أن
بين تلك الروايات وبين ما يدلّ على عدم العمل بقول الفاسق من الآية المذكورة
ونحوها عموما من وجه ، فلو قرّر السؤال على حدّ ما قرّره بعض المحقّقين هكذا لما
كان بينهما عموم من وجه كما أشرنا إليه ، فلا ترجيح لتخصيص الثاني بالأوّل ، بل
ربّما رجّح العكس ، لقطعيّة سنده وتأييده بالأصل ؛ إذ الأصل عدم التكليف ، وبراءة
الذمّة كانت أقرب إلى الاعتبار والاتجاه ، مع ما فيه من النظر والكلام ؛ إذ يمكن
أن يقال : إن الآية الكريمة إنما تدلّ على عدم [العمل بقول] الفاسق بدون
التثبّت. والعمل به فيما نحن فيه بعد ورود الروايات المعتبرة المستفيضة ليس عملا بلا تثبّت كما
ظنّه السائل ، فلم تتخصّص الآية الكريمة بالأخبار ؛ بل بسبب ورودها خرجت تلك
الأخبار الضعيفة عن عنوان الحكم المثبت في الآية الكريمة ، فتأمّل) انتهى كلام
شيخنا
__________________
المذكور ، رحمهالله تعالى برحمته.
أقول
: لا يخفى على
المتأمّل الماهر والخبير الباهر أن ما أطال به شيخنا المشار إليه ليس تحته مزيد
طائل ولا رجوع إلى حاصل ، لعدم انطباقه على كلام ذلك الفاضل وما قرّره من الدلائل
:
أمّا أوّلا ،
فما ذكره بقوله : (أمّا الأوّل ـ مشيرا به إلى قول ذلك الفاضل : (إذ الأحاديث
المذكورة إنما تضمّنت ترتّب الثواب) إلى آخره ـ فقد ظهر ممّا حرّرناه ضعفه) فيه
أنه لم يتقدّم منه في المقام ماله مزيد ربط أو دفع لهذا الكلام. ومراد ذلك الفاضل
بهذا الكلام أن غاية ما تضمّنته تلك الأخبار هو ترتب الثواب على العمل ، ومجرّد
هذا لا يستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك العمل ، فلا بدّ أن يكون هناك دليل آخر دال
على طلب الفعل والأمر به ليترتب عليه الثواب بهذه الأخبار وإن لم يكن موافقا
للواقع ونفس الأمر. وهذا كلام وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
وحينئذ ، فقول
شيخنا المذكور في الجواب : (إن ترتب الثواب على عمل يساوق رجحانه) ـ إلى آخره ـ كلام
شعريّ ، وإلزام جدليّ لا معنى له عند التأمّل ، فإن العبادات توقيفيّة من الشارع
واجبة كانت أو مستحبة لا بدّ لها من دليل صريح ونصّ فصيح يدلّ على مشروعيّتها ،
وهذه الأخبار لا دلالة فيها على الثبوت على الأمر بذلك ، وإنما غايتها ما ذكرناه. على أن ترتّب
الثواب وإن ساوق الرجحان كما ذكره ، لكن هذا القائل يمنع من ترتّب الثواب وما
يساوقه حتى يثبت دليل الأمر به.
فهذه الأخبار ـ
الدالة على أن من بلغه ثواب على عمل فعمله ابتغاء لذلك
__________________
الثواب كان له وإن لم يكن كما بلغه ـ مقيّدة عنده بوجود دليل على
المشروعيّة ، ولا خبر يدلّ على الأمر به كما عرفت من كلامه.
وأمّا ثانيا ،
فإن قوله : و (أمّا الثاني فمرجعه) ـ إلى آخره ـ مشيرا إلى قول ذلك الفاضل : (ولو
اقتضى ذلك لاستندوا في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه) ـ إلى آخره ـ فهو ممّا
يقضى منه العجب من مثل شيخنا المذكور ، وكذا من نقل عنه في خلال تلك السطور ، فإن كلام
الفاضل المذكور ينادي بلسان فصيح ونصّ صريح [بأن] مراده أنه لو اقتضى ترتّب
الثواب في هذه الأخبار طلب الشارع لذلك الفعل وجوبا أو استحبابا لكان الواجب عليهم
واللّازم لهم الاستناد إلى هذه الأخبار في وجوب ما تضمّن الخبر الضعيف وجوبه كما
جروا عليه بالنسبة إلى ما تضمّن الخبر الضعيف استحبابه ، مع أنهم لم يجروا هذا
الكلام في الواجب.
وحاصل الكلام
الالزام لهم بأنه لا يخلو إما أن يقولوا : إن ترتّب الثواب في هذه الأخبار يقتضي
الطلب والأمر بالفعل [أو] لا :
فعلى الأوّل
يلزمهم ذلك في جانب الوجوب كما فرضوه في الاستحباب ، مع أنهم لا يقولون به.
وعلى الثاني
فلا بدّ من دليل آخر يقتضي ذلك ويدلّ عليه. وإلى هذا أشار تفريعا على هذا الكلام
بقوله : (فلقائل أن يقول) إلى آخره.
هذا كلامه ـ طاب
ثراه ـ وهو كلام واضح البيان عار عن الخلل والنقصان. وما أدري ما الموجب لهم إلى
هذا الاضطراب في تحرير كلامه وتقرير مرامه ، حتى
__________________
بعدوا عن ظاهره بمراحل ، وأطالوا فيه بغير طائل ، وهو ظاهر مكشوف ، بيّن
معروف؟
وأمّا ثالثا ،
فإن قوله : (وأمّا السؤال الثالث) ـ إلى آخره ـ ممّا جرى في ذلك السبيل وصار من
ذلك القبيل ، وذلك فإن دعوى ذلك الفاضل أن الآية أخصّ مطلقا صحيح ؛ فإن الأخبار
دلّت على ترتّب الثواب على العمل الوارد بطريق عن المعصوم ، سواء كان المخبر عدلا
أو غيره ، طابق خبره الواقع أم لم يطابق ، من الواجبات كان العمل أو من المستحبات . ومورد الآية
ردّ خبر الفاسق سواء تعلّق بالسنن أو غيرها.
ولا ريب أن هذا
العموم أخصّ مطلقا ، ومن العجب قول شيخنا المذكور بناء على زعمه العموم
والخصوص من وجه وتقريره السؤال بما ذكره : (وحينئذ ، فالجواب أن يقال : إن الآية
الكريمة إنما تدلّ) ـ إلى آخره ـ فإن فيه خروجا عن كلام ذلك الفاضل ؛ لأن هذه
الأخبار لا تدلّ عنده على مشروعية العمل ، وإنما تدلّ على مجرّد ترتّب الثواب بعد
ثبوت المشروعيّة بدليل آخر. وحينئذ ، فكيف يحصل التثبت بها في العمل؟ وهل هذا الّا
أوّل المسألة ومحلّ النزاع؟
وبالجملة ، فإن
كلام ذلك الفاضل عندي في غاية المتانة والرزانة ، وما تكلّفوه في الجواب عنه مجرّد
تخريجات واهية وكلمات متهافتة كما لا يخفى على الناظر بعين الإنصاف ، والله سبحانه
أعلم.
ثم أقول : أنت
خبير بأن الكلام في هذه المسألة سؤالا وجوابا ونقضا وإبراما إنما ابتنى على هذا الاصطلاح
المحدث الذي جعلوا فيه بعض الأخبار ـ وإن كانت مروية في الاصول المعتمدة والدساتير
المتعدّدة ـ ضعيفة ، ورموا بها من
__________________
البين وإن كانوا عند الحاجة إليها يغمضون عنها العين ، ويتستّرون عن مخالفة
اصطلاحهم بالأعذار الضعيفة والتعليلات السخيفة ممّا ذكر في هذه المسألة وغيره.
وإلّا فمتى
قلنا بصحّة جملة أخبارنا المرويّة في اصولنا المعتبرة ودساتيرنا المشتهرة وأنها
أدلّة صحيحة شرعيّة موجبة لثبوت الأحكام كما عليه جملة المتقدّمين وشطر من
متأخري متأخّري علمائنا الأعلام ، فلا مجال لهذا البحث بالكليّة ؛ إذ العامل إنما عمل
على ذلك الخبر لكونه معتبرا معتمدا.
وهذا هو الأنسب
بالقواعد الشرعيّة والضوابط المرعيّة ؛ فإن الاستحباب والكراهة كالوجوب والتحريم
أحكام شرعيّة لا تثبت إلّا بالدليل الواضح والمنار اللائح ، ومتى كان الحديث
الضعيف ليس بدليل شرعي كما يزعمونه فلا يثبت به استحباب ؛ لا في محلّ
النزاع ، ولا غيره.
والتستّر هنا
بأن ثبوت الاستحباب إنما حصل بانضمام هذه الأخبار كما ادّعوه ، فيه ـ زيادة على ما
عرفت أيضا ـ أنه يؤدي إلى ثبوت الاستحباب بمجرّد رؤية أو سماع حديث يدلّ
على ترتّب الثواب في ظهر كتاب أو ورقة ملقاة ، أو بخبر عامّي ؛ لصدق البلوغ بكل من
هذه الامور كما دلّت عليه تلك الأخبار. والتزام ذلك لا يخلو من مجازفة في الأحكام
؛ ولهذا أن بعضهم تفطّن إلى ما ذكرنا ، فاشترط ثبوت أصل المشروعيّة احترازا عن
البدع ، وهو تقييد للنص بغير دليل.
__________________
والحقّ في
الجواب إنما هو ما ذكرناه من عدم صحّة هذا الكلام ؛ لعدم صحة أساسه المشار
إليه في المقام.
وقد نقل شيخنا
المشار إليه آنفا عن بعض الأصحاب نظم أخبار المخالفين في هذا السلك ، فجوّز الرجوع إليها
في المندوبات ، ثم قال قدسسره : (ولا ريب أن الأخبار المذكورة تشملهم ، إلّا إنه قد
ورد النهي في كثير من الأخبار عن الرجوع إليهم والعمل بأخبارهم. وحينئذ فيشكل الرجوع
إليها لا سيّما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة مخترعة وصورة مبتدعة لم يعهد مثلها في الأخبار) انتهى.
وبالجملة ،
فإنه لما كان البناء على غير أساس عظم فيه الالتباس والانعكاس ، والحق في المسألة
بناء على اصطلاحهم وردّهم الأخبار الضعيفة هو ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره ،
وأوضحناه غاية الإيضاح.
__________________
(٥٢)
درّة نجفيّة
في موضع الوقف من آية (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)
روى السيّد
الرضي رضياللهعنه في كتاب (نهج البلاغة) عن مسعدة بن
صدقة عن الصادق عليهالسلام ، وروى نحوه الصدوق في (التوحيد) والعياشي في
تفسيره أن أمير المؤمنين عليهالسلام خطب بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، وذلك أن رجلا أتاه
فقال : يا أمير المؤمنين ، صف لنا ربنا لنزداد له حبّا ومعرفة. فغضب عليهالسلام ونادى : «الصلاة جامعة». فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله ، فصعد المنبر وهو
مغضب متغير اللون فحمد الله سبحانه وصلّى على النبي صلىاللهعليهوآله وقال : «الحمد لله» ، وساق الخطبة.
إلى أن قال :
فقال عليهالسلام : «فانظر أيّها السائل ، فما دلّك القرآن عليه من صفته
فائتم به واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب
فرضه ولا في سنة النبي صلىاللهعليهوآله وأئمّة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنّ ذلك
مقتضى حقّ الله عليك. واعلم أن الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم الله عن
اقتحام السدد
__________________
المضروبة دون الغيوب ، والإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله
تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق
فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا. فاقتصر على ذلك ، ولا تقدر عظمة الله سبحانه
على قدر عقلك ؛ فتكون من الهالكين».
أقول
: ظاهر هذا الخبر
لا يخلو من الإشكال ؛ إذ الظاهر أن الإشارة بقوله : «واعلم أن الراسخين في العلم» ـ إلى آخره ـ إنما [هي] إلى قوله عزوجل (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ) الآية ، وهو مبنيّ على الوقف على لفظ (اللهُ) و (الرّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ) : جملة مركّبة من مبتدأ وخبر ، بمعنى أنه لا يعلم تأويل
(القرآن) كلّه : محكمه ومتشابهة إلّا الله تعالى خاصّة دون الراسخين ؛ وهو خلاف ما
دلت عليه الأخبار الكثيرة المؤذنة بعطف (الرّاسِخُونَ) على (اللهُ) ، وأن علم (الكتاب) كملا عنده عزوجل وعند الراسخين ، فيكون الوقف حينئذ على (الرّاسِخُونَ).
ومن الأخبار في
ذلك ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) ، والعياشي في تفسيره عن الصادق عليهالسلام قال : «نحن الراسخون في العلم ، ونحن نعلم تأويله».
والعياشي عن
الباقر عليهالسلام : «يعني
تأويل القرآن كلّه» .
وفي رواية : «فرسول
الله صلىاللهعليهوآله أفضل الراسخين في العلم ، قد علّمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله
لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ،
__________________
وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه» .
وفي (الكافي)
عن الباقر عليهالسلام أن الراسخين في العلم «من لا يختلف في
علمه» .
وفي كتاب (الاحتجاج)
عن أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث قال : «ثمّ إن الله عزوجل بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من
تغيير كلامه قسم كلامه ثلاثة أقسام ؛ فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ؛ وقسما
لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ؛
وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم.
وإنما فعل ذلك
لئلّا يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلىاللهعليهوآله من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى
الائتمار بمن ولّاه أمرهم ، فاستكبروا عن طاعته تعززا وافتراء على الله عزوجل ، واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله جلّ اسمه ورسوله صلىاللهعليهوآله» .
قال بعض
فضلائنا في شرح له على كتاب (نهج البلاغة) ـ بعد ذكر بعض هذه الأخبار في وجه الجمع
بينها وبين كلامه عليهالسلام في الخطبة المشار إليها ـ ما صورته : (ويمكن الجمع بأن
يحمل حكاية قول الراسخين على اعترافهم وتسليمهم قبل أن يعلّمهم الله تأويل ما
تشابه من (القرآن) ، وكأنّه سبحانه بيّن أنهم لمّا آمنوا بجملة ما أنزل من
المحكمات والمتشابهات ولم يتّبعوا ما تشابه منه كالذين في قلوبهم زيغ بالتعلق بالظاهر أو
تأويل باطل ، فآتاهم الله علم
__________________
التأويل وضمهم إلى نفسه في الاستثناء في الاستبعاد عن
مشاركتهم لله عزوجل في ذلك العلم ، وبيان أنهم إنما استحقّوا إفاضة ذلك
العلم باعترافهم بالجهل وقصورهم عن الإحاطة بالمتشابهات من تلقاء أنفسهم ، وإن
علموا التأويل بوحي إلهي.
وسيجيء في
كلامه عليهالسلام أنه لمّا أخبر ببعض المغيّبات قال له رجل : اعطيت يا أمير المؤمنين علم
الغيب؟ فقال عليهالسلام للرّجل وكان كلبيّا : «يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلّم
من ذي علم» . ويمكن أن يكون إقرارهم وتسليمهم بعد علمهم بالمتشابهات
بالتعليم الإلهي نظرا إلى عجزهم عن إدراكها من دون التعلّم ، وما هو شأنهم لو
خلّاهم الله وأنفسهم وإن سمّى الله عزوجل ـ رأفة بهم ـ ذلك المستفاد علما.
ويمكن أن يقال
: إن للآية ظهرا وبطنا :
أحدهما : أن
يكون المراد بالمتشابه : مثل العلم بكنه الواجب وما استأثر الله بعلمه من صفته
وغيرها. والوقف حينئذ على (اللهُ) ، وإليه يشير ظاهر الخطبة.
وثانيهما : أن
يراد به : ما علم الراسخون في العلم تأويله ، وإليه الإشارة في الأخبار. والوقف
حينئذ على (الْعِلْمِ) ويكون القارئ مخيرا في الوقف على أحد الموضعين.
ويمكن ألّا
يكون الإقرار والمدح في الخطبة إشارة إلى ما تضمّنته الآية ، بل إلى إقرارهم
بالعجز عن معرفة صفته والغيب المحجوب فيما بينهم وبين الله عزوجل ، ومدح الله سبحانه إيّاهم في الملأ الأعلى ونحوه.
فيكون المراد بالمتشابه :
__________________
ما علموا تأويله ، ويكون موضع الوقف في الآية (الْعِلْمِ) وهذه الوجوه وإن كان بعضها لا يخلو من بعد إلّا إنها
غاية ما خطر لي في مقام الجمع ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال) انتهى
كلامه زيد مقامه.
وأمّا المحدّث
الكاشاني في تفسيره (الصافي) فإنه أورد أولا الأخبار الاولى وفسّر بها الآية ، ثم
أورد أخبار الخطبة المشار إليها برواية الصدوق في (التوحيد) والعياشي في تفسيره ،
ولم يتعرّض للكلام في ذلك مع ظهور المنافاة كما عرفت بين أخبار الطرفين.
أقول
: والذي يخطر
ببالي العليل وفكري الكليل أنه لعلّ الأظهر في الجواب عن هذا الإشكال والجمع بين الأخبار الواردة
في هذا المجال هو أن يقال :
أوّلا
: إن لفظ (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قد ورد في آية اخرى غير الآية المتقدّمة وهي قوله
سبحانه (لكِنِ الرّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية.
ولا ريب أن
الرسوخ في العلم ليس منحصرا في مرتبة واحدة ، بل له مراتب متعدّدة كما فصّله شيخنا
العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني قدسسره في (شرح نهج البلاغة) ، أوّلها مرتبة الّذين اقتصروا في
صفات الله تعالى وملائكته وعالم غيبه على ما وقفتهم الشريعة عليه في الجملة ، كما
أوصله النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى أفهامهم ، وعلى هؤلاء يحمل كلام أمير المؤمنين عليهالسلام في الخطبة ، وإلى هؤلاء الإشارة بهذه الآية المذكورة
هنا.
__________________
وأمّا (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في الآية المتقدّمة التي وردت الأخبار بأنّها مخصوصة
بالأئمّة الأطهار دون غيرهم فتحمل على أعلى المراتب المناسبة لحالهم ، كما يشير
إليه قوله عليهالسلام في بعض الأخبار المتقدّمة : «فرسول الله صلىاللهعليهوآله أفضل الراسخين في
العلم ـ إلى قوله ـ : وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه». ويؤيّده ما استفاض في أخبارهم من أن علوم الرسول صلىاللهعليهوآله كلّها صارت إليهم يتوارثونها واحدا بعد واحد .
وبالجملة ، فـ (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قد وقع في آيتين ، فوجه الجمع بين أخبار الطرفين حمل
أخبار الخطبة على الآية التي ذكرناها والأخبار الاخر على تلك الآية التي وردت تلك
الأخبار بتفسيرها. ولا ريب أن كلامهم عليهمالسلام للناس على قدر ما تحتمله عقولهم ، كما روي عنه صلىاللهعليهوآله : «أمرت
أن أكلّم الناس على قدر عقولهم» .
ومن الظاهر
البيّن أن مرتبته صلىاللهعليهوآله ومرتبة أوصيائه عليهمالسلام في المعرفة والرسوخ لا تنسب إلى معرفة ذلك المخاطب
ونحوه ممّن يكون الرسوخ في حقهم هو الوقوع على ظاهر الشريعة ، ويمنعون عن البحث
عما زاد على ذلك خوفا عليهم من الوقوع في تيه الحيرة.
وأمّا ما يشعر
به كلام شيخنا العلّامة الشيخ ميثم قدسسره في شرحه من أن المراد بالراسخين في العلم في كلامه عليهالسلام هم المذكورون في الآية المتقدّمة ؛ وهي قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وأن الوقف فيها حينئذ على
__________________
لفظ (اللهُ). فالظاهر أنه ناشئ عن الغفلة عن الاطّلاع على تلك
الأخبار الواردة في تفسيرها كما عرفت.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن الشارح ابن أبي الحديد في شرحه على (النهج) قد تكلّم في هذا المكان بما
هو أشبه شيء بالهذيان ، وقد أشبعنا الكلام عليه في كتابنا (سلاسل الحديد في تقييد
ابن أبي الحديد). ولا بأس بنقل ذلك في المقام لما فيه من التنبيه على ضلال مثله
وإن كان من العلماء الأعلام ، وتعصبهم على الباطل الظاهر لجملة الأنام ، فنقول :
قال : (ونحن نبدأ قبل أن نحقّقه ونتكلّم فيه بتفسير قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، فنقول : إن من الناس من وقف على قوله (إِلَّا اللهُ) ، ومنهم من لم يقف على ذلك. وهذا القول أقوى من الأوّل
؛ لأنه إذا كان لا يعلم تأويله إلّا الله لم يكن في إنزاله ومخاطبة المكلّفين به
فائدة ، بل يكون كخطاب البهائم ، ومعلوم أن ذلك عبث.
فإن قلت : فما
الذي يكون موضع (يَقُولُونَ) من الإعراب؟
قلت : يمكن أن
يكون نصبا على أنه حال من (الرّاسِخُونَ) ، ويمكن أن يكون كلاما مستأنفا ، أي هؤلاء القائلون
بالتأويل يقولون (آمَنّا بِهِ).
وقد روي عن ابن
عباس أنه تأوّل آية فقال له قائل من الصحابة (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ، فقال ابن عبّاس (الرّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) ، وإنّا من جملة الراسخين في العلم ).
إلى أن قال
الشارح : (فقال عليهالسلام للسائل بعد غضبه واستحالة لونه وظهور أثر الإنكار عليه
: «ما دلّك
القرآن عليه من صفته» فخذ به ، فإن لم تجده في (الكتاب) فاطلبه من السنة ومن مذاهب أيمة الحقّ ،
فإن لم تجد ذلك فاعلم أن الشيطان
__________________
حينئذ قد كلّفك علم ما لم يكلّف الله. وهذا حقّ ؛ لأن (الكتاب) والسنّة قد
نطقا بصفات الله من كونه عالما قادرا حيّا مريدا سميعا بصيرا).
إلى أن قال : (ثم
قال عليهالسلام : إنّ الراسخين في العلم : الّذين عنوا بالإقرار بما
عرفوه عن الولوج والتقحم فيما لم يعرفوه ، وهؤلاء هم أصحابنا المعتزلة لا شبهة في
ذلك ، ألا ترى أنهم يعلّلون أفعاله بالحكم والمصالح ، فإذا ضاق عليهم الأمر في
تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع قالوا : نعلم على الجملة أن لهذا وجه حكمة
ومصلحة وإن كنّا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة ، كما يقولون في تكليف من يعلم الله
أنه يكفر ، وكما يقولون في اختصاص الحال الّتي حدث فيها العالم بحدوثه دون ما
قبلها وما بعدها؟) انتهى المقصود من نقل كلامه.
أقول
: انظر ـ أيّدك
الله تعالى ـ إلى هذا المحيل والضالّ الضلّيل ، المستحقّ لمزيد الإهانة والتنكيل ،
بتحريف الكلم عن مواضعها وتغميض عينه عند مشاهدة أنوار الحق ولا معها ، فإنه لما
كان كلامه عليهالسلام وقوله : «ممّا ليس في الكتاب فرضه ، ولا في سنّة النبي صلىاللهعليهوآله وأئمّة الهدى أثره» ، ظاهرا نيّرا في أن مراده عليهالسلام بأئمّة الهدى هو نفسه وأوصياؤه الأحد عشر ـ صلوات الله
عليهم ـ لأنهم هم النقلة الحفظة للسنّة النبويّة ، فما لم يوجد في الكلام العزيز ولا في
كلام الرسول صلىاللهعليهوآله ولا في كلامهم ، فهو ممّا يوكل علمه إلى الله [فغيّر] العبارة في
شرحه ، بل جرحه ـ حيث كانت ظاهرة في إمامتهم على رغم أنفه ـ تحاملا
عليهم وبغضا وعنادا وتعصّبا لأئمّته ، فقال : (فإن لم تجده في (الكتاب) فاطلبه من
السنّة ومن مذاهب أيمة (الحقّ ، فغيّر أيمة الهدى في كلامه عليهالسلام إلى أصحاب المذاهب من أئمّته ، مع أن
__________________
كلامه عليهالسلام صريح في قصر الأمر على (الكتاب) والسنة خاصة ، لكن
السنّة إما أن تؤخذ من كلام الرسول صلىاللهعليهوآله أو من كلامهم ؛ لكونهم عليهمالسلام حفظتها ونقلتها.
وهو لنصبه زاد
قسما ثالثا ، وهو مذاهب من يدّعي أنهم أئمّة الحقّ التي هي عبارة عن آرائهم وأهوائهم.
ثم ما أدري من أئمّة الحقّ الّذين أوجب الله تعالى اتّباع مذاهبهم في أصحابه حتى
يفسّر بهم كلام أمير المؤمنين عليهالسلام؟ أهم خلفاؤه الثلاثة الجهلة الّذين قد اعترف هو وأمثاله بجهلهم في غير
مقام ، أم أصحاب البدع الفظيعة والمناكر الشنيعة بين الخاصّ
والعامّ ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مقدمات الكتاب ، أم هم أئمّته الأربعة الّذين أفسدوا
الدين بآرائهم وقياساتهم المبتدعة ، ولا سيّما أبو حنيفة صاحب البدع الكسيفة ، أم
هم مشايخ المعتزلة الذين عزلوا الله عزوجل عن ملكه ، فقالوا في الدين بالتفويض ، وجعلوا له شركاء ، فصاروا
مع الجبريّة طرفي نقيض ومع هذا يزعم أنّهم الراسخون في العلم ، لاقتباسهم من أئمّة
الإماميّة مسألة تدخل تحت هذه القاعدة الكلية؟ ثم إن ما ادّعاه لأصحابه المعتزلة
من أنهم الراسخون في العلم بلا شبهة فيه :
أوّلا
: أنه مردود بما
استفاض في أخبار أهل البيت عليهمالسلام من أنهم هم المرادون بذلك في الآية المذكورة ، وهذا هو
المؤيّد بالأخبار المتّفق عليها بين الفريقين من أنهم عليهمالسلام أحد الثقلين اللذين لا يفارقون (القرآن) ولا يفارقهم
إلى يوم القيامة.
__________________
ومن الظاهر
البيّن أنه صلىاللهعليهوآله إنما قرنهم بـ (القرآن) على الوجه المذكور ، وجعل
التمسّك بهم معه منجيا من الضلال من حيث إن عندهم دون غيرهم علم محكمه ومتشابهه ،
وناسخه ومنسوخه ، وعامّه وخاصّه ، ومطلقه ومقيّدة ، فهم الراسخون في العلم حينئذ
دون غيرهم. ويدل على ذلك كلمات أمير المؤمنين عليهالسلام في هذا الكتاب في غير موضع كما تقدم وسيأتي إن شاء الله
تعالى .
وثانيا
: أن الله
سبحانه قد قرن الراسخين في العلم بنفسه في الآية بناء على ما اختاره من التفسير ،
وما ذلك إلّا باعتبار العلم بجميع ما نزل في (الكتاب) وادّعاء ذلك للمعتزلة
المعزولين عن اللطف الإلهي كذب محض وافتراء بحت.
وأوّل ما فيه
أنه لا يخفى مباينة مذاهب المعتزلة وجملة من عقائدهم واصولهم لأئمّة أهل البيت ـ صلوات
الله عليهم ـ وأظهر ذلك مسألة الإمامة وما يتفرّع عليها. والقول بأنهم الراسخون في
العلم المرادون من كلام الله تعالى وكلام أمير المؤمنين عليهالسلام يوجب تخطئة الأئمّة المعصومين ، والقول بذلك باطل اتّفاقا من المخالف
والمؤالف ، وردّ لأخبار الرسول صلىاللهعليهوآله ، لا يرتكبه إلّا زنديق لم يؤمن بالله ولا رسوله.
وثالثا : أن
منشأ الشبهة والتوهّم لتخصيصه أصحابه بالراسخين في العلم هو ما ذكره بعد أن اختار
عطف (الرّاسِخُونَ) على (اللهُ) من أن جملة (يَقُولُونَ) في موضع نصب على الحال ، أو جملة مستأنفة في موضع الصفة
للراسخين .
وفيه أنه لا
يخفى أن كلام أمير المؤمنين عليهالسلام في هذه الخطبة لا ينطبق
__________________
بظاهره على الآية بهذا التأويل الذي ذكره ، وإنما ينطبق عليها على تقدير
الوقف على (اللهُ) ، وجعل (الرّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) وما بعده جملة مستقلة.
وبيان ذلك أنه
متى عطف (الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على (اللهُ) ، كما اختاره ـ وذكرنا أنه المروي في أخبارنا ـ يلزم أن
يكون (الرّاسِخُونَ) شركاء له تعالى في علم (الكتاب) كملا بتعليمه لهم ذلك
محكمه ومتشابهه ؛ إذ هو مقتضى العطف.
وحينئذ فإذا
كان الراسخون يعلمون ، فلا معنى لوقوفهم عند المتشابه كما يدلّ عليه كلامه ، وعدم
الخوض في تفسيره والاقتصار على قولهم (آمَنّا بِهِ) ، المؤذن بالردّ والتسليم.
وحينئذ ، فلا
بدّ في تطبيق كلامه عليهالسلام على الآية بناء على العطف الذي اختاره من ارتكاب
التأويل بأحد الوجوه التي تقدّمت عن بعض أصحابنا ، أو ما اخترناه من الإشارة إلى
تلك الآية الاخرى إلّا إنه خارج عن كلامه. وبذلك يظهر أنه لا مجال لما ذكره من
افتخاره بأن أصحابه هم الراسخون في العلم المرادون من الآية ومن كلامه عليهالسلام ، لوقوفه في موضع التشابه والحيرة والعجز عن الدليل التفصيلي.
ورابعا : أنهم
وإن وافقوا في تلك المواضع التي عدّها بناء على ما ذكره إلّا إنهم قد خالفوا في
غيرها ممّا أدلّته العقليّة والنقليّة أوضح واضح ، ولا سيّما قولهم بالتفويض ،
وعزل الله سبحانه عن ملكه ، ومخالفتهم في الإمامة التي عليها بناء الإيمان والكفر
، كما أوضحناه في الكتاب بأوضح بيان.
وأيضا فاحتجاجه
بكلامه عليهالسلام هنا واستناده إليه لا يجدي نفعا مع تحامله عليه وعلى
أولاده الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وإنكار إمامتهم الظاهرة
__________________
من هذا الكتاب ، ورمي كلماته الواضحة في إمامتهم بالتأويلات السوفسطائية
والترّهات الظلمانيّة.
وخامسا : أن
الراسخين في العلم لا يقع منهم اختلاف في شيء من مسائل العلم ، والمعلوم منهم
خلافه.
إلى غير ذلك من
الوجوه الظاهرة في بطلان هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأذهان الثاقبة
والأفهام.
(٥٣)
درّة نجفيّة
في معنى قوله عليهالسلام
: إن أصحاب الكهف كانوا صيارفة
روى الصدوق ـ عطّر
الله مرقده ـ في كتاب (من لا يحضره الفقيه) بسنده إلى سدير الصيرفي قال : قلت لأبي
جعفر عليهالسلام : حديث بلغني عن الحسن البصري ، فإن كان حقا فإنا لله
وإنّا إليه راجعون. فقال : «وما
هو؟». قلت : بلغني
أن الحسن يقول : لو غلى دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفي ، ولو تفرّث
كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماء. وهو عملي وتجارتي وعليه نبت لحمي ودمي ،
ومنه حجّي وعمرتي؟ قال : فجلس عليهالسلام ، فقال : «كذب الحسن
، خذ سواء وأعط سواء ، [فإذا] حضرت الصلاة فدع ما
بيدك وانهض إلى الصلاة. أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟». يعني صيارفة الكلام ، ولم يعن صيارفة الدراهم .
وقال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «ويل
لتجار أمّتي من (لا والله) و (بلى والله) ، وويل لصياغ أمّتي من اليوم وغد» انتهى.
أقول
: هذا الخبر من
مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار وقد اضطربت في
__________________
حلّه الآراء والأفكار ، واختلفت في المعنى المراد منه الأفهام والأنظار ،
وقد رواه الشيخان الجليلان ثقة الإسلام في (الكافي) والشيخ في (التهذيب)
إلى قوله : «أما
علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟» والصدوق قد زاد قوله : (يعني صيارفة الكلام) إلى آخره.
وهذه الزيادة قد نسبها بعضهم للإمام عليهالسلام ، وبعضهم إلى الراوي ، وبعضهم إلى
الصدوق ، وهو الظاهر كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المقام
بما تنقشع به غشاوة الإبهام.
وعلى أيّ من
هذه الوجوه فالمعنى المراد من نسبة الصرف إلى أهل الكهف ممّا قد اختلفت فيه ـ لغموضه
ـ الأفهام ، وكثرت فيه احتمالات علمائنا الأعلام ، وها نحن نسوق لك جملة ما وقفنا
عليه من كلماتهم في هذا المقام ، ونردفه بما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من
أخبارهم عليهمالسلام ، التي بها ينحلّ بعض الاشتباه في هذا الكلام وما ظهر
لنا من المعنى المراد.
قال المحدّث
المولى محسن الكاشاني في كتاب (الوافي) ـ بعد نقل الخبر من (الكافي) ، و (الفقيه)
ـ ما صورته : (وفي (الفقيه) في آخر الحديث : (يعني صيارفة الكلام ، ولم يعن صيارفة
الدراهم) هذا كلامه ولم أدر ما عنى به) انتهى.
وظاهر كلامه قدسسره حمل هذه العبارة على أنها من كلام صاحب (الفقيه) ،
ولكنه لم يهتد إلى ما هو المراد منها ، حيث فهم من الخبر كون أهل الكهف صيارفة
__________________
الدراهم كما هو المناسب لسياق الكلام الذي تتبادر إليه الأفهام ، ولم يعلم
الحامل للصدوق على هذا التفسير وإخراج الكلام عن ظاهره.
وقال المحقّق
الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني قدسسرهما في حواشيه على الكتاب ما صورته : (غاية ما يوجّه به متن
الحديث إن سلم من النقص ، وتوافقت فيه النسخ أن يكون (يعني) ـ بصيغة المفعول ـ وكذا
(لم يعن) ، فيكون المراد : أن الحسن وهم في تأويل ما روي في الصيارفة ، فإن المعنيّ بها صيارفة
الكلام لا صيارفة الدراهم ، بناء على ما ورد في قول رسول الله صلىاللهعليهوآله من التهديد لمن يصرف الكلام في المواعيد وغيرها) انتهى.
واقتفاه في هذه
المقالة ابنه الفاضل الشيخ محمد ابن الشيخ حسن في حاشيته على الكتاب أيضا ، إلّا
إنه اختار جعل الفعلين مبنيين للفاعل ، أي يعني رسول الله صلىاللهعليهوآله فيما ورد منه في ذمّ الصيرفي : صيرفي الكلام كما نبه
عليه : (وقال رسول الله) ـ إلى آخره ـ خصوصا على نسخة «الصّياغ» ـ بالتحتانيّة والمعجمة ـ إن صحّت هذه النسخة ، يعني :
أن فيهم ذلك أغلب من غيرهم.
أقول
: فظاهر
كلاميهما ـ طيّب الله مرقديهما ـ أن هذه الجملة من كلام الإمام عليهالسلام كما أشرنا إليه آنفا ، وأن قصده عليهالسلام بها الردّ على الحسن البصري. ولا
__________________
__________________
يخفى ما فيه من البعد الظاهر ، ولزوم التعمية والتعقيد
والمنافاة ، لرواية سدير .
وقال بعض
الفضلاء في جملة كلامه على كلام الشيخ حسن ـ بعد ما ذكرنا أنه يستلزم التعقيد
الشديد ـ : (ثم إن نسبة التوهّم إلى الراوي في فهم ذلك من كلام الإمام عليهالسلام أو تفسير ذلك على مقتضى اعتقاده أولى من نسبة الكلام
المعقد إلى الإمام عليهالسلام. على أن تزييف مقالة بتزييف دليلها الذي لم يذكره صاحب
القول لا يليق بمن له مهارة في علم الجدل ، فكيف بالإمام عليهالسلام؟
فلعل ما استند
إليه الحسن ورد بلفظ (صيارفة الدراهم) ، أو بغير لفظ (الصيارفة) ، إلّا أن يقال :
إن الإمام عليهالسلام علم ذلك بعلم مختصّ بهم عليهمالسلام. ثم لا حاجة في هذا التوجيه إلى جعل الفعلين مجهولين ،
فليكونا للنبي صلىاللهعليهوآله ، ولعلّ انتقال الذهن في مثل ذلك إليه صلىاللهعليهوآله أقرب) انتهى ، وهو في محله.
وقال الشيخ علي
سبط المحقّق المذكور في كتاب (الدرّ المنظوم والمنثور) ـ بعد نقل كلام جدّه الشيخ
حسن المتقدّم ـ ما صورته : (أقول : قد خطر لي وجه آخر وهو أن يكون المراد : أن
الصرف الممنوع منه إنما هو باعتبار الزيادة والنقصان ، فإذا أخذ سواء وأعطى سواء
فلا منع. وليس ذلك لمجرّد التسمية ـ
__________________
__________________
وإلّا فأهل الكهف كانوا صيارفة ـ بل باعتبار الفعل المذكور ، وحاصله الردّ
على الحسن البصري من حيث إنه توهم المنع من حيث التسمية ، فنبّه عليهالسلام على أن المنع من الجهة المذكورة. وقوله : (يعني) من
كلام الصدوق رحمهالله ، والله أعلم) انتهى كلامه وهو جيّد.
وقال الفاضل
الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح النجفي قدسسره في كتاب (مجمع البحرين) : (وفي الحديث : لو تفرثت كبده
عطشا لم يستسق من دار صيرفي ، هو من صرفت الدراهم بالذهب :
بعته. واسم الفاعل من هذا (صيرفي) ، و (صرّاف) للمبالغة ، وقوم صيارفة ، الهاء فيه
للنسبة ، ومنه : «أما
علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة؟» قال الصدوق رحمهالله : (يعني صيارفة الكلام ولم يعن صيارفة الدراهم).
وعن بعض
المعاصرين من شراح الحديث : (المعنى : كأن الإمام عليهالسلام قال لسدير : مالك ولقول الحسن البصري؟ أما علمت أن أصحاب
الكهف كانوا صيارفة الكلام ونقدة الأقاويل ، فانتقدوا ما قرع أسماعهم ، فاتّبعوا
الحق ورفضوا الباطل ولم يسمعوا لما في أهل الضلال وأكاذيب رهط السفاهة؟ فأنت أيضا
كان صيرفيّا لما يبلغك من الأقاويل ناقدا آخذا بالحقّ رافضا للباطل. وليس المراد أنّهم كانوا صيارفة
الدراهم كما هو المتبادر إلى بعض الأفهام ؛ لأنهم كانوا فتية من أشراف الروم مع
عظم شأنهم وكبر خطرهم) انتهى كلامه.
ويتوجّه عليه
أن من الممكن أن يقال : إن قوله : (يعني) ـ إلى آخره ـ ليس هو من كلام الإمام عليهالسلام وإنما هو من كلام الصدوق رحمهالله ، يدلّ على ذلك أن هذه الرواية بعينها ذكرت في (التهذيب)
في باب الحرف المكروهة إلى قوله : «إنّ أصحاب
__________________
الكهف كانوا صيارفة» ، بدون الزيادة المذكورة.
وحينئذ ، فلا
مانع من حمل الرواية على ظاهرها ، ويكون فيها دلالة على جواز الصرافة المخصوصة
ردّا على الحسن حيث اعتقد عدم جواز فعلها كما دلّ عليه قوله : «كذب الحسن ، خذ سواء
وأعط سواء ».
وحينئذ ، فلا
ينافي كونها من الحرف المذمومة اتّصاف أهل الكهف بها مع كونهم أشرافا ؛ لأن شرع من
تقدّمنا غير شرعنا ؛ فلعلّها فيه لم تكن مكروهة. وإذا كان الأمر كذلك حملنا الصرف
على معناه الحقيقي دون غيره ولا حاجة إلى التكلّف) انتهى كلامه
زيد إكرامه.
أقول
: أمّا ما نقله
عن بعض معاصريه ، فإنه وإن كان جيدا في حدّ ذاته إلا إن سياق الخبر لا ينطبق عليه
؛ لأن الظاهر أن قوله عليهالسلام : «أما
علمت أن أصحاب الكهف» ـ إلى آخره ـ خرج مخرج الدليل والحجّة على ما ذكره عليهالسلام أولا من جواز الصرف على الوجه المذكور [و] على ما ذكره
هذا الفاضل يكون كلاما منفصلا خارجا عن سياق الحديث محتاجا إلى
تقدير المقدمة التي ذكرها بقوله : مالك ولقول الحسن البصري ، مع أنه لا دليل في
الكلام عليها ، بل ولا إشارة إليها.
وأيضا فيه أن
قوله : (يعني) و (لم يعن) وقع في البين ؛ إذ لم يعلم الفاعل لهذين اللفظين ، وكان
المناسب على تقدير كلامه وأنه من كلام الإمام عليهالسلام مفسرا به كون أصحاب الكهف صيارفة أن يقال : (أعني) و (لم
أعن).
__________________
وبالجملة ،
فإنه بعيد الانطباق على السياق كما لا يخفى على الجهابذة الحذّاق.
وأما ما ذكره
الشيخ فخر الدين قدسسره ، ففيه :
أوّلا
: أنه وإن أصاب في
نسبة الزيادة المذكورة إلى الصدوق إلّا إن استدلاله على ذلك بوجود الرواية في (التهذيب)
عارية عن هذه الزيادة لا دلالة فيه ؛ إذ لا مانع من أن يروي الراوي الخبر تارة
بزيادة على ما رواه [و] مرة اخرى بدونها ، بل هو كثير في الأخبار كما لا يخفى على
من [خاض] تيار تلك البحار ؛ ولهذا صرّح جملة من الأصحاب بجواز
العمل بتلك الزيادة ما لم تكن مغيّرة للمعنى المراد من الخبر. وسيتّضح لك إن شاء
الله تعالى أن ما دلّت عليه هذه الزيادة هو المعنى المراد من قوله عليهالسلام : «إن
أهل الكهف كانوا صيارفة».
وثانيا
: أن مقتضى كلامه كون
أهل الكهف كانوا صيارفة الدراهم ، وأنه لا ينافي شرفهم ؛ إذ لعلّ ذلك لم يكن
مذموما في شرعهم كما هو مذموم في شرعنا ، مع أن الأخبار الآتية في المقام إن شاء
الله تعالى دالة على أنّهم صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم ترده ، ولكن عذره ظاهر
حيث لم يقف عليها.
وثالثا : أنه
لا معنى لقول الصدوق رحمهالله بناء على كلامه هذا : (يعني صيارفة الكلام) ـ إلى آخره
ـ لأنه إذا فرض كون أهل الكهف كانوا صيارفة الدراهم كما عرفت ، فتفسير الصدوق
لكونهم صيارفة بمعنى صيارفة الكلام باطل ، ودعوى بغير دليل ، وليس كذلك كما سيظهر
لك إن شاء الله تعالى. ومحلّ الإشكال في هذا المقام إنما نشأ من هذه العبارة ،
وإلّا فلو لم توجد لتم الدست بما ذكره من الكلام.
__________________
ونقل بعض
مشايخنا المعاصرين عن بعض الأفاضل بل أكثر الناظرين في الكتاب أن هذه الزيادة من
كلام سدير الراوي للخبر وإن رواه تارة بدونها.
والظاهر بعده
كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
ونقل شيخنا
المشار إليه أيضا أنه كتب بعض الفضلاء على قوله : «يعني صيارفة الكلام» ـ إلى آخره ـ ما نصّه : (هذه الزيادة لم توجد في (الكافي)
ولا في (التهذيب) فهي من كلام الصدوق رحمهالله وقع تفسيرا لقوله : «إنّ أهل الكهف كانوا صيارفة» ، وإنما عدل عن الظاهر استبعادا لكون أهل الكهف كذلك مع
ما اشتهر من كونهم من أبناء الملوك.
لكن لا يخفى
على المنصف أنه يقتضي تهافت الكلام وانحلال النظام وكون قوله عليهالسلام : «أما
علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة» غير واقع موقعه ؛ لظهور عدم صلوحيته لتعليل ذمّ صيرفي
الدراهم ، والتزام مثل هذه الشناعة وارتكاب هذا المحذور بمجرّد الاستبعاد المذكور ممّا لا
يستحسنه المصنف) انتهى.
أقول
: عذر الفاضل في
اعتراضه واضح حيث لم يطّلع على مستند الصدوق فيما ذكره من التفسير إلّا إن نسبته
له إلى أن الحامل له على هذا التفسير ما ذكره من الاستبعاد رجم بالغيب ورمي في
الظلام ، ومن أين علم ذلك حتّى يبني عليه التشنيع في هذا المقام؟
واعتراضه بعدم صلوحيّة التعليل كما ذكره إنما يتوجّه على الأخبار التي هي مستند
الصدوق فيما ذكره لا على الصدوق ، ولكنّه حيث لم يقف على تلك الأخبار وقع فيما وقع
فيه من هذا الكلام الخارج عن جادة الاعتبار ، وكان الأولى الاعتراف بعدم العلم
بمراد الصدوق من هذا الكلام ، كما سلف في كلام المحدّث الكاشاني قدسسره.
__________________
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنه قد روى الثقة الجليل أبو النصر محمّد بن مسعود العياشي ـ روّح الله روحه
ـ في تفسيره في سورة (الكهف) عن درست عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه ذكر أصحاب الكهف فقال : «كانوا صيارفة كلام
ولم يكونوا صيارفة دراهم» .
وروى الشيخ
الجليل سعيد بن هبة الله الراوندي في كتاب (قصص الأنبياء) بسنده عن الصدوق عن
محمّد بن علي ماجيلويه عن محمّد بن يحيى العطّار عن الحسين بن الحسن بن أبان عن
محمّد بن أرومة عن الحسن بن محمّد الحضرمي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي
عبد الله عليهالسلام ـ وذكر أصحاب الكهف ـ : «لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم ما فعلتم
فعلهم » فقيل له : وما كلّفهم قومهم؟ قال : «كلّفوهم الشرك بالله
فأظهروه لهم وأسروا الإيمان حتى جاءهم الفرج».
وقال : «إنّ أصحاب الكهف
كذبوا فآجرهم الله ، وصدقوا فآجرهم الله ».
وقال : «كانوا صيارفة الكلام
ولم يكونوا صيارفة الدراهم».
وقال : «خرج أهل الكهف على
غير ميعاد ، فلما صاروا في الصحراء أخذ هذا على هذا وهذا على هذا العهد والميثاق ،
ثم قال أظهروا أمركم. فأظهروه فإذا هم على أمر واحد وهو الدين الحقّ».
وقال : «إنّ أصحاب الكهف
أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر ، وثوابهم على إظهارهم الكفر أعظم منه على إسرارهم
الإيمان».
قال ـ : «وبلغ
التقيّة بأصحاب الكهف أن كانوا يشدّون الزنانير ويشهدون الأعياد ،
__________________
فأعطاهم الله أجرهم مرّتين» .
أقول
: هذان الخبران
مستند شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ فيما ذكره من التفسير ، لكنه حيث خفي على
القوم ، وقعوا فيما وقعوا فيه من الخبط والاشتباه إلى هذا اليوم ، حتى مدّ بعضهم ـ
كما عرفت ـ عليه لسان العتب واللوم ، ولم يعلموا أن هذه عادته ـ طاب ثراه ـ في
تفسير الأخبار بعضها ببعض وإن بعد.
وحينئذ ، فيعود
الإشكال في الخبر المذكور بحذافيره ، ويتعاظم الخطب فيه ، وتسقط أكثر الاحتمالات
التي ذكروها في الجواب عنه.
قال الفاضل
المحقّق خليفة سلطان في حواشيه على كتاب (من لا يحضره الفقيه) ـ بعد نقله الخبر
الثاني وكلام له قبل نقله ـ ما صورته : (وبعد الاطلاع على هذا الحديث ظهر لنا أن
هذه الفقرة من كلام المصنّف مأخوذة من الحديث المذكور أن صرف الكلام في مقام
التقيّة أمر ممدوح وإن كان في غيره مذموما.
ومقصود الإمام عليهالسلام من بيان أنهم كانوا صيارفة الكلام الترغيب في استعمال
التقيّة ، وفي قوله عليهالسلام : «ما
فعلتم فعلهم» نوع شكاية من شيعته في الإفتاء وترك التقيّة.
بقي هاهنا أن
رواية سدير مناسقة للترغيب في صرف الدراهم ، ولا مدخل في ذلك لكون أهل الكهف
صيارفة الكلام ، وغاية ما يمكن أن يقال : إن أمثال هذه التنظيرات موجودة في
الأحاديث ، مثل ما روى في (الكافي) في باب الكفالة والحوالة عن حفص البختري قال :
أبطأت عن الحجّ فقال لي أبو عبد الله عليهالسلام : «ما
أبطأك عن الحجّ؟». فقلت : جعلت فداك تكفّلت برجل فخفر بي. فقال : «مالك والكفالات؟ أما
علمت أنها أهلكت القرون الاولى؟» ثم قال : «إن قوما أذنبوا ذنوبا
__________________
كثيرة فأشفقوا منها خوفا شديدا ، فجاء آخرون فقالوا : ذنوبكم علينا فأنزل
الله عزوجل عليهم العذاب ، ثمّ قال تبارك وتعالى : خافوني واجترأتم
عليّ» انتهى.
انظر كيف قاس عليهالسلام كفالة الأموال بكفالة الأنام) انتهى كلامه علا في الخلد
مقامه.
أقول
: ما ذكره قدسسره في معنى الخبر الذي نقله جيّد إلّا إنه لم يأت على
الإشكال الذي في الباب ، ويمكن أن يقال ـ والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال ـ
: إنه لما كان الصيرفي كما يطلق على صيرفي النقود وكذلك يطلق على صيرفي الكلام
بالزيادة والتحسين لتحصيل مطلب منه ، قال في (النهاية) الأثيرية : (في حديث موسى الخولاني : (من
طلب صرف الحديث يبتغي به إقبال وجوه الناس إليه) [أراد بصرف] الحديث : ما
يتكلّفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة.
وإنما كره ذلك
، لما يدخله من الرياء والتصنّع).
ثم قال : (يقال
: فلان لا يحسن صرف الكلام ، أي فضل بعضه على بعض ، وهو من صرف الدراهم وتفاضلها) انتهى.
وقال في (القاموس)
: (وصرف الحديث أن يزاد فيه ويحسّن ، من الصرف في الدراهم ، وهو فضل بعضه على بعض
في القيمة ، وكذلك صرف الكلام) انتهى.
وأهل الكهف
كانوا صيارفة بالمعنى الثاني يعني جهابذة نقادا يفصلون بين هرج الكلام وصحيحه ،
ويميّزون بين خطئه وصوابه. فالواجب أن يقال هنا : إنه إذا كان الأمر كذلك ، فكيف
يتّجه ذمّ صيارفة الدراهم والإزراء بهم مطلقا إلى الحدّ
__________________
الذي ذكره الحسن البصري؟ إذ المدح والذم والثواب والعقاب لا تناط بمجرّد
الإطلاقات اللفظية من حيث هي وإنما تناط بالمعاني ، ولا شبهة في أن الفصل بين
الصحيح والرديء في الجملة من حيث هو فصل وتميّز ليس بمحرّم ولا مكروه ، وإنما
الحرام أو المكروه فصل خاص يقع من بعض الصيارفة.
ويقرب من هذا
الكلام ما ذكره بعض الأعلام في هذا المقام حيث قال : (حاصل الاستشهاد أنه ليس في
لفظ الصيرفي ولا في معناه ما يوجب مقالة الحسن البصري ، لتحققها في أهل الكهف
وغيرهم من الصلحاء ؛ أما اللفظ فظاهر ، وأمّا في المعنى ، فلأن معنى [الصيرف] هو المحتال
المتصرّف في الامور على ما صرّح به أهل اللغة ، وذلك مشترك بين أصحاب الكهف باعتبار تصرّفهم في
الكلام وتمييز الصحيح منه من الفاسد واختيار الصحيح للعمل ، وصيارفة الدراهم
باعتبار تصرفهم في الدنانير والدراهم وتبديلها وتميزهم بين الجيّد
والزيف.
وإذا كان النقد
ممّا لم ينه الشارع كما نبّه عليه عليهالسلام بقوله : «خذ سواء وأعط سواء» ، كان كتصرف أصحاب الكهف في الكلام ، فلا قصور في
الصيرفي من حيث هو صيرفي ولا من حيث هو صيرفي دراهم ، بل القصور لو كان في تصرفه
الخاص) انتهى.
وبالجملة ، فإن
لفظ الصيارفة لمّا كان واقعا على كل من المعنيين المتقدّمين ، والمدح والذمّ لا [يناطان]
بمجرّد الإطلاق ، بل بالمعاني المرادة من تلك الألفاظ ، فكل ما يترتّب على
صيارفة الدراهم من مدح وذمّ باعتبار الوقوف على
__________________
قواعد الشريعة والخروج عنها يترتّب على صيارفة الكلام بالاعتبار المذكور.
ألا ترى أنه عليهالسلام في خبر الكفالة المشار إليه آنفا قد أجرى كفالة النفوس
مجرى كفالة الذنوب من حيث اشتراكهما في المعنى المترتب على ذمّ ذلك ، فاستشهد على
ذمّ كفالة النفوس بحديث كفالة الذنوب ، كذلك استشهد هنا على ذمّ صيرفي الدراهم
بكون أهل الكهف صيارفة لعين ما ذكر؟ والله العالم.
__________________
(٥٤)
درّة نجفيّة
في عقد الولي بالصغير أو
الصغيرة
لو عقد الأب
بابنته الصغيرة متعة لأجل أن يكون الزوج محرما ، يحلّ له النظر إلى امها وجدّتها ،
وكذا لو عقد بابنه الصغير على امرأة بالغة لأجل أن يحلّ للأب نظرها ، فهل يكون ذلك
عقدا صحيحا يترتّب عليه ما يترتب على العقود الصحيحة أم لا؟ لم أقف في ذلك على
تصريح في كلام أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ إلّا إن من أدركناه من شيوخنا
وأساتيذنا وغيرهم من الفضلاء الأعلام وأرباب النقض والإبرام على الأوّل ، وقد كان
شيخنا علّامة الزمان ونادرة الأوان الشيخ سليمان ابن عبد الله البحراني قدسسره لمّا أراد إرسال بعض أزواجه إلى حجّ بيت الله الحرام
عقد بابنته وهي طفلة على رجل يسمى الحاج سبت ؛ لأجل خدمة الزوجة المذكورة وحصول
المحرمية.
ولم أسمع ما
يخالف ذلك في مدّة تلك الأزمان في مدّة تقرب من أربعين سنة ، حتّى توطّنت برهة من
الزمان في شيراز من ولاية العجم ، فسمعت جملة من الطلبة يخوضون في هذه المسألة ،
ويسألون عن جواز حلّ النظر في المسألة المذكورة ، وينقلون عن بعض علمائهم التوقّف
في حل النظر وإن كان العقد صحيحا ؛ استنادا إلى أن الآية الدالّة على ما يحلّ
إبداؤه للمرأة للمحارم ـ وهي
قوله عزوجل (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية لم يذكر فيها هذا الفرد ، وحينئذ فلا يجوز النظر
في الصورة المذكورة.
ثمّ بعد توطّني
في العراق في مشهد مولانا الحسين ـ عليه وعلى آبائه المعصومين وأبنائه الطاهرين
أفضل الصلوات والتسليمات ـ سمعت أن هذه الشبهة سرت إلى أذهان بعض علماء العرب أيضا
؛ للآية المذكورة. ثمّ سمعت أن بعض الفضلاء المعاصرين ذهب إلى بطلان العقد من أصله
، مستندا إلى أن المستفاد من الشرع العقود بالقصود ، ومن المعلوم أن العقد
المذكور لم يقصد به نوع استمتاع من الزوج أو الزوجة ، دائما كان أو منقطعا ، وليس
الغرض من النكاح الشرعي إلّا هذه الفائدة ، ومتى لم تكن هذه الفائدة مقصودة مطلقا
لم يقع العقد صحيحا ، ومتى حكم ببطلان العقد بطل ما يترتّب عليه من الأحكام.
وقد أخبرني بعض
الإخوان أنه سأله عن هذه المسألة ، حيث إنه يريد العقد بابنته متعة على رجل لأجل
المحرميّة على جدّتها ، فأجابه بأنّه لو أتاك هذا الزوج وابنتك بالغة هل كنت
تزوّجها به متعة؟ فقال : لا. فقال : إذن يكون عقدك بها في هذه الصورة باطلا.
هذا ، وقد وقفت
على حاشية لشيخنا المحقّق الثاني قدسسره على (الإرشاد) ، وقد صرّح فيها أيضا ببطلان العقد ،
إلّا إنّه علّل ذلك بعدم حصول المصلحة للزوجة في الصورة الاولى المتقدّمة ، أو
الزوج في الصورة الثانية ، وتصرّف الولي منوط بالمصلحة والغبطة للطفل.
وهذه عبارته ،
حيث قال العلّامة في الكتاب المشار إليه : (وللولي الإنكاح متعة) ، فكتب في
الحاشية ما صورته : (بشرط أن يكون للمولّى عليها مصلحة ،
__________________
وأن تكون هي المقصودة لها فيه ، فلو لم تكن هي المقصودة للمولّى عليها لم
يصحّ ، فلو عقد على صغيرة بقصد إباحة النظر إلى أمّها ولم يكن لها فيه مصلحة لم
يصحّ العقد ، ولم يبح النظر ، ولا تحرم به أم المعقود عليها. وكذا باقي الأحكام)
انتهى.
ولا بدّ من
تحقيق هذه المسألة في هذه الدرة وبيان بطلان الأقوال الثلاثة ؛ ليتضح بذلك صحّة ما
قدّمناه وقوّة ما قويناه ؛ وحينئذ فالبحث في ذلك يقع في مقامات ثلاثة :
الأوّل
: في بيان بطلان
القول الأوّل من الأقوال الثلاثة المذكورة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أن ما
استندوا إليه من الآية المذكورة مردود بأن الآية لم تستوف جميع المحارم المتّفق
عليها نصّا وفتوى ، مثل الأعمام والأخوال ، فكيف يتمّ الاعتراض بها من حيث عدم ذكر
هذا الفرد فيها؟
ولا يخفى على
من أحاط خبرا بالآيات القرآنية في أمثال هذا المقام أنها لم تستوف جملة الأفراد
والأحكام ، كما في قوله عزوجل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) الآية ، فإن الخارج عن هذه الآية من المحرّمات المذكورة
في السنّة وعليها الاتفاق ما هو أكثر ، وذلك قوله عزوجل (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) الآية ، وقوله تعالى (إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) ، فإن المحرّمات في السنّة أضعاف ما ذكر في
__________________
هاتين الآيتين. والظاهر حمل الحصر في الآيتين المذكورتين على الحصر
الإضافي.
وبالجملة ،
فالواجب الرجوع في تحقيق الأحكام ـ كما هو حقّها ـ إلى السنّة المطهّرة ؛ لما علم
أن آيات (الكتاب) العزيز لا تخلو عن إجمال ، أو إطلاق ، أو تشابه ، أو نسخ ، أو
نحو ذلك.
نعم ، إذا
اقترن معنى الآية بتفسير منهم عليهمالسلام تعيّن العمل بها ، وحينئذ فتحمل الآية التي نحن فيها
على مجرّد التمثيل دون الحصر.
وثانيهما : أن
المستفاد من الأخبار ـ على وجه لا يداخله الريب والإنكار ـ المدار في حلّ النظر
واللمس على المحرميّة ، فمتى حصلت ترتبت عليها الأحكام المذكورة. فمن ذلك ما رواه
في (الكافي) ، بسنده عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم
تكن محرما؟ قال : «الوجه
والكفّان [والقدمان]» . دلّت الرواية بمفهوم الشرط ـ الذي هو حجّة عند
المحقّقين ، وعليه دلّت الأخبار أيضا كما أوضحناه
في محلّ أليق ـ أنه إذا كان محرما حل له ما زاد على المذكور في الخبر.
وما رواه في
الكتاب المذكور أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟
قال : «لا ، إلّا
من وراء الثوب» .
وما رواه فيه
أيضا عن سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن
__________________
مصافحة الرجل المرأة؟ قال : «لا يحلّ للرّجل أن يصافح المرأة إلّا امرأة
يحرم عليه أن يتزوّجها اخت أو بنت أو عمّة أو خالة أو نحوها ، وأمّا المرأة التي
يحلّ له أن يتزوّجها فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب ، ولا يغمز كفّها» .
ولا يخفى ما في
هذا الخبر من الصراحة في المدّعى ، وأنه لا يحلّ للرجل أن يصافح إلّا امرأة يحرم
عليه أن يتزوّجها ، وأمّ الزوجة كذلك اتّفاقا. وجواز المصافحة موجب لجواز النظر
البتّة ؛ إذ العلّة واحدة ، ولأن النظر قد رخّص فيه للأجانب في مواضع عديدة ، بخلاف اللمس
، فهو أولى بالجواز حينئذ.
وما رواه فيه
عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الجارية التي لم تدرك ، متى ينبغي لها أن تغطّي
رأسها ممّن ليس بينها وبينه محرم ، ومتى يجب أن تقنّع رأسها للصلاة؟ قال : «لا تغطّي رأسها حتّى
تجب عليها الصلاة» . ورواه الصدوق في كتاب (العلل) بسند صحيح.
وروى الصدوق في
كتاب (عقاب الأعمال) قال : قال النبي صلىاللهعليهوآله : «اشتدّ
غضب الله على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها ، فإنّها
إن فعلت ذلك أحبط الله كلّ عمل عملته» الحديث.
وروى أيضا في
كتاب (الخصال) في حديث طويل عن الباقر عليهالسلام قال : «ولا يجوز للمرأة أن تصافح غير ذي محرم إلّا من
وراء ثيابها» الحديث.
__________________
إلى غير ذلك من
الأخبار التي يقف عليها المتتبّع ، وكلّها كما ترى ـ ظاهرة الدلالة واضحة المقالة
على أن مناط الحلّ والحرمة في النظر واللمس للمرأة دائر مدار المحرميّة وعدمها ،
فكلّ من حرم نكاحها حلّ نظرها ولمسها ، ومن حلّ نكاحها حرم ذلك منها.
فإن قيل : إن
هنا جملة ممّن يحرم نكاحهنّ يحرم النظر إليهن ويحرم لمسهنّ ، كالمطلّقة تسعا ،
والمتزوّج بها في العدّة مع الدخول ، وأمّ الملوط به وابنته واخته؟
قلت : المراد
بالمحارم في هذه الأخبار ونحوها هو من حرم نكاحها بنسب أو مصاهرة أو رضاع ، كما
يشير إليه بعض ألفاظها ، وبذلك صرّح الأصحاب من غير خلاف يعرف ، ذكروا ذلك في باب
تغسيل الميّت وفي باب من يجوز النظر إليه ، كما صرّح به السيّد السند صاحب (المدارك)
في شرح (الشرائع) ـ بعد قول المصنّف في بيان من يجوز النظر إليه : (وإلى
المحارم ما عدا العورة) ـ حيث قال قدسسره ما لفظه : (المراد بالمحارم من حرم نكاحه مؤبّدا بنسب
أو رضاع أو مصاهرة) إلى آخر كلامه.
ويؤيّده أيضا
ما صرّح به جملة من المحقّقين من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنّما تحمل على
الأفراد الشائعة المتكررة ؛ وهي التي ينصرف إليها الإطلاق ، دون الفروض
الشاذّة النادرة الوقوع.
المقام الثاني
: في الكلام على ما ذكره ذلك الفاضل المعاصر مدّ في بقائه.
وذلك من وجهين
:
أحدهما : أن ما
ادّعاه من أن العقود بالقصود إن اريد به أنه لا بدّ من القصد إلى
__________________
ما يوجبه العقد ولو في الجملة فهو مسلّم ، وما نحن فيه كذلك ، فإن كلّا من
الولي والزوج في إحدى الصورتين المتقدّمتين أو الزوجة في الصورة الاخرى قد قصد إلى
ما يوجبه العقد ، ممّا يصحّ ترتّبه عليه يومئذ ؛ وليس يومئذ إلّا مجرّد المحرميّة.
وإن اريد به
القصد إلى جميع ما يترتّب على العقد فهو ممنوع ، وإثباته يحتاج إلى دليل ، سيّما
أن سند المنع موجود ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. مع أنه منقوض بما لو قصد
المتزوّج بالمرأة غرضا آخر غير النكاح وما يترتّب عليه ، أو المرأة كذلك ، كما لو
تزوّج رجل بامرأة مسنّة ليست في محلّ النكاح بالكلّية ؛ للتوصّل إلى أخذ مالها
مثلا والاستيلاء عليه ، ولم يقصد إلى نكاحها بالمرّة. وكما لو تمتّع بامرأة لأجل
الخدمة وحلّ النظر من غير أن يقصد إلى نكاح ولا استمتاع بالكلّيّة ، وكما لو عقدت
المرأة بنفسها على رجل لأجل الخدمة في السفر والمحرميّة من غير قصد النكاح وما
يترتّب عليه ؛ فإنه لا إشكال في صحّة هذه العقود.
وبالجملة ،
فإنه يكفي في ذلك مجرّد صلوحية العقد لانطباقه والجري على النكاح وإن لم يقصد به
النكاح.
وثانيهما : أنّ
الظاهر من جملة من الأخبار ـ على وجه لا يعتريه الإشكال في هذا المضمار ـ هو بطلان
هذه القاعدة ، وأنّها غير مطّردة في كلّ مقام.
فمن ذلك
الأخبار الدالّة على الحيلة في التخلّص من الربا ، ومنها ما رواه في (الكافي) ، عن
محمّد بن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام : إن سلسبيل طلبت منّي مائة ألف درهم على أن تربحني
عشرة آلاف درهم ، فاقرضها تسعين
ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا تقوّم عليّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم؟ قال : «لا بأس» .
وما رواه في (الكافي)
و (التهذيب) عن محمّد بن
إسحاق بن عمّار أيضا قال : قلت للرّضا عليهالسلام : الرجل يكون له المال قد حلّ على صاحبه ، يبيعه لؤلؤة
تسوي مائة درهم بألف درهم ويؤخّر عليه المال إلى وقت؟ قال : «لا بأس ، قد أمرني
أبي عليهالسلام ففعلت ذلك». وزعم أنه سأل أبا الحسن عليهالسلام عنها فقال له مثل ذلك.
وروى المشايخ
الثلاثة في الكتب الثلاثة في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألته عليهالسلام عن الصرف ـ إلى أن قال ـ : فقلت له : اشتري ألف درهم
ودينار بألفي درهم؟ قال : «لا
بأس ، إن أبي كان أجرى على أهل المدينة منّي وكان يقول هذا ، فيقولون : إنّما هذا
الفرار ، ولو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف
دينار. وكان يقول لهم : نعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال» .
إلى غير ذلك من
الأخبار الواردة في ذلك. والتقريب فيها أنهم عليهمالسلام حكموا بصحّة بيع هذه الأشياء المذكورة بأضعاف ثمنها
الواقعي ؛ توصّلا إلى الخروج عن الوقوع في الربا. وأصل البيع هنا غير مقصود البتّة
وإنّما المقصود ما ذكرناه ، وبه يظهر أنه لا يشترط قصد جميع ما يترتّب على العقد.
وربّما نقل عن هذا الفاضل أيضا عدم جواز ذلك ، وما هو إلّا اجتهاد محض في مقابلة
النصوص التي لا خلاف بين الأصحاب في العمل بمقتضاها.
__________________
ومنها الأخبار
الدالّة على صحّة بيع الآبق مع الضميمة وإن كانت يسيرة ، والثمار قبل
ظهورها أو بلوغ حدّ الصلاح مع الضميمة أيضا ، فلو لم يوجد الآبق ولم تخرج الثمار ، أو خرجت وفسدت
كان الثمن في مقابلة الضميمة ، مع أن تلك الأثمان أضعاف ثمن هذه الضميمة واقعا.
وقد حكموا عليهمالسلام بصحّة البيع فيها بهذا الثمن وإن كان الغرض من ضمّها إنما هو
التوصّل إلى صحّة بيع تلك الأشياء.
ومنها الأخبار
الدالّة على أن العقد المقترن بالشرط الفاسد صحيح وإن بطل الشرط . وجمهور
الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بناء على هذه القاعدة حكموا ببطلان
العقد من أصله ؛ قالوا : لأن المقصود بالعقد هو المجموع ، وأصل العقد مجرّدا عن
الشرط غير مقصود فيكون باطلا ؛ لأن العقود تابعة للقصود ، فما كان مقصودا غير صحيح
، وما كان صحيحا غير مقصود. هذا كلامهم ، إلّا إن الأخبار تردّه.
فمن ذلك صحيحة
محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام ، في الرجل يتزوّج المرأة بمهر إلى أجل مسمّى : «فإن جاء بصداقها إلى
أجل مسمّى فهي امرأته ، وإن لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك
شرطهم عليه حين أنكحوه». فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم .
__________________
ومثلها صحيحته
الاخرى وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام الواردة في بريرة ، وأنّها كانت مملوكة لقوم فباعوها
عائشة واشترطوا أن لهم ولاءها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الولاء
لمن أعتق» .
وما رواه
الكليني قدسسره بسنده عن الوشّاء عن الرضا عليهالسلام قال : سمعته يقول : «لو أن رجلا تزوّج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا
وجعل لأبيها عشرة آلاف ، كان المهر جائزا والذي جعل لأبيها فاسدا» .
وقال السيّد
السند صاحب (المدارك) في شرح (الشرائع) ـ بعد ذكره هذه الرواية ، وهو ممّن اعتمد العمل على هذه
القاعدة أيّ اعتماد حتّى كاد أن يردّ صحيحتي محمّد بن قيس المذكورتين ، إلّا إنه
بعد ذلك جعلهما في حكم رواية واحدة وخصّها بموردها ـ ما صورته : (ويستفاد
من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد) انتهى.
ومنها ما دلّ
على أن عقد المتعة مع عدم ذكر الأجل فيه ينقلب دائما ، كما في موثّقة عبد الله بن
بكير قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إن
سمّي الأجل فهو متعة ، وإن لم يسمّ الأجل فهو نكاح بات» .
ورواية أبان بن
تغلب عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وفيها : قلت : إنّي أستحيي أن اذكر
__________________
شرط الأيّام. قال : «هو
أضرّ عليك». قلت : وكيف ذلك؟ قال : «إنّك
إن لم تشترط كان تزويج مقام ، ولزمتك النفقة في العدّة ، وكانت وارثة ، ولم تقدر
على أن تطلّقها إلّا طلاق
السنّة» .
ومثل ذلك رواية
هشام بن سالم .
وبمضمون هذه
الأخبار قال جمهور الأصحاب . وقيل بالبطلان مطلقا ، وقيل أيضا
غير ذلك ، كما هو مفصّل في محلّه.
وقد استشكل
جملة من متأخّري المتأخّرين بناء على القاعدة المذكورة في العمل بهذه الأخبار ،
وهو مجرّد استبعاد عقلي في مقابلة النصوص ، فإن الحكم ليس مختصّا بهذه الأخبار ،
فإن جملة ما تلوناه من الأخبار في هذا المقام كلّه صريح في ردّ هذه القاعدة ،
وبمضمونها قال الأصحاب.
فلا وجه لهذه
المناقشة ؛ إذ لا مستند لهذه القاعدة إلّا مجرّد العقل ، والأحكام الشرعيّة
توقيفيّة تدور مدار الأدلّة وجودا وعدما وإن اشتهر بينهم ـ رضوان الله عليهم ـ تقديم
الأدلّة العقلية على النقليّة ، حتّى إنهم في جملة من الأحكام الفقهيّة إنما
يبدءون في الاستدلال بدليل عقلي ، ثم يردفونه بالأدلّة النقلية ، إلّا إنه غلط محض
كما أوضحناه ـ بما لا مزيد عليه ـ في بعض درر هذا الكتاب.
__________________
وبالجملة ،
فإنه قد ظهر ممّا تلوناه من هذه الأخبار عدم البناء والاعتماد على هذه القاعدة ،
إلّا أن تحمل على ما قدّمنا ذكره أوّلا من القصد ولو في الجملة ، وبه تنطبق على
هذه الأخبار.
ولم أقف على من
تنبّه لذلك إلّا المحدّث الكاشاني في كتابه (المفاتيح) ، حيث قال في خاتمته التي
في بيان الحيل الشرعيّة ـ بعد ذكر بعض حيل الربا ـ ما هذا لفظه : (ولا يقدح فيه
كون البيع غير مقصود بالذات ، والعقود بالقصود ؛ لأنه لا يشترط فيه قصد جميع الغايات
المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته ، فإن شراء الدار للمؤاجرة
والتكسب كاف في صحّته وإن كان له غايات اخر أقوى وأظهر كالسكنى) انتهى.
أقول
: وبعين ما ذكره
هذا المحدّث المذكور يأتي فيما نحن فيه ، فيقال بصحّة العقد باعتبار بعض الغايات
المترتبة على ذلك العقد ؛ وهي المحرميّة التي ذكرناها ، ولا يتوقف صحّته على
الجميع. وبذلك يظهر لك ضعف ما استند إليه الفاضل المشار إليه آنفا ، والله العالم.
المقام الثالث
: في بيان بطلان ما ذهب إليه المحقّق المتقدّم ذكره.
أقول
: لا يخفى أنه
وإن صرّح بعضهم بأن تصرّفات الولي في الطفل وأمواله منوطة بالمصلحة
والغبطة الراجعة إلى ذلك الطفل ، إلّا إني لم أقف لهذا الكلام على دليل يدلّ عليه
بهذا العموم وإن كان في بعض الأخبار ما يشير إلى ذلك في بعض الأحكام ، إلّا إن فيها أيضا ما
هو ظاهر في خلافه في بعض آخر كما
__________________
سيمرّ بك إن شاء الله تعالى.
ومن أظهر ما
يدلّ على ما قلناه الأخبار المستفيضة الدالّة على صحّة تزويج الولي الصغير . وبيان الاس
تدلان بها من وجهين :
أحدهما : أن
ظاهر إطلاقها هو جواز التزويج مطلقا سواء كان هناك مصلحة أم لا ، وغاية ما ربّما
يدّعى منها هو عدم الضرر والمفسدة ، أمّا اعتبار المصلحة فلا دليل
عليه فيها ، وأيّ مصلحة للصغيرة أو الصغير في هذه الحال في هذا التزويج؟
فإن قيل : إن
المصلحة وإن لم تكن الآن حاصلة إلّا إنه بعد البلوغ ـ باعتبار النكاح والدخول وما
يترتب على ذلك ـ حاصلة.
قلت : لا يخفى
أن الظاهر من المصلحة والغبطة المدّعاة في أمثال هذا المقام إنما هي عبارة عمّا
يترجّح به الفعل أو الترك ؛ فهي عبارة عن الأمر المرجّح لأحد الجانبين على الآخر.
ويقابلها بهذا المعنى المفسدة الموجبة للضرر ، أو مرجوحية الفعل أو الترك. فهاهنا
أقسام ثلاثة :
أحدها
: أن يزوّجها
الولي للمصلحة ، كما إذا اتّفق الآن زوج لم يوجد مثله في كماله وصلاح أحواله ، أو
بمهر كثير لا يوجد مثله في غير هذا الوقت ، أو نحو ذلك من الامور المرجّحة للفعل
على عدمه. والمصلحة هنا ظاهرة.
الثاني أن يزوّجها بغير كفء أو شارب خمر ، أو بمهر يسير جدّا
، أو نحو ذلك من الامور الموجبة لمرجوحيّة الفعل.
الثالث
: أن يزوّجها لا
باعتبار شيء ممّا ذكر ، وهذا لا يوصف بكونه مصلحة ولا مفسدة ، بل هو متساوي
الطرفين. ووجه المصلحة فيه غير ظاهرة ؛ لأن ذلك
__________________
يمكن من المرأة بعد بلوغها بأن تزوّج نفسها ممّن تشاء بما تشاء .
وبالجملة ،
فإنه ليس هنا أمر يرجّح التزويج على عدمه ، والمصلحة ـ كما عرفت ـ عبارة عن الأمر
المرجّح لأحد الطرفين. وبذلك يظهر لك صحّة ما ذكرناه من إطلاق الأخبار ، وتقييدها
من خارج يحتاج إلى دليل ، وليس فليس.
وحينئذ ، فيتمّ
ما ادّعيناه من صحّة العقد عليها متعة لأجل المحرميّة ، والعقد هنا متساوي الطرفين
كما هو ظاهر إطلاق الأخبار المشار إليها ؛ إذ لا مصلحة لها فيه ، ولا ضرر عليها
به.
وما استدركه
المحقّق المذكور على عبارة العلّامة المتقدّمة من التقييد بالمصلحة ليس في محلّه ؛
إذ اعتبار المصلحة لا يختصّ بعقد المتعة ، بل يجري أيضا في الدائم ، مع أن إطلاق
الأخبار ـ كما عرفت ـ لا يساعده ، بل يردّه. ولم يصرّح أحد منهم في مسألة عقد
الولي على الصغيرين بهذا القيد بالكلّية ، بل لو صرّح به مصرّح فهو عار عن الدليل
خصوصا وعموما.
الثاني
: أن جملة من
أخبار المسألة شامل بإطلاقه لما لو زوّجها الولي متعة ، كما صرّح به العلّامة في
العبارة المتقدّم نقلها ، بل الظاهر أنه لا خلاف فيه.
وحينئذ ، فنقول
: متى ثبت أن للولي أن يزوّج الصغيرة متعة ، والمتعة لا بدّ فيها من أجل معيّن ،
فتخصيص الجواز بمدّة مخصوصة ـ كأن تكون إلى [ما] بعد البلوغ ـ يحتاج إلى دليل ،
وإطلاق الأخبار أعمّ من ذلك.
نعم ، لو كان
هناك دليل من خارج على ثبوت ما ادّعاه من توقّف التصرّف على المصلحة لأمكن تقييد
هذه الأخبار في الموضعين بها ، إلّا إنه لا وجود له.
__________________
وها نحن ـ زيادة
على ما ذكرنا ـ نتلو عليك مواضع من الأخبار المؤيّدة لما ادّعيناه من عدم اعتبار
هذه المصلحة :
فمن ذلك ما ورد
من أن للأب أن يطأ جارية ابنه الصغير بعد أن يقوّمها على نفسه . ووجه المصلحة
في هذا التصرف غير ظاهر ، بل هو إلى المفسدة أقرب منه إلى المصلحة.
فإن قيل : لعلّ
وجه المصلحة احتمال تطرّق الموت إلى الجارية ودخول النقص على الصغير ، بخلاف ما
إذا كان ثمنها في ذمّة الأب مستقرّا.
قلنا : إنّه مع
قطع النظر عن كون هذه علّة مستنبطة لا اعتماد عليها ، فهي معارضة باحتمال بقائها
واحتياج الصغير بعد البلوغ أو قبله أيضا إليها ، وإمكان تطرّق التلف إلى ثمنها
أيضا باعتبار إفلاس الأب أو موته ونحو ذلك.
وبالجملة ،
فوجه المصلحة غير ظاهر كما لا يخفى.
ومنها الأخبار
الدالة على جواز اقتراض مال اليتيم لمن كان في يده إذا كان وليّا مليّا . وبذلك صرّح
الأصحاب أيضا ، بل نقل عن جملة من المتأخّرين أنه يجوز للأب
والجدّ الاقتراض وإن لم يكونا مليّين ، واشتراط الملاءة إنما هو في غيرهما من
الأولياء.
ومن الظاهر أنه
لا مصلحة للصغير هنا أيضا ، بل في اقتراض الأب والجدّ وإن كانا معسرين ما هو خلاف
المصلحة ، ولهذا أن صاحب (المدارك) بعد أن نقل ذلك
__________________
عنهم قال : (وهو مشكل) . والظاهر أنه إشارة إلى ما ذكرناه.
ومنها ما دلّ
على أن للأب أن يحجّ من مال ابنه الصغير ، كما ورد في صحيحة سعيد بن يسار . وبذلك قال
الشيخان وأتباعهما . وما تأوّله به بعضهم من أن ذلك على جهة القرض ينافيه
التعليل الذي في آخر الخبر من قوله : «إن مال الولد لوالده ». ومع تسليم القرض أيضا ـ كما تأوّلوا به الخبر ـ فوجه
المصلحة للصغير غير حاصلة أيضا.
ومنها الأخبار
المستفيضة الدالة على أن للولي أن يعفو عن بعض المهر ، بل كلّه ـ كما رواه العياشي
في تفسيره ـ متى وقع الطلاق قبل الدخول ، فإنها شاملة بعمومها
للصغيرة إذا زوّجها الولي بلا ريب ولا خلاف. ووجه المصلحة في ذلك غير ظاهر ، بل
الظاهر إنّما هو المفسدة.
إلى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبّع ، والله العالم بحقائق أحكامه .
__________________
(٥٥)
درّة نجفية
في اشتراط الدخول في تحريم
أمّ المعقود عليها على العاقد
المشهور بين
كافة العلماء من الخاصة والعامّة أن الام تحرم بمجرّد العقد على ابنتها ومن غير
اشتراط بالدخول بها.
وذهب ابن أبي
عقيل رحمهالله منّا ونقل عن الشافعي من العامة في أحد وجهيه إلى اشتراط التحريم بالدخول
كالبنت ؛ فإنها لا تحرم إلّا بالدخول بامّها إجماعا.
والظاهر عندي
هو القول المشهور ، وأنا أذكر في هذه الدرّة ما يتعلّق بهذه المسألة من الأدلّة
كتابا وسنّة ، واذيّل كلّ دليل بما يوضح معناه المراد وما يتضمّنه من صحّة أو فساد
، واشبع الكلام في ذلك ما استطعت من الإشباع ؛ ليظهر للناظر
__________________
الطالب للحقّ ما هو الأحق بالاتباع ، فإن بعضا من محققي
متأخّري المتأخّرين قد استشكل في المسألة غاية الاستشكال ، وبعضا آخر لذلك أيضا قد
جعلها ممّا يرجأ حكمه حتى يظهر الحقّ لما فيها من الإعضال.
فأقول ـ وبالله
سبحانه التوفيق لبلوغ المأمول ـ : من الأدلّة المتعلّقة بهذه المسألة الآية الشريفة
وهي قوله عزوجل في تعداد المحرّمات (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) . وجه التقريب فيها أن ظاهر قوله سبحانه (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ
اللّاتِي) ـ في تعداد المحرّمات المذكورة ـ هو الشمول للمدخول
بهنّ وغيرهنّ ، فإن الجمع المضاف يفيد العموم كما قرّر في محلّه. وبهذا المعنى
وردت الأخبار في تفسير الآية المذكورة كما سيمرّ بك إن شاء الله تعالى.
ونقل في (المسالك)
عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : (أبهموا ما أبهم الله) ، يعني عمّموا
حيث عمّم ، بخلاف الربائب ؛ فإنه قيّدهنّ بالدخول بامّهاتهنّ فيتقيّدن .
وظاهر قوله
سبحانه (وَرَبائِبُكُمُ
اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أن قوله (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) نعت للنساء اللواتي هنّ أمّهات الربائب لا غير ،
__________________
__________________
وعلى ذلك أيضا تدلّ الأخبار الآتية. وبذلك يظهر لك صحّة دلالة الآية
بطرفيها على القول المشهور.
وأمّا على
تقدير قول ابن أبي عقيل فقد حملت الآية على أن قيد الدخول راجع إلى المعطوف
والمعطوف عليه ، وأن يكون قوله (مِنْ نِسائِكُمُ) راجعا إلى الجميع أيضا لا إلى الجملة الأخيرة ، فيكون
المعنى بالنسبة إلى تعلّقه بالجملة الاولى (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) .
وردّ هذا
المعنى :
أولا : بأن الوصف
والشرط والاستثناء المتعقّب للجمل يجب عوده للأخيرة كما حقّق في الاصول ، إلّا مع
قيام القرينة الدالّة على رجوعه للجميع.
وثانيا
: أن رجوع (مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إليهما معا غير مستقيم ، حيث إن (من) على تقدير التعلّق
بالاولى تكون بيانية لبيان الجنس وتمييز المدخول بهنّ
من غير المدخول بهنّ ، فيكون التقدير ، حرّمت عليكم أمّهات نسائكم من نسائكم
اللّاتي دخلتم بهنّ. وعلى تقدير التعلّق ب (رَبائِبُكُمُ) تكون ابتدائية لابتداء الغاية ، كما تقول بنات رسول
الله صلىاللهعليهوآله من خديجة ، رضياللهعنها. ويمتنع أن يراد بالكلمة الواحدة في الخطاب الواحد
معنيان مختلفان .
وثالثا : ما
نقلة في كتاب (مجمع البيان) عن الزجّاج من أن الخبرين إذا اختلفا
__________________
لم يكن نعتهما واحدا قال : (لا يجيز النحويّون : مررت بنسائكم ، وهربت من
نساء زيد الظريفات ، على أن تكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء) انتهى.
ونحوه ما نقله
بعض مشايخنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين عن أحمد بن محمّد المعري في كتاب (شرح
الوجيز) للرافعي ، حيث قال ـ بعد كلام في المقام ـ : (وذهب بعض
أئمّة المتقدّمين إلى جواز نكاح الام إذا لم يدخل بالبنت) ، وقال : (الشرط الذي في
الآية يعمّ الامّهات والربائب. وجمهور العلماء على خلافه ؛ لأن أهل العربيّة ذهبوا
إلى أن الخبرين إذا اختلفا لا يجوز أن يوصف الاسمان بوصف واحد ، فلا يجوز : قام
زيد وقعد عمرو الظريفان. وعلّله سيبويه باختلاف العامل ؛ لأن العامل في الصفة هو
العامل في الموصوف.
وبيانه في
الآية أن قوله (اللّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ) يعود ـ عند القائل ـ إلى (نِسائِكُمْ) ، وهو مخفوض بالإضافة ، وإلى (رَبائِبُكُمُ) وهو مرفوع ، والصفة الواحدة لا تتعلّق بمختلفي الإعراب
ولا مختلفي العامل ، كما تقدّم) انتهى.
ورابعا ـ وهو
أقواها وأمتنها وأظهرها وأبينها وإن كانت هذه الوجوه كلّها ظاهرة بيّنة ـ :
الأخبار المتعلّقة بتفسير الآية كما ستمرّ بك إن شاء الله تعالى ، حيث إنها فصّلت
بين الجملتين ، وصرّحت بأن الجملة الاولى مطلقة عامّة شاملة
للمدخول بها وغيرها ، والثانية مقيّدة وأن القيد المذكور مختصّ بالثانية.
__________________
وبما ذكرنا
يظهر صحّة دلالة الآية على القول المشهور ، وأن دعوى دلالتها على القول الآخر في
غاية القصور.
فمن الأخبار
المشار إليها رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام : «إنّ
عليّا عليهالسلام كان يقول : الربائب
عليكم حرام مع الامّهات اللّاتي قد دخلتم بهنّ في الحجور أو غير الحجور سواء ،
والامّهات مبهمات ، دخل بالبنات أم لم يدخل بهنّ ، فحرّموا وأبهموا ما أبهم الله» .
وهذه الرواية ـ
كما ترى ـ صريحة الدلالة على القول المشهور ، مشيرة إلى تفسير الآية بالإطلاق في
الجملة الاولى ، والتقييد في الثانية ، فإن قوله عليهالسلام : «والامّهات
مبهمات» مأخوذ من :
إبهام الباب ، بمعنى إغلاقه ، وأمر مبهم : لا مأتى له.
أو من : أبهمت
الشيء إبهاما ، إذا لم تبيّنه ، أو من قولهم : فرس مبهم ، وهو الذي لا يخالط لونه
شيء سوى لونه . والمعنى أنها مغلقة في التحريم لا مدخل للحلّ فيها بوجه.
أو أنّها لم
تبيّن وتفصّل وتميز تمييز الربائب بوقوع التقييد بالدخول الذي أوجبه الاستثناء
فيها ، فكأنّه لم يخلط صفة حرمتها بحلّ ، فهي كالمصمتة لا يخالطها
لون سوى لونها.
ومنها رواية
غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام : «إنّ عليّا عليهالسلام كان يقول : إذا تزوّج الرجل المرأة حرم عليه ابنتها إذا
دخل بالامّ ، وإذا لم يدخل بالامّ ، فلا بأس أن
__________________
يتزوّج بالبنت. وإذا تزوّج بالبنت فدخل [بها] أو لم يدخل بها فقد حرمت عليه الامّ» . وهي كما ترى
صريحة الدلالة على القول المشهور.
ومنها موثّقة
أبي بصير قال : سألته عن رجل تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يدخل بها ، فقال : «تحلّ له ابنتها ، ولا
تحلّ له امّها» . وهي أيضا صريحة الدلالة على القول المذكور.
ومنها ما رواه
العياشي في تفسيره عن أبي حمزة قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل تزوّج امرأة وطلّقها قبل أن يدخل بها ، أتحلّ له
ابنتها؟ قال : فقال : «قد قضى في هذا أمير المؤمنين عليهالسلام (لا بأس به) ؛ إن الله يقول (وَرَبائِبُكُمُ
اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) . ولكنّه لو تزوّج الابنة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها لم
تحلّ له امّها». قال : قلت : أليس هما سواء؟ قال : فقال : «لا ، ليس هذه مثل هذه ؛
إن الله تعالى يقول (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) ، لم يستثن في هذه كما اشترط في تلك ، هذه هاهنا مبهمة
ليس فيها شرط ، وتلك فيها شرط» .
وهذه الرواية
في غاية الصراحة في الدلالة على القول المشهور ، وتفسير الآية بما أشرنا إليه آنفا
ممّا تنطبق به على القول المشهور. وبه يظهر ضعف تلك التخرّصات الباردة والتمحّلات
الشاردة التي تكلّفوها للقول الآخر.
__________________
ومن أخبار
المسألة صحيحة منصور بن حازم قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوّج امرأة فماتت قبل أن يدخل
بها ، أيتزوّج بامّها؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام : «قد
فعله رجل منّا فلم ير به بأسا». فقلت : جعلت فداك ، ما تفخر الشيعة الّا بقضاء عليّ عليهالسلام في هذه الشمخية التي أفتاها ابن مسعود أنه لا بأس بذلك ، ثم أتى عليّا عليهالسلام فسأله ، فقال له عليّ عليهالسلام : «من
أين أخذتها؟» فقال : من قول الله عزوجل (وَرَبائِبُكُمُ
اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). فقال عليهالسلام : «إنّ هذه مستثناة وهذه مرسلة ، (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)».
فقال [أبو عبد
الله عليهالسلام] للرجل : «أما تسمع ما يروي هذا عن علي عليهالسلام؟». فلمّا قمت ندمت وقلت : أيّ شيء صنعت ، يقول هو عليهالسلام : «قد
فعله رجل منّا فلم نر به بأسا» ، وأقول أنا : قضى عليّ عليهالسلام؟ فلقيته بعد ذلك فقلت : جعلت فداك ، مسألة الرجل إنما
كان الذي قلت زلّة منّي ، فما تقول فيها؟ فقال : «يا شيخ ، تخبرني أن عليّا عليهالسلام قضى فيها وتسألني :
ما تقول فيها» .
__________________
وروى هذه
الرواية أيضا العياشي في تفسيره عن منصور بن حازم ، وفيها : (فقلت له : والله ما
يفخر الشيعة على الناس إلّا بهذا ، إن ابن مسعود أفتى في هذه الشمخية أنه لا بأس
بذلك) إلى آخره .
أقول
: قوله عليهالسلام : «إن
هذه مستثناة» إشارة إلى تحريم الربائب ، ومعنى كونها مستثناة أي مقيّدة ، فإن التحريم
فيها مقيّد بالدخول بالأم ، والكلام المقيّد من حيث القيد فيه استثناء لما خرج عن
محلّ القيد ، فكأنّه قيل : حرّمت عليكم الربائب إلّا مع عدم الدخول بالأم.
وقوله : «هذه مرسلة» راجع إلى تحريم الامّهات. ومعنى كونها مرسلة أي مطلقة ،
مأخوذ من قولهم : دابة مرسلة ، أي غير مربوطة. وهو يقابل التقييد الذي في الاولى.
والمراد به أن تحريم الامّهات مع العقد على البنات مطلق ، سواء دخل بالبنت أم لا.
فقوله : «وأمّهات
نسائكم» بدل من قوله :
«وهذه
مرسلة» ، والواو من
__________________
__________________
الكلام المحكي ، فلا يتوهّم كونها عاطفة.
وهذه الرواية
من جملة ما استدلّ بها لابن أبي عقيل ؛ وهي عند التأمّل الصادق في سياقها بالدلالة على القول
المشهور أشبه ، وإن عدوله عليهالسلام [في التعبير] عن الجواب الصريح بالجواز إلى قوله : «قد فعله رجل منّا فلم
ير به بأسا» ـ مع احتمال كون الفعل المنفي بالياء ، وضمير الغائب مجهولا أو معلوما ـ إنما كان لنوع
تقيّة.
ويؤيده بأظهر
تأييد قول منصور بن حازم ونقله عن علي عليهالسلام ما نقله ، مع عدم إنكار الإمام عليهالسلام ذلك ، بل ظاهره تقريره عليه سيّما ما تضمّنه الكلام من
افتخار الشيعة بقضاء علي عليهالسلام في هذه القضيّة ، المؤيّد بما تضمّنته الأخبار
المتقدّمة من حكاية ذلك عن علي عليهالسلام. ونسبته إلى الشيعة على طريق الجزم يشعر باستفاضته
يومئذ ؛ إن لم يدّع أنه مجمع عليه أو متواتر ؛ إذ لا يقصر عن قول بعض الفقهاء في
كتبهم. وهذا مذهب الشيعة ، فإنهم يجعلونه مؤذنا بدعوى الإجماع ، بل إجماعا حقيقة.
وإن قوله عليهالسلام أخيرا ـ لمّا اعتذر إليه منصور بن حازم من تعرّضه
عليه ـ : «يا شيخ ،
تخبرني أن عليّا عليهالسلام قضى فيها وتسألني :
ما تقول فيها؟» مراد به أن قولي قول علي عليهالسلام وقضاؤه ، فكيف تسألني بعد علمك بقضاء علي عليهالسلام فيها؟ وبالجملة ، فسوق الكلام ينبئ عن الإبهام في جوابه
عليهالسلام لذلك الرجل ، ولعلّ وجه الإبهام ما ذكره بعض مشايخنا
المحقّقين من متأخّري المتأخّرين أنه حيث كان نقل الشيعة عن علي عليهالسلام في هذه الواقعة خلاف ما نقله العامّة عنه ـ حيث
__________________
قال العلّامة في (التذكرة) : (ونقل العامّة عن عليّ عليهالسلام أنه يشترط في تحريم الامّ الدخول بالبنت كالبنت ، وبه
قال مجاهد وأنس بن مالك وداود الأصفهاني وبشر المريسي ) ـ كان عدم التصريح بتصحيح ما نقل منصور بن حازم من
قضائه عن تقيّة ، وعدم التصريح بجواب أصل المسألة ، رفعا لما يدلّ عليه الجواب عن
تصحيح أحد النقلين.
وبالجملة ،
فالرواية لما فيها من الإجمال والاحتمال لا تصلح للاستدلال.
ومنها صحيحة
جميل وحمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ على ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) ، والشيخ في
كتابيه ـ قال : «الامّ والابنة سواء إذا لم يدخل بها» ، يعني إذا تزوّج المرأة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها ؛
فإنه إن شاء تزوّج امّها ، وإن شاء تزوّج ابنتها.
وهذه الرواية
أيضا ممّا استدلّ به لابن أبي عقيل ، ولا يخفى أنه لا دلالة فيها صريحا ، بل ولا
ظاهرا إلّا بمعونة التفسير المذكور وهو غير معلوم كونه من الإمام عليهالسلام ، بل الظاهر أنه من بعض الرواة ، وحينئذ فلا يكون حجّة.
وأمّا أصل
الرواية مع قطع النظر عن هذا التفسير ، فيحتمل أن يكون المعنى فيها أنه إذا تزوّج
الامّ ولم يدخل بها فالامّ والبنت سواء في أصل الإباحة ، فإن
__________________
شاء دخل بالامّ ، وإن شاء فارقها وتزوّج البنت. ويؤيّده إفراد الضمير ؛
فإنه راجع إلى الامّ. ويحتمل أن معناه أنه إذا تزوّج الامّ والبنت ولم يدخل بهما
فهما سواء في التحريم جمعا لا عينا.
ويؤيد ما
ذكرناه من كون التفسير المذكور ليس من أصل الرواية أن صاحب (الوسائل) نقل هذه
الرواية في أخبار هذه المسألة من كتاب (النوادر) لأحمد ابن محمّد بن عيسى عارية عن
هذا التفسير.
نعم ، روى هذه
الرواية الصدوق في (الفقيه) بما هذه صورته : عن جميل بن درّاج أنه سئل أبو عبد
الله عليهالسلام عن رجل تزوّج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، أتحلّ
له ابنتها؟ قال : «الامّ
والابنة في هذا سواء ، إذا لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى» .
وهذه الرواية
وإن كانت صريحة الدلالة على القول المذكور ، إلّا إنه من المحتمل قريبا أن قوله عليهالسلام : «إذا
لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى» تفسير بالمعنى من الصدوق قدسسره تبعا لما فسّر به في تلك الرواية ؛ لمعلومية تصرّفه في
الأخبار على حسب ما يذهب إليه فهمه.
ويؤيّده اختلاف
المحدّثين في نقل هذا الخبر ، فبين من نقله عاريا من التفسير بالكلّية ، وبين من
نقله بلفظ (يعني) بتلك العبارة المتقدّمة ، وبين من نقله بما يوهم كونه
من أصل الخبر كما نقله في (الفقيه). ومع هذا الاحتمال الذي ذكرناه فلا يتمّ الوثوق
والاعتماد على الخبر المذكور.
__________________
نعم ، نقل
الصدوق الخبر بهذه الكيفيّة ، ممّا يؤذن بكونه مذهبا له بناء على قاعدته الّتي
ذكرها في صدر كتابه ، إلّا إنّا قد تحرّينا مواضع عديدة من كتابه قد جمع
فيها بين الأخبار المنافية التي لا يمكن جعلها جميعا مذهبا له ، ولم يذكر وجه
الجمع فيها بما يوجب رجوع بعضها إلى بعض ، كما لا يخفى على من أمعن
النظر في الكتاب المذكور.
ومنها معلّقة
محمّد بن إسحاق بن عمّار قال : قلت له : رجل تزوّج امرأة فهلكت قبل أن يدخل بها ،
تحلّ له امّها؟ قال : «وما
الذي يحرم عليه منها ولم يدخل بها؟» . وهذه الرواية أوضح ما يستدلّ به لهذا القول.
وكيف كان ،
فالقول الفصل في هذا المقام أن يقال : إنّه لا ريب في صراحة الروايات المتقدّمة في
الدلالة على القول المشهور ، ولا ريب في مطابقتها لظاهر (الكتاب) العزيز ، ولا
سيّما مع ورود تفسيره بذلك عنهم عليهمالسلام كما دريت ، وقد استفاض عنهم عليهمالسلام عرض الأخبار عند التعارض عليه ، والأخذ بما وافقه وطرح
ما خالفه .
وهذه الأخبار
الدالة على القول الآخر ـ ظاهرا أو احتمالا ـ مخالفة له ، فيجب طرحها بمقتضى
القاعدة المذكورة ، ومع التحاشي عن طرحها بالمرّة ورميها بالكلّية ، فما كان منها
قابلا للحمل على ما ترجع به إلى تلك الأخبار المتقدّمة يجب أن يصار إليه تفاديا من
ذلك ، وما لا يكون قابلا لذلك يجب حمله على التقيّة التي هي الأصل في اختلاف
الأخبار.
__________________
ويؤيّد ذلك
شهرة الحكم بالقول المشهور بين الأصحاب سلفا وخلفا ، كما سمعت من صحيحة منصور بن
حازم وما أوضحناها به في ذيلها.
وأمّا نسبة هذا
القول إلى الصدوق ـ كما ذكره في (المختلف) ـ ففيه ما عرفت ، ويؤيّده أنه قال في (المقنع) : (إذا
تزوّج البنت فدخل بها أو لم يدخل فقد حرمت عليه الامّ. وقد روي أنّ الامّ والبنت
في هذا سواء ، إذا لم يدخل بإحداهما حلّت له الاخرى) . فأفتى فيه
بما هو المشهور ، ونسب القول الآخر إلى الرواية ، ومن المعلوم من حاله أن فتواه لا
يختلف في الأحكام في كتبه كغيره من المجتهدين.
وبالجملة ، فهو
قرينة ظاهرة فيما قلناه ويعضد أخبار القول المشهور موافقتها للاحتياط الذي هو أحد
المرجّحات المنصوصة عند التعارض كما تضمنته مرفوعة زرارة ، وبذلك يظهر
قوة القول المشهور ، وأنه المؤيد المنصور.
وأمّا من
استشكل في هذه المسألة من المحقّقين المتقدّمين ، فإن منشأ ذلك بالنسبة إلى
أوّلهما أنه حيث كان من أرباب هذا الاصطلاح المحدث ، ولا يعمل [بشيء] من الأخبار
إلّا على الصحيح أو الحسن ، وأخبار القول المشهور ضعيفة باصطلاحه ، وما قابلها
صحيح عنده ، لكن حيث إن الشهرة بين الأصحاب في جانب الأخبار الضعيفة ، حصل له الإشكال
والتوقف ؛ لمعارضة صحّة روايات القول الآخر بهذه الشهرة المعتضدة بهذه الأخبار.
وهذا الإشكال
مفروغ منه عندنا ؛ حيث إنه لم يقم لنا دليل على صحّة هذا
__________________
الاصطلاح ، بل الأدلّة قائمة على أنه إلى الفساد أقرب من الصلاح ، كما
تقدّم بيانه في بعض درر هذا الكتاب.
وأمّا ثانيهما
، فإنه قال : (ويمكن ترجيح قول ابن أبي عقيل بأصالة الحلّ ، وقول عليهالسلام : «وكل
شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه» . وظاهر (الكتاب) لا يأباه ، بحيث إن الخبر المخالف له
يعدّ مخالفا لـ (الكتاب) المخالفة الموجبة للرّد ، واحتمال أخبار إطلاق التحريم
شدّة الكراهة المقتضي للجمع بين الأخبار الذي هو أولى من العمل بها المقتضي لطرح
أخبار الجواز أصلا ورأسا.
والمسألة قويّة
الإشكال جدّا).
ثم ساق الكلام
إلى أن قال : (وهذه المسألة من المعضلات المأمور فيها بالإرجاء حتّى يظهر الحق)
انتهى كلامه ، علا مقامه.
وفيه نظر من
وجوه :
الأوّل
: أن أصالة الحلّ
التي استند إليها ممّا يجب الخروج عنها بعد قيام الدليل على خلافها ، والدليل من (الكتاب)
والسنّة موجود كما أوضحناه آنفا.
الثاني
: أن ما استند
إليه من الخبر مردود بأن الظاهر أن أفراد هذه الكليّة إنما هي معروضات الحكم
الشرعي لا نفس الحكم الشرعي ، كما تقدّم إيضاحه في الدرّة التي في بيان
جملة من القواعد المشار إليها في قولهم عليهمالسلام : «علينا
أن نلقي إليكم الاصول ..» الحديث.
__________________
وحينئذ ،
فأفراد هذه الكليّة إنّما هي الأفراد المعلوم حلّها ثم يعرض لها ما يوجب الشك في التحريم ،
فإنه يجب استصحاب الحكم بحلّها المعلوم أولا حتى يثبت التحريم ، فلا يكتفى في ذلك
بالظنّ فضلا عن الشك. والغرض من ذلك بيان سعة الشريعة وسهولتها ودفع الوساوس الشيطانيّة.
وحينئذ ،
فأفرادها الجهل بمعروض الحكم الشرعي ، لا أن أفرادها الجهل بالحكم الشرعي. ومن أحبّ الوقوف على
تحقيق هذا المقام فليرجع إلى الدرّة المشار إليها ، وبذلك يظهر لك عدم اندراج موضع
النزاع تحت القاعدة المذكورة.
الثالث
: قوله : (وظاهر
(الكتاب) لا يأباه) ، فإن فيه ما عرفت سابقا من الوجوه الدالة على بطلان حمل الآية
على هذا المعنى ، فظهور هذه الآية في إباء هذا المعنى ممّا لا يستراب فيه ، كما لا
يخفى على من أمعن النظر فيما ذكرناه ، وتأمّل بعين الإنصاف ما حرّرناه ، وبه تكون
مخالفتها [موجبة] للردّ بلا ريب ولا إشكال.
الرابع
: قوله : (واحتمال
أخبار إطلاق التحريم شدّة الكراهة) ، فإنه بعيد غاية البعد عن سياق تلك الأخبار ،
سيّما ما تضمّن منها تفسير الآية ، مع اعتضادها بظاهر الآية ، وعدم صراحة المخالف
من الأخبار في المخالفة إلّا الرواية الأخيرة. وما تمسّك به من لزوم طرح المقابل
متى عمل على أخبار التحريم مردود بما ذكرنا سابقا من أن الأخبار المقابلة منها ما
ليس بصريح في المخالفة ، بل يمكن حمله على تلك الأخبار ، وما [منها] كان صريحا أو
ظاهرا يمكن
__________________
حمله على التقيّة فلا يلزم طرحه بالكلّية.
وبالجملة ،
فأخبار التحريم مع صراحتها مؤيّدة بـ (القرآن) والشهرة والاحتياط ، فيجب العمل بها
بلا إشكال ، والله العالم بحقائق الأحوال .
__________________
(٥٦)
درّة نجفية
في المعاد الجسماني
روى الصدوق ـ عطّر
الله مرقده ـ في كتاب (من لا يحضره الفقيه) عن عمّار الساباطي أنه قال : سئل أبو
عبد الله عليهالسلام عن الميّت هل يبلى جسده؟ قال : «نعم ، حتى لا يبقى
لحم ولا عظم ، إلّا طينته التي خلق منها ؛ فإنّها لا تبلى
، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق
أوّل مرّة» .
أقول
: هذا الخبر
ممّا يدلّ بظاهره على أن إعادة المعدوم إنما هي عبارة عن إيجاده بعد انعدامه ـ كما
هو أحد القولين في المسألة ـ لا تأليف أجزائه وجمعها بعد تفرّقها كما
هو القول الآخر . وتفصيل الكلام في ذلك مذكور في مطوّلات العلماء ، إلّا
إنّا نشير هنا إلى نبذة من القول في ذلك ، فنقول : اختلف العلماء في المعاد
الجسماني هل هو عبارة عن إيجاد العالم بعد فنائه ، أو جمعه بعد تفرّقه؟ فأكثر
متكلّمي الإمامية على الثاني ، والظواهر من الطرفين متعارضة وإن كان ما
يدلّ على الثاني أكثر. واستدلّ على القول الأوّل بوجوه :
__________________
أحدها
: قوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، أي في الوجود ، ولا يتصوّر ذلك إلّا بانعدام ما سواه
، وليس بعد القيامة ـ وفاقا ـ فيكون قبلها.
واجيب بأنه
يجوز أن يكون المعنى هو مبدأ كلّ موجود وغاية كل مقصود ، أو المتوحّد في الالوهيّة
أو صفات الكمال ، كما إذا قيل لك : هذا أوّل من زارك أم آخرهم؟ فتقول : هو الأول
والآخر ، وتريد أنه لا زائر سواه.
وبالجملة ،
فإنه ليس المراد أنه آخر كلّ شيء بحسب الزمان ؛ للاتفاق على أبديّة الجنّة ومن
فيها.
وثانيها
: قوله عزوجل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلّا وَجْهَهُ) ، فإن المراد بالهلاك : الانعدام.
واجيب بأن
المعنى أنه هالك في حدّ ذاته ؛ لكونه ممكنا لا يستحق الوجود إلّا بالنظر إلى العلّة
، أو المراد بالهلاك : الموت ، كما في قوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) . أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله ، كما
يقال : هلك الطعام ، إذا لم يبق صالحا للأكل وإن صلح لمنفعة اخرى.
وثالثها
: قوله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، والبدء من العدم ، فكذا العود. وأيضا إعادة الخلق بعد
إبدائه لا يتصوّر بدون تخلل العدم.
وأجيب بأنا لا
نسلّم أن المراد بإبداء الخلق : الإيجاد والإخراج عن العدم ، بل : الجمع والتركيب
، كما يشعر به قوله تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا ، كقوله سبحانه (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ
__________________
الْخَلْقَ)
، (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) .
ورابعها : قوله
عزوجل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) ، والفناء هو العدم.
واجيب بالمنع ،
بل هو خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع به عندها ، كما يقال : فني زاد القوم ، وفني
الطعام والشراب. وكذا يستعمل في الموت ، مثل (أفناهم الحرب).
وقيل : معنى
الآية : كلّ من على وجه الأرض من الأحياء فهو ميّت .
قال الإمام
الرازي : (لو سلّمنا أن الفناء والهلاك بمعنى العدم فلا بدّ في الآيتين من تأويل ؛
إذ لو حملناهما على ظاهرهما لزم كون الكلّ هالكا فانيا في الحال ، وليس كذلك. وليس
التأويل بكونه آئلا إلى العدم ـ على ما ذكرتم ـ أولى من التأويل بكونه قابلا) .
وأنت خبير بأن
هذا الكلام مبنيّ على ما صرّح به أئمّة العربية من كون اسم الفاعل ونحوه مجازا في
الاستقبال ، وأنه لا بدّ من الاتصاف بالمعنى المشتقّ منه.
وإنّما الخلاف
في أنه هل يشترط بقاء ذلك المعنى؟ وقد تقدّم تحقيق ذلك في بعض درر هذا الكتاب.
وقد توهّم صاحب
(التلخيص) بأنّه كالمضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، فاعترض
بأن حمله على الاستقبال ليس تأويلا وصرفا عن الظاهر. وفيه ما عرفت.
وخامسها :
الخبر المذكور ، حيث صرّح بأنّه يبلى جسده «حتّى لا يبقى لحم ولا عظم».
__________________
وأجاب عنه بعض مشايخنا
المعاصرين بأن الإبلاء لا يستلزم العدم ؛ فإن العرب يقولون : بلي الثوب ، يعني :
خلق ، وخلق) بمعنى بلي ، فلا يكون الإبلاء إلّا تفرّق الأجزاء وتبدّدها لا عدمها بالمرّة. انتهى.
أقول
: الظاهر بعده ؛
فإنه لو كان كذلك للزم مثله في الطينة ، فإنّها تتفرّق أيضا ، مع أنه عليهالسلام استثناها من البلى ، فالأظهر أن البلى إنّما هو بمعنى
الانعدام كما هو ظاهر الخبر ؛ ليتمّ استثناء الطينة من ذلك.
وسادسها : ما
رواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن هشام بن الحكم ، في حديث الزنديق الذي سأل الصادق عليهالسلام عن مسائل ـ وهو طويل ـ حيث قال فيه : أيتلاشى الروح بعد
خروجه عن قالبه ، أم هو باق؟ قال : «بل هو باق إلى وقت
ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اعيدت
الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة بين النفختين» . والتأويل ممكن وإن بعد .
وسابعها : قول
أمير المؤمنين عليهالسلام في بعض خطبه المنقولة عنه في كتاب (نهج البلاغة) ؛ «هو المفني [لها] بعد
وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتدائها بأعجب من
إنشائها واختراعها».
__________________
__________________
إلى أن قال : «وإنه سبحانه يعود بعد
فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ،
بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون
والساعات ، لا شيء إلّا الواحد القهّار».
إلى أن قال : «ثمّ يعيدها بعد
الفناء من غير حاجة منه إليها» إلى آخره.
ولا يخفى ما
فيه من ظهور الدلالة على فناء جميع المخلوقات عند انقضاء العالم.
واستدلّ
الآخرون القائلون بالقول الثاني أيضا بوجوه :
الأوّل
: أنّه لو كان
الإعادة إنما هي بالمعنى المذكور أوّلا لما كان الجزاء به واصلا إلى
مستحقه ، واللازم باطل سمعا ؛ للأدلة الدالّة على أن الله لا يضيع (أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ، وعقلا ؛ لوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي.
وبيان اللزوم :
أن المنشأ لا يكون هو المبتدأ ، بل مثله ؛ لامتناع إعادة المعدوم بعينه.
وردّ بالمنع ،
ولو سلّم فلا يقوم حجّة على من يقول ببقاء الروح والأجزاء الأصلية وإعدام البواقي
ثمّ إيجادها وإن لم يكن الثاني هو الأوّل بعينه ، بل هو مغاير له في صفة الابتداء والإعادة أو باعتبار آخر. ولا
شكّ أن الاعتبار في الاستحقاق هو الروح.
الثاني : الآيات
الدالة على كون النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد
__________________
التفرق ، كقوله تعالى (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الآية.
وكقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ
خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) إلى قوله (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) . وقوله (كَذلِكَ النُّشُورُ) ، (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، و (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) ، بعد ما ذكر بدء الخلق من الطين وعلى وجه يرى ويشاهد ،
مثل : (أَوَلَمْ يَرَوْا
كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) . (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) . وكقوله (يَوْمَ يَكُونُ
النّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) .
إلى غير ذلك من
الآيات المشعرة بالتفريق دون الإعدام.
واجيب بأنا لا
ننفي الإعدام وإن لم تدلّ عليه ، وإنّما سيقت لبيان كيفيّة الإحياء بعد الموت
والجمع بعد التفريق ، لأن السؤال وقع عن ذلك.
وحاصل هذا
الجواب ـ على ما ذكره بعض الأفاضل ـ أنه يمكن أن يفني الله تعالى العالم بأسره
ويعدمه ، ثم يوجد الأرض والسماء ، ثمّ يحيي الأحياء بجمع
الأجزاء المتفرّقة. ففي ذلك جمع بين ما دلّ على الإعدام وما دلّ على الجمع بعد
التفريق وأنهم (مِنَ الْأَجْداثِ إِلى
رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) انتهى.
الثالث
: ما رواه الثقة
الجليل عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره في الحسن عن جميل بن درّاج عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على
الأرض أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم».
__________________
وقال : «أتى جبرئيل رسول الله
صلىاللهعليهوآله فأخرجه إلى البقيع ،
فانتهى به إلى قبر فصوّت بصاحبه فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل أبيض الرأس
واللحية يمسح التراب عن وجهه ، وهو يقول : الحمد لله والله أكبر ، فقال جبرئيل :
عد بإذن الله. ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل مسود
الوجه وهو يقول : يا حسرتاه يا ثبوراه.
ثمّ
قال له جبرئيل : عد إلى ما كنت بإذن الله ، فقال : يا محمّد ، هكذا يحشرون يوم
القيامة ، والمؤمنون يقولون هذا القول ،
وهؤلاء يقولون ما ترى» .
الرابع
: ما رواه
الديلمي في (إرشاد القلوب) قال : روت الثقات عن زين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام : «إن
الصور قرن عظيم».
ثم ساق الخبر ـ
وهو طويل ـ إلى أن قال عليهالسلام : «ثمّ
يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض أربعين يوما حتى يكون الماء فوق كلّ شيء [اثني
عشر] ذراعا ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل ، فتتدانى
أجزاؤهم التي صارت ترابا إلى
بعضها بعضا بقدرة العزيز الحميد ، حتى إنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميّت ، وصارت
لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها ترابا مختلطة بعضها ببعض ، لم يختلط تراب
ميّت بميّت آخر ؛ لأنّ في ذلك القبر سعيدا وشقيا ، جسد ينعم بالجنة ، وجسد يعذّب
بالنار ، نعوذ بالله منها» الحديث.
الخامس
: ما رواه
الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) في حديث الزنديق المشار إليه آنفا ، عن الصادق عليهالسلام ، حيث قال : أنى للروح بالبعث ، والبدن قد بلي والأعضاء
قد تفرقت ، فعضو في بلدة تأكله سباعها ، وعضو باخرى تمزقه هوامها ، وعضو قد صار
ترابا بني به مع الطين حائط؟ فقال عليهالسلام : «إن الذي أنشأه من غير
__________________
شيء ، وصوّره على غير مثال كان سبق ، قادر أن يعيده كما بدأه».
قال : أوضح لي
ذلك. قال : «إن الروح
مقيمة في مكانها ، روح المحسنين في ضياء وفسحة ، وروح المسيئين في ضيق وظلمة.
والبدن يصير ترابا [كما] منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها ممّا
أكلته ومزّقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات
الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها. [وإن]
تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت السماء [فـ]
تربو الأرض ، ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا
غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب [إلى قالبه] ، فينقل
بإذن الله إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ،
فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» .
السادس
: ما ذكره
الإمام العسكري عليهالسلام في تفسيره قال : «إن الله ينزل بين نفختي الصور بعد ما
ينفخ النفخة الاولى ـ من دوين سماء الدنيا ، من البحر المسجور الذي قال الله (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، وهو من منيّ كمنيّ الرجال ، فيمطر ذلك على الأرض ، فيلقي
الماء المني مع الأموات البالية فينبتون من الأرض ويحيون» .
أقول
: ويمكن الجواب
عن هذه الأخبار بما اجيب به عن الآيات المتقدّمة من أن الغرض من سوقها بيان كيفيّة
الإحياء والإيجاد ، ولا سيّما إذا قلنا بفناء العالم كملا ، كما دلّ عليه كلام
أمير المؤمنين عليهالسلام المتقدّم.
وتوضيحه أنه لا
ريب في أن هذه الأجساد تضمحلّ وتتفرّق في التراب ، كما وصفه في حديث (الاحتجاج) ،
ولكن بعد أن يأذن الله سبحانه في فناء العالم ـ
__________________
من أرض وسماء وجميع ما فيها ـ يحصل العدم المحض للجميع ، ثمّ بعد ذلك إذا
أذن الله عزوجل في إيجاد ما أفناه أعاد الأرض أولا بجميع ما أودعه فيها
، وأعاد السماء ، ثمّ فعل به ما ذكر في هذه الأخبار.
وبالجملة ،
فالأدلّة ـ كما سمعت ـ من الطرفين والأجوبة من الجانبين متعارضة متصادمة ، وما
ادّعوه من امتناع إعادة المعدوم لم يأتوا عليه بدليل يركن إليه ولا برهان يعتمد
عليه ، والأمر بالنسبة إلى القدرة الإلهيّة من الممكنات ؛ لأن الله تعالى قادر على
جميع المقدورات ، محيط علمه بجميع المعلومات من جزئيّات وكلّيات.
والتمسك بقصور
إدراك العقل عن ذلك مع إمكانه بالنسبة إلى القدرة الإلهيّة ممّا لا يسمن ولا يغني
من جوع ؛ فإن كثيرا من أحوال النشأة البرزخيّة والاخرويّة ممّا يقصر العقل عن
إدراكها مع ورود الشرع بها ؛ ولهذا أنكرها جملة من العقلاء المستبدّين
بعقولهم والمستندين إليها ، كمسألة تجسّم الأعمال ونحوها. ولذا أيضا قد أنكر جملة
من العقلاء القول بالمعاد ؛ لاعتمادهم في الأحكام على مجرّد العقل ، مستندين إلى
استلزامه إعادة المعدوم ، وزيّفوا ذلك بشبهات واهية مذكورة في مظانّها.
والحقّ إلّا
إنه لا يمكن الجزم في المسألة بشيء من القولين ، إلّا أنه يمكن أن يقال : إنه
يكفي في المعاد في المعاد كونه مأخوذا من الأجزاء الأصلية الباقية
__________________
__________________
بعد فناء البدن التي صرّح بها عليهالسلام في خبر عمّار المبحوث عنه ؛ إذ مدار اللذات والآلام التي هي الغرض من
الإعادة إنما هو على الروح ولو بواسطة الآلات.
ويعضد ما
ذكرناه أن القائلين بالهيولى يقولون بانعدام الصورة الجسمية والنوعيّة وبقاء
الهيولى عند تفرّق الجسم ، والنافين لها يقولون بعدم انعدام جزء من الجسم عند
التفرق.
ويؤكّده ما
ذكره بعض المحقّقين من (أن تشخص الشخص إنما هو بأجزائه الأصلية المخلوقة من المني
، وتلك الأجزاء باقية في مدّة حياة الشخص وبعد موته وتفرّق أجزائه) انتهى.
أقول
: لا يخفى أن
غاية ما يستفاد من الأخبار المتقدّمة الدالّة على الإعادة هو الدلالة على إعادة
ذلك الشخص ، بمعنى أنه يحكم عليه عرفا أنه هو هو ، كما أنه يحكم على الماء الواحد
إذا افرغ في إناءين أنه هو الماء الذي كان في إناء واحد عرفا وشرعا ، ولا يمنع ذلك
تشخّصه بالوحدة التي كان عليها حال كونه في ذلك الإناء الواحد.
وقد روي عن
الصادق عليهالسلام أن ابن أبي العوجاء سأله عن قوله تعالى (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) قال : ما ذنب الغير؟ فقال عليهالسلام : «ويحك
هي هي ، وهي غيرها». قال : فمثّل لي [في] ذلك شيئا من أمر الدنيا. قال : «نعم ، أرأيت لو أن
رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها؟ فهي هي ، وهي غيرها» ، فإنّ الظاهر أن المعنيّ فيه أنها هي هي من حيث المادة
، وإنما الاختلاف في الصفات والعوارض الغير المشخّصة ، وبذلك صارت غير الاولى.
__________________
وبالجملة ، فإن
الادراك واللذة إنما [يقومان] بالروح وإن كان بواسطة الآلات كما أشرنا إليه آنفا ،
وإن تشخص الشخص إنما هو بتلك الأجزاء الأصلية ، ولذلك يقال للشخص من الصبا إلى
الشيخوخة : إنه هو هو بعينه وإن تبدّلت الصورة والهيئات ، بل كثير من الأعضاء
والآلات ، ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب : إنها عقوبة لغير الجاني ؛
باعتبار تبدّل الصورة والآلات والهيئات من الحالة الاولى إلى الحالة الأخيرة.
فعلى هذا يقال
: إن المعاد في الآخرة هو الشخص الذي كان في الدنيا بعينه وشخصه ، وهذه العينيّة
والشخصيّة ـ كما عرفت ـ راجعة إلى أجزاء الروح مع تلك الأجزاء الأصليّة. وعلى هذا
تتلاءم الأخبار والآيات والدلائل الدالة على أن المعاد في الآخرة هو عين هذا الجسم
، كقوله سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) . والدالة على أنه مثله ، كقوله تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ
نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) ، إلى غير ذلك.
وبه تندفع جملة
من الإشكالات الموردة في المقام ، ومنها أنه لو قلنا باستحالة إعادة المعدوم ،
فإنه يبطل القول بالمعاد ، بمعنى جمع الأجزاء المتفرقة أيضا ؛ لأنّ أجزاء بدن
الشخص كبدن زيد مثلا لا يكون بدن زيد إلّا بشرط اجتماع خاصّ وشكل معيّن ، فإذا
تفرّقت أجزاؤه وانتفى الاجتماع والتشكل المعيّنان لم يبق بدن زيد ، ثمّ إذا اعيد ؛
فإمّا أن يعاد ذلك الاجتماع والتشكل بعينهما ، أو لا. وعلى الأوّل يلزم إعادة
المعدوم ، وعلى الثاني لا يكون المعاد بعينه هو البدن الأوّل ، بل مثله ، وحينئذ يكون
تناسخا. ومن ثمّ قيل : ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ .
__________________
والجواب أن
يقال : إنما يلزم التناسخ لو لم يكن البدن المحشور مؤلّفا من الأجزاء الأصليّة
للبدن الأوّل ، أما إذا كان كذلك فلا يستحيل إعادة الروح إليه ، وليس ذلك من
التناسخ ، فإن سمّي به فهو مجرّد اصطلاح ؛ فإن التناسخ الذي دلّ الدليل على منعه
واستحالته عبارة عن تعلّق نفس زيد ببدن آخر لا يكون مخلوقا من أجزاء بدنه ، وأمّا
تعلّقها بالبدن المؤلف من أجزائه الأصليّة بعينها ، مع تشكّلها بشكل مثل الشكل
السابق ، فهو الذي نعنيه بالحشر الجسماني.
وكون الشكل
والاجتماع غير السابق لا يقدح في المقصود ، وهو حشر الأشخاص الإنسانية بأعيانها ؛
لما بيّناه آنفا من أن زيدا مثلا شخص واحد محفوظ وحدته الشخصيّة من أوّل عمره ـ إلى
آخره ـ بحسب العرف والشرع ؛ ولذلك يؤاخذ عرفا وشرعا بعد التبدّل ما لزمه قبل. وكما
لا يتوهّم أن في ذلك تناسخا لا ينبغي أن يتوهّم في هذه الصورة وإن كان الشكل
الثاني مخالفا للشكل الأوّل ، كما ورد في الخبر أنه يحشر
المتكبرون كأمثال الذر ، وأن ضرس الكافر مثل جبل احد ، وأن أهل الجنة جرد مرد
مكحولون.
والحاصل أن
المعاد الجسماني عبارة عن عود النفس إلى بدن هو ذلك البدن بحسب الشرع والعرف ،
ومثل هذه التبدّلات والتغيّرات التي لا تقدح في الوحدة بحسب الشرع والعرف لا تقدح
في كون المحشور هو المبدأ.
ومنها أنه على
القول الأوّل من القولين المتقدّمين يلزم أنه (لو كانت إعادة المعدوم جائزة لكان
إعادة الوقت الذي حدث فيه أولا جائزة ، لكن اللازم باطل ، فالملزوم كذلك.
بيان الملازمة
: أن الوقت الأوّل من شرائط وجود ذلك الشخص ومشخّصاته ،
__________________
فيستحيل وجوده ثانيا بعينه من دون ذلك الشرط.
بيان بطلان
اللازم : أنه لو اعيد ذلك الوقت بعينه لكان ذلك الإيجاد
ثابتا له في الوقت الأوّل ، فيكون من حيث هو معاد مبتدأ ، هذا خلف).
وعلى هذا
الدليل اقتصر العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني ـ عطّر الله مرقده ـ على ما نقل
عنه في قواعده .
وجوابه بناء
على ما عرفت من حصول العينية والتشخّص بانضمام تلك الأجزاء إلى الروح ، حسب ما
بينّاه وأوضحناه.
ومنها أن من
تفرّق أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها ، وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران
الرباع ، كيف يجمع؟ وأبعد من هذا لو أن إنسانا أكل إنسانا صار أجزاء المأكول في
أجزاء الآكل ، فإن اعيد ؛ فأجزاء المأكول إمّا أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى
للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وإمّا أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى
للآكل أجزاء.
والجواب أن في
الآكل أجزاء أصليّة وأجزاء فضليّة وكذلك في المأكول ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار
الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل ، والأجزاء الأصليّة للآكل هي ما
كان له قبل الأكل. والله بكلّ شيء عليم ، يعلم الأصلي من الفضلي ، فيجمع الأجزاء
الأصليّة للآكل وينفخ فيها روحه ، ويجمع الأجزاء الفضليّة ـ وهي الأصليّة ـ للمأكول
وينفخ فيها روحه. وكذلك يجمع الأجزاء المتفرّقة في البقاع المتعدّدة والأصقاع
المتبدّدة بقدرته الكاملة وحكمته
__________________
الشاملة ، كما تقدّم في حديث (الاحتجاج) من أدلّة
القول الثاني.
وعلى هذا يحمل
ما تقدّم من الأخبار الدالّة على حفظ أجزاء البدن في التراب على خبر عمّار المذكور
الدالّ على اختصاص ذلك بالطينة الّتي خلق منها ، وأن ما عداها يضمحلّ ويبلى.
وأمّا ما ذكره
المحدّث الكاشاني في (الوافي) ، حيث قال بعد نقل الخبر المشار إليه : (لعلّ المراد
بطينته التي خلق منها بدنها المثالي البرزخي اللطيف الذي يرى الإنسان نفسه فيه في
النوم ، وقد مضت الإشارة إليه في الأخبار الماضية.
واستدارتها
عبارة عن انتقالها من حال إلى حال ، من الدوران بمعنى الحركة.
ويقال : إن
حاله في هذه المدّة كحال النطفة في الرحم ، والبذر في الأرض ، ينبت ويثمر ويختلف
عليه [أطوار] النشأة ، إلى أن يتولّد يوم القيامة بالنفخة الإسرافيلية ، ويفيق من
صعقته ، ويخرج من الهيئة المحيطة به كما يخرج الجنين من القرار المكين (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) . فالموت ابتداء البعث) انتهى.
فلا يخفى ما
فيه من البعد عن ظاهر الخبر المذكور ، بل التعسف البالغ في الظهور ؛ لأنه عليهالسلام ذكر أن الطينة تبقى مستديرة في القبر ـ من الاستدارة ـ فكيف
يصحّ حملها على البدن المثالي البرزخي ، والبدن المثاليّ البرزخيّ إنّما هو في
وادي السلام وهو في ظهر الكوفة ، الذي تنقل إليه أرواح المؤمنين؟ ثمّ إنه أيّ
مناسبة بين الطينة التي خلق منها وبين البدن المثالي حتى تحمل عليه؟! وأيضا إن
الانتقالات ـ كما في النطفة ـ لا تترتّب على البدن المثالي ؛ بل
__________________
الظاهر من الخبر الذي لا يعتريه الشكّ ولا الإشكال ولا يتطرّق إليه الريب ولا
الاحتمال إنما هو حمل الطينة على الأجزاء الأصليّة التي خلق منها البدن ، فإنّها
تبقى محفوظة في القبر إلى أن يخلق منها مرّة اخرى بإنزال المطر الذي دلّت عليه
الأخبار المتقدّمة ، وأنه تنمو به تلك الطينة
الأصلية وتنبت كما تنبت الشجرة وتخرج من النواة ، والإنسان من النطفة. هذا هو ظاهر
الخبر كما عرفت آنفا.
ولكن هؤلاء ـ أعني
من اتّسم بالتصوّف ـ عادتهم في تفسير الأخبار اختراع المعاني البعيدة ، ويزعمون أنهم
من أهل الحقائق والباطن ، كما لا يخفى على من راجع كتب هذا القائل وأمثاله من
علماء الصوفيّة العاميّة ، والله الهادي لمن يشاء.
__________________
(٥٧)
درّة نجفية
في حكم منجزات المريض أنها
هل تخرج من الأصل أو الثلث؟ وكذا إقراره
و [هاتان
المسألتان] هما من عويصات المسائل وأمّهات المعاضل ؛ لوقوع الاختلاف فيهما نصا
وفتوى بين علمائنا الأعلام ، وقد صارتا منتصلا لسهام النقض والإبرام. وها أنا مثبت
في هذه الدرّة الفاخرة والجوهرة الباهرة ما وصل إليه فهمي القاصر ، وخطر ببالي
الفاتر من أخبار أهل الذكر عليهمالسلام ، كاشف عن ذلك نقاب الإبهام ، بما تشتاقه الطباع
السليمة والأفهام المستقيمة ، فأقول : إن الكلام هنا يقع في مقصدين :
المقصد
الأوّل : في المنجّزات.
وهي عبارة عن التبرعات المنجّزة في مرض الموت المشتملة على المحاباة ، كالإبراء
والهبة ، والبيع بأقل من ثمن المثل ، ونحو ذلك ممّا فيه نقص على الوارث وإضرار به. وقد
اختلف أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في أن مخرجها من الأصل أو الثلث ـ وقد اتّفق
الفريقان على لزوم ذلك لو برئ من مرضه ذلك ولم يمت فيه ، وإنّما الخلاف لو مات في
مرضه ذلك ـ على قولين :
__________________
والأوّل :
منهما للشيخ المفيد في (المقنعة) ، والشيخ في (النهاية) ، وابن
البرّاج وابن إدريس ، وإليه مال المحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي
، والفاضل المولى محمّد باقر الخراساني في (الكفاية) ، والمحدّث
الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ قدّس الله أرواحهم ونوّر أشباحهم ـ وهو
الأظهر عندي والمختار.
والثاني :
للشيخ في (المبسوط) ، والصدوق وابن الجنيد ، وهو المشهور بين المتأخّرين .
فمن الأدلّة
الدالّة على القول الأوّل ظاهر قوله عزوجل (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) .
وقد روى الشيخ قدسسره في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ في حديث ـ قال : «وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) ، وهذا يدخل فيه الصداق والهبة» .
والتقريب فيه
أنه دالّ بإطلاقه على ما يشمل الصحّة والمرض.
ومنها موثّقة
عمّار أنه سمع أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «صاحب المال أحقّ بماله ما دام
__________________
فيه شيء من الروح ، يضعه حيث يشاء» .
ومنها موثّقة
سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يكون له الولد ، أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟
قال : «هو ماله
يصنع به ما يشاء إلى أن يأتيه الموت» .
و [وروى] في (الكافي)
عن أبي بصير مثله ، وزاد فيه : «إنّ
لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا ، إن شاء وهبه ، وإن شاء تصدّق به ،
وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت. وإن أوصى به فليس له إلّا الثلث ، إلّا إن الفضل
في ألّا يضيّع من يعول ولا يضرّ بورثته» .
ومنها صحيحة
أبي شعيب المحاملي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الإنسان أحقّ بماله ما دامت الروح في بدنه» .
ومنها مرسلة
إبراهيم بن أبي بكر بن أبي السمّال الأزديّ ، عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الميّت أولى بماله ما دام فيه الروح» .
__________________
ومنها رواية مرازم
عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام ، في الرجل يعطي الشيء من ماله في مرضه ، فقال : «إذا أبان فيه فهو
جائز ، وإن أوصى به فهو من الثلث» .
والظاهر أن
المراد بقوله : «أبان فيه» أي ميّزه وعزله وسلّمه إلى المعطى ، ولم يعلّق إعطاءه
على الموت.
ومنها موثّقة
عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : الميّت أحقّ بماله ما دام فيه الروح
يبيّن به؟ قال : «نعم
، فإن أوصى به فليس له إلّا الثلث». كذا في (الكافي) .
ورواه الشيخ في
(التهذيب) ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الميّت أحقّ بماله ما دام فيه الروح تبيّن به
، فإن قال : بعدي ، فليس له إلّا الثلث» .
وفي (الفقيه) ـ
عوض قوله : «فإن قال :
بعدي» ـ : «فإن تعدّى» . وما في (التهذيب) أظهر ، ويعضده ما في (الكافي) .
ومنها موثّقة
عمّار أيضا برواية المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الرجل أحقّ بماله ما دام فيه الروح ، إن أوصى
به كلّه فهو جائز» .
__________________
أقول : ينبغي
حمل هذا الخبر على فقد الوارث ، أو إجازة الورثة ؛ فإن الوصية
لا تنفذ إلّا من الثلث.
ومنها موثّقة
عمّار الساباطي أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام ، في الرجل يجعل بعض ماله لرجل [في مرضه]. قال : «إذا أبانه جاز» .
هذا ما وقفت
عليه من الأخبار الدالّة على هذا القول.
وأمّا ما يدلّ
على القول الآخر ، فمنه رواية عليّ بن عقبة عن الصادق عليهالسلام ، في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ،
فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك ، كيف القضاء فيه؟ قال : «ما يعتق منه إلّا ثلثه ، وسائر ذلك للورثة
[والورثة] أحقّ بذلك ، ولهم ما
بقي» .
وموثّقة سماعة
قال : سألته عن عطية الوالد لولده؟ فقال : «أمّا إذا كان صحيحا فهو له
يصنع به ما يشاء ، وأمّا في مرض فلا يصلح» . وهو دالّ على أنه في غير الصحّة لا يصلح.
وصحيحة الحلبي
قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن المرأة تبرئ زوجها [من صداقها] في مرضها؟ قال
: «لا» .
__________________
وموثّقة سماعة
قال : سألته عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه تبرئه منه في مرضها؟ قال :
«لا ،
ولكنّها إن وهبت له جاز ما وهبت له من ثلثها» .
ورواية أبي
ولّاد قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرئه منه في مرضها؟
قال : «بل تهبه له
، فتجوز هبتها له ، ويحسب ذلك من ثلثها إن كانت
تركت شيئا» .
وصحيحة علي بن
يقطين قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام : ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : «الثلث ، والثلث كثير» .
وصحيحة يعقوب
بن شعيب قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يموت ، ما له من ماله؟ قال : «له ثلث ماله ،
وللمرأة أيضا» .
ورواية عبد
الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وإن لم يوص فليس
على الورثة إمضاؤه» .
هذا ما وقفت
عليه من روايات هذا القول.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن ترجيح أخبار القول الأول يظهر من وجوه :
أحدها : اعتضاد
تلك الأخبار بظاهر (القرآن) كما عرفت آنفا.
وثانيها : أنها
مخالفة للعامة ، كما نبّه عليه كثير من أصحابنا ـ رضوان الله
__________________
عليهم ـ من أن أكثر العامة على القول بمضمون الأخبار الأخيرة.
ومن أخبارهم في
المسألة ـ على ما نقله شيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) عن صحاحهم ـ أن رجلا من
الأنصار أعتق ستّة أعبد في مرضه لا مال له غيرهم ، فاستدعاهم النبي صلىاللهعليهوآله وجزّأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرقّ
أربعة .
قال قدسسره : (وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الجنيد في كتابه (الأحمدي)
..) .
الثالث
: أنها صريحة
الدلالة على المطلوب والمراد ، عارية عن وصمة الطعن في دلالتها والإيراد ، ولهذا
أن المتأخّرين إنّما تيسّر لهم الطعن في أسانيدها بناء على الاصطلاح المحدث ،
وأمّا من لا يراه ولا يعمل به ـ كما هو الحقّ الحقيق بالاتباع ، وعليه جرى جملة
متقدّمي علمائنا : الصدور منهم والأتباع ـ فلا مجال للطعن بذلك عنده. بخلاف
الأخبار المقابلة لها ، فإنّها لما هي عليه من الإجمال وسعة دائرة الاحتمال غير
قابلة للاستدلال ، مع ما في جملة منها من الاختلال من جهات اخر ، والاعتلال ، كما
سيظهر لك إن شاء الله تعالى في المقام بأوضح مقال.
الرابع :
اعتضادها بالإجماع على صحّة التصرف ، المعتضد بقوله صلىاللهعليهوآله : «الناس
مسلّطون على أموالهم» . خرج منه ما خرج من التصرف المعلّق على الموت بدليل ،
وبقي الباقي ؛ لعدم الدليل الناص على ذلك ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
الخامس :
اتّفاق القائلين من الطرفين على لزوم التصرّف لو برئ من مرضه ،
__________________
ونفاذه من الأصل ، فإنه لا وجه له على القول الآخر إلّا باعتبار أن يكون
صحيحا غير لازم ، موقوفا على إجازة الوارث إن مات أو البرء ، فيكون البرء كاشفا عن
الصحّة واللزوم ، وإجازة الوارث وعدمها [كاشفة] عن اللزوم وعدمه ، بعين
ما قالوه في تصرّف الفضولي.
وأنت خبير
بأنّا لم نظفر لهم في أمثال هذه المقامات على أزيد من وجوه اعتبارية لا تصلح لأن
تكون مستندا في الأحكام الشرعيّة ، كما حقّقنا ذلك بما لا مزيد عليه في بعض
فوائدنا في مسألة البيع الفضولي ، حيث إن المشهور بينهم صحته ؛ لوجوه اعتبارية
ذكروها ، مع أن الأخبار تمنعها وتردّها كما أوضحناه في الموضع المشار إليه.
ولا يخفى أن
مقتضى الأدلّة كتابا وسنّة هو وجوب الوفاء بالعقود وترتب أثرها عليها من جواز
التصرف بجميع أنواع التصرّفات ، وإبطال ذلك يحتاج إلى دليل قاطع وبرهان ساطع ، فما
خرج بدليل من (كتاب) أو سنّة وجب الوقوف عليه ، وما لم يقم عليه دليل فهو باق على
مقتضى الأدلّة. ولا ريب أن التصرّف في الصورة المفروضة كذلك بمقتضى الأدلّة
المتقدّمة.
وبالجملة ،
فإنّا نقول : إن مقتضى العقد هو الصحّة واللزوم ، وجواز التصرّف لمن انتقل إليه
كيف شاء ، واستمرار ذلك في جميع الأزمنة. وتخلّف بعض الأفراد في بعض الموارد لقيام
دليل لا يقتضي انسحابه فيما لا دليل فيه ؛ إذ هو قياس محض.
__________________
وحينئذ ، فلزوم
التصرّف بعد البرء من المرض ـ كما وقع الاتفاق عليه ـ إنّما نشأ من لزوم العقد
أولا في حال المرض كما نقوله وندّعيه ، لا أنه إنّما وقع صحيحا غير لازم كما
يدّعونه ، حتى فرّعوا عليه صحّة هذا القول.
السادس ما
أشرنا إليه آنفا من عدم صلوحية الروايات المعارضة للمعارضة ؛ لما فيها من
الاحتمال ، بل الاختلال في جملة منها والاعتدال المانع من صحّة الاعتماد عليها في
هذا المجال. وها نحن نسوق الكلام فيها رواية رواية :
فمنها رواية
علي بن عقبة التي هي أوضح أدلّة أولئك القائلين. وأظهر الوجوه فيها
هو الحمل على التقيّة ، لمطابقتها ـ كما عرفت ـ للرواية العامية.
واحتمل شيخنا
الشهيد الثاني في (المسالك) أيضا حملها على الوصيّة قال : (لأن حضور الموت قرينة
منعه من مباشر العتق ، ويجوز نسبة العتق إليه ؛ لكونه سببه القوي بواسطة الوصيّة).
قال : (وهذا
وإن كان بعيدا إلّا إنه مناسب ، حيث لم يبق للرواية عاضد) انتهى.
وظنّي أن ما
ذكرناه من الحمل على التقيّة هو الأقرب والأنسب. ثم إنه على تقدير تسليمها فموردها
خاصّ ، والمدّعى أعمّ من ذلك ، ودعوى الأولويّة ممنوعة ، بل هو قياس محض ، وعدم
القائل باختصاص الحكم به لا يسوّغ قياس غيره عليه.
ومنها موثّقة
سماعة ، ونحوها رواية جرّاح المدائني .
__________________
وأوّل ما فيهما
: أنه لا قائل بهما على ظاهرهما ، لأن ظاهرهما المنع من عطيّة الوالد
لولده في المرض مطلقا ، زاد على الثلث أم لم يزد ، بل بلغ الثلث أم لم يبلغ ،
والحمل على معنى أنه لا يصلح من الأصل بل من الثلث وإن كان صحيحا في حدّ ذاته إلّا
إنه بعيد من سياق الخبر ؛ إذ لا تعرّض في شيء منهما للأصل والثلث ، وإنّما السؤال
عن العطيّة بقول مطلق ، فأجاب بأنه في حال الصحّة يفعل ما يشاء ، وأمّا في حال
المرض فليس له ذلك.
الثاني
: أنهما أخصّ من
المدّعى ، فلا ينهضان حجة على العموم.
الثالث
: احتمال حمل
العطية على الوصيّة ، ولعلّه أقرب في المقام ؛ ليحصل به الجمع بين أخبار الطرفين.
وأمّا الحمل
على تخصيص المنع من العطيّة في المرض بالوارث ـ كما جنح إليه المحدّث الكاشاني في (الوافي)
قال : (وسرّه ما ذكره في (التهذيبين) من الإيحاش ،
فإن فعل حسب من الثلث ، كما تدلّ عليه الأخبار) انتهى ـ ففيه
:
أولا
: أن إثبات حكم
كلّي بورود ذلك في جزئي خاصّ ـ سيّما مع عدم الصراحة كما أشرنا إليه ـ لا يخلو من
الإشكال.
وثانيا
: أنه إذا كان
متى فعل صحّ وحسب من الثلث فأيّ اختصاص للمنع بالوارث ؛ إذ الاحتساب من الثلث ممّا لا
نزاع فيه ، لوارث كان أو لأجنبيّ ، فلا يظهر لمنع الوارث هنا وجه.
__________________
ومنها صحيحة
الحلبي ، وما في معناها من موثّقة سماعة ، ورواية أبي
ولّاد .
فأوّل ما فيها
: ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني قدسسره في (المسالك) من أن مضمونها لا يقول به أحد لأن الإبراء
ممّا في الذمّة صحيح بالإجماع ، دون هبته ، فالحكم فيها بالعكس ، فكيف
يستند إلى مثل ذلك ؟! الثاني : أنها أخصّ من المدّعى ، فلا تنهض حجّة على
العموم.
الثالث
: معارضتها بظاهر
الآية المفسّرة في صحيحة زرارة بالصداق ، وأنه متى طابت نفسها عنه بإبراء أو هبة حلّ
له ، في مرض كان أو صحّة ، زاد على الثلث أو نقص ؛ كلّ ذلك لإطلاق الآية والخبر
المذكور.
فإن قيل : إن
إطلاق الآية والخبر المفسّر لها يجب تخصيصه بهذه الأخبار.
قلنا : هذه
الأخبار لما فيها من العلة بالمنع من جواز الإبراء الذي لا خلاف ولا إشكال في
جوازه يشكل الاعتماد عليها في حكم كما عرفت ، فكيف تبلغ قوة في تخصيص الآية
والصحيحة المذكورة ، سيّما أن الآية والخبر المذكورين قد اعتضدا بالأخبار الكثيرة
المتقدّمة في أدلّة القول الأوّل المختار؟ فالتخصيص لهما تخصيص للجميع ، وهذه
الأخبار ـ للعلّة المذكورة مع خصوص موردها
__________________
كما عرفت ـ لا تبلغ قوة في تخصيص الجميع.
وأمّا ما
تكلّفه جمع من متأخّري متأخّري مشايخنا ـ عطّر الله مراقدهم ـ في الجواب عن الطعن
الأوّل في هذه الروايات ـ بالحمل على أنه عليهالسلام كان يعلم أن حقّ المرأة لا ينتقل إلى ذمّة الرجل ،
وإنّما كان عينا موجودة ، فلأجل ذلك منع من الإبراء الذي لا يقع إلّا على ما في
الذمّة ، وأمر بالهبة ـ فظنّي بعده ، بل تعسّفه ؛ لأن هذا المعنى إنما ذكروه في
توجيه رواية سماعة ، وغاية إمكانه قصره على قضية واحدة ، مع أن رواية أبي ولّاد قد
تضمنت الدين ، ووقع الجواب بهذا التفصيل فيه ، فكيف يكون المراد بذلك العين
الخارجة عمّا في الذمّة خاصّة؟
ومنها صحيحة
علي بن يقطين ، ونحوها صحيحة يعقوب بن شعيب ، ورواية عبد
الله بن سنان . والظاهر من الجميع هو الحمل على ما بعد الموت.
أمّا صحيحة
يعقوب بن شعيب فهي كالصريحة في ذلك ، حيث قال فيها : (الرجل يموت فما له من ماله)؟
أي بعد موته ، فلا وجه حينئذ للاستدلال بها على المنجّزات ، كما هو محل البحث.
وقريب منها الروايتان الاخريان ؛ لقوله : (عند موته).
وبالجملة ، إن
لم يكن ما ذكرناه أظهر فلا أقلّ من أن يكون مساويا ، وبه يسقط الاستناد إليها في
الاستدلال. ويؤيد ما ذكرناه من الحمل على الوصية تكرر هذا المعنى في الأخبار ،
ودلالة أنّ غاية ما للميت الوصية به من ماله هو الثلث ، وأن الأفضل الاقتصار على ما
دونه.
__________________
ومن ذلك صحيحة
محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : لئن اوصي بخمس
مالي أحبّ إليّ من أن اوصي بالربع ، ولئن اوصي بالربع أحبّ إلي من أن اوصي بالثلث
، ومن أوصى بالثلث فلم يترك فقد بالغ» .
وفي حسنة حمّاد
بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من أوصى بالثلث فقد أضرّ بالورثة ، والوصية
بالخمس والربع أفضل من الوصية بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك» .
إلى غير ذلك من
الأخبار التي على هذا المنوال ، وإلى ذلك يشير قوله عليهالسلام في صحيحة علي بن يقطين : «والثلث كثير».
وحينئذ ، فلا
وجه لنظم هذه الأخبار في سلك الاستدلال.
ولعلّ وجه
الحكمة في منع الشارع له من الزيادة على الثلث في الوصية التي يكون تنفيذها بعد
الموت ، كما صرّحت به هذه الأخبار ، وتجويز التصرف له في ماله حال مرضه مطلقا ،
بأن يفعل به ما يشاء ويبيّنه ، كما صرّحت به الأخبار التي قدّمناها واعتمدناها ،
هو أن المال بعد الموت لمّا كان ينتقل للورثة ويخرج عن ملكه وتصرفه ، فإنه يسهل
على النفس السخاء به والجود به ، حيث إنه يصير للغير من بعده ، فمن أجل ذلك اقتضت
الحكمة الربانية منعه من الزيادة في الوصية على الثلث ، خوف الإضرار بالورثة
والتعدي عليهم في أموالهم ، مع حفظه له لمّا كان له ، وشحّه عليه وحرصه به.
وهذه الحكمة
ليست حاصلة في الحي وإن كان مريضا ، فإن البرء ممكن ،
__________________
والشحّ بالمال في الجملة حاصل ، فيكون كتصرف الصحيح في ماله لا في مال
غيره. وتوهّم كون [مال] المريض في معرض أن يكون للورثة بخلاف الصحيح مطلقا
ممنوع ، فربّ مريض عاش ، وصحيح سبقه الموت ، كما هو المشاهد بالوجدان في غير مكان وزمان.
وبالجملة ، فإن
التصرف في الصورة الاولى لمّا كان بعد زمان الموت الذي ينتقل فيه المال للوارث صار
كأنه تصرف في مال الوارث ، والتصرف في الصورة الاخرى لمّا كان في الحياة ، ولا
تعلّق له على الموت كان كتصرف الصحيح في ماله يفعل به ما يشاء.
وبما شرحناه
يظهر لك أن أكثر هذه الأخبار غير ظاهر الدلالة ، وما ربّما يظهر منه ذلك فالظاهر
أن سبيله الحمل على التقية التي هي الأصل التام في اختلاف الأخبار عنهم عليهمالسلام.
وأمّا روايات
القول الأوّل الذي عليه المعوّل فهي صريحة الدلالة ، واضحة المقالة ، لا مجال
للطعن في شيء منها إلّا بضعف الأسناد ، بناء على هذا الاصطلاح الذي لا تعويل عليه
ولا اعتماد. ومن أجل ذلك توقّف شيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) في ترجيح أحد
القولين ، وتبعه المحدّث الكاشاني ـ كما هي عادته غالبا ـ في كتاب (المفاتيح) ،
فقال في المسألة المذكورة : (وفي منع المريض من التبرعات المنجّزة التي تستلزم
تفويت المال على الورثة من غير عوض زيادة على الثلث من دون إذنهم أو إجازتهم
قولان. وفي الأدلة من
__________________
الجانبين نظر ؛ إذ ما صح سنده غير دال ، وما هو دال غير صحيح ولا معتبر ،
إلّا موثق في طرف الجواز مؤيد بالأصل ، وهو : «إنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيا» ، لكنّه معارض بالأكثرية والأشهرية) انتهى.
وحينئذ ، فمن
لا ير العمل بهذا الاصطلاح ويحكم بصحة الأخبار جميعا ؛ جريا على الاصطلاح القديم ،
تبق عنده تلك الأخبار صحيحة صريحة ، فيتعيّن القول بها.
هذا ، ولا يخفى
عليك ما في كلام المحدّث المشار إليه من الخروج عن قواعد المحدّثين والمنافاة
لطريقة الأخباريين ، وهو من رءوسهم المعدودين وفرسانهم المشهورين ، ولا سيّما في
الطعن على المجتهدين في اصولهم وقواعدهم التي من أعظمها العمل بهذا الاصطلاح.
ولعلّ العذر له
، حيث إن تصنيف هذا الكتاب كان في مبدأ أمره قبل تسنّمه ذروة ذلك المقام ، كما
اعترف به في بعض مصنّفاته فقال : إن تصنيفه هذا الكتاب كان قبل كماله ، وأنه تبع
فيه (المدارك) و (المسالك) غالبا .
المقصد الثاني
في حكم الإقرار. وقد اختلف أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ فيه على أقوال :
أحدها : أنه
يخرج من الأصل. ذهب إليه سلّار وابن إدريس ، ولم يفرّقا بين
__________________
إقراره في صحّته ولا في حال مرضه ؛ لعموم : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» ، ولأنه يريد إبراء ذمته من حق عليه في حال الصحة ، ولا
يمكن التوصل إليه إلّا بالإقرار فلو لم يقبل بقيت ذمته مشغولة ، وبقي المقرّ له
ممنوعا من حقه ، وكلاهما مفسدة ، فاقتضت الحكمة قبول قوله.
وثانيها : أنه
من الأصل أيضا ، لكن مع العدالة وانتفاء التهمة مطلقا ، لوارث كان أو أجنبي ، ومن
الثلث مع انتفاء أحد القيدين. وهو قول الأكثر ، ومنهم الشيخان ، والمحقق في (الشرائع)
، وشيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) ، والسيد السند في (شرح الشرائع) ، والشيخ محمد حسن
الحرّ العاملي في (الوسائل) .
وثالثها : ما
ذهب إليه المحقق في (النافع) من التفصيل في الإقرار بين كونه لأجنبي مع التهمة فمن
الثلث ، أو مع عدمها فمن الأصل ، وأمّا الإقرار للوارث فمن الثلث مطلقا.
والقول الأوّل
قد عرفت دليله ، وأمّا الثاني فيدل عليه بالنسبة إلى الأجنبي صحيحة ابن مسكان عن
العلاء بيّاع السابري قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة استودعت رجلا مالا ، فلمّا حضرها الموت قالت
له : إن المال الذي [دفعته] إليك لفلانة .. وماتت المرأة ، فأتى أولياؤها الرجل
فقالوا له : إن لصاحبتنا مالا ولا نراه إلّا عندك ، فاحلف لنا ما [لها] قبلك شيء. أيحلف
لهم؟ فقال : «إن كانت
__________________
مأمونة [عنده] فيحلف لهم ، وإن كانت متّهمة فلا يحلف ويضع الأمر على ما كان
، فإنّما لها من مالها ثلثه» .
وبالنسبة إلى
الوارث صحيحة منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا ، فقال : «إن كان الميّت مرضيّا
فأعطه الذي أوصى له» .
وموثّقة أبي
أيّوب عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا ، فقال : «إن كان الميّت مرضيّا
فأعطه الذي أوصى له» .
وأمّا الثالث
فيدلّ عليه بالنسبة إلى الأوّل صحيحة ابن مسكان عن العلاء المذكورة.
وأمّا بالنسبة
إلى الثاني فاستدلّ عليه بصحيحة إسماعيل بن جابر قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أقرّ لوارث له وهو مريض بدين عليه؟ قال : «يجوز عليه إذا أقرّ
به دون الثلث» .
وقوّى جماعة من
الأصحاب ـ منهم شيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) ، وسبطه السيد السند في (شرح
الشرائع) ـ حمل الرواية المذكورة وما اشتملت عليه من اعتبار الثلث على حالة التهمة
؛ جمعا بينها وبين صحيحة منصور
__________________
المتقدّمة. وزاد في (المسالك) احتمال أن نفوذه كذلك بغير قيد ، وهو لا
ينافي توقّف غيره عليه ، قال : (مع أن ظاهرها غير مراد ؛ لأنه اعتبر نقصان المقرّ
به عن الثلث ، وليس ذلك شرطا ، إجماعا) انتهى.
أقول
: والوجه فيها
هو الأول الذي يحصل به الجمع بينها وبين الصحيحة المشار إليها.
واحتمل بعض
مشايخنا ـ عطّر الله مراقدهم ـ أن يكون «دون» ـ في الرواية ـ بمعنى (عند) ، أو أن يكون المراد الثلث
وما دون ، ويكون الاكتفاء [بالثاني] مبنيا على الغالب ؛ لأن الغالب إمّا زيادته
على الثلث أو نقصانه ، وكونه بقدر الثلث بغير زيادة ولا نقص نادر . انتهى.
أقول
: والحمل الثاني
جيّد ؛ فقد وقع التعبير بمثل هذه العبارة في جملة من موارد الأحكام ، وعليه حمل
قوله سبحانه (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ، أي اثنتين فما فوق.
وقد اتّضح ممّا
ذكرنا أن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول الثاني ، وعليه المعتمد ، وبه الفتوى.
وفي المسألة
أقوال اخر لا أعرف عليها دليلا : منها الفرق بين المضي من الأصل والثلث بمجرّد
التهمة وانتفائها .
ومنها جعل مناط
الفرق المذكور العدالة .
ومنها تعميم
الحكم للأجنبي بكونه من الأصل ، وتقييد ذلك في الوارث بعدم التهمة .
__________________
وقد ذكر جمع من
الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أن المراد بالتهمة هنا : الظنّ
المستند إلى القرائن الحالية والمقالية الدالّة على أن المقرّ لم يقصد بإقراره
الإخبار عن حقّ متقدّم ، وإنّما أراد تخصيص المقرّ له بما أقرّ به وحرمان الوارث
من حقّه أو بعضه والتبرع به للغير ، فلذلك جرى مجرى الوصيّة في النفوذ من الثلث
خاصة.
والظاهر أن
المراد من العدالة في كلامهم هو ما أشار إليه في صحيحة منصور ابن حازم وموثّقة أبي
أيّوب بقوله عليهالسلام : «مرضيّا» ، أي يعتمد على قوله ولا يظنّ به التهمة وقصد حرمان
الورثة بإقراره. وهو المراد أيضا من قوله عليهالسلام في رواية العلاء بياع السابري : «إن كانت مأمونة».
وبالجملة ،
فإنه لمّا كان الميّت ليس له من ماله بعد الموت إلّا الثلث خاصّة ، وما زاد فهو
للوارث ، منع من تصرّفه فيه بالوصيّة ونحوها.
وحينئذ ، فإذا
اعترف بالدين الذي مخرجه من حيث هو من الأصل ؛ لتعلّقه بالذمّة ، وجب التفصيل فيه
بما دلّت عليه هذه الأخبار ، بأنه إن كان مرضيّا مأمونا ، له ديانة وورع يحجزه عن
مخالفة الحدود الشرعيّة والأوامر الإلهيّة ، وجب العمل بظاهر اعترافه وأخرج من
الأصل ، وإلّا فإنما يخرج من الثلث.
وبهذا يظهر ما
في كلام جملة من الأصحاب من أن الإقرار إنّما يكون من الثلث مع ظهور التهمة ،
ومع الشكّ والجهل بالحال يرجع فيه إلى أصالة عدمها فيجب الخروج من الأصل ؛ فإنه
خلاف ظاهر الخبرين المذكورين ، حيث إنهما صريحان في كون الإخراج من الأصل مشروطا
بكون المقرّ مرضيّا مأمونا ، ومقتضاه أنه مع الجهل وعدم العلم بوجود الشرط أو
العلم بعدم وجوده يكون
__________________
الإخراج من الثلث ؛ لعدم وجود الشرط ، الموجب لانتفاء المشروط.
وهذا التحقيق
يرجع في الحقيقة إلى القول المتقدّم بأن مناط الفرق المذكور العدالة ، كما هو
منقول عن العلّامة في (التذكرة) ، وأنها هي الدافعة للتهمة. وهذا هو ظاهر الأخبار المتقدّمة.
ويظهر الفرق
بين هذا القول والقول الثاني ما لو كان المقرّ على ظاهر العدالة ، وقامت القرائن
الحالية والمقالية على التهمة ، فعلى الاكتفاء بظاهر العدالة يكون الإخراج من
الأصل ولا يلتفت إلى ما دلّت عليه القرائن ، وعلى تقدير المشهور من ضمّ عدم التهمة
إلى العدالة وجعلهما شرطين أنه يكون الإخراج من الثلث ؛ لانتفاء أحد الشرطين.
وأنت خبير بأن
اعتبار انتفاء التهمة منفردا أو منضمّا إلى شرط العدالة لا يعرف له مستند من
الأخبار ، إلّا ما يفهم من شرط الأمانة وكونه مرضيّا ، الذي هو عبارة عن العدالة
عندهم بالتقريب الذي قدّمناه.
اللهم إلّا أن
يقال : إن قيام القرائن بالتهمة الموجبة لظنها ينافي العدالة المذكورة ولا يجامعها
، وهو غير بعيد وإن صرّح في (المسالك) بخلافه ، وجوّز اجتماعهما ؛ بناء على أن
العدالة المبنيّة على الظاهر لا تزول بالظنّ . وفيه منع ظاهر ، فإن العدالة إنّما تبنى على الظنّ ،
فقد تقابل الظنّان ، وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى مرجّح.
والظاهر أنه
لما قد ذكرناه ذهب صاحب (الكفاية) إلى قول آخر في المسألة ،
بعد أن فسّر التهمة بما أشرنا إليه آنفا ، فقال : (والأقوى أن التهمة بالمعنى
__________________
المذكور توجب المضي من الثلث مطلقا ، وكون المقرّ ممن يوجب قوله الظنّ
بصدقه ـ لكونه أمينا مصدّقا ـ يوجب المضي من الأصل. وفي غير ذلك تأمّل).
ومحلّ التأمّل
في كلامه ما لو انتفى الوصفان ، كما في غير العدل أو المجهول العدالة التي لم يظهر
قرائن التهمة معه. وقد عرفت آنفا ـ بناء على ظواهر الأخبار الدالّة على اشتراط
كونه مرضيّا في الخروج من الأصل ـ أنه متى فقد الشرط في هذه الصورة وجب انتفاء
المشروط ، إلّا إن ما ذكره قدسسره من التأمّل في هذه المواضع لا يخلو من وجه.
هذا ، وقد صرّح
جملة من الأصحاب ـ منهم العلّامة في (التذكرة) والشهيدان ـ بأنه لو برئ المريض فالظاهر نفوذ إقراره من الأصل ؛
تمسّكا بأن «إقرار
العقلاء على أنفسهم جائز» السالم عمّا يصلح للمعارضة ؛ فإن رواية العلاء مفروضة
في الإقرار الواقع في مرض الموت ، وغيرها لا عموم فيه بحيث يتناول من برئ بعد
المرض. وهو جيّد ، وإليه مال أيضا السيّد السند في (شرح الشرائع).
بقي في المسألة
روايات اخر ، لا بأس بإيرادها والكلام فيها : فمنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : الرجل يقرّ لوارث بدين؟ فقال : «يجوز إذا كان مليّا» .
وصحيحته الاخرى
قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن رجل أقرّ لوارث بدين في مرضه ، أيجوز ذلك؟ قال : «نعم ، إذا كان مليّا » .
__________________
وضمير اسم «كان» يحتمل رجوعه إلى الوارث الذي أقرّ له ، والغرض من ذكر
ملاءته كون ذلك قرينة على صدق المقرّ في إقراره له. ويحتمل عوده إلى المقرّ ،
ويجعل ذلك كناية عن صدقه وأمانته. وعلى هذين الاحتمالين يكون مخرجه من الأصل.
ويحتمل رجوعه إلى المقرّ أيضا ، ويكون المراد التخصيص بالثلث فما دونه بأن تبقى
ملاءته بالثلثين.
وحاصل الجواب
أنه يجوز إقراره في الثلث خاصّة ، فيكون مخرجه منه دون الأصل.
ويمكن تأييد
هذا المعنى بموثّقة سماعة قال : سألته عمّن أقرّ للورثة بدين عليه وهو
مريض؟ قال : «يجوز عليه
ما أقرّ به إذا كان قليلا» بحمل القليل على الثلث فما دونه ، بمعنى أن مخرج هذا الذي أقرّ به من الثلث
خاصّة.
وحينئذ ، فتكون
هذه الروايات مطابقة لمذهب المحقّق في (الشرائع ) ، إلّا أن
تؤوّل بالتهمة ، كما تقدّم في صحيحة إسماعيل بن جابر .
وكيف كان ،
فالاستناد إلى هذه الأخبار ـ مع ما هي عليه من الإجمال الموجب لاتّساع دائرة
الاحتمال ـ لا يخلو من الإشكال.
ومنها صحيحة
أبي ولّاد قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه ، قال :
«يجوز ذلك» الحديث.
__________________
وينبغي تقييد
إطلاق هذا الخبر بكون المقرّ مرضيّا ، كما تضمّنته صحيحة منصور بن حازم ، وموثّقة أبي
أيّوب المتقدّمتان. وهذه الرواية إن اخذت مطلقة أو مقيّدة بما ذكرنا فهي صريحة
في الردّ لما ذهب إليه المحقّق في (الشرائع ) من أن الإقرار للوارث مخرجه الثلث مطلقا.
ومنها صحيحة
سعد بن سعد عن الرضا عليهالسلام قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا إلى رجل
من التجّار فقال له : إن هذا المال لفلان بن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير ،
فادفعه إليه يصرفه حيث شاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ، ولا
يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك ، كيف يصنع؟ قال : «يضعه حيث شاء» .
قال بعض
مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ : (قوله : «يضعه حيث شاء» ، أي هو ماله يضعه حيث شاء ؛ إذ ظاهر إقراره أنه أقرّ
له بالملك ، ويكفي ذلك في جواز تصرّفه ، فلا يلزمه بيان سبب الملك. ويحتمل أن يكون
المراد أنه أوصى إليه بصرف هذا المال في أيّ مصرف شاء ، فهو مخيّر في الصرف فيه
مطلقا أو في وجوه البرّ) انتهى.
أقول
: لا يخفى أن
سياق الرواية المذكورة ظاهر في أن اعتراف الرجل بذلك المال لذلك الشخص الذي سمّاه
ليس له أصل بالكلّية ، ولهذا أن الرجل المسمّى لم يقبض المال ولم يأمر فيه بأمر ،
بل تعجّب من ذلك ولم يدر ما الذي حمل ذلك الرجل على الاعتراف له به ، مع أنه يعلم
أنه لا يستحقّ في ذمته مالا بالكلّية.
__________________
وحينئذ ،
فقرينة التهمة في هذا الاعتراف ظاهرة ، فيجب أن يكون مخرجه من الثلث خاصّة ،
وظاهره أن المال باق في يد الأمين.
وحينئذ ، فيحمل
جوابه عليهالسلام بأن ذلك المال له يضعه حيث شاء ؛ إمّا على عدم وجود
وارث لذلك الرجل المقرّ ، أو على أن ذلك المال يخرج من الثلث ، أو على أن الغرض من
الجواب بيان صحّة الانتقال والتملّك بمجرّد هذا الاعتراف مع قطع النظر
عن هذه المسألة بالكلّية.
وكيف كان ،
فظاهر الخبر ـ لما فيه من الإجمال ـ لا يخلو من الاشكال.
ومنها رواية
أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل معه مال مضاربة فمات وعليه دين ،
وأوصى أن هذا الذي ترك لأهل المضاربة ، أيجوز ذلك؟ قال : «نعم إذا كان مصدّقا» .
وهذا الخبر
ممّا ينتظم في سلك أخبار القول الثاني ، والتعبير بقوله : «إذا كان مصدّقا» ، مثل قوله في تلك الأخبار : «مرضيا» ، و «ومأمونا» .
ومنها رواية
السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهمالسلام ، أنه كان يردّ النحلة في الوصيّة ، وما أقرّ عند موته
بلا ثبت ولا بيّنة ردّه .
والظاهر أن
المراد من قوله : «يردّ
النحلة في الوصيّة» ، أي يردّها إلى الوصيّة ، يعني يجعلها داخلة في الوصيّة ومن قبيلها ، فيكون
الجار والمجرور
__________________
متعلّقا بـ «يردّ». وأمّا احتمال تعلّقه بـ «النحلة» ، فإنه يقتضي ردّ النحلة مطلقا ، وهو مخالف لظاهر
الأخبار المتقدّمة وغيرها.
والمراد بقوله
: «وما أقرّ
عند موته» ـ إلى آخره ـ ما
ذكره الشيخ في كتابي الأخبار من الحمل على ما إذا كان غير مرضيّ ، بل متّهما على
الورثة . فيكون معنى ردّه يعني : من الأصل وإن اخرج من الثلث ،
وظاهر الخبر ردّه مطلقا ، إلّا إنه يكون مخالفا لما تقدّم من الأخبار ، فالواجب
حمله على ما ذكره الشيخ قدسسره.
ومنها رواية
محمّد بن عبد الجبّار قال : كتبت إلى العسكري عليهالسلام : امرأة أوصت إلى رجل وأقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم
، وكذلك ما كان لها من متاع البيت من صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس ، وكلّ مالها أقرّت
به للموصى إليه ، وأشهدت على وصيّتها ، وأوصت أن يحجّ عنها من هذه التركة حجّتان ،
ويعطي مولاتها أربعمائة درهم ، وماتت المرأة وتركت زوجا ، فلم ندر كيف الخروج من
هذا ، واشتبه علينا الأمر. وذكر كاتب أن المرأة استشارته فسألته أن يكتب لها ما
يصحّ لهذا الوصي ، فقال : لا تصحّ تركتك لهذا الوصيّ إلّا بإقرار له بدين يحيط
بتركتك بشهادة الشهود ، وتأمرينه بعد أن ينفذ ما توصينه به. فكتبت له الوصيّة على
هذا وأقرّت للوصيّ بهذا الدين ، فرأيك ـ أدام الله عزّك ـ في مسألة الفقهاء قبلك
عن هذا ، وتعرّفنا ذلك لنعمل به إن شاء الله.
فكتب عليهالسلام بخطّه : «إن كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين
من رأس المال إن شاء الله ، وإن لم يكن الدين حقّا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها ،
كفى أو لم يكف» .
__________________
أقول : لمّا
كان ظاهر سياق هذه الحكاية أن المرأة المشار إليها قاصدة بهذا الإقرار حرمان
الوارث لم يترتّب الحكم فيها على عدالة المقرّ وكونه مرضيّا ؛ لأن المعلوم من
السياق خلافه ، بل رتّبه على ثبوت الدين ومعلومية صحّته ، وهو نظير ما تقدّم في
رواية السكوني من قوله عليهالسلام : «بلا
ثبت ولا بيّنة ردّه» ، بناء على ما ذيّلناها به من التأويل بأنّه إذا كان متّهما احتيج في
إخراجه من الأصل إلى البيّنة الموجبة لثبوته ، وإلّا فمن الثلث.
وأمّا قوله في
الخبر المذكور : فرأيك ـ أدام الله عزّك ـ في مسألة الفقهاء قبلك ، فقال المحدّث
الكاشاني في (الوافي) : (يعني : ما رأيك ، أو : أعلمنا رأيك في سؤالنا الفقهاء
الذين يكونون عندك من شيعتك عن هذا ، وفي تعرّفنا ذلك منهم ؛ إذ ليس لنا
إليك وصول. وكان غرضه الاستيذان في مطلق سؤالهم عن المسائل) انتهى.
أقول
: الظاهر أنه لا
يخلو من بعد.
وقال شيخنا
المجلسي قدسسره في حواشيه على كتب الأخبار : (لعلّ المراد بالفقهاء
الأئمّة عليهمالسلام ، أي نطلب رأيك أو نتبعه ، أو إن رأيت المصلحة في أن تعرّفنا
ما أجاب به الأئمّة المتقدمة عليك عند سؤالهم عن هذه المسألة. فعلى الأخير يكون : (وتعرّفنا)
معطوفا على (مسألة) تفسيرا لها. ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن فقهاء البلد
وتعريف الجواب ، بأن يقرأ (قبلك) بكسر القاف وفتح الباء.
وعلى التقديرين
يكون هذا النوع من الكلام الغير المعهود من أصحابهم للتقيّة ، وعلى الثاني لنهاية
التقيّة.
ويمكن أن يكون
المراد : ما رأيك في مسألة سألنا الفقهاء قبل أن نسألك ،
__________________
يعني فقهاء بلد السائل) انتهى.
أقول
: والذي يظهر لي
أن المراد من العبارة المذكورة : عرّفنا رأيك في هذه المسألة التي سئل بها الفقهاء
قبلك ، لنعمل ما تعرّفنا به دون ما قاله اولئك الفقهاء فيها. وحينئذ يكون المراد
بالفقهاء : فقهاء العامة.
ومنها رواية
مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهماالسلام قال : قال علي عليهالسلام : «لا
وصيّة لوارث ولا إقرار بدين» .
يعني : إذا أقر
المريض لأحد من الورثة بدين فليس له ذلك. وحمله الشيخ في الكتابين تارة على
التقيّة ، واخرى على المتهم وما زاد على الثلث . وهو قريب من خبر السكوني المتقدّم ، وقد عرفت الكلام
فيه ، والكلام هنا كذلك ، والله العالم بحقائق أحكامه ونوّابه القائمون بمعالم
حلاله وحرامه.
__________________
(٥٨)
درّة نجفية
في حكم استبراء المرأة إن
مات ولد لها من غير زوجها
قال شيخنا
العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في
كتاب (أزهار الرياض) : (روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري
في كتاب (قرب الإسناد) عن السندي بن محمّد البزاز عن أبي البختري وهب بن وهب
القرشي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهمالسلام : أن عليّا عليهالسلام كان ينهى الرجل إذا كان له امرأة لها ولد من غيره فمات
ولدها أن يمسّها حتّى تحيض حيضة وتستبين ، أحامل هي أم لا؟ .
قال جامع
الكتاب ـ عفا الله عنه ـ : سألت عن هذا الخبر شيخنا المحقّق صدر جريدة الأماجد
الشيخ محمّد بن ماجد ـ روّح الله روحه ـ سنة خمس ومائة وألف من الهجرة ، فأطال
التفكر فيه ثمّ قال رحمهالله ـ وكان في غاية بعيدة من الورع والإنصاف ـ : (لم يظهر
لي معناه).
ثمّ بعد موته ـ
عطّر الله مرقده ـ وجدت من طرق المخالفين نحوه ، كما رواه الشيخ الحموي في (فرائد
السمطين) عن ابن عباس قال : كنّا في جنازة ، فقال عليّ بن أبي طالب عليهالسلام لزوج أمّ الغلام : «أمسك عن امرأتك». فقال عمر : ولم يمسك
__________________
عن امرأته؟ أخرج ما جئت به. قال : «نعم يا أمير المؤمنين ، نريد أن يستبرئ رحمها
لا يلقي فيه شيئا فيستوجب به الميراث من أخيه ولا ميراث له». فقال : أعوذ بالله من معظلة لا عليّ لها .
وفي (المناقب)
للشيخ الجليل رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني عن [عمر بن داود] عن الصادق عليهالسلام قال : «كان لفاطمة عليهماالسلام جارية يقال لها : فضّة ، فصارت بعدها إلى عليّ عليهالسلام ، فزوّجها من أبي ثعلبة الحبشي فأولدها ابنا ، ثمّ مات
عنها أبو ثعلبة ، وتزوّجها من بعده سليك الغطفاني ، ثمّ توفي ابنها من أبي ثعلبة ، فامتنعت من
سليك أن يقربها ، فاشتكاها إلى عمر ـ وذلك في أيامه ـ فقال لها عمر : ما يشتكي
سليك منك يا فضة؟ فقالت : أنت تحكم في ذلك وما يخفى عليك.
قال عمر : ما
أجد لك رخصة. قالت : يا أبا حفص ، ذهبت بك المذاهب ، إن ابني من غيره مات فأردت أن
أستبرئ نفسي بحيضة ، فإذا أنا حضت علمت أن ابني قد مات ولا أخ له ، وإن كنت حاملا
كان الذي في بطني أخاه. فقال عمر : شعرة من آل أبي طالب أفقه من عديّ» .
وبهذين الخبرين
اللذين ذكرناهما ظهر معنى الخبر الأوّل ، إلّا إنه إنما يتجه على مذاهب العامة ،
والخبر هاهنا خارج مخرج التقيّة ، أو مطّرح لموافقة العامة ، مع أن راوية أبا
البختري من الكذّابين كما ذكره الخاصة والعامّة . وليت الشيخ كان حيّا فأهدي ذلك إليه واوقفه على ما غاب
عنه وذهب عليه) انتهى كلام شيخنا المذكور ، [متّعه] الله تعالى
بالبهجة والحبور.
__________________
أقول : روى شيخ
الطائفة قدسسره في كتاب (التهذيب) عن الحسن بن محمّد ابن سماعة عن
محمّد بن زياد عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليهالسلام في امرأة كان لها زوج ولها ولد من غيره وولد منه ، فمات
ولدها الذي من غيره ، فقال : «يعتزلها
زوجها ثلاثة أشهر حتى يعلم ما في بطنها ولد أم لا». قال : «فإن كان في بطنها ولد ورث» .
وروى فيه أيضا
عنه ـ يعني عن ابن سماعة ـ عن وهيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل تزوّج امرأة ولها ولد من غيره فمات الولد وله
مال ، قال : «ينبغي
للزّوج أن يعتزل المرأة حتى تحيض حيضة تستبرئ رحمها ، أخاف أن يحدث بها حمل فيرث
من لا ميراث له» .
قال في (التهذيب)
ـ بعد نقل الحديث الأول ـ ما صورته : (قال أبو علي : هذا خلاف الحقّ ليس يعمل به) .
وقال أيضا بعد
نقل الحديث الثاني : (قال أبو علي : وهذا أيضا خلاف الحقّ لا يؤخذ به ، وإنّما
الميراث لام الميّت) .
والشيخ قد أورد
ذلك في باب الزيادات من كتاب الميراث في (التهذيب) ، والعجب أن شيخنا المذكور لم
يقف عليه ، وليته كان حيّا فأهديه إليه.
والمراد بأبي
علي في كلام الشيخ هو الحسن بن محمد بن سماعة ، فإنّها كنيته
__________________
كما ذكره الشيخ في أصحاب الإمام الكاظم من كتاب (الرجال) . وقد حمل في (الاستبصار)
هذين الخبرين على التقيّة.
قال في (الوافي)
بعد نقل ذلك عنه : (وأجاد. والوجه فيه أنه على تقدير تشريك الإخوة والأخوات مع
الام في الإرث ـ كما هو مذهبهم ـ إنّما يرث منهم من كان موجودا حين الموت ولو كان
في البطن ، لا من سيوجد فيه بعد ذلك) انتهى. وهو جيّد.
وبالجملة ،
فإنه لا ريب في أنّ هذه الأخبار مخالفة لأصول المذهب ، فلا يعمل عليها ولا يلتفت
إليها ، فبقي الكلام فيما تحمل عليه ، وقد ذكر شيخنا المقدّم ذكره ، والشيخ في (الاستبصار)
ـ واستجوده المحدّث المشار إليه ـ حملها على التقيّة.
وأنت خبير بأن
إجراء هذا الحمل في قضيّة فضّة المروية في كتاب ابن شهر آشوب ، وكذا في الرواية
العامية المنقولة عن الحموي ، لا يخلو عن الإشكال ؛ لكون ما
تضمّنه الخبران من الحكم المذكور في زمان عمر وخلافته ، وهو وإن كان أصل البدع
والإحداث في الدين ومنشأ التقيّة أولا وآخرا ، لكن الخبران صريحان في كونه كان
جاهلا بالحكم المذكور جهلا ساذجا ، كما يدلّ عليه قوله في الحديث العامي أولا : (ولم
يمسك عن امرأته؟ أخرج ما جئت به). وقوله ثانيا : (أعوذ بالله من معضلة لا علي لها)
، وقوله في الحديث الآخر ـ بعد أن نبهته فضة على المسألة ـ : (شعرة من آل أبي طالب
أفقه من عدي).
وحينئذ ، كيف
يحمل كلام أمير المؤمنين عليهالسلام على التقية؟ وممّن اتقى والحال
__________________
كما ترى ، وفضة التي هي جارية أمير المؤمنين وحاضرة في بلده يومئذ ، ممّن
اتقت حتى فعلت مع زوجها هذا الفعل الذي شكاها به إلى عمر ، وأمير المؤمنين عليهالسلام موجود عندها وحاضر لديها؟ ومن الظاهر الاحتمال أنها
إنما فعلت لذلك لأخذها ذلك عنه.
وبالجملة ،
فإنّ الحمل على التقية في هذين الخبرين لا أعرف له وجها وجيها ؛ لما عرفت ، وإن
أمكن إجراؤه في الأخبار الباقية لإجمالها.
والعجب أن
شيخنا المشار إليه آنفا قد نقل هذين الخبرين وجعلهما مفسّرين لخبر وهب بن وهب ،
وحمله كذلك على التقية ، ولم يتفطن لما في ذلك من الإشكال الذي ذكرناه.
ولا يخفى أن
هذه الأخبار قد اشتملت على ما يخالف القواعد الشرعية المتفق عليها بين الإماميّة
من وجهين :
أحدهما
: من حيث الحكم
بميراث الأخ مع وجود الام.
وثانيهما
: من حيث توريث
الحمل قبل وجوده وحياته في بطن امه ، بل بمجرد كونه نطفة وإن صار بعد ذلك ولدا.
ويمكن الجواب
عن الأول بحمل الام على ما إذا كانت أمة ؛ فإنّها لا ترث.
وأمّا الإشكال
الثاني فلا يحضرني الآن الجواب عنه ، والحمل على التقيّة قد عرفت ما فيه ، والله
العالم.
(٥٩)
درّة نجفية
في الفرق بين المجتهدين
والأخباريين
اعلم ـ أيّدك
الله تعالى بتأييده ـ أنه قد كثرت الأسئلة من الطلبة عن الفرق بين المجتهدين
والأخباريّين ، وأكثر المسؤولون من وجوه الفروق في ذلك ، حتى إنّ شيخنا المحدّث
الصالح الشيخ عبد الله ابن الحاج صالح البحراني قدسسره في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) قد أنهاها إلى
ثلاثة وأربعين ، حيث كان من عمد الأخباريّين المتصلّبين.
وقد كنت في
أوّل الأمر من الجارين على هذه الطريقة ، وقد أكثرت البحث في ذلك مع بعض مشايخنا
المعاصرين من المجتهدين ، وقد أودعت كتابي الموسوم بـ (المسائل الشيرازية) مقالة
مبسوطة مشتملة على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية المتعلّقة بذلك
والمؤيدة لما هنالك.
إلّا إنّ الذي
ظهر لي بعد إعطاء التأمل حقه في المقام ، وإمعان النظر في تلك الفروق التي ذكرها
اولئك الأعلام ، هو سدّ هذا الباب ، وإرخاء الستر دونه والحجاب وإن كان قد فتحه
أقوام ، وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام.
أمّا أولا :
فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين ، والإزراء بفضلاء الجانبين ، كما
__________________
قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر ، بل ربّما انجرّ إلى القدح في
الدين ، ولا سيّما من الخصوم المعاندين ، كما شنّع عليهم به الشيعة في انقسام
مذهبهم ودينهم إلى المذاهب الأربعة ، بل شنّع به كلّ من أرباب المذاهب الأربعة على
الآخر.
وأمّا ثانيا :
فلأن ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين ، وجعلوه مائزا بين الطائفتين ، جلّه ،
بل كلّه ـ عند التأمل بعين الإنصاف ، وتجنّب جانب التعصّب والاعتساف ـ لا يوجب
فرقا على التحقيق ، كما سنوضح لك ذلك في المقام بأوضح بيان تشتاقه الطباع السليمة
والأفهام.
ولقد كان العصر
الأول مملوءا من المحدّثين والمجتهدين ، مع أنه لم يرتفع بينهم
صيت هذا الاختلاف ، ولم يطعن منهم أحد على الآخر بالاتّصاف بهذه الأوصاف ، وإن
ناقش بعضهم بعضا في جزئيات المسائل ، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل ، بل كما هو
شأن العلماء من كلّ قبيل ، والأمر الدائر بينهم جيلا بعد جيل.
وحينئذ ،
فالأولى ، والأليق بذوي التقوى ، والأحرى في هذا المقام والأقوى ، هو أن يقال : إن
علماء الفرقة المحقّة ، وفضلاء الشريعة الحقة ـ رفع الله تعالى درجاتهم ، وألحقهم
بساداتهم ـ سلفا وخلفا إنّما يجرون على مذهب أئمتهم المعصومين وطريقتهم التي
أوضحوها لديهم ؛ فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم وورعهم وتقواهم المشهور ، بل
المتواتر على ممرّ الأيام والدهور ، يمنعهم من الخروج عن تلك الجادة القويمة
والطريقة المستقيمة ، ولكن ربّما حاد بعضهم ـ أخباريا كان أو مجتهدا ـ عن الطريق ؛
غفلة أو توهّما أو لقصور اطلاع أو
__________________
قصور فهم ، أو نحو ذلك في بعض المسائل ، فهو لا يوجب تشنيعا ولا قدحا في
أصل الاجتهاد.
وجميع تلك
الامور التي جعلوها مناط الفرق إنّما هي من هذا القبيل ، فإمّا أن تكون من جملة
المسائل التي اختلفت فيها الأنظار ، وتصادمت فيها الآراء والأفكار ، أو أنّ ذلك
القول كان ناشئا عن بعض هذه الأشياء المذكورة ، أو نحو ذلك ، كما سيظهر لك إن شاء
الله تعالى.
وأنت تعلم أن
كلّا من المجتهدين والأخباريّين يختلفون في آحاد المسائل ، بل وربّما خالف أحدهم
نفسه ، مع أنه لا يوجب تشنيعا ولا قدحا. وقد ذهب رئيس الأخباريّين الصدوق رحمهالله إلى جملة من المذاهب الغريبة ، بل النادرة التي
لم يوافقه عليها أخباري ولا مجتهد ، مع أنه لم يوجب ذلك طعنا عليه ولا قدحا في
علمه وفضله.
ولم يرتفع صيت
هذا الخلاف ولا ارتكاب هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب (الفوائد
المدنية) ـ سامحه الله تعالى وعامله برحمته المرضيّة ـ فإنه قد جرّد لسان التشنيع
على الأصحاب ، وأسهب في ذلك أيّ إسهاب ، وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من
العلماء الأطياب ، وهو وإن أصاب الصواب في بعض ما ذكر في ذلك الكتاب ، إلّا إنّها
لا تخرج عمّا ذكرناه من سائر الاختلافات ، بل هي داخلة فيما ذكرناه من التوجيهات.
__________________
وكان الأنسب بمثله
حملهم على محامل السداد والرشاد إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد ، فإنّهم ـ
رضوان الله عليهم ـ لم يألوا جهدا في إقامة الدين وإحياء شريعة سيّد المرسلين ،
ولا سيّما آية الله العلّامة الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة ، فإنه بما
ألزم به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين ـ حتى آمن بسببه
الجمّ الغفير ، ودخلوا في هذا الدين الكبير والصغير ، والشريف والحقير ، وصنّف من
الكتب المشتملة على غوامض العلوم والتحقيقات ، حتى إنّ من تأخر عنه لم يلتقط إلّا
من درر نثاره ، ولم يغترف إلّا من زواخر بحاره ـ قد صار له من اليد العليا عليه
وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحق به الثناء الجميل ، ومزيد التعظيم
والتبجيل ، لا الذم والنسبة إلى تخريب الدين ، كما اجترأ به قلمه عليه وعلى غيره
من المجتهدين.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنّ ما ذكره شيخنا الصالح المتقدّم ذكره من الفروق ، وأطال به من الشقوق ،
كثير منه بل أكثره تطويل بغير طائل ، وترديد لا يرجع إلى حاصل. ونحن نذكر هنا ما
هو المعتمد عندهم والأقوى ، بما صرّح به هو وغيره في دليل تلك الدعوى ، وهو وجوه :
أحدها : أنّ
أدلة الأحكام الشرعيّة عند المجتهدين أربعة : (الكتاب) ، والسنّة ، والإجماع ،
ودليل العقل. وأمّا عند الأخباريّين فليس إلّا (الكتاب) والسنّة ، بل اقتصر بعضهم على السنّة ،
بناء على أن (الكتاب) لا يجوز تفسيره والعمل بما فيه إلّا بما ورد التفسير عن أهل
البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وهذا الوجه من أقوى وجوه الفروق عندهم.
__________________
والجواب أنه لا
يخفى أن المجتهدين وإن عدّوا الإجماع في الأدلة الشرعيّة في كتب الاصول ، وربّما
استسلفوه في الكتب الاستدلالية أيضا ، إلّا إنّ المحقّقين منهم في مقام التحقيق
والبحث في المسائل بالفكر الدقيق ينازعون في تحقيق الإجماع المذكور غاية النزاع ،
ويطعنون فيه ويمزّقونه تمزيقا لا يرجى له الاجتماع ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم
الاستدلالية ، ككتاب (المعتبر) و (المسالك) و (المدارك) و (الذكرى) و (الذخيرة) للفاضل الخراساني ، وغيرها. وهذا بحمد الله تعالى ظاهر
لمن تتبع الكتب المذكورة.
وحينئذ فليس
مسألة الاحتجاج بالإجماع وجعله دليلا شرعيا إلّا من جملة المسائل الخلافية بين
العلماء ، مجتهدا كان أو أخباريّا ، فلا يصلح لأن يكون فرقا في المقام.
وأمّا دليل
العقل الذي هو عبارة عن البراءة الأصليّة والاستصحاب ، فالخلاف في حجيّته بين
المجتهدين موجود في غير موضع ، والمحققون منهم على منعه.
وقد فصّل
المحقّق في أوّل كتاب (المعتبر) ، والمحقّق الشيخ حسن في كتاب (المعالم) ـ وغيرهما في
غيرهما ـ الكلام في البراءة الأصلية والاستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا
الباب. وبعض ـ كالسيد السند في (المدارك) ـ جوّز العمل بالبراءة الأصلية ، ومنع العمل
على الاستصحاب. وسيأتيك ما فيه تأييد الكلام في المقام.
وحينئذ ، فهذه
المسألة أيضا من جملة المسائل الخلافية بين العلماء ، فلا
__________________
تصلح لأن كون وجه فرق في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وثانيها : أنّ
الأشياء عند الأخباريّين مبنية على التثليث حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين
ذلك. وأمّا عند الاصوليّين فليس إلّا الأوّلان.
والجواب أنّ
فيه :
أولا
: أنّ هذا
الاختلاف متفرّع على جواز العمل على البراءة الأصلية وعدمه ، فمن اعتمد عليها وقال
بها فالأشياء عنده إمّا حلال ، أو حرام. ومن منع العمل عليها اتّجه عنده القول
بالتثليث. فهذا الوجه راجع إلى الوجه الأوّل ، فليس فيه إلّا تكثير الأعداد وإضاعة
المداد.
وثانيا
: أنه قد تقدّم
في الدرّة الموضوعة في مسألة البراءة الأصلية أنّ مذهب الشيخ
وشيخه مفيد الطائفة الحقّة ورئيس الفرقة المحقّة ـ كما تقدّم نقله عن كتاب (العدة)
ـ هو القول بالتثليث كما هو المنقول عن الأخباريّين ، وهذان الشيخان عمدتا
المجتهدين ، ومثلهما أيضا المحقّق في (المعتبر) كما تقدّم
نقله ثمّة. وحينئذ ، فلا يكون هذا القول مختصّا بالأخباريّين.
وكلام الصدوق ـ
في كتاب (الاعتقادات) صريحا ، وفي كتاب (من لا يحضره الفقيه) ظاهرا ـ ممّا
ينادي بالقول بالتثنية كما هو المنقول عن الاصوليّين.
قال في كتاب (الاعتقادات)
: (باب الاعتقاد في الحظر والإباحة. قال الشيخ رضياللهعنه : اعتقادنا في ذلك أنّ الأشياء كلّها مطلقة حتى يرد في
شيء منها نهي) انتهى.
فالأشياء عنده
إمّا حلال ، أو حرام. والصدوق هو عمدة الأخباريّين
__________________
ومستندهم في هذه الطريقة. وبذلك يظهر لك أن هذا الوجه لا يصلح لأن يكون
فرقا ، بل هو من المسائل الخلافية بين العلماء كما قدّمنا ذكره.
وثالثها
: أن المجتهدين
يوجبون الاجتهاد عينا أو تخييرا ، والأخباريين يحرّمونه ، ويوجبون الأخذ بالرواية
، إمّا عن المعصوم ، أو من روى عنه وإن تعددت الوسائط. كذا قرّره شيخنا الصالح
المشار إليه آنفا في كتابه المذكور .
والجواب أنه لا
ريب أنّ الناس في وقت الأئمّة عليهمالسلام مكلّفون بالرجوع إليهم والأخذ عنهم مشافهة أو بواسطة أو
وسائط ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين كافة العلماء من أخباري ومجتهد. وأمّا في زمان
الغيبة ـ كزماننا هذا وأمثاله ـ فإنّ الناس فيه إمّا عالم أو متعلّم. وبعبارة اخرى
: إمّا فقيه ، أو متفقّه. وبعبارة ثالثة : إمّا مجتهد ، أو مقلّد.
وقد حقّقنا في
الفائدة الرابعة من الفوائد التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة أنّ هذا
العالم والفقيه الذي يجب على من عداه الرجوع إليه لا بدّ أن يكون له ملكة
الاستنباط للأحكام الشرعيّة من الأدلة التفصيلية ؛ إذ ليس كلّ أحد من الرعية
والعامة ممن يمكنه تحصيل الأحكام من تلك الأدلة واستنباطها منها ـ كما هو ظاهر
لكلّ ناظر ـ كما حقّقناه في الموضع المشار إليه.
والاجتهاد الذي
أوجبه المجتهدون إنّما هو عبارة عن بذل الوسع في تحصيل الأحكام من أدلتها الشرعيّة
واستنباطها منها بالوجوه المقررة والقواعد المعتبرة ، ولا ريب أن من كان قاصرا عن
هذه المرتبة العلية والدرجة السنية فلا يجوز الأخذ عنه ولا الاعتماد على فتواه.
وبذلك يظهر لك ما في قوله : إن الأخباريّين
__________________
يوجبون الأخذ بالرواية ، فإنه على إطلاقه ممنوع ؛ لما عرفت من التفصيل ؛ إذ
أخذ عامة الناس بالرواية في زمن الغيبة أمر ظاهر البطلان وغني عن البيان.
وكيف لا ،
والروايات على ما هي عليه من الإطلاق والتقييد والإجمال والاشتباه متصادمة في جملة
الأحكام ، واستنباط الحكم الشرعي منها يحتاج إلى مزيد قوة وملكة راسخة قدسية ، كما
ذكرناه في الموضع المشار إليه آنفا؟ فأنّى للعامي باستعلام ذلك؟ فلا بد البتة من
الرجوع إلى عالم له تلك الملكة المذكورة.
نعم ، بقي
الكلام في أمر آخر وهو أن ذلك الفقيه إن استند في استنباطه الأحكام إلى (الكتاب)
والسنّة فهذا ممّا وقع الاتفاق على الرجوع إليه ، وإن كان إنّما استند إلى أدلة اخرى
من إجماع أو دليل عقل أو نحوهما ، فهذا هو الذي منعه الأخباريون وشنّعوا به على المجتهدين.
وحينئذ فيرجع
هذا الوجه إلى الوجه الأول ، وليس في عدّه وجها على حدة إلّا مجرّد [التهويل] بتكثير
الأعداد وإضاعة المداد.
على أنك قد
عرفت في جواب الوجه الأوّل الخلاف بين المجتهدين في الأدلة الزائدة على (الكتاب)
والسنّة ، وأنّ ذلك لا يصلح لأن يكون وجها فارقا بين الفرقتين ، بل هو من سائر
المسائل الخلافية الجارية في البين.
ورابعها
: أنّ المجتهدين
يجوّزون أخذ الأحكام الشرعية بالظنّ ، والأخباريّين يمنعونه ولا يقولون إلّا
بالعلم ؛ والعلم عندهم : قطعيّ وهو ما وافق نفس الأمر ، وعاديّ وأصلي وهو ما وصل
عن المعصوم ثابتا ، ولم يجوّزوا فيه الخطأ عادة ،
__________________
وأنّ الشارع وأهل اللغة والعرف يسمّونه علما. وأنّ الظن ما كان بالاجتهاد
والاستنباط بدون رواية ، وأنّ الأخذ بالرواية لا يسمّى ظنّا. ولهم بالمنع من العمل
بالظن أدلة من (الكتاب) والسنّة.
والاعتراض بأنّ
العامل بالأخبار لا يخرج عن العمل بالظن ممنوع ؛ لأنه لا يسمّى ظنا لغة ولا عرفا
ولا شرعا ، وتجويز احتمال النقيض فيه لا يخرجه عن ذلك ؛ لأن العلم الشرعي إنّما هو ما لا
يجوز احتمال النقيض فيه عرفا وعادة لا مطلقا ؛ لورود الإذن بالأخذ من الرواة ، مع
النهي عن الظنّ ، والتناقض في كلامهم غير جائز. هكذا قرّره شيخنا المشار إليه في
كتابه المذكور آنفا .
والجواب عمّا
ذكره هنا يؤخذ ممّا حققناه في الفائدة الخامسة عشرة من الفوائد
التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة ، ومن الدرة الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد
المدنية) في هذه المسألة ، فلا حاجة إلى الإطالة هنا بإعادته ، فارجع إليه يتضح لك
ما في هذه الدعوى ، ويظهر لك ما هو الأرجح والأقوى.
وخامسها
: أنّ المجتهدين
ينوّعون الأحاديث إلى أربعة أنواع : صحيح ، وحسن ، وموثّق ، وضعيف ، والأخباريّين
إلى صحيح ، وضعيف. والتحقيق : أن غير الصحيح من الحسن والموثّق إن جاز العمل به
فهو صحيح ، وإلّا فهو ضعيف. فالاصطلاح مربع لفظا ، ومثنّى معنى.
وسادسها
: أن المجتهدين
يفسّرون الصحيح بما رواه الإمامي العدل الثقة عن مثله إلى المعصوم ، والحسن : ما
كان رواته أو أحدهم إماميّا ممدوحا غير منصوص عليه بالتوثيق. ثم ذكر قسم الموثّق
والضعيف باصطلاحهم.
__________________
إلى أن قال : (والأخباريّين
يفسّرون الصحيح بما صحّ عن المعصوم وثبت ، ومراتب الصحة [والثبوت] تختلف ، فتارة
بالتواتر ، وتارة بأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن التي تشهد بصحة الخبر) . ثم ذكر
القرائن الموجبة لصحة الأخبار كما ذكره الشيخ في (العدّة) وغيره.
والجواب عن
هذين الوجهين أنه وإن جعلهما وجهين لتكثير العدد ، إلّا إنّ مرجعهما إلى أمر واحد
كما لا يخفى على المتأمل ، ومع هذا فيرد عليه :
أولا : أن هذا
الاصطلاح باتّفاق الكل إنّما حدث من عصر العلّامة ـ عطّر الله مرقده ـ فهو اصطلاح
محدث من مجتهدي المتأخرين ، وأمّا مجتهدو المتقدّمين ـ كالشيخ الطوسي ، وشيخه
المفيد ، والسيد المرتضى ، وأضرابهم وأتباعهم إلى عصر العلّامة ـ فطريقهم في
الأخبار بالنسبة إلى الوجهين المذكورين إنّما هو طريق الأخباريّين. فكيف يصلح هذا
وجها فارقا بين المجتهدين مطلقا والأخباريّين ، وأساطين المجتهدين المعتمدين لم
يروا هذا الاصطلاح ولم يذكره بالكلّية؟ ما هذا إلّا خلط واضح وعثار فاضح.
ولو تمّت هذه
الدعوى بالنسبة إلى بعض المجتهدين لجاز للخصم أن يغلّبها عليه ، فيقول : إن
المجتهدين والأخباريين متفقون على عدم هذا الاصطلاح.
وبطلان ما
يتفرّع عليه باعتبار ما عليه متقدّموهم الذين عليهم المعوّل.
وثانيا
: أن أصحاب هذا
الاصطلاح وإن صرّحوا به كما نقل ، إلّا إنك ترى أكثرهم في كتب الاستدلال لا يخرجون
من كلام المتقدمين من العمل بالأخبار الضعيفة باصطلاحهم ، ويتسترون عن مخالفة ذلك
الاصطلاح بأعذار ؛ منها قبول
__________________
مراسيل ابن أبي عمير ومثله ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ،
فإنهم لا يرسلون إلّا عن ثقة.
ومنها تصحيح
الحديث المشتمل على بعض مشايخ الإجازة وإن لم ينصّ عليه بتوثيق.
ومنها كون
الخبر مرويا في كتاب (من لا يحضره الفقيه) ، بناء على ما ضمّنه صاحبه في صدر كتابه
.
ومنها كون ذلك
الرجل الذي به ضعف الحديث من أصحاب الاصول.
ومنها كون
الحديث مجبورا بالشهرة.
ومنها كونه
متفقا على العمل بمضمونه.
وأمثال ذلك
ممّا يقف عليه المتتبع لكلامهم.
وبالجملة ،
فإنّك إذا تتبعت كلامهم وجدت أنهم لا يخرجون عن طريقة المتقدّمين إلا نادرا.
وحينئذ فمجرّد ذكرهم هذا التقسيم والاصطلاح كما شنّع به ـ مع كون عملهم على ما
ذكرناه ـ لا يوجب فرقا معنويا حقيقيا.
وبالجملة ،
فكلامه قدسسره هنا ممّا لا محصّل له عند ذوي التحصيل إلّا مجرّد تكثير
القال والقيل.
وسابعها : أن
المجتهدين يحصرون الرعية في صنفين : مجتهد ، ومقلّد ، والأخباريّين يقولون : إن الرعيّة
كلّها مقلّدة المعصوم ولا مجتهد أصلا.
الجواب أنك قد
عرفت في جواب الوجه الثالث أن الناس في زمن الغيبة لا يخرجون عن القسمين المذكورين
، سواء عبّر عن ذينك القسمين بلفظ (مجتهد)
__________________
و (مقلّد) ، أو لفظ (عالم) و (متعلّم) ، أو لفظ (فقيه) و (متفقّه) ؛ إذ لا
مشاحّة في التسمية إذا كان المعنى واحدا. وإنما يظهر الخلاف
والنزاع فيما إذا كان العالم والفقيه والمجتهد يستند في استنباط الأحكام إلى غير (الكتاب)
والسنّة ، وإلّا فمتى كان أدلته التي يستنبط منها الأحكام مخصوصة بهذين الدليلين
فهو ممّا لا خلاف في وجوب اتباعه إذا استكمل باقي الشروط من [العلم] والتقوى
والزهد ونحوها ، إن سمّيته مجتهدا أو سمّيته أخباريا. وحينئذ فمرجع هذا الوجه إلى
الوجه الأول كما لا يخفى.
وأمّا قوله : (إن
الرعية كلّها مقلّدة المعصوم) ، فهو على إطلاقه محلّ نظر ؛ لأن التقليد ـ كما
عرّفوه ـ عبارة عن قبول قول الغير من غير دليل ، وهذا المعنى لا يتمّ بالنسبة إلى العامي ، بل بالنسبة
إلى الفقيه الأخباري فيما إذا احتاج الحكم إلى استنباط ومزيد تأمّل في الأدلة ؛
لما حققناه في الدرة الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) من تفاوت
الأفهام في مراتب الإدراك ، وأن جلّ الاختلافات بين العلماء إنّما نشأت من ذلك ؛
ولهذا اختلف الأخباريون في المسائل كما قد اختلف المجتهدون ، كما فصّلنا جملة من
ذلك في الدرة المشار إليها.
وحينئذ ،
فالعامي إنما أخذ بقول هذا الأخباري الذي أفتاه بناء على ما فهمه من الأخبار ، وأن
الحكم في تلك المسألة كذلك ، فكيف يكون مقلّدا للإمام ، والأخباري الآخر يفتي
بخلافه باعتبار ما أدّى إليه فهمه ووصل إليه إدراكه؟
وحينئذ ، فكيف
يمكن أن يقال : إن هؤلاء العلماء الأخباريين مع اختلافهم
__________________
كلّهم مقلّدون للإمام ، وأتباعهم أيضا مقلّدون للإمام؟ ما هذا
إلّا تعسف ظاهر.
وثامنها : أن
المجتهدين يقولون : طلب العلم في زمن الغيبة بطريق الاجتهاد ، وفي زمن الحضور
بالأخذ من المعصوم ولو بالوسائط ، ولا يجوز الاجتهاد حينئذ ، وهو طريق الأخباريّين
، والأخباريين لا يفرّقون بين زمن الغيبة والحضور ، بل «حلال محمد حلال إلى
يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» لا يكون غيره ولا يجيء غيره ؛ كما في الحديث.
والجواب أن هذا
الوجه أيضا يرجع إلى الاختلاف في الأدلة ، فإنّه متى كان ذلك العالم ـ إن سمّي
مجتهدا أو أخباريّا ـ إنّما استند في الأحكام الشرعية إلى (الكتاب) والسنّة ، فإنه
لا خلاف في صحّة ما بنى عليه ، ولا خلاف في جواز الأخذ عنه والعمل بقوله.
وأمّا أن زمن
الغيبة وزمن الحضور واحد بالنسبة إلى الرعية فهو غلط محض ؛ لما عرفت في جواب الوجه
الثالث. والإيراد بالحديث المذكور إنّما يتجه لو قلنا بجواز الاجتهاد على طريق
العامّة من الاستناد إلى الآراء والأقيسة والعقول ؛ لاختلافها واضطرابها.
نعم ، ربّما
يتفق ذلك أيضا مع الاستناد إلى (الكتاب) والسنّة في مقام اختلاف الأفهام وتفاوت
الأنظار ، كما هو الواقع بين العلماء في جملة الأمصار ؛ من مجتهد وأخباري ، كما
أوضحنا ذلك في الدرة الموضوعة في البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) ، وإن كان
الأخباريّون ينكرون ذلك ، ويدّعون أن الاختلاف الواقع بينهم إنّما نشأ من اختلاف
الأخبار ، إلّا إنّا قد أوضحنا في الدرة المشار
__________________
إليها ما يردّ هذه الدعوى ، وبيّنا أن الاختلاف الواقع بينهم على حسب
الاختلاف الواقع بين المجتهدين ، من أنه ربّما نشأ من اختلاف الأخبار ، وربّما نشأ
من اختلاف الأفهام ، الذي هو السبب التام في أكثر الأحكام.
وبالجملة ، فإن
كلامه يدور في جميع هذه الوجوه على الاجتهاد بمعنى الأخذ بالآراء والظنون المستندة
إلى غير (الكتاب) والسنّة ، وهو حق لو كان إطلاق الاجتهاد مخصوصا بهذا المعنى ،
وإلّا فالاجتهاد ـ على ما عرّفوه ـ إنّما هو عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل
الأحكام من أدلتها الشرعيّة .
والخلاف بين
المجتهدين والأخباريين هاهنا ـ في التحقيق ـ يرجع إلى تلك الأدلة ، فالأخباريّون
يخصّونها بـ (الكتاب) والسنّة ، أو بالسنّة وحدها على رأي بعضهم . والمجتهدون
يفسّرونها في الاصول بالأربعة المشهورة ، وإن كانوا في الكتب الاستدلالية يناقشون
فيما عدا (الكتاب) والسنّة ، كما تقدم ذكره في المقام وفي غير موضع من الدرر
المتقدّمة في هذا الكتاب.
وحينئذ ،
فتعريف الاجتهاد صادق على من اقتصر في استنباط الأحكام على (الكتاب) والسنّة وإن
كان الأخباريون يتحاشون عن التعبير به ؛ للطعن على المجتهدين ، وهو في غير محلّه
كما لا يخفى على المنصف.
وكيف كان ، فمع
فرض خروج بعض المجتهدين في بعض جزئيّات الأحكام عن الأخذ بـ (الكتاب) والسنّة
والعمل بالاستنباطات الظنّية المحضة ، فهو لا يوجب طعنا في أصل الاجتهاد بالمعنى
الذي ذكرناه ، كما أن بعض الأخباريّين لو خرج في فهمه الخبر عن كافة أفهام العلماء
الأعلام ، بحيث يصير ذلك غلطا
__________________
ظاهرا لجميع ذوي الأفهام ، فإنّه لا يوجب طعنا على طريقة أهل الأخبار ، كما
وقع للصدوق قدسسره في غير موضع من الأحكام ، والله
العالم.
__________________
__________________
(٦٠)
درّة نجفية
في بيان حديث أنّ للصلاة
أربعة آلاف حدّ أو باب
روى المشايخ
الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ عن الصادق عليهالسلام في الصحيح من (الكافي) و (التهذيب) ، ومرسلا في (الفقيه) قال : «الصلاة لها أربعة
آلاف حدّ».
وروى الصدوق في
(الفقيه) مرسلا ، وفي (العيون) ، و (العلل) مسندا عن
الرضا عليهالسلام قال : «الصلاة لها أربعة آلاف باب».
وقد قيل في
بيان هذه الحدود والأبواب المنطبقة على هذا العدد وجوه من الاحتمالات وضروب من
المقالات ، منها ما صرّح به شيخنا الشهيد ـ رفع الله درجته ـ في رسالته (النفلية)
حيث قال : (أمّا بعد ، فإني لمّا وقفت على الحديثين المشهورين عن أهل بيت النبوّة).
ثمّ ذكر الحديثين المذكورين ، ثمّ قال : (ووفق الله سبحانه لإملاء (الرسالة
الألفية) في الواجبات ، ألحقت بها بيان المستحبات ، وأفردت منها ما يزيد على ثلاثة
آلاف ؛ تيمّنا بالعدد تقريبا وإن كان المعدود لم
__________________
يقع في الخلد تحقيقا ، فتمّت الأربعة من نفس المقارنات ، واضيف إليها سائر
المتعلّقات) . إلى آخر كلامه ، زيد في مقامه.
وفي ثبوت جميع
ما ذكره قدسسره ، أو استفادته من النصوص إشكال ، كما لا يخفى على من
راجع الرسالتين.
ومنها أن
المراد : الفرائض والآداب والسنن فعلا وتركا ، كما ذكر ، إلّا إن التعبير بهذا
العدد إنّما خرج من باب الكناية عن الكثير ، فإن التعبير عن الشيء الكثير بالألف
شائع ، فكما أن الصلاة فرائض ونوافل ، ولها محرّمات ومكروهات ، وهي حدودها
وأبوابها ، فلها أربعة آلاف حدّ باعتبار كثرة كلّ من هذه الأربعة المذكورة. ذكر
ذلك المحدّث الكاشاني في كتابه (الوافي) ، وهو محتمل غير بعيد.
ومنها أن
المراد بالحدود والأبواب : المسائل المتعلّقة بالصلاة ، قيل : وهي تبلغ أربعة آلاف
بلا تكلّف. نقله شيخنا المجلسي عن والده قدسسرهما.
أقول
: هذا الوجه
راجع في الحقيقة إلى الوجه الأوّل المنقول عن شيخنا الشهيد رحمهالله.
ومنها أن
المراد : أسباب الربط إلى جناب قدسه تعالى ، فإنه لا يخفى على العارف أنه من حين
توجهه إليه تعالى وشروعه في مقدّمات الصلاة إلى أن يفرغ منها يفتح له من أبواب
المعارف ما لا يحصيه إلّا الله سبحانه. وهذا الوجه أيضا نقله شيخنا المتقدّم ذكره عن والده ،
ولا يخفى بعده ، بل الحديث الآتي يردّه.
ومنها أن
المراد بالحدود : المسائل ، وبالأبواب : أبواب الفيض والفضل ؛ فإن
__________________
الصلاة معراج المؤمن . نقله شيخنا المشار إليه أيضا عن والده
، ولا يخفى بعده.
ومنها أن
المراد بالأبواب : أبواب السماء التي ترفع منها إليها الصلاة كلّا من باب ، أو
الأبواب على التعاقب ، فكلّ صلاة تمرّ على كلّ الأبواب. ذكره
شيخنا المشار إليه احتمالا في الخبر ، ولا يخفى بعده.
ومنها أن أقل
المراتب من المفروض ألف ومن المسنون ألف ، ويتبع الأول ألف حرام والأخير ألف مكروه
، على ما ذكره غير واحد من المحقّقين أن كلّ واجب ضدّه العام حرام ، وكلّ مندوب ضدّه العام
مكروه ، فيكمل نصاب العدد حينئذ.
ذكره العلّامة
العماد المير محمد باقر الداماد .
واورد عليه : أن
الأمر الواحد لا يعدّ مرّتين باعتبارين.
ومنها أن مسائل
أبواب العبادات من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وفروعها تبلغ ذلك المبلغ وتجاوزه على التضاعف ، وجميع العبادات
قد نيط بها قبول الصلاة ، من قبلت صلاته قبلت سائر أعماله ، ومن ردّت عليه صلاته
ردّت عليه سائر أعماله ، فقد رجع جميع ذلك إلى حدود الصلاة. ذكره العلّامة
الداماد أيضا .
__________________
ولا يخفى بعده
؛ فإن المتبادر من الخبرين المتقدّمين أن المراد من تلك الأبواب والحدود : ما يكون
له مدخل في صحة الصلاة وتمامها وكمالها ، والأمر هنا بالعكس ، بمعنى أن قبول تلك
الأعمال متوقف على قبول الصلاة ، فهي لا مدخل لها في كمال الصلاة ، بل كمال الصلاة
مكمّل لها كما عرفت.
ومنها أن أبواب
الصلاة هي أبواب عروجها وطرق صعود الملائكة الموكّلة عليها بها ، وهي السماوات إلى
السماء الرابعة ، والملائكة السماوية في كلّ سماء بوّابون وموكّلون على الرد
والقبول ، وهم كثيرون لا يحصيهم كثرة إلّا الله سبحانه كما في التنزيل (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلّا هُوَ) ، فالتعبير عن ملائكة كلّ سماء ـ وهم أبواب نقد الصلاة
الصاعدة إليهم والتفتيش عنها ـ روم لبيان التكثير لا تعيين للمرتبة العددية
بخصوصها. وهذا الوجه أيضا ذكره العلّامة المشار إليه ، ولا يخفى بعده.
ومنها ما نقله
السيّد ذو المناقب والمفاخر رضي الدين بن طاوس في كتاب (فلاح السائل ونجاح المسائل)
عن الكراجكي في كتاب (كنز الفوائد) قال : (جاء الحديث أن أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة
متوكئا على يد الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام ، فقال رجل يقال له : رزام مولى خالد بن عبد الله : من
هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أمير المؤمنين على يده؟ فقيل له : هذا أبو عبد الله
جعفر بن محمّد الصادق. فقال : إنّي والله ما علمت ، لوددت أن خدّ أبي جعفر موضع
لنعل جعفر.
__________________
ثمّ قام فوقف
بين يدي المنصور فقال له : أسأل يا أمير المؤمنين؟ فقال له المنصور : سل هذا ،
فقال : إني اريدك بالسؤال ، فقال له المنصور : سل هذا ، فالتفت رزام إلى الإمام
جعفر بن محمد عليهماالسلام فقال له : أخبرني عن الصلاة وحدودها ، فقال له الصادق عليهالسلام : «للصلاة
أربعة آلاف حدّ ، لست تؤاخذ بها».
فقال : أخبرني
عمّا لا يحلّ تركه ولا تتمّ الصلاة إلّا به.
فقال أبو عبد
الله عليهالسلام : «لا
تتمّ الصلاة إلّا لذي طهر سابغ ، وتمام بالغ ، غير نازغ ولا زائغ ، عرف
فوقف ، وأخبت فثبت ، وهو واقف بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع ، كأن الوعد له
صنع ، والوعيد به وقع ، بذل عرضه ويمثّل
غرضه ، وبذل في الله المهجة ، وتنكّب إليه المحجّة ، غير مرتغم بارتغام يقطع علائق
الاهتمام بغير من له قصد وإليه وفد
ومنه استرفد ، فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي [بها] امر وعنها اخبر ، وأنها هي
الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر».
فالتفت المنصور
إلى أبي عبد الله عليهالسلام فقال : يا أبا عبد الله ، لا نزال من بحرك نغترف ،
وإليك نزدلف ، تبصّر من العمى ، وتجلو بنورك الطّخياء ، فنحن نعوم في سبحات قدسك
وطامي بحرك) .
وهذا الخبر وإن
كان مجملا بالنسبة إلى بيان تلك الأربعة آلاف ، إلّا إنه صريح في كونها من الآداب
والسنن ، وليس ممّا يتعلّق عليها صحة الصلاة ولا قبولها.
وهذا الخبر
يدلّ على بطلان جميع الوجوه المتقدمة كما لا يخفى.
بيان : «غير نازغ» مأخوذ من قوله عزوجل (وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ
__________________
نَزْغٌ)
، أي وسوسة. قال في (القاموس) : (نزغه ـ كمنعه ـ : طعن فيه واغتابه ،
وبينهم : أفسد وأغرى ووسوس) .
«ولا
زائغ» ، مأخوذ من
قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ، أي ميل عن الحق.
«عرف» ، أي عرف الله حقّ معرفته «فوقف» ، أي بين يديه ، أو المراد : فوقف على المعرفة وثبت على
مقتضاها ، «وأخبت» ، أي خشع ، «فثبت» ، أي على خشوعه.
«بذل
عرضه» ، في بعض
النسخ بالباء بصيغة الماضي ، وفي بعضها بالياء المثناة بصيغة المستقبل. وفي (القاموس)
: (العرض ـ بالتحريك ـ : حطام الدنيا ، وما كان من مال والغنيمة ، والطمع ، واسم
لما لا دوام له) .
ويحتمل أكثر
تلك الوجوه ، وبأن يكون العرض : الإعراض عن تلك الأغراض الدنيويّة ، وأن يكون بضمّ
الأول وفتح الثاني جمع (عرضة) وهو بمعنى المانع ، أي ما يمنعك من الحضور والإخلاص.
وكونه جمع العارض ـ بمعنى الخدّ ـ بعيد لفظا ، وأن يكون بكسر الأوّل وسكون الثاني
بمعنى الجسد أو النفس ، أو بالمعنى المعروف ، وبالتحريك بأحد معانيه أنسب.
«ويمثّل
غرضه» ، أي يجعل
مقصوده من العبادة نصب عينيه.
وفي بعض النسخ : «تمثّل» بصيغة الماضي ، و «عرضه» بالعين المهملة ، أي تمثّل في نظره معروضه وما يريد أن
يعرضه به من المقاصد. والأول أظهر.
«وتنكّب
إليه المحجّة» ، التنكب إذا عدّي بـ (عن) فهو بمعنى التجنّب ، وإذا
__________________
عدّي بـ (الى) فهو بمعنى الميل ، في (النهاية) : (في حديث حجة الوداع :
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس ، أي يميلها إليهم) انتهى.
ويحتمل أن يكون
«إليه» متعلّقا بـ «المحجة» ، أي تنكب في السبيل إليه عمن سواه.
«غير
مرتغم بارتغام» ، المراغمة : الهجران والتباعد والمغاضبة ، أي لا يكون سجوده وإيصال أنفه
إلى الرغام على وجه يوجب بعده من الملك العلّام ، أو على وجه السخط وعدم الرضا
فقوله عليهالسلام : «يقطع
علائق الاهتمام» مستأنف ، أي الاهتمام بالدنيا ، ويحتمل أن يكون صفة لـ «ارتغام» ، فالمراد : الاهتمام بالعبادة.
«بعين
من له قصد» ، أي يعلم أنه مطّلع عليه. وفي بعض النسخ : «بغير من له قصد» فهو متعلّق بالاهتمام ، أي يقطع علائق الاهتمام بغيره
تعالى.
والاسترفاد :
طلب الرفد والعطاء. والازدلاف : القرب. والطخياء : الليلة المظلمة ، ومن الكلام :
ما لا يفهم. والعوم : السباحة.
و (سبحات قدسك)
، أي أنواره ، أو محاسن قدسك ؛ لأنك إذا رأيت الشيء الحسن قلت : سبحان الله.
وطما الماء :
علا ، والبحر : امتلأ. كذا أفاده شيخنا غوّاص (بحار الأنوار) ، ألحقه الله
بأئمته الأطهار.
__________________
(٦١)
درّة نجفية
في حكم المتطهّر من الحدث
وعلى بدنه نجاسة
لو توضأ أو
اغتسل وعلى بدنه نجاسة فهل يصحّ غسله والحال هذه ـ أعمّ من أن يكون قد زالت
النجاسة بماء الطهارة أم لم تزل ـ أم لا؟
ظاهر المشهور ـ
سيّما بين المتأخرين ـ أنه لا تصحّ الطهارة ، بل لا بدّ من إزالة النجاسة الخبثيّة
أولا ، ثمّ الطهارة بعد ذلك.
وقال الشيخ في (المبسوط)
بالأول ، وتبعه بعض المتأخرين ، وهذه صورة عبارته في (المبسوط) : (وإن كان على بدنه
نجاسة أزالها ثمّ اغتسل ، وإن خالف واغتسل أولا ارتفع حدث الجنابة ، وعليه أن يزيل
النجاسة إن كانت لم تزل [بالغسل] ، وإن زالت بالاغتسال فقد أجزأه عن غسلها) انتهى.
وهو كما ترى
يدلّ على أمرين :
أحدهما : أن
طهارة المحلّ ليست شرطا في الغسل.
الثاني
: أن الغسل
الواحد يجزي عن رفع الحدث والخبث معا.
واستظهر هذا
القول الفاضل المحقق الخونساري في شرحه على (الدروس) ، واستدلّ له بالنسبة إلى
الأول بأن الأمر بالاغتسال مطلق ، والتقييد بطهارة المحلّ
__________________
خلاف الظاهر. ثمّ قال : (نعم ، لا بدّ من وصول الماء إلى البشرة ، فيجب
ألّا يكون للنجاسة عين تمنع من الوصول ، فأمّا إذا لم يكن لها عين أو كان ولم تكن
مانعة فلا دليل على البطلان وإن لم يطهر بصبّ الماء للغسل ، كما إذا كان لها عين
غير مانع ولم تزل ، أو لم يكن لها عين لكن لا بدّ من الصبّ مرتين مثلا.
والظاهر أن مراد
الشيخ من عدم زوالها بالغسل ما ذكرنا ، لا أن يكون عين النجاسة مع منعها عن الوصول
باقية ؛ إذ لا شك في اشتراط وصول الماء إلى البشرة).
واستدلّ له
بالنسبة إلى الثاني بمثل ذلك أيضا من (أن الأمر بالاغتسال مطلق وكذا الأمر
بالتطهير ، فإذا صبّ الماء على العضو فقد امتثل الأمرين ، فلو كانت النجاسة ممّا
يكفيه صبّ واحد فقد ارتفع الحدث والخبث معا وإن لم يكفها صبّ واحد ، كما إذا
كانت بولا يجب فيه المرّتان فيجب صبّ آخر ، ولكن النجاسة الحكمية ارتفعت بالصبّ
الأول) انتهى كلامه زيد مقامه.
وبذلك يظهر لك
ما في كلام العلّامة في (المختلف) ، حيث قال بعد نقل عبارة (المبسوط) : (والحق
عندي أن الحدث لا يرتفع إلّا بعد إزالة النجاسة ؛ لأنّ النجاسة إذا كانت
عينية ولم تزل عن البدن لم يحصل إيصال الماء إلى جميع البدن فلا يزول حدث الجنابة
، وإن كانت حكميّة زالت بنيّة غسل الجنابة) ـ انتهى ـ فإن صحة الغسل مع بقاء النجاسة لا ينحصر في
بقاء عين النجاسة على البدن لاصقة به مانعة من وصول ماء الغسل إليه ، حتى إنه قدسسره يمنع من ارتفاع الحدث إلّا بعد ارتفاع النجاسة ؛ من جهة أن
النجاسة إذا كانت عينيّة .. إلى آخر
__________________
ما ذكره ، بل من الممكن ما فرضه ذلك الفاضل المتقدم من بقاء النجاسة على
وجه لا تكون مانعة من إيصال ماء الغسل ، وحينئذ فيطهر البدن من النجاسة الحدثية
وإن بقيت الخبثية.
وقال الشهيد في
(الدروس) : (ولو قام على مكان نجس غسل ما نجس ، ثمّ أفاض عليه الماء للغسل ، ولا
يجزي غسل النجاسة عن رفع الحدث على الأصحّ) انتهى.
وقال المحقق
الثاني في (الرسالة الجعفرية) : (ولو قام المغتسل على مكان نجس طهّر المتنجس ، ثمّ
أفاض عليه الماء للغسل) .
قال الشارح
الجواد في شرح الرسالة في تعليل ذلك ما صورته : (ليرد الغسل
على محلّ طاهر). ثم قال : (وكأن إفراد المصنّف هذا البحث مع ذكره في حكم الوضوء ـ حيث
اشترط طهارة المحل فيه في الغسل ـ متابعة للشهيد في (الدروس) ، وللتنصيص على الحكم)
انتهى.
أقول
: والظاهر أنه
أشار بالنص إلى صحيحة حكم بن حكيم ، حيث قال عليهالسلام فيها : «وأفض على رأسه وجسدك فاغتسل ، وإن
كنت في مكان نظيف فلا يضرّك ألّا تغسل رجليك ، وإن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل
رجليك» .
وهو ظاهر
الدلالة في عدم الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية ، بل لا بدّ من
إزالتها أولا ثمّ اجراء ماء الغسل.
ويمكن أن يقال
: إنّه ليس بصريح ، بل ولا ظاهر في وجوب تقديم إزالة
__________________
الخبثية كما يدّعونه ، بل غايته الدلالة على وجوب غسل آخر. ومن المحتمل أن
يكون ذلك بعد كمال الغسل أولا ، بأن لم تزل النجاسة الخبثية به ، فيجب الغسل ثانيا
لإزالتها ، كما تدلّ عليه عبارة (المبسوط).
وقال المحقق
المشار إليه أيضا في بحث الوضوء : (ويشترط طهارة المحلّ خاصة) .
قال الشارح
الجواب : (أي محلّ الطهارة من الأعضاء ، فلا يكفي غسل واحد للعضو من النجاسة
الخبثية والحدثية ، لتغاير السبب وأصالة عدم التداخل ، ولأن الماء إذا ورد على
النجاسة تنجّس بها فلا يقوى على رفع الحدث عن ذلك المحل ، فلا بدّ من طهارته أولا
؛ ليرد الماء على محلّ طاهر فيرتفع به الحدث) انتهى.
وقال أبو
الصلاح في كتابه (الكافي) : (ويلزم مريد الغسل الاستبراء .. وغسل ما على الجسم من
النجاسة) .
وقال الشهيد في
رسالته (الألفيّة) : (التاسع : طهارة الماء وطهوريّته وطهارة المحلّ) .
قال الشارح
الشهيد الثاني : (وهو الأعضاء المغسولة والممسوحة من الخبث ، بمعنى طهارة كلّ عضو
وجزء منه قبل الشروع في غسله للوضوء ، فلا يكفي غسل واحد [لهما] لتغاير السبب)
انتهى.
وقال العلّامة
في (القواعد) : (لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من
__________________
الجنابة ، بل يجب إزالة النجاسة أولا ، ثمّ الاغتسال ثانيا) .
واستدلّ له
المحقق الشيخ علي في الشرح بأنه (إنّما وجب ذلك لأنهما سببان ، فوجب تعدد حكمهما ؛
لأن التداخل خلاف الأصل ، ولأن ماء الغسل لا بدّ أن يقع على محلّ طاهر ، وإلّا
لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ولانفعال الماء القليل ، وماء الطهارة يشترط أن
يكون طاهر إجماعا) انتهى.
واورد عليه : (أنّا
لا نسلّم أن اختلاف السبب يقتضي تعدّد المسبّب ؛ لأن مقتضى التكليف وجود المسبّب
عند حصول السبب ، أمّا كونه شيئا مغايرا للأمر المسبب عن السبب الآخر فتكليف زائد
يحتاج إلى دليل ، والأصل عدمه. فما ذكر من أن التداخل خلاف الأصل ضعيف) انتهى ، وهو
كلام متين.
واورد عليه ـ بالنسبة
إلى ما ذكره من أن ماء الغسل لا بدّ أن يقع على محلّ طاهر ـ أنه ممنوع ، وما
استدلّ به عليه من لزوم إجزاء الغسل مع بقاء عين النجاسة ، إن أراد مع بقائها بحيث
يكون مانعة من وصول الماء فبطلان الثاني مسلّم ، لكن الملازمة ممنوعة ؛ لجواز وقوع
الغسل على محلّ النجس بشرط عدم المنع ، كما تقدم.
وما ذكره من
انفعال الماء القليل واشتراط طهارة الماء إجماعا ؛ فإن اريد به الإجماع على طهارته
قبل الوصول إلى العضو فمسلّم ، لكن لا ينفعه ، وإن اريد به الإجماع على الطهارة
حال الوصول فممنوع. على مذهب العلّامة [من] أنه حال الوصول أيضا طاهر ، وإنّما ينجس
بعد الانفصال.
وقال العلّامة
في (النهاية) في تعداد سنن الغسل : (الرابع : البدأة بغسل ما على جسده من الأذى
والنجاسة ؛ ليصادف ماء الغسل محلّا طاهرا فيرتفع الحدث. ولو
__________________
زالت النجاسة به طهر المحل قطعا ، والأقرب حصول رفع الحدث أيضا إن كان في
ماء كثير. ولو أجرى الماء القليل عليه ، فإن كان في آخر العضو فكذلك ، وإلّا
فالوجه عدمه ؛ لانفعاله بالنجاسة) انتهى.
وقد اورد على
العبارة المذكورة مناقشات ليس في التعرض لها كثير فائدة. إلّا إنّ المحقق الشيخ
علي بعد أن نقلها في (شرح القواعد) قال : (والتحقيق أن محل الطهارة إن لم تشترط
طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع الصور ، ولا حاجة إلى
التقيّد بما [ذكره] ، خصوصا على ما اختاره من أن القليل الوارد إنما ينجس بعد
الانفصال. وإن اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة ؛ لفقد الشرط. والشائع على
ألسنة الفقهاء هو الاشتراط ، فالمصير إليه هو الوجه) انتهى.
وأنت خبير بأن
غاية ما اعتمد عليه في هذا المقام هو مجرّد الشهرة ، ولا يخفى ما فيه من المجازفة.
ويمكن أن يستدل
على ما ذكره الأصحاب من الاشتراط بما ورد في روايات الغسل من الأمر بإزالة النجاسة
أولا ، كقوله عليهالسلام في صحيحة ابن حكيم : «ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ، ثمّ اغسل فرجك
وأفض على رأسك» الحديث.
وقوله عليهالسلام في صحيحة يعقوب بن يقطين : «ثمّ يغسل ما أصابه من
أذى ، ثمّ يصبّ على رأسه» .
وقوله في صحيحة
محمّد بن مسلم : «ثمّ تغسل فرجك ، ثمّ تصب على رأسك
__________________
ثلاثا» . ونحوها غيرها من الروايات الكثيرة الواردة في المقام.
وربّما يقال : (إنه
يشكل الاعتماد في ذلك على هذه الأخبار ؛ لتضمّنها جملة من المستحبّات كغسل اليدين
والاستنشاق ونحوهما ، فحمل الأمر فيها على الوجوب في هذا الحكم غير متيقّن إلّا
بدليل من خارج ، وليس فليس.
على أن
القائلين بوجوب الإزالة لا يقولون به قبل غسل جميع الأعضاء ، وإنّما
يقولون [به] في كلّ جزء اريد غسله ، فلا يمكنهم حمل الأوامر المذكورة على الوجوب ؛
ولهذا صرّح العلّامة في (النهاية) ـ كما تقدّم في عبارته ـ بأن ذلك من مستحبات
الغسل.
ثمّ لو سلّم
الدلالة على الوجوب فالدليل أخص من المدّعى ، والتعدي عن موضع النص إلى غيره يحتاج
إلى دليل).
وفيه نظر من
وجوه :
أحدها : قوله :
(إنّ هذه الأخبار قد تضمنت جملة من المستحبّات) ؛ فإنّ فيه : أنها أيضا قد تضمنت
جملة من الواجبات.
فإن قال : إن
هذه الواجبات قام الدليل على وجوبها من خارج.
قلنا : هذه
المستحبات أيضا قد قام الدليل على استحبابها من خارج ، ونحن إنّما قلنا بالوجوب في
المقام من حيث الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب عندهم ، وإخراجه عن حقيقته يحتاج إلى
دليل ، فالاستحباب هو المحتاج إلى الدليل لا الوجوب كما زعمه هذا القائل.
وثانيها : قوله
: (على أن القائلين بوجوب الإزالة) ـ إلى آخره ـ فإنّ فيه أن وجوب الإزالة عندهم
من قبيل الواجب الموسّع ، وإنّما يتضيق في الصورة التي
__________________
ذكرها ، وعلى ذلك يحمل حكم العلّامة في (النهاية) بالاستحباب ؛ فإنّ
الاستحباب إنّما هو من حيث التقديم وإن كان واجبا من حيث اشتراط طهارة المحل قبل
الغسل.
وثالثها : قوله
: (إنّ الدليل أخص من الدعوى ، وإن التعدي عن موضع النص يحتاج إلى دليل) ، فإن فيه
أنه من المقرّر في كلامهم في أمثال هذا المقام وغيره من الأحكام هو التعدية بطريق
تنقيح المناط القطعي ، إلّا أن يعلم الخصوصية في ذلك الحكم فيخصّ بموضعه.
والخصوصيّة هنا غير معقولة كما لا يخفى ؛ فيجب التعدية.
وأما ما ذكره
بعض محققي متأخري المتأخرين بعد أن احتمل الاستدلال على ذلك بالأخبار المشار إليها
، حيث قال ما لفظه : (ولقائل أن يقول : كثير من الأخبار الواردة في بيان كيفيّة
الغسل خال عن هذا ، وحمل هذه الأخبار على الاستحباب الشائع في الأخبار ، أو الحمل
على الغالب من عدم حصول إزالة المني بالغسلة الواحدة ، أهون من ارتكاب التقييد في
الأخبار الكثيرة. ويرجّح الأول الأصل وقرب التأويل ، والثاني وجوب تحصيل البراءة
اليقينية من التكليف الثابت.
وبالجملة ،
المقام محلّ التردد ، والاحتياط في تقديم التطهير) ـ انتهى ـ [فـ]
فيه أن خلوّ الأخبار الواردة في بيان كيفية الغسل عن إزالة النجاسة التي هي
خارجة عن الكيفيّة لا يدل على عدم توقف صحّة الغسل على الإزالة بمفهوم ولا منطوق ،
إلّا بمفهوم اللقب ، وهو ليس بحجة عند هذا القائل ، بل ولا عند
__________________
أحد من أصحابنا ؛ إذ لا دليل عليه. وبذلك يظهر أن الأخبار الدالة على
إزالة النجاسة قبل الغسل ليست مقيدة للأخبار الدالة على كيفية الغسل الخالية عن
ذكر إزالة النجاسة ، ويظهر ضعف ما توهمه من لزوم ارتكاب التقييد في الأخبار
الكثيرة لو لا الحمل على ما ذكره.
إذا عرفت ذلك ،
فالتحقيق في هذا المقام أن يقال : إن ما ادّعوه من وجوب إزالة النجاسة الخبثية أولا
، ثمّ إجراء ماء الغسل بعد ذلك ، وأن ماء الغسل لا يجزي لرفعهما معا لا دليل عليه
، وما علّلوه به من أن اختلاف السبب يقتضي اختلاف المسبّب ، وأن
الأصل عدم التداخل ، فكلام شعري لا يجدي نفعا في مقام التحقيق. وقد حققناه في
مسألة تداخل الأغسال من كتابنا (الحدائق الناضرة) ما يقطع حجة
الخصم في ذلك.
نعم ، وجه
الإشكال في ذلك هو أنّهم قد أجمعوا إلّا الشاذ منهم على نجاسة الماء القليل
بالملاقاة ، وعليه دلّت الأخبار المستفيضة كما حققناه في رسالتنا (قاطعة القال
والقيل في نجاسة الماء القليل). والمشهور بينهم أيضا القول بنجاسة الغسالة.
ولا ريب أنه
بناء على هاتين المقدّمتين متى اغتسل وعلى بدنه نجاسة لم تزل عينها بالغسل وإن كانت لا
تمنع وصول الماء للجسد ، أو زالت عينها واضمحلت من ذلك الموضع الذي هي فيه ولكن
تعدّت غسالتها إلى موضع آخر من الجسد طاهر قبل ذلك ، ولم تنفصل من موضع النجاسة
إلى خارج البدن ، فالقول بصحة الغسل هنا مشكل جدّا بناء على ما قلناه ، وذلك أن
الماء بملاقاته
__________________
النجاسة فلا إشكال في تنجّسه كما هو الأشهر الأظهر. وحينئذ ، فالماء وإن
طهّر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة ـ إذ لا منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة
وتطهيره ذلك الموضع ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في رسالتنا المشار إليها آنفا
ـ إلّا إنّه بعد التعدي عن ذلك الموضع إلى موضع آخر خال من النجاسة يكون نجسا
منجّسا لما يلاقيه ، والماء النجس لا يرفع حدثا مع العمد نصا واتفاقا.
وعلى هذا تحمل الأخبار
الواردة في كيفية غسل الجنابة ، وذلك ، فإنّ المفروض فيها كون الغسل من تلك
الأواني الصغار المستعملة يومئذ ، وأنه يغسل كلّا من جنبيه بثلاثة أكفّ أو أربعة أكفّ
، كما تضمّنته جملة من تلك الأخبار.
ومن الظاهر أن
الغسل على هذا التقدير إنّما هو بإجراء اليد بالماء المغسول به من موضع إلى آخر. وحينئذ
، فلو كان هناك نجاسة للزم تنجّس ذلك الماء بها ، وتعدي النجاسة إلى سائر ما لاقاه
ذلك الماء واليد المصاحبة له ، فمن ثمّ أمروا عليهمالسلام احترازا عن ذلك بإزالة النجاسة أولا.
ومن ذلك يظهر
أن هذه الأخبار لا تقوم حجة على الاشتراط مطلقا ، فالظاهر الذي ينبغي العمل عليه
في هذه المسألة هو القول بصحة الغسل والوضوء في الصورة المفروضة ؛ لعدم دليل يدل
على وجوب تقديم الإزالة.
__________________
نعم ، ينبغي
تقييده بأن يكون على وجه لا تتعدى الغسالة إلى سائر أجزاء البدن الطاهرة. وعبارتا (النهاية)
و (المختلف) صريحتا
الدلالة على صحّة الطهارة على هذا الوجه. وما أفهمته عبارة (المبسوط) من صحّة
الطهارة مع بقاء عين النجاسة ـ بأن يكون قد حصل الغسل في بعض أجزاء البدن بماء نجس
ـ ممّا لا يمكن التزامه ؛ لما نقلناه من الإجماع على بطلان الطهارة بالماء النجس
عمدا ، ودلالة الأخبار على ذلك.
وما ذكره ذلك
الفاضل ـ المتقدم ذكره ـ في الاستدلال بالنسبة إلى الأمر الاوّل من أنّ الأمر
بالاغتسال مطلق ، والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر ، فكلام مجمل
؛ فإنه إن أراد بذلك الإطلاق هو الحكم بصحة الغسل ـ أعمّ من أن يكون ذلك الماء
المغتسل به طاهرا أو نجسا ـ فهو ظاهر البطلان ، وإن أراد غيره فهو خارج عن محل
البحث ، فلا يجدي نفعا.
وهكذا قوله : (والتقييد
بطهارة المحل خلاف الظاهر) ، إن أراد به التقييد بطهارة المحل قبل الغسل فمسلّم ، ولكنّه ليس
هو مراده ، وإن أراد به بعد الغسل ، بحيث يكون المحل بعد الغسل طاهرا من النجاسة
الخبثية ، فهو ليس بخلاف الظاهر ، بل هو الظاهر كما عرفت.
وبالجملة ،
فإنه متى قلنا بنجاسة القليل بالملاقاة ، وقلنا أيضا بنجاسة الغسالة ، فالحكم بصحة
الغسل فيما إذا كانت النجاسة على البدن ولم تزل بماء الغسل ، أو زالت ولكن تعدّت
نجاستها إلى سائر أجزاء البدن ، بعيد غاية البعد ؛ لوقوع الغسل حينئذ بماء نجس ،
وقد قام الدليل القطعي على بطلان الطهارة بالماء النجس
__________________
عمدا. وبذلك يتضح لك ما في قوله أخيرا : (فلا دليل على البطلان وإن لم يطهر
بصبّ الماء للغسل) إلى آخره.
وإنّما قيّدنا
بطلان الطهارة بالماء النجس بالعمد وإن كان المشهور البطلان مطلقا ؛ لما سيأتي في
الدرة الآتية إن شاء الله تعالى.
__________________
(٦٢)
درّة نجفية
في الطهارة بالماء النجس
عمدا
أجمع الأصحاب ـ
رضوان الله عليهم ـ على تحريم الطهارة بالماء النجس عمدا ، وقد اختلفت كلماتهم في
المعنى المراد من التحريم هنا ؛ فالعلّامة في (النهاية) على أن المراد به : عدم
الاعتداد بالطهارة وعدم إجزائها لا الإثم .
واختار جماعة من
الأصحاب ـ منهم الشيخ علي قدسسره في شرح (القواعد) ، والسيد السند في (المدارك) ، وجدّه
الشهيد الثاني في (الروض) ـ أن المراد به المعنى المتعارف ، ووجّهوه بأن استعمال
المكلّف الماء النجس فيما يسمّى طهارة في نظر الشارع أو إزالة نجاسة مع اعتقاد
شرعيّته يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما. والمراد : التحريم على
تقدير استعماله والاعتداد به في الصلاة ؛ إذ الاعتداد به محرّم لذلك ، فتكون
الوسيلة إليه محرّمة. ثمّ احتمل بعضهم المعنى الأول أيضا.
والظاهر من
كلامهم أن الطهارة به نسيانا في حكم العمد ، وأمّا الطهارة به جهلا
__________________
فالمشهور بينهم أنه كالأوّل ، ويجب على المتطهر به كذلك الإعادة في الوقت
والخارج.
وقال الشيخ في (المبسوط)
: يعيد في الوقت لا في خارجه ، وهذه عبارته في الكتاب المذكور : (إن استعمل النجس
في الوضوء أو غسل الثوب عالما أعاد الوضوء والصلاة ، وإن لم يكن علم أنه نجس نظر ؛
فإن كان الوقت [باقيا] أعاد الوضوء والصلاة ، وإن كان خارجا لم يجب إعادة الصلاة
ويتوضأ لما يستأنف من الصلاة) . ومثل ذلك عبارته في (النهاية) .
وظاهره كما ترى
وجوب الإعادة مع النسيان وقتا وخارجا ، ووجوبها مع الجهل وقتا لا خارجا.
وقال ابن
البرّاج : الماء النجس إن تطهّر به مع علمه أو سبق علمه أعاد في الوقت وخارجه ،
وإن لم يسبقه العلم أعاد في الوقت دون خارجه .
وهو صريح في
الإعادة وقتا وخارجا مع العمد والنسيان ، وعدم الإعادة خارجا مع الجهل.
وقال ابن
الجنيد : (إذا تيقن الإنسان أنه غسل ثوبه أو تطهر بالماء النجس من البئر أو غيره
غسل الثوب بماء طاهر وأعاد الطهارة ، وغسل ما أصاب ثوبه وبدنه ، وأعاد الصلاة ما
كان في الوقت) انتهى.
وكلامه كالظاهر
في عدم الفرق بين المعتمد والناسي والجاهل في أنّهم يعيدون في الوقت دون خارجه.
وقال ابن إدريس
: إن توضأ أو اغتسل أو غسل الثوب بالماء النجس أعاد
__________________
الوضوء والغسل والصلاة ، وغسل الثوب إن كان عالما أو سبقه العلم ، وإن لم
يسبقه لم يجب عليه إعادة الصلاة ولا الطهارة ، بل غسل الثوب سواء كان الوقت باقيا
أو لم يكن على الصحيح من المذهب والأقوال. وقال المفيد : يجب عليه إعادة الصلاة . وهو الذي
يقوى في نفسي وافتي به ، انتهى.
وأول كلامه
صريح في وجوب الإعادة على العامد والناسي مطلقا ، وعدم الإعادة على الجاهل لا في
الوقت ولا في خارجه ، وآخر كلامه ظاهر في خلافه. وعبائر جلّ علمائنا المتقدّمين
مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل في [وجوبها ] بين العامد
والناسي والجاهل ، ولا في الوقت أو خارجه.
وقال العلّامة
في (المختلف) بعد نقل جملة من عبائر الأصحاب في هذا الباب : (والوجه عندي إعادة
الصلاة والوضوء والغسل إن وقعا بالماء النجس ، سواء كان الوقت باقيا أو لا ، سبقه
العلم أو لا) انتهى.
أقول
: ولم ينقل منهم
أحد الاستدلال على ما ذهب إليه سوى العلّامة والشهيد في (الذكرى) ، فإنّهما
استدلّا على ذلك ، فاستدل في (المختلف) على ما ذهب إليه بورود الأخبار بالنهي عن
الوضوء بالماء النجس ، مثل صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضأ» .
وصحيحة الفضل
البقباق عنه عليهالسلام ، وقد سأله عن أشياء حتّى انتهى إلى الكلب ، فقال : «رجس نجس ، لا تتوضأ
بفضله واصبب ذلك الماء» .
__________________
قال : (والنهي
يدلّ على الفساد .. فيبقى في عهدة التكليف .. لعدم الإتيان بالمأمور به). ثمّ قال
: (لا يقال : هذا لا يدلّ على المطلوب لاختصاصه بالعالم ؛ فإن النهي مختص به ؛
لأنّا نقول : لا نسلّم الاختصاص ؛ فإنّه إذا كان نجسا لم يكن مطهّرا لغيره) .
ثمّ استدل أيضا
بما رواه معاوية في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : «لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في
البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة» ، وقال : (وهذا مطلق ، سواء سبقه العلم أم لا) .
وقال الشهيد في
(الذكرى) : (يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا ؛ لعدم التقرب
بالنجاسة ، فيعيدها مطلقا وما صلّاه ولو خرج الوقت ؛ لبقاء الحدث ، وعموم «من فاتته صلاة
فليقضها» يقتضي وجوب
القضاء ) انتهى.
هذا ما وقفت
عليه ممّا حضرني من كلامهم ، والذي يقتضيه النظر في الأدلة الشرعية والأخذ بما
يستفاد منها من الضوابط المرعيّة والقواعد الكليّة هو وجوب الإعادة على العالم
والناسي مطلقا ، وعدم وجوب الإعادة على الجاهل مطلقا ، لا في الوقت ولا في خارجه.
أمّا الأول ،
فلما ذكره العلّامة في (المختلف) من الروايات ، ومثلها غيرها أيضا مما هو مذكور في
مظانه ، ممّا يدلّ على ذلك بعمومه.
ويدل على خصوص
ما نحن فيه موثّقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام
__________________
في الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا ، وغسل منه ثيابه
واغتسل منه ، وقد كانت الفأرة منسلخة؟ فقال : «إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ
أو يغسل ثيابه ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ
ما أصابه من ذلك ، ويعيد الوضوء
والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ،
وليس عليه شيء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه».
ثم قال : «لعله إنّما سقطت تلك
الساعة التي رآها» .
وجه الاستدلال
: أن ظاهر قوله عليهالسلام : «إن
كان رآها في الإناء» إلى قوله : «ثمّ
فعل ذلك بعد ما رآها» ، يشمل العامد والناسي. وظاهر قوله : «يعيد الوضوء والصلاة» من دون تفصيل ، يشمل الإعادة في الوقت وخارجه ، سيّما
وسؤال الراوي ـ حيث قال : وتوضأ من ذلك الماء مرارا ـ يدل على خروج وقت بعض الصلوات
كما لا يخفى.
وأمّا الثاني ،
فلعدم الدليل عليه ، بل قيام الدليل على عدمه ، وما استدلوا به من عموم تلك
الروايات فغير مسلّم ؛ لما قرروه في غير موضع من عدم توجه النهي إلى الجاهل ، لامتناع
تكليف الغافل. وأنت خبير بأن ما نحن فيه من ذلك القبيل.
ولهذه المسألة
نظائر في الأحكام الشرعية قد اتفقوا فيها على الصحة مع الجهل ، منها الصلاة في
الثوب المغصوب جاهلا بالغصب.
ومنها الصلاة
في المكان المغصوب كذلك ، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة ؛ وحجتهم في ذلك ما أشرنا
إليه من عدم توجه النهي الوارد إلى الجاهل ؛ لقبح تكليف الغافل.
__________________
قال المحقق في (المعتبر)
في بحث الساتر : (لو جهل الغصب لم تبطل الصلاة ؛ لارتفاع النهي) .
وقال شيخنا
الشهيد الثاني في (الروض) في تعليل جواز الصلاة في المكان المغصوب جاهلا ما صورته
: (أمّا جوازها مع الجهل بالأصل فظاهر ؛ لأن الناس في سعة إذا لم يعلموا) .
وقال في مبحث
الساتر ـ حيث قال المصنّف : (فلو صلّى في المغصوب عالما بالغصب) ـ ما صورته
أيضا : (وقيد العالم بالغصب يخرج الجاهل به فلا تبطل صلاته ؛ لارتفاع النهي) .
وقال السيد
السند صاحب (المدارك) فيه في مبحث المكان : (أمّا صحة صلاة الجاهل بالغصب فموضع
وفاق من العلماء ؛ لأن
البطلان تابع
للنهي ، وهو إنّما يتوجه إلى العالم) .
وقال في مبحث
الساتر أيضا : (ولا يخفى أن الصلاة إنّما تبطل في الثوب المغصوب مع العلم بالغصب ،
فلو جهله لم تبطل الصلاة ؛ لارتفاع النهي) .
وبالجملة ،
فعبائرهم ـ رضوان الله عليهم ـ كلّها على هذا المنوال.
ومنها صحّة
صلاة الجاهل بالنجاسة حتّى صلّى ، فإن المشهور بينهم ـ وهو الذي دلّت عليه الأدلة
الصحيحة الصريحة ـ عدم وجوب الإعادة مطلقا.
والقائل بوجوب
الإعادة في الوقت لا دليل له ، بل جزم جماعة من أفاضل
__________________
متأخّري المتأخّرين منهم المحقق المولى أحمد الأردبيلي ، وتلميذه
السيد السند في (المدارك) ، والفاضل المحدّث الأمين الأسترابادي ، والمحدّث
الكاشاني ، وشيخنا المجلسي ، والسيد المحدّث السيد نعمة الله الجزائري ، وشيخنا
أبو الحسن الشيخ سليمان البحراني ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ بتعدية ذلك إلى جاهل الحكم
في جميع مواضعه ، فقالوا بمعذوريته ، ولم يوجبوا عليه الإعادة فيما يجب فيه ذلك لو
لا العذر المذكور ؛ لعين ما ذكر من عدم توجّه الخطاب إليه.
قال في (المدارك)
في بحث المكان : (أمّا الجاهل بالحكم فقد قطع بأنه غير معذور ، لتقصيره في التعلّم. وقوّى بعض
مشايخنا المحققين إلحاقه بجاهل الغصب ؛ لعين ما ذكر. ولا يخلو
من قوّة) .
وقال في بحث
الساتر أيضا ـ بعد أن ذكر العبارة المتقدمة في جاهل أصل الغصب ـ : (ولا يبعد
اشتراط العلم بالحكم أيضا ؛ لامتناع تكليف الغافل ، فلا يتوجّه إليه النهي المقتضي
لفساده ) ، انتهى.
أقول
: وهذا القول هو
الظاهر عندي على التفصيل الذي تقدّم في الدرّة الموضوعة في هذه المسألة ، وبذلك يظهر أنه لا وجه
لحكمهم بالبطلان هنا ، والعلّة واحدة. وحينئذ فصحة العبادة هنا وسقوط القضاء هو
الموافق للقاعدة المذكورة.
__________________
وما ذكره في (المختلف)
من أنه إذا كان نجسا لم يكن مطهّرا لغيره كلام مجمل ؛ فإنه إن أراد به : ما كان نجسا في نظر
المكلّف فما ذكره مسلّم ولكنّه ليس بمحل البحث ، وإن أراد به : ما كان كذلك في
الواقع وإن لم يكن معلوما للمكلّف فهو ممنوع ، بل هو أول المسألة.
نعم ، بعد
انكشاف الأمر وحصول العلم بالنجاسة يجب الاجتناب.
وكذلك ما ذكره
في (الذكرى) من تعليله عدم ارتفاع الحدث بأنه ماء نجس ولا يحصل به الطهارة ـ إلى آخر ما
ذكره ـ فإنّا نقول : إن ذلك كلّه لا يجري إلّا في العالم ، ويوضحه أنه لا ريب أنّا
مكلّفون من الشارع بالطهارة بهذا الماء مثلا بشرط عدم العلم بنجاسته ، لا بشرط
العلم بعدمها ؛ لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآية والرواية . ومن أجل ذلك
لم يجعل التكليف منوطا بنفس الأمر في مادة من المواد ولا حكم من الأحكام ، لعلمه
بتعذّره عينا ، وإنّما كلّفنا بالنظر إلى علمنا ؛ لقوله عليهالسلام : «الناس
في سعة ما لم يعلموا» ، وقوله : «لا ابالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم» . وقوله : «كلّ ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر» . إلى غير ذلك من الأخبار.
وحينئذ ،
فالمكلّف إذا توضأ بهذا الماء الطاهر في نظره واعتقاده وإن كان
__________________
نجسا في الواقع فطهارته شرعيّة صحيحة مجزية اتفاقا ، وصلاته أيضا بتلك
الطهارة صحيحة مجزية إجماعا. وأمّا بعد معلوميّة النجاسة وانكشاف الأمر بذلك ،
فوجوب قضاء تلك العبادات التي مضت على ظاهر الصحة أولا وإعادتها يحتاج إلى دليل ،
وليس فليس.
وصدق الفوات
على هذه العبادات ـ كما ادّعاه في (الذكرى) غير مسلّم ، كيف ، وقد فعل المأمور به شرعا ، وامتثال
الأمر يقتضي الإجزاء والصحة ، كما حقّق في محلّه؟
وبالجملة ،
فإنّهم صرّحوا في مواضع عديدة بأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد.
ونحن نقول : إن
هذا المكلّف لمّا كان الواجب عليه إنّما هو البناء على الظاهر ، وقد دخل عليه
الوقت وأتى بالصلاة المفروضة عليه كاملة بشروطها الواجبة عليه في ظاهر التكليف ،
ولا ريب أن صلاته صحيحة مجزية ، فلو ظهر الخطأ بعد ذلك في اعتقاده بالإتيان بشرط
من تلك الشرائط وأنه لم يكن كذلك فالحكم بالإبطال يحتاج إلى دليل.
وقد دلّت
الأدلة في بعض تلك المواضع والشروط على الصحة والحال كذلك ، كما إذا ظهر له نجاسة
جسده أو ثوبه ، أو غصب مكانه أو لباسه ، أو انحرافه إلى غير جهة
القبلة على تفصيل فيه ، ونحو ذلك ممّا يكون مبطلا مع العلم به
__________________
أولا. وفي بعضها على الإبطال ، كما إذا كان جاهلا بالجنابة وتوضأ وصلّى ثمّ
علم الجنابة ، ونحو ذلك. وفي بعضها لم يدل عليه دليل.
ففيما قام
الدليل عليه يجب العمل على مقتضى الدليل ، وما لم يقم عليه دليل يبقى على أصل
الصحة ، كما لا يخفى.
وما استدلّ به
العلّامة رحمهالله على العموم من صحيحة معاوية ، حيث قال بعد نقلها : (وهذا
مطلق ، سواء سبقه العلم أو لا) ، فهو محل نظر ؛ كيف ، وليس فيها حكاية الطهارة بماء
البئر بالكلية؟ ولعلّ المراد بها باعتبار ملاقاة الثوب أو البدن ، ومع ذلك فالعمل
بها على إطلاقها غير ممكن ، بل لا بدّ من تقييدها بالروايات الواردة في عدم إعادة
الجاهل بالنجاسة.
وأمّا ما ذكر
الشيخ ـ في (النهاية) و (المبسوط) ـ وابن البرّاج من الإعادة في
الوقت دون خارجه فلم نقف له على دليل ، ولعلهما قاسا ذلك على الصلاة بالنجاسة ،
فإن الشيخ في (النهاية) و (المبسوط) ذهب إلى وجوب الإعادة على من
صلّى في النجاسة جاهلا في الوقت دون الخارج.
ولم أقف على
مذهب ابن البرّاج في ذلك ، ولا يبعد أن يكون مذهبه ذلك أيضا فإنه كثيرا ما يقتفي
أثر الشيخ ، ويجوز أن يكون قد بنى على أنه ما دام في الوقت لم تبرأ الذمة من عهدة
التكليف حتّى يأتي بما كلّف به واقعا ، وأمّا خارج الوقت فلا بدّ له من دليل من
خارج. وما ذكره ابن الجنيد أيضا لم نقف له على مستند.
وأنت خبير بأن
كلامهم ـ رضوان الله عليهم ـ في هذه المسألة مبني على
__________________
ما قدّمنا نقله عنهم في الدرة الخامسة من درر الكتاب ، وهو أن من صلّى بالنجاسة جاهلا فصلاته
وإن كانت صحيحة ظاهرا إلّا إنّها باطلة واقعا ، فلو استمرّ به الجهل حتّى مات
فصلاته التي صلّاها على تلك الحال كلّها باطلة لا يستحق عليها ثواب الصلاة الموعود
به وإن كان غير مؤاخذ بحسب الظاهر لجهله. وقد قدّمنا تحقيق الحال في تلك المسألة
بما يؤيد ما اخترناه هنا ، والله العالم.
__________________
(٦٣)
درّة نجفية
فيما ورد في إمامة الاثني
عشر من طرق أهل السنة
قد ورد من طرق
مخالفينا في الإمامة ـ وفّقنا الله تعالى وإياهم للهداية إلى ما يوجب السلامة
والكرامة ـ ما يدلّ على إمامة الأئمّة الاثني عشر ؛ فمن ذلك ما رواه البخاري في
صحيحه في الجزء الثالث من أجزاء ثمانية ، بإسناده إلى جابر بن سمرة ، قال : سمعت
النبي صلىاللهعليهوآله يقول : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا». فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : «كلّهم من قريش» .
ومنها في حديث
يرفعه البخاري في صحيحة بإسناده إلى ابن عيينة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لا
يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا». ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي : ما ذا قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قال : قال : «كلّهم من قريش» .
و [منها] ما
رواه مسلم في صحيحه في الجزء الرابع من أجزاء ستة قال : عن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ
هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». قال : ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ ، فقلت [لأبي] : ما ذا قال؟
فقال : «كلّهم من
قريش» .
__________________
و [منها ما]
رواه مسلم في صحيحه من طريق آخر مثل رواية البخاري عن ابن عيينة بألفاظه.
ومنها ما رواه
مسلم في صحيحه أيضا : رواية سمّاك بن حرب ، يرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «لا يزال أمر
الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة». ثمّ قال كلمة لم يسمعها الراوي ، فسأل عنها من سمع
الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال : إنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : «كلّهم من قريش» .
ومن ذلك في
رواية سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم ، أن النبي صلىاللهعليهوآله قال يوم [جمعة] عشيّة رجم السلمي : «لا يزال الدين قائما
حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» .
و [منها ما] في
رواية عامر بن سعد من (صحيح مسلم) مثل هذه الرواية .
ومنها من كتاب (الجمع
بين الصحاح الستة) في باب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) بإسناده ، أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر
خليفة» وقال : «كلّهم من قريش» .
ومن الكتاب
المذكور : قال النبي صلىاللهعليهوآله : «لا
يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» .
ومنها في صحيح
أبي داود من الجزء الثاني من جزءين بإسناده إلى النبي صلىاللهعليهوآله
__________________
قال : «لا يزال
الدين ظاهرا حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» .
ومن ذلك رواية
الحميدي في (الجمع بين الصحيحين) لهذه الأحاديث من طريق عبد الملك بن عمر ، وطريق شعبة
، وطريق ابن عيينة ، وطريق عامر بن سعد ، وطريق سمّاك بن حرب ، وطريق عدي بن حاتم ،
وطريق عامر الشعبي ، وطريق حصن بن عبد الرحمن. وجميع هذه الطرق يتضمّن أن عدّتهم اثنا
عشر خليفة أو أمير ، كلّهم من قريش .
أقول
: لا يخفى على
المنصف أنه لا وجود لهذا العدد إلّا على مذهب الإماميّة الاثني عشرية ؛ ولهذا
اضطربت آراء مخالفينا ـ هداهم الله تعالى ـ في بيان هذه الاثني عشر المذكورة في
هذه النصوص ، وتاهت أفكارهم في المراد بها على الخصوص. فقال بعضهم : هم الخلفاء
بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وكان اثنا عشر منهم ولاة الأمر إلى ثلاثمائة سنة ،
وبعدها وقع الفتن والحوادث. فيكون المعنى : أن أمر الدين عزيز مدة خلافة اثني عشر
، كلّهم من قريش.
أقول
: ويرد عليه :
أولا : أنه مع
الإغماض عن المناقشة في خلافة المتقدّمين ، فعدّ معاوية المحارب لعلي عليهالسلام في صفين ، والمعلن بسبّه وسبّ أولاده على رءوس المنابر
، حتى صار سنّة أمويّة بين البادي والحاضر ، ويزيد ابنه المعلن بشرب الخمور
والفجور ، قاتل الحسين عليهالسلام وأهل بيته ، وهادم الكعبة ، وصاحب وقعة الحرّة ،
__________________
وواضع السيف في أهل المدينة : المهاجرين والأنصار ، والوليد
الزنديق الذي جعل (القرآن) العزيز غرضا للنشّاب ، وأمثالهم
ممّن يتمّ بهم العدد من فراعنة الاموية والعبّاسية ، لا يخفى ما فيه على من قابل
الإنصاف وجانب الاعتساف.
وهل يدّعي مسلم
يؤمن بالله ورسوله أن هؤلاء خلفاء الله في أرضه والحافظون لسنّته وفرضه؟ وثانيا :
أنّهم قد رووا عنه صلىاللهعليهوآله أن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تكون ملكا عضوضا ، فكيف يدّعي
هذا القائل امتداد الخلفاء الاثني عشر إلى ثلاثمائة سنة ، وإن الفتن والحروب إنّما
هي بعدها؟
وثالثا : أنّه
يلزم أن تكون الأحكام بعد تلك المدة التي ذكرها ـ وأنّ بها تنقضي خلافة الخلفاء
الاثني عشر ـ معطلة ، والشرائع إلى يوم القيامة مهملة ، مع أن جملة من الأخبار المتقدمة
دلّت على أن أمر الدين عزيز إلى يوم القيامة ، وأن خلافة الاثني عشر ممتدة إلى يوم
القيامة.
وقال بعضهم :
إن صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر ، وهم الخلفاء الراشدون وهم خمسة ، وعبد الله
بن الزبير ، وخمسة اخر من خلفاء بني العباس ، فيكون هذا إشارة إلى الصلحاء من
الخلفاء القرشية.
أقول
: فيه :
أوّلا
: ما عرفت من
أنّهم قد رووا عنه صلىاللهعليهوآله من أن الخلافة بعده تكون ثلاثين سنة ، ثمّ يصير ملكا
عضوضا ، والثلاثون قد كملت بخلافة الحسن عليهالسلام الذي هو
__________________
الخامس عندهم ، كما نبّه عليه الشيخ كمال الدين بن طلحة الشامي في كتابه ،
حيث قال ـ بعد ذكر موت الحسن عليهالسلام ـ ما صورته : (وكان بانقضاء الشهور التي ولي فيها عليهالسلام [الخلافة] انقضاء خلافة النبوة ؛ فإن بها كان استكمال ثلاثين سنة ، وهي
التي ذكرها رسول الله صلىاللهعليهوآله فيما نقل عنه : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثمّ تصير ملكا
عضوضا» ، وهو كما قال
عليهالسلام) .
ومن هذا الخبر
حينئذ يعلم أن ملك معاوية ومن بعده ليس من الخلافة في شيء ، وإنّما هو من الملك
العضوض.
وثانيا
: أن عدّ ابن
الزبير من صلحاء الخلفاء ـ مع أنه رأس الفتنة في حرب الجمل وإراقة دماء المسلمين ،
ومن جملة المجاهرين في أيام خلافته بعداوة أهل البيت عليهمالسلام ، حتّى نقل عنه كما ذكره ابن أبي الحديد في (شرح النهج)
، وغيره أنه كان في وقت خلافته يترك الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله في خطبته ، حتى قيل له في ذلك ، فقال : إنّ له اهيل سوء
إذا ذكر شمخوا بانوفهم ـ تعصّب صرف وعناد محض.
ويؤيد ما
ذكرناه أيضا ما صرّح به ابن عبد البرّ في كتاب (الاستيعاب) بعد ذكره قال : (كان
فيه خلال لا يصلح معها للخلافة ؛ لأنه كان بخيلا ، ضيّق العطن ، سيّئ الخلق
، حسودا ، كثير الخلاف ، أخرج محمد بن الحنفيّة ونفى عبد الله بن العباس إلى
الطائف. وقال علي بن أبي طالب رضياللهعنه : «ما
زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد الله.») ، انتهى كلام ابن عبد البرّ.
وقال عز الدين
بن أبي الحديد في (شرح النهج) في صدر شرحه في ذكر
__________________
البغاة : (وكان شيخنا أبو القاسم البلخي رحمهالله إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول : لا خير فيه.
وقال مرة : لا يعجبني صلاته وصومه ، وليسا بنافعين له ، مع قول رسول الله صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام : «لا
يبغضك إلّا منافق».
قال أبو عبد
الله البصري : ما صحّ عندي أنه تاب من يوم الجمل ، ولكنّه استكثر ما كان عليه) انتهى.
وثالثا : أنه
يلزم خلوّ الأزمنة الفاصلة بين الخليفتين الصالحين ، وكذا بعد تمام العدد وانقضائه
، من الخليفة والإمام على الأنام ، وفي ذلك فساد الإسلام واختلال النظام إلى يوم
القيام ، مع أن الأخبار المتقدمة تنطق بخلافه كما عرفت.
أقول
: وفي (الصواعق
المحرقة) لابن حجر ـ بعد نقله الجملة من هذه الأخبار ـ ما صورته : (قال القاضي
عياض : لعلّ المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنّهم يكونون في عزة
الخلافة ، وقوة الإسلام ، واستقامة اموره ، والإجماع على من يقوم بالخلافة ، وقد
وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس ، إلى أن اضطرب أمر بني اميّة ووقعت منهم [الفتنة] في زمن الوليد
بن يزيد ، فاتصلت تلك الفتن منهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم.
قال شيخ
الإسلام في (فتح الباري) : (كلام القاضي هذا أحسن ما قيل في هذا الحديث وأرجحه ؛
لتأيده بقوله في بعض طرقه الصحيحة : «كلّهم يجتمع عليه الناس» . والمراد باجتماعهم : انقيادهم لبيعته ، والذي اجتمعوا
عليه هم الخلفاء الثلاثة ، ثمّ علي ، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفّين فتسمّى
معاوية يومئذ بالخلافة ، ثمّ اجتمعوا عليه عند صلح الحسن ، ثمّ على ولده يزيد ،
ولم ينتظم للحسين أمر ، بل قتل قبل ذلك ، ثمّ لمّا مات يزيد اختلفوا ، إلى اجتمعوا
على عبد
__________________
الملك بعد قتل ابن الزبير ، ثمّ على أولاده الأربعة : الوليد ، فسليمان ،
فيزيد ، فهشام.
وتخلّل بين
سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين ، والثاني عشر
الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، اجتمعوا عليه لمّا مات عمّه هشام ، فولي نحو أربع
سنين ، ثمّ قاموا عليه فقتلوه ، وانتشرت الفتن من يومئذ ، ولم يتفق أن يجتمع الناس
على خليفة بعد ذلك ؛ لوقوع الفتن بين من بقي من بني اميّة ، ولخروج المغرب الأقصى
من العباسيين بتغلّب المروانيّين على الأندلس إلى أن تسمّوا بالخلافة ، [وانفرط] الأمر إلى أن
لم يبق [من] الخلافة إلّا الاسم) .
وقيل : المراد
وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم
يتولّوا. ويؤيده قول أبي الخلد : كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت
محمد.
فعليه المراد
بالهرج : الفتن الكبار كالدجال وما بعده ، وبالاثني عشر : الخلفاء الأربعة والحسن
ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز. وقيل : يحتمل أن يضمّ إليهم المهدي
العباسي ، لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الامويين ، والطاهر العباسي
أيضا ؛ لما اوتيه من العدل. ويبقى الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي ، لأنه من
أهل بيت المصطفى) انتهى كلام صاحب (الصواعق).
وقال القاضي
نور الله الشوشتري في كتاب (الصوارم المهرقة) بعد ردّه لاحتمالاته المذكورة : (ولقد
أنصف حيث شهد بما ذكرنا المولى العلّامة فصيح الدين الاستيباضي الذي كان
استاذ الأمير علي شير المشهور ، في رسالته
__________________
الموسومة بـ (إلجام العصاة وإلزام الغلاة) ، حيث قال : (وقد اشكل على مفهوم
الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ
هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش» ، وفي رواية : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ،
كلّهم من قريش» .
وقال في شرح (المشارق)
و (المصابيح) : يريد بـ «هذا
الأمر» : الخلافة.
وأمّا العدد
فقيل : إنّه ينبغي أن يحمل على العادلين منهم ، فإنّهم إذا كانوا على سنن الرسول
وطريقته يكونون خلفاء ، وإلا فلا ، ولا يلزم أن يكون على الولاء.
هذا ما قالوه ،
ولكن لا مقنع فيه ، والله أعلم بما المراد منه) انتهى كلام الفصيح ، وكفى به نصح
النصيح لمن سلك الاعوجاج الفضيح.
وممّا ينبغي أن
ينبّه عليه أن قوله : (ولكن لا مقنع فيه) ، قد وقع على سبيل رعاية الأدب مع أصحابه
، وإلّا فبطلانه ظاهر جدا كما عرفت.
والحاصل أنه إن
اعتبر خلافة الاثني عشر على الولاء يلزم أن يكون معاوية الباغي وجروه الغاوي ،
والوليد الزنديق المريد المستهدف للمصحف المجيد ، وأمثالهم من
الخلفاء والأئمّة الذين يكون بهم الإسلام عزيزا ، وهذا ممّا لا يتفوّه به مسلم.
وأيضا يلزم أن
تكون الأحكام المنوطة على آراء الخلفاء ـ خصوصا على مذهب الشافعي ـ معطلة بعد
انقضاء هؤلاء الاثني عشر إلى يوم الدين ، وإن لم يعتبر ذلك واعتبر انتخاب العادلين
منهم ، فمع لزوم خطئهم في بعض الانتخاب يلزم خلوّ الأزمنة الفاصلة بين الخليفتين
العادلين منهم من الخليفة والإمام ، مع
__________________
ما يلزم ذلك من تعطيل الاحكام كما مرّ) انتهى كلامه زيد مقامه.
وبذلك يظهر أن لا محمل
لهذه الأخبار إلّا على الأئمّة الاثني عشر على مذهب الإمامية ، فإنه لا تعتريه
شبهة الإيراد ، ولا يزاحمه الفساد.
وأمّا ما ذكره
صاحب كتاب الردّ على كتاب (كشف الحق ونهج الصدق) ، حيث قال بعد أن ادّعى عدم جواز
الحمل على الأئمّة الاثني عشر : (لأنه إن اريد بالخلافة وراثة العلم والمعرفة
وإيضاح الحجة والقيام بإتمام منصب النبوة ، فلا مانع من الصحة ، ويجوز هذا المحمل
بل يحسن ، وإن اريد به الزعامة الكبرى والإيالة العظمى فهذا
أمر لا يصحّ ، لأن من الأئمّة الاثني عشر اثنين كانا هما [صاحبي] الزعامة
الكبرى ، وهما علي والحسن ـ رضياللهعنهما ـ والباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى.
ولو قال الخصم
: إنّهم كانوا خلفاء ولكن منعهم الناس من حقهم.
قلت : سلّمت أنّهم
لم يكونوا خلفاء بالفعل ، بل بالقوة والاستحقاق ، وظاهر مراد الحديث أن يكونوا
خلفاء قائمين بالزعامة والولاية ، وإلّا فما الفائدة في خلافتهم في إمامة الدين؟
وهذا ظاهر ، والله أعلم) ـ انتهى كلامه ـ فيرد عليه :
أولا
: أنّ الخلافة
والإمامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا نيابة عن النبي ، وفعليتها إنّما تكون بالنص والتعيين
من الله سبحانه ورسوله ، فكلّ من حصل النص عليه كان الخليفة والإمام ، سواء مضى
حكمه وتصرّفه في الخلق أم لا. هذا
__________________
عند الإمامية ، وعند أهل السنة أنّها كذلك أيضا ، إلّا إنّها منوطة باختيار الامّة ،
فكلّ من اختاروه وقدّموه فيها كان خليفة ، سواء نفذ حكمه وتمّ تصرّفه أم لا.
فحصول الملك
والإيالة ونفوذ الأمر والنهي لا مدخل له في حقيقتها على المذهبين ؛ أمّا على مذهب
الإماميّة فظاهر ، وأمّا على مذهب أهل السنّة فلأنّه لو لم يكن كذلك للزم ألّا
يكون أبو بكر خليفة لمّا امتنع الأعراب من أداء الزكاة إليه ولو بالنسبة إليهم ، ولما كان
عثمان وقت محاصرته خليفة أيضا ، ولما كان علي عليهالسلام خليفة عند خروج الفرق الثلاث عليه ولو بالنسبة إليهم ،
مع أن الأمر عند أهل السنّة ليس كذلك اتفاقا.
وثانيا
: أنّه لو كانت
الخلافة منوطة بالملك والرئاسة والتصرف بالفعل للزم ذلك في جانب النبوة ؛ إذ هي
نائبة عنها وحالّة محلّها ، وبه يلزم بطلان نبوة الأنبياء كلّهم أو جلّهم ولو في
بعض الأوقات ؛ لتكذيب قوم كلّ نبي له واستكبارهم عن طاعته.
ولله در الوزير
السعيد الأربلي في كتاب (كشف الغمة) ، حيث قال ـ بعد نقل قوله صلىاللهعليهوآله للحسن والحسين عليهماالسلام : «ابناي
هذان إمامان قاما أو قعدا» ـ ما صورته : (ولا يقدح في مرادنا كونهم منعوا الخلافة والمنصب الذي
اختاره الله لهم واستبد غيرهم به ؛ إذ لم يقدح في نبوة الأنبياء عليهمالسلام تكذيب من كذّبهم ، ولا وقع الشكّ فيهم لانحراف من
انحراف عنهم ، ولا شوّه وجوه محاسنهم تقبيح من قبحها ، ولا نقّص شرفهم خلاف من
عاداهم ونصب لهم العداوة وجاهرهم بالعصيان.
__________________
وقد قال علي عليهالسلام : «وما
على المؤمن من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتابا في
يقينه» .
وقال عمّار بن
ياسر رضياللهعنه : والله لو ضربونا حتّى [يبلغونا] سعفات هجر
لعلمنا أنّا على الحق وأنّهم على الباطل. وهذا واضح لمن تأمله) انتهى.
وحينئذ ، فقول
ذلك القائل ـ في جواب ما أورده من جانب الخصم ـ : (قلنا :سلّمت أنّهم لم يكونوا
خلفاء بالفعل بل بالقوة) مغالطة لا تروج إلّا عند ناقصي الأذهان من البلّه والنساء
والصبيان.
وثالثا : أنّ
ما زعمه من له انتفاء الفائدة في خلافتهم مع عدم تصرفهم ؛ فإن فيه ما ذكره أفضل
المحقّقين في (التجريد) بقوله : (ووجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وعدمه منّا) يعني أن وجود
الإمام لطف ، سواء تصرف أم لا.
ويعضده ما نقل
عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إمّا ظاهر
مشهور ، أو خائف مغمور ؛ لئلا تبطل حجج الله وبيّناته» .
ويعضده أيضا ما
رواه أحمد بن حنبل في (المسند) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «النّجوم
أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل
بيتي ذهب أهل الأرض» .
وبالجملة ،
فإنّ منعهم من التصرّف لا يمنع من اللطفيّة المقصودة من إيجادهم وإمامتهم.
__________________
ورابعا
: أن ما ذكره من
قوله : (إن اريد بالخلافة وراثة العلم) ـ إلى آخره ـ إنّما هو قول باللسان ، وإلّا
فلو كان ذلك عن صحة واعتقاد فكيف عدلوا عن علوم اولئك الأئمّة الأمجاد إلى العمل
بالقياس والاستحسان والأخذ عن غيرهم ، بل لم يساووهم بغيرهم ، ولم ينقلوا عنهم
حكما من الأحكام في حلال ولا حرام ، كما هو بحمد الله سبحانه ظاهر لذوي الأفهام؟
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أن هذه الأخبار التي قدّمناها وإن كانت مجملة ـ كما عرفت ـ إلّا إن هاهنا
أخبارا مستفيضة من طرق القوم أيضا ، صريحة في المراد ، سالمة من الإيراد ، فمنها
ما يدلّ صريحا وتفصيلا على أسامي الأئمّة الأمجاد ، ومنها ما يدلّ إجمالا ولكن لا
كذلك الإجمال ، بل هي صريحة في الاختصاص بهم عليهمالسلام من حيث التعبير فيها بلفظ (العترة) و (الذرية) ونحوهما
ممّا لا يدخل فيه غيرهم.
فمنها ما رواه
صدر الأئمّة أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي في كتابه قال : حدّثنا فخر
القضاة نجم الدين أبو منصور محمد بن الحسين بن محمّد البغدادي فيما كتب إلي من همدان قال
: أنبأنا الإمام الشريف نور الهدى أبو طالب الحسن بن محمّد الزبيبي قال : أخبرنا
إمام الأئمّة محمد بن أحمد بن شاذان قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ
قال : حدّثنا محمد بن سنان الموصلي عن أحمد بن محمّد بن صالح عن سلمان بن محمّد عن
زياد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سلامة عن أبي سليمان راعي [إبل]
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «ليلة اسري بي إلى السماء
__________________
قال لي الجليل جلّ جلاله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) . فقلت : والمؤمنون. قال : صدقت يا محمّد ، من خلّفت في
أمتك؟ [قلت] : خيرها. قال : علي ابن أبي طالب؟ قلت : نعم. قال : يا
محمد ، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسما من أسمائي ، فلا
اذكر في موضع إلّا ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمّد. ثمّ اطّلعت ثانية فاخترت
منها عليّا وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا الأعلى وهو علي.
يا محمّد ،
إنّي خلقتك وخلقت عليّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولده من [سنخ] نور من
نوري ، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض ، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين ،
ومن جحدها كان عندي من الكافرين.
يا محمّد ، لو
أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي ، ثمّ أتاني جاحدا
لولايتكم ، ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم.
يا محمّد ، أتحبّ
أن تراهم؟ قلت : نعم يا ربّ. فقال لي : التفت عن يمين العرش.
فالتفت ، فإذا
علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى
بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي ومحمد بن الحسن المهدي في
ضحضاح من نور ، قيام يصلّون وهو في وسطهم ـ يعني المهدي ـ كأنّه كوكب درّي.
وقال : يا
محمّد ، هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك ، وعزّتي وجلالي إنه الحجة الواجبة
لأوليائي ، المنتقم من أعدائي» .
__________________
إلى الحسن بن
علي الموصلي إلى أبي سليمان .
وبالإسناد عن
محمد بن أحمد بن علي بن شاذان قال : حدّثنا محمد بن علي ابن الفضل عن محمد بن
القاسم عن عبّاد بن يعقوب عن موسى بن عثمان عن الأعمش قال : حدّثني أبو إسحاق عن
الحرث وسعيد [بن] بشير عن علي بن أبي طالب عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنا واردكم [على
الحوض] وأنت يا علي الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الآمر ، وعلي بن الحسين
الفارط ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السائق ، وموسى بن جعفر محصي
المحبين والمبغضين وقامع المنافقين ، وعلي بن موسى مزيّن المؤمنين ، ومحمد بن علي
منزل أهل الجنة في درجاتهم ، وعلي بن
محمد خطيب شيعته ومزوّجهم الحور العين ، والحسن بن علي سراج أهل الجنة يستضيئون به
، والمهدي شفيعهم يوم القيامة ، حيث لا يأذن الله إلّا لمن يشاء ويرضى». انتهى ما في كتاب الخطيب المذكور. وقد وقفت على
الرواية الاولى والثانية أيضا بالسند واللفظ المذكورين هنا في كتابه المشتمل على
مقتل الحسين وأخذ ثاره وجملة من الفصول في الفضائل.
ومنها ما رواه
الكنجي الشافعي في كتاب (كفاية الطالب) ـ وهو من أجلّة علماء القوم ومحدّثيهم ـ قال
: حدّثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد ، وحدّثنا أبو محمد هارون بن موسى سنة
إحدى وثمانين وثلاثمائة ، وحدّثنا أبو علي محمد بن أشعث بن همام ، وحدّثنا عامر بن
كثير البصري : قال هارون : حدّثنا جرير بن نعيم السمرقندي قال : حدّثنا أبو النظر
محمد بن مسعود العياشي
__________________
عن يوسف بن إسحاق البصري عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر
بن هشام بن زيد عن الحسين بن محمّد عن أبي شعيب عن مسكين بن بكير أبي بسطام عن
شعبة بن سعد بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال :
كنت أنا وأبو
ذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند النبي صلىاللهعليهوآله إذ دخل الحسن والحسين ، فقبّلهما رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقام أبو ذر فأكبّ عليهما وقبّل يديهما ورجع فقعد
معنا ، فقلنا له سرا : يا أبا ذر ، ما رأينا شيخنا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يقوم إلى صبيّين من بني هاشم فينكبّ عليهما ويقبّلهما
ويقبّل يديهما؟ فقال : نعم ، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر ممّا فعلت. فقلنا
: وما سمعت فيهما من رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قال : سمعته يقول لعلي ولهما : «والله لو
أن عبدا صلّى وصام حتّى يصير كالشن البالي إذن ما نفعه صلاته وصومه إلّا بحبكم
والبراءة من عدوّكم. يا علي ، من توسل إلى الله بحقكم فحقّ على الله ألّا يردّه
خائبا ؛ يا علي ، من أحبّكم وتمسّك بكم فقد تمسّك بالعروة الوثقى».
قال : ثمّ قام
أبو ذر فخرج ، فتقدّمنا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وقلنا : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله : أخبرنا أبو ذر بكيت وكيت ، فقال : «صدق أبو ذر ، والله
ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي
لهجة أصدق من أبي ذر».
ثمّ قال صلىاللهعليهوآله : «خلقني
الله سبحانه وتعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف عام ،
ثمّ نقلنا في صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات».
قلت : يا رسول
الله ، وأين كنتم وعلى أيّ شأن كنتم؟ فقال صلىاللهعليهوآله : «كنّا
أشباحا من نور تحت العرش نسبّح الله ونقدّسه».
__________________
ثمّ قال صلىاللهعليهوآله : «لمّا
عرج بي إلى السماء وبلغت إلى سدرة المنتهى ردّ عنّي جبريل ، فقلت : يا حبيبي
جبرئيل ، في مثل هذا المقام تفارقني؟ فقال : يا محمد إنّي لا أجوز هذا الموضع
فتحترق أجنحتي».
ثم قال : «فزجّ
بي من النور إلى النور ما شاء الله تعالى ، فأوحى الله تعالى إليّ : يا محمّد ،
إنّي اطلعت إلى الأرض اطّلاعة فاخترتك منها وجعلتك نبيا. ثمّ اطّلعت ثانيا فاخترت
منها عليا فجعلته وصيك ووارث علمك وإماما بعدك ، واخرج من أصلابكم الذرّية الطاهرة
والأئمّة المعصومين خزّان علمي ، ولولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ولا الجنّة
ولا النار. أتحبّ أن تراهم؟ فقلت : نعم يا ربّ. فنوديت : ارفع رأسك. فرفعت رأسي
فإذا أنا بأنوار علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر ابن محمّد
وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمّد والحسن ابن علي والحجة بن
الحسن يتلألأ من بينهم كأنّه كوكب درىّ.
فقلت : يا ربّ
، من هؤلاء ومن هذا؟ فقال سبحانه : هؤلاء الأئمّة من بعدك المطهّرون من صلبك ،
وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، ويشفي صدور قوم
مؤمنين».
فقلنا :
بآبائنا وامهاتنا أنت يا رسول الله صلىاللهعليهوآله لقد قلت عجبا! قال : «وأعجب من هذا أن قوما يسمعون هذا من امتي ثمّ
يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ، ويؤذونني فيهم ، لا أنالهم الله شفاعتي» .
وقال صاحب كتاب
(مقتضب الأثر) : ومن أعجب الروايات في أعداد الأئمّة وأساميهم من طريق المخالفين
ما أسنده عبد الصمد بن كرم الطشي إلى داود بن كثير الرقي قال : دخلت على الصادق
فقال : «ما أبطأك
يا داود؟». قلت : عرضت
__________________
حاجة بالكوفة قال : «ما
رأيت بها؟» قلت : رأيت زيدا يدعو إلى نفسه قال : «يا سماعة ، ايتني بتلك الصحيفة» فجاءه بها فدفعها إليه ، وقال : «هذه ممّا أخرج إلينا
أهل البيت ، بشّر به كابر عن كابر من لدن رسول الله صلىاللهعليهوآله». فقرأتها فإذا هي فيها سطران : «لا إله إلّا الله ،
محمد رسول الله» ، والسطر الثاني (إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد
بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد
والحسن بن علي والخلف منهم الحجة لله ، أتدري يا داود أين كان؟ ومتى كان مكتوبا؟»
قلت : الله ورسوله أعلم وأنتم. فقال : «قبل خلق آدم ، فأين يتاه بزيد ويذهب به» الحديث.
هذا ما يدلّ من
الأخبار على ما قدّمنا من ذكر أسمائهم عليهمالسلام تفصيلا.
وأما ما يدلّ
على ذلك إجمالا فأخبار كثيرة لا يأتي عليها قلم الإحصاء في المقام ، إلا إنّا نذكر
ما تيّسر ؛ إقامة للحجة وإظهارا للمحجة ، فمنها ما ذكره الخطيب الخوارزمي في كتاب (المناقب)
على أثر الحديثين المتقدّمين ، وعلّق إسناده على ما في سند الأوّل منهما ، قال :
وبالإسناد السابق عن ابن شاذان قال : حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد العلوي الطبري
عن أحمد بن أبي عبد الله ، حدّثني جدّي أحمد بن محمد عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن عمر بن اذينة قال
: حدّثنا أبان بن عيّاش عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان المحمدي قال : دخلت
على النبي صلىاللهعليهوآله وإذا الحسين على فخذه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه ، وهو
__________________
يقول : «أنت سيد
ابن سيّد أبو السادة ، أنت إمام ابن إمام أبو الأئمّة ، أنت حجة ابن حجة أبو حجج
تسعة من صلبك ، تاسعهم قائمهم» .
ومثله روى في
كتاب (المقتل والفضائل) الذي قدّمنا الإشارة إليه.
ومنها ما رواه
الخطيب في كتاب (المقتل والفضائل) المذكور بسنده فيه إلى ابن عباس قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : «أنا ميزان
[العلم] ، وعليّ كفتاه ، والحسن والحسين خيوطه ، وفاطمة علاقته ، والأئمّة من امتي
عموده ، يوزن فيه أعمال المحبّين لنا والمبغضين لنا» .
وروى في الكتاب
المذكور بسنده فيه إلى الحسين بن علي عليهماالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : فاطمة بهجة قلبي
، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمّة من ولدها امناء ربي وحبله
الممدود بينه وبين خلقه ، من اعتصم بهم نجا ، ومن تخلّف عنهم هوى» ، ثمّ قال : (وذكر محمد بن شاذان هذا) .
ورواه أيضا
الزمخشري في (الفائق) عن محمد بن أحمد بن شاذان ، إلى آخر السند والمتن الذي
نقله الخطيب.
وروى الخطيب
أيضا في الكتاب المذكور بسنده فيه إلى الحسين عليهالسلام قال : «سمعت جدي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي ويدخل
__________________
الجنة التي وعدني ربي فليتولّ علي بن أبي طالب وذرّيته الطاهرين ، أيمة
الهدى ومصابيح الدجى ، فإنّهم لن يخرجوك من باب الهدى إلى باب الضلالة».
إلى غير ذلك من
الأخبار التي يقف عليها المطّلع على كتبهم المصنّفة في المناقب. والعجب كلّ العجب
من ناقلي هذه الأخبار كيف أغمضوا عمّا فيها من الدلالة الصريحة على إمامة الأئمّة
المعصومين ، وبما ذا غدا يجيبون بين يدي ربّ العالمين؟
والظاهر أن
السبب في ذلك هو ما روي عندهم من الأخبار التي وضعتها الاموية في فضائل الخلفاء ،
وتقديم العمل بتلك الأخبار ، وارتكاب التأويل في جانب هذه. وعسى أن نذكر ذلك في
بعض درر الكتاب إن شاء الله تعالى ، والله الهادي لمن يشاء.
(٦٤)
درّة نجفية
في خطبة فاطمة عليهماالسلام
في مطالبتها بفدك وعند الموت
خطبتها
عليهاالسلام لما منعت ميراثها
خطبة سيدتنا
وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام لمّا منعت ميراثها قد ذكرها جملة من علماء الخاصة
والعامة ، وقد نقلها ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن
أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة وفدك) وما وقع من الاختلاف
والاضطراب عقيب وفاة النبي صلىاللهعليهوآله.
قال ابن أبي
الحديد : (وأبو بكر هذا عالم محدّث كثير الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدّثون
ورووا عنه مصنّفاته وغير مصنّفاته ) .
أقول
: ورواها عن
الجوهري أيضا الوزير السعيد علي بن عيسى الأربلي في (كشف الغمة) ، ورواها
الطبرسي ـ من علمائنا ـ في (الاحتجاج) ، ورواها أيضا محمد بن عمران المرزباني ـ من أعاظم
المؤرخين ونقلة الأخبار ـ عن عروة عن عائشة ، ورواها الشيخ أسد بن سقروه في (الفائق) عن الحافظ أبي
بكر أحمد بن موسى بن مردويه بسنده إلى الزهري عن عروة عن عائشة.
__________________
ونحن ننقلها
برواية ابن أبي الحديد عن الجوهري في كتاب (السقيفة) ، قال أبو بكر
: فحدثني محمد بن زكريا ، قال : حدّثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال : حدّثني
أبي عن الحسين بن صالح بن حي قال : حدّثني رجلان من بني هاشم ، عن زينب بنت علي بن
أبي طالب.
قال : وقال
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عليهالسلام.
قال أبو بكر :
وحدّثني عثمان بن عمران العجيفي ، عن نايل بن نجيح عن عمرو بن شمر ، عن
جابر الجعفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهالسلام.
قال أبو بكر :
وحدّثني أحمد بن محمد بن يزيد ، عن عبد الله بن محمد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد
الله بن حسن بن الحسن.
قالوا جميعا :
لمّا بلغ فاطمة عليهاالسلام إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها ، وأقبلت في
لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلىاللهعليهوآله ، حتّى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين
والأنصار ، فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء ـ وقال بعضهم : قبطية ـ ثمّ أنّت أنّة أجهش لها
القوم بالبكاء ، ثمّ أمهلت طويلا حتّى سكنوا من فورتهم ، ثمّ قالت : «أبتدئ بحمد
من هو أولى بالحمد والطّول والمجد ، الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر بما ألهم ،
والثناء بما قدّم ، من عموم نعم ابتداها وسبوغ آلاء أسداها
__________________
وإحسان منن أولاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء
أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها ، واستحمد
إلى الخلائق بإجزالها ، وثنّى بالندب إلى أمثالها.
وأشهد أن لا
إله إلّا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها
، وأنار في الفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن
الأوهام الإحاطة به .
أبدع الأشياء
لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ،
وذرأها بمشيّته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها إلّا
تثبيتا لحكمته وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته ، وتعبّدا لبريّته ، وإعزازا
لدعوته. ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن
نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته.
وأشهد أنّ أبي
محمد بن عبد الله عبده ورسوله ، اختاره قبل أن يجتبله ، واصطفاه قبل أن يبتعثه ، وسمّاه قبل
أن يستجيبه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم
مقرونة ، علما من الله بمآل الامور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع
المقدور. ابتعثه إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الامم
فرقا في أديانها ، عابدة لأوثانها ، عكّفا على نيرانها منكرة لله مع عرفانها ،
فأنار الله بأبى صلىاللهعليهوآله ظلمها ، وفرّج عن القلوب بهمها ، وجلا عن الأبصار غممها
، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى
__________________
الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثمّ قبضه الله
قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار بمحمد صلىاللهعليهوآله عن تعب هذه الدار ، موضوعا عنه أعباء الأوزار ، محفوفا
بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، وجوار الملك الجبار ، فصلّى الله على
أبي ـ نبيّه و أمينه بالوحي وخيرته من الخلق ورضيّه ـ ورحمهالله وبركاته».
ثمّ التفتت إلى
أهل المجلس و قالت : «وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة كتاب
الله ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الامم حولكم ، لله فيكم
عهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله بيّنة بصائره ، وآي منكشفة سرائره
، متجلّية ظواهره ، قائد إلى الرضوان أتباعه ، ومؤدّ إلى النجاة استماعه ، فيه
تبيان حجج الله المنيرة ، ومواعظه المكرّرة ومحارمه المحذورة ، وأحكامه الكافية ،
وبيّناته الجالية ، وجمله الشافية ، وشرائعه المكتوبة ، ورخصه الموهوبة.
ففرض الله
الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم من الكبر ، والزكاة تزييدا لكم
في الرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسكا للقلوب ،
وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزّا للإسلام ، والصبر
معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والبر بالوالدين
وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء
بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخسة ، واجتناب
__________________
قذف المحصنات حجابا من اللعنة ، والانتهاء عن شرب الخمور تنزيها من الرجس ،
ومجانبة السرقة إيجابا للعفّة ، والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستيثار بفيئهم
إجارة من الظلم ، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية ، والتبري من صفة الشرك إخلاصا
للربوبية .
فاتقوا الله
حقّ تقاته ، وأطيعوه فيما أمركم به فـ (إِنَّما يَخْشَى اللهَ
مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) واحمدوا الله الذي بعظمته ونوره يبتغي من في السماوات
والأرض إليه الوسيلة ، ونحن وسيلته في خلقه ، ونحن خاصّته ومحل قدسه ، ونحن حجته
في غيبه ، ونحن ورثة أنبيائه».
ثمّ قالت : «أنا
فاطمة بنت محمد ، أقول عودا على بدء ، وما أقول ذلك سرفا ولا شططا ، فاسمعوا بأسماع واعية
، وقلوب راعية ، (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم
، فبلّغ الرسالة صادعا بالنذارة ، مائلا عن سنن المشركين ، آخذا بأكظامهم ، يدعو
إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يهشم الأصنام ، ويفلق الهام ، حتى انهزم
الجمع وولّوا الدبر ، وحتّى تعرّى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم
الدين ، وخرست شقائق الشياطين ، وتمّت كلمة الإخلاص ، وكنتم على شفا حفرة من النار
، نهزة الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ،
وتقتاتون الورق ؛ أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، حتّى أنقذكم
الله برسوله ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان
العرب ومردة أهل الكتاب ، (كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
__________________
اللهُ)
، أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها. فلا
ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ،
وأنتم في رفاهية آمنون فاكهون وادعون.
حتّى إذا اختار
الله لنبيّه دار الأنبياء ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم
الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع
الشيطان رأسه صارخا بكم ، فدعاكم وألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين.
ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، واوردتم
غير شربكم. هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل.
زعمتم خوف
الفتنة ، (أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) .
فهيهات! وأنّى
بكم وأنّى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ؛ زواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ،
وأوامره واضحة. أرغبة عنه تريدون ، أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً
فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) .
ثمّ لم تلبثوا
إلّا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ، ثمّ أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها
، تسرّون حسوا في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على
مثل حزّ المدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا؟ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
يا بن أبي
قحافة ، أترث أباك ولا أرث أبي؟ (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً
فَرِيًّا) ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم
الله والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند
__________________
الساعة يخسر المبطلون ، و (لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ) ، و (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) .
قال : ثم
التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة :
قد كان بعدك
أنباء وهنبثة
|
|
لو كنت
شاهدها لم تكثر الخطب
|
أبدت رجال
لنا فحوى صدورهم
|
|
لمّا قضيت
وحالت دونك الترب
|
تجهّمتنا
رجال واستخفّ بنا
|
|
إذ غبت عنّا
فنحن اليوم نغتصب
|
قال : ولم ير
الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ. ثمّ عدلت إلى مسجد الأنصار ـ وفي نسخة : ثمّ رمت بطرفها نحو
الأنصار ـ فقالت : «يا معشر الشيعة وأعضاد الملّة وحصنة الإسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي
، والسّنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله [يقول] : المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم! وعجلان ما أتيتم! ألا إن
مات رسول الله صلىاللهعليهوآله أمتّم دينه؟ ها إنّ موته لعمري خطب جليل استوسع وهيه ،
واستنهر فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض له ،
وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، واضيع بعده الحريم ، وهتكت الحرمة ، وأذيلت المصونة
، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته ، وأنبأكم بها فقال (وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي
اللهُ الشّاكِرِينَ) .
__________________
أيها بني قيلة
، اهتضم تراث أبي ، وأنتم بمرأى ومسمع ؛ تبلغكم الدعوة ، ويشملكم الصوت ، وفيكم
العدّة والعدد ، ولكم الدار والجنن ، وأنتم نخبة الله التي انتخب ، وخيرته التي
اختار؟ باديتم العرب ، وبادهتم الامور ، وكافحتم البهم حتّى دارت بكم رحى الإسلام
، ودرّ حلبه ، وخبت نيران الحرب ، وسكنت فورة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ،
أفتأخّرتم بعد الإقدام ، ونكصتم بعد الشدة ، وجبنتم بعد الشجاعة ، عن قوم نكثوا
أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم؟! (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) .
ألا وقد أرى أن
قد أخلدتم إلى الخفض ، وركنتم إلى الدعة ، فجحدتم الذي وعيتم ، ودسعتم الذي سوّغتم
، و (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) .
ألا وقد قلت
لكم ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، وخور القنا .
فدونكموها
فاحتقبوها ، دبرة الظهر ، ناقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بالشنار ، موصولة بنار (اللهِ الْمُوقَدَةُ
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ). فبعين الله ما تعملون (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) » .
أقول
: قال ابن أبي
الحديد في (شرح النهج) : (قال المرتضى رضياللهعنه : وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال : حدّثني علي بن
هارون قال : أخبرني عبيد الله بن أحمد ابن أبي طاهر عن أبيه قال : ذكرت لأبي
الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهالسلام كلام فاطمة عليهاالسلام عند أبي بكر ومطالبتها إياه فدك ، وقلت : إن
__________________
هؤلاء يزعمون أنه مصنوع ، وأنه من كلام أبي العيناء ؛ لأنّ الكلام منسوق
البلاغة.
فقال لي : رأيت
مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم ، وقد حدّثني [به] أبي عن
جدي يبلغ [به] فاطمة عليهاالسلام على هذه الحكاية ، وقد رواه مشايخ الشيعة ، وتدارسوه
قبل أن يوجد جدّ أبي العيناء).
ثمّ قال أبو
الحسين زيد : (وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة ، وهم يروون من كلام عائشة عند موت
أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة عليهاالسلام ويحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت؟).
ثم ذكر الكلام
بطوله على نسقه ، وزاد في الأبيات بعد البيتين الأولين :
(ضاقت عليّ بلادي بعد ما رحبت
|
|
وسيم سبطاك
خسفا فيه لي نصب
|
فليت قبلك
كان الموت صادفنا
|
|
قوم تمنّوا
فأعطوا كل ما طلبوا
|
تجهّمتنا
رجال واستخفّ بنا
|
|
مذ غبت عنّا
وكلّ الإرث قد غصبوا)
|
بيان
ما لعله يحتاج إلى البيان في هذه الخطبة العليّة الشان
(إجماع أبي بكر)
أي إحكامه النيّة والعزيمة على منعها.
(في لمة من
حفدتها) ، اللمة ـ بضم اللام وتخفيف الميم ـ : الجماعة. قال في (النهاية الأثيرية)
: (في حديث فاطمة عليهاالسلام ، أنّها (خرجت في لمة من نسائها) هي ما بين الثلاثة إلى
العشرة ، وقيل : اللمة : المثل في السن والتّرب.
قال الجوهري : (الهاء
عوض عن الهمزة الذاهبة من وسطه) . وهو ممّا
__________________
اخذت عينه كـ (سه) و (مذ) ، وأصلها فعلة من الملاءمة وهي الموافقة) انتهى.
قال بعض
مشايخنا : (ويحتمل أن تكون بتشديد الميم) .
وقال في (القاموس)
: (اللّمة ـ بالضمّ ـ : الصاحب والأصحاب في السفر ، والمؤنس ، للواحد والجمع) .
والحفدة ـ بالتحريك
ـ : الأعوان والخدم.
(تطأ ذيولها) ،
حيث كانت أثوابها طويلة تستر قدميها.
(لا تخرم
مشيتها) ، أي ما ينقص مشيتها من مشيته صلىاللهعليهوآله شيئا.
(حشد الناس) :
اجتمعوا.
(ريطة بيضاء) :
الريطة ـ بالفتح ـ : كلّ ملاءة إذا كانت قطعة واحدة وليست لفقتين أي قطعتين.
(قبطية) : هي
ثياب رقيقة تجلب من مصر نسبة إلى القبط ـ بالكسر ـ وهم أهل مصر.
(أجهش لها
القوم) ، الجهش : أن يفزع الإنسان إلى غيره ، وهو مع ذلك يريد البكاء ، كالصبي
يفزع إلى أمّه وقد تهيأ للبكاء.
(فورتهم) ،
فورة الشيء : شدّته.
«بلا
احتذاء أمثلة» ، احتذى مثاله : اقتدى به ، أي لم يخلقها على وفق صنع غيره.
«ذيادة
لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته» ، الذود والذيادة ـ بالذال المعجمة ـ : السّوق والطرد
والدفع. وحشت الصيد أحوشه : إذا جئته من حواليه [لأصرفه] إلى الحبالة.
__________________
«قبل
أن يجتبله» ، الجبل : الخلق ، يقال : جبلهم الله ، أي خلقهم ، وجبله على الشيء ، أي
طبعه عليه.
«بمحمد
صلىاللهعليهوآله عن تعب هذه الدار» ، قال بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ : (لعل الظرف
متعلّق بالإيثار بتضمين معنى العفة ونحوها. وفي بعض النسخ :«محمّد» بدون الباء ، فتكون الجملة استئنافية أو مؤكدة للفقرة
السابقة ، أو حالية بتقدير الواو. وفي بعض كتب المناقب القديمة : «فمحمد» ، وهو أظهر. وفي رواية (كشف الغمة) : «رغبة بمحمد صلىاللهعليهوآله عن تعب هذه الدار» . وفي رواية أحمد بن أبي طاهر «بأبي صلىاللهعليهوآله عزّت هذه الدار». وهو أظهر. ولعلّ المراد بالدار : دار القرار ، ولو كان
المراد : الدنيا تكون الجملة معترضة. وعلى التقادير لا يخلو من تكلّف) انتهى.
«نصب
أمره ونهيه» ، أي نصبكم الله لأمره ونهيه.
«أقول
عودا على بدء» ، وفي بعض النسخ الاخر : «عودا أو بدءا» والمعنى واحد ، أي أولا وآخرا.
«فإن
تعزوه» ، يقال :
عزوته إلى أبيه ، أي نسبته إليه ، أي عرفتم نسبه ، «تجدوه أبي».
«صادعا
بالنذارة» ، صدعت بالحق
: إذا تكلّمت به جهارا قال الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) والنذارة ـ بالكسر ـ : الإنذار ، وهو الإعلام على وجه
التخويف.
«آخذا
بأكظامهم» ، الكظم ـ بالتحريك
ـ مخرج النفس من الحلق ، وهو كناية عن مزيد التمكن ، وأنه لا يبالي بكثرتهم
واجتماعهم.
__________________
«نهزة
الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان» ، النّهزة ـ بالضم ـ : الفرصة ، أي محلّ نهزته. والمذقة
ـ بضم الميم أو فتحها ـ : الشربة من اللبن الممزوج بالماء.
والقبسة ـ بالضم
ـ : شعلة من نار يقتبس من معظمها ، والمراد : أنّكم كنتم أذلّاء قليلين يتخطّفكم
الناس بسهولة.
«تشربون
الطّرق ، وتقتاتون الورق» ، الطرق ـ بالفتح ـ : ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر. والورق ـ بالتحريك
ـ : ورق الشجر ، وفيه وصف لهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل.
«بعد
اللتيا والتي» ، اللتيّا ـ بفتح اللام وتشديد الياء ـ : تصغير (التي) ، وجوّز بعضهم فيه ضم اللام
، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.
«وبعد
أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب» ، يقال : مني بكذا ـ على صيغة المجهول ـ : أي ابتلي.
وبهم الرجال ـ كـ (صرد) ـ : الشجعان منهم ؛ لأنهم لشدة بأسهم لا يدرى من أين
يؤتون. وذؤبان العرب : لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا
اعتماد عليهم. والمردة : العتاة والمتكبرون.
«أو
نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة للمشركين ، قذف أخاه في لهواتها» ، نجم الشيء ـ كـ (نصر) نجوما : ظهر وطلع. وقرن
الشيطان قال في (القاموس) : (وقرن الشيطان وقرناؤه : امتّه والمتبعون لرأيه ، أو
قوّته وانتشاره وتسلّطه) .
وفغر فاه أي
فتحه. وفغرفوه أي انتفح ، يتعدّى ولا يتعدى. والفاغرة من المشركين : الطائفة
العادية منهم تشبيها بالحيّة أو السبع. والقذف : الرمي ، ويستعمل في الحجارة.
واللهوات : جمع [لهاة] ، وهي اللحمة في أقصى سقف الفم.
__________________
والمعنى : أنه
كلّما قصده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية بعث عليّا عليهالسلام لدفعها وعرّضه للمهالك.
«فلا
ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه» ، انكفأ ـ بالهمزة ـ أي رجع. والصّماخ ـ بالكسر ـ : خرق
الاذن ؛ والاذن نفسها ، كما في (القاموس) ؛ والأخمص : ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي
، ووطئ الصماخ بالأخمص كناية عن القهر والغلبة على أبلغ وجه.
ونحوه قولها : «ويطفئ عادية لهبها
بسيفه».
«مكدودا
في ذات الله» ، الكدّ : التعب. وذات الله : أمره ودينه وكلّ ما يتعلق به سبحانه.
«آمنون
فاكهون وادعون» قال الجوهري : (الفكاهة ـ بالضم ـ : المزاح ، و ـ بالفتح ـ : مصدر فكه
الرجل ، إذا كان طيّب النفس مزّاحا) . وقال : (الدعة : الخفض ، تقول : ودع الرجل فهو وديع ،
أي ساكن) . والمعنى : أنّكم آمنون ناعمون في راحة وسلامة.
«ظهرت
حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين» ، الحسيكة : [الضغن] ، قال الجوهري
: (وقولهم : في صدره عليّ حسيكة وحساكة ، أي ضغن وعداوة) .
وسمل الثوب ـ
كـ (نصر) ـ صار خلقا ؛ والجلباب ـ بالكسر ـ الملحفة ، وقيل : (ثوب واسع للمرأة غير
الملحفة) ، وقيل : (هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها
وصدرها) .
__________________
«ونطق
كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين» ، الكظوم : السكوت. ونبغ الشيء ـ كـ (منع) و (نصر) ـ أي
ظهر. والخامل : من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له. والمراد بالأقلين :
الأذلّون.
وفي رواية (الكشف)
: «فنطق كاظم
، ونبغ خامل ، وهدر فينق الكفر» .
والهدر : ترديد
البعير صوته في حنجرته. والفنيق ـ بالفاء ثمّ النون ثمّ الياء ثمّ القاف ـ الفحل
المكرّم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان ؛ لكرامته على أهله.
«وأحمشكم
فوجدكم غضابا». أحمشت الرجل ـ بالحاء المهلة ـ : أغضبته.
والمعنى :
حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه أو من عند أنفسكم.
«ثم
لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها» ، ريث ـ بالفتح ـ : بمعنى قدر ، وهي كلمة يستعملها أهل
الحجاز كثيرا ، وربّما يستعمل مع (ما) يقال : لم يلبث إلّا ريثما فعل كذا. ونفرة
الدابة : ذهابها وعدم انقيادها. والسلس ـ بكسر اللام ـ : السهل اللين
الانقياد ، وضمير المؤنث يرجع إلى فتنة وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله ؛ أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة.
«وتسرّون
حسوا في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده
في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ووخز السنان في الحشا» ، الإسرار : ضد الإعلان. والحسو ـ بفتح الحاء وسكون
السين المهملتين ـ : شرب المرق وغيره شيئا بعد شيء.
والارتغاء :
شرب الرغوة ، وهو زبد اللبن ، قال الجوهري : (الرغوة ـ مثلثة ـ : زبد
__________________
اللبن .. وارتغيت : شربت الرغوة. وفي المثل : يسرّ حسوا في ارتغاء ، يضرب
لمن يظهر أمرا ويريد غيره) .
قال أبو زيد
والأصمعي : (أصله الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولا يريد غيرها
فيشربها ، وهو في ذلك ينال من اللبن ، يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنّما يجر النفع
إلى نفسه) .
والخمر ـ بالتحريك
ـ : ما واراك من شجر وغيره ، يقال : توارى الصيد عنّي في خمر الوادي. ومنه قولهم :
دخل فلان في خمار الناس ـ بالضم ـ أي ما يواريه منهم. والضّراء ـ بالضاد المفتوحة
والراء المخففة ـ : الشجر الملتف في الوادي ، ويقال لمن ختل صاحبه وخادعه : يدبّ
له الضراء ويمشي له الخمر.
وقال الميداني
: (قال ابن الأعرابي : الضراء : ما انخفض من الأرض) .
والحز ـ بفتح
الحاء المهملة ـ : القطع ، أو قطع الشيء من غير إبانة. والمدى ـ بالضم ـ : جمع (مدية)
، وهي السكين والشفرة. والوخز : الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذا.
«فدونكها
مخطومة مرحولة» قال بعض مشايخنا : (الضمير راجع إلى فدك المدلول عليه بالمقام والأمر
بأخذها للتهديد .. شبّهتها عليهاالسلام ـ في كونها مسلّمة له ، لا يعارضه في أخذها أحد ـ بالناقة
المنقادة المهيأة للركوب ) .
أقول
: من المحتمل
قريبا ـ بل لعلّه الأقرب ـ أن الضمير إنما هو للخلافة ، فإن إشارات الخطبة
وعباراتها كلّها إنّما ترجع إلى ذلك ، وهذا الحمل أنسب بقولها عليهاالسلام : «تلقاك
يوم حشرك».
__________________
والخطام ـ بالكسر
ـ كلّ ما يوضع في أنف البعير ليقاد به. والرّجل ـ بالفتح ـ للناقة كالسرج للفرس.
«أنباء
وهنبثة» ، قال في (النهاية)
: (الهنبثة : واحدة الهنابث ، وهي الامور الشداد المختلفة ، والهنبثة : الاختلاط
في القول). وذكر في الكتاب المذكور أن فاطمة عليهاالسلام قالت بعد موت النبي صلىاللهعليهوآله : «قد
كان بعدك أنباء» وذكر البيتين .
«ما
هذه الفترة عن نصرتي والسّنة عن ظلامتي» ، «الفترة» ـ بالفاء المفتوحة والتاء الساكنة ـ وهو السكون. و «السّنة» ـ بالكسرة ، مصدر (وسن يوسن) كـ (علم يعلم) ، وسنا وسنة
: أول النوم أو النوم الخفيف ، والهاء عوض عن الواو. والظلامة ـ بالضم ـ كالمظلمة
ـ بالكسر ـ : ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده.
«سرعان
ما أحدثتم ، وعجلان ما أتيتم» ، سرعان ـ مثلثة السين ـ وعجلان ـ بفتح العين ـ :
كلاهما من أسماء الأفعال ، بمعنى (سرع) و (عجل) ، وفيهما معنى التعجّب ، أي ما
أسرع وأعجل! «استوسع
وهيه ، واستنهر فتقه» ، الوهي ـ كالرمي ـ : الشق والخرق ، يقال : وهى الثوب إذا بلي وتخرق.
واستنهر ـ استفعل ـ : من النهر بالتحريك قال في (القاموس) : (والنهر ـ محركة ـ :
السعة) . وحينئذ ، فالمراد : أي اتسع فتقه ، والفتق : الشق ،
والضميران يرجعان إلى الخطب.
«وأكدت
الآمال ، واضيع بعده الحريم ، وهتكت الحرمة ، واذيلت المصونة» ، يقال : أكدى فلان : إذا بخل وقلّ خيره. وحريم الرجل :
ما يحميه ويقاتل عنه ، والحرمة : ما لا يحلّ انتهاكه. والإذالة : الإهانة قال في (القاموس)
: (وأذلته :
__________________
أهنته ، ولم أحسن القيام عليه) انتهى.
وفي الحديث : «نهى عن إذالة الخيل» ، أي امتهانها.
«أيها
بني قيلة» ـ بفتح الهمزة
والتنوين ـ : بمعنى هيهات. وبنو قيلة : الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار ، وقيلة ـ بالفتح
ـ : اسم أم لهم قديمة ، بالقاف ثمّ الياء المثناة من تحت ، وهي قيلة بنت كاهل .
«بادهتم
الامور ، وكافحتم البهم» قال في (القاموس) : (بدهه بأمر : استقبله به ، أو بدأه به ، وبادهه به
مبادهة وبداها : فاجأه به) . والمراد هنا : الكناية عن ممارسة الامور ومزاولتها. والبهم
: الشجعان. والمكافحة : التعرض لدفعها.
«أن
قد أخلدتم إلى الخفض ، وركنتم إلى الدعة» ، أخلد إليه : ركن ومال. والخفض ـ بالفتح ـ سعة العيش ؛
والدعة : الراحة والسكون.
«ودسعتم
الذي سوّغتم» ، والدسع ـ كالمنع ـ : الدفع والقيء ، وساغ الشراب ـ يسوغ سوغا ـ : إذا
سهل مدخله في الحلق.
«بالخذلة
التي خامرتكم ، وخور القنا» «الخذلة» : ترك النصر. و «خامرتكم» : أي خالطتكم. والخور ـ بالفتح والتحريك ـ : الضعف. و «القنا» : جمع قناة ، وهي الرمح.
ولعلّ المراد
بـ «خور القنا» : ضعف ما يعتمد عليه في النصر على العدو.
«فدونكموها
فاحتقبوها ، دبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار» ، الحقب ـ بالتحريك ـ : حبل يشدّ به الرحل إلى بطن
البعير. يقال : احقبت الرحل ، أي شددته
__________________
به. قال بعض مشايخنا ـ عطّر الله مراقدهم ـ : (الأنسب في هذا المقام :
أحقبوها ـ بصيغة الإفعال ـ أي شدّوا عليها ذلك وهيئوها للركوب ، ولكن فيما وصل
إلينا من الروايات على بناء الافتعال) .
والدبر ـ بالتحريك
ـ : الجرح في ظهر البعير. النّقب ـ بالتحريك ـ : رقة خفّ البعير.
__________________
في
خطبتها عليهاالسلام عند موتها
خطبة اخرى لها
ـ صلوات الله عليها ـ عند موتها ، نقلها الجوهري أيضا في كتاب (السقيفة) .
قال الشيخ عزّ
الدين بن أبي الحديد في (شرح النهج) : (قال أبو بكر : وحدّثنا محمد بن زكريا). ثمّ
ساق سنده إلى عبد الله بن حسن بن الحسن عن امه فاطمة بنت الحسين عليهالسلام : (قالت : لمّا اشتدّ بفاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله الوجع) ، وثقلت في علّتها اجتمع عندها نساء من نساء
المهاجرين والأنصار ، فقلن لها : كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ قالت : «أصبحت والله
عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ، وشنئتهم بعد أن سبرتهم ،
فقبحا لفلول الحدّ وخور القنا وخطل الرأي ، وبئسما (قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) . لا جرم قد قلّدتهم ربقتها ، وشنّت عليهم غارتها ، فجدعا وعقرا ، وسحقا للقوم
الظالمين.
ويحهم! أين
زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الأمين ، والظنينين بأمر الدنيا
والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه ـ والله
ـ نكير سيفه وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، ولو تكافّوا عن
زمام نبذه إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله لاعتقله ، وسار بهم سيرا سجحا ، لا
__________________
يكلم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا [فضفاضا] تطفح ضفتاه ،
ولأصدرهم بطانا ، قد تحيّر بهم [الرأي] [غير متحلّ بطائل ، إلّا بغمر الناهل ، وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم
بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم فاستمع ، وما
عشت أراك الدهر عجبه ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أي لجأ استندوا ، وبأي
عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله
الذّنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا
يَشْعُرُونَ) .
ويحهم! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
أما لعمر الله
لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعاقا ممقرا هنالك
(يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ) ، ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون. ثم طيبوا عن
أنفسكم نفسا ، واطمئنوا للفتنة جأشا ، وابشروا بسيف صارم ، وهرج شامل ، واستبداد
من الظالمين يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة عليكم ، وأنّى لكم وقد
عمّيت عليكم؟ (أَنُلْزِمُكُمُوها
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) ، والحمد الله رب العالمين ، وصلاته على محمد خاتم
النبيين ، وسيد المرسلين] » .
__________________
أقول : قد روى
هذه الخطبة الشريفة أيضا شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في (معاني الأخبار)
بسنده إلى محمد بن زكريا الذي روى عنه أبو بكر الجوهري ، ثمّ ساق بقية السند الذي
ذكره الجوهري. ورواها بسند آخر إلى علي عليهالسلام قال : «لمّا حضرت فاطمة عليهاالسلام الوفاة دعتني ، فقالت
: أمنفذ أنت وصيّتي وعهدي؟ قلت : بلى انفذها. فأوصت إلي ، وقالت : إذا متّ فادفني
ليلا ، ولا تؤذن رجلين ذكرتهما».
قال : «فلمّا اشتدت علّتها
اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار ، فقلن : كيف أصبحت يا بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله» الحديث.
ثمّ قال شيخنا
الصدوق رحمهالله : (قال مصنّف هذا الكتاب رحمهالله : سألت أبا أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري عن
معنى هذا الحديث ، فقال : أمّا قولها ـ صلوات الله عليها ـ : «عائفة» ، العائفة : الكارهة ، يقال : عفت الشيء ، إذا كرهته ،
أعافه. والقالية : المبغضة ، يقال : قليت فلان ، إذا أبغضته. وفي كتاب الله عزوجل : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) .
وقولها : «لفظتهم» ، هو طرح الشيء من الفم ؛ كراهة له.
وقولها : «بعد أن أعجمتهم ». يقال : عجمت الشيء ، إذا عضضت عليه ، وعود معجوم :
إذا عضّ.
«وشنئتهم» : أبغضتهم ، والاسم منه الشنآن.
وقولها : «سبرتهم» ، أي امتحنتهم.
وقولها : «وقبحا لفلول الحدّ ..» ، يقال : سيف مفلول ، إذا انثلم حدّه. والخور :
__________________
الضعف ، والخطل : الاضطراب.
وقولها : «لقد قلّدتهم ربقتها» ، الربقة : ما يكون في عنق الغنم وغيرها من الخيوط ،
والجمع : الربق.
«وشنّت» ، يقال : شننت الماء ، إذا صببته.
و «جدعا» : اسم من جدع الأنف.
«وعقرا» ، من قولك : عقرت الشيء.
«وسحقا» ، أي بعدا. و «زحزحوها» ، أي نحّوها.
والرواسي :
الاصول الثابتة ، وكذلك القواعد. «والظنينين» : العالمين.
«وما
نقموا من أبي الحسن؟» ، أي ما الذي أنكروا عليه؟
«وتنمره» أي غضبه ، يقال : تنمّر [الرجل] ، إذا غضب وتشبه
بالنمر.
وقولها : «تكافّوا» ، أي كفوا أيديهم عنه ، والزمام مثل في هذا.
«لاعتلقه» : لأخذه بيده.
والسّجح :
السير السهل.
«لا
يكلم» لا يجرح ولا
يدمى.
والحشاش : ما
يكون في أنف البعير من الخشب.
«ولا
يتعتع» ، أي لا يكره
ولا [يقلق] .
والمنهل : مورد
الماء.
والنمير :
الماء النامي في الجسد. [والفضفاض] : الكثير. والضفتان : جانبا النهر.
__________________
والبطان : جمع
بطين ، وهو الريان.
«غير
متحلّ منه بطائل» ، أي كان لا يأخذ من مالهم قليلا ولا كثيرا.
«إلّا
بغمر الماء» ، أي كان يشرب بالغمر ، والغمر : القدح الصغير.
«وردعة
سورة الساغب» ، أي كان يأكل من ذلك قدر ما يردع ثوران الجوع.
«والذنابى» : ما يلي الذنب من الجناح.
و «القوادم» : ما تقدّم منه.
«والعجز» معروف.
والمعاطس :
الانوف.
وقولها : «فنظرة» ، أي انتظروا.
«ريثما
تنتج» ، تقول : حتّى
تلد.
«ثم
احتلبوا طلاع القعب» أي ملء القعب. والقعب : العسّ من الخشب.
والدم العبيط :
الطري.
والزعاف :
السم.
[والممقر] : المر.
الهرج : القتل.
والزهيد :
القليل) انتهى.
__________________
(٦٥)
درّة نجفية
في عيسى ويحيى عليهماالسلام
وتقدم أحدهما على الآخر
وجدت بخط بعض
الفضلاء الأجلّاء ما صورته : (سؤال للسيد الجليل الأعظم الأفخم جمال الدين أحمد
ابن المقدّس السيد زين العابدين : في الحديث : «وأوصى عيسى بن مريم إلى شمعون بن حمّون الصفا
، وأوصى شمعون إلى يحيى بن زكريا» . هذا بظاهره ينافي ما في (الكافي) بقوله : علي بن محمد
عن بعض أصحابنا عن علي بن الحكم [عن ربيع بن محمد] عن عبد الله بن سليم العامري عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريا ،
وكان سأل ربّه أن يحيي يحيى له ، فدعاه فأجابه ، وخرج له من القبر فقال : ما تريد
منّي؟ فقال : اريد أن تؤنسني كما كنت في الدنيا ، فقال له : يا عيسى ، ما سكنت
عنّي حرارة الموت ، وأنت تريد أن تعيدني [إلى الدنيا] ، وتعود إليّ حرارة الموت؟
فتركه ، فعاد إلى قبره» .
وجه دفع
التناقض ـ بما وصل إليه فهم أحمد بن عبد السلام البحراني ، لا زالت فضائلكم مشهورة
وبيوتكم بأنوار الإفادة معمورة ـ : على تقدير تسليم الحديثين ، وأنّهما خارجان من
آفاق الصدق ، وبازغان من مطالع الحق ، يمكن دفع التنافي المفهوم من ظاهرهما بأن
عيسى عليهالسلام حيث كان باقيا بنشأته الصورية في عالم
__________________
الأفلاك إلى آخر الزمان كانت الوصية الصادرة من عيسى إلى شمعون عليهماالسلام من عند خروجه بقالبه الصوري إلى السماء ، وسؤاله من
ربّه أن يحيي له يحيى بعد وصية شمعون عليهالسلام إليه ، وشهادته على يد الأشقياء. ولا محذور في ذلك ، بل
لو لا ذلك لوقع التنافي في الحديث الثاني بعضه ببعض ، كما يظهر لك أخيرا.
إن قيل : هذا
الكلام يخالف الظاهر في الحديث الثاني : أن عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن
زكريا ؛ لأنّ الظاهر من ذلك أن وقوع ذلك يوم إذ كان عيسى عليهالسلام في العالم العنصري قبل عروجه للعالم الفلكي.
فالجواب أنّ
عروجه إلى العالم الفلكي غير مانع من ذلك ، فإن المفهوم من الروايات أنه يزور قبور
الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام ، ولا استحالة في ذلك ؛ إذ مجيئه عليهالسلام لقبور شركائه في النبوة والولاية أقرب مدركا من الحكم
بمجيء الأرواح المفارقة لأجسامها في هذه النشأة ، مع ثبوت ذلك بالروايات الصحيحة
الصريحة على الظاهر من الحديث أن المجيء إلى القبر مجيء روحاني أو مثاليّ لا
صوري.
وكذا إجابة
يحيى عليهالسلام وخروجه من القبر إليه ؛ إذ لو كان ذلك محمولا على هذه
النشأة العنصرية والحياة الفانية لم يكن لاستعفاء يحيى عليهالسلام من العود المتعلّق بالقالب الصوري وجه يركن إليه ، ولم يكن
لتعليقه عدم قبوله إلى التعلّق الجسماني بالخوف من حرارة الموت محلّ يعتمد عليه ؛
لأنّ حمله على ظاهره يستدعي وقوع التعلّق الجسماني وحصول المغايرة التي كانت
موجودة قبل الموت ، فكيف يتحقّق الاستعفاء ممّا وقع؟ أم كيف يعلّل طلب الاستعفاء
بالخوف من لحوق حرارة الموت الذي لا بدّ من وقوعه على تقدير عوده إلى حالته التي
__________________
كان عليها من المفارقة الواقعة قبل طلب عيسى عليهالسلام؟
فعلمنا من ذلك
كلّه أنّ سؤال عيسى وإجابة يحيى عليهماالسلام وخروجه كلّ ذلك إمّا في عالم الأرواح ، أو عالم المثال.
وحينئذ ، فلا يتحقّق التنافي بين الحديثين.
وهذا ما وعدنا
به سابقا من قولنا : كما يظهر لك أخيرا ، والله أعلم بالصواب.
وفي الحديثين
بحث طويل لا يسع المقام ذكره ، والسلام عليكم.
والمأمول من
الألطاف الأحمدية ـ دامت فيوضها ـ أن يجري العبد الكاتب دائما على صفحات باله
الشريف وخياله المقدّس
المنيف ، خصوصا
عند ظهور لوامع إشراقاته وتأرج نفحات أنفاسه. كتب المحب ـ أقل عباده علما وعملا ـ أحمد
بن عبد السلام البحراني) انتهى.
أقول
: وهذا الشيخ
المجيب كان من أجلّاء فضلاء بلاد البحرين ، وكان هو الخطيب لشيخنا علّامة الزمان
الشيخ علي بن سليمان القدمي البحراني يوم الجمعة ؛ لأنه كان خطيبا مصقعا ، وكان الشيخ
بعد فراغه من الخطبة يحتاط بالإتيان بخطبة خفيفة ، كما سمعته من والدي ، قدّس الله
نفسه ونوّر رمسه.
ثمّ أقول : لا يخفى
أن الأخبار الواردة في هذا المقام بالنسبة إلى عيسى ويحيى عليهماالسلام لا تخلو من تدافع وتناقض لا يكاد يرجى به الالتئام ،
وها أنا أنقل لك جملة ما وقفت عليه من الأخبار في هذا الباب ، فمنها ما في كتاب (تفسير
الإمام العسكري عليهالسلام) ـ في حديث طويل ـ قال : «وأمّا الحسن والحسين [فـ] سيّدا شباب أهل
الجنّة ، إلّا ما كان [من] ابني الخالة عيسى ويحيى».
إلى أن قال عليهالسلام : «قال الله عزوجل (فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ) يعني نادت زكريا (وَهُوَ قائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللهِ) ، قال :
__________________
(مُصَدِّقاً) ، يعني يصدّق يحيى بعيسى. قال : وكان أوّل تصديق يحيى
بعيسى أن زكريا كان لا يصعد إلى مريم في تلك الصومعة غيره ، يصعد إليها بسلّم ،
فإذا نزل قفل عليها الباب ، ثمّ فتح لها من فوق الباب كوّة صغيرة يدخل منها
الريح. فلمّا وجد مريم وقد حبلت ، ساءه ذلك وقال في نفسه : ما كان يصعد إلى هذه
أحد غيري وقد حبلت ، الآن أفتضح في بني إسرائيل ، لا يشكّون أنّي أحبلتها. فجاء
إلى امرأته فقال لها ذلك ، فقالت : يا زكريا لا تخف ؛ فإنّ الله لا يصنع بك إلّا
خيرا ، وأتني بمريم أنظر إليها وأسألها عن حالها ، فجاء بها زكريا إلى امرأته.
فكفى الله مريم
الجواب عن السؤال ، فإنّها دخلت إلى اختها ـ وهي الكبرى ومريم الصغرى ـ فلم تقم
إليها امرأة زكريا ، فأذن الله ليحيى وهو في بطن أمّه ، فضرب بيده في بطنها
وأزعجها ، ونادى بأنّه تدخل إليك سيّدة نساء العالمين مشتملة على سيد رجال
العالمين ، فلا تقومين إليها؟ فانزعجت وقامت إليها ، وسجد يحيى وهو في بطن امّه
لعيسى بن مريم ، فذلك أول تصديقه له» الحديث.
قال أمين الإسلام
الطبرسي في كتاب (مجمع البيان) ـ في تفسير قوله عزوجل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللهِ) ـ : أي مصدقا بعيسى عليهالسلام ، وعليه جميع المفسرين وأهل التأويل).
إلى أن قال : (وكان
يحيى أكبر سنّا من عيسى عليهماالسلام بستة أشهر ، وكلّف التصديق به ، فكان أوّل من صدّقه
وشهد أنه كلمة الله وروحه) انتهى.
أقول
: وفي هذا الخبر
ما يؤيد ما ذكره قدسسره.
ومنها ما رواه
الصدوق في (إكمال الدين وإتمام النعمة) عن محمد بن علي بن
__________________
موسى عن أبيه عن آبائه عن الحسين عليهمالسلام ، في حديث طويل قال فيه : واشتدت البلوى على بني
إسرائيل حتّى ولد يحيى بن زكريا عليهالسلام وترعرع ، فظهر وله سبع سنين ، فقام في الناس خطيبا ،
فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ، وأخبرهم أن محن الصالحين إنّما كانت
لذنوب بني إسرائيل وأنّ العاقبة للمتّقين ، ووعدهم الفرج بقيام المسيح عليهالسلام بعد نيف وعشرين سنة من هذا القول. فلمّا ولد المسيح
أخفى الله عزوجل ولادته وغيّب شخصه ؛ لأن مريم لمّا حملته انتبذت به
مكانا قصيّا. ثمّ إنّ زكريا وخالتها أقبلا يقصان أثرها حتّى هجما عليها ، وقد وضعت
ما في بطنها ، وهي تقول : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فأطلق الله تعالى
ذكره لسانه بعذرها وإظهار حجتها» الحديث.
وظاهر هذا
الحديث ـ كما ترى ـ هو تقدّم ولادة يحيى على عيسى عليهماالسلام بمدة مديدة ؛ لأنه عليهالسلام وقت خطبته كان ابن سبع سنين وعيسى عليهالسلام لم يولد يومئذ ، وإنّما وعدهم بقيامه بعد نيف وعشرين
سنة من وقت ذلك القول. وظاهر الخبر الأول ـ كما حكينا عن أمين الإسلام ـ أن يحيى عليهالسلام إنّما كان أكبر سنّا من عيسى عليهالسلام بستة أشهر. وكيف كان ، فالخبر صريح في أنّهما حال دخول
مريم عليهاالسلام على أختها فالحمل في بطن كلّ منهما.
ومنها ما رواه
الصدوق في (الفقيه) مرسلا قال : قال الصادق عليهالسلام : «إنّ رجلا جاء إلى عيسى بن مريم عليهالسلام فقال : يا روح الله ، إني زنيت فطهّرني ، فأمر عيسى أن
ينادى في الناس لا يبقى أحد إلّا خرج لتطهير فلان ، فلمّا اجتمع واجتمعوا [وصار] الرجل في
الحفرة نادى [الرجل] : لا يحدّني من لله تعالى في جنبه حدّ. فانصرف كلّهم
إلّا يحيى وعيسى عليهماالسلام ، فدنا منه يحيى فقال له : يا مذنب عظني. فقال : لا
تخلّين بين نفسك
__________________
وهواها فتردى. قال : زدني. قال : لا تعيّرن خاطئا بخطيئته. قال : زدني. قال
: لا تغضب. قال : حسبي» .
وفي هذا الخبر
ـ كما ترى ـ دلالة صريحة على اصطحابهما عليهماالسلام في أيام الحياة ، وربّما أشعر هذا الخبر بعدم وجود
زكريا عليهالسلام يومئذ.
ومنها ما رواه
في (الكافي) في باب : حالات الأئمّة عليهمالسلام في السنّ ، رواه في الصحيح عن يزيد الكناسي قال : سألت
أبا جعفر عليهالسلام : أكان عيسى بن مريم عليهالسلام حين تكلّم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال : «كان
يومئذ نبيّا حجة الله غير مرسل ، أما تسمع لقوله حين قال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ؟». قلت : وكان يومئذ حجة الله على زكريا عليهالسلام في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال : «كان عيسى في تلك
الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلّم فعبّر عنها ، وكان نبيّا حجة على
من سمع كلامه في تلك الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان ، وكان زكريا
الحجة لله عزوجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين ، ثمّ مات زكريا ، فورثه
ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبيّ صغير ، أما تسمع لقول الله عزوجل (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) فلمّا بلغ عيسى سبع سنين تكلّم بالنبوة والرسالة حين
أوحى الله إليه ، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين» الحديث.
أقول
: ظاهر هذا
الخبر ، بل صريحه أن زكريا عليهالسلام مات قبل يحيى ، وأن يحيى عليهالسلام ورث منه الكتاب الذي هو (التوراة) وهو صبي إلى أن بلغ
عيسى عليهالسلام
__________________
سبع سنين. والمشهور المذكور في القصص والتواريخ ـ بل الظاهر أنه مرويّ أيضا
ـ أن يحيى عليهالسلام قتل في زمن أبيه.
ويعضده ما رواه
الصدوق في كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة) في حديث أحمد بن إسحاق وسعد بن عبد
الله ، وجواب صاحب الزمان عليهالسلام وهو صبي ـ وهو طويل ـ قال فيه : قلت : فأخبرني يا بن
رسول الله عن تأويل (كهيعص) . قال : «هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله عليها
عبده زكريا ، ثمّ قصّها على محمد صلىاللهعليهوآله ، وذلك أن زكريا عليهالسلام سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرئيل
فعلّمه إياها ، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليّا وفاطمة والحسن سرى عنه همّه
وانجلى كربه ، وإذا ذكر الحسين عليهالسلام خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة ، فقال ذات يوم : إلهي
، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع
عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصّته فقال (كهيعص). فالكاف : اسم كربلا ، والهاء : هلاك العترة ، والياء :
يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره.
فلمّا سمع بذلك
زكريا عليهالسلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيها الناس من الدخول
عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكانت ندبته : إلهي ، أتفجع خير خلقك بولده؟
إلهي أتنزل بلوى هذه المصيبة بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟
إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟
ثمّ كان يقول :
اللهمّ ارزقني ولدا تقرّ به عيني عند الكبر واجعله وارثا وصيا ، واجعل محلّه منّي
محلّ الحسين عليهالسلام ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ، ثم افجعني به كما فجعت
محمدا حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى عليهالسلام وفجعه به ، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين عليهالسلام كذلك» ـ وله قصة طويلة ـ إلى آخر
الحديث.
__________________
فإن ظاهر الخبر
أنّ الفجيعة به كانت في حياة أبيه ، ولا ينافيه قوله : «وارثا وصيا» ؛ لإمكان الحمل على جعله من أصحاب هذه المرتبة ، إلّا
إن تطرّق الحمل على كون الفجيعة بعد الموت ممكن قياسا على فجيعة النبي صلىاللهعليهوآله بالحسين عليهالسلام.
وقد يؤيّد ما دلّ عليه
الخبر المتقدم بظاهر قوله عزوجل حكاية عن زكريا عليهالسلام (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي) ، ولا سيّما على القراءة المشهورة وهي رفع (يَرِثُنِي) وما بعده ، فإنه يتعيّن كونه صفة الولي المسؤول ، ويلزم
على تقدير موت يحيى قبله عدم استجابة دعائه عليهالسلام ، مع أن ظاهر قوله (إِنّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ـ إلى آخره ـ دال على الاستجابة.
وكذا تتحقق
الدلالة في الجملة على قراءة الكسائي وابي عمرو البصري ، وهو جزم (يَرِثُنِي) ، خلافا لجماعة ، وذلك لأنّ الفعل حينئذ جواب الدعاء ، وظاهر أنّه يفهم
من ذكر الجواب بعد السؤال على النحو المذكور [أنّ] المسؤول هو الولي الوارث. وهذا
هو قضية السياق كما لا يخفى على أرباب الأذواق.
ومنها ما رواه
الصدوق في (الفقيه) و (الأمالي) ، وفيه : «وأوصى آصف إلى زكريا ، ودفعها زكريا إلى عيسى عليهالسلام ، وأوصى عيسى إلى
شمعون بن حمون الصفا ، وأوصى
شمعون إلى يحيى بن زكريا».
وهذا الخبر هو
الذي أشار إليه السائل المتقدّم ذكره ، وهو ظاهر في كون زكريا قد دفع الوصية إلى
عيسى عليهالسلام ، مع أن ظاهر صحيحة الكناسي المتقدمة أنه إنّما دفعها
إلى يحيى عليهالسلام ، وأن يحيى عليهالسلام بعد أن بلغ عيسى عليهالسلام سبع سنين فوّضها إليه ،
__________________
لأنّ ظاهر سياق الخبر المذكور أن عيسى عليهالسلام بعد أن صمت كان الحجة على الناس زكريا عليهالسلام ، ثمّ مات زكريا عليهالسلام فورثه ابنه يحيى عليهالسلام الكتاب والحكمة ، ولا معنى لميراثه الكتاب والحكمة إلّا
الوصية ، وأن عيسى عليهالسلام بقي صامتا إلى أن بلغ سبع سنين ، ثمّ كان بعد
ذلك الحجة على يحيى عليهالسلام وعلى الناس أجمعين.
ولا يخفى ما
بين الخبرين من المدافعة والمنافاة ، ويمكن حمل دفع زكريا عليهالسلام إلى عيسى عليهالسلام في حديث الصدوق بكون دفعه بواسطة يحيى عليهالسلام كما في خبر الكناسي ، وأنّ شمعون عليهالسلام دفعها مرة اخرى إلى يحيى عليهالسلام. هذا غاية ما يمكن الجمع به بين الخبرين المذكورين.
بقي الكلام في
المدافعة التي بين حديث الصدوق المذكور وبين خبر (الكافي) الدال على طلب عيسى عليهالسلام لإحياء يحيى عليهالسلام بعد قتله ، ولا مناص عن الجواب بما ذكره الشيخ المتقدم
ذكره وإن كان فيه ما فيه.
__________________
(٦٦)
درة نجفية
في وضع الأحاديث زمن معاوية
قال الشيخ عز
الدين بن أبي الحديد المعتزلي في كتاب (شرح نهج البلاغة) في الجزء الحادي عشر : (روى
أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب (الأحداث) قال
: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا
من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليا
عليهالسلام ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.
وكان أشدّ
الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة من فيها من شيعة علي عليهالسلام ، فاستعمل عليهم زياد بن [سمية] وضمّ إليه
البصرة ، فكان يتبع الشيعة ، وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليهالسلام ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي
والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم من العراق فلم
يبق بها معروف منهم.
وكتب معاوية ـ لعنه
الله ـ إلى عماله في جميع الآفاق ألّا يجيزوا لشيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب
إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل
__________________
ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم
، واكتبوا إلي بكلّ ما يروي كل رجل منهم وباسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى
أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء
والحباء والقطائع ، في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في
المنازل والدنيا.
ثمّ كتب إلى
عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم
كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا
تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وائتوني بمناقض له في الصحابة
؛ فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب
عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على
الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في
رواية ما يجري في هذا المجرى ، حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقي إلى
معلّمي [الكتاتيب] فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى
رووه وتعلّموه كما يتعلّمون (القرآن) ، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم
، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثمّ كتب إلى
عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنه من شيعة علي
وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه.
وشفع ذلك بنسخة
اخرى : من اتهمتموه بموالاة القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ
ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما الكوفة ، حتّى إن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق
به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ،
__________________
ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلّظة ليكتمن عليه.
فظهر حديث كثير
موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء ، والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس
في ذلك بلية القرّاء المراؤون المستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون
الأحاديث ؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال
والضياع والمنازل. حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا
يستحلون الكذب والبهتان ، فرووها وهم يظنّون أنّها حق ، ولو علموا أنّها باطل لما
رووها ولا تديّنوا بها.
فلم يزل الأمر
كذلك حتى مات الحسن ، فازداد البلاء والمحنة فلم يبق أحد من هذه القبيلة إلا [وهو]
خائف على دمه وطريد في الأرض. ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ، وولي عبد الملك بن
مروان فاشتد على الشيعة ، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرب إليه أهل النسك
والصلاح ببغض علي بن أبي طالب وموالاة أعدائه ، فأكثروا في الرواية من فضلهم
وسوابقهم ومناقبهم ، [وأكثروا] من النقص من علي بن أبي طالب وعيبه والطعن
فيه والشنآن له ، حتى إن إنسانا وقف للحجاج ـ ويقال : إنه جدّ الأصمعي عبد الملك
بن قريب ـ فصاح به :
أيها الأمير ،
إن أهلي عقّوني فسمّوني عليا ، وإني فقير بائس ، وإني إلى صلة الأمير محتاج.
فتضاحك له الحجّاج ـ لعنه الله ـ وقال : للطف ما توسلت به قد ولّيتك موضع كذا.
وقد روى ابن
عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا
الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني
امية ؛ تقرّبا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنف بني
__________________
هاشم) انتهى كلام ابن أبي الحديد بحروفه وألفاظه.
أقول
: انظر إلى هذا
الخبر بعين البصيرة ، وتأمّل فيما اشتمل عليه بمقلة غير حسيرة ، يظهر لك ما فيه من
العجائب والغرائب التي لا تخفى على الموفق الصائب. وقد روي نظيره من طريق الشيعة أيضا كما سنذكره
إن شاء الله تعالى ، وحينئذ ـ وهو متفق عليه بين الفريقين ـ فلا مجال للطعن فيه.
كيف كان ، فلا
بدّ من الإشارة إلى ما في الخبر من الفوائد ؛ فمنها أن فيه ردّا لما ادّعاه جملة
من علماء القوم وصرّحوا به من أن مذهب الشيعة لا أصل له قديما ، وإنّما أحدثه ابن
الراوندي وهشام بن الحكم ونحوهما من المتأخّرين عن العصر الأوّل ، وما صرّح به الشارح
ابن أبي الحديد في (شرح النهج) من أن المراد بالشيعة في الأخبار التي وردت من طرق أهل
السنة بتفضيل الشيعة ومدحهم ، إنّما هم التفضيلية ، أي القائلين
بتفضيل علي بن أبي طالب عليهالسلام على من تقدّمه ، مع قولهم بإمامة المتقدّمين ، كما هو
مذهب جملة من المعتزلة ، منهم الشارح المذكور ، فإنه لو صحّ ما يدّعونه ، فأي وجه يحمل عليه فعل
معاوية وبني امية بالشيعة من هذه الأفعال الشنيعة ، والمجاهرة ببغض علي عليهالسلام وأهل بيته وسبّهم وثلبهم؟! وهذا بحمد الله ظاهر لا
يستره ساتر.
ومنها الدلالة
على ما كان عليه معاوية وبنو اميّة من التظاهر ببغض علي وأولاده وأهل بيته ، مع ما
ورد في حقهم بروايات أهل السنّة المتفق عليها : أن حب علي إيمان ، وبغضه كفر ونفاق
، وهي مستفيضة ، مع أن معاوية وبني أميّة
__________________
من الخلفاء والأئمّة في الدين عندهم.
ويعضد هذا
الخبر ما اتفق عليه أهل السير من مضي معاوية وبني أمية على سب علي عليهالسلام على المنابر ثمانين [سنة] إلى أن قطعه
عمر بن عبد العزيز ، فانظر في هذه الامور التي يضيق لها متسع الصدور.
ومنها ما كشف
عن أحوال أهل السنّة يومئذ من العلماء القضاة والخطباء وأصحاب النسك والورع والولاة
، فضلا عن الرعاة ، من أنّهم باعوا إيمانهم على معاوية بأبخس الأثمان بما سارعوا
إليه من إحداث الزور والبهتان ، مع قرب العهد ومعرفتهم بما عليه أهل البيت من
الفضائل التي دوّنها متأخرو علمائهم في شأن أهل البيت ، كلّ ذلك في طمع حب الدنيا
الدنية. فهذه أحوال السلف منهم الذين قد اتفق من تأخّر عنهم على أخذ الدين عنهم ،
ومنعوا من الطعن فيهم والذم لهم ، وجعلوا أقوالهم وأفعالهم حججا شرعية يتعبدون بها
، ويقابلون الله تعالى بها ، نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وقبائح أعمالنا.
ومنها أنه إذا
كانت هذه الأخبار الموضوعة في حق الخلفاء الثلاثة والصحابة قد بلغت هذا المبلغ في
الكثرة وشاعت هذا الشياع ، حتى انتقلت إلى الديانين الذين لا يستحلّون الكذب ،
فتديّنوا بها وصنّفوها في كتبهم وضبطوها واعتنوا بها وصححوها ، واستمرت على هذا
الحال الأعصار خلفا بعد سلف في جملة الأمصار ، فلو أن خصماءهم قالوا لهم : إنّه
ليس لأولئك الخلفاء والأصحاب شيء من الفضائل والممادح ، وكلّ ما تروونه فإنّما هو
من هذا البحر الاجاج المالح ، فأنّى لهم بالجواب؟
ولو ادعوا أن
تزوير بني أميّة أخبارا في فضائل الخلفاء والصحابة لا يقتضي ألّا يكون لهم فضائل
سواها.
__________________
قيل لهم :
ميّزوا لنا الصادق منها من الكاذب ، والصحيح من العاطب ، ليتمّ لكم الاستدلال بها
على ما أردتم من المطالب. وكيف وأنى ومتى ، وخبركم هذا قد صرّح بما صرّح ، وأفصح
بما أفصح؟
وغاية ما يمكن
معرفته عند من أنصف منهم بعض الإنصاف ، وساعف إلى الرجوع إلى الحق بعض الإسعاف هو
معرفة بعض الأخبار المشتملة على الغلو في تفضيل بعض اولئك الخلفاء ، كما اعترف به
الفيروزآبادي صاحب (القاموس) في كتاب (سفر السعادة) ، حيث قال : (أشهر المشهورات
من الموضوعات أن الله يتجلّى للناس عامة ، ولأبي بكر خاصّة ، وحديث : «ما صب الله في صدري
شيئا إلّا صببته في صدر أبي بكر» ، وحديث : «أنا وأبو بكر كفرسي رهان» ، وحديث : «إنّ الله لمّا اختار الأرواح اختار روح أبي
بكر» ، وأمثال هذا
من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل).
وقال أيضا في
الكتاب المذكور : إنه لم يصحّ في صلاة الضحى حديث .
وقال أيضا في
حديث الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر : (إنّه لم يصح فيه شيء) انتهى.
وقال الإمام
عبد الرزاق الصنعاني في كتاب (الدر الملتقط) : (من الموضوعات ما زعموا أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «إنّ الله يتجلّى للخلائق يوم القيامة عامة ،
ويتجلّى لك يا أبا بكر خاصة» ، وأنه قال : «حدّثني جبرئيل عليهالسلام قال : إنّ الله لمّا خلق الأرواح اختار
__________________
روح أبي بكر من بين الأرواح» ) ، وأمثال ذلك كثير.
ثم قال : (وأنا
أنتسب إلى عمر وأقول فيه الحق ، لقول النبي صلىاللهعليهوآله : «قولوا
الحق ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» ، فمن الموضوعات ما روي أن أوّل من يعطى كتابه بيمينه
عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ، قيل : وأين أبو بكر؟ قال : سرقته
الملائكة. ومنها : «من
سبّ أبا بكر وعمر قتل ، ومن سب عليا وعثمان جلد الحد». إلى غير ذلك من الأحاديث المختلفة).
ثمّ ساق جملة
من الأحاديث الموضوعة من غير هذا الباب ، مثل حديث «زر غبّا تزدد حبّا» ، ونحو ذلك.
واعترف الفاضل
ابن أبي الحديد في (شرح النهج) : بأنّ حديث : «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر» وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، وأنّ حديث سدّ الأبواب
كان لعلي عليهالسلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر ، وحديث : «ايتوني بدواة وبيضاء
لأكتب لأبي بكر [كتابا] لا يختلف عليه اثنان». ثمّ قال : «يأبى الله والمسلمون إلّا أبا بكر» وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه «ايتوني بدواة وبيضاء
أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبدا» ، فاختلفوا عنده. ونحو حديث :
__________________
«أنا راض عنك ، فهل أنت عنّي راض» انتهى.
وبذلك يظهر ما
في المقام من الإشكال والداء العضال ، فأنّى لهم بإثبات حديث يدّعون صحّته لتقوم
به الحجة على خصومهم ، والحال كما ترى؟
ويؤكد ما قلناه
أيضا ما نقله ابن أبي الحديد في الشرح المتقدّم ، ذكره عن شعبة إمام المحدّثين ،
أنه قال : تسعة أعشار الحديث كذب. وعن الدارقطني أنه قال : (ما الحديث الصحيح في
الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).
روايات
الخاصة في وضع الأحاديث
هذا ، وأما ما
ورد من طريق الشيعة في هذا الباب فهو ما رواه سليم بن قيس في كتابه ـ وكان من
أصحاب علي عليهالسلام ـ في حديث طويل ، نحن ننقله بطوله لجودة محصوله : (أبان
بن عياش عن سليم بن قيس وعمر بن أبي سلمة قالا : قدم معاوية حاجا في خلافته
المدينة ، فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، فسأل عن ذلك ، فقيل :
إنّهم محتاجون ليس لهم دواب. فالتفت معاوية إلى قيس ابن سعد بن عبادة فقال : يا
معشر الأنصار ، ما لكم لا تستقبلونني مع إخوانكم من قريش؟ فقال قيس ـ وكان سيّد
الأنصار وابن سيدهم ـ : أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم يكن لنا دواب. فقال معاوية
: فأين النواضح؟ فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم احد وما بعدهما في مشاهد رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم
كارهون. قال معاوية : اللهم غفرا. قال قيس : أما إن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «سترون بعدي إثرة».
ثمّ قال : يا
معاوية تعيّرنا بنواضحنا ، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على
إطفاء نور الله ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثمّ دخلت أنت
__________________
وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال معاوية :
كأنكم تمنّون علينا بنصركم إيانا ، فلله ولقريش بذلك المن والطول ، ألستم تمنون
علينا ـ يا معشر الأنصار ـ بنصركم رسول الله وهو من قريش ، وهو ابن عمنا ومنّا ،
فلنا المن والطول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم الله بنا.
فقال قيس : إنّ
الله بعث محمدا صلىاللهعليهوآله رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة وإلى الجن والإنس
والأحمر والأسود والأبيض ، اختاره لنبوته واختصه لرسالته ، فكان أول من
صدّقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب ، وأبوه أبو طالب يذب عنه ويمنعه ، ويحول
بين كفار قريش وبين أن يروّعوه ويؤذوه ، وأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا
من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب ، وأمر ابنه بموازرته ، فوازره ونصره وجعل
نفسه دونه في كلّ شديدة وكلّ ضيق وكلّ خوف ، واختص الله عليا بذلك من بين قريش
وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ، فجمع رسول الله صلىاللهعليهوآله جميع بني عبد المطلب ، فيهم أبو طالب وأبو لهب ، وهم
يومئذ أربعون رجلا ، فدعاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله وخادمه علي عليهالسلام ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله في حجر عمه أبي طالب ، فقال : «أيكم ينتدب أن يكون
أخي ووزيري ووصيّي وخليفتي في امتي وولي كلّ مؤمن بعدي؟». فسكت القوم ، حتى أعادها ثلاثا ، فقال علي عليهالسلام : «أنا
يا رسول الله». فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه وقال : «اللهمّ املأ جوفه علما وفهما وحكما» ، ثمّ قال لأبي طالب : «اسمع الآن لابنك وأطع ، فقد جعله الله من
نبيّه بمنزلة هارون من موسى». وآخى رسول الله صلىاللهعليهوآله بين علي وبين نفسه.
__________________
فلم يدع قيس
شيئا من مناقبه إلّا ذكرها واحتج بها ، وقال : منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة
بجناحين ، اختصه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم حمزة سيد الشهداء ، ومنهم فاطمة
سيدة نساء أهل الجنة. فإذا وضعت من قريش رسول الله صلىاللهعليهوآله وأهل بيته وعترته الطيبين ، فنحن والله خير منكم يا
معشر قريش ، وأحب إلى الله ورسوله إلى أهل بيته منكم. لقد قبض رسول صلىاللهعليهوآله فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثمّ قالوا : نبايع سعدا ،
فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته ، وخاصمونا بحقه وقرابته ، فما يعدو قريش
أن يكونوا ظلموا الأنصار أو ظلموا آل محمّد؟ ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش
ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي بن أبي طالب عليهالسلام وولده من بعده.
فغضب معاوية
وقال : يا بن سعد ، عمّن أخذت هذا؟ وعمّن رويته؟ وعمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك
وعنه أخذته؟ فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم عليّ حقا من أبي.
قال : من هو؟ قال : علي بن أبي طالب عالم هذه الامة وصدّيقها الذي أنزل الله فيه (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، فلم يدع آية في علي إلّا ذكرها.
قال معاوية :
فإن صدّيقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم (الكتاب) عبد الله بن سلام.
قال قيس : احقّ
بهذه الأسماء الذي أنزل الله فيه (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ، والذي نصبه رسول الله صلىاللهعليهوآله بغدير خم فقال : «من كنت
أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه». وقال في غزوة تبوك : «أنت منّي بمنزلة
__________________
هارون من موسى ، إلا إنّه لا نبي بعدي».
وكان معاوية
يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه ، وكتب بذلك نسخة إلى عمّاله : ألا برئت
الذمة ممن يروي حديثا في مناقب علي وأهل بيته. وقامت الخطبة على
المنابر في كلّ مكان بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه ، والوقيعة في أهل بيته
بما ليس فيهم.
ثم إنّ معاوية
مرّ بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا إليه غير عبد الله بن العباس ، فقال : يا بن
عباس ، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة عليّ بقتالي إياكم يوم صفين!
يا بن عباس ، إن ابن عمي عثمان قتل مظلوما.
قال ابن عباس :
فعمر قتل مظلوما ، فسلّم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه. قال : إن عمر قتله مشرك. قال
ابن عباس : فمن قتل عثمان؟ قال : قتله المسلمون. قال : فذلك أدحض لحجتك وأحلّ لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه
وخذلوه فليس إلّا بحقّ. قال : فإنّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل
بيته ، فكفّ لسانك يا بن عباس ، واربع على ظلعك .
قال : فتنهانا
عن قراءة (القرآن)؟ قال : لا. قال : فتنهانا عن تأويله؟ قال : نعم.
قال : فنقرؤه
ولا نسأل عما عنى الله به؟ قال : نعم. قال : فأيما أوجب قراءته أو العمل به؟ قال :
العمل به قال : فكيف نعمل حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟
قال : يسأل عن ذلك من
يتأوّله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال : إنّما
نزل (القرآن) على أهل بيتي ، فاسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود
والنصارى والمجوس. قال : فقد عدلتني بهؤلاء ، فقال : لعمري ما
__________________
أعدلك بهم إلّا إذا نهيت الامة أن يعبدوا الله بـ (القرآن) وما فيه من أمر
أو نهي ، أو حلال أو حرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو محكم أو
متشابه. وإن لم تسأل الامة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.
قال معاوية :
فاقرؤوا (القرآن) ولا ترووا شيئا ممّا أنزل الله فيكم وما قال رسول الله ، وارووا
ما سوى ذلك.
قال ابن عباس :
قال الله تعالى في (القرآن) (يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) .
قال معاوية :
يا بن عباس ، اكفني نفسك وكفّ عني لسانك ، وإن كنت لا بدّ فاعلا فليكن سرا ، ولا
يسمعه أحد علانية. ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم ، وفي رواية اخرى
: مائة ألف درهم.
ثمّ اشتد
البلاء بالأمصار كلّها على شيعة علي وأهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء أهل الكوفة ؛
لكثرة من بها من الشيعة ، واستعمل عليهم زيادا وضمّ إليه البصرة ، وجمع له
العراقين ، وكان يتبع الشيعة وهو بهم عالم ؛ لأنه كان منهم قد عرفهم وسمع كلامهم
أوّل شيء ، فقتلهم تحت كلّ كوكب ، وتحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي
والأرجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم حتى انتزحوا
عن العراق ، فلم يبق أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.
وكتب معاوية
إلى عماله وولاته في جميع الأرضين والأمصار ألّا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل
بيته ولا من أهل ولايته الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة. وكتب إلى عماله
: انظروا من قبلكم من شيعة عثمان
__________________
ومحبيه وأهل بيته وأهل ولايته الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه ، فأدنوا
مجالسهم وأكرموهم وقرّبوهم وشرفوهم ، واكتبوا إليّ بما يروي كل واحد منهم فيه
باسمه واسم أبيه ، وممن هو.
ففعلوا ذلك ،
حتى أكثروا في عثمان الحديث ، وبعث إليهم بالصّلات والكسى ، وأكثر لهم القطائع من
العرب والموالي ، فكثروا في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والضياع ، واتسعت عليهم
الدنيا ، فلم يكن أحد يأتي عامل مصر من الأمصار ولا قرية فيروي في عثمان منقبة أو
يروي له فضيلة إلّا كتب اسمه وقرّب وشفع ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثمّ كتب إلى
عماله : أنّ الحديث قد كثر في عثمان وفشا في كلّ مصر ومن كلّ ناحية ، فإذا جاءكم
كتابي هذا فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فإنّ فضلهما وسوابقهما أحب إلي
وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرأ كلّ قاض
وأمير من ولاته كتابه على الناس ، وأخذ الناس في الرواية فيهما وفي مناقبهما. ثمّ
كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب والفضائل ، وأنفذها إلى عماله
وأمرهم بقراءتها على الناس في كلّ كورة وفي كلّ مسجد ، وأمرهم [أن] ينفذوها إلى
معلّمي [الكتاتيب] أن يعلّموها صبيانهم ، حتى يرووها ويتعلّموها كما
يتعلّمون (القرآن) ، حتى علّموها بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما
شاء الله.
ثمّ كتب إلى
عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب عليّا وأهل بيته ، فامحوه
من الديوان ، ولا تجيزوا له شهادة.
__________________
ثمّ كتب كتابا
آخر : من اتهمتموه ولم تقم عليه البيّنة فاقتلوه. فقتلوهم على التهم والظن والشبهة
تحت كلّ كوكب ، حتى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه.
ولم يكن ذلك
البلاء في بلد أكثر ولا أشدّ منه بالعراق ولا سيّما الكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة
علي وممّن بقي من أصحابه بالمدينة وغيرها يأتيه من يثق به فيدخل بيته ، ثمّ يلقي
عليه سرّه فيخاف من خادمه ومملوكه ، فلا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان المغلّظة
ليكتمن عليه.
وجعل الأمر لا
يزداد إلا شدّة ، وكثر عددهم ، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة في أصحابهم من التزوير
والبهتان ، فنشأ الناس على ذلك ، ولا يتعلّمون إلّا منهم ، ومضى على ذلك قضاتهم
وولاتهم وفقهاؤهم.
وكان أعظم
الناس في ذلك بلاء وفتنة القرّاء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون لهم الحزن
والخشوع والنسك ، ويكذبون ويعلّمون الأحاديث ؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويدنوا [بذلك]
مجالسهم ، ويصيبوا بذلك الأموال والقطائع والمنازل ، حتى صارت أحاديثهم
تلك ورواياتهم في أيدي من يحسب أنها حقّ وأنّها صدق ، فرووها وقبلوها وتعلّموها ،
وأحبّوا عليها وأبغضوا ، وصارت بأيدي الناس المتدينين الذين لا يستحلّون الكذب
ويبغضون عليه أهله ، فقبلوها وهم يرون أنّها حق ، ولو علموا أنّها باطل لم يرووها
ولم يتدينوا بها. فصار الحق في ذلك الزمان باطلا ، والباطل حقا ، والصدق كذبا ،
والكذب صدقا.
وقد قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : «لتشملنكم
فتنة يربو فيها الوليد وينشأ فيها الكبير ، يجرى الناس عليها ويتخذونها سنّة ، إذا
غيّر منها شيء قالوا : أتى الناس منكرا غيّرت السنّة».
__________________
فلمّا مات
الحسن بن علي عليهماالسلام لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ، فلم يبق ولي لله
إلا خائفا على دمه أنه مقتول ، وإلّا طريدا أو شريدا ، ولم يبق عدوّ لله إلّا
مظهرا الحجة غير مستتر ببدعته وضلالته.
فلمّا كان قبل
موت معاوية بسنة حج الحسين عليهالسلام وعبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحسين عليهالسلام بني هاشم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم ، ومن
الأنصار ممن يعرفه الحسين عليهالسلام وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلا : «لا تدعوا أحدا ممن
حجّ العام من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله المعروفين بالصلاح
والنسك إلّا اجمعوهم لي».
فاجتمع إليه
بمنى أكثر من سبعمائة رجل ، وهم في سرادقه ، عامتهم [من التابعين] ، ونحو من مائتى
رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقام فيهم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإن هذا
الطاغية فقد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإنّي اريد أن أسألكم
عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبت فكذّبوني
، فأسالكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسوله صلىاللهعليهوآله وقرابتي من نبيّكم
عليه وآله السلام ، لما سيّرتم مقامي ووصفتم مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا
إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا
، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحقّ ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره
الكافرون».
وما ترك شيئا
ممّا أنزله الله فيهم من (القرآن) إلّا تلاه وفسّره ، ولا شيئا ممّا قاله رسول
الله صلىاللهعليهوآله في أبيه وأخيه وامّه وفي نفسه وأهل بيته إلّا رواه ،
وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم قد سمعناه وشهدناه ، ويقول التابع : قد
حدّثني به من اصدّقه وائتمنه من الصحابة.
__________________
ثمّ قال : «انشدكم الله إلّا ما
حدّثتم به من تثقون به وبدينه»).
قال سليم : (فكان
فيما ناشدهم الحسين عليهالسلام أن قال : «أنشدكم [الله] تعلمون أن عليّ بن أبي طالب كان
أخا رسول الله») .
ثمّ نقل سليم
في الخبر جملة وافرة من هذا القبيل ، أعرضنا عن نقله خوف التطويل.
__________________
فهرس
الموضوعات
فهرس
الموضوعات
(٤٢) درّة في رسالة
الهادي عليهالسلام إلى أهل الأهواز حول الجبر والتفويض............... ٧
تفسير صحة الخلقة............................................................. ٢٠
تفسير تخلية السرب............................................................ ٢١
تفسير المهلة في الوقت.......................................................... ٢٢
تفسير الزاد والراحلة............................................................ ٢٢
تفسير السبب المهيّج............................................................ ٢٣
(٤٣) درّة في أن ولد الولد ولد على
الحقيقة أو على المجاز.......................... ٢٧
(٤٤) درّة الصوارم القاصمة لظهور الجامعين
بين ولد فاطمة عليهاالسلام................... ٤٩
تحقيق مقام وكلام على
كلام بعض الأعلام....................................... ٦٦
مناقشة المصنّف رحمهالله لهذا القائل بالكراهة.......................................... ٦٨
تتمّة مهمّة في أن
حرمة الجمع تقتضي البطلان أم ترتّب الإثم........................ ٨٣
(٤٥) درّة في مشروعية الإجارة في الصلاة
والصوم................................ ٩٣
(٤٦) درّة في الجمع بين حديثي : زدني فيك
معرفة ، ما ازددت يقينا.............. ١٠٥
(٤٧) درّة في معنى قوله صلىاللهعليهوآله : نيّة المؤمن خير من عمله.......................... ١١٣
(٤٨) درّة في إيمان ولد الزنا................................................... ١٢٣
(٤٩) درّة في شرح حديث الرفع.............................................. ١٣٩
(٥٠) درّة في مشروعيّة نقل الموتى إلى
المشاهد المشرّفة............................ ١٥٥
(٥١) درّة في قاعدة التسامح في أدلَّة
السنن..................................... ١٧١
(٥٢) درّة في موضع
الوقف من آية (الرَّاسِخُونَ فِي
العِلمِ)...................... ١٧٩
(٥٣) درّة في معنى
قوله عليهالسلام : إن أصحاب الكهف كانوا صيارفة................ ١٩١
(٥٤) درّة في عقد الولي بالصغير أو
الصغيرة..................................... ٢٠٥
المقام الأوّل : في
بيان بطلان القول بالصحة...................................... ٢٠٧
المقام الثاني : في
الكلام على من استدل بقاعدة (العقود بالقصود) وبيانه بطلانها...... ٢١٠
المقام الثالث : في
بيان بطلان ما يُذهب إليه من جواز ذلك مشروطاً بالمصلحة والغبطة ٢١٦
(٥٥) درّة في اشتراط الدخول في تحريم امّ
المعقود عليها على العاقد................. ٢٢١
(٥٦) درّة في المعاد الجسماني.................................................. ٢٣٧
(٥٧) درّة في حكم منجزات المريض........................................... ٢٥٣
(٥٨) درّة في حكم استبراء المرأة إن مات
ولد لها من غير زوجها................... ٢٨١
(٥٩) درّة في الفرق بين المجتهدين
والأخباريين................................... ٢٨٧
(٦٠) درّة في بيان حديث أنّ للصلاة أربعة
آلاف حدّ أو باب.................... ٣٠٣
(٦١) درّة في حكم المتطهّر من الحدث وعلى
بدنه نجاسة.......................... ٣١١
(٦٢) درّة في الطهارة بالماء النجس عمداً........................................ ٣٢٣
(٦٣) درّة فيما ورد في إمامة الاثني عشر
من طرق أهل السنة..................... ٣٣٥
(٦٤) درّة في خطبة فاطمة عليهماالسلام في مطالبتها بفدك وعند الموت................... ٣٥٥
خطبتها عليهاالسلام لما منعت ميراثها................................................. ٣٥٥
بيان ما لعله يحتاج
إلى البيان في هذه الخطبة العليّة الشان........................... ٣٦٣
في خطبتها عليهاالسلام عند موتها.................................................... ٣٧٣
(٦٥) درّة في عيسى ويحيى عليهماالسلام وتقدم أحدهما على الآخر...................... ٣٧٩
(٦٦) درة في وضع الأحاديث زمن معاوية...................................... ٣٨٩
روايات الخاصة في وضع
الأحاديث............................................. ٣٩٦
|