

مقدّمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد والصلاة والسلام علي سيدنا
ونبيِّنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين الأخيار الذين اتبعوه
بإِحسان إلي قيام يوم الدين.
وبعد ،
فهذا الكتاب الذي بين يدي القاريء
الكريم الموسوم ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية وآثارها الانسانية من كتابات
وإفاضات صاحب السماحة آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين أدام الله بقاه وابقاه
ذخراً للمسلمين علماً وعالماً ورائداً فكرياً ومنارة يستضاء بها في هذه العصور
المظلمة التي اختلط فيها العلم والجهل والحق والباطل.
كتبه منذ سنين طويلة الأمد وكان في
ريعان شبابه ، وطبع مرات عديدة ، تارة بإذن خاص منه ، ومرات كثيرة بدون إِذن ،
طمعاً بالربح. وسكت سماحته آملاً في انتشار الكتاب للقراء الكرام ليكون زاداً لهم
لمعرفة الحقيقة خصوصاً لمثل هذه الثورة التي كَثُر الحديث عنها والتركيز عليها ،
تارة بالايجاب والمغالاة ، وتارة بالموقف المُشكّك فيها والناظر اليها نظرة غير
موضوعية.
وقد ترجم هذا الكتاب إلي لغات عديدة
نظراً لأهمية الموضوع ولموضوعية الكتابة وأهلية الكاتب الذي لا يحتاج إلي تعريف
وشهادة
فالشهادة له بين
يديك في هذا الكتاب وفي غيره من الكتب الأخري والمواضيع المتعددة التي كتب فيها
وحقق وأبدع فكان له اليد الطولي والباع الطويل في كشف غموض كثير من المسائل بكل
ثقة وموضوعية وجرأة ربما في بعض الأحيان خالف الكثير من المرتكزات العرفية وتقاليد
العوام فانكروا عليه ووافقه العلماء والمفكرون وأيده كل من كان صاحب فكر ومنطق. (وهذه
الطبعة من نتاج المؤسسة الدولية للدراسات والنشر التي كان لها الشرف بأخذ الامتياز
في الحق الحصري لطبع ونشر وتوزيع كتب سماحة الشيخ حفظه الله).
لذلك إذ تحذر من أي تجاوز في هذا
الموضوع والتمادي في التصرف من الطبع أو الاقتباس محذرة من اتخاذ الاجراءات
القانونية بحق كل من يتصرف بدون إذن وترخيص من الجهة المختصة آملين من الجميع
الالتزام بهذا الأمر.
وسيصدر في نفس الوقت كتابين آخرين في
موضوع الامام الحسين وواقعة كربلاء عن نفس الدار سائلين الله العلي القدير التوفيق
لما فيه خير الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.
المؤسسة الدولية للدراسات
والنشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الطبعة الرابعة
يُشرّفني ويُسعدني أن أقدّم إلى القرّاء
الكرام الطبعة الرابعة من هذا الكتاب (ثورة الحسين ظروفها الاجتماعيّة وآثارها
الإنسانيّة) بعد أن نفدت الطبعة الثالثة.
وقد تلقّى القرّاء على اختلافهم ، هذا
الكتاب لقاءً كريماً في كلّ إطلالة عليهم من خلال طبعاته الثلاث.
ولعل السّر في ذلك ما قاله عن هذا
الكتاب من العلماء والمثقفين الذين نحترم علمهم وحيدتهم : «أنّه أفضل ما كُتب عن
ثورة الحسين على الإطلاق».
والحقّ أنّ ما كُتب عن ثورة الحسين عليهالسلام ـ سوى هذا الكتاب ـ
قد عالج تلك الثورة العظيمة وفقاً لأحد منهجين :
١ ـ منهج السّرد التاريخي المحض مع
التركيز على عنصر المأساة فيها ، وتعمد إبراز جانب الإثارة العاطفية منها وهذا
منهج قديم في الكتابة عن هذه الثورة وغيرها ، وهو استمرار لمنهج كُتّاب (المقتل)
الذين كانوا يؤرّخون لبعض الثورات وحركات التمرّد في الإسلام من خلال التأريخ
للأبطال البارزين في تلك الثورات وحركات التمرّد ، أمثال (مقتل عثمان)
، و (مقتل حجر بنعدي)
، و (مقتل عبد الله بن الزبير) وهذا النوع من الكتابة يعتبر في رأينا إحدى الحلقات
التمهيديّة التي مرّت بها كتابة التأريخ عند المسلمين ، تُضاف إلى الحلقات الأخرى
؛ تدوين الحديث ، ونشوء فئة من المحدّثين والأخباريين (أصحاب الأخبار) ، وكُتّاب
السيرة النبويّة
ـ هذه الحلقات التي أدّت في النهاية إلى كتابة التأريخ الإسلامي وفقاً لمنهج «الحوليّات»
عند محمد بن جرير الطبري وغيره.
٢ ـ المنهج الجمالي التأريخي ـ وكُتّاب
هذا المنهج يسلّطون الأضواء على الفضائل أو الرذائل الشخصيّة لأطراف الصراع ، فيفيضون
في الحديث عن ما يتمتّع به طرفا الصراع من نبل أو خسّة ، ويقدّم التأريخ الشخصي
للشخصيّات شواهد جمّة على هذه المسلكية الأخلاقية ، ويتوسّعون في الحديث عمّا
يُميّز أحداث الثورة من رفعة في ميزان الأخلاق لدى فريق ، أو إسفاف وحقارة في سلّم
القيم لدى الفريق الآخر ، هذا مع عناية بارزة بسرد أو تحليل الأصول الشخصيّة
للخلاف العائلي بين الهاشميين والاُمويِّين في الجاهليّة وفي صدر الإسلام.
وإذا كان المنهج الأول استمراراً للمنهج
القديم لكتّاب (المقتل) فإنّ هذا المنهج الثاني يُمثّل جانب الحداثة ـ كما يفهمها
بعض المؤرّخين وكتّاب السيرة المحدّثين ـ وهو منهج يستفيد كثيراً من الأساليب التي
حفلت بها الثقافة الأوربية في هذا الحقل ؛ إنّ من حيث التخطيط والأسلوب والزوايا
التي ينظر منها الباحث إلى موضعه ، أو من حيث الانتفاع بما يوفّره علم
__________________
الاجتماع وعلم النفس
، والدراسات الجمالية والأخلاقية لهذا النوع من البحث التأريخي من فرص التوسّع
والتنوّع.
* * *
وقد كان المنهج الأول ـ في الماضي ـ
يخدم أهدافاً تربوية وسياسية ، وبالإضافة إلى الهدف الثقافي المحض الذي نقدّر أنّه
لم يكن يحظى من كُتّاب المقتل القدماء بعناية ذات شأن.
أمّا لدى المحدّثين من كُتّاب المقتل
والسيرة الحسينيّة ، فإنّ هذا المنهج يخدم أهدافاً ثقافية وتربوية فقط ، بعد أن
توارى الهدف السياسي منذ زمن طويل.
أمّا المنهج الثاني فإنّه يخدم أهدافاً
ثقافية بالدرجة الأولى ، وأهدافاً تربوية إلى حدّ ما دون أن يكون له فيما نقدّر أي
مضمون سياسي.
لكنّه يعاني في الوقت نفسه من عيب كبير
؛ إذ إنّه يُعطي انطباعاً قويّاً بأنّ الثورة الحسينيّة ثمرة لخلاف عائلي وشخصي
أضرمته المطامع السياسيّة ، وغذّته ـ على مهل ـ طوال عقود كثيرة من السنين أحداث
الصراع القبلي حول زعامة قريش ومكة. وهذا انطباع خاطئ بلا شك ؛ فإنّ حوافز الصراع
الذي بلغ ذروته بالثورة الحسينيّة كانت من الجانب الحسيني ذات محتوى سياسي اجتماعي
يستمد توجيهه العقيدي ومنهجيته التشريعية من الإسلام ، وكانت من الجانب الأموي ـ
جانب النظام ـ ذات محتوى سياسي اجتماعي يستمد توجيهه المبدئي ، وخطّ سيره من القيم
القبائلية الجاهليّة من جهة ، ومن طرائق الحكم البيزنطي من جهة ثانية ، مع إسباغ
صفة إسلاميّة على الممارسات التي يقوم بها النظام.
* * *
ولكنّ هذين المنهجين ـ مع الاعتراف بكلّ
فضائلهما ـ يفشلان في تحقيق
هدف معاصر له أهمية
بالغة في تحقيق التكامل الحضاري ، والوعي السياسي لدى الإنسان المسلم بوجه خاص ، حيث
إنّ الباحث لا يستطيع ـ وفقاً لهذا أو ذاك منهما ـ أن يفهم ويقدّم الثورة
الحسينيّة إلى الإنسان الحديث على ضوء المعطيات المعاصرة في المسألة الاجتماعيّة ،
ولا يستطيع أن يكشف عناصر الديمومة والاستمرار في الثورة ـ هذه العناصر التي تجعل
من الثورة شيئاً ذا صلة بالحاضر الحيّ ، قادراً على إغناء الحاضر ، وتزويده بعناصر
من الفكر والرويّة تجعل النضال في حقل المسألة الاجتماعيّة يجمع ـ إلى جانب
الحداثة ـ الأصالة الضرورية للحفاظ على سلامة الشخصيّة الإنسانيّة من التشويه ، أو
الذوبان في غمرة المتغيّرات المتسارعة لحضارة ماديّة غير إنسانيّة ، هي الحضارة
الماديّة الحديثة.
إنّ النقص الذي يُعاني منه هذان
المنهجان يتلافاه ـ فيما نعتقد ـ المنهج الذي وضع هذا الكتاب وفقاً له ؛ فقد عالج
ثورة الحسين من زوايا جديدة ، وكشف عن أبعاد جديدة ، وأعماق بكر فيها جعلتها ـ من
خلال التفسير الذي قدّم هذا الكتاب ـ ذات مضمون يتّسق مع التطلّعات التي يحملها
الإنسان المعاصر إلى مجتمع تسوده العدالة ، وتحكم علاقاته الروح الإنسانيّة وكرامة
الإنسان.
وبذلك نأى بها عن أن تكون مجرّد مأساة
سببها ظلم البشر ، أو مظهراً لصراع عائلي وشخصي على السلطة والنفوذ ، ولم يُهمل في
الوقت نفسه جانب المأساة منها ، والعوامل الشخصيّة فيها ، هذه العوامل التي لوّنت
السلوك الثوري لهذا الفريق ، والسلوك القمعي لذاك الفريق دون الاعتراف بأنّ هذه
العوامل هي السبب الكامن وراء الثورة الحسينيّة ، حيث إنّ هذا السبب يكمن في
الإيديولوجيا التي وجّهت طرفي الصراع نحو الاختيارات المبدئية التي قادت كلاً
منهما إلى الاختيار الأخير الذي تمثل في الثورة الحسينيّة.
ويبدو أنّ هذا الكتاب للسبب الذي ذكرنا
قد لبّى حاجة حقيقية لدى المثقّفين بوجه عام ، والمعنيين بدراسة التأريخ الثوري
للإسلام بوجه خاص.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل
مباركاً ونافعاً ، والحمد لله ربّ العالمين.
|
بيروت
٢ / ٣ / ١٣٩٧
٢٠ / ٢ / ١٩٧٧
محمد مهدي شمس الدين
|
المقدّمة
إنّ أكثر ما استأثر باهتمام الناس من ثورة
الإمام الحسين عليهالسلام
هو جانب القصّة فيها ما اشتمل عليه من مظاهر البطولة النادرة ، والسمو الإنساني
المعجز لدى الثائرين وقائدهم العظيم ، المتمثل في التضحية بكلّ عزيز من النفس
والولد ، والمال والدعة ، والأمن في سبيل المبدأ والصالح العام ، مع الضعف والقلّة
، واليأس من النصر العسكري.
وما اشتمل عليه من مظاهر الجبن والخسّة
والانحطاط الإنساني لدى السلطة الحاكمة ، وممثلها وأدواتها في تنفيذ جريمتها
الوحشية بملاحقة الثائرين واستئصالهم بصورة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
وما اشتمل عليه من الأمثلة الفريدة على
الحبّ ، حبّ الثائرين لجلاّديهم ، وإشفاقهم عليهم من السلطة الجائرة التي تستخدمهم
، وتغرر بهم ، وتدفعهم إلى حرب القوى التي تريد لهم الخير والصلاح ، وحبّ الثائرين
بعضهم لبعض بحيث يدفع كلاً منهم إلى طلب الموت قبل صاحبه ؛ لئلا يرى صاحبه مقتولاً
قبله.
يُقابل ذلك أبشع مظاهر الحقد والبغضاء
لدى الحاكمين وأعوانهم ، المتمثلة في حرمان الثائرين وأطفالهم حتى من الماء ، وفي
قتل الأطفال والنساء.
إلى غير ذلك ممّا تعرضه قصّة هذه الثورة
من أنبل ما في الإنسان في الفكر والقول والعمل لدى الثائرين ، وأحطّ ما فيه من
غرائز لدى الحاكمين وأعوانهم ، وما نتج من تقابل هذه النماذج المتضادة من المثل ، والمبادئ
، والعواطف ، من مأساة دامية لا تزال تثير الأسى في قلب كلّ مَنْ سمعها أو قرأها.
وقد بلغ من قوّة تأثير الجانب القصصي
المأساوي من هذه الثورة ، بما له من دلالات مثيرة ، أنّه فرض نفسه على معظم مَنْ
كتب عنها ـ إن لم يكن كلّهم ـ فقصروا دراساتهم على هذا الجانب دون غيره.
ولكنّ الجانب القصصي ـ على ما له من
مزايا تربوية وتوجيهية ـ ليس كلّ ثورة الحسين عليهالسلام
؛ فإنّ أحداث هذه الثورة ، وكلّ ثورة ، ليست معلّقة في الفراغ ، وإنّما هي الجزاء
الظاهر من عملية تأريخيّة واسعة النطاق. فلكلّ ثورة جذور في نظام ومؤسسات المجتمع
الذي اندلعت فيه ، ولكلّ ثورة ظروف سياسية واجتماعية معينة ، ولكلّ ثورة ـ وإن
كانت فاشلة عسكرياً ـ آثار ونتائج.
ولا يمكن أن تُفهم الثورة على وجهها ما
لم تُدرس من جميع جوانبها : مقدّماتها ونتائجها.
وهو ما هدفت إليه في هذا الكتاب.
فقد حاولت فيه أن اُحلّل ثورة الحسين عليهالسلام بدراسة ظروفها التي
أحاطت بها ، والملابسات التي أدّت إليها ، والآثار التي نجمت عنها في الحياة
الإسلاميّة.
وهو حلقة من سلسلة كتب آمل أن يوفّقني
الله لإنجازها عن الثورات في التأريخ الإسلامي.
* * *
وأعتقد أنّ الثورات في التأريخ الإسلامي
لم تحظ بالعناية التي تستحقها من المؤرّخين والباحثين ؛ القدماء منهم والمتأخرين ،
بل انصبت عنايتهم على تأريخ السلطة الحاكمة التي تسبغ على نفسها صفة الشرعية ، أمّا
الثورات ـ وهي تُمثل الجانب الآخر من قصّة الحكم في الإسلام ـ فقد عولجت بصورة
جانبية ، وبروح معادية في كثير من الحالات.
وربّما كان السبب في ذلك هو أنّ المؤرّخ
القديم كان ـ في الأعمّ الأغلب ـ يكتب ما يكتب مقيّداً بتوجيه ، أو رغبة الحاكم
الذي يعيش في ظلّه ، وينفق عليه. وقد يتعدّى توجيه الحاكم للمؤرّخ عصره الذي يعيش
فيه إلى الأحداث والشخصيات الفكرية والسياسية الماضية التي لم تفقد تأثيرها على
الوضع السياسي والاجتماعي في عصر المؤرّخ.
ويبدو أنّ المؤرّخين المحدّثين قيّدوا
أنفسهم بالمنهج الذي اتّبعه القدماء في هذا الموضوع ، أو ربّما كان الذعر الذي
يثيره الحديث عن الثورة في مجتمع مستقر سبباً لدى بعضهم في تجنّب الحديث عن
الثورات والثائرين ، لاسيّما وأنّنا لم نبلغ بعد مرحلة من النضج الفكري نفرّق فيها
بين السياسة والعلم ، أو مرتبة من الأمانة تبعدنا عن أن نُكرّس البحث العلمي
لأغراض السياسة.
ولكن ـ مهما تكن المبرّرات ـ فإنّ إهمال
البحث الجاد المستوعب للثورات في التأريخ الإسلامي يجعل الصورة التأريخيّة مشوّهة
وناقصة ؛ لأنّ الثورة ـ كما قلت آنفاً ـ هي الوجه الآخر من الصورة التأريخيّة
للمجتمع الإسلامي ، ولا يمكن تكوين فكرة صادقة عن أوضاع المسلمين القديمة ما لم
نحط بالصورة من وجهيها.
وآمل أن يوفقني الله سبحانه وتعالى
لإنجاز سلسلة كتب عن الثورات في التأريخ الإسلامي تكشف عن ألوان من كفاح المسلمين
ـ عبر التأريخ ـ في سبيل تحسين أوضاعهم على هُدى من الشريعة الإسلاميّة.
وعسى أن أكون قد وفّقت في هذا الكتاب ـ
وهو أوّل ما يُنشر من حلقات هذه السلسلة ـ إلى الصواب في استنتاجاتي وأحكامي.
والله وراء القصد.
محمد مهدي شمس الدين
ملامح من ثورة الحسين عليهالسلام
محمد مهدي شمس الدين
الثورة الصحيحة هي الاحتجاج النهائي
الحاسم على الواقع المعاش ، فبعد أن تخفق جميع الوسائل الأخرى في تطوير الواقع
تصبح الثورة قدراً حتمياً لا بدّ منه.
والقائمون بالثورة الصحيحة هم دائماً
أصحّ أجزاء الأمّة ، هم الطّليعة ، هم النُّخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش ، وإنّما
بقيت في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه ، وتُعبه وترصده ، وتنفعل به ، وتتعذّب بسببه.
تُصبح الثورة قدر هذه النُّخبة ومصيرها
المحتوم حيث تُخفق جميع وسائل الإصلاح الأخرى ، وإلاّ فإنّ هذه النُّخبة تفقد
مبررات وجودها إذا لم تثر ، ولا يُمكن أن يُقال عنها أنّها نُخبة ، أنّها تكون
نُخبة حين يكون لها دور تأريخي ، وحين تقوم بهذا الدور.
ولا بدّ أن تُبشر بأخلاق جديدة إذا حدثت
في مجتمع ليس له تُراث ديني وإنساني يضمن لأفراده ـ لو اتّبع ـ حياة إنسانيّة
متكاملة ، أو تُحيي المبادئ
__________________
والقيم التي هجرها
المجتمع ، أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التراث ، كما هو الحال في المجتمع
الإسلامي الذي كانت سياسة الاُمويِّين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم
الإسلاميّة ، واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة ، وتوفّر هذا الهدف في الثورة
الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها ؛ لأنّ العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقات
منحطّة وفاسدة ، وموقف الإنسان من الحياة موقف متخاذل ، أو موسوم بالانحطاط
والانهيار ، ولذلك انتهى الواقع إلى حدّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد. وإذاً
فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق أسمى ممّا يمارسه المجتمع ضرورة لازمة ؛ لأنّه لا
بدّ أن تتغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه ، وإلى الآخرين وإلى الحياة ؛ ليمكن إصلاح
المجتمع.
ولقد قدّم الحسين عليهالسلام وأصحابه الأخلاق
الإسلاميّة العالية بكامل صفاتها ونقائها ، ولم يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا
اللون من الأخلاق بألسنتهم ، وإنّما كتبوه بدمائهم ، بحيواتهم ...
* * *
لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى
الزعيم القبلي ، أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال ، وبعرض الحياة الدنيا. لقد
اعتاد أن يرى الجباه تعنو خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير ؛ لمجرّد أنّه يملك أن يحرم
من العطاء. لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون ليزيد على علمهم بحقارته وانحطاطه
، وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله الحقير ، ومنبته الوضيع ، وخضعوا
لغير هذا وذلك من الطغاة ؛ لأنّ هؤلاء الطغاة يملكون الجاه ، والمال ، والنفوذ ، ولأنّ
التقرّب منهم ، والتودّد إليهم كفيل بأن يجعلهم ذوي نفوذ في المجتمع ، وأن يسبغ
عليهم النعمة والرفاه وهناءة العيش. وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كلّ شيء في سبيل
نيل هذه الحظوة ، كانوا يخونون مجتمعهم ، فيتمالؤون مع هؤلاء الطغاة على إذلال هذا
المجتمع وسحقه ،
وحرمانه ، وكانوا
يخونون ضمائرهم ، فيبتدعون من ألوان الكذب ما يدعم هذه العروش ، وكانوا يخونون
دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم.
كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي
آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال ، ويعرف لوناً آخر منهم ، وهم اُولئك الزهاد
الدجّالون الذين يتظاهرون بالزهد رياءً ونفاقاً ، حتّى إذا تقرّبوا من الطغاة
كانوا لهم أعواناً وأنصاراً. إنّهم هذا الصنف الذي وصفه الإمام علي عليهالسلام بقوله :
«ومنهم مَنْ يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا
يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف
من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية» .
هؤلاء هم الزعماء الذي كان الرجل العادي
يعرفهم وقد اعتادهم وألِفَهم ، بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير التساؤل.
ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من
المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يخيّر بين حياة رافهة فيها الغنى ، وفيها المتعة ،
وفيها النفوذ والطاعة ، ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية ، والإسهام معه
في طغيانه ، والمساومة على المبدأ والخيانة له ، وبين الموت عطشاً ، مع قتل الصفوة
الخلّص من أصحابه ، وأولاده وإخوته ، وأهل بيته جميعاً أمامه ، وحيث تنظر إليهم
عينه في ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ ، وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدوّاً
هائلاً يريد لهم الموت ، أو هذا اللون من الحياة ، ثمّ يرى مصارعهم واحداً بعد
واحد ، وأنّه ليعلم أي مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده ؛ سبي ، وتشريد ،
ونقل من بلد إلى بلد ، وحرمان ...
__________________
يعلم ذلك كلّه ثمّ
يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة.
لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء يروا إنساناً
كهذا ... لقد اعتادوا على زعماء يمرّغون بجباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من
هذا بكثير أمثال عمر بن سعد ، والأشعث بن قيس ونظائرهما. تعوّدوا على هؤلاء فكان
غريباً عليهم أن يُشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان ، هذا النموذج الذي
تعالى ويتعالى حتّى ليكاد القائل أن يقول : ما هذا بشر ...
ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق ... هذا
اللون من السلوك الضّمير المسلم هزّاً مُتداركاً ، وأيقظه من سُباته المَرضي
الطويل ؛ ليُشاهد صفحة جديدة مشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشّرف والمبدأ ، والحياة
العارية من الذلّ والعبودية. ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها ، وعن زيف
الزّعماء ـ أصناف اللّحم ـ الذين يعبدهم ، وشق له طريقاً جديداً في العمل ، وقدّم
له أسلوباً جديداً في ممارسة الحياة ، فيه قسوة ، وفيه حرمان ، ولكنّه طريق مضيء
لا طريق غيره جدير بالإنسان.
ولقد غدا هذا اللون المشرق من الأخلاق ،
وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على حاكم يُجافي روح الإسلام في حكمه.
إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المُضيئة ، ولكنّ الذي يتأثّر هي
الأمّة ، وهذا هو ما كان يريده الحسين عليهالسلام
: لقد كان يريد شقّ الطريق للأمّة المُستعبدة لتُناضل عن إنسانيتها.
وفي جميع مراحل الثورة ، مُنذ بدايتها
في المدينة حتّى ختامها الدّامي في كربلاء نلمح التصميم على هذا النمط العالي من
السلوك.
ها هو الحسين عليهالسلام يقول لأخيه محمد بن
الحنفيّة
، وهما بعد في المدينة ،
«يا أخي ، والله لو
لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لما بايعت يزيد بن معاوية» .
وها هو يتمثّل بأبيات يزيد بن مفرغ
الحميري حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة :
لا ذُعِرَتُ السّوامَ في فلقِ الصّبحِ
|
|
مُغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا
|
يوم أُعطي على المهانةِ ضيماً
|
|
والمنايا تَرصَدنني أن أحيدا
|
وها هو يُجيب الحر بن يزيد الرياحي حين قال له : أذكرك الله في نفسك ؛
فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ، ولئن قُوتلت لتهلكن. فقال له الحسين عليهالسلام : «أبالموت
تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال
أخو الأوس لابن عمّه ـ ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ فقال له : أين
تذهب فإنّك مقتول ، فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى
|
|
إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما
|
وواسى رجالاً صالحينَ بنفسه
|
|
وخالفَ مثبوراً وفارقَ مجرما
|
فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم
|
|
كفى بكَ ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما»
|
__________________
وها هو ـ وقد أُحيط به ، وقيل له : انزل
على حكم بني عمّك ـ يقول : «لا والله ، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أُقرّ
إقرار العبيد ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة
والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت
، وحجور طهرت ، واُنوف حمية ، ونفوس أبيّة لا تُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»
.
كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي
اختطّه الحسين عليهالسلام
لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء ، وألهب به الرّوح الإسلاميّة بعد ذلك ، وبثّ فيها
قوّة جديدة.
* * *
لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون
والسياسيون يُمارسون حياتهم ، وهذا يرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها
الإنسان العادي إذ ذاك. لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصة ، يعمل لها ،
ويكدح في سبيلها ، ولا يُفكّر إلاّ فيها ، فإذا اتّسع أُفقه كانت القبيلة محل
اهتمامه. أمّا المجتمع وآلامه ، المجمع الكبير فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي
بأي اهتمام. كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه ، لقد كان العمل فيها وظيفة
زُعمائه الدينيين والسياسيين ، يُفكّرون ويرسمون خُطّة العمل ، وعليه أن يسير فقط
، فلم تكن للرّجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.
وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه ،
فيُحافظ عليه ، ويُطيع توجيهات زُعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء ، ويسكت عن
نقد ما يراه جوراً
__________________
بسبب ذلك ، وكان
يهتمّ بمفاخر قبيلته ، ومثالب غيرها من القبائل ، ويروي الأشعار في هذا وذاك.
وهذا مُخطّط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.
أمّا أصحاب الحسين عليهالسلام فقد كان لهم شأن
آخر.
لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليهالسلام وشاركته في مصيره
رجالاً عاديين ، لكلّ منهم بيت وزوجة ، وأطفال وصداقات ، ولكلّ منهم عطاء من بيت
المال ، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا ، في حياته مُتّسع للاستمتاع
بالحُبّ وطيّبات الحياة ، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه ، وواجهوا مُجتمعهم
بعزمهم على الموت مع الحسين عليهالسلام
... لقد ثاروا على مُجتمعهم القبلي ، وعلى مُجتمعهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به
، وصمّموا على الموت في سبيله.
* * *
ولقد عملت هذه الأخلاق عملها في إكساب
الحياة الإسلاميّة سِمَة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليهالسلام بوقت طويل ، ذلك هو
الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه بسلوك
الثائرين في كربلاء ، قد بدأ الحكام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء
الرجال العاديين ، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها
الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام ، وعدم
استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت رُوح كربلاء تلهب أكثر
القائمين بها ، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.
ولقد تحطّمت دولة أُميّة بهذه الثورات ،
وقامت دولة العبّاسيين بوحي من الأفكار التي كانت تُبشر بها هذه الثورات. ولمّا تبيّن
للناس أنّ العبّاسيين
كمَنْ سبقهم لم
يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات التي تقودها رُوح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ
ظلم وطُغيان وفساد. ولئن تغيّرت أساليب الصراع اليوم فإنّ روح كربلاء هي التي يجب
أن تقود خُطى المسلمين في كفاحهم للمبادئ المعادية للإسلام ، وهي الكفيلة بأن
تقودهم ـ في النهاية ـ إلى النصر إن تمسّكوا بها واستلهموها ، وكانوا لباعثيها ـ
أهل البيت عليهمالسلام
ـ أتباعاً.
محمد مهدي شمس الدين
الفصل الأوّل
الظروف السياسيّة
والاجتماعيّة
الحكم الاُموي كما صوّره
خليفة اُموي
فَدَعْ عنكَ ادّكارَكَ آلَ سعدى
|
|
فنحنُ الأكثرونَ حصىً ومالا
|
ونحنُ المالكونَ الناسَ قسرا
|
|
نسومُهمُ المذلّةَ والنّكالا
|
ونوردُهم حياضَ الخسفِ ذُلاً
|
|
وما نألوهُمُ إلاّ خبالا
|
الوليد بن يزيد الاُموي
بُويع بالخلافة يوم الأربعاء ٦ / ربيع
الثاني / سنة ١٢٥ هـ ـ ٧٤٣ م ، وقُتل بالبَحراء (قرية من قرى دمشق) يوم الخميس ٢٨
/ جمادى الثانية / سنة ١٢٦ هـ ـ ٧٤٤ م.
تمهيد
لعلّ أصعب ما يواجه الباحث المؤرّخ هو
أن يضع خطّاً حاسماً يفصل بين مرحلتين تأريخيتين لمُجتمع ما ؛ فإنّ تحوّل المُجتمع
من حالة إلى أُخرى بطيء وتدريجي ، ولذلك فمن العسير تعيين وحدة زمنية والقول
بأنّها خاتمة عهد وبداية عهد جديد.
وهذه هي الصعوبة التي نواجهها هنا حين
نبغي وضع تحديد زماني دقيق للمرحلة التأريخيّة التي بدأت الأمّة المُسلمة تشهد
فيها الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام ، ولكنّنا نستطيع أن نشهد هذا التحوّل
واضحاً منذ بداية النصف الثاني من عهد عثمان.
ومن الطبيعي إذاً أن تكون قد أعدّت
ومهّدت سبيل الظهور لهذا التّيار الجديد في المُجتمع أحداث وأشكال جديدة في
التنظيم نشأ ـ هذا التيار ـ من تفاعلها مع ذهنية الفئات التي كانت تحكم المُجتمع
الإسلامي آنذاك وتقوده.
وعلينا ـ لكي تستوفي هذه الدراسة شروط
البحث الموضوعي ـ ألاّ نكتفي بالظواهر فقط ، بل نمضي في البحث عن جذور هذه الظواهر
في تصرّفات الجماعات والرجال الذين صاغوا تأريخ هذه الفترة ، مُنبّهين إلى
أنّنا هنا إنّما نبحث
عن طبيعة الأحداث وآليتها ، ومدى مساهمتها في التّعجيل بظهور هذا التّيار الجديد
في الحياة الإسلاميّة ، دون أن نعني بإصدار حكم أخلاقي على الرجال الذين صنعوا
تأريخ هذه الفترة ، أو الأعمال التي كوّنت هذا التأريخ ، بل نهدف من بحثنا إلى
اكتشاف الظروف الاجتماعيّة والإنسانيّة التي مهّدت لثورة الحسين عليهالسلام ؛ لاعتقادنا بأنّ
هذه الثورة كغيرها من الأحداث الاجتماعيّة الهامّة لم تكن وليدة اندفاعات وقتيّة ،
وإنّما كانت نتاجاً للظروف الاجتماعيّة التي سبقتها.
ـ ١ ـ
وإذا استعرضنا جملة الأحداث التي كان
لها تأثير في التّمهيد للتّطورات الكبرى في عهد عثمان وجدناها كثيرة ، ولعلّ أهمّها
ثلاثة : منطق السّقيفة ، ومبدأ عمر في العطاء ، وحادثة الشورى. ونظراً لِما لهذه
الأحداث من أهميّة بالغة في تكوين هذه الفترة فإنّنا نخصّ كلّ واحد منها بشيء من
الحديث.
أ ـ منطق السّقيفة :
لا يسع الباحث أن يُنكر أنّ وفاة النبي صلىاللهعليهوآله قد كشفت عن أنّ
الرّوح القبلية كانت لا تزال مُتمكّنة في نفوس كثير من المسلمين ، فقد عبّرت هذه
الرّوح عن نفسها في أعمال الرجال الذين ظهروا على الصعيد السياسي في المدينة بعد
وفاة النبي صلىاللهعليهوآله
بساعات ، وتحكّمت في توجيه سير الأحداث التي توالت بسرعة مذهلة.
ففي سقيفة بني سعادة اجتمع الأنصار
يتداولون ـ بمعزل عن سائر المسلمين ـ في مسألة الحكم بعد النبي صلىاللهعليهوآله ، ويرون أنّه من
حقّهم ، بينما تكتّل ضدّهم فريق من القرشيين يُنازعهم هذا الأمر ، مع العلم بأنّ
النبي صلىاللهعليهوآله
لم يُفارقهم إلاّ بعد أن عهد بالحكم من بعده إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي لم يشترك في
أحداث السّقيفة ؛ بسبب انشغاله مع الهاشميّين وبعض الأنصار بجثمان النبي صلىاللهعليهوآله الذي كان لم يُدفن
بعد ، ولكنّ تيّار الأحداث الجارف ، وتسابق الكُتل السياسيّة إلى اغتنام فرصة
الذّهول الذي أصاب أكثر المسلمين لوفاة النبي صلىاللهعليهوآله
من أجل الوصول إلى الحكم ، حمل الجميع على تناسي عهد النبي صلىاللهعليهوآله إلى علي بن أبي
طالب عليهالسلام
، وقد تولّى عمر في خلافته تبرير هذا الموقف في عدّة أحاديث له مع عبد الله بن
عباس .
وإذا فحصنا المنطق الذي استُخدم في
الجدل الذي دار آنذاك بين المهاجرين والأنصار نجد أنّ الرّوح القبلية ظاهرة فيه
ظهوراً بيّناً ؛ فقد أثار كلام أبي بكر الأحقاد والإحن الكامنة بين الأوس والخزرج
، وأغرى بينهما ؛ حيث تحدّث عمّا بين الحيين من القتلى ، وعن الجُراح التي لا
تُداوى ، بينما
__________________
نرى أنّ الحبّاب بن
المنذر ، خطيب الأنصار ـ قد تكلّم بنفس جاهلي صرف حين تحدّث إلى الأنصار يُهيجهم
ويشدّ من عزائمهم. ولم يخرج لسان المهاجرين عن هذه الرّوح حين قال :
«مَنْ يُنازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه
وعشيرته»
وقد سارت الأحداث في الاتّجاه الذي رسمه
أبو بكر ؛ فانقسم الأنصار بتأثير الرّوح القبلية التي تأججت ، وانخذل سعد بن عبادة
الخزرجي ـ مُرشحهم للخلاقة ـ حيث بادرت الأوس فبايعت أبا بكر .
هذه الرّوح القبلية التي عبّرت عن نفسها
يوم السّقيفة فتحت على المسلمين باباً من أبواب الفتنة.
فقد خرجت قريش من هذه التّجربة وهي ترى
أنّ الحكم حقّ من حقوقها. وأنّ الخلافة وراثة آلت إليها بحكم كون نبيّ المسلمين
منها. ممّا سبّب أسوأ الآثار في فهم القرشيين لمهمّة الحكم في الإسلام. وستظهر هذه
الآثار واضحة في عهد عثمان.
__________________
ب ـ مبدأ عمر في العطاء :
سوّى النبي صلىاللهعليهوآله بين المسلمين في
العطاء ، فلم يُفضّل أحداً منهم على أحد ، وجرى على مبدأ التّسوية في العطاء أبو
بكر مدّة خلافته ، أمّا عمر فقد جرى ـ حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة ـ على
مبدأ التّفضيل :
«ففضّل السابقين على غيرهم ، وفضّل المهاجرين
من قريش على غيرهم من المهاجرين ، وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار كافّة ، وفضّل
العرب على العجم ، وفضّل الصريح على المولى»
وفضّل مضر على ربيعة ، ففرض لمضر في
ثلاثمئة ، ولربيعة في مائتين
، وفضّل الأوس على الخزرج .
وقد ولّد هذا المبدأ فيما بعد أسوأ
الآثار في الحياة الإسلاميّة ؛ حيث إنّه وضع أساس تكوّن الطبقات في المجتمع
الإسلامي ، وجعل المزية الدينية من سُبل التفوّق المادي ، وزََوّد الإرستقراطية
القرشية التي مكّنت لنفسها من جديد بتمكّن أبي بكر من الحكم بمبرر جديد للاستعلاء
والتحكّم بمقدّرات المسلمين ، فجميع اعتبارات التفضيل تجعل القرشيين أفضل في
العطاء من غير القرشيين
، وهذا يعني أنّ قريشاً هي أفضل النّاس ؛ لأنّها قريش ، وكفى بهذا مبرراً للتحكيم
والاستعلاء.
وقد كوّن هذا المبدأ سبباً جديداً من
أسباب الصراع القبلي بين ربيعة
__________________
ومضر وبين الأوس
والخزرج بما تضمّن من تفضيل سائر مضر على سائر ربيعة ، وتفضيل الأوس على الخزرج. ونظن
أن هذا المبدأ قد أرسى أوّل أساس من أسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم
من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم ، والصّريح على المولى.
وكأنّ عمر قد أدرك في آخر أيّامه
الأخطار السياسيّة والاجتماعيّة التي يؤدّي إليها مبدؤه هذا ، ولعلّه رأى بعض
الآثار الضّارة التي خلّفها هذا المبدأ في حياة المسلمين ، ومنها هذه الظاهرة التي
دلّت على تسرّب روح التحزّب والانقسام إلى مجتمع المدينة ، والتي لاحظها عمر وحذّر
منها بقوله :
«بلغني أنّكم تتّخذون مجالس ، لا يجلس
اثنان معاً حتّى يُقال : من صحابة فلان ، من جلساء فلان ، حتّى تُحُوميت المجالس.
وأيم الله إنّ هذا لسريع في دينكم ، سريع في شرفكم ، سريع في ذات بينكم ...» .
ولذلك أعلن عزمه على الرجوع إلى المبدأ
النبويّ في العطاء فقال :
«إنّي كنت تألّفت الناس بما صنعت في
تفضيل بعض على بعض ، وإن عشت هذه السّنَة ساويت بين الناس فلم أفضّل أحمر على أسود
، ولا عربياً على أعجمي ، وصنعت كما صنع رسول الله وأبو بكر» .
ولكنّ عمر قُتل قبل أن يرجع عن هذا
المبدأ ، فجاء عهد عثمان وسار عليه ، فظهرت آثاره الضّارة في الحياة الإسلاميّة ،
وكان من أهم العوامل التي مهّدت للفتنة بين المسلمين.
__________________
ج ـ الشورى
وإذا كان التفضيل في العطاء قد خلق
شعوراً بالامتياز والتفرّد لدى قريش فإنّ الشّورى التي اقترحها عمر قد أثارت في
نفوس كثير من الأشخاص البارزين في قريش آنذاك ، وفي نفوس قبائلهم وأنصارهم مطامح
سياسية ما كانوا ليحلموا بها ؛ فقد جعل عمر الشّورى في ستة نفر من قريش ، وكلّهم
مرشّح للخلافة. وها نحن نُثبت هنا نصّاً يصوّر لنا توزيع القوى السياسيّة أمام
الحدث الذي يوشك أن يقع ، وهو بيعة خليفة جديد للمسلمين بعد عمر بن الخطّاب من بين
هؤلاء المرشّحين :
«... فخرج عبد الرحمن ـ ابن عوف ـ فمكث
ثلاثة أيّام يُشاور الناس ثمّ رجع ، واجتمع الناس وكثروا على الباب ، لا يشكّون
أنّه يبايع علي بن أبي طالب عليهالسلام
، وكان هوى قريش كافّة ـ ما عدا بني هاشم ـ
في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي عليهالسلام
، وهوى طائفة أخرى مع عثمان ، وهي أقل الطائفتين» .
فالناس يريدون علياً عليهالسلام ؛ لأنّهم يخشون
سلطان بني أُميّة ، أمّا قريش فهي تخشى علياً وعدله واستقامته ، ولعلّ كثيرين منهم
كانوا على علم ببعض آرائه في المال والاجتماع والولايات ، وأمّا الأنصار فكثرتهم
مع علي عليهالسلام
، وقلّتهم مع عثمان ، وهذا طبيعي ؛ بسبب خوفهم من تسلّط قريش على جميع مقدّرات
الدولة.
وقد سيطر منطق السّقيفة القبلي على بني
أُميّة في الجدل الذي دار في
__________________
مسجد النبي صلىاللهعليهوآله في المدينة ، والذي
سبق البيعة لعثمان وبدا واضحاً أنّ قريشاً اعتبرت الخلافة مؤسسة من مؤسساتها ، وشأناً
من شؤونها الخاصّة ، وليس لأيّ من المسلمين أن يتقدّم في الخلافة برأي يتنافى
ورغباتها.
هذا عبد الله بن أبي ربيعة بن المُغيرة
المخزومي يقول للمقداد بن عمرو :
«يابن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك
يجترئ على الدخول في أمر قريش» .
وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح
الاُموي :
«أيّها الملأ ، إنّ أردتم ألاّ تختلف
قريش فيما بينها فبايعوا عثمان» .
أمّا عمار بن ياسر قال :
«إنّ أردتم ألاّ يختلف المسلمون فيما
بينهم فبايعوا علياً» .
فعلي كان مرشح الأكثرية المسلمة ، ولكن
عثمان ـ مرشح الأُرستقراطية القرشية ـ فاز بالبيعة دون علي بن أبي طالب.
فقد آلت الشّورى إذاً في النتيجة إلى
استيلاء الاُمويِّين ـ في شخص عثمان ـ على الحكم ، ولكنّها خلقت مواقف مختلفة من
هذه النتيجة ، حيث بدأ التفكير في الخلافة يتسرّب إلى نفوس هؤلاء المرشّحين من
رجال الشّورى ، وغدا كلّ واحد منهم يرجوها لنفسه بعد أن رشّحه لها عمر. وطمح إلى
الخلافة رجال غير رجال الشّورى من قريش ؛ لأنّهم رأوا أنّ بعض مَنْ رشّحهم عمر لا
يفضلونهم في شيء ، بل ربّما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة.
__________________
وكان لنظام الشّورى أسوأ الأثر في
نفسيّات الأنصار ، هؤلاء الذين وعدوا في السّقيفة أن يكونوا وزراء وشركاء في الحكم
، وإذا بهم يُحرمون من كلّ شيء حتّى من حقّ المشورة. أضف إلى هذا : إنّ النتيجة
التي آلت إليها لم تكن مُرضية لهم ؛ فقد رأوا في انتصار الاُمويِّين انتصار
لأعدائهم القدماء من مشركي مكّة.
وقد عبّر علي بن أبي طالب عليهالسلام عن عدم رضاه عن هذه
النتيجة ، وتسليمه بالأمر الواقع قائلاً :
«لأُسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم
يكن فيها جوز إلاّ عليّ خاصّة» .
بينما أخذ الطّامحون إلى الخلافة يجمعون
الأنصار حولهم في الخفاء ، ويستعينون على ذلك بأموالهم وقبائلهم ، وإنشاء علاقات
المصاهرة مع القبائل الأخرى ، حتّى إذا تقدّم العمر بخلافة عثمان قليلا ظهرت هذه
الأحزاب إلى العلن تعمل في سبيل هدفها الفريد. وكانت عاقبة الشّورى أنّها سبّبت
نُشوء هذه الأحزاب القائمة على الولاء لأشخاص مُعيّنين ذوي أهداف شخصيّة في الوصول
إلى الحكم ، مستغلّة أسباب الشّكوى والاستياء من عثمان وبطانته وولاته على الأمصار.
وقد روى ابن عبد ربّه حديثاً لمعاوية بن أبي سفيان اعترف فيه بأنّه :
«لم يُشتّت بين المسلمين ولا فرّق
أهواءهم إلاّ الشّورى التي جعلها عمر في ستة نفر ... لم يكن رجل منهم رجاها لنفسه
، ورجاها له قومه ، وتطلّعت إلى ذلك نفسه» .
__________________
هذه هي الأحداث التي نرى أنّها تتّصل
اتصالاً وثيقاً بالفتنة التي أصابت المسلمين في عهد عثمان ، فقد تفاعلت هذه
الأحداث فيما بينها ، وتفاعلت مجتمعة مع أسلوب عثمان في سياسة المال ، والإدارة ،
والاجتماع ، فكان من ذلك جميعاً الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام الذي وصل
بالمأساة إلى قمّتها فدفع بالمسلمين إلى الثورة ، وانتهى بهم إلى شرّ ما كانوا
يحذرون.
ـ ٢ ـ
وسار عثمان حين ولي الخلافة على سياسة
في المال لم يعهدها المسلمون ممّن تقدّمه ، ولم يألفوها ؛ فقد راح يغدق الهبات
الضخمة على آله وذويه وغيرهم من أعيان قريش ، وعلى بعض أعضاء الشّورى بصورة خاصّة.
ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصّة لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنّها كانت من
بيت المال الذي يشترك فيه المسلمون جميعاً. وقد سار عمّال عثمان في أنحاء الخلافة
سيرته في المدينة ، فانكفؤوا على بيوت الأموال المحلية ينفقونها على آلهم وأنصارهم
والمقرّبين إليهم
..
وقام عثمان بإجراء مالي فتح به للطّبقة
الثريّة التي كان يخصّها بهباته وعطاياه أبواباً من النشاط المالي ، وأتاح لهم فرص
التّمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك حين اقترح أن ينقل الناس فيهم من الأرض إلى
حيث أقاموا ؛ فلمَنْ كان له أرض في العراق ، أو في الشام ، أو في مصر أن يبيعها
ممّن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب. وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من
هذا الإجراء ، فاشتروا بأموالهم المُكدّسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا بأرضهم
الحجاز أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والأحرار يعملون فيها
ويستثمرونها ، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً ، وازدادت هذه الطّبقة الطّامحة
إلى الحكم والطّامحة إلى السيادة قوّة إلى قوّتها.
وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على
هذه الثروات الضّخمة في ذلك الوقت.
__________________
«فقد بلغت ثورة الزبير خمسين ألف دينار
، وألف فرس ، وألف عبد ، وضياعاً وخططاً في البصرة ، والكوفة ، ومضر ، والإسكندرية.
وكانت غلّة طلحة بن عبيد الله من العراق
كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر ، وبناحية الشّراة أكثر ممّا ذكرنا.
وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة
فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف شاة ، وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين
ألفاً.
وحين مات زيد بن ثابت خلّف من الذهب
والفضة ما كان يُكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار.
ومات يعلى بن مُنبه وخلّف خمسمئة ألف
دينار ، وديوناً ، وعقارات وغير ذلك ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار.
أمّا عثمان نفسه فكان له يوم قُتل عند
خازنه مئة وخمسون ألف دينار ، ومليون درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى ، وحنين
وغيرهما مئة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً».
ثمّ قال المسعودي بعد ذلك :
«وهذا باب يتّسع ذكره ، ويكثر وصفه
فيمَنْ تملّك الأموال في أيّامه» .
__________________
وقد جدّت إلى جانب هذه الطّبقة الثريّة
طبقة أُخرى فقيرة ، لم تملك أرضاً ولا مالاً ، وليس لها عطاءات ضخمة ، تلك هي طبقة
الجنود المُقاتلين وأهلهم وذراريهم. وقد تكوّنت هذه الطبقة باستئثار عثمان وعمّاله
بالفيء والغنائم لأنفسهم والمُقرّبين منهم ، وحرمان المقاتلين منها ؛ مدّعين أنّ
الفيء لله وليس للمحارب إلاّ أجر قليل يُدفع إليه .
أمّا السّواد ، سواد العراق ، فهو ـ على
حدّ تعبير سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة ـ
«بُستان لقريش ، ما شئنا أخذنا منه وما
شئنا تركناه» .
وأمّا أموال بيت المال فقد قال عثمان
نفسه عنها :
«لنأخُذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت
أُنوف أقوام» .
ومضت الأيّام ، والأحداث تزيد الهُوّة
اتّساعاً بين هاتين الطبقتين ؛ فبينما تزداد الطّبقة الإرستقراطية الثريّة ثراء
وتسلّطاً ، وتُمعن في اللهو والبطالة والعبث بحيث يُشارك بعض أولاد الخليفة نفسه
في اللهو الحرام والمجون
، تُزداد الطّبقة الأُخرى فقراً وإحساساً بهذا الفقر.
ولم يكن المُسلمون بحاجة إلى وقت طويل
ليتبيّن لهم أنّهم حين بايعوا عثمان قد سلّموا السّلطان الفعلي على المُسلمين إلى
آله وذوي قرابته من بني
__________________
أُميّة وآل أبي معيط
؛ فقد اتّضح في وقت مبكّر أنّ عثمان ليس إلاّ واجهة يكمن خلفها الاُمويّون. وسرعان
ما عزّزت الأحداث هذا ؛ وذلك إنّ عثمان أسند إلى آله وذويه الولايات الكبرى في
دولة الخلافة ، وهي : البصرة والكوفة ، والشام ومصر ، وهذه الولايات الكبرى الأربع
هي الولايات ذات المنزلة العظيمة في الحرب والاقتصاد والاجتماع. فهي مركز الثروة
المالية ، والزراعية لدولة الخلافة منها تُحمل الأموال والأقوات ، وهي مركز تجمّع
الجيوش الإسلاميّة الوافدة من شتى بقاع الدولة ، وهي مركز عمليات الفتح الكبرى
التي كانت إذ ذاك لا تزال في أوجها ، وما عدا هذه الولايات فذو شأن ثانوي لا يُؤبه
له ، ولا يُلتف إليه.
لقد ولّى عثمان على البصرة ابن خاله عبد
الله بن عامر بن كريز ، وعمره خمس وعشرون سنة ، وولّى على الكوفة أخاه الوليد بن
عقبة بن أبي معيط ، ثمّ عزله تحت ضغط الرأي العام بعد أن ثبت عليه شرب الخمر
والتهتّك ، وولّى مكانه سعيد بن العاص ، وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن
فضمّ إليه عثمان ولاية حمص ، وفلسطين ، والجزيرة ، وبذلك مدّ له في أسباب السّلطان
إلى أبعد مدى مُستطاع ، وولّى مصر أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
كان هؤلاء الولاة جميعاً من قرابة عثمان
، ولم يكن سلوكهم الديني أو الإداري أو هما معاً في أمصارهم ومع رعيتهم مُرضياً
ومقبولاً ؛ فقد كانوا جميعاً من قريش ، وكانوا في تصرّفاتهم لا يخفون قبليتهم
وتعصّبهم على غير قريش من قبائل العرب ؛ ففي الكوفة تجبّر سعيد بن العاص وتعصّب
لقريش ، وقال :
«إنّما السّواد بُستان لقريش ما شئنا
أخذنا منه وما شئنا تركناه».
فلمّا اعترضه المسلمون من غير قريش
نفاهم إلى الشام ، وإذا بمعاوية
يناظرهم في فضل قريش
وتقدّمها على سائر المسلمين ، فلمّا أنكروا عليه ذلك نفاهم إلى الجزيرة ـ وأميرها
من قبل معاوية عبد الله بن خالد بن الوليد المخزومي ـ فأذلّهم ، وأظهر لهم سيادة
قريش بامتهانه لهم ، وتحقيره لشأنهم ، وحطّه من مقامهم وفي مصر قسا عبد الله بن
سعد في جباية الخراج ، فظلم وأسرف في الظلم ، ثمّ أظهر من العصبيّة لقريش ما أثار
غير قريش من العرب المسلمين ودفعهم إلى أن يشكوه إلى عثمان ، فلمّا كتب إليه عثمان
يأمره بالإقلاع عمّا هو عليه عدا على الشهود فعاقبهم ، وضرب رجلاً منهم حتّى قتله.
ولم يكن ولاة عثمان هؤلاء من ذوي
السابقة في الدين والجهاد في الإسلام ، وإنّما كانوا متّهمين في دينهم ، بل كان
فيهم من أمره في الفسق ورِقّة الدين معروف مشهور. كان فيهم عبد الله بن سعد الذي
بالغ في إيذاء النبي صلىاللهعليهوآله
والسُّخر منه ، وبالغ في الهُزء بالقرآن حتّى نزل القرآن بكفره ، والوليد بن عقبة
ممّن أمره في الفُسق معروف مشهور ، وقد نزل فيه قرآن يُعلن فسقه.
وكان المُسلمون ـ أعيانهم وعامّتهم ـ
يُراجعون عثمان في شأن هؤلاء الولاة من أقاربه ، ويطلبون منه عزلهم فلا يعزلهم ،
ولا يسمع فيهم أيّة شكوى إلاّ كارهاً.
هذه السياسة التي سلكها عثمان في
الولايات أثارت عليه وعلى عهده موجة عامّة من السّخط بين المسلمين ؛ لِما رأوه فيه
من عصبية قبلية يمارسها هو وولاته من قريش.
وأثارت عليه سخط المسلمين والمعاهدين من
غير العرب ؛ لِما عوملوا به من امتهان وقسوة من قبل ولاته وعمّاله.
وأثارت عليه سخط الصحابة ؛ لأنّه ولّى
أمور المسلمين وأموالهم وأبشارهم هؤلاء الغُلمة القرشيين الذين لا يحترمون الدين
ولا يأبهون له ،
والذين يظلمون دون
أن يَردوا من قِبل عثمان.
وأثارت عليه سخط الأنصار ؛ لأنّهم
حُرموا من الولايات بعد أن وعُدوا بأن يكونوا شركاء في الحكم ، ولم ينس الأنصار
يوماً أنّ سيوفهم وقتلاهم وأموالهم هي التي بوّأت قريشاً هذه المنزلة.
وأثارت سخط شباب قريش والطامحين إلى
الحكم من أعضاء الشورى ؛ لأنّهم أُهملوا ولم ينالوا ولاية من هذه الولايات.
* * *
ولقد كان سُلوك عثمان إزاء مُعارضي
سياسته في المال والإدارة من كبار الصحابة سبباً في مُضاعفة النّقمة عليه في قريش
وفي عامّة المسلمين ، وعاملاً مهمّاً من عوامل تعقيد الأزمة التي عاناها عثمان
وعاناها المسلمون في عهد عثمان.
فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة
عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة ، وكان خازناً لبيت المال ، فاعترضه عثمان
بقوله : «إنّما أنت خازن لنا».
ثمّ اشتدّت معارضة ابن مسعود فأمر عثمان
بضربه حتّى كسر بعض أضلاعه.
وعارضه أبو ذرّ الغفاري فنفاه إلى الشام
، فلم يكُفّ عن المُعارضة ، بلأمدته أساليب معاوية في الناس بمادة جديدة ، فأخذ
ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة ، وصادف كلامه هوى في نفوس رعية
معاوية ، فكتب بشأنه إلى عثمان ، فأرسل إليه عثمان :
«أرسل إليّ جندباً ـ وهذا اسم أبي ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره».
فوصل أبو ذرّ إلى المدينة وقد تآكل لحم
فخذيه من عنف السير ، ولكنّه لم
يكُفّ عن المعارضة
أيضاً ، فنفاه عثمان إلى الربذة ، ولبث فيها حتّى مات غريباً وحيداً سنة ٣٢ هـ.
وعارضه عمّار بن ياسر حليف بني مخزوم ، فشتمه
عثمان وضربه حتّى غُشي عليه سائر النهار ، ولكنّ هذا العنف لم يثنِ عماراً فاستمر
في معارضته ، فشتمه عثمان وأمر به فطرح على الأرض ، ووطئه برجليه وهما في الخف
حتّى أصابه الفتق.
وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من
المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يقدم عليها ، والسياسة التي كان ينتهجها ،
فلم يسمع منهم ولم يستجيب لهم.
وقد كانت هذه المُعارضة تشيع في
المسلمين فينتظرون من عثمان أن يستجيب لها ؛ لأنّها كانت معارضة قائمة على إدراك
حاجات المجتمع ، وكانت تعبيراً عن عدم رضا المسلمين عن السياسة التي كانوا يُساسون
بها ، ولكنّهم بدل ذلك كانوا يرون ويسمعون أنّ عثمان وآله قد نكّلوا بالمعارضين
هذا التنكيل الشديد ، ومسّوهم بهذا الأذى البالغ ، ولم يستجيبوا إلى شيء ممّا دعوا
إليه.
وقد أثار موقفه هذا سخط عامّة المسلمين
؛ فهؤلاء المعارضون من أعلام الصحابة وأركان الدعوة ، يمتهنهم عثمان ويضطهدهم
لدعائهم إيّاه إلى الإصلاح في الوقت الذي يسمع فيه من مروان بن الحكم وأشباهه من
بني أُميّة وأنصارهم من مسلمة الفتح الطلقاء ، الذين ليس لهم سابقة ولا مكانة في
الإسلام.
وهؤلاء المعارضون كانوا يعبّرون بمعارضتهم هذه
عن إرادة جميع المسلمين الذي آذتهم سياسة عثمان في كراماتهم وأرزاقهم ، ولم يُفسّر
المسلمون موقف عثمان من المعارضين إلاّ بأنّه عازم على المضي في سياسته دون
الالتفات إلى أيّ نُصح أو تحذير.
وإلى جانب هذه المعارضة الصادقة المخلصة
، الهادفة إلى خير المسلمين
جميعاً كانت توجد
معارضة أخرى مدفوعة بأسباب مُغايرة ، وتستهدف نتائج مُغايرة. وقد رأى زعماء هذه
المعارضة في فساد الأوضاع العامّة ، وشيوع التذمّر والنقد فرصة يستغلّونها
لاستعجال نهاية عهد عثمان التي تُمكّنهم من الوصول إلى مآربهم ، فأخذوا يُساهمون
في نشر رُوح التذمّر وتعميقها.
وقد مكّن عثمان بسياسته الإدارية لهذه
الطائفة من معارضيه أسباب القوّة والنفوذ ؛ وذلك حين أطلق لها أن تُنمي ثرواتها
إلى أبعد مدى بإجرائه الذي قدّمنا الحديث عنه في الأراضي ، وتكوين الإقطاعات
الضّخمة ، وحين أطلق لها أن تُغادر المدينة إلى البلاد المفتوحة ؛ حيث راح أفرادها
يستكثرون لأنفسهم من الأموال ، ويستكثرون من الأتباع ، ويُمنّون أنفسهم بالوصول
إلى الخلافة ، ويمنّيهم بذلك أتباعهم وقبائلهم.
وقد أشار الطبري في أحداث سنة خمس
وثلاثين إلى هذه الحقيقة فقال :
«كان عمر بن الخطّاب قد حجر على أعلام
قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلاّ بإذن وأجل .
فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان
يأخذهم به عمر ، فانساحوا في البلاد ، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع
مَنْ لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموراً في الناس ، وصاروا أوزاعاً
إليهم ، وأمّلوهم وتقدّموا في ذلك ، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم ، وتقدّمنا في
التقرّب والانقطاع إليهم ، فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام ، وأوّل فتنة كانت
في العامّة ليس إلاّ ذلك» .
__________________
وقال في موضع آخر :
«... فلمّا ولي عثمان خلى عنهم ، فاضطربوا
في البلاد ، وانقطع إليهم الناس ...» .
* * *
فإذا لاحظنا أنّ عثمان فتح باب الهجرة
أمام قريش فانساحوا في البلاد يستصلحون الأموال ، ويُكوّنون الثروات ، ويجمعون
حولهم الأنصار بالمال ، والأصهار إلى قبائل العرب ، وبسمعتهم الدينية التي جاءتهم
من صحبتهم للنبي صلىاللهعليهوآله
، وسبقهم إلى الإسلام ، وجهادهم في سبيله. وإنّ سلوك عمّال عثمان على الأمصار
الكبرى ، وسلوك عثمان نفسه في المدينة مع ناصحيه والمشفقين عليه ، وعلى الناس من
سلوكه ، كان يُقدّم للمسلمين أسباب التذمّر والشكوى ، وأنّ هؤلاء الصحابة من قريش
كانوا يرون هذا ويسمعونه ويشاركون فيه ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما خلّفه تدبير
الشّورى لدى هؤلاء من طموح إلى الخلافة ، وسعي في سبيلها ... إذا لاحظنا هذا كلّه
اتّسقت لأعيننا الخطوط البارزة ، والعوامل الأساسية في ثورة المسلمين على عثمان
وعلى عهده :
طبقة ارستقراطية دينية كوّنتها السقيفة
بما بعثت من مركز قريش ، غدت ـ بالإضافة إلى ارستقراطيتها الدينية ـ تتمتّع بثروات
طائلة بسبب مبدأ التفضيل في العطاء ، وسياسة عثمان في المال ، والأرض ، والهجرة ،
وقد كوّن مبدأ الشّورى في نفوس كثير من أفرادها الطموح إلى الحكم ممّا دفعهم إلى
استغلال كلّ الظروف المواتية للوصول إلى هذا الهدف ، يُقابل هذه الطبقة طبقة
المحاربين والمسلمين الجُدد المحرومة من كافة الامتيازات ، والتي كانت أسباب
تذمّرها مُتوفّرة.
__________________
لقد كانت جماهير المحاربين هي مادة
الثورة ، أمّا وقودها فهو تصرّفات عثمان وولاته وآل بيته ، وأمّا الذي أجّجها فهم
أصحاب المصلحة فيها. هم هؤلاء الزعماء الذين أوتوا من الطموح ما جعل الخلافة هدفهم
، ومن المال والمنزلة الدينية ما مكّنهم من جمع الأنصار حولهم ، ومن سوء الأوضاع
ما سهّل عليهم أن يعدّوا الناس بخير ممّا هم فيه.
* * *
وقد تمخّضت هذه الملابسات والظروف
السيئة عن حركة عامّة ، إن فقدت النظام بالمعنى الحزبي الدقيق ، فإنّها لم تفقد
وحدة الأفكار الدافعة ، والأهداف المشتركة.
وقد سلك عثمان وبطانته من الاُمويِّين
والمنتفعين تجاه هذه الحركة سلوكاً بعيداً عن الحكمة والعدل ؛ فبدلاً من أن تُجاب
مطالب الثوّار رُدوا بعنف ، واستُهين بهم ، وجوبهوا بسياسة قاسية هي هذه السياسة
التي تمخّض عنها مؤتمر عثمان مع عمّاله على الأمصار ، والتي قدّم لنا الطبري صورة
عنها :
«... فقال له عبد الله بن عامر : رأيي يا
أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تُجمرهم في المغازي حتّى يذلّوا
لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دُبرة دابته ، وقمّل فروه ...
فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم ، وأمرهم بالتّضييق على مَنْ قبلهم ، وأمرهم بتجمير
الناس في البعوث ، وعزم على تحريم اُعطياتهم ؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه» .
__________________
ولكنّ هذه الإجراءات العنيفة زادت نار
المقاومة اشتعالاً ، بدل أن تُخفّف من شدّتها ؛ فقد رأى هؤلاء المحاربون الفقراء
أنّهم خُدعوا ، فتكتّلوا من الكوفة والبصرة ، ومصر والحجاز ، ومن هنا وهناك للقيام
بمسعى جماعي لإرغام عثمان على تغيير بطانته التي اعتبروها مسؤولة عن كثير من
المآسي ، وتبديل عمّاله الذي أساؤوا السيرة ، وجاروا على الرعية ... وتغيير سياسته
المالية. وبينما كان علي بن أبي طالب عليهالسلام
يُسفر بين الثوار وبين الخليفة ، فيُهدئ من ثورة اُولئك ، وينبّه عثمان وينصحه
بالاستقامة والعدل ، نرى أنّ الآخرين من الطامحين إلى الخلافة ينتهزون فرصة ثورة
الجماهير للوصول إلى هدفهم ، فيؤجّجون الثورة ، ويزيدون النّقمة اشتعالاً ، ويبذلون
الأموال الطائلة في تمويل الثورة ، واصطناع قادتها ، وتسليح أفرادها.
وبلغت المأساة قمّتها بمقتل عثمان.
ـ ٣ ـ
وجاء الناس إلى الإمام علي عليهالسلام يطلبون منه أن يلي
الحكم ، ولكنّه أبى عليهم ذلك ؛ لا لأنّه لم يأنس من نفسه القوّة على ولاية الحكم
وتحمّل تبعاته ، فقد كان عليهالسلام
على تمام الأُهبة لذلك ، كان قد خبر المجتمع الإسلامي من أقطاره ، وخالط مُختلف
طبقاته ، وراقب حياتها عن كثب ، ونفذ إلى أعماقها ، وتعرّف على الوجدان الطبقي
الذي يشدّها ويجمعها.
وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الذي كان
يتمتّع به من النبي صلىاللهعليهوآله
، فهو وزيره ونجيّه ، وأمين سرّه ، وقائد جيوشه ، ومنفّذ خططه ، ومعلن بلاغاته ...
هذه المنزلة الفريدة التي لم يتمتّع بها أحد من الصحابة أعدّته إعداداً تامّاً
لمهمّة الحكم. وقد كان النبي صلىاللهعليهوآله
يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي الأوّل ليصل إليه
وهو على أتمّ ما يكون أهلية واستعداداً. ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال : إنّه
هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبي صلىاللهعليهوآله
في المجتمع الإسلامي.
وإذا لم يقدر له أن يصل إلى الحكم بعد
وفاة النبي صلىاللهعليهوآله
فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة ، بل ساهم فيها مساهمة خصبة ؛ فقد كان أبو بكر ،
ثمّ عمر ، ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في القضاء والسياسة
والحرب ، وخاصّة في خلافة عثمان ؛ فقد كان على أتمّ الصّلة بالتيّارات التي تمخُر
المجتمع الإسلامي ، ولكنّ عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يُقدّمه
؛ لأنّ بطانته المعروفة كانت تأبى عليه ذلك.
ولقد رأى أنّ المجتمع الإسلامي قد تردّى
في هوّة من الفوارق الاجتماعيّة والاقتصادية التي زادت عمقاً وحدّة ، بسبب السياسة
غير
الحكيمة التي
اتّبعها ولاة عثمان مدّة خلافته ، ورأى أنّ التوجيهات الدينية العظيمة التي عمل
النبي صلىاللهعليهوآله
طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع الإسلامي الناشئ قد فقدت فاعليتها في
توجيه حياة الناس.
وإنّما صار الناس إلى واقعهم هذا ؛
لأنّهم فقدوا الثقة بالقوّة الحاكمة التي تُهيمن عليهم ، فراحوا يسعون إلى إقرار
حقوقهم وصيانتهم بأنفسهم ، وهكذا انقطعت الصلة بينهم وبين الرموز المعنوية التي
يجب أن تقود حياتهم ، والسبيل إلى تلافي هذا الفساد هو إشعار الناس أنّ حكماً
صحيحاً يهيمن عليهم لتعود إلى الناس ثقتهم الزائلة بحكّامهم ، ولكنّ هذا لم يكن
سهلاً قريب الجنى ، فثمّة طبقات ناشئة لا تُسيغ مثل هذا ؛ ولذلك فهي حريّة بأن تقف
في وجه كلّ منهج إصلاحي ومحاولة تطهيرية.
وإذاً فقد كان علي عليهالسلام يُدرك ـ نتيجة
لوعيه العميق للظروف الاجتماعيّة والنفسية التي كانت نجاح المجتمع الإسلامي في ذلك
الحين ـ أنّ المدّ الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان
يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية
والاجتماعيّة والسياسية ، ولمّا كانت البيعة عقداً حقيقياً يستتبع مسؤوليات
وواجبات وحقوقاً لكلّ من الراعي والرعية .
لذلك امتنع من الاستجابة الفورية لضغط
الجماهير والصحابة عليه بشأن قبول بيعتهم له بالخلافة ، فقد أراد أن يضعهم أمام
اختبار يكشف به مدى استعدادهم لتحمّل أسلوب الثورة في العمل ؛ لئلاّ يروا فيما بعد
أنّه استغفلهم ، واستغلّ اندفاعهم الثوري حين يكشفون صعوبة الشروط التي يجب أن
يُناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلّها.
من أجل هذا قال لهم :
__________________
«دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي ؛ فَإِنَّا
مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ ، لا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ ،
وَلا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ ، وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ ،
وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ
بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ
، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ
وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً
خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً» .
ولكنّ الناس أبَو عليه إلاّ أن يلي
الحكم ، فاستجاب لهم.
وما أن بويع حتّى عالنهم بسياسته التي
قرّر أن يتّبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها. ولم تكن هذه السياسة
شيئاً مرتجلاً اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة ، وإنّما كانت منهجاً مدروساً ، ومنتزعاً
من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك ، ومعدّة للسّير بهذا المجتمع
إلى الأمام ، ومُهيّأة لتنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها.
* * *
وقد تناولت إصلاحات الإمام الثورة ثلاثة
ميادين :
الإدارة.
والحقوق.
والمال.
ففيما يرجع إلى سياسة الإدارة أصرّ على عزل
ولاة عثمان على الأمصار ، هؤلاء الولاة الذين كانوا من الأسباب الهامّة في الثورة
على عثمان ؛ لظلمهم وبغيهم ، وعدم درايتهم بالسياسة وأصول الحكم. وقد كلّمه
المغيرة بن شعبة في شأن ولاة عثمان ، فأشار عليه بأن يُثبت هؤلاء الولاة
__________________
على أعمالهم ،
ولكنّه أبى عليه ذلك وعزلهم ، وكلّمه طلحة والزبير في شأن الولاية على الكوفة
والبصرة فردّهما ردّاً رفيقاً ، وولّى رجالاً من أهل الدين ، والعفّة والحزم ،
فولّى على البصرة عثمان بن حُنيف
، وعلى الشام سهل بن حُنيف ، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة ، وثبّت أبا موسى
الأشعري على الكوفة ، وهذه هي الأمصار الكبرى في دولة الخلافة حينذاك. وقد أصاب
هذا الإجراء قريشاً بضربة قاصمة في كبريائها ، وسلطانها ونفوذها ؛ لأنّ هؤلاء
جميعاً من غير قريش.
وقد قال في شأن ولاة عثمان ومَنْ لفّ
لفّهم :
«... وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ
أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا ، فَيَتَّخِذُوا مَالَ
اللَّهِ دُوَلاً ، وعِبَادَهُ خَوَلاً ، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً ، وَالْفَاسِقِينَ
حِزْباً ؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ ، وَجُلِدَ
حَدّاً فِي الإِسْلامِ ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ
لَهُ عَلَى الإِسْلامِ الرَّضَائِخُ» .
* * *
وفيما يرجع إلى الحقوق نادى بأنّ
المسلمين جميعاً سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام ، وقد كانت هناك فروق حقوقية
جاهليّة قضى عليها الإسلام ، وأُعيدت في عهود لاحقة ؛ فقريش ذات الماضي العريق في
السيادة على القبائل العربية عادت في عهد عثمان إلى إيمانها بتلك الفروق ، فغدا
أُناس ليس لهم ماضٍ مشرّف بالنسبة إلى الإسلام ونبيّه يتعالون على أعظم المسلمين
جهاداً ، وسابقة وبلاء لمجرّد أنّهم قرشيون .. هذه الفروق المعنوية الجاهليّة قضى
عليها الإمام عليهالسلام
، فقال :
__________________
«الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له ، والقوي
عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه» .
* * *
وفيما يرجع إلى سياسة المال وقف موقفاً
صارماً ، وكانت تواجهه فيما يتعلّق بهذه السياسة نقطتان هامّتان ؛ إحداهما الثروات
التي تكوّنت في أيام عثمان بأسباب غير مشروعة ، والثانية أسلوب توزيع العطاء.
وقد أعلن في الخُطب الأولى التي استهل
بها حكمه مصادرة جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة
لطبقة الإرستوقراطيين ، كما أعلن أنّه سيتّبع مبدأ المساواة في العطاء ، فقال :
«أيّها الناس ، إنّي رجل منكم ، لي ما
لكم وعليّ ما عليكم ، وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم ، ومنفّذ فيكم ما أمر به. ألا
وإنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال
؛ فإنّ الحقّ لا يبطله شيء ، ولَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ ،
وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً ، وَمَنْ
ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ» .
وقال من خطاب آخر :
«... ألا لا يقولنّ رجال منكم غداً
غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ،
واتّخذوا الوصائف الرُّوقة ، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إذا ما منعتهم ما
كانوا يخوضون فيه ، وأخّرتهم
__________________
إلى حقوقهم التي
يعلمون ، فينقمون ذلك ويستنكرون ، ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا
وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يرى أنّ الفضل له
على سواه لصحبته ؛ فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله ، وثوابه وأجره على الله وأيّما
رجل استجاب لله وللرسول ، فصدّق ملّتنا ، ودخل في ديننا ، واستقبل قبلتنا ، فقد
استوجب حقوق الإسلام وحدوده ؛ فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يُقسم بينكم
بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء ، وأفضل
الثواب. لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً ، وما عند الله خير للأبرار.
وإذا كان غد إن شاء الله فاغدوا علينا ؛ فإنّ عندنا مالاً نقسمه ، ولا يتخلّفنّ
أحد منكم ؛ عربي ولا عجميّ ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ، إلاّ حضر إذا كان
مسلماً حرّاً».
فلمّا كان من الغد ، غدا وغدا الناس
لقبض المال ، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه :
«ابدأ بالمهاجرين فنادهم ، وأعطِ كلّ
رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، ومَنْ حضر من
الناس كلّهم ؛ الأحمر والأسود ، فاصنع به مثل ذلك».
فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ،
هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم. فقال :
«نعطيه كما نُعطيك ، فأعطى كلّ واحد
منهما ثلاثة دنانير».
ولم يفضّل أحداً على أحد. وتخلّف عن هذا
القسم يومئذ طلحة ، والزبير ، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم
، ورجال من قريش وغيرها .
* * *
وهكذا قضى بسرعة وحسم على شرعيّة
التفاوت الطبقي بما له من ذيول اقتصادية ودينية ، فسوّى بين المعتقين والأحرار ، والسابقين
في الإسلام والمسلمين الجدد ، ولم يجعل من الفضل الديني ذريعة إلى المغانم
الاقتصادية ، كما شلّ بإجراء آخر قوّة هذه الطبقة التي تكوّنت في عهد عثمان ؛ وذلك
حين صادر قطاع عثمان والأموال التي أعطاها.
وبقدر ما كانت هذه السياسة مصدر فرح
وجدل للطّبقة المستضعفة الفقيرة الرازخة تحت أثقال من الظلم ، كانت أيضاً صفعة
لقريش ولغرورها ، وخيلائها واستعلائها على الناس ، فمن أين لها بعد اليوم أن تحوز
الأموال العظيمة دون أن تنفرج شقتان لتقولا لها : من أين لك هذا؟
وكيف لها بعد اليوم أن تستعلي وتستبد ،
وتفرض على الناس في ظلّ الإسلام سلطانها عليهم في الجاهليّة.
ولعلّ قادة الطبقة الثرية وزعماءها
فكّروا في أن يساوموا علياً على بذل طاعتهم له على أن يُغضي عمّا سلف منهم ،
ويأخذهم باللين والهوادة فيما يستقبلون ، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فجاء إليه وقال :
«يا أبا الحسن ، إنّك قد وترتنا جميعاً
، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف ، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه
من المال أيّام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام».
__________________
فقال عليهالسلام
:
«أمّا ما ذكرتم من وتري إيّاكم فالحقّ
وتركم ؛ وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حقّ الله عنكم ولا من غيركم ...»
.
ولمّا أيقن زعماء هذه الطبقة أنّهم لن
يُفلحوا عن طريق المساومة والتهديد ، لجؤوا إلى السعي لنقض البيعة ، وقد جاء مَنْ
أخبر علياً بأنّهم يدعون الناس إلى رفض البيعة ؛ مدفوعين إلى ذلك بالامتيازات
الاقتصادية والاجتماعيّة التي فقدوها.
فخطب الناس ، وكأنّه أراد بذلك أن يكشف
عناصر الفتنة الجديدة ، ويخرج بالمسألة من حدود الهمس والعمل في الظلام إلى الصعيد
العام ، ويسلّط عليه وعلى زعمائها النور ، ويفضح أهدافهم ، ويُطلع الأمّة على
المناورة التي تريد أن تحوّل نتائج الثورة إلى مغانم شخصيّة ، وتُعيد الأوضاع
القديمة كما كانت ، فلا تحصل الأمّة من ثورتها إلاّ على تبديل الوجوه.
وقد أكّد في هذه الخطبة عزمه على مواصلة
تطبيق المنهج الذي بدأ به ، فقال :
«فأمّا هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه
أثرَة ، وقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا
كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا ، وعهد نبيّنا بين أظهرنا ، فمَنْ لم يرض به
فليتولّ كيف شاء» .
ولكنّ الإرستقراطية الجديدة لم تقف
مكتوفة اليدين ، فقامت بحركة تمرّد الأولى في البصرة تحت ستار الثأر لعثمان ، وما
هي في واقعها إلاّ
__________________
تدبير دبّره مَنْ لم
يُماش الحكم الجديد أهواءهم من بني أميّة وغيرهم من المنتفعين بعهد عثمان ، وقد
كان القائمون بهذه الحركة يريدون أن يعطفوا أزمّة الحكم إلى جانبهم بعد أن يئسوا
من مساعدة الإمام عليهالسلام
لهم على ما يبتغون ، ولكنّ الإمام عليهالسلام
قضى على الحركة في مهدها ، وفرّ مَنْ بقي من أنصارها إلى الشام ، حيث قامت حكومة
برياسة معاوية بن أبي سفيان ، انضوت إليها جميع العناصر المنتفعة بعهد عثمان ، والتي
رأت في الحكم الجديد خطراً عليها وعلى امتيازاتها الطبقية وبينما كانت حكومة
الإمام عليهالسلام
تسير على نهج إسلامي خالص ، أي أنّها كانت تحقّق للأمّة أقصى قدر مستطاع ـ في
ظروفها السياسيّة والاقتصادية والعسكرية ـ من الرفاهية ، والعدالة والأمن ، كان
معاوية يسير على نهج آخر في الحكم يقوم على شراء الضمائر بالمال ، وتفضيل طائفة
بحرمان طائفة أخرى ، وتعطيل السبل ، وتعكير الأمن ، ولم يكن معاوية ليبالي في أن
ينزل بدافعي الضرائب من الزرّاع ، والتجّار أفدح الظلم في سبيل أن يحصل منهم على
مبلغ من المال يُغذّي به أطماع حفنة من رؤساء القبائل العربية يؤلّفون جهازه
العسكري المتأهّب دائماً لقمع أي حركة تحرريّة تقوم بها جماعة من الناس.
وقد كان من الطبيعي أن تقوم حركة تمرّد
أخرى وراء الواجهة نفسها بزعامة معاوية ، فكانت صفين ، وكان التحكيم ثمّ النهروان
، ثم قُتل عليهالسلام
بثمرة من ثمرات التحكيم بعد أن غرس في عقول الناس وقلوبهم المبادئ الإسلاميّة في
الحكم وسياسة الجماعات. ثم كانت خلافة الحسن بن علي عليهالسلام
ذات الشهور العاصفة ، الحُبلى بالدسائس والمؤامرات عليه من قبل الانتهازيين
والوصوليين ، ثم اضطراره إلى التخلّي عن الحكم مؤقتاً تحت ضغط الأحداث التي لم تكن
صالحة تفادياً لحرب خاسرة تذهب فيها دماء أنصاره دون الحصول على نصر آني أو في
المستقبل القريب أو البعيد.
وصار الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان ، واتّسقت
له الأمور ، وسيطر على العالم الإسلامي كلّه بعد أن أُخذت له البيعة على الناس في
شوّال سنة
إحدى وأربعين للهجرة.
وقد كانت سياسة الإمام علي عليهالسلام وطريقته في ممارسة
مهمّة الحكم ، وفهمه لواجبات الحاكم ، كانت هذه الأمور تُشكّل تحدّياً مستمراً
لمعاوية وبطانته ، وتهديداً لمشاريعه في التسلّط على المسلمين. والذي زاد من خطورة
هذه الأفكار على معاوية ومشاريعه أنّها لم تكن أفكاراً مجرّدة ، بل طُبّقت على
حياة الناس بأمانة وإخلاص عظيمين ؛ لذلك عمل معاوية منذ انتهت مهزلة التحكيم على
أن يحارب هذه المبادئ ، وأن يطبع حياة الناس وأفكارهم بالطابع الذي يؤمن له سيطرة
دائمة خالية من أيّ رقابة أو احتجاج ؛ ولذلك مارس سياسة استهدف منها محق نزعة
الحرية لدى الإنسان المسلم ، وتحويله عن أهدافه العظيمة ، ونضاله من أجلها.
ولقد كانت هذه السياسة تقوم على المبادئ
التالية :
أ ـ الإرهاب والتجويع.
ب ـ إحياء النزعة القبلية واستغلاها.
ج ـ التحذير باسم الدين ، وشلّ الروح
الثورية.
وبهذه السياسة حاول معاوية القضاء على
ما لدى الجماهير المسلمة من نزعة إنسانيّة تجعلها خطراً على كلّ حاكم يجافي مبادئ
الإسلام في ممارسته لمهمّة الحكم ، وبذلك أمن ثورة الجماهير ونقدها.
ولنأخذ هذه المبادئ بشيء من التفصيل.
ـ ٤ ـ
أ ـ الإرهاب والتجويع
لقد اتّبع معاوية سياسة الإرهاب ، والقتل
، والتجويع بالنسبة إلى الرعايا المسلمين الذين لا يتّفقون معه في الهوى السياسي ،
وإطلالة قصيرة على تأريخ هذه الفترة من حياة المسلمين تُثبت هذه الدعوى.
حدّث سفيان بن عوف الغامدي ، وهو أحد
قوّاد معاوية العسكريين ، قال :
«دعاني معاوية فقال : إنّي باعثك بجيش
كثيف ذي أداة وجلادة ، فالزم ليّ جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها ، فإن وجدت
بها جُنداً فأغر عليهم ، وإلاّ فامض حتّى تُغير على الأنبار ، فإن لم تجد جنداً
فامض حتي نوغل في المدائن. إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق تُرعب قلوبهم
، وتُفرح كلّ مَنْ له هوى فينا منهم ، وتدعو إلينا كلّ ما خاف الدوائر ، فاقتل كلّ
مَنْ لقيته ممّن هو ليس على مثل رأيك ، وأخرب كلّ ما مررت به من القرى ، وأحرِب
الأموال فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب».
ودعا معاوية بالضحّاك بن قيس الفهري وأمره
بالتوجّه ناحية الكوفة ،
__________________
وقال له :
«مَنْ وجدته من الأعراب في طاعة علي
فأغر عليه».
«فأقبل الضحّاك فنهب الأموال ، وقتل
مَنْ لقي من الأعراب ، حتّى مرّ بالثعلبية فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثمّ
أقبل فلقي عمر بن عميس بن مسعود الدّهلي ، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود فقتله في
طريق الحاج عند القطقطانية
، وقتل معه ناساً من أصحابه» .
واستدعى معاوية بُسر بن أرطأة ، ووجّهه
إلى الحجاز واليمن ، وقال له :
«سر حتّى تمر بالمدينة فاطرد الناس ،
وأخف مَنْ مررت به ، وانهب أموال كلّ مَنْ أصبت له مالاً ممّن لم يكن دخل في
طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تُريد أنفسهم ، وأخبرهم أنّ لا براءة لهم
عندك ولا عذر حتّى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فأكففّ عنهم ... وأرهب الناس عنك فيما
بين المدينة ومكة واجعلها شردات ...».
وقال له :
«لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي
إلاّ بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم ، وأنّك محيط بهم ، ثمّ اكفف
عنهم وادعهم إلى البيعة لي ، فمَنْ أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا» .
فسار ، وأغار على المدينة ومكة ، فقتل
ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أُحرق بالنار .
__________________
بهذا المطلع الفاني استهلّ معاوية
سياسته بعد التحكيم مع المسلمين الذين يخالفونه في الهوى السياسي. وقد بلغ في ذلك
شأواً بعيداً ، فقتل وأرعب ، واستصفى الأموال ، وعاث في الأرض فساداً.
وقد استمر على هذه السياسة بعد أن قُتل
علي عليهالسلام
ولكنّها إذ ذاك أخذت شكلاً أكثر تنظيماً وعُنفاً وشمولاً.
وقد نصّ المؤرّخون على أنّ هذا الإرهاب
بلغ حدّاً جعل الرجل يُفضّل أن يُقال عنه أنّه زنديق أو كافر ولا يُقال عنه أنّه
من شيعة علي
، وقد بلغ بهم الحال أنّهم كانوا يخافون من النطق باسمه حتّى فيما يتعلّق بأحكام
الدين التي لا ترجع إلى الفضائل التي كان الأمويون يخشون شيوعها ، فكانوا يقولون :
«روى أبو زينب»
، وقال أبو حنيفة : «إنّ بني اُميّة كانوا لا يفتون بقول علي ولا يأخذون به ، وكان
علي لا يذكر في ذلك باسمه.
وكانت العلامة باسمه بين المشايخ أن
يقولوا : قال الشيخ» .
«وحضر الاُمويّون على الناس أن يسمّوا
أبناءهم باسم علي» .
* * *
وكتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد
عام الجماعة :
«أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل
أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كلّ كورة ، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ،
ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته».
«وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل
الكوفة ؛ لكثرة مَنْ بها من شيعة علي
__________________
عليهالسلام
، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة ، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم
عارف ؛ لأنّه كان منهم أيام علي عليهالسلام
، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم
على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبقَ بها معروف منهم».
«وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق
:
ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته
شهادة.
ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع
البلدان :
انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة إنّه
يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة
اُخرى : مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره».
«فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه
بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتّى أنّ الرجل من شيعة علي عليهالسلام ليأتيه مَنْ يثق به
فيدخل بينه فيلقى إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه
الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه ... فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي عليهماالسلام ، فازداد البلاء
والفتنة ، فلم يبقَ أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض» .
وأجمل ذلك الإمام محمد بن علي بن الحسين
الباقر عليهالسلام
، فقال :
«وقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقُطعت
الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكلّ مَنْ يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب
ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ
__________________
ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل
الحسين عليهالسلام»
.
* * *
وقد طبّق ولاة معاوية على العراق ـ مهد
التشيّع لآل علي ـ هذه السياسة بوحشية لا توصف ؛ فقد استعمل زياد سمرة بن جندب على
البصرة فأسرف هذا السفّاح في القتل إسرافاً لا حدود له ؛ فهذا أنس بن سيرين يقول
لمَنْ سأله :
هل كان سمرة قتل أحداً؟ «وهل يُحصى مَنْ
قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة ، فجاء وقد قتل ثمانية
آلاف من الناس ، فقال له ـ يعني زياداً ـ : هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟
فردّ عليه قائلاً : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت» .
وقال أبو سوار العدوي :
«قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين
رجلاً قد جمع القرآن» .
واستقام سمرة في المدينة شهراً ؛ فهدم
دور أهلها ، وجعل يستعرض الناس فلا يُقال له عن أحد إنّه شرك في دم عثمان إلاّ
قتله ، وسبى نساء
همدان ـ وهمدان من شيعة علي عليهالسلام
ـ وأقمن في الأسواق ، فكنّ أوّل مسلمات أُشترين في الإسلام . وقد فعل ما فعل لدعم ملك معاوية ،
وقال : «لعن
__________________
الله معاوية! والله
لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً» .
أمّا زياد بن سميّة فكان يجمع الناس
بباب قصره يحرّضهم على لعن علي ، فمَنْ أبى عرضه على السيف ، وكان يعذّب بغير القتل من صنوف
العذاب ، وتقدّمت إشارات إلى ذلك في كلام المدائني ، وهذا ابن الأثير يذكر لنا
أنّه قطع أيدي ثمانين أو ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة ، وقد نوى في آخر أيامه أن يعرض أهل
الكوفة أجمعين على البراءة من علي ولعنه ، وأن يقتل كلّ مَنْ امتنع من ذلك ويخرب
منزله ، ولكنّه مات قبل أن يُنفّذ هذه الفكرة .
هذا كلّه بالإضافة إلى سياسة الترحيل
والتشريد التي قصد بها إلى إضعاف المعارضة في العراق ـ وتقدّمت إشارة إليها في نصّ
ابن أبي الحديد عن المدائني ـ فقد أنزل من الكوفيين وأُسرهم ـ وكانوا أعظم الثوار
تشيعاً ـ خمسين ألفاً في خراسان
، وبذلك حطّم قوّة المعارضة في الكوفة وخراسان معاً.
* * *
هذا عرض موجز للسياسة التي تتناول حياة
الناس وأمنهم ، وأمّا السياسة التي تتناول أرزاق الناس وموارد عيشهم فلا تقل قتامة
وكلوحاً وإيغالاً في الظلم عن سابقتها.
فإنّ معاوية بعد أن تمّ له السلطان على
البلاد الإسلاميّة في عام الجماعة عالن الناس بطبيعة الحكم الجديد في كلمته
التالية :
__________________
«يا أهل الكوفة ، أترون أنّي قاتلتكم
على الصلاة ، والزكاة والحجّ ، وقد علمت أنّكم تُصلّون ، وتزكون وتحجّون ، ولكنّي
قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ
كلّ دم اُصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدَمي هاتين».
وكان قد قال قبل ذلك لمّا تمّ الصلح : «رضينا
بها ملكاً» .
وكان معاوية أميناً لمنهجه هذا ، فلم
يحد عنه أبداً.
وشهدت الأمّة المسلمة من جوره وعسفه ما
لم تعهد مثله في سالف أيّامها. وكان أوفر دهاء من أن يدع للمضطهدين منفذاً للتعبير
عن سخطهم واستيائهم ، بل كان من البراعة بحيث حمل الكثيرين على وصفه بالحلم والكرم
، والإعجاب به لذلك. وترى كتب التاريخ والأدب حافلة بالحديث عن حلم معاوية وسخائه
وبذله الأموال ، ولكنّ شيئاً من دقّة الملاحظة يكشف عن حقيقة الحال ؛ فإنّ هذا
السخاء كان مقصوراً على حفنة من الناس لا يتعدّاها إلى غيرها من العامّة ممّن هم
في أمس الحاجة إلى الدرهم. لقد كان سخاء معاوية مقصوراً على هذه الطبقة
الإرستقراطية التي صعد على أكتافها إلى الحكم ، والتي استعان بما لها من نفوذ
سياسي أو ديني في مؤامراته أو حروبه. وكانت هذه الطبقة مؤلّفة من زعماء القبائل
الموالين له ، ومن بعض الأشخاص الذين قذفت بهم أحداث الإسلام الأولى مرغمين إلى
صحبة رسول الله صلىاللهعليهوآله
، ولولا ذلك لفضلوا أن يكونوا في صفوف أعدائه ، فتدفّقت الثروات الضخمة ، والعطايا
الجزيلة على أفراد هذه الطبقة ، وحرم سائر الناس من مطالبهم الأساسية ، وطفق
المحدّثون الرسميون (القُصّاص) يُذيعون في الناس سخاء معاوية وكرمه ، مستشهدين
بهباته الجزيلة لفلان وفلان. وتناقل الرواة هذه الأحاديث حتّى سجّلها
__________________
المؤرّخون مفاخر له.
ولا يُغيّر من مغزى هذا شيئاً أنّ
معاوية كان يهب بعض أعدائه القدماء أموالاً جزيلة ؛ فإنّ الذي ألجأ هؤلاء الأعداء
إلى مسالمته وإن كان عجزهم عن المقاومة إلاّ إنّ هذا لا ينفي أنّهم كانوا قادرين
على أن يشغبوا عليه إذا لم يستجب لمطالبهم ، ولم يكن عسيراً عليه إدراك أنّ من
الأفضل له عدم إثارتهم بحرمانهم من الامتيازات الثابتة لهم بحكم كونهم زعماء
قبليين.
ويجب علينا حين ندرس سياسة معاوية
المالية أن نضع خطّاً فاصلاً بين الشام وبين سائر الولايات الإسلاميّة ؛ لأنّ
الشام قد تمتّعت برخاء حقيقي ؛ والسرّ في ذلك هو أنّ جند الشام كان عماد معاوية في
حروبه ، فلم يسعه إلاّ أن يسترضيه بالأموال. ونلاحظ أنّه كان يُنفق على جيشه الذي
بلغ ستين ألف جندي ، ستين مليون درهم في السنة
، على أنّه لا يفوتنا أن نلاحظ أنّ هذا الرخاء لم يكن من حظّ عرب الشام أجمع ،
وإنّما كان لقبائل اليمن وحدها ، وأمّا قبائل قيس فكانت تُعاني شظف العيش ؛ لأنّه
لثقته بولاء اليمن له لم يأبه لقيس ، فلم يفرض لها في العطاء إلاّ في وقت متأخّر
بعد أن خشي على سلطانه من قوّة قبائل اليمن .
وأما سائر الولايات الإسلاميّة فقد ذاقت
الطبقات الفقيرة فيها طعم البؤس ، وعانت ألواناً من الاستعباد والإفقار ، بلا فرق
في ذلك بين المسلمين وبين الداخلين في ذمّة الإسلام ، فقد اهتمّ معاوية بجمع المال
دون أن يهتمّ بمصادره وأساليب جبايته ، واتّخذ من هيمنته على مصادر الجباية وبيت
المال ذريعة إلى التحكّم في أعدائه المغلوبين على أمرهم ، والذين لا يقدرون على
إزاحته عن الحكم.
وهناك بعض الشواهد على ما نقول. كتب
معاوية إلى عمّاله بعد عام
__________________
الجماعة :
«... انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة
أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك
بنسخة أخرى : مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره» .
وكثيراً ما كان الأنصار يمكثون بلا عطاء
، ولا ذنب لهم إلاّ أنّهم ينصرون أهل البيت عليهمالسلام
.
وكانوا إذا عصاهم أحد من المسلمين قطعوا
عطاءه ولو كان العاصون بلداً برمّتها .
وكان من جملة الأساليب التي اتّبعها
معاوية لحمل الحسين عليهالسلام
على بيعة يزيد حرمان جميع بني هاشم من عطائهم حتّى يُبايع الحسين عليهالسلام .
وكتب إلى زياد بن سميّة عامله على
العراق : «اصطف لي الصفراء والبيضاء».
فكتب زياد إلى عمّاله بذلك ، وأمرهم أن
لا يُقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضّة .
وكتب إلى وردان عامله على مصر :
أن زد على كلّ امرئ
من القبط قيراطاً. ولكن وردان كان أعدل من معاوية ، فكتب إليه : «كيف أزيد عليهم
وفي عهدهم ألاّ يُزاد عليهم؟» .
__________________
وكان ذلك هو شأنه في تحريض عمّاله على
جمع الأموال ، وهم يخترعون الطرق للاستكثار منها . وفرض ضريبة على الأهالي تُقدّم إليه
يوم النيروز ، فكان يُجبى منها عشرة ملايين درهم ، وهو أوّل مَنْ استصفى أموال الرعية .
وها هو معاوية يُعطي عمرو بن العاص أرض
مصر وأموالها وسكّانها المعاهدين ملكاً حلالاً له. وقد جاء في صك هذا العطاء : أنّ
معاوية أعطى عمرو بن العاص مصر وأهلها هبة يتصرّف كيف يشاء ..!! مصر التي كتب علي
بن أبي طالب للأشتر عامله عليها وثيقة تُعتبر من أعظم حقوق الإنسان على مدى العصور
غدت عند معاوية سلعة تُباع وتُشترى. وهاك نموذجاً من سلوك عمرو بن العاص في مصر :
سأله صاحب أخنا بمصر أن يُخبره بمقدار ما عليه من الجزية ، فأجابه :
«لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما
أخبرتك ما عليك ، إنّما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثرنا عليكم ، وإن خفف عنّا
خففنا عنكم» .
وحين استولى معاوية على العراق نقل بيت
المال من الكوفة إلى دمشق ، وزاد في جرايات أهل الشام ، وحطّ من جرايات أهل العراق
. وقد أوضح
فلسفته في جميع المال بقوله :
«الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ
من مال الله فهو لي ، وما تركته كان جائزاً لي».
وكان معاوية على أن يولي على العراق ـ
موطن الولاء لآل البيت ـ أشخاصاً من أعداء آل البيت عليهمالسلام
؛ ليضمن تنفيذ سياسة الإرهاب والإذلال
__________________
والتجويع في العراق
بسهولة ، وليستطيع أن يمنح العراقيين امتيازات يعلم أنّ ولاته ـ بسبب من حقدهم ـ
لا ينفذونها ، فيفوز بحسن السمعة دون أن يتخلّى عن مبادئه.
ونذكر نموذجاً لذلك هو أنّه أمر لأهل
الكوفة :
«بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم ، وعامله
يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير
، وكان عثمانياً ، وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليهالسلام ، فأبى النعمان أن
ينفذها لهم ، فكلّموه وسألوه بالله فأبى أن يفعل.
ولمّا استرحمه عبد الله بن همام السلولي
وطلب إليه في قطعة شعرية مؤثّرة أن ينجز لهم الزيادة ، قال :
«والله لا اُجيزها ولا اُنفذها أبداً» .
* * *
وهكذا حرم المسلمون من أموالهم لتُنفق
هذه الأموال على الزعماء القبليين ، والقادة العسكريين ، وزمر الكذّابين على الله
ورسوله.
وقد طُبّقت هذه السياسة ـ سياسة الإرهاب
والتجويع ـ بالنسبة إلى المسلمين عموماً ، وبالنسبة إلى كلّ مَنْ اتّهم بحبّ علي
وآله على الخصوص. لقد كان حبّ علي عليهالسلام
سرطان الحكم الأموي ، فعزموا على قطعه تماماً.
ويُقدّم لنا يوليوس ولهاوزن صورة
مُعبّرة عن الآثار السياسيّة والاجتماعيّة التي خلّفتها هذه السياسة في المجتمع
العراقي في ذلك الحين.
«لقد غُلب أهل العراق في صراعهم مع أهل
الشام ... وضاع منهم دخل الأراضي التي استولوا عليها ، وصار عليهم أن يقبلوا
باُجور هي فتات موائد
__________________
أسيادهم ، وكانوا مغلوبين على أمرهم ، تغلبهم
عليه تلك الصدقات التي هم محتاجون إليها ، والتي في يد الاُمويِّين تخفيفها أو
إلغاؤها ، فلا عجب إذاً في أن يروا في حكم أهل الشام نيراً ثقيلاً ، وأن يتأهّبوا
لدفعه متى سنحت الفرصة المواتية لهم بذلك.
وازدادت الضغينة على الاُمويِّين بسبب
عدائهم للنبي والعقيدة الإسلاميّة بما انظمّ إليها من الشكاوى على السلطان التي
أصبحت الآن شكاوى من الاُمويِّين ، وهم أصحاب السلطان ، وهي النقاط أنفسها تُعاد
وتُكرر ؛ عمّال يسيئون استعمال سلطانهم ، وأموال للدولة تذهب إلى جيوب عدد قليل من
الناس ، بينما لا يحصل غيرهم على شيء.
وكان زعماء القبائل والأسر في الكوفة
يشاركون غيرهم منذ الأصل هذا الشعور ، بيد أن وضعهم الذي يُلقي بالمسؤولية على
عاتقهم جنح بهم إلى أن يعتصموا بالحيطة والحكمة ، فلا يشرعون في القيام بثورة لا
هدف لها ، بل يردون الجماهير عنها حين ينطلقون فيها ، وها هم أولاء باسم السلام
والنظام يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة ؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار ، وإذا هم
يُصبحون أعداء أكثر فأكثر للشيعة الحقيقيين ، وأعداء لهم يشتدّ عداؤهم يوماً بعد
يوم ، تلك الشيعة التي لم ينقض من تمسكها بورثة الرسول صلىاللهعليهوآله إخفاقها في تحقيق
رغباتها ... بل زاد فيه. وكانت مقاومتها للإرستقراطية القبلية تُضيق الخناق عليها»
.
__________________
ـ ٥ ـ
ب ـ إحياء النزعة القبلية واستغلالها
دعا الإسلام إلى ترك التعصّب للقبيلة
والتعصّب للجنس ، واعتبر الناس جميعاً سواء من حيث الإنسانيّة المشتركة ، وأقام
مبادئه وتشريعاته على هذه النظرة الصائبة إلى الجنس البشري.
وفي الحديث :
«المؤمنون إخوة ؛ تتكافأ دماؤهم ، ويسعى
بذمّتهم أدناهم ، وهم يد على مَنْ سواهم».
وممّا روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال في خطبته
في حجّة الوداع :
«أيّها الناس ، إنّ الله تعالى أذهب
عنكم نخوة الجاهليّة وفخرها بالآباء ، كلكم لأدم وأدم من تراب ، ليس لعربيٍّ على
عَجَميٍّ فضل إلاّ بالتقوى».
وروي عنه صلىاللهعليهوآله
:
«مَنْ قاتل تحت عَمية ، يغضب لعصبيّة ،
أو يدعو إلى عصبيّةٍ ، أو ينصر عصبيّةً ، فقُتل ، قُتل قتلةً جاهليّة».
وقال الله تعالى مبيّناً في الكتاب
الكريم المقياس الإسلامي في التفاضل :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
بهذه الروح الإنسانيّة الرحبة الآفاق
دعا الإسلام إلى النظر إلى اختلاف القبائل والشعوب ، وبهذه الروح الإنسانيّة
الرحبة حاول الإسلام أن يجعل من القبائل العربية المسلمة أمّة واحدة لا يمزّقها
التناحر القبلي الجاهلي ، وإنّما تربط بين أفرادها أخوّة الإسلام ، ورسالة الإسلام
، وحاول أن يجعل من المسلمين جميعاً ـ على اختلاف أوطانهم ولغاتهم ـ أمّة واحدة
متماسكة ، تجمعها وحدة العقيدة ، ووحدة الهدف والمصير.
وقد عمل النبي صلىاللهعليهوآله طيلة حياته بأقواله
وأعماله على تركيز هذه النظرة الإسلاميّة في وجدان المسلمين ، وجعلها حقيقة حيّة
في تفكيرهم ، وتابعه على ذلك علي عليهالسلام
؛ فعمل على تركيزها بأعماله وأقواله طيلة حياته ، بعد أن شهد عهد عثمان انحرافاً
خطيراً عن هذه النظرة الإسلاميّة ، واتجاهاً خطيراً نحو الروح الجاهلي والعصبية
القبلية التي اتّبعها هو وعمّاله .
ولا نزال حتّى اليوم نحس بحرارة نضال علي عليهالسلام
في هذا المجال ، وإنْ ما سلم من أيدي الحوادث من آثار علي عليهالسلام الكلامية في هذا
الموضوع على قلّته ليدلّنا على عمق النظرة التي نظر بها علي عليهالسلام إلى التكوين القبلي
للمجتمع ، ويدلّنا على وعيه لمدى خطر هذا التكوين القبلي على المجتمع
__________________
الإسلامي. ومن أبرز
الآثار الباقية من كلامه في هذا الموضوع الخطبة القاصعة ، وهي وثيقة عظيمة الأهمية
في الدلالة على وجهة نظره عليهالسلام
.
أمّا معاوية فقد استغل هذه الروح في
ميدانَين ؛ فقد أثار بالقول والفعل العصبية القبلية عند القبائل العربية ليضمن
ولاءها عن طريق ولاء زعمائها من ناحية ، وليضرب بعضها ببعض حين يخشاها على سلطانه
من ناحية أخرى. وآثار العصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب ،
وهم الذين يُطلق عليهم المؤرّخون اسم الموالي.
ففي حياة علي عليهالسلام سلك معاوية سبيل
الدسّ والتآمر على حكم علي عليهالسلام
عن طريق إثارة الروح القبلية في سكّان العراق من القبائل العربية ، فتارة يُلوّح
لزعماء هذه القبائل بالامتيازات الماديّة والاجتماعيّة التي يخصّ بها الزعماء
القبليون في الشام ؛ ومن هنا صارت الشام ملاذاً لمَنْ يغضب عليه الإمام عليهالسلام من هؤلاء الزعماء
لجناية جناها ، أو خيانة خانها في عمله ، ومطمحاً لمَنْ يريد الغنى والمنزلة ،
فيجد عند معاوية الإكرام والعطاء الجزل ، والمنزلة الاجتماعيّة الرفيعة.
وقد كتب الإمام علي عليهالسلام إلى سهل بن حنيف عامله على المدينة في شأن قوم من أهلها
لحقوا بمعاوية :
«وإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ
عَلَيْهَا ، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا ، وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ ،
وَسَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ
أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى الأَثَرَةِ ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً» .
__________________
وقد كان معاوية يجد دائماً أشخاصاً من
هذا النوع في مجتمع العراق ، وكان يتخلص بولائهم له ، وطمعهم فيما عنده من مآزق
حرجة . وكان
يتمتعّ بحس يوفّق به إلى إثارة هذه الروح في الوقت المناسب ، وبحيث يبدو فعله
منسجماً مع ما يقتضيه الإنصاف والعدل ، كقوله لشبث بن ربعي وقد سفر عنده لعلي مع
زعيمين آخرين من أهل العراق في صفين :
«أوّل ما عرفت به سفهك ، وخفّة حلمك
قطْعك على الحسيب الشريف سيد قومه منطقه. يعني سعيد بن العاص الهمداني» .
ومن ذلك ما كان منه في شأن النزاع الذي
حدث حول رياسة كندة وربيعة ، فقد كانت للأشعث بن قيس الكندي ، فعزله عنها علي عليهالسلام ودفعها لحسّان بن
مخدوج من ربيعة ، فلمّا بلغ ذلك معاوية أغرى شاعراً كنديّاً يقول شعراً يهيج به
الأشعث وقومه ، فقال شعراً عظّم به شأن الأشعث وقومه ، وهجا به حسّان وربيعة ،
ولكنّ أهل اليمن فطنوا إلى ما يريد معاوية ، فقد قال شريح بن هانئ :
«يا أهل اليمن ، ما يريد صاحبكم إلاّ أن
يُفرّق بينكم وبين ربيعة» .
وهكذا نراه يسعى إلى أن يؤجج القبلية
بين القبائل العربية ؛ فيلقي بينها العداوة والبغضاء ، ويثير فيها إحن الجاهليّة
وأحقادها.
وأرسل معاوية في سنة للهجرة ابن الحضرمي إلى البصرة ليضرم
الفتنة بين قبائلها بإثارة ذكريات حرب الجمل ، وقتل عثمان ، وقال له :
«فانزل في مضر ، واحذر ربيعة ، وتودّد
الأزد ، وانع
__________________
ابن عفان ، وذكّرهم الوقعة التي أهلكتهم
، ومن لمَنْ سمع وأطاع دنياً لا تفنى ، وأثرة لا يفقدها».
وقد وفق ابن الحضرمي إلى حدٍّ ما في
إثارة إحن القبائل ، وكأنّما سرت هذه النار التي أججها ابن الحضرمي بين قبائل
البصرة إلى قبائل الكوفة ؛ للقرابة النسبيّة التي بين القبائل هنا وهناك. فقال علي
عليهالسلام
يخاطب قبائل الكوفة بهذه المناسبة من جملة كلام له :
«وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة ، وقد
تداعوا إلى العشائر والقبائل ، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتّى يفزعوا إلى
الله ، وإلى كتابه وسنّة نبيّه ؛ فأمّا تلك الحميّة فإنّها من خطرات الشياطين ، فانتهوا
عنها ـ لا أباً لكم! ـ تُفلحوا وتنجحوا» .
* * *
وحينما بويع معاوية بالخلافة لم تخضع له
البلاد الإسلاميّة كلّها خضوعاً تامّاً ، فقد كان هنالك الشيعة الذين يوالون علياً
وأهل بيته ، وكان هنالك الخوارج الذين يتّفقون مع الشيعة في عدائهم للاُمويِّين ، وكان
هنالك قبائل العراق التي لم تنظر بعين الارتياح إلى نقل بيت المال إلى الشام ، وإلى
تفضيل أهل الشام في العطاء على أهل العراق .
هذا مضافاً إلى أنّ كثيراً من المسلمين كانوا يرون في انتصار الاُمويِّين انتصاراً
للوثنية على الإسلام ؛ لذلك كلّه كرهوا الاُمويِّين وغطرستهم ، وكبريائهم وإثارتهم
للأحقاد القديمة ، ونزوعهم للرّوح الجاهليّة .
ولقد واجه معاوية هذه الموجة العارمة من
البغضاء التي قوبل بها حكمه
__________________
بأنماط متعدّدة من
السلوك كان منها ـ ولعلّه أهمّها ـ ضرب القوى العقائدية المعادية للحكم الأموي
بعضها ببعض ، وإثارة الرّوح القبلية على نطاق واسع يكفل له انشقاق القبائل بتأثير
أحقادها الصغيرة ، ويخلق بينها حالة من التوتّر تجعل من المتعذّر عليها أن تتوحّد
، وأن تنظر إلى الحكم الأموي نظرة موضوعية ، وبذلك فاز معاوية بتفتيت المعارضة
بعوامل داخلية تنبع من صميم المعارضة نفسها.
ولم تكن هذه السياسة هي اللون المفضّل
عند معاوية بالنسبة إلى سائر القبائل فحسب ، بل كانت بهذه المنزلة عنده بالنسبة
إلى أسرته الأموية ذاتها أيضاً ، ففد كان ـ كما يقول ولهاوزن ـ يسعى إلى أن يدخل
القطيعة بين مختلف فروع الأسرة الأموية بالمدينة ليقضي بذلك على شوكتهم .
وإذا كانت هذه هي خطّته بالنسبة إلى
أسرته ذاتها فليس لنا أن نطمع منه بسلوك أنبل بالنسبة إلى سائر القبائل التي كان
يخشاها على سلطانه ؛ لأنّ الدوافع المشتركة كانت توحّدها في الوقوف ضدّه.
ولا يجد الباحث صعوبة كبيرة في اكتشاف
هذا الخُلق في معاوية ؛ فتأريخه مليء بالشواهد عليه.
فبراعته في استغلال ما لشعراء عصره من
تأثير عظيم في الرأي العام من أجل مصالحه الخاصّة جعلته يستغل هؤلاء الشعراء في
هذا الميدان ، فيحرّضهم على القول في موضوعات الفخر والهجاء كالذي كان بين القبائل
في الجاهليّة .
ومن ذلك موقف شاعره الأخطل من الأنصار ،
فقد واصل شعراء الأنصار هجاء معاوية على أساس ديني ، فردّ عليهم الأخطل بهجاء قبلي
__________________
جاهلي ، ونظم فيهم
قصيدته التي يقول فيها :
ذهبت قريش بالمكارم والعُلا
|
|
واللؤم تحت عمائم الأنصارِ
|
ولا يصعب علينا أن نعرف الدوافع التي
دفعت معاوية إلى اتّخاذ هذا الموقف من الأنصار ، فقد كانوا يقفون في صف المعارضة
للحكم الأموي إلى جانب الأُسر القرشية البارزة التي أحفظها أن تفوز أميّة بالحكم
دونها ؛ لأنّهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى استيلاء أعداء الإسلام ونبيّه على
الحكم بهذه السهولة ، ولعلّه قدّر أنّ إثارة الأحقاد القديمة التي خلّفتها حروب
الإسلام القديمة كفيلة بأن تنال من هذا الاتّحاد بين الأنصار وبين المنافسين لأميّة
من قريش.
ومن جهة أخرى نراه يسعى إلى تفتيت وحدة
الأنصار بإثارة الأحقاد الجاهليّة التي كانت بين الحيين الأوس والخزرج ، فيضرب
إحدى القبيلتين بالاُخرى. وقد توصّل إلى ذلك ببراعة ؛ فقد كان يوعز إلى المعنيين
بإنشاد الشعر الجاهلي الذي تهاجت به القبائل قبل الإسلام. قال أبو الفرج الأصفهاني
:
«كان طويسولعاً
بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم ، وكان يريد بذلك الإغراء ، فقلّ مجلس
اجتمع فيه هذان الحيّان فغنى فيه طويس إلاّ وقع فيه شيء ... فكان يُبدي السرائر
ويُخرج الضغائن» .
وهذا عبد الله بن قيس الغطفاني ، من قيس
عيلان اعتدى على كثير بن شهاب الحارثي ، فكتب ناس من اليمانية إلى معاوية أنّ
سيدنا ضربه
__________________
خسيس من غطفان ، فإن
رأيت أن تُقيدنا من أسماء بن خارجة. فحمّقهم معاوية. وقال كثير بن شهاب : والله لا
أستقيدها إلاّ من سيد مضر. فغضب معاوية ، وأمّن عبد الله وأطلقه ، وأبطل ما فعله
بابن شهاب فلم يقتصّ ولا أخذ له عقلاً .
وحين تعرف أنّ أشدّ الناس إخلاصاً لعلي عليهالسلام في العراق كانوا من
قبائل اليمن ، يتّضح لنا لماذا يتعصّب معاوية لمضر العراق على يمن العراق. هذا
بالإضافة إلى أنّ السلطة حين تكفّ عن أن تكون حكماً بين القبائل في منازعاتها تسعى
هذه القبائل إلى أن تقتصّ لنفسها ، وتتناحر فيما بينها ، وهي النتيجة التي يطمح
إليها معاوية.
أمّا في الشام فتراه يتعصّب لليمن على
مضر ؛ فقد تقرّب إلى قبيلة كلب اليمانية فتزوّج ميسون اُمّ يزيد ، وهي ابنة بجدل
زعيم قبيلة كلب ، وزوّج ابنه يزيد من هذه القبيلة أيضاً. وقد اعتمد حروبه
ومؤامراته على هذه القبيلة وعلى قبائل اليمن الأخرى : عكّ ، والسكاسك ، والسكون ،
وغسّان وغيرها ، واضطهد مضر الشام فلم يفرض عطاءً لقيس وهي من مضر ؛ لثقته العظيمة
بكفاءة أنصاره اليمانيين. وهكذا مسكين الدارمي ، وهو شاعر يخشى لسانه ويُرجى ، طلب
من معاوية أن يفرض له في العطاء فلم يجبه إلى ذلك ؛ لأنّه مضري ، فقال شعراً يرقق
به قلب معاوية فلم يلتفت إليه. وقد سببت هذه المحاباة اعتزاز اليمن ، فاشتدّ بأسها
، واستطالت على الدولة ، وتضعضعت قيس وسائر عدنان ، وسمع معاوية كلمة من بعض أهل
اليمن أثارت مخاوفه ، فرأى أن يضرب اليمانيين بالمضريِّين ، ففرض من وقته لأربعة
آلاف من قيس وغيرها من عدنان ، وبعث إلى مسكين يقول له :
«لقد فرضنا لك وأنت في بلدك ؛ فإن شئت
أن تقيم بها
__________________
أو عندنا فافعل ؛ فإنّ عطاءك سيأتيك» .
* * *
ولقد كانت سياسة عمّال معاوية على أمصار
الدولة هي سياسة معاوية نفسه ، فيعمد الوالي إلى إثارة العصبيات القبلية فيما بين
القبائل ؛ ليشغلها عن مراقبته والاتّحاد ضدّه ، بالتناحر عنده فيما بينها ، وقد
لاحظ ولهاوزن هذه الظاهرة ، وقال عنها :
«... وأججّ الولاة نار هذه الخصومة ـ
يعني الخصومة بين القبائل ـ ولم يكن تحت تصرّف الولاة إلاّ شرطة قليلة ، وفيما سوى
ذلك كانت فرقهم من مقاتلة المصر ، وهي قوّة الدفاع في القبائل ، حتّى إذا أحسنوا
التصرّف تهيّأ لهم أن يضربوا القبائل بعضها ببعض ، وأن يثبتوا مركزهم بينهم. وكثيراً
ما كان يحدث أنّ الوالي يعتمد على إحدى القبائل ضدّ الأخرى ، وبوجه عام على قبيلته
التي أتى بها معه ، حتّى إذا أتى والٍ جديد أتت قبيلة أخرى إلى الحكم ، وينتج من
ذلك أنّ القبيلة التي نُحّيت عن الحكم تُصبح عدوّاً لدوداً للقبيلة التي تحكم ، وهكذا
أضحت الميزات القبلية ملطّخة بالسياسة والخصام على الغنائم السياسيّة» .
__________________
وقد كان زياد بن سميّة من أبرع عمّال
معاوية في هذا الميدان ، وممّا يؤثر عنه أنّه عندما همّ القبض على حجر بن عدي
الكندي أمر محمد بن الأشعث الكندي بالقبض عليه هادفاً من وراء ذلك إلى زرع بذور
الشقاق في كندة ، وهي من أقوى قبائل الكوفة ؛ ليستريح من وحدتها ، ويلهي كلاً من
أنصار حجر وأنصار محمد بأعدائه الجدد ، ولكنّ يقظة حجر فوّتت على زياد هذه الفرصة
، فسلّم نفسه إلى السلطة طوعاً .
وقد قال عنه ولهاوزن :
«... ولكنّ الواقع أنّه لم يقض في
الكوفة على ثورة الشيعة بواسطة الشرطة ، بل بعون من القبائل نفسها ... وتمكّنه
الغيرة القائمة بين القبائل من أن يضرب بعضها ببعض» .
وقال عنه أيضاً :
«... وعرف زياد كيف يخضع القبائل بأن
يضرب إحداها بالأخرى ، وكيف يجعلها تعمل من أجله ، وأفلح في ذلك» .
وقد سلك ابنه عبيد الله هذا المسلك حين
ولاّه معاوية البصرة بعد أبيه ، وممّا يؤثر عنه في هذا الباب أنّه أغرى بين صديقيه
الشاعرين أنس بن زنيم الليثي وحارثة بن بدر الفداني ، وكان يُكره أحدهما على هجاء
الآخر وقومه حتّى وقع بينهما شرّ بسبب ذلك ، وعبيد الله ماضٍ في الإيقاع
__________________
بينهما .
وقد كان المغيرة بن شعبة والي الكوفة من
قبل معاوية يتّبع نفس هذا الأسلوب ، فعندما ولي الكوفة جعل من همّه أن يُفسد ما
بين الخوارج والشيعة ، وبذلك استطاع أن يشغل الكوفيين عن معارضة الاُمويِّين معارضة
فعّالة
وها هو يصرّ على أن يدفع بصفوة الشيعة في الكوفة والبصرة إلى حرب الخوارج ، ويُجهّز
جيشاً منهم لهذه الغاية .
وقد كانت عاقبة هذه السياسة أن عادت إلى
الاشتعال من جديد تلك العداوات والأحقاد القديمة التي كانت بين القبائل ، وكان من
نتائجها بعد ذلك ظهور الشعر السياسي الحزبي والقبلي. فقد شبّت نيران الهجاء بين
شعراء الشيعة والخوارج والاُمويِّين ، واشتعلت نيران الهجاء والمفاخرات القبلية
بين القبائل نفسها ، وعاضد الشعراء القبليون الأحزاب بدوافع قبلية ، فقد انضمّ
الأخطل إلى الاُمويِّين على قيس عيلان أعداء قومه التغلبيين ، ثمّ انضمّ إلى
الفرزدق على جرير ؛ لأنّ جريراً كان لسان القيسية على تغلب ، وكان الفرزدق تميمياً
، وجرير أخذته قيس عيلان.
وقد تقمصّت هذه العصبية القبلية شكلاً
دينياً حينما أخذت القبائل تسعى إلى اختراع الأحاديث في فضلها تنسبها إلى النبي صلىاللهعليهوآله ؛ وذلك إنّ هذه
القبائل لمّا كانت تتنازع الرياسة ، والفخر ، والشرف وجدت في الأحاديث باباً تدخل
منه إلى المفاخرة كالذي وجدته في الشعر ، فكم من الأحاديث وضعت في فضل قريش ،
والأنصار ، وأسلم ، وغفار ، والأشعريين ، والحميريين ، وجهينة ، ومزينة . وسنرى أنّ معاوية قد استأجر بعض تجّار
الدين لاختلاق الأحاديث في مديحه ومديح أسرته ، ولعلّ مساعيه هذه هي التي
__________________
حملت الآخرين على
اختلاق الأحاديث في تمجيد قبائلهم.
* * *
وهكذا بثّ معاوية روح البغضاء والنفرة
بين القبائل العربيّة ، فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها
الحقيقي ، الحكم الأموي ، وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الاُمويِّين
للوقيعة بأعدائهم القبليين ، وفاز معاوية ـ وحلفاؤه من بعد ـ بكونه حكماً بين
أعداءٍ هو الذي أشعل نيران العداء بينهم من حيث لا يشعرون ، ووحّدهم في طاعته من
حيث لا يدرون ، وقد دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائماً مع الحاكمين ضدّ الثائرين
؛ ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم ، ويخذّلون عنها بل ويتسابقون في استخدام
أقصى ما يملكونه من نفوذ ودهاء في هذا السبيل ؛ للتأكيد على ولائهم التام للسلطة
القائمة ، وقد لاحظ ولهاوزن :
«إنّ وضعهم ـ زعماء القبائل ـ جنح بهم
إلى أن يعتصموا بالحِطية والحكم ، فلا يشرعون في القيام بثورة لا هدف لها بل
يردّون الجماهير عنها عندما ينطلقون فيها ، وها هم أولاء باسم الإسلام والنظام
يضعون نفوذهم تحت تصرّف الحكومة ؛ كيلا يُعرضوا وضعهم للأخطار» .
والشواهد التي تدلّ على صدق هذه
الملاحظة عمّا آل إليه أمر المسلمين بسبب استفحال الروح القبلية كثيرة جدّاً ،
وسيمر بعضها فيما يأتي من هذه الدراسة.
* * *
__________________
والعمل الآخر الذي قام به معاوية في هذا
المجال هو إثارته للعصبية العنصرية عند العرب عموماً ضدّ المسلمين غير العرب ، وقد
أغرى هذا الموقف رؤساء القبائل العراقية فاندفعوا ينصحون الإمام علياً عليهالسلام قائلين :
«يا أمير المؤمنين ، أعطِ هذه الأموال ،
وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل مَنْ تخاف خلافه
من الناس».
ناظرين إلى ما يصنع معاوية ، ولكنّ
الإمام علياً عليهالسلام
أجابهم قائلاً :
«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ
النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا
سَمَرَ سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً» .
أمّا السياسة الاُمويّة فلها من الموالي
موقف آخر. «تخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر.
فقال المولى للعربي :
لا أكثر الله فينا مثلك.
فقال العربي : بل كثّر الله فينا مثلك.
فقيل له : يدعو عليك وتدعو له
وقال : نعم ، يكسحون طرقنا ، ويخرزون
خفافنا ، ويحوكون ثيابنا».
وقالوا : لا يصلح للقضاء إلاّ عربي. واستدعى
معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما :
«إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت ،
وأراها قد قطعت
__________________
على السلف ، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم
على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً ، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة
الطريق».
وكان هذا الموقف العدائي من الموالي
سبباً في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب ، وفرض الجزية والخراج عليهم ، وإسقاطهم من
العطاء ، فكان الجنود الموالي يُقاتلون من غير عطاء. وكانوا يقولون : لا يقطع
الصلاة إلاّ ثلاثة ؛ حمار ، أو كلب ، أو مولى .
وكانوا لا يُكنّونهم بالكُنى ، ولا يدعونهم إلاّ بالأسماء والألقاب ، ولا يمشون في
الصف معهم ، ولا يُقدّمونهم في الموكب ، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم ، وإن
أطعموا المولى لسُنّه وفضله وعلمه أجلسوه على طريق الخبّاز ؛ لئلاّ يخفى على
الناظر أنّه ليس من العرب ، ولا يدعونهم يُصلّون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب
وإن كان غَريراً.
وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى
أبيها ولا إلى أخيها ، إنّما يخطبها إلى مواليها ، فإن رضي مولاها زوّجت وإلاّ
فلا. وإن زوّجها الأب أو الأخ بغير إذن مواليه فُسخ النكاح ، وإن كان قد دخل بها
عُدّ ذلك سفاحاً. وإذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولىً دفعه إليه ليحمله
عنه فلا يمتنع ، ولا السلطان يُغيّر عليه ، وكان إذا لقيه راكباً وأراد أن ينزل
فعل .
وقد سبّب هذا الموقف اللاإنساني من
الموالي شقّ عصا المسلمين ، وتراكم الأحقاد والعداوات بينهم ، وكان سبباً في
انعدام الرقابة الشعبية على الحاكمين.
* * *
وقد استمر هذا الداء الوبيل ينخر في جسم
الأمّة الإسلاميّة حتّى مزّقها
__________________
شرّ ممزّق ، وقضى
على وحدتها التي أنشأها الإسلام وقذف بها في عُباب حروب طاحنة أتت على روابط
الألفة والمحبّة ، وزرعت بين طوائفها الإحن والبغضاء. ولقد كانت هذه السياسة التي
سنّها معاوية وحلفاؤه لتدعيم سلطانهم بتحطيم وحدة الأمّة سبباً حاسماً في تحطيمهم
، وتمكين أعدائهم منهم في نهاية المطاف .
__________________
ـ ٦ ـ
ج ـ التحذير باسم الدين وشلّ
الروح الثوريّة
«المأخذ الدائم الذي يؤخذ على الاُمويِّين
هو أنّهم كانوا اُصولاً وفروعاً أخطر أعداء النبي صلىاللهعليهوآله
، وأنّهم اعتنقوا الإسلام في آخر ساعة مرغمين ، ثمّ أفلحوا في أن يحوّلوا إلى
أنفسهم ثمرة حكم الدين أوّلاً بضعف عثمان ، ثمّ بحسن استخدام نتائج قتله ، هذا
وأصلهم يفقدهم مزية زعامة اُمّة محمد صلىاللهعليهوآله
ومن المحن التي بُلي بها حكم الدين أنّهم أصبحوا قائمين عليه ، مع أنّهم كانوا
ومافتئوا مغتصبين لسلطانه ، وقوّتهم في جيشهم الذي هو على قدم الاستعداد في الشام
، ولكنّ قوّتهم لا يمكن أن تُصبح حقّاً» .
بهذه المشاعر ونظائرها واجه المسلمون
الحكم الاُموي ، وقد أراد معاوية أن يتغلّب على هذا الشعور العام بسلاح الدين نفسه
، كما أراد التوصّل إلى تحطيم ما لأعدائه من سلطان روحي على المسلمين عن هذا
الطريق أيضاً ، وقد برع في الميدان كلّ البراعة ، وواتته الظروف عليه فبلغ منه
أقصى ما يرجو.
وقد حفظ لنا التأريخ بعض الأسماء
البارزة من أعوان معاوية في هذا اللون من النشاط. قال ابن أبي الحديد : «ذكر شيخنا
أبو جعفر الإسكافي.
__________________
إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً
من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليهالسلام
تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا
ما أرضاه. منهم ؛ أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين
عروة بن الزبير» .
وقد استعمل معاوية هؤلاء الأشخاص في
سبيل إيجاد تبرير ديني لسلطان بني اُميّة ، أو على الأقل لكبح الجماهير عن الثورة
برادع داخلي هو الدين نفسه ، يعمل مع الروادع الخارجية : التجويع ، والإرهاب ، والانشقاق
القبلي ، هذا بالإضافة إلى مهمّة أساسية أخرى ألقاها معاوية على عاتق هؤلاء
الأشخاص ، وهي اختلاق «الأحاديث» التي تتضمّن الطعن في علي عليهالسلام وأهل بيته ، ونسبتها
إلى النبي صلىاللهعليهوآله
ويوضّح لنا النصّ الآتي مدى اتّساع الشبكة التي كوّنها معاوية ، ومدى تجاوبها مع
رغباته.
كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد
عام الجماعة :
«أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضائل
أبي تراب وأهل بيته».
فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ
منبر يلعنون علياً ، ويبرءون منه ... وكتب إلي عماله أن لا تقبلوا لأحد من شيعة عل
وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم :
«أن انظروا مَنْ قبلكم من شيعة عثمان
ومحبيه ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرموهم ،
واكتبوا إليّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه ، واسم أبيه ، وعشيرته».
__________________
ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان
ومناقبه ؛ لِما كان يبعثه معاوية إليهم من الصلات ، والكساء ، والحباء ، والقطائع
، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثُر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل
والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان
فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً.
«ثمّ كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في
عثمان قد كثُر ، وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا
فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً
يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإنّ هذا
أحبّ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته».
فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة
مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر
ذلك على المنابر ، وأُلقي إلى معلمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك
الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموا بناتهم
ونساءهم وخدمهم [وحشمهم] فلبثوا بذلك ما شاء الله ، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان
منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية
القُرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ؛
ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويُقربوا مجالسهم ، ويُصيبوا به الأموال والضياع
والمنازل ... فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي عليهالسلام فازداد البلاء
والفتنة .
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو
من أكابر المحدّثين
__________________
وأعلامهم ـ في
تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال :
«إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل
الصحابة افتعلت في أيام بني اُميّة ؛ تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به
أنوف بني هاشم» .
وقد تجلّى «سخاء» معاوية في هذا الميدان
بوضوح ؛ فها هو ذا يبذل (للصحابي) سمرة بن جندب أربعمئة ألف درهم على أن يروي أنّ
هذه الآية :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْفَسَادَ)
.
قد نزلت في علي بن أبي طالب ، وأنّ
الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
فروى ذلك .
وأمّا أبو هريرة فقد كافأه بولاية
المدينة ؛ لأنّه روى عن النبي صلىاللهعليهوآله
في شأن علي عليهالسلام
وبني اُميّة ما يلائم ذوق معاوية وأهدافه السياسيّة .
* * *
__________________
وممّا يتصل بهذا ما تكشف عنه بعض النصوص
أنّ من ملامح سياسة معاوية وجهازه إلغاء الرموز ذات المحتوى التأريخي الذي يعبّر
عن قيمة دينية معينة ذات أثر اجتماعي ، وذلك بما يعكسه الرمز ويثيره في الأذهان من
صور تأريخيّة تتّصل بحياة النبي صلىاللهعليهوآله
، وبالكفاح من أجل انتصار الإسلام.
من هذه السياسة ما يكشف عنه النصّ الذي
يتضمّن أنّ معاوية وعمرو بن العاص أرادا أن يختبرا إمكانية إلغاء اسم «الأنصار»
الذي اشتهر به الأوس والخزرج منذ عهد الرسول صلىاللهعليهوآله
، وورد في القرآن الكريم اسماً لمسلمي المدينة كما كان اسم «المهاجرين» لمسلمي مكة
قبل الهجرة .
ولا بدّ أنّ هدف هذه المحاولة هو تجريد
الأنصار من القوّة المعنوية التي يسبغها هذا اللقب عليهم.
قال عمرو لمعاوية :
«ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد
القوم إلى أنسابهم. فقال معاوية : إنّي أخاف من ذلك الشَّنعة. فقال : هي كلمة
تقولها ، إن مضت عضّتهم ونقّصتهم».
ولكنّ الأنصار انتبهوا للمحاولة ،
فردّوها بحزم .
وقد خلقت لنا هذه المدرسة ـ مدرسة
معاوية في الرواية والحديث ـ ألواناً من الأحاديث النبويّة.
__________________
منها ما يرجع إلى القدح في علي وآل بيته
عليهمالسلام
، وقد استفرغ معاوية غاية وسعه في هذا الميدان الذي قدّمنا لك آنفاً تعريفاً
بأسلوب معاوية في خوضه .
ومنها ما يرجع إلى تمجيد بني اُميّة ـ
وعلى الأخص عثمان ومعاوية ـ ويجعلهم في مرتبة القدّيسين ، كهذا الذي رواه أبو
هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآله
:
«إنّ الله ائتمن على وحيه ثلاثاً ؛ أنا
، وجبرئيل ، ومعاوية».
وأنّ النبي صلىاللهعليهوآله ناول معاوية سهماً
، فقال له :
«خذ هذا حتّى تلقاني في الجنّة» و «أنا
مدينة العلم ، وعلي بابها ، ومعاوية حلقتها»
وتلقون من بعدي اختلافاً وفتنة ، فقال
له قائل من الناس : فمَنْ لنا يا رسول الله؟ قال : عليكم بالأمين وأصحابه ، يشير
بذلك إلى عثمان.
ومنها ما يُحذّر المسلمين من الثورة ،
ويزيّن لهم الرضوخ ، ويوهمهم أنّ الثورة على الظلم ، والسعي نحو إقامة نظام عادل
عمل مخالف للدين. وبديهي أنّ شيئاً من ذلك لم يصدر عن الله ولا عن رسوله. ومن هذه
الأحاديث ما عن عبد الله بن عمر ، قال :
__________________
«قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله
: إنّكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا : فماذا تأمرنا يا رسول الله؟
قال : أدّوا إليهم حقّهم ، وسلوا الله حقّكم». و : «مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه
فليصبر عليه ؛ فإنّ مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ ميتة جاهليّة».
و : «ستكون هنات وهنات ، فمَنْ أراد أن
يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان» .
وحدّث العجّاج قال : قال لي أبو هريرة :
«مَنْ أنت؟ قال : قالت : من أهل العراق.
قال : يوشك أن يأتيك بقعان أهل الشام فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقّهم بها ، فإذا
دخلوها فكن في أقاصيها ، وخلّ عنهم وعنها. وإيّاك أن تسبّهم ؛ فإنّك إن سببتهم ذهب
أجرك وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة» .
وما شاكل هذا من الأحاديث التي تدعو
المسلمين إلى الخضوع لأمرائهم الظالمين ، وتحرّم عليهم الثورة على هؤلاء الأمراء
طلباً لحقّهم.
إنّ هذه الأحاديث تدعو إلى الصبر على
الظلم والجوع والإرهاب ؛ لأنّ استنكار ذلك مخالف للدين.
وينطلق المأجورون من الوعّاظ والمحدّثين
فينفثون هذه السموم في قلوب الجماهير المسلمة وعقولها ، وبذلك يلجمونها عن التذمّر
والثورة بلجام ينسبونه إلى الدين والدين منه بريء ، يقعدون بها عن الاحتجاج على
سياسة
__________________
العسف والظلم ، ويحجزونها
عن محاولة تحسين حياتها.
* * *
هذا لون من ألوان التضليل الديني الذي
ابتدعه الاُمويّون لتثبيت ملكهم. وهنا لون آخر من ألوان التضليل الديني استخدموه
وبرعوا في استخدامه ، وهو تأسيس الفرق الدينية السياسيّة التي تُقدّم للجماهير
تفسيرات دينية تخدم سلطة الاُمويِّين وتبرّر أعمالهم.
ومن الأمثلة البارزة في هذا الميدان
فرقة المرجئة ، فقد كان الاُمويّون يواجهون الشيعة الذين يعتبرون بني اُميّة قتلة
غاصبين لتراث النبي صلىاللهعليهوآله
، والخوراج الذين يرونهم كفرة تجب الثورة عليهم وإزاحتهم عن الحكم. وكان كلّ واحد
من هذين الفريقين يُقدّم بين يدي دعواه حججاً لا يملك الاُمويّون ما يُقابلها ؛
لذلك أنشؤوا فرقة المرجئة التي قدّمت أدلّة مقابلة لأدلّة الشيعة والخوارج ، ووقفت
ضدّهم في ميدان النضال السياسي الديني.
ويحدّثنا ابن أبي الحديد أنّ معاوية كان
يتظاهر بالجبر والإرجاء ، وأنّ المعتزلة كفّروه لذلك .
لقد اعتبروا المرجئة الإيمان عملاً
قلبياً خالصاً لا يحتاج إلى التعبير عنه بفعل من الأفعال ، فيكفي الإنسان أن يكون
مؤمناً بقلبه ليعصمه الإسلام ، ويحرم الاعتداء عليه ، وهم ينادون :
«لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع
مع الكفر طاعة» وقالوا :
«إنّ الإيمان الاعتقاد بالقلب ، وإن
أعلن الكفر بلسانه
__________________
وعبد الأوثان ، ولزم اليهودية ، والنصرانية
في دار الإسلام ، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزّ وجلّ ولي لله
عزّ وجلّ ، من أهل الجنّة» .
والنتيجة المنطقية لهذا اللون من
التفكير هي أنّ الاُمويِّين مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر ومن نتائج ذلك أنّ المرجئة لا يوافقون
الخوارج والشيعة شرعية لا يجوز الخروج عليها ، ولم يسلّم المرجئة بأنّ انصراف
خلفاء بني اُميّة عن تطبيق أحكام الشريعة كافٍ لحرمانهم من حقوقهم كأولياء الأمر
في الإسلام .
وقد كان المرجئة يبشّرون بهذه الأفكار
بين صفوف الأمّة المسلمة ؛ لأجل تخديرها وصرفها عن الاستجابة لدعاة الثورة على
الاُمويِّين.
وبينما نجد الاُمويِّين يضطهدون كلّ
دعوة دينية لا تلائمهم نراهم بالنسبة إلى المرجئة على العكس من ذلك فهم يحتضنون
هذه الفرقة ويعطفون على قادتها ، وما ذلك إلاّ لأنّ معاوية سيّدهم هو واضع أسسها ،
وقد عرفت آنفاً إنّه كان يقول بالجبر والإرجاء.
__________________
من البيّن أنّ هذا الموقف الذي اتّخذه
المرجئة من الاُمويِّين يتعارض تعارضاً مطلقاً مع إدراك اُولئك الذين يؤيّدون
مطالب العلويين. ويصوّر لنا هذان البيتان من الهجاء نظرة الشيعة إلى المرجئة :
إذا ما المُرجيّ سرّك أن تراه
|
|
يموتُ بدائهِ من قبلِ موتهْ
|
فجدّد عندهُ ذكرى عليٍّ
|
|
وصلِّ على النبي وآلِ بيتهْ
|
وإلى جانب ما تقدّم أعتمد الاُمويّون
أسلوباً آخر من أساليب التضليل الديني لدعم حكمهم وصرف الناس عن الثورة عليهم.
فقد واجه الاُمويّون خطراً ساحقاً عليهم
من عقيدة القدرية القائلين بحرية الإرادة والاختيار ، وإنّ الإنسان هو الذي يختار
نوع السلوك والعمل الذي يمارسه في حياته ، وإذا كان حرّاً فهو مسؤول عن أفعاله ؛
لأنّ كلّ حرية تستتبع حتماً المسؤولية.
هذه العقيدة كانت خطراً على الاُمويِّين
الذي يفرّقون من رقابة الاُمّة عليهم وعلى تصرّفاتهم ؛ ولذلك فقد اضطهدوا هذه
العقيدة ودعاتها وتمسّكوا بالعقيدة المضّادة لها (عقيدة الجبر) . فهذه هي العقيدة التي تلائمهم في
الميدان السياسي ؛ لأنّها توحي إلى الناس بأنّ وجود الاُمويِّين وتصرّفاتهم مهما
كانت شاذّة وظالمة ليست سوى قدر مرسوم من الله لا يمكن تغييره ولا تبديله ، فلا
جدوى من الثورة عليه. وها هو معاوية يتظاهر بالجبر والإرجاء كما قدّمنا ؛ لأجل
تبرير أفعاله أمام الملأ بأنّها مقدورة لا سبيل إلى تبديلها ، مع كونها في الوقت
نفسه غير قادحة فيه باعتباره حاكماً دينياً.
__________________
ولا بدّ أنّه قد عهد بإذاعة أفكاره
الخاصّة حول هاتين العقيدتين ـ الجبر والإرجاء ـ بين المسلمين إلى ولاته وأجهزة
الدعاية عنده ، ومنها القصّاص ، قال الليث بن سعد :
«وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده
معاوية ، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عزّ وجلّ ، وحمده
ومجّده ، وصلى على النبي صلىاللهعليهوآله
، ودعا للخليفة ولأهل بيته ، وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه ، وعلى المشركين
كافّة» .
وأمر رجلاً يقصّ بعد الصبح ، وبعد المغرب
يدعو له ولأهل الشام
، ولا بدّ أنّ هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاصّ ، ثمّ يأخذ بعده في قصصه.
ومثل معاوية لا يجعل الفوائد الجليلة
التي يمكن أن تُقدّمها له عقيدة الجبر ، فهو ـ وسائر الاُمويِّين ـ كانوا يعلمون
أنّ أُسرتهم غير مُحتلمة من المسلمين ، ويعلمون أنّهم في نظر كثير من رعاياهم
مُختلسون. وصلوا إلى السلطة بوسائل قهريّة شديدة ، وأنّهم أعداء لآل النبي صلىاللهعليهوآله ، وقتلة لأشخاص
مُقدّسين لا ذنب لهم ، وإن كان ثمّة عقيدة تمسك الناس عن أن يثوروا عليهم وعلى
ولاتهم لكانت عقيدة الجبر ، هذه العقيدة التي توحي إلى الناس بأنّ الله قد حكم منذ
الأزل أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم ، فأعمالهم وتصرّفاتهم ليست إلاّ نتيجة لقدر
إلهي محكم ، من أجل ذلك كان حسناً جدّاً لهم ولدولتهم أن تتأصّل هذه الأفكار في
أذهان الاُمّة .
__________________
وقد استغل الشعر إلى جانب النصوص
الدينية في سبيل تعزيز هذه الأفكار ، فقد كان معاوية ـ كما يقول بروكلمان ـ قادراً
على أن يفيد ممّا لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام بسبيل مصالحه العائلية
.
فكان معاوية ـ وملوك بني اُميّة من بعده
ـ يسعون راضين شعراءهم بل ويحملون هؤلاء الشعراء على أن يقولوا الشعر الذي
يُمجّدونهم فيه بنعوت تجعل سلطانهم وسيادتهم قدراً مقدوراً من الله ، ومن أجل ذلك
لا يمكن أن يثور المؤمن ضدّهم.
فمعاوية عند الأخطل ليس ملكاً كما وصف
نفسه في ساعة من ساعات سهوه ، بل خليفة الله ، والظفر الذي حازه ليس ناشئاً من
أسبابه الطبيعية وإنّما هو من صنع الله :
إلى امرئ لا تعدينا نوافلُه
|
|
أظفرهُ اللهُ فليهنأ لهُ الظفرُ
|
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه
|
|
خليفةُ اللهِ يُستسقى بهِ المطرُ
|
ولم يُفضل الاُمويّون غيرهم ـ عند
الأخطل ـ بماضيهم المجيد في الجاهليّة ولا بسخائهم ، ولا بنجدتهم وشجاعتهم ، وإنّما
فضّلهم الله. ولم يكن رفع المصاحف في صفّين خدعة تفتّق عنها ذهن ابن العاص ، وإنّما
هو إلهام من الله. وأخيراً فالله هو الذي مكّنهم من الثأر لعثمان حين أوصلهم إلى
سدّة الحكم :
تمّت جدودُهمُ واللهُ فضّلهمْ
|
|
وجدُّ قومٍ سواهم خاملٌ نكدُ
|
همُ الذينَ أجابَ اللهُ دعوتهمْ
|
|
لمّا تلاقت نواصي الخيلِ واجتلدوا
|
ويوم صفّين والأبصارُ خاشعةٌ
|
|
أمدّهم إذ دُعوا من ربّهم مددُ
|
على الاُلى قتلوا عثمانَ مظلمةً
|
|
لم ينههم نشدٌ عنهُ وقد نُشدوا
|
والأخطل كسائر شعراء عصره ذو روح
جاهليّة تعرف الفضل
__________________
بالنسب وما إليه من
عنعنات الجاهليّين ، لا بالله ، وتعرف النصر بالشجاعة والقوّة والكثرة والدهاء ، لا
بالله ، فهذا النفس الديني الذي يشبه أن يكون صوفيّاً ؛ لكثرة ذكر الله فيه ليس من
طبيعة الأخطل ، وإنّما هو موحى به من ممدوحه ، أو من هؤلاء الذين بثّهم معاوية
لصوغ أفكاره الخاصّة بما يشيع بين العامّة ؛ سواء كان ذلك بالرواية عن النبي صلىاللهعليهوآله أو بالشعر.
ومسكين الدارمي يقول
في شأن عقد ولاية العهد ليزيد :
ألا ليتَ شعري ما يقولُ ابنُ عامرٍ
|
|
ومروانُ أم ماذا يقولُ سعيدُ
|
بني خلفاءِ اللهِ مهلاً فإنّما
|
|
يبوّئها الرحمانُ حيثُ يريدُ
|
إذا المنبرُ الغربي خلاه ربُّه
|
|
فإنّ أميرَ المؤمنينَ يزيدُ
|
وكما أنّ مذهب الجبر استُخدم لتبرير حال
الأسرة الاُمويّة على العموم ، فقد استخدم أيضاً في تهدئة الشعب حين كان يُبتلى ، أو
يُغرى بأن يرى في أعمال الحكّام والعمّال الظلم والطغيان .
* * *
لقد رأينا أنّ سياسة الاضطهاد والتجويع
خنقت نزعة الحرية في النفوس ، وحملت الجماهير على أن ترضى بحياة ذليلة مُضطهدة ؛
خشية أن تصير إلى لون من الحياة أقسى وأنكد. ورأينا أنّ الروح القبلية حوّلت
الإنسان المسلم عن أهدافه العظيمة التي وجّهه إليها الإسلام ، وشغلته بأهداف أخرى
تتّصل بأفقه القبلي الضيّق وصنمه القبلي الجديد.
فهنا عامل نفسي وهو الخوف ، وعامل
اجتماعي وهو الوضع القبلي كانا يُقعدان بالإنسان المسلم عن الثورة ، ويحملانه على
تقبّل حياته على ما فيها من نكد وقسوة وحرمان ، ولكنّهما ما كانا ليحملا الرضى
الباطني لروحه
__________________
القلقة المعذّبة ، فقد
كان يشعر بالإثم لسكوته عن الحكم الأموي ، وقد كان يشعر بالإثم ؛ لقعوده عن محاولة
تطهير المجتمع من المنكرات التي يراها ، وقد كان هذا الشعور بالإثم كفيلاً بأن
يدفعه في النهاية إلى التغلّب على الخوف في نفسه وإلى تحطيم النطاق القبلي الذي
يغلّه.
ولكن هذا الركن الثالث من أركان السياسة
الاُمويّة ـ أعني التضليل الديني ـ تكفّل بإيجاد تبرير ديني للوضع الاجتماعي
الشاذّ الذي كان عليه المجتمع الإسلامي ، واُريد منه حمل الجماهير المسلمة على
السكوت عن النقد ، والقعود عن محاولة تغيير الوضع إلى مستوى أحسن ، وبذلك يختفي
الشعور بالإثم من الضمير الجماهيري ، هذا الشعور الذي يدفع إلى الثورة حين يبلغ
درجة ضغط عالية ، وعندما يضمحلّ الشعور بالإثم يستقر المجتمع نهائياً ، فهناك عامل
نفسي وديني يدفعه إلى الخضوع ، وهناك عامل اجتماعي يجعله حتميّاً ، وحينئذ يطمئن
الحاكمون إلى أنّ تصرّفاتهم لن تثير أيّ استنكار لدى الجماهير.
كان هذا هو الوضع النفسي لهؤلاء الذين
أخذوا بأساليب الاُمويِّين في التحذير الديني ، وأمّا اُولئك الذين لم يُؤخذوا
بهذا اللون من الدعاية ، ولم تنطلِ عليهم أحابيل الاُمويِّين وأكاذيبهم فقد كان
لهم وضع آخر لا يقلّ إثارة للأسى عن هذا الوضع.
لقد صار الأمر بهؤلاء الآخرين إلى
ازدواج الشخصيّة ؛ فقد عملت سياسة معاوية المالية ، وأسلوبه الوحشي في التنكيل
بأعدائه العزّل من السلاح ، وتعليم الناس على الدجل والنفاق ، والسكوت عن الحقّ ،
والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصّلاً إلى دنيا معاوية ، وتمسّكاً بروحهم القبلية
التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير. وهذا الوضع الشاذّ
ـ الوضع الذي يفرض عليهم أن يخفوا دوماً ما يعتقدونه حقّاً واقعاً ، وأن يتظاهروا
بما تريده السلطة منهم ـ ولّد عندهم ازدواج الشخصيّة ، هذا
الازدواج الذي يرجع
إليه سرّ المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون على حكّام الجور من
الاُمويِّين والعباسيين ، ومَنْ تلاهم من الظالمين ، هذا الازدواج الذي كان يعمل
عمله في فضّ أعوان الثورة عنها بتأثير الشخصيّة الخارجيّة المُنسجمة الأخرى ، الشخصيّة
التي تُطاردها السلطة وتُحاربها ، هذا الازدواج الذي صوّره الفرزدق للحسين عليهالسلام حين لقيه في بعض
الطريق ، فسأله عن أهل الكوفة :
«قلوبهم معك وسيوفهم عليك».
* * *
ولقد كانت هذه السياسة خليقة بأن تنتهي
بالمجتمع الإسلامي إلى حالة تعسة من الذلّ والخنوع ، ومن تفاهة الحياة ، وأهداف
تلك الحياة.
لقد كانت خليقة بأن تحوّل المسلم من
إنسان يستبدّ به القلق لمصير الإنسانيّة كلّها ، ويُعبّر عن هذا القلق بالاهتمام
المباشر والعمل الإيجابي المؤدّي إلى التخفيف من ويلات الإنسان في كلّ مكان إلى
إنسان قبلي ضيّق الأفق ، يعيش داخل نطاق قوقعته القبلية التي كانت قبل الإسلام تغل
الإنسان العربي داخل إطارها فتعوق شخصيّته عن النمو والامتداد خارج حدود كيانه
القبلي ، والتي عادت في عهد معاوية تعمل عملها المُدمّر مرّة اُخرى.
ولقد كانت خليقة بأن تُحوّل من إنسان
عقائدي تسير حياته على خطّ مستقيم ـ خطّ النضال من أجل العقيدة التي يحرّر بها
غيره من الناس ، ويردّ إليهم اعتبارهم الإنساني المسلوب ـ إلى إنسان لا ترتكز
حياته على عقيدة ، ولا يحفزه مطمح عظيم ، إنسان تستبدّ به النزوات الطارئة ،
والمنافع القريبة ، وتجعله تارة هنا وتارة هناك.
ولقد كانت خليقة بأن تحوّله من إنسان
يعي وعياً عميقاً أنّ حياته الشخصيّة ليست ملكاً له بقدر ما هي ملك للجماعة
الإنسانيّة ، فإذا تعرضت
الجماعة لتحدٍّ يهددها
بذل حياته مغتبطاً في نضال هذا التحدّي إلى إنسان يحرص على هذه حرصاً شديداً مهما
كانت ملفّعة بالذلّ ، ومجلّلة بالعار ، ومهما كانت مزيّفة وناصلة.
ولقد كانت خليقة بأن تحوّله من إنسان
يحارب الظلم ويناجزه ، ويثور عليه أيّاً كان مصدره ـ فيكره الظلم من نفسه ويحملها
على العدل ، ويكره الظلم من غيره ، ويحمله على العدل ـ إلى إنسان يُكافح من أجل أن
يكون ظالماً إذا لم تقهره قوّة على أن يكون مظلوماً.
وكانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يفهم
أنّ الدين لا يجعل من المؤمنين به عبيد الطاغية يحكمهم باسم الدين إلى إنسان يؤيّد
الطّغاة الحاكمين.
وكانت خليقة بأن تحوّله من إنسان يرى
أنّ الثورة على سياسة التجويع والإرهاب حقّ إلى إنسان يُحارب الثائرين.
وتأريخ هذه الفترة من حياة المسلمين
حافل بالشواهد على أنّ هذا التحوّل كان قد بدأ يظهر للعيان ، ويطبع المجتمع
الإسلامي بطابعه ، ويمكننا أن نخرج بفكرة واضحة عن أثر هذه السياسة في المجتمع
الإسلامي حين نُقارن بين ردّ الفعل الذي واجه به المسلمون سياسة عثمان وعمّاله ،
وبين موقفهم من سياسة معاوية ؛ فقد كان ردّ الفعل لسياسة عثمان وعمّاله ثورة عارمة
من معظم أقطار الأمّة المسلمة من المدينة ومكة ، والكوفة والبصرة ومصر وغيرها من
حواضر المسلمين وبواديهم ، فهل نجد ردّ فعل جماعيّاً كهذا لتحدّيات معاوية في
سياسته اللإنسانيّة للجماهير المسلمة ، مع ملاحظة أنّ الظلم على عهد معاوية أفدح ،
والاضطهاد والقتل والإرهاب أعمّ وأشمل ، وحرمان الأمّة من حقوقها في ثرواتها
وإنتاجها أظهر.
الحقّ إنّنا لا نجد شيئاً من ذلك أبداً
؛ لقد كانت الجماهير خاضعة خضوعاً أعمى.
نعم ، كانت ثمّة احتجاجات تنبعث من هنا
تارة ومن هناك أخرى ، تدلّ على أنّ المجتمع يتململ تحت وطأة الاضطهاد والظلم ، كتلك
التي عبّر عنها موقف حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأضرابهما ، ولكنّها لم تأخذ مداها ، ولم تُعبّر
عن نفسها في حركة فعلية عامّة بل كانت سرعان ما تهمد وتموت في مهدها حين كانت
السلطة تأخذ طلائع هذه الحركات فيُقتلون دون أن يُحرك المجتمع ساكناً ، وإذا حدث
وتحرّك إنسان اشتُري سكوته بالمال .
* * *
ومُنذ بدأ الحكّام المسلمون يناوئون الننزعة
الإنسانيّة في الإسلام ، ليحوّلوه إلى مؤسسة تخدم مآرب فئة خاصة ، بدأ علي وأبناؤه
عليهمالسلام
وأصحابهم يدافعون عن الإسلام ، ويردّون عنه شرّ مَنْ يريد تحريفه وتزويره.
كان هذا هو عمل علي عليهالسلام طيلة حياته ، حتّى
إذا استشهد خلفه في الصراع ابنه الحسن ، وقضت عليه ظروف المجتمع الإسلامي ؛
الاجتماعيّة والنفسية أن يُهيئ هذا المجتمع للثورة على الحكم الأموي حتّى استشهد.
وبقي الحسين وحيداً.
وقد عاصر الحركة التي بدأها أعداء
الإسلام ، الدخلاء فيه ، والمستورون والحاقدون ، وطلاّب المنافع العاجلة في حربهم
ضدّ الإسلام وضدّ مبادئه الإنسانيّة. عاصر هذه الحركة منذ نشوئها ؛ عاصرها حيناً
مع أبيه وأخيه عليهماالسلام
، والصفوة من الأصحاب ، وعاصرها حيناً آخر مع أخيه ، وبقية السيف الاُموي من
الأصحاب ، وها هو ذا الآن يقف وحيداً في ساحة الصراع ، إنّه يقف وحيداً ضدّ معاوية
وجهاز حكمه
__________________
الإرهابي. ويرى
بعينيه كيف يُراد للأمّة المسلمة أن تتحوّل عن الأهداف العظيمة التي كوّنت لأجلها
، وكيف تُزيّف حياتها ، وكيف يُراد لوجودها أن يضمر ويضيق لينحصر في لقمة العيش ،
وفي حفنة من الدراهم يبيع المسلم بها حياته وضميره ، وحريته وكرامته الإنسانيّة
للحاكمين الظالمين.
وقد رأى منهج معاوية وبطانته الذي
اعتمدوه للوصول بالأمّة المسلمة إلى هذا المصير الكالح. رأى كيف يُطارد الناس ،
ويجوعون ويُضطهدون ، ويُنكّل بهم ؛ لأنّهم يخالفون السلطة في الهوى السياسي ، ورأى
كيف يُحرّف الإسلام وتزور مبادئه الإنسانيّة في سبيل المآرب السياسيّة ، ورأى حملة
التخدير الديني والكذب على الله ورسوله ، ورصد عن كثب محاولة إفساد المجتمع بتشجيع
الروح القبلية والنزعة العنصرية.
ولقد أراد الاُمويّون من الحسين عليهالسلام أن يخضع لهم ؛ لأنّ
خضوعه يؤمن لهم انقياد الأمّة المسلمة كلّها ، ويمكّنهم من ممارسة سياستهم دون
خشية. أراد ذلك معاوية بن أبي سفيان حين عزم على أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد من
بعده ، وتوسّل إلى ذلك بالشدّة حيناً ، وباللين حيناً آخر فما نال بغيته . وأراد ذلك يزيد حين صار إليه الأمر
بعد أبيه ، ولكنّ الحسين عليهالسلام
أبى أن يخضع ؛ لأنّه كان يعي أعمق الوعي دوره التأريخي الذي يفرض عليه أن يثور ؛
لتهزّ ثورته ضمير الأمّة التي اعتادت الانحناء أمام جبروت السلطة الحاكمة. اعتادت
ذلك حتّى ليُخشى ألاّ يصلحها شيء.
إنّ المجتمع الذي خضع طويلاً لتأثير
السياسة الاُمويّة والتوجيه الأموي لا يمكن أن يصلح بالكلام ؛ فهو آخر شيء يمكن أن
يؤثر فيه ... إنّ الكلمة لا يمكن أن تؤثّر شيئاً في النفس الميّتة ، والقلب الخائر
، والضمير المخدّر. كان لا بدّ لهذا المجتمع المتخاذل من مثال يهزّه هزّاً عنيفاً
، ويظلّ
__________________
يواليه بإيحاءاته
الملتهبة ليقتلع الثقافة العفنة التي خدّرته ، وقعدت به عن صنع مصير وضّاء.
وهذا الواقع الكالح وضع الإمام الحسين عليهالسلام وجهاً لوجه أمام
دوره التاريخي ورسالته النضالية. هذا الدور الذي يفرض عليه أن يثور ، وأن يُعبّر
بثورته عن شعور الملايين ، وأن يهزّ بثورته هذه الملايين نفسها ، ويضرب لها المثل
والقدرة في حرب الظالمين.
وقد كان كلّ ذلك ، وكانت ثورة الحسين عليهالسلام.
الفصل الثاني
دوافع الثورة وأسبابها
«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا
مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ
ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحقّ ، وهو خير الحاكمين».
الحسين بن علي عليهماالسلام
كانت مبررات الثورة على الحكم الاُموي
متوفّرة في عهد معاوية ، وقد كان الإمام الحسين عليهالسلام
يعرفها ، وقد عبّر عنها في عدّة كُتب وجّهها إلى معاوية جواباً عن كُتبه إليه ، وهي
كثيرة ، نقتبس منها قوله في كتاب :
«وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح
فحمة الدُّجى ، وبهرت الشمس أنوار السراج. ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى
أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجُرت حتّى جاوزت ، وما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه بنصيب
حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ...» .
وقوله في كتاب آخر :
«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه
انتهت إليك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ؛ فإنّ الحسنات
لا يهدي إليها ولا يُسدد إليها إلاّ الله تعالى.
وأمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي ،
فإنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميم ، المفرّقون بين الجمع. وكَذَب
الغاوون.
ما أرادت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ،
وإنّي لأخشى
__________________
الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه
إليك ، وإلى أوليائك القاسطين الملحدين ؛ حزب الظلمة ، وأولياء الشياطين.
ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة
وأصحابه الصالحين المصلّين العابدين ، الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستفظعون البدع
، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ
قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة
ألاّ تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ؛ جرأة على الله ، واستخفافاً بعهده؟
أوَلست قاتل ابن الحمق صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، العبد الصالح ، فقتلته
بعدما آمنته؟
أوَلست المدّعي زياد بن سميّة المولود
على فراش عُبيد بن ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الولد للفراش ، وللعاهر
الحجر. فتركت سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وتبعت هواك بغير هُدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام ؛ يقتّلهم ، ويقطع
أيديهم وأرجلهم ، ويسمل عيونهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه
الأمّة وليسوا منك؟
أوَلست صاحب الحضرمِيين الذين كتب فيهم
ابن سميّة أنّهم على دين علي (صلوات الله عليه) ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان
على دين علي ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه صلىاللهعليهوآله الذي كان يضرب عليه
أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي
أنت فيه؟
وقُلت فيما قُلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة
محمد ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم
على هذه الأمّة من ولايتك عليها ، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد صلىاللهعليهوآله من أن اُجاهدك ...
وقُلت فيما قُلت : إن أنكرك تنكرني ، وإن
أكدك تكدني ، فكد ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو ألاّ يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد
أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيت
بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ،
والعهود والمواثيق ، ولم تفعل ذلك إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ، وليس الله
بناس لأخذك بالطنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار
الغربة ...» .
ولذا ، فإنّ الباحث يتساءل عن السرّ في
قعود الحسين عليهالسلام
عن الثورة في عهد معاوية مع وجود مبرّرات الثورة في عهده ، فلماذا لم تدفعه هذه
المبرّرات إلى الثورة في أيّام معاوية ، وحملته على الثورة في أيّام يزيد؟
الذي نراه في الجواب على هذا التساؤل :
هو أنّ قعود الحسين عليهالسلام
عن الثورة في عهد معاوية كانت له أسباب موضوعية لا يمكن تجاهلها ، ويمكن إجمالها
فيما يلي :
__________________
ـ ١ ـ
أ ـ الوضع النفسي والاجتماعي
لقد كانت حروب الجمل وصفّين والنهروان ،
والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع السورية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز
واليمن بعد التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الإمام عليهالسلام
حنيناً إلى السلم والموادعة ؛ فقد مرّت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب
إلاّ ليشهروه في حرب أخرى ، وكانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم ، وإنّما يحاربون
عشائرهم وإخوانهم بالأمس ، ومَنْ عرفهم وعرفوه ....
وما نشكّ في أنّ هذا الشعور الذي بدأ
يظهر بوضوح في آخر عهد علي عليهالسلام
إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم ، أفاد خصوم الإمام عليهالسلام من زعماء القبائل
ومن إليهم ممّن اكتشفوا أنّ السياسة لا يمكن أن تُلبّي مطامحهم التي تُؤججها سياسة
معاوية في المال والولايات فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه ، وقد ساعد على
تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الرّوح القبلية التي استفحلت في عهد
عثمان بعد أن اُطلقت من عقالها بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآله
؛ فإنّ الإنسان ذا الرّوح القبلية عالمة قبيلته ، فهو ينفعل بانفعالاتها ، ويطمح
إلى ما تطمح إليه ، ويُعادي مَنْ تُعادي ، وينظر إلى الأمور من الزاوية التي تنظر
منها القبيلة ؛ وذلك لأنّه يخضع للقيم القبلية التي تخضع لها القبيلة ، وتتركّز
مشاعر القبيلة كلّها في رئيسها ، فالرئيس في المجتمع القبلي هو المُهيمن ،
والموجّه للقبيلة كلّها.
وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدّعة
وكراهيتهم للقتال ؛ بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على
الحجاز ، واليمن ، وحدود العراق ، وتثاقلهم عن الاستجابة للإمام عليهالسلام حين دعاهم للخروج
ثانية إلى صفّين.
فلمّا استشهد الإمام علي عليهالسلام وبويع الحسن عليهالسلام بالخلافة برزت هذه
الظاهرة على أشدّها ، وبخاصّة حين دعاهم الحسن عليهالسلام
للتجهّز لحرب الشام ، حيث كانت الاستجابة بطيئة جدّاً.
وبالرغم من أنّ الإمام الحسن عليهالسلام قد استطاع بعد ذلك
أن يجهّز لحرب معاوية جيشاً ضخماً ، إلاّ إنّه كان جيشاً كُتبت عليه الهزيمة قبل
أن يلاقي العدو بسبب التيارات المتعدّدة التي كانت تتجاذبه ، فقد.
«خفّ معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة
له ولأبيه ، وبعضهم محكّمة ـ أي خوارج ـ يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة ، وبعضهم
أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكّاك وأصحاب عصبية اتّبعوا رؤساء قبائلهم» .
وقد كان رؤساء القبائل هؤلاء قد باعوا
أنفسهم من معاوية الذي كتب إلى كثير منهم يُغريهم بالتخلّي عن الحسن عليهالسلام والالتحاق به ، وأكثر
أصحاب الحسن عليهالسلام
لم يستطيعوا مقاومة هذا الإغراء ، فكاتبوا معاوية واعدين بأن يسلّموه الحسن عليهالسلام حيّاً أو ميّتاً. وحين
خطبهم الإمام الحسن عليهالسلام
ليختبر مدى إخلاصهم وثباتهم ، هتفوا به من كلّ جانب : «البقيّة البقيّة» ، بينما هاجمته طائفة منهم تريد قتله.
هذا في الوقت الذي أخذ الزعماء يتسلّلون تحت جنح الليل إلى معاوية بعشائرهم.
__________________
ولمّا رأى الإمام الحسن عليهالسلام ـ أمام هذا الواقع
السيِّئ ـ أنّ الظروف النفسية والاجتماعيّة في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع
عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال ، وانتزاع النصر ، ورأى أنّ الحرب ستكلّفه استئصال
المخلصين من أتباعه بينما يتمتّع معاوية بنصر حاسم ، حينئذ جنح إلى الصلح بشروطٍ
منها ألاّ يعهد معاوية لأحد من بعده ، وأن يكون الأمر للحسن ، وأن يترك الناس
ويُؤمنوا.
ولقد كان هذا هو الطريق الوحيد الذي
يستطيع الحسن عليهالسلام
أن يسلكه باعتباره صاحب رسالة قد اكتنفته هذه الظروف السيئة المُؤيسة.
ونحن حين نسمح لأنفسنا أن نندفع وراء
العاطفة نحسب أنّه كان على الحسن عليهالسلام
أن يُحارب معاوية ولا يُهادنه ، وإنّ ما حدث له لم يكن إلاّ استسلاماً مُذلاً مكّن
معاوية من أن يستولي على الحكم بسهولة ما كان يحلم بها. وقد انزلق في هذا الخطأ
كثير من أصحابه المؤمنين المخلصين ، وقد عبّر بعضهم عن المرارة التي يحسّ بها بأنّ
خاطب الحسن عليهالسلام
بقوله : (يا مُذلّ المؤمنين). هذا ، ولكن علينا أن نفكّر بمقاييس اُخرى إذا شئنا
فهم موقف الإمام الحسن عليهالسلام
الذي يبدو محيّراً لأوّل وهلة ، فلا شك أنّ الإمام الحسن عليهالسلام لم يكن مُغامراً ،
ولا طالب ملك ، ولا زعيماً قبلياً يُفكّر ويعمل بالعقلية القبلية ، وإنّما كان
صاحب رسالة ، وحامل دعوة ، وكان عليه أن يتصرّف على هذا الأساس. ولقد كان الموقف
الذي اتّخذه هو الموقف الملائم لأهدافه كصاحب رسالة وإن كان ثقيلاً على نفسه ،
مؤلماً لمشاعره الشخصيّة.
لقد كان من الممكن بالنسبة لقائد مُحاط
بنفس الظروف السيئة التي كان الإمام الحسن عليهالسلام
مُحاطاً بها أن يتّخذ من الأحداث أحد ثلاثة مواقف :
الأوّل
: أن يُحارب معاوية رغم الظروف السيئة ،
ورغم النتائج المؤلمة التي تترتّب على هذا الموقف.
الثاني
: أن يُسلّم السلطة إلى معاوية ، وينفض
يده من الأمر ، ويتخلّى عن
أهدافه ، ويقنع
بالغنائم الشخصيّة.
الثالث
: أن يخضع للظروف المعاكسة فيتخلّى
مؤقّتاً عن الصراع الفعلي المسلّح ، لكن لا ليرقب الأحداث فقط ، وإنّما ليُكافح
على صعيد آخر فيُوجّه الأحداث في صالحه وصالح أهدافه.
ما كان للحسن عليهالسلام باعتباره صاحب
رسالة أن يتّخذ الموقف الأوّل ؛ لأنّه لو حارب معاوية في ظروفه التي عرضناها ،
وبقواه المُفككة المُتخاذلة ، لكانت نيتجة ذلك أن يُقتل ، ويُستأصل المخلصون من أتباعه.
ولا شك أنّه حينئذ كان يُحاط بهالة من الإكبار ، والإعجاب لبسالته وصموده ، ولكنّ
النتيجة بالنسبة إلى الدعوة الإسلاميّة ستكون سيئة إلى أبعد حدّ ؛ فإنّها كانت
ستفقد فريقاً من أخلص حُماتها دون أن تحصل على شيء سوى أسماء جديدة تُضاف إلى
قائمة شهدائها.
كذلك ما كان له باعتباره صاحب رسالة أن
ينفض يده من كلّ شيء ويسترسل في حياة الدعة والرغد ، والخلو من هموم القيادة
والتنظيم.
لقد كان الموقف الثالث ـ وهو الموقف
الذي اتّخذه الإمام الحسن عليهالسلام
ـ هو الموقف الوحيد الصحيح بالنسبة إليه ، وذلك أن يعقد مع معاوية هدنة يعدّ فيها
المجتمع للثورة.
وذلك لأنّنا نسمح لأنفسنا أن نقع في خطأ
كبير حين ننساق إلى الاعتقاد بأنّ الإمام الحسن عليهالسلام
قد اعتبر الصلح خاتمة مريحة لمتاعبه ، فما صالح الإمام الحسن عليهالسلام ليستريح ، وإنّما
ليُكافح من جديد ، ولكن على صعيد آخر.
فإذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول
معاناتهم لها ، ورغبوا في السلم انخداعاً بحملة الدعاية التي بثّها فيهم عملاء
معاوية ، إذ مَنّوهم بالرخاء والأعطيات الضخمة ، والدعة والسكينة ، وطاعة لرغبات
زعمائهم القبليين ، فإنّ عليهم أن يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين
ضعفوا عن القيام بتبعات القتال ، وسمحوا للأماني تخدعهم ، ولزعمائهم
بأن يظلّلوهم ، ولا
يمكن أن يكتشفوا ذلك إلاّ إذا عانوا هذا الحكم بأنفسهم : عليهم أن يكتشفوا طبيعة
هذا الحكم وواقعه ، وما يقوم عليه من اضطهاد وحرمان ، ومُطاردة مُستمرة ، وخنق
للحريات ، وعلى الإمام الحسن عليهالسلام
وأتباعه المخلصين أن يفتحوا أعين الناس على هذا الواقع ، وأن يُهيّئوا عقولهم
وقلوبهم لاكتشافه ، والثورة عليه ، والإطاحة به.
ولم يطل انتظار أهل العراق ، فقد قال لهم
معاوية حين دخل الكوفة :
«يا أهل الكوفة ، أترون أنّي قاتلتكم
على الصلاة ، والزكاة ، والحجّ ، وقد علمت أنّكم تُصلّون ، وتُزكّون ، وتحجّون؟!
ولكنّي قاتلتكم لأأتمر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون.
ألا إنّ كلّ دم اُصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدمي هاتين» .
ثمّ اتّبع ذلك طائفة من الإجراءات التي
صدمت العراقيين ؛ أنقص من أعطيات أهل العراق ليزيد في أعطيات أهل الشام ، وحملهم
على أن يُحاربوا الخوارج فلم يتح لهم أن ينعموا بالسلم الذي كانوا يحنّون إليه ،
ثمّ طبّق منهاجه الذي شرحناه في الفصل السابق ؛ الإرهاب ، التجويع ، والمُطاردة ،
ثمّ أعلن بسبّ أمير المؤمنين علي عليهالسلام
على منابر المسلمين.
وبيّنما راح الزعماء القبليون يجنون
ثمرات هذا العهد ، بدأ العراقيون العاديون يكشفون رويداً طبيعة هذا الحكم الظالم
الشرس الذي سعوا إليه بأنفسهم ، وثبّتوه بأيديهم.
«وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام
علي فيحزنون عليها ، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم ، ويندمون على
ما كان من الصلح بينهم
__________________
وبين أهل الشام ، وجعلوا كلّما لقي
بعضهم بعضاً تلاوموا فيما كان ، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون. ولم تكد تمضي
أعوام قليلة حتّى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن عليهالسلام ، والقول له ،
والاستماع منه».
وقد أقبل عليه ذات يوم وفد من أشراف أهل
الكوفة فقال له متكلّمهم سليمان بن صرد الخزاعي :
«ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ومعك
أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلّهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم ، ومعهم
مثلهم من أبنائهم وأتباعهم ، سوى شيعتك [من] أهل البصرة ، وأهل الحجاز ، ثمّ لم
تأخذ لنفسك ثقة في العقد ، ولا حظّاً من العطية ، فلو كنت إذا فعلت ما فعلت أشهدت
على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب ، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده ، كان
الأمر علينا أيسر ، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه ، ثمّ لم يفِ به ، ثمّ لم يلبث
أن قال على رؤوس الناس إنّي كنت شرطت شروطاً ، ووعدت عدات ؛ إرادة لإطفاء نار
الحرب ، ومداراة لقطع هذه الفتنة ، فأمّا إذ جمع الله لنا الكلمة والإلفة ،
وأمّننا من الفرقة ، فإنّ ذلك تحت قدمي. فوالله ما اغترّني بذلك إلاّ ما كان بينك
وبينه وقد نقض ، فإن شئت فأعد الحرب جذعة ، وأذّن في تقدمك إلى الكوفة ، فأخرج
عنها عامله ، وأظهر خلعه ، وتنبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين».
وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد
... فقال لهم فيما روى البلاذري :
«أنتم شيعتنا ، وأهل مودّتنا ، فلو كنتُ
بالحزم في أمر
الدنيا أعمل ، ولسلطانها أعمل وأنصب ما
كان معاوية بأبأس منّي بأساً ، ولا أشدّ شكيمة ، ولا أمضى عزيمة ، ولكنّي أرى غير
ما رأيتم ؛ وما أردت فيما فعلت إلاّ حقن الدماء ، فارضوا بقضاء الله ، وسلّموا
الأمر ، والزموا بيوتكم ، وامسكوا ، وكفّوا أيديكم حتّى يستريح برّ ، ويستراح من
فاجر».
«فقد أعطاهم الحسن عليهالسلام ـ كما ترى ـ الرضا
حين أعلن إليهم أنّهم شيعة أهل البيت ، وذووا مودّتهم ، وإذن فمن الحقّ عليهم أن
يستمعوا له ، ويأتمروا بأمره ، ويكونوا عندما يريد منهم. ثمّ طلب إليهم أن يرضوا
بقضاء الله. يطيعوا السلطان ، ويكفّوا أيديهم عنه ، وأنبأهم بأنّهم لن يفعلوا ذلك
آخر الدهر ، ولن يستسلموا لعدوهم بغير مقاومة ، وإنّما انتظار إلى حين ، هو انتظار
إلى أن يستريح الأبرار من أهل الحقّ ، أو يريح الله من الفجّار من أهل الباطل».
«فهو إذن يهيئهم للحرب حين يأتي إبّانها
، ويحين حينها ، ويأمرهم بالسلم المؤقتة حتّى يستريحوا ويحسنوا الاستعداد. ومَنْ
يدري لعلّ معاوية أن يريح الله منه ، فتستقبل الأمّة أمرها على ما يحبّ لها صالحوا
المؤمنين» .
ولم يكن سليمان بن صرد ومَنْ معه
منفردين في هذه الحركة ، فكثيراً ما جاء العراقيون إلى الحسن عليهالسلام يطلبون منه أن يثور
، ولكنّه كان يعدهم المستقبل ويعدّهم للثورة. وها هو يجيب حجر بن عدي الكندي بقوله
:
__________________
«إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح ، وكرهوا
الحرب ، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون ؛ فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من
القتل ، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما ؛ فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن» .
وإذاً ، فهذه فترة إعداد وتهيؤ حتّى
يأتي اليوم الموعود ، حين يكون المجتمع قادراً على الثورة مستعداً لها ، أمّا الآن
فلم يبلغ المجتمع هذا المستوى من الوعي ، بل لا يزال أسير الأماني والآمال ، هذه
الأماني والآمال التي بثّت فيه روح الهزيمة التي صوّرها الإمام الحسن عليهالسلام لعلي بن محمد بن
بشير الهمداني حين قال له :
«ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع
عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب ، ونكولهم عن القتال. ووالله لئن
سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بدّ من إفضاء هذا الأمر إليه» .
وإذاً فقد كان دور الحسن عليهالسلام أن يُهيئ عقول
الناس وقلوبهم للثورة على حكم الاُمويِّين ، هذا الحكم الذي كان يشكّل إغراءً
قوياً للعرب في عهد أمير المؤمنين علي عليهالسلام
، والذي غدا فتنة للعراقيين بعده حملتهم على التخلّي عن الإمام الحسن عليهالسلام في أحلك الساعات ،
وذلك بأن يدع لهم فرصة اكتشافه بأنفسهم ، مع التنبيه على ما فيه من مظالم ، وتعدٍّ
لحدود الله.
* * *
ولم يكن الحسين عليهالسلام أقلّ إدراكاً لواقع
مجتمع العراق من أخيه الحسن عليهالسلام
؛ لقد رأى من هذا المجتمع وتخاذله مثل ما رأى أخوه ، ولذلك
__________________
فقد آثر أن يعدّ
مجتمع العراق للثورة ، ويعبّئه لها بدل أن يحمله على القيام بها الآن.
كان هذا رأيه في حياة أخيه الإمام الحسن
عليهالسلام
، فقد قال لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين فاوضه في الثورة بعد أن يئس من
استجابة الإمام الحسن عليهالسلام
:
«صدق أبو محمد ، فليكن كلّ رجل منكم
حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان
حيّاً» .
يعني معاوية بن أبي سفيان.
وكان هذا رأيه بعد وفاة الإمام الحسن عليهالسلام ، فقد كتب إليه أهل
العراق يسألونه أن يجيبهم إلى الثورة على معاوية ، ولكنّه لم يجيبهم إلى ذلك ،
وكتب إليهم :
«أمّا أخي ، فأرجو أن يكون الله قد
وفّقه وسدّده فيما يأتي ، وأمّا أنا فليس رأي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله
بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً» .
وإذاً ، فقد كان رأي الحسين عليهالسلام ألاّ يثور في عهد
معاوية ، وهو يأمر أصحابه بأن يخلدوا إلى السكون والهدوء ، وأن يبعدوا عن الشبهات.
وهذا يوحي لنا بأنّ حركة منظمة كانت تعمل ضدّ الحكم الاُموي في ذلك الحين ، وأنّ
دُعاتها هم هؤلاء الأتباع القليلون المخلصون الذين ضنّ بهم الحسن عليهالسلام عن القتل فصالح
معاوية ، وأنّ مهمّة هؤلاء كانت بعث روح الثورة في النفوس
__________________
عن طريق إظهار
المظالم التي حفل بها عهد معاوية ؛ انتظاراً لليوم الموعود.
وقد رأينا أنّ هذه الدعوة ضدّ الحكم
الاُموي قد بدأت بعد الصلح ، وقد كانت في عهد الإمام الحسن عليهالسلام تسير في رفق وهدوء
، نظراً لأنّ المجتمع كان لا يزال مأخوذاً ببريق الحكم الاُموي ، ولم يتمثّل بعد
طبيعة هذا الحكومة الظالمة الباغية تمثّلاً صحيحاً. أمّا في عهد الإمام الحسين عليهالسلام فقد ازدادت الدعوة
عنفاً وشدّة واحتداماً ، وأخذت تكسب أنصاراً كثيرين في كلّ مكان بعد أن أسفر الحكم
الاُموي عن وجهه تماماً ، وبعد أن بدا على واقعه الذي سترته الوعود الجذّابة
والألفاظ المعسولة.
ولقد كان كلّ حدث من أحداث معاوية يجد
صدى مدوّياً في المدينة حيث الإمام الحسين عليهالسلام
، ويكون مداراً لاجتماعات يعقدها الإمام الحسين عليهالسلام
مع أقطاب الشيعة في العراق ، والحجاز وغيرهما من بلاد الإسلام ، يدلّنا على ذلك
أنّه حين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي وأصحابه خرج نفر من أشراف الكوفة إلى
الحسين عليهالسلام
فأخبروه الخبر.
ولا بدّ أنّ حركة قويّة دفعت مروان بن
الحكم عامل معاوية على المدينة إلى أن يكتب إلى معاوية :
«أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ
رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وإنّه لا
يُؤمن وثُوبه ، وقد بحثت عن هذا فبلغني أنّه يُريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ
برأيك» .
__________________
ـ ٢ ـ
ب ـ شخصيّة معاوية
وأكبر الظنّ أنّ الحسين عليهالسلام لو ثار في عهد
معاوية لما استطاع أن يسبغ على ثورته هذا الوهج الساطع الذي خلّدها في ضمائر الناس
وقلوبهم ، والذي ظلّ يدفعهم عبر القرون الطويلة إلى تمثّل أبطالها ، واستيحائهم في
أعمال البطولة والفداء.
وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية ،
واُسلوبه الخاصّ في معالجة الأمور ؛ فإنّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة
بالمثابة التي يُتيح فيها للحسين عليهالسلام
أن يقوم بالثورة مدوّية ، بل الراجح أنّه كان من الحصافة بحيث يُدرك أنّ جهر
الحسين عليهالسلام
بالثورة عليه ، وتحريضه الناس على ذلك كفيل بزجّه في حروب تُعكّر عليه بهاء النصر
الذي حازه بعد صلح الحسن عليهالسلام
، إن لم يكن كافياً لتفويت ثمرة هذا النصر عليه ؛ لأنّه عارف ـ ولا ريب ـ بما
للحسين عليهالسلام
من منزلة في قلوب المسلمين.
وأقرب الظنون في الاُسلوب الذي يتبعه
معاوية في القضاء. على ثورة الحسين عليهالسلام
ـ لو ثار في عهده ـ هو أنّه كان يتخلّص منه بالسمّ قبل أن يتمكّن الحسين عليهالسلام من الثورة ، وقبل
أن يكون لها ذلك الدوي الذي يُموّج الحياة الإسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها
هادئة ساكنة.
والذي يجعل هذا الظنّ قريباً ما نعرفه
من اُسلوب معاوية في القضاء على مَنْ يخشى منافستهم له في السلطان ، أو تعكير صفو
السلطان عليه ؛ فإنّ الطريقة المثالية عنده في التخلّص منهم هي القضاء عليهم بأقلّ
ما يمكن من
الضجيج. ولقد مارس
معاوية هذا الاُسلوب في القضاء على الحسن بن علي عليهماالسلام
، وسعد بن أبي وقاص
، ومارسه في القضاء على الأشتر لمّا توجّه إلى مصر ، ومارسه في القضاء على عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد لمّا رأى افتتان أهل الشام به .
وقد أوجز هو اُسلوبه هذا في كلمته
المأثورة :
«إنّ لله جنوداً من العسل» .
والذي يرتفع بهذا الظنّ إلى مرتبة
الاطمئنان ما نعلمه من أنّ معاوية كان قد وضع الأرصاد والعيون على الحسين عليهالسلام وعلى غيره ممّن
يخشاهم على سلطانه ، وأنّهم كانوا يكتبون إليه بما يفعل هؤلاء ، ولا يغفلون عن
إعلامه بأيسر الأمور وأبعدها عن إثارة الشكّ والريبة .
فلو تحفّز الحسين عليهالسلام للثورة في عهد معاوية
ثمّ قُضي عليه بهذه الميتة التي يُفضلها معاوية لأعدائه ، فماذا كانت تكون جدوى
فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلى أن يكون واقعاً بحياة الناس بدمائهم
وأعصابهم؟ وما كان يعود على المجتمع الإسلامي من موته وقد قضى كما يقضي سائر الناس
بهدوء وبلا ضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوى علوي مات حتف أنفه ، يُثير موته الأسى
في قلوب أهله ومحبيه وشيعة أبيه إلى حين ، ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع
الذكريات.
__________________
وأين هذا ممّا صار إليه أمره وأمر مبدئه
حين ثار في عهد يزيد؟
* * *
هذا بالإضافة إلى أنّ معاوية كان يُدرك
أنّه ليس ينبغي له ـ وهو يحكم الناس بسلطان الدين ـ أن يرتكب من الأعمال ما يراه
العامّة تحدّياً للدين يحكم بسلطانه ، بل عليه أن يسبغ على أعماله غشاء دينياً
لتنسجم هذه الأعمال مع المنصب الذي وصل إليه ، أمّا ما لا يمكن تمويهه من
التصرّفات فليرتكبه في السرّ .
وقد أظهره سلوكه المحافظ على تعاليم
الدين بمظهر لا غبار عليه من الناحية الدينية عند العامّة ، على الرغم من بعض
الروايات التأريخيّة التي تؤكّد أنّه كان مُلحداً لا يؤمن بشيء ؛ ممّا جعل المغيرة
بن شعبة وهو في تحلّله يغتمّ لما سمعه منه في بعض مجالسه معه ، ويقول عنه أنّه
أخبث الناس .
وقد استغل ظروفه لإسباغ صفة الشرعية على منصبه ؛ وذلك بدعواه أنّه يطلب بدم عثمان
، وبما موّه على الرأي العام في مؤتمر التحكيم بعد صفّين من صلوحه للخلافة ، وبصلحه
مع الإمام الحسن عليهالسلام
وبيعة الناس له بالخلافة.
فلو أفلت من معاوية الزمام ، وغفلت
عيونه وأرصاده فخرجت الفكرة إلى حيّز الواقع ، وتحوّلت إلى دويٍّ عظيم ، فهل كانت
ثورة الحسين عليهالسلام
تنجح في عهد معاوية.
والذي نتساءل عنه هنا ليس النجاح
العسكري ؛ فإنّ ثورته ما كانت لتحوز نصراً عسكرياً آنيّاً يمكّن الحسين عليهالسلام من الإمساك بالسلطة
؛ لأنّه كان
__________________
ضعيفاً من الناحية
الماديّة ، ومعاوية أقوى ما يكون ، وقد رأينا أنّها أخفقت عسكرياً في عهد يزيد مع
أنّ سلطان الاُمويِّين في عهده كان بالغ الضعف ؛ بسبب استنكار عامّة المسلمين لسلطانه
، وبسبب التناحر القبلي الذي كان قد بلغ غايته في الشام .
وإنّما نتساءل عن نجاح ثورته بمعنى
تمكّنه من التعبير بها عن أهدافه الاجتماعيّة والإنسانيّة ، وإشعار الناس بواقعهم
السيِّئ ، وكشف الحكم الاُموي على حقيقته لأعينهم ، وبعث روح جديدة فيهم ، وبث أخلاق
جديدة بينهم ، على النحو الذي سنرى أنّه تمكّن منه في عهد يزيد.
والجواب الذي لا بدّ منه هنا هو النفي ،
بل كان مصيره إلى الإخفاق على الصعيد العسكري ، وعلى هذا الصعيد الآخر الذي بوّأ
ثورته في عهد يزيد منزلة فريدة في تأريخ الثورات.
وإذا بحثنا عن السبب في إخفاق ثورة
الحسين عليهالسلام
لو ثار في عهد معاوية لوجدناه في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص على إسباغها على
سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة ، وفي صفة الشرعية التي أفلح في أن يسبغها على
منصبه لدى جانب كبير من الرأي العام الإسلامي.
فإنّ هذا الواقع كان يُجرّد ثورة الحسين
عليهالسلام
ـ لو ثار ـ من مبرّرها الوحيد ؛ لأنّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه
للناس حيث يتساءلون عمّا حمل الحسين عليهالسلام
على الثورة ، أو يجيب به الناس أنفسهم ، هو أنّ الحسين عليهالسلام طالب ملك ، ولو
قُتل الحسين عليهالسلام
في سبيل ما توهّمه الناس هدفاً من ثورته لما أثار قتله استنكاراً ، ولما عاد قتله
بشيء على مبادئه ودوافعه الحقيقية للثورة ، بل ربّما
__________________
عدّه فريق من الناس
مستحقّاً للقتل ، ولن يجدي الحسين عليهالسلام
وأنصاره أن يعلنوا للناس أنّ ثورتهم لحماية الدين من تحريف وتزييف معاوية ، وإنقاذ
الأمّة من ظلمه ، فلن يصدّقهم الناس ؛ لأنّهم لا يرون على الدين من بأس ، ولم
يُحدث معاوية في الدين حدثاً ، ولم يُجاهر بمنكر ، بل سيرى الناس أنّ مقالتهم هذه
ستار يخفي مقاصدهم الحقيقية.
ـ ٣ ـ
ج ـ العهد والميثاق
ولقد كان معاوية خليقاً بأن يستغل في
سبيل تشويه ثورة الحسين عليهالسلام
ـ لو ثار في عهده ـ هذا الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسن عليهالسلام مع معاوية ، فلقد
عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام
قد عاهدا معاوية على السكوت عنه ، والتسليم له ما دام حيّاً ، ولو ثار الحسين عليهالسلام على معاوية لأمكن
لمعاوية أن يصوّره بصورة المنتهز الناقض لعهده وميثاقه الذي أعطاه.
ونحن نعلم أنّ الحسين عليهالسلام ما كان يرى في عهد
معاوية عهداً حقيقياً بالرعاية والوفاء ؛ فقد كان عهداً تمّ بغير رضاً واختيار ، وقد
كان عهداً تمّ في ظروف لا بدّ للمرء في تغييرها ، ولقد نقض معاوية هذا العهد ، ولم
يعرف له حرمة ، ولم يحمل نفسه مؤونة الوفاء به ، فلو كان عهداً صحيحاً لكان الحسين
عليهالسلام
في حلّ منه ؛ لأنّ معاوية قد تحلل منه ، ولم يأل في نقضه جهداً.
ولكنّ مجتمع الحسين عليهالسلام ، هذا المجتمع الذي
رأينا أنّه لم يكن أهلاً للقيام بالثورة ، والذي كان يؤثر السلامة والعافية كان
يرى أنّه قد عاهد ، وإنّ عليه أن يفي
وأكبر الظنّ أنّ ثورته ـ لو قام بها في عهد معاوية ـ كانت ستفشل
__________________
على الصعيد السياسي
وعلى الصعيد الاجتماعي حين ينظر إليها المجتمع الإسلامي من الزاوية التي كان
معاوية سيسلّط عليها الأضواء ، وهي هذا العهد والميثاق الذي نقضه الحسين عليهالسلام وأنصاره من
الثائرين ، فيظهرها للرأي العام وكأنّها تمرّد غير مشروع.
ولعلّ هذا هو ما يفسّر جواب الحسين عليهالسلام لسليمان بن صرد
الخزاعي حين فاوضه في الثورة على معاوية ، والحسن عليهالسلام
حي ، فقد قال له :
«فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس
بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً ؛ فإنّها بيعة كنتُ والله لها كارهاً ، فإن هلك
معاوية نظرنا ونظرتم ، ورأينا ورأيتم» .
وجوابه لعدي بن حاتم الطائي وقد فاوضه
في الثورة أيضاً بقوله :
«إنّا قد بايعنا وعاهدنا ، ولا سبيل
لنقض بيعتنا» .
وقد ثبت على موقفه هذا بعد وفاة الإمام
الحسن عليهالسلام
، فقد روى الكلبي ، والمدائني ، وغيرهما من أصحاب السير ، قالوا :
«لمّا مات الحسن بن علي عليهماالسلام تحرّكت الشيعة
__________________
بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين في خلع
معاوية والبيعة له فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً ولا
يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ، فإذا مات معاوية نظر في ذلك» .
وقد كان معاوية يستغل هذه الحُرمة التي
للعهد في نفوس الناس ؛ فيلوّح بها في مكاتباته إلى الإمام الحسين عليهالسلام حول نشاطه في تعبئة
المجتمع الإسلامي للثورة على الحكم الاُموي ؛ فقد كتب إليه.
«أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ،
إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله ، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه
لجدير بالوفاء ، وإنّ أحق الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ، ومنزلتك
التي أنزلك الله بها. ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوفِ ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ،
ومتى تكدني أكدك ، فاتقِ شقّ عصا هذه الاُمّة» .
فها هو ذا معاوية يُلوّح هنا بالعهد
والميثاق ، ويُطالب بالوفاء بهما.
ولربما فهم الناس من ثورته لو ثار في
عهد معاوية أنّه كان على غير رأي أخيه الحسن عليهالسلام
في الصلح مع معاوية ، وقد كان الحسين عليهالسلام
دائماً حريصاً على أن يُظهر اتّفاقه مع أخيه في القرار الذي اتّخذه ومن جملة ما
يدلّ على ذلك جوابه لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين ذكر له امتناع الحسين عليهالسلام
__________________
من إجابة مَنْ دعاه
إلى الثورة بعد الصلح ، مبيّناً لهم عدم استعداد المجتمع الإسلامي لذلك :
«صدق أبو محمد ، فليكن كلّ رجل منكم
حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً» .
* * *
وإذاً ، فلم يثُر الحسين عليهالسلام في عهد معاوية ؛
لأنّ المجتمع لم يكن مُهيئاً للثورة
، وكان هذا هو السبب الذي دفع بالحسن عليهالسلام
إلى أن يُصالح معاوية بعدما تبيّن له عقم محاولة المضي في الصراع ، ولولا ذلك لما
صالح الحسن عليهالسلام
معاوية ، ولما قعد الحسين عليهالسلام
عن الثورة على معاوية. وقد أضاف هذا الصلح سبباً آخر منع الحسين عليهالسلام من الثورة على
معاوية الذي كانت شخصيته عاملاً في جعل الثورة عليه عملاً غير مضمون بالنجاح ؛
ولذا فقد كان لا بدّ للحسن والحسين عليهماالسلام
ـ وهذه هي ظروفهما في عهد معاوية ـ أن يُهيّئا هذا المجتمع للثورة ، وأن يعدّاه
لها.
وقد مضت الدعوة إلى الثورة على الحكم
الاُموي تنتشر بنجاح طيلة عهد معاوية ، تجد غذاءها في ظلم معاوية وجوره ، وبُعده
عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح ، وانتهى الأمر بهذه الدعوة إلى هذا النجاح الكبير
الذي أوجزه الدكتور طه حسين في هذه الكلمات :
«ومات معاوية حين مات ، وكثير من الناس
وعامّة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً» .
ـ ٤ ـ
أ ـ شخصيّة يزيد
أمّا يزيد فقد كان على الضدّ مع أبيه في
كلّ ما كان يحول بين الحسين عليهالسلام
وبين الثورة على أبيه.
أ
ـ شخصيّة يزيد
لقد كان يزيد من أبعد الناس عن الحذر
والحيطة والتروّي.
كان إنساناً صغير العقل ، متهوراً ، سطحي
التفكير ، «لا يهم بشيء إلاّ ركبه» .
واُسلوبه في معالجة المشاكل التي واجهته
خلال حكمه يعزّز وجهة النظر هذه. اُسلوبه في معالجة ثورة الحسين عليهالسلام ، واُسلوبه في
معالجة ثورة أهل المدينة ، واُسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير.
وتدلّ بعض الملاحظات التي ذكرها
المؤرّخون عن حياته العاطفية أنّ هذا النزق والتهوّر ، والاستجابة السريعة العنيفة
للانفعال ليس أموراً عارضة ، بل هي سمات أصيلة في شخصيته .
ومن ثمّ فهو أبعد الناس عن أن يواجه
ثورة الحسين عليهالسلام
باُسلوب أبيه ، بل
__________________
القريب أن يواجهها
بالاُسلوب الذي يتّفق مع شخصيته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها
من المشاكل التي واجهته.
ونشأة يزيد المسيحية ، أو القريبة من
المسيحية
، جعلته أضعف ما يكون صلة بالعقيدة التي يُريد أن يحكم الناس باسمها ، أعني
الإسلام. وحياة التحلّل التي عاشها قبل أن يلي الحكم ، والانسياق مع العاطفة ، وتلبية
كلّ رغباته ، كلّ ذلك جعله عاجزاً عن التظاهر بالورع والتقوى والتلبّس بلباس الدين
بعد أن حكم المسلمين ، هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعته النزقة جعلته يُعالن الناس
بارتكاب المحرّمات ، ويُقارف من الآثام ما عرف الناس بمدى بُعده عن الصلاحية
لتولّي منصب الخلافة.
ومن ثمّ فلن يكون في وسع أنصار الحكم
الاُموي أن يُلوثوا ثورة الحسين عليهالسلام
أمام الرأي العام بأنّها ثورة في سبيل الملك ؛ لأنّ العامّة ترى أنّ مبرّرات هذه
الثورة موجودة في سلوك يزيد نفسه ، هذا السلوك الذي لا يلتقي مع الدين على صعيد ، وسيقبل
الناس بلا تردّد تبرير الحسين عليهالسلام
وأنصاره لثورتهم بحماية الدين ، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين.
__________________
ب
ـ موقف الحسين عليهالسلام من يزيد في حياة
معاوية
وقد حاول معاوية أن يُقيّد الإمام
الحسين عليهالسلام
ببيعة يزيد ، أو يضمن ـ على الأقل ـ سكوت الإمام الحسين عليهالسلام عن يزيد ، فلم يفز
بطائل.
ويروي المؤرّخون عدّة مواقف للحسين عليهالسلام مع معاوية حين أخذ
يعدّ الأمر لابنه يزيد من بعده ، وكان من جملة كتبه إليه في هذا الشأن قوله في
أحدها :
«... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله
وسياسته لأمّة محمد ؛ تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت
غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع
رأيه ؛ فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب الهراش عند التهارش ، والحمام
السبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده باصراً ، ودع عنك ما
تحاول ؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه. فوالله ما
برحت تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت
إلاّ غمضة ...» .
وقد أراد معاوية أن يحمل الحسين عليهالسلام على البيعة ليزيد
بحرمان بني هاشم جميعاً من أعطياتهم حتّى يبايع الحسين عليهالسلام ، فلم يتحقق له ما أراد ، ومات معاوية
والحسين عليهالسلام
باقٍ على موقفه من الإنكار لبيعة يزيد.
__________________
ـ ٥ ـ
موقف الحسين عليهالسلام
من البيعة ليزيد
«ومات معاوية حين مات وكثير من الناس
وعامة أهل العراق ـ بنوع خاص ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً»
.
فقد اكتشف المجتمع الإسلامي ما فيه
الكفاية من عورات الحكم الاُموي ، وذاق طعم عذابه ، وخبر ألواناً من عسفه وظلمه في
الأرزاق والكرامات ، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أوّل عهد
معاوية.
ولم يكن يزيد في مثل تروّي أبيه وحزمه
واحتياطه للأمور ، ولم يلتزم اُسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني مُسدلاً على
أفعاله وتصرّفاته.
ولم يكن بين الحسن والحسين عليهماالسلام من جهة وبين يزيد
من جهة اُخرى أي عهد أو ميثاق.
وهكذا فقد انزاحت بموت معاوية ووعي
المجتمع الإسلامي جميع الأسباب التي كانت تحول بين الحسين عليهالسلام وبين الثورة في عهد
معاوية ، وبدا الطريق إلى الثورة على الحكم الاُموي مُمهّداً أمام الحسين عليهالسلام.
* * *
__________________
وقد عجّل تلهف يزيد على أخذ البيعة له
من كبار زعماء المعارضة له ـ وعلى رأسهم الحسين عليهالسلام
ـ في تتابع الأحداث.
فقد كان أكبر همّه حين آل الأمر بعد موت
أبيه هو بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعة يزيد ، فكتب إلى الوليد بن عتبة
والي المدينة كتاباً يُخبره فيه بموت معاوية ، وكتاباً آخر جاء فيه :
«أمّا بعد ، فخذ حسيناً ، وعبد الله بن
عمر ، وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسّلام» .
ولقد آثر الحسين عليهالسلام أن يتخلّص من
الوليد بالحُسنى حين دعاه إلى البيعة ، فقال له :
«مثلي لا يبايع سرّاً ، ولا يجتزئ بها
منّي سرّاً ، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً».
ولكن مروان قال للوليد :
«لئن فارقك الساعة ولم يُبايع لا قدرت
منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبسه فإن بايع وإلاّ
ضربت عنقه».
فوثب الحسين عليهالسلام عند ذلك ، وقال :
«ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب
عُنقي؟ كذبت ولؤمت» .
__________________
ثمّ أقبل على الوليد فقال :
«أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن
الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا يختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب
الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله» .
بهذه الكلمات أعلن الحسين عليهالسلام ثورته على الحكم
الاُموي الفاسد على عظمته وجبروته وقسوته في مؤاخذة الخارجين عليه ، فقد مات
معاوية وانقضى العهد والميثاق ، وأصبح وجهاً لوجه أمام دوره التأريخي الذي يتحتّم عليه
أن يصنعه ، وإنّه لعلى يقين من أنّ حكم يزيد لن يأخذ صفة شرعية ما دام هو مُمسكاً
عن بيعته ، أمّا إذا بايعه فإنّه يكون قد اكتسب الغلّ الجديد الذي طُوقت به الأمّة
المسلمة صفة قانونية شرعية ، وهذا شيء لا يفعله عليهالسلام.
إنّ ثمّة فرقاً عظيماً بين أن تكون
الاُمّة راضخة لحكم ظالم ولكنّها تعلم أنّه حكم بغير حقّ ، وأنّه حكم يجب أن يزول
، وبين أن تخضع الاُمّة لحكم ظالم وترى أنّه حكم شرعي لا بدّ منه ، ولا يجوز
تغييره.
إنّ الاُمّة في الحالة الثانية ترى أنّ
حياتها التعسة ، وأنّ التشريد والجوع والحرمان والذلّ هو قدرها الذي لا مفرّ لها
منه ، هو مصيرها المحتوم الذي لا بدّ أن تصير إليه ، وحينئذ يُقضى على كلّ أمل في
تغيير الأوضاع ، وحينئذ يضمحلّ كلّ أمل في الثورة ، وحينئذ تدعم الاُمّة جلاّديها
بدل أن تثور عليهم ، وحينئذ يُصار إلى الرضا بما هو كائن بحسبانه ما ينبغي أن
يكون.
أمّا حين تخضع الاُمّة وهي تعلم أنّ
الحاكم لا حقّ له فحينئذ يبقى الأمل
__________________
في التغيير حيّاً
نابضاً ، وتبقى الثورة مشتعلة في النفوس ، وحينئذ يكون للثائرين مجال للعمل ؛ لأنّ
التربة مُعدّة للثورة.
وكان على الحسين عليهالسلام وحده أن ينهض بهذا
الدور. لقد كانت الثورة قدره المحتوم ، أمّا الآخرون الذين أبوا البيعة ليزيد فلم
يكن لهم عند المسلمين ما للحسين عليهالسلام
من المنزلة وعلوّ الشأن ؛ أمّا ابن عمر فسرعان ما سلّم قائلاً : «إذا بايع الناس
بايعت»
؛ وأمّا ابن الزبير فقد كان الناس يكرهونه ويتّهمونه في إبائه البيعة بأنّه يريد
الأمر لنفسه ؛ فلم تكن دوافعه دينية خالصة ، وإنّما كان يدفعه الطمع الخلافة ، وما
كان الناس يرونه لذلك أهلاً.
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنّ
الحسين عليهالسلام
لمّا خرج وابن الزبير من المدينة إلى مكة ، وأقاما بها ، «عكف الناس على الحسين
يفدون إليه ، ويقدمون عليه ، ويجلسون حواليه ، ويستمعون كلامه ، وينتفعون بما يسمع
منه ، ويضبطون ما يروون عنه» .
ومغزى هذا الخبر بيّن فقد اتّجهت أنظار الناس إلى الحسين عليهالسلام وحده فانقطعوا إليه
، وهذا يدلّك على مركزه في نفوس المسلمين إذ ذاك. قال أبو الفرج الأصفهاني :
«إنّ عبد الله بن الزبير لم يكن شيء
أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز ، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق ؛ طمعاً في
الوثوب بالحجاز ، وعلماً منه بأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحسين» .
وكان الحسين عليهالسلام يعي هذا أيضاً ،
فقد قال يوماً لجلسائه :
«إنّ هذا ـ يعني ابن الزبير ـ ليس شيء
يؤتاه من
__________________
الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى
العراق ، وقد علم أنّه ليس له من الأمر شيء معي ، وأنّ الناس لم يعدلوه بي ، فودّ
أنّي خرجت منها لتخلو له» .
وقال عبد الله بن عباس له وهو يحاوره في
الخروج إلى العراق :
«لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك
إيّاه والحجاز ، والخروج منها ، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك» .
كلّ هذا يكشف عن مدى تعلّق جماهير
المسلمين بالحسين عليهالسلام
باعتباره رجل الساعة. ويقيناً لو أنّه بايع يزيد لما كان لابن الزبير وأضرابه وزن
في المعارضة ؛ لأنّهم حينئذ ما كانوا ليجدوا أنصاراً على ما يريدون.
وإذاً ، فقد وجد الحسين عليهالسلام نفسه وجهاً لوجه
أمام دوره التاريخي ؛ الحكم الاُموي بكلّ ما فيه من فساد وانحطاط ورجعية وظلم ، والاُمّة
المسلمة بذلّها وجوعها وحرمانها ومركزه العظيم في المسلمين ، كلّ ذلك وضعه وجهاً
لوجه أمام دوره التأريخي ، وخطّط له المصير الذي يتحتّم عليه أن يضعه لنفسه ، وعند
ذلك أعلن ثورته بهذه الكلمات التي مرّت عليك ، وقد أجمل فيها أسباب هذه الثورة ؛
التهتك ، والتطاول على الدين ، والاستهتار بحقوق الشعب ، هذه هي أسباب ثورة الحسين
عليهالسلام
:
ويبدو أنّ يزيد بن معاوية أراد أن يخنق
ثورة الحسين عليهالسلام
قبل اشتعالها ، وذلك باغتياله في المدينة. وقد وردت إشارتان إلى ذلك في كتاب أورده
اليعقوبي في تأريخه
من ابن عباس إلى يزيد بن معاوية صريحتان في الدلالة على أنّ يزيد دسّ رجالاً
ليغتالوا الحسين عليهالسلام
في المدينة قبل مغادرته إيّاها إلى العراق.
ولعلّ هذا ما يكشف لنا عن سبب خروج
الحسين عليهالسلام
من المدينة بصورة سرّية.
__________________
ـ ٦ ـ
بواعث الثورة عند الحسين عليهالسلام
إنّ العنصر الاجتماعي شديد البروز في
ثورة الحسين عليهالسلام
، ويستطيع الباحث أن يُلاحظه فيها من بدايتها حتّى نهايتها ، ويرى أنّ الحسين عليهالسلام ثار من أجل الشعب
المسلم : لقد ثار على يزيد باعتباره مُمثّلاً للحكم الاُموي. هذا الحكم الذي جوّع
الشعب المسلم ، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات والرشا ، وشراء الضمائر وقمع
الحركات التحرّرية. هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهدّدهم بالإفناء ، ومزّق
وحدة المسلمين العرب ، وبعث بينهم العداوة والبغضاء. هذا الحكم الذي شرّد ذوي
العقيدة السياسيّة التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي ، وقتلهم تحت كلّ حجر ومدر
، وقطع عنهم الأرزاق ، وصادر أموالهم. هذا الحكم الذي شجّع القبيلة على حساب
الكيان الاجتماعي للاُمّة المسلمة. هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة ، وعن
طريق غير مباشر تارة اُخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب ، وقتل كلّ نزعة إلى
التحرّر بواسطة التخدير الديني الكاذب. كلّ هذا الانحطاط ثار عليه الحسين عليهالسلام ، وها هو يقول
لأخيه محمد بن الحنفيّة في وصيته له :
«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا
مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ
هذا أصبر حتّى يقضي
الله بيني وبين القوم بالحقّ ، وهو خير
الحاكمين».
فالإصلاح في اُمّة جدّه صلىاللهعليهوآله هو هدفه من الثورة.
وهنا شيء اُريد أن أنبه عليه في قوله :
«... فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله
أولى بالحقّ».
إنّه لم يقل : فمَنْ قبلني لشرفي
ومنزلتي في المسلمين ، وقرابتي من رسول الله ، وما إلى ذلك ... لم يقل شيئاً من
هذا ، إنّ قبوله يكون بقبول الحقّ فهذا داع من دعاته ، وحين يقبل الناس داعي الحقّ
فإنّما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحقّ والخير لا لنفسه ، وفي هذا تعالٍٍ وتسامٍ
عن التفاخر القبلي الذي كان رأس مال كلّ زعيم سياسي أو ديني في عصره عليهالسلام.
* * *
وظهر العصر الاجتماعي في ثورة الحسين عليهالسلام أيضاً حين التقى مع
الحرّ بن يزيد الرياحي ، وقد كان ذلك بعد أن علم الحسين عليهالسلام بتخاذل أهل العراق
عنه بعد بيعتهم له ، وبعد أن انتهى إليه نبأ قتل رسوله وسفيره إليهم مسلم بن عقيل
، وبعد أن تبيّن له ولمَنْ معه المصير الرهيب الذي ينتظرهم جميعاً ، فقد خطب الجيش
الذي مع الحرّ قائلاً :
«أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : مَنْ رأى
سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله
، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً
على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة
الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله
، وحرّموا
حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غيّر. وقد أتتني
كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، وإنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم
عليّ بيعتكم تصيبوا رُشدكم ؛ فإنّي الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، نفسي مع أنفسكم ،
وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من
أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنُكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن
عقيل ، والمغرور مَنْ اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث
فإنّما ينكث على نفسه» .
فهو هنا يبيّن لهم أسباب ثورته : إنّها
الظلم ، والاضطهاد والتجويع ، وتحريف الدين ، واختلاس أموال الاُمّة. ثمّ انظر كيف
لمّح لهم إلى ما يخشون ، لقد علم أنّهم يخشون الثورة لخشيتهم الحرمان والتشريد ، فهم
يؤثرون حياتهم على ما فيها من انحطاط وهوان على محاولة التغيير خشية أن يفشلوا
فيعانوا القسوة والضّنك.
لقد علم منهم هذا ، فقال لهم :
«وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت
رسول الله صلىاللهعليهوآله».
فبيّن لهم مركزه أوّلاً ، ثمّ قال لهم :
«نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ،
فلكم فيّ اُسوة»
فيما قد يحدث من اضطهاد وحرمان. ويقف
المتأمّل وقفة اُخرى عند قوله :
__________________
«وأنا أحقّ من غيّر». فيها تعبير عن
شعوره بدوره التأريخي الذي يتحتّم عليه أن يقوم بأدائه.
ومرّة ثالثة حدّث الحسين عليهالسلام أهل العراق عن
ثورته ومبرراتها ، وكانت خطبته هذه في الساعات الأخيرة التي سبقت اشتباك القتال
بينه وبين الجيش الأموي. قالوا : إنّه عليهالسلام
ركب فرسه فاستنصتهم فلم ينصتوا ، حتّى قال لهم :
«ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا
قولي؟! وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمَنْ أطاعني كان من المرشدين ، ومَنْ
عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاصٍ لأمري ، غير مستمع لقولي ، فقد مُلئت [بطونكم]
من الحرام ، وطُبع على قلوبكم. ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟».
فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا
:
«أنصتوا له. فحمد الله وأثنى عليه وذكره
بما هو أهله ، وصلّى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء والرسل ، وأبلغ في المقال».
ثمّ قال :
«تبّاً لكم أيّها الجماعة وترحاً! أحين
استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم
علينا ناراً أوقدناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ، ويداً
عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاّ الحرام من
الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث
كان منّا ، ولا رأي
تفيّل لنا ـ فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا ، [تجهزتموها] والسيف
مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُّبا ، وتداعيتم
إليها كتداعي الفراش. فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب
، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومُحرّفي الكتاب ، ومُطفئي السنن ، وقتلة أولاد
الأنبياء ، ومُبيدي عترة الأوصياء ، ومُلحقي العهار بالنسب ، ومُؤذي المؤمنين ، وصُراخ
أئمّة المُستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي
العذاب هم خالدون.
وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون ، وعنّا
تخاذلون! أجل والله ، الخذل فيكم معروف ؛ وشجت عليه اُصولكم ، وتأزّرت عليه فروعكم
، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث ثمرة شجيّ للناظر ، وأكلة للغاصب
، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله
عليكم كفيلاً ، فأنتم والله هم.
ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز
بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله
والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور طهرت ، واُنوف حمية ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة
اللئام على مصارع الكرام ...ألا وإنّي قد أعذرت وأنذرت ، ألا وإنّي زاحف بهذه
الاُسرة مع قلّة العدد ، وكثرة العدوّ ، وخذلان الناصر.
ثمّ قال :
فإن نهزِم فهزّامونَ قدماً
|
|
وإن نُغلب فغير مُغلّبينا
|
وما أن طبّنا جبنٌ ولكن
|
|
منايانا ودولة آخرينا
|
إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ
|
|
كلاكلَه أناخَ بآخرينا
|
فأفنى ذلكمْ سرواتُ قومي
|
|
كما أفنى القرونَ الغابرينا
|
فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا
|
|
ولو بقي الكرامُ إذاً بقينا
|
فقل للشامتينَ بنا أفيقوا
|
|
سيلقى الشامتونَ كما لقينا»
|
في هذه الخطبة حدّثهم الحسين عليهالسلام عن أنفسهم ، وعن
واقعهم ، وعن زيف حياتهم. حدّثهم كيف أنّهم استصرخوه على جلاّديهم ثمّ انكفؤوا مع
هؤلاء الجلاّدين عليه. هؤلاء الجلاّدون الذين لم يسيروا فيهم بالعدل وإنّما حملوهم
على ارتكاب الحرام في مقابل عيش خسيس. خسيس في نفسه ، قليل دون الكفاية ، خسيس
لأنّه يعمل على مدّ الأجل بحياة حقيرة ذليلة ، خسيس باعتباره أجراً لعمل خسيس. وحدّثهم
عن مواقفهم المتكرّرة من الحركات الإصلاحية ، إنّهم دائماً يُظهرون العزم على
الثورة والرغبة فيها ، يُظهرون العزم على تطوير واقعهم السيِّئ حتّى إذا جدّ الجدّ
انقلبوا جلاّدين للثورة بدل أن يكونوا وقوداً لها. حدّثهم عن أعدائه باعتبارهم
أعدائهم أيضاً ، ولكنّهم يُزيّفون حياتهم بأيديهم ، يُحاربون محرّريهم ، مَنْ
يعلمون أنّهم المحرّرون. مع مَنْ؟ مع أعدائهم مُذلّيهم وظالميهم.
هذه الخطبة ، بهذا الاُسلوب الثائر ،
وبما فيها من تقريع ، وبما فيها من فضح لهم ، كانت ملائمة تمام الملاءمة للجو
النفسي السائد آنذاك على الجيش الاُموي. إنّ محاربي ذلك الجيش كانوا على علم بمَنْ
يُحاربون ، فأراد أن يُشعرهم بفداحة الإثم الذي يُقارفونه ، وعظم الأمر الذي
يُحاولونه ، وأراد أن يُسمع المجتمع الإسلامي ـ هذا المجتمع الخاضع ـ صوته
المدوّي. وبهذا اللون من البيان جعل الحسين عليهالسلام
من كلّ مسلم بركاناً مدمّراً على أهبة الانفجار.
__________________
ـ ٧ ـ
بواعث الثورة لدى الرأي
العام
ولم يكن المغزى الاجتماعي للثورة
مُدركاً من قبل الحسين عليهالسلام
وحده ، فقد كان المسلمون يحسّون بضرورة العمل على تطوير واقعهم السيِّئ إلى واقع
أحسن. أدرك هذا اُولئك الذين كتبوا إلى الحسين عليهالسلام
يطلبون منه القدوم إلى العراق ، وأدرك هذا اُولئك الذين صبّروا أنفسهم على الموت
معه.
والذين كتبوا إليه من العراق لم يكونوا
أفراداً معدودين ، وإنّما كانوا كثيرين جدّاً ؛ ففي المؤرّخين مَنْ يقول : أنّ
كُتب أهل العراق إلى الحسين عليهالسلام
زادت على مئة وخمسين كتاباً
وقال مؤرّخون آخرون : إنّه قد اجتمع عند الحسين عليهالسلام
في نُوب مُتفرّقة اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق. ونستطيع أن نكوّن فكرة صحيحة
عن ضخامة عدد الكتب التي دعت الحسين عليهالسلام
إلى القيام بالثورة إذا قرأنا هذا الخبر الذي رواه أغلب المؤرّخين ، وهو : أنّ
الحسين عليهالسلام
لمّا لقي الحرّ بن يزيد كان من جملة ما قاله للحرّ ومَنْ معه :
«أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن
تتقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا
الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان. وإن
أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم.
__________________
وقدمت به عليّ رسلكم ، انصرفت عنكم».
فقال له الحرّ بن يزيد :
إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي
تذكر ، فقال الحسين عليهالسلام
: «يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ». فأخرج خرجين
مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم .
من هنا نستطيع أن نكوّن فكرة عن ضخامة
عدد الكتب التي اُرسلت إلى الحسين عليهالسلام
تدعوه إلى الثورة وتعده بالنصر. ونلاحظ من ناحية اُخرى أنّ هذه الكتب ليست من
أفراد ؛ فقد كانت كتباً من الرجل والاثنين والأربعة والعشرة ، فلسنا أمام حركة فردية ، وإنّما نحن
أمام حركة جماعية قام بها المجتمع العراقي ، أو الكثرة الساحقة من هذا المجتمع ، وهذا
نموذج للكتب التي وردت إليه :
«سلام عليكم. أمّا بعد ، فالحمد لله
الذي قصم عدوّك وعدوّ أبيك من قبل ، الجبّار العنيد ، الغشوم الظلوم ، الذي انتزى
على هذه الأمّة فابتزّها أمرها واغتصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ،
ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها ،
فبعداً له كما بعدت ثمود. وإنّه ليس
__________________
علينا إمام غيرك فأقبل لعلّ الله يجمعنا
بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، ولسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا
نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك أقبلت أخرجناه حتّى يلحق بالشام إن شاء الله
تعالى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يابن رسول الله» .
هذا نموذج للكتب التي أرسلت إلى الحسين عليهالسلام تدعوه إلى الثورة ،
ويبرز العامل الاجتماعي فيه بوضوح عظيم ، فسياسة الإرهاب والتجويع هي التي حملت
هؤلاء الناس على الثورة ، وكان الحسين عليهالسلام
هو الشخصيّة الوحيدة التي يمكن أن تتزعّم ثورة كهذه ؛ إذ لم يكن في الزعماء
المسلمين زعيم غيره يتجاوب مع آلام الشعب وآماله ومطامحه.
__________________
ـ ٨ ـ
بواعث الثورة لدى الثائرين
فإذا نحن تجاوزنا هؤلاء الداعين إلى
الثورة ثمّ المتخاذلين عنها إلى اُولئك الذين ثبتوا ثائرين مع الحسين عليهالسلام إلى اللحظة
الأخيرة. اللحظة التي توّجوا فيها عملهم الثوري بسقوطهم صرعى رأيناهم يحملون نفس
الفكرة ، ويبرّرون ثورتهم ويدعون الجيش الاُموي إلى تأييدهم بنفس تلك المبرّرات ؛
الظلم الاجتماعي ، وسياسة الإرهاب ، والإذلال التي يمارسها الحاكمون.
هذا زهير بن القين خرج على فرس له في
السلاح ، فخطب الجيش الاُموي قائلاً :
«يا أهل الكوفة ، نذارِ لكم من عذاب
الله نذارِ ، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة على
دين واحد ، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا
وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا نحن اُمّة وأنتم اُمّة.
إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة
نبيّه محمد صلىاللهعليهوآله
؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية
عبيد الله بن زياد ؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ؛
لَيُسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويُمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع
النخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم ، أمثال
حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة
وأشباهه».
فسبّوه وأثنوا على ابن زياد ، وقالوا : والله
لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله
سلماً ...
الفصل الثالث :
آثار الثورة في الحياة
الإسلاميّة
«... إنّ فاجعة كربلاء قد دخلت في
الضمير الإسلامي آنذاك ، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً عميقاً.
ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبثّ في النفس ما يدفعها إلى الدفاع عن كرامتها ، وأن
يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة ، وأن يرسل في الضمير الشلو هزّة تحييه
...».
ـ ١ ـ
تمهيد
لقد درسنا فيما تقدّم بعض جوانب ثورة
الحسين عليهالسلام
على الحكم الاُموي ، فدرسنا ظروفها الاجتماعيّة والنفسية ، ودرسنا أسبابها وغاياتها
، وفي خلال حديثنا هذا صحبنا الحسين عليهالسلام
وآله وصحبه في كثير من مراحل عملهم الثوري ، ولم نتحدّث عن عنصر المأساة حديثاً
واسعاً ؛ لأنّ ذلك ليس من همّنا كما ذكرنا بين يدي هذه الفصول ، واكتفينا من ذلك
بالإشارة التي يقتضيها سياق البحث والاستنتاج.
ونريد الآن أن نتحدّث عن نتائج هذه
الثورة وعن عطائها الإنساني ، هل غيّرت هذه الثورة شيئاً من مواقع المجتمع الذي
انفجرت فيه؟ وهل حققت نصراً لصانعيها؟ وهل حطّمت أعداءها.
هذه أسئلة تثور على شفتي كلّ مَنْ يقرأ
أو يسمع عن ثورة من الثورات ، ويتوقّف الحكم على الثورة بالنجاح أو الفشل على ما
تقدّمه الوثائق من أجوبة على هذا الأسئلة ، فهل كانت ثورة الحسين عليهالسلام ناجحة ، أو أنّها
كانت ثورة فاشلة ككثير من الثورات التي تشتعل ثمّ تنطفئ ، ولا تخلف وراءها إلاّ
ذكريات حزينة تراود بين الحين والحين أحبّاء صرعاها.
قد يُقال : إنّها ثورة فاشلة تماماً ؛
فهي لم تحقق نصراً سياسياً آنيّاً يُطوّر الواقع الإسلامي إلى حال أحسن من الحال
التي كان عليها قبل هذه الثورة ، لقد بقي المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها
قطيعاً يُساق بالقوّة إلى حيث يُراد له لا إلى حيث يُريد ، ويُساس بالتجويع والإرهاب.
ولقد ازداد أعداء
هذه الثورة قوّة على
قوّتهم فلم تنل منهم شيئاً ، وأمّا صانعوها فقد أكلتهم نارها ، وشملت أعقابهم مئات
من السنين ؛ فحملت إليهم الموت والذلّ ، والتشريد والحرمان ، فهي فاشلة على الصعيد
الاجتماعي ، وهي فاشلة على الصعيد الفردي.
ولكنّ الحقّ غير ذلك في عين الباحث
البصير.
فإنّ علينا لكي نفهم ثورة الحسين عليهالسلام أن نبحث عن أهدافها
ونتائجها في غير النصر الآني الحاسم ، وفي غير الاستيلاء على مقاليد الحكم
والسلطان ، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص دالّ على أنّ الحسين عليهالسلام كان عالماً بالمصير
الذي ينتظره وينتظر مَنْ معه.
قال لابن الزبير حين طلب منه إعلان
الثورة في مكة :
«وأيم الله ، لو كنت في جُحر هامة من
هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود
في السبت» .
وكان يقول :
«والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه
العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من
فرام المرأة» .
وأجمع نصحاؤه ـ حين شاع نبأ عزمه على
المسير إلى العراق ـ على أنّه فاشل حتماً في الوصول إلى نتيجة سريعة من ثورته ،
فقد كانت قوى المال والسلاح مُتّحدة ضدّه ، فكيف ينتصر؟ وفزعوا إليه ينصحونه
بالمكوث في مكة ، أو الخروج عنها إلى غير العراق من بلاد الله ؛ من هؤلاء عمر بن
عبد
__________________
الرحمن المخزومي ، وعبد
الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن الحنفيّة ، وعبد الله بن جعفر.
ولكنّه أبى عليهم ما أشاروا به ، فقال
لعبد الرحمن بن الحرث :
«جزاك الله خيراً يابن عمّ ، فقد والله
علمت أنّك مشيت بنصح ، وتكلّمت بعقل ، ومهما يقضِ الله من أمر يكن ، أخذتُ برأيك
أو تركته ، فأنت عندي أحمد مُشير ، وأنصح ناصح» .
وقال لعبد الله بن عباس :
«يابن عمّ ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح
مُشفق ، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير» .
وقال في موقف آخر :
«لأن اُقتل بمكان كذا أو كذا أحبّ إليّ
من أن تُستحلّ حرمتها بي ـ يعني الحرم ـ» .
وقال لعبد الله بن عمر وقد نصحه بالصلح
والمهادنة مع يزيد :
«يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من
هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟
اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعَن نصرتي» .
__________________
وأجاب الفرزدق حين قال له : قلوب الناس
معك وسيوفهم مع بني اُميّة :
«صدقت ، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء
، وكلّ يوم ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو
المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَنْ كان الحقّ
نيّته ، والتقوى سريرته» .
وورد إليه كتاب عمر بن سعيد بن العاص
عامل المدينة يُمنّيه في الأمان والصلة ، والبرّ وحسن الجوار ، وأرسله إليه مع
أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فجهدا أن يرجع فلم يفعل ، ومضى وهو يقول :
«قد غسلت يدي من الحياة ، وعزمت على
تنفيذ أمر الله».
وهكذا ما نزل منزلاً إلاّ ولقي مَنْ
ينصحه بعدم الخروج إلى العراق ، ويذكر له من أنباء أهله ما يكشف عن خذلانهم له
وانكفائهم عليه ، حتّى أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو بالثعلبية ، فأهاب
به بعض أصحابه بالرجوع فأبى ، فلمّا كان بزُبالة أتاه خبر قتل أخيه من الرضاعة عبد الله
بن يقطر
، فخرج حينذاك إلى مَنْ صحبه من الناس وقال :
«أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع
قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ
أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير
__________________
حرج ، ليس عليه منّا ذمام. فتفرّق عنه
الناس تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذي جاؤوا معه من
المدينة ، وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي
بلداً قد استقامت طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون.
وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَنْ يريد مواساته والموت معه» . وأجاب مَنْ نصحه بالرجوع إلى مأمنه من منزله ذاك
بعد أن تبيّن له الأمر ، فقال له : «يا عبد الله ، إنّه ليس يخفى عليّ أنّ الرأي
ما رأيت ، ولكنّ الله لا يُغلب على أمره» .
* * *
هذه النُذر كلّها تشير إلى أنّه كان عالماً
بالمصير الذي ينتظره. وإذاً فليس لنا أن نبحث عن أهداف ثورة الحسين عليهالسلام ونتائجها في
الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان ؛ لأنّه لم يستهدف من ثورته نصراً آنيّاً ، ولأنّه
كان مُدركاً لاستحالة الحصول على نصر آني. وقد يبدو لنا هذا غريباً جدّاً ، فكيف يسير
إنسان إلى الموت مع طائفة من أخلص أصحابه طائعاً مختاراً ، وكيف يُحارب في سبيل
قضية يعلم أنّها خاسرة ، وكيف يمكّن لعدوّه من نفسه هذا التمكين؟ هذه علامات
استفهام كثيرة نبحث عن أجوبتها.
والذي اعتقده هو أنّ وضع المجتمع
الإسلامي إذ ذاك كان يتطلّب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا
المجتمع ، ويتضمّن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ ؛ لكي يكون
مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق ، وتضمحلّ عندهم احتمالات الفوز
، وتُرجّح عندهم إمارات الفشل والخذلان.
__________________
لقد كان قادة المجتمع وعامّة أفراده إذ
ذاك يقعدون عن أي عمل إيجابي لتطوير واقعهم السيِّئ بمجرد أن يلوح لهم ما قد
يُعانون في سبيل ذلك من عذاب ، وما قد يضطّرون إلى بذله من تضحيات. وكانوا يقعدون
عن القيام بأي عمل إيجابي بمجرد أن تُحقّق لهم السلطة الحاكمة بعض المنافع القريبة
ولم يكن هذا خُلق السادة وحدهم ، بل كان خُلق عامّة الناس أيضاً ؛ لذا رأينا تخاذل
مجتمع بأسره عن نصر قضيته حين أوقع ابن زياد بمسلم بن عقيل ، وكيف أخذت المرأة
تخذّل ابنها وزوجها وأخاها ، وكيف أخذ الرجل يخذّل ابنه وأخاه وأباه. لقد كان
اُولئك الذين قالوا للحسين عليهالسلام
: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» صادقين في تصوير ذلك المجتمع ؛ فإنّ قلوب الناس كانت
معه لأنّهم يحبّون أن يصيروا إلى حال أحسن من حالهم ، ولكنّهم حين علموا أنّ ذلك
موقوف على بذل تضحيات قد تصل إلى بذل الحياة ، انكمشوا وسلّموا سيوفهم في خدمة
الذين يدفعون لهم أجر قتالهم لهذا الذي جاء بدعوة منهم ليحرّرهم. فحين استيقن ابن
زياد أنّ الحسين عليهالسلام
ماضٍ فيما اعتزمه جمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ، ومدح يزيد وأباه وذكر حسن
سيرتهما وجميل أثرهما ، ووعد الناس بتوفير العطاء لهم وزادهم في اُعطياتهم مئة مئة
، وأمرهم بالاستعداد والخروج لحرب الحسين عليهالسلام
.
هذا هو موقف الشعب من الحركات العامّة
التي يتوقّف نجاحها على التضحيات ، وأمّا موقف الزعماء فقد عرفته ، وهذه صورة
اُخرى منها قدّمها لنا عمر بن سعد أمير الجيش الاُموي ؛ فلقد دار أمره بين أن
يُحارب الحسين عليهالسلام
وبين أن يفقد إمرة الرّي ، فاختار الأولى على الثانية .
ولقد حاوره الحسين عليهالسلام في كربلاء ، فقال
له :
__________________
«ويلك يابن سعد! أما تتّقي الله الذي
إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن عمّك؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي ؛ فإنّه أقرب لك إلى
الله ، فقال ابن سعد : أخاف أن تُهدم داري ، فقال الحسين عليهالسلام : أنا أبنيها لك ، فقال
: أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، فقال الحسين عليهالسلام
: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز ، فقال : لي عيال وأخاف عليهم ، وهنا
اتّضح للحسين عليهالسلام
أنّه رجل ميّت القلب ، ميّت الضمير ؛ فإنسان يقيس مصير مجتمعه بهذا اللون من
القياس ليس إنساناً سوي التكوين النفسي ، فقال له الحسين عليهالسلام : «ما لك! ذبحك
الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو ألاّ تأكل من
بُرّ العراق إلاّ يسيراً».
فقال مستهزئاً :
في الشعير كفاية .
هذا هو المجتمع الإسلامي في أيام الحسين
عليهالسلام.
مجتمع مريض يُشترى ويُباع بقليل من المال وكثير من العذاب والإرهاب ، وما كان من
الممكن أن تُردّ إلى هذا المجتمع إنسانيته وكرامته ، وما كان من الممكن أن يُنبّه
إلى زيف وحقارة وجوده ، وما كان من الممكن أن تُوقظ فيه روحه النضالية الهامدة
إلاّ بعمل انتحاري فاجع يتضمّن أسمى آيات التضحية والكرامة والدفاع عن المبدأ والموت
في سبيله ، وهكذا كان.
إنّ الحسين عليهالسلام لم يكن ذا مال
ليُنافس الاُمويِّين وبيدهم خزائن الأموال ، ولم يكن ليتجافى عن روح الإسلام
وتعاليمه فيجلب الناس إليه بالعنف والإرهاب ، ولذا فليس من المعقول أن يطلب نصراً
سياسياً آنيّاً في مجتمع لا يُحارب إلاّ في سبيل المال وبالمال ، أو بالقسر
والإرهاب ، ولكن كان في
__________________
وسعه أن يقوم بعمله
الذي قام به ليهزّ أعماق هذا المجتمع ، وليُقدّم له مثلاً أعلى طُبع في ضمائر
أفراده بدم ونار. وإذا نحن تقصّينا أسماء مَنْ قُتل مع الحسين عليهالسلام في كربلاء وجدنا
أصحابه ينتمون إلى معظم القبائل العربيّة ، فقلّ أن توجد قبيلة عربية لم يُقتل مع
الحسين عليهالسلام
منها واحد أو اثنان.
ومن هنا يمكن القول بأنّ فاجعة كربلاء
دخلت في الضمير الإسلامي آنذاك ، وانفعل بها المجتمع الإسلامي بصفة عامّة انفعالاً
عميقاً. ولقد كان هذا كفيلاً بأن يبعث في الروح النضالية الهامدة جذوة جديدة ، وأن
يبعث في الضمير الشّلو هزّة تُحييه ، وأن يبعث في النفس ما يبعثها إلى الدّفاع عن
كرامتها.
وهذه الملاحظات تجعل من المعيّن علينا
ألاّ نبحث عن نتائج ثورة الحسين عليهالسلام
فيما تعوّدناه في سائر الثورات ، وإنّما نلتمس نتائجها في الميادين التالية :
١ ـ تحطيم الإطار الديني المُزيّف الذي
كان الاُمويّون وأعوانهم يُحيطون به سلطانهم ، وفضح الرّوح اللادنية الجاهليّة
التي كانت تُوجّه الحكم الاُموي.
٢ ـ بثّ الشعور بالإثم في نفس كلّ فرد ،
وهذا الشعور الذي يتحوّل إلى نقد ذاتي من الشخص لنفسه يقوم على ضوئه موقفه من
الحياة والمجتمع.
٣ ـ خلق مناقبية جديدة للإنسان العربي
المسلم ، وفتح عيني هذا الإنسان على عوالم مضيئة باهرة.
٤ ـ بعث الرّوح النضالية في الإنسان
المسلم من أجل إرسال المجتمع على قواعد جديدة ، ومن أجل ردّ اعتباره الإنساني إليه.
ـ ٢ ـ
١ ـ تحطيم الإطار الديني
قد رأينا في فصل سابق كيف استغل
الاُمويّون الدين لإيهام رعاياهم أنّهم يحكمون بتفويض إلهي ، وأنّهم خلفاء رسول
الله حقّاً ، هادفين من وراء ذلك إلى أن يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظوراً وإن
ظلموا وجوّعوا وشرّدوا المؤمنين ، وأن يجعلوا لأنفسهم باسم الدين الحقّ في قمع أيّ
تمرّد تقوم به جماعة من الناس وإن كانت محقّة في طلباتها.
وقد رأينا أنّهم استعانوا على ذلك
بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبي صلىاللهعليهوآله
، وقد وضعها ونسبها إلى النبي اُولئك النفر من تجّار الدين الذين تقدّم ذكر بعضهم
والذين كانوا يؤلّفون جهاز الدعاية عند معاوية بن أبي سفيان ، واستعان معاوية
بهؤلاء وغيرهم في عقد مجالس القصص والوعظ التي دأب القصّاصون والوعّاظ على أن
يدسّوا فيها هذه الأحاديث ، ويبشّروا فيها بهذه الأفكار فيؤيّدون بها الحكم
الاُموي عن طريق الدين.
وقد جعل معاوية القصص عملاً رسميّاً
تابعاً للدولة ، فرتّب قصّاصاً يومية في المحافل والمساجد ، وأنفق عليهم من مال
الدولة. قال الليث بن سعد :
«وأمّا قصص الخاصّة فهو الذي أوجده
معاوية ، ولّى رجلاً على القصص فإذا سلّم من صلاة الصبح ، جلس وذكر الله عزّ وجلّ
وحمده ومجّده ، وصلّى على النبي
صلىاللهعليهوآله
، ودعا للخليفة ولأهل بيته وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة» .
وعن طريق هذه المؤسسات (الأحاديث
النبوية ، الشعر ، الفرق الدينية ، القصص) آمن الناس إيماناً غيبيّاً بالحكم
الاُموي ، وبحرمة الثورة عليه وإن خرج عن حدود الدين الذي هو المبرّر الوحيد
لوجوده. ولقد عملت هذه المؤسسات عملها السّام ، وأعطت ثمارها الخبيثة في صورة
تسليم تام ، وخضوع أعمى للحكم الاُموي مهما اقترف من مظالم. وهذه بعض الشواهد على
ذلك من ثورة الحسين عليهالسلام
نفسها :
فهذا ابن زياد يقول للناس في خطبته التي
خذّل فيها عن مسلم بن عقيل :
«اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم» .
وهذا مسلم بن عمرو الباهلي ـ وهو من
أصحاب ابن زياد ـ طلب منه مسلم بن عقيل بعد أن قبض عليه أن يسقيه من جرّة بباب
القصر ، فقال له :
«أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوق منها
قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم».
فقال له مسلم : مَنْ أنت؟
فقال : أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح
الاُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته .
__________________
وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة
الجيش الاُموي في كربلاء ـ صاح قائلاً حين رأى بعض أفراد جيشه ينسلّون إلى الحسين عليهالسلام ويقاتلون دونه :
«يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم
وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام» .
هذه الشواهد وغيرها كثير تكشف عن أنّ
المسؤولين الاُمويِّين وأعوانهم كانوا يطالبون الناس بالقيام بفرض ديني حين طلبوا
منهم أن يحاربوا الحسين عليهالسلام.
ولا بدّ أنّهم استندوا في طلبهم هذا إلى ما عهدوه من السند الديني للحكم الاُموي
في نفوس المسلمين.
وقد كان حريّاً بهذه العقيدة ـ إذا عمّت
جميع طبقات المجتمع ، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تُكافح ، ودون أن يظهر في
الناس مَنْ يفضح زيفها وبُعدها عن الدين ـ أن تقضي تماماً على كلّ محاولة مقبلة
يُراد منها تطوير الواقع الإسلامي ، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يُمارسه
الاُمويّون وأعوانهم ، وكلّما تقدّم الزمن بهذه العقيدة دون أن تجد مُناوئاً تزداد
استحكاماً وتأصّلاً في النفوس ، وذلك كفيل في النهاية بحمل المجتمع على مُناوئة كلّ
حركة تحرّرية.
ويقتضينا الإنصاف للواقع أن نُنبه إلى
أنّ دعايات الاُمويِّين الدينية التي هدفوا منها إلى دعم حكمهم الفاسد فشلت في
التأثير على الخوارج ؛ فقد كان الخوارج يشكّلون القوّة الثورية الوحيدة في المجتمع
الإسلامي ، وكانوا وحدهم ـ تقريباً ـ القائمين بجميع الحركات التحرريّة ضدّ الحكم
الاُموي منذ استتباب الأمر لمعاوية حتّى ثورة الحسين عليهالسلام
، إلاّ أنّ حركات الخوارج التمرّدية لم تكن هي تلك الثورة التي يُرجى منها بثّ قوى
جديدة
__________________
ومفاهيم جديدة في
المجتمع الإسلامي ، ولم تكن هي الثورة التي يُرجى منها تحطيم الإطار الديني للحكم
الاُموي ، ولم تكن هذه الحركات التمرّدية لتُؤثّر سوى هزّات خفيفة جدّاً في السطح
الاجتماعي ولا تصل إلى القاع أبداً. وكانت هذه الهزّات تحدث في نطاق ضيّق لا
يتعدّى حدود المدينة أو القرية التي يحدث فيها التمرّد والاشتباك المسلح بينهم
وبين الفرق العسكرية الاُمويّة ، ثمّ لا يلبث السطح الاجتماعي أن يعود إلى ما كان
عليه دون أن يتغيّر من حياة الناس ومفاهيمهم ـ حتّى في مركز الحركة ـ أي شيء.
والسبب في ذلك هو أنّ المجتمع الإسلامي
لم يكن يتجاوب معهم ، بل كان يُحاربهم ويقف ضدّهم ، ويمكن أن نقول بوثوق : إنّ
المجتمع الإسلامي لم يُحارب مع حكّامه الاُمويِّين عن رغبة واندفاع إلاّ ضدّ
الخوارج.
وطبيعي أنّه حين لا يتجاوب المجتمع
نفسيّاً وعقائديّاً مع القائمين بالثورة ، لا يمكن أن تنجح تلك الثورة مطلقاً على
الصعيد الاجتماعي والفكري ، فلا يمكن أن تُحدث تغييراً في التركيب الاجتماعي ؛
لأنّ المجتمع يخذلها ويُناوئها ، ولا يمكن أن تُحدث تغييراً في المفاهيم الثقافية
العقائديّة ؛ لأنّ المجتمع يرفض تعاليمها ونزعتها العقائديّة.
يُضاف إلى هذا أنّ الخوارج كانوا قُساة
جدّاً ، وعلى جانب كبير من الرعونة والرغبة في سفك الدم ؛ فلم يكونوا يعفون عن قتل
أيّ إنسان يُصادفونه دون أن يلقوا بالاً إلى كونه مُحارباً أو مُسالماً ، رجلاً أو
امرأة أو طفلاً. وإنّ تشكيلات الخوارج كانت تمتصّ كثيراً من المُجرمين ونهّازي
الفرص والطامعين في النّهب .
__________________
كلّ هذا جعل المجتمع الإسلامي يقف ضدّهم
؛ ولذلك فلم تكن ثوراتهم المُتكررة لتُحطّم الإطار الديني الذي أحاط به الاُمويّون
سلطانهم.
لقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار
الديني هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مسلّم به عند الاُمّة المسلمة بأسرها ؛
فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكّام
الاُمويّون ، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته وجاهليّته وبُعده الكبير عن مفاهيم
الإسلام. ولم يكن هذا الرجل إلاّ الحسين عليهالسلام
؛ فقد كان له في قلوب المسلمين جميعاً رصيد من الحبّ والإجلال عظيم ، وقد رأيت
مصداق ذلك عند الحديث عن إقامته في مكة ، ثمّ عند الحديث عن خروجه منها إلى
العراق.
كان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن
يفضح الحكّام الاُمويِّين ويكشف حقائقهم. وقد وضع موقف الاُمويِّين من ثورة الحسين
عليهالسلام
خطّاً فاصلاً بين الدين الإسلامي والحكم الاُموي ، وأظهر هذا الحكم بمظهره الحقيقي
وكشف زيفه.
فالاُمويّون الذين لم يرضوا من الحسين عليهالسلام إلاّ بالقتل ، قتله
وقتل آله آل علي وآل عقيل وأبنائهم ، وقتل طائفة من صفوة أصحابهم تُقىً وديناً
وحرصاً على مصلحة المسلمين ، ثمّ منعهم الماء عنهم حتّى قتلوهم عطشاً ، وفيهم
الطفل الرضيع والمرأة المرضع ، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل
، وسبي بنات النبوّة على الوجه المعروف ، حاسرات بلا غطاء ولا وطاء ، ونقل رؤوس
القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام ، كلّ ذلك جرّد الاُمويِّين من
كلّ صبغة دينية وإنسانيّة ، بل جعلهم ضدّ الدين والإنسانيّة لقد كانت الرؤوس
والسبايا ، وأحاديث الجنود العائدين دلائل حيّة بليغة الأداء ، تعمل على تقويض كلّ
ركيزة دينية للحكم الاُموي في نفوس المسلمين.
* * *
ولقد زاد الحسين عليهالسلام حراجة مركزهم حين
لم يصرّ على القتال ، لقد طلب من الحرّ بن يزيد ـ وهو أوّل قائد اُموي واجه الحسين
عليهالسلام
بألف مُحارب ـ أن يتركه ليرجع من حيث أتى ، فلم يُجبه الحرّ غلى ذلك ، وكانت
الأوامر تقضي عليه ألاّ يُفارق الحسين عليهالسلام
حتّى يُقدمه الكوفة إلى ابن زياد. ومن نافلة القول أن نذكر أنّ الحسين عليهالسلام رفض ذلك .
حتّى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش
الاُموي فاوضه الحسين عليهالسلام
طويلاً ، وأقنعه بأن يُمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى ، أو يذهب
إلى حيث يريد من بلاد الله. وكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد فأبى ابن زياد
ذلك ، وكتب إليه :
«أمّا بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين
لتكفّ عنه ، ولا تطاوله ولا لتُمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعاً.
انظر : فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً ، وإن أبوا
فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون. فإن قُتل الحسين
فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ مُشاق ، قاطع ظلوم ، وليس في هذا أن يضرّ بعد
الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلت هذا به» .
لقد أعطاهم الحسين عليهالسلام فرصة يتّقون بها
ارتكاب قتله وقتل آله وصحبه ، ولكنّهم أبوا إلاّ القتل ، وأصروا عليه ، فزادهم ذلك
فضيحة في المسلمين.
وأغتنم هذه المناسبة هناك فأقول :
يتحدّث بعض المؤرّخين عن أنّ الحسين عليهالسلام
قال لابن سعد : اذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده. والذي نقطع به هو أنّ الحسين عليهالسلام لم يقل هذا ، ولو
أراد ذلك لما صار إلى حالته
__________________
التي صار إليها. إنّ
جميع الدلائل تشير إلى أنّ هذا الخبر إنّما هو من وضع الاُمويِّين وأعوانهم ، أرادوا
أن يُوهموا الناس أنّ الحسين عليهالسلام
خشع وخضع وحنى رأسه لسلطان يزيد ؛ ليشوّهوا بذلك الموقف البطولي الذي وقفه هو
وأصحابه في كربلاء ، وقد حرص الاُمويّون وأعوانهم على إخفاء كثير من ملامح ثورة
الحسين عليهالسلام
ومُلابساتها ، وأذاعوا كثيراً من الأخبار المكذوبة عنها ؛ ليوقفوا عملها التدميري
في ملكهم وسلطانهم ، ولكنّهم لم يفلحوا.
والذي يدلّ على هذا الخبر ما رواه كثير
من المؤرّخين عن عقبة بن سمعان أنّه قال :
صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ، ومن
مكة إلى العراق ، ولم أفارقه حتّى قُتل ، وسمعت جميع مُخاطباته الناس إلى يوم
مقتله ، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنّه يضع يده في يد يزيد ، ولا أن
يُسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال : «دعوني أرجع إلى المكان الذي
أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر إلى ما يصير إليه أمر
الناس» ، فلم يفعلوا .
ولقد جعلهم موقفهم هذا من الحسين عليهالسلام بمثابة الثائرين
على الإسلام نفسه.
وقد استغل الحسين عليهالسلام هذه النقطة ـ
إصرارهم على قتله ، وامتناعهم عن الاستجابة لكلّ حلّ سلمي ، ومركزه في المسلمين ـ
استغلالاً رائعاً ؛ فقد دأب في كلّ فرصة تُؤاتيه للكلام على تأكيد هذه الحقيقة
للجيش الاُموي. وهذا نموذج من كلامه معهم في هذا الشأن :
«أيّها الناس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوني
حتّى أعظكم بما يجب لكم
__________________
عليّ ، وحتّى أعتذر
إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدّقتم قولي ، وأنصفتموني كنتم بذلك
أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا منّي العذر (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ،
ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست
ابن بنت نبيّكم صلىاللهعليهوآله
، وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء به من
عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار عمّي؟ أو لم
يبلغكم قولٌ مُستفيضٌ فيكم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله
قال لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنّة ؟
فإن صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمّدت كذباً مُذ علمت أنّ الله
يمقت عليه أهله ، ويضرّ به مَنْ اختلقه. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه
عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن
سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة
من رسول الله صلىاللهعليهوآله
لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟».
فقال له شمر بن ذي الجوشن :
هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما
تقول.
فقال له حبيب بن مظاهر :
والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين
حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما
تدري ما يقول ، قد
طبع الله على قلبك.
ثمّ قال لهم الحسين عليهالسلام :
«فإن كنتم في شكّ من هذا القول ،
أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ
غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني ، أتطلبوني بقتيلٍ
منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص من جراحة؟».
فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : «يا شبث
بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم
تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار ، وأخضرّ الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم
على جُند لك مُجند ، فأقبل». قالوا له : لم نفعل. فقال : «سبحان الله! بلى والله
لقد فعلتم» ، ثمّ قال : «أيّها الناس : إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني
من الأرض». فقال له قيس بن الأشعث : أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك ؛ فإنّهم لن
يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه فقال له الحسين عليهالسلام : «أنت أخو أخيك ،
أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟
لا والله ، لا اُعطيهم بيدي إعطاء
الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله ، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون.
أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب» .
__________________
بهذا الكلام فضح الحسين عليهالسلام الزُّخرف الديني في
الحكم الاُموي ؛ فليس إنساناً عاديّاً هذا الذي ثار على هذا الحكم ، إنّه ركيزة من
الركائز التي قام عليها الإسلام .. الدين الذي يُبرّر به هذا الحكم وجوده. ومن
ناحية اُخرى أشعرهم أنّ الظلم يجب أن يُقابل بالثورة والاحتجاج .. بالعمل
الانتحاري (الاستشهادي) حتّى ولو كان هذا الظلم صادراً من جهاز حكم يحكم باسم
الدين ؛ لأنّ الحكم بمُجرّد أن يظلم يتنكّر للدين.
إنّ بعض أدعياء البحث العلمي يرون أنّ
الحسين عليهالسلام
وقف هذا الموقف ليستدرّ الرحمة ، ثمّ يقولون : ما كان أغناه عن ذلك. ولكنّهم
بعيدون جدّاً عن فهم هذا اللون من مواقف الأبطال العقائديين ؛ لو أراد الحسين عليهالسلام أن يستدرّ الرحمة
وينجو بحياته لاكتفى بأدنى من هذا ، لبايع يزيد ، لذهب إلى عبيد الله بن زياد ، لكتب
إلى يزيد يستأمنه ويعطيه البيعة ، لكلّم في ذلك عمر بن سعد سرّاً. لو أراد الرحمة
لفعل شيئاً من ذلك ، ولكنّه توجّه بخطابه إلى الجنود ... الجنود الذين يعلم أنّهم
مأمورون ، وأنّهم لا يملكون أن يفعلوا ما يُريدون ، توجّه إليهم ليؤكّد في أذهانهم
ومشاعرهم الحقيقة التي ستُرعبهم وستُرعب المجتمع الإسلامي كلّه بعد قليل ... الحقيقة
الصارخة بأنّه ومَنْ معه منحدرون من هذه الاُصول العريقة في تاريخ الإسلام ؛ محمد
رسول الله صلىاللهعليهوآله
، علي ، فاطمة ، جعفر ، حمزة عليهمالسلام.
إنّه يُقرّر في أذهانهم أنّهم لا يطلبونه بقتيل قتله منهم ، ولا بمال احتجبه عنهم
، ولا بجراحة أصاب بها أحدهم ، وإنّما يطلبونه لأنّه ثار على الحكم الاُموي الفاسد
، هذا الحكم الذي يُصرّ على قتله باسم الدين وهو في مركزه الديني العظيم.
على هذا النحو ينبغي أن يُفهم هذا النصّ
وغيره من النصوص. وانتهت فاجعة كربلاء بمصرع الحسين عليهالسلام
وآله وصحبه ، ولكنّ نضال بقية آل البيت عليهمالسلام
في سبيل إشعار المسلمين بالزيف الديني الذي يقوم عليه الحكم الاُموي ، وفي سبيل
بثّ الوعي في هذه الجماهير لم ينته ، ولكنّ النضال مُنذ اليوم لن يأخذ
شكل الثورة المُسلحة
؛ فقد صُرع في كربلاء جميع الثائرين ، إنّه مُنذ اليوم نضال كلامي ، ولقد واصلت
ثورة الحسين عليهالسلام
في هذا الاتجاه اُخته زينب عقيلة آل أبي طالب.
وقد انكشف هذا الزيف الديني ـ الذي موّه
الاُمويّون به حكمهم ـ سريعاً بعد مصرع الحسين عليهالسلام
وآله ؛ فقد نشر الجنود العائدون تفاصيل الملحمة المروّعة في طول البلاد الإسلاميّة
وعرضها ، فكان لذلك فعل النار بالنسبة إلى السلطان الاُموي وقد روى المؤرّخون لمّا
وصل رأس الحسين عليهالسلام
إلى يزيد حسُنت حال ابن زياد عنده ، ووصله وسرّه ما فعل ، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيراً
حتّى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم ، فندم على قتل الحسين .
لقد تحطّم منذ ذلك اليوم الإطار الديني
الذي أحاط به الحكّام الظالمون حكمهم الفاسد ، لم تعُد لهذا الحكم حرمة دينية عند
الجماهير المُسلمة. وقد عرفت فيما سبق أنّ الاُمويِّين أنشؤوا جماعة فكرية تتّخذ
من نشاطها الفكري وسيلة لتغطية نشاطها السياسي ، ولإسباغ صفة مشروعة على هذا
النشاط ، وهي فرقة المرجئة التي تُؤيّد حكومة بني اُميّة ، وتسبغ على تصرّفاتهم
صفة دينية ، وتقدّم للناس تفسيراً دينياً خاصّاً يجعل الحاكمين بمأمن من أن ينظر
المسلمون إلى أفعالهم المنافية للدين نظرة غضب واستنكار.
وقد دأب الفقهاء الرسميون على إصدار
الفتاوى التي تحرّم على الجماهير الثورة على الحكم الفاسد.
قال الشربيني في كتاب مغني المحتاج إلى
معرفة ألفاظ المنهاج :
«وقد عرّف المصنّف البُغاة بقوله : هم
مسلمون مُخالفوا الإمام ولو جائراً ، وهم عادلون كما قال القفّال ، وحكاه ابن
القشيري عن معظم
__________________
الأصحاب ، وما في
الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل ، وكذا هو في الأمّ والمختصر مرادهم إمام
أهل العدل ، فلا ينافي ذلك. ويدلّ لذلك قول المصنّف في شرح مسلم : إنّ الخروج على
الأئمّة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين».
وقال الشيخ عمر النسفي في كتابه «العقائد
النسفية» :
«ولا ينعزل الإمام بالفسق ـ أي الخروج
على طاعة الله تعالى ـ والجور ـ أي الظلم على عباده تعالى ـ ؛ لأنّ الفاسق من أهل
الولاية عند أبي حنيفة ...». وقد علّل ذلك بأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من
الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ولا يرون
الخروج عليهم ...!!!
وقال الباجوري في حاشيته على شرح الغزّي
:
«فتجب طاعة الإمام ولو جائراً. وفي شرح
مسلم : يحرم الخروج على الإمام الجائر إجماعاً» ...
وهذا فقيه آخر يقول في كتاب مجمع الأنهر
وملتقى الأبحر :
«والإمام يصير إماماً بالمبايعة معه من
الأشراف والأعيان ، وبأن ينفذ حكمه في رعيته ؛ خوفاً من قهره وجبروته ، فإن بويع
ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير إماماً ، فإذا صار إماماً فجار لا
ينعزل إن كان له قهر وغلبة ، وإلاّ ينعزل» .
هذه الفتاوى وأمثالها التي تُحرّم ثورة
العادلين على الظالمين الفاسقين ، والتي تجعل مبرّر السيطرة على الحكم القدرة على
قهر الرعية وظلمها والجور فيها ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنّما هي النتاج
الخبيث للنظرة الدينية إلى
__________________
الحكم الاُموي وكلّ
حكم ظالم ، وهي نتيجة التبرير الديني لتصرّفات الحكّام الظالمين ولكن هذه الفتاوى
التخديرية التي ما أنزل الله بها من سلطان بقيت في بطون الكتب ، ولم تعد الجماهير
المسلمة تستمع إليها إلاّ قليلاً ... لقد بدأت تتربّص للثورة في كلّ حين.
ـ ٣ ـ
٢ ـ الشعور بالإثم
وكان لثورة الحسين عليهالسلام ونهايته في كربلاء
أثر آخر ، هو ما سبّبته هذه النهاية وهذا المصير من إثارة الشعور بالإثم في ضمير
كلّ مسلم استطاع نصره فلم ينصره ، وسمع واعيته فلم يُجبها. ولقد كان هذا الشعور
أقوى ما يكون في ضمائر اُولئك الذين كفّوا أيديهم عن نصره بعد أن وعدوه النصر
وعاهدوه على الثورة.
ولهذا الشعور بالإثم طرفان ؛ فهو من جهة
يحمل صاحبه على أن يكفّر عن إثمه الذي ارتكبه وجرمه الذي قارفه ، وهو من جهة اُخرى
يُثير في النفس مشاعر الحقد والكراهية لاُولئك الذي دُفعوا إلى ارتكاب الإثم.
وهذا ما نراه جليّاً في الشعب المسلم
بعد ثورة الحسين عليهالسلام
، فقد دفع الشعور بالإثم كثيراً من الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتفكير ، وزادهم
بغضاً للاُمويِّين وحقداً عليهم. وكان التعبير الطبيعي للرغبة في التكفير وللحقد
هو الثورة ، وهكذا كان ؛ فقد استُهدف الاُمويّون لثورات أجّجها مصرع الحسين عليهالسلام ، وكان باعثها
التكفير عن القعود عن نصره والرغبة في الانتقام من الاُمويِّين ، وسنرى في فصل آت
نماذج من هذه الثورات.
وبسبب هذا الشعور بالإثم لم يُعد موقف
المسلمين من الحكم الاُموي موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك بُعد الاُمويِّين عن
الدين وظلمهم ، وإنّما غدا موقفاً عاطفياً أيضاً ؛ حيث إنّ هذا الشعور حدا
بالكثيرين إلى الثورة كعمل انتقامي يقصد به التشفّي ، وهذا يُفسّر لنا كثيراً من
الثورات الفاشلة التي
كان من البيّن فشلها
قبل اشتعالها ؛ فقد كان سببها هو الرغبة في الانتقام ، هو تلبية هذا الدّاعي
العاطفي ، وعندما يقع الإنسان تحت وطأة موقف عاطفي طاغ تغيب عنه احتمالات الفشل
والنجاح. وممّا لا ريب فيه أنّ هذا العامل النفسي جعل موقف المسلمين من الحكم
الاُموي أكثر إيجابية وحرارة ، وأسبغ عليه صفة انتقامية ، وجعله عاملاً يحسب له حساب
عند الحاكمين. إنّ الموقف العقلي فقط يُمكن السيطرة عليه والتشكيك فيه بأساليب
كثيرة ، أمّا حين يكون الموقف عاطفياً فإنّ الأمر يختلف تماماً ؛ وذلك لأنّ
العاطفة الصادقة تمتاز بالاشتعال والفوران والديمومة ، ورفض وجهات النظر المقابلة
، ولقد كان الشعور بالإثم عند هؤلاء المسلمين عميقاً وصادقاً.
* * *
ولقد قدّر لبقية آل البيت عليهمالسلام أن تُلهب هذا
الشعور بالإثم ، وأن تزيده حدّة وحرارة. هذه زينب بنت علي عليهاالسلام وقفت في أهل الكوفة
، وقد احتشدوا يحدقون في موكب الرؤوس والسبايا ويبكون ، فأشارت إليهم أن اسكتوا ، فسكتوا
ومضت تقول :
«أمّا بعد يا أهل الكوفة ، أتبكون! فلا
سكنت العبرة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة
أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا ساء ما تزرون!
أي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا
قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبداً ، وكيف ترحضون قتل
سبط خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجّتكم ، ومنار محجتكم ، وهو سيّد شباب
أهل الجنّة؟!
لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ، أتعجبون لو
أمطرت دماً؟!
ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط
الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتدرون أيّ كبد فريتم ، وأيّ دم سفكتم ،
وأيّ كريمة أبرزتم؟! لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاًًًً».
قال مَنْ سمعها :
«فلم أرّ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما
تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فلا والله ما أتمّت حديثها حتّى ضجّ
الناس بالبكاء وذُهلوا ، وسقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء».
وتكلّمت فاطمة بنت الحسين عليهاالسلام ، فقالت في كلام
لها :
«أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر
والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فكذبتمونا
وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً.
ويلكم! أترون أيّ يدٍ طاعنتنا منكم ، وأيّة
نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون مُحاربتنا؟! قست قلوبكم ،
وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان ، وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة
فأنتم لا تهتدون.
تبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ ترات
لرسول الله قبلكم ، وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب وعترته
الطيّبين الأخيار؟!» .
* * *
وتكلّم علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام ، فقال :
«أيها الناس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون
أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة
وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى
رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي؟!» .
* * *
ولمّا نودي بقتل الحسين عليهالسلام في المدينة ، وعلم
الناس بذلك ضجّت المدينة بأهلها ، ولم تُسمع واعية قطّ مثل نساء بني هاشم في
دورهنّ على الحسين عليهالسلام.
وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب حاسرة ومعها نساؤها ، وهي تلوي بثوبها وتقول :
ماذا تقولونَ إنْ قالَ النبيُّ لكمْ
|
|
ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الاُممِ
|
بعترتي وبأهلي بعد مُفتقدي
|
|
منهم أُسارى وقتلى ضُرّجوا بدمِ
|
فلمّا سمع عمرو بن سعيد ـ والي المدينة
ـ أصواتهنّ ، ضحك وقال :
عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً
|
|
كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ
|
__________________
ثمّ قال : هذه واعية كواعية عثمان .
وقد عبّر هذا الشعور بالإثم عن نفسه
بالشعر الذي يتفجّر سخطاً ونقمة على الاُمويِّين ، وحنيناً وولاء للحسين عليهالسلام ، وانفعالاً بثورته.
وثمّة نماذج معاصرة للثورة تكشف لنا
بصدق وحرارة عن هذا الأثر الذي خلّفته الثورة في المجتمع الإسلامي.
ولعلّ من أصدق النماذج التي حفظها لنا
تأريخ تلك الفترة قول عبد الله بن الحرّ الذي فرّ من الكوفة حين اتّهمه عبيد الله
بن زياد بعدم الولاء للسلطة ، وقدم إلى كربلاء فنظر إلى مصارع الشهداء وقال :
يقولُ أميرٌ غادرٌ حقّ غادرِ
|
|
ألا كنتَ قاتلتَ الشهيدَ ابنَ فاطمهْ
|
فيا ندمي ألاّ أكونُ نصرتَهُ
|
|
ألا كلّ نفسٍ لا تُسدّدُ نادمهْ
|
وإنّي لآسي لم أكن من حماتِهِ
|
|
لذو حسرةٍ ما إنْ تُفارق لازمهْ
|
سقى اللهُ أرواحَ الذين تآزروا
|
|
على نصرهِ سقياً من الغيثِ دائمهْ
|
وقفتُ على أجداثِهم ومحالِهمْ
|
|
فكادَ الحشى ينفضُّ والعينُ ساجمهْ
|
لَعمري لقد كانوا مصاليتَ في الوغى
|
|
سراعاً إلى الهيجا حماةً خضارمهْ
|
تآسوا على نصرِ ابنِ بنتِ نبيّهمْ
|
|
بأسيافِهم آسادُ غيلٍ ضراغمه
|
فإنْ يُقتلوا فكلُّ نفسٍ تقيّةٍ
|
|
على الأرضِ قد أضحت لذلكَ واجمهْ
|
وما إنْ رأى الراؤونَ أفضلَ منهمُ
|
|
لدى الموتِ ساداتٍ وزهراً قماقمهْ
|
أتقلتُهم ظلماً وترجو ودادنا
|
|
فدع خطّةً ليست لنا بملائمهْ
|
لَعمري لقد راغمتمونا بقتلِهمْ
|
|
فكم ناقمٌ منّا عليكم وناقمهْ
|
__________________
أهمُّ مراراً أن أسيرَ بجحفلٍ
|
|
إلى فئةٍ زاغتْ عن الحقّ ظالمهْ
|
فكفّوا وإلاّ زرتُكم بكتائبٍ
|
|
أشدّ عليكم من زحوفِ الديالمهْ
|
ومن هؤلاء الذين استيقظت ضمائرهم على
جريمتهم الرهيبة رضي بن منقذ العبدي ، فقال :
لو شاءَ ربّي ما شهدتُ قتالُهمْ
|
|
ولا جعلَ النعماءَ عند ابن جابرِ
|
لقد كانَ ذاكَ اليوم عاراً وسُبّةً
|
|
تُعيّرهُ الأبناءُ بعدَ المعاشرِ
|
فياليتَ أنّي كنتُ من قبل قتلِهِ
|
|
ويومَ حسينٍ كنتُ في رمسِ قابرِ
|
وقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يبقى
مشتعل الأوار ، حافزاً دائماً إلى الثورة والانتقام ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى
الثورات على الاُمويِّين كلّما سنحت الفرصة ، ثمّ لا يرتوي ولا يهدأ ولا يستكين
وإنّما يطلب من صاحبه ضريبة الدم باستمرار ، وكان سبيل ذلك هو الثورة على الظالمين.
__________________
ـ ٤ ـ
٣ ـ الأخلاق الجديدة
الثورة الصحيحة هي الاحتجاج النهائي
الحاسم على الواقع المعاش ، فبعد أن تخفق جميع الوسائل الاُخرى في تطوير الواقع
تصبح الثورة قدراً حتميّاً لا بدّ منه.
والقائمون بالثورة هم دائماً أصح أجزاء
الاُمّة ؛ هم الطليعة ، هم النُّخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش ، وإنّما بقيت
في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه وتعيه ، وترصده وتنفعل به وتتعذّب بسببه.
تُصبح الثورة قدر هذه النُّخبة ومصيرها
المحتوم حين تخفق جميع وسائل الصلاح الاُخرى ، وإلاّ فإنّ النُّخبة إذا لم تثر
تفقد مُبررات وجودها ، ولا يمكن أن يُقال عنها إنّها نُخبة ، إنّها تكون نُخبة حين
يكون لها دور تأريخي وحين تقوم بهذا الدور.
ولا بدّ أن تُبشر الثورة بأخلاق جديدة
إذا حدثت في مجتمع ليس له تُراث ديني وإنساني يضمن لأفراده ـ إذا اتّبع ـ حياة
إنسانيّة متكاملة ، أو تُحيي المبادئ والقيم التي هجرها المجتمع أو حرّفها إذا كان
للمجتمع مثل هذا التُراث كما هو الحال في المجتمع الإسلامي الذي كانت سياسة
الاُمويِّين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلاميّة ، واستلهام الأخلاق
الجاهليّة في الحياة.
وتُوفر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من
جملة مقوّمات وجودها ؛ لأنّ
العلاقات الإنسانيّة
في الواقع علاقات مُنحطّة وفاسدة ، وموقف الإنسان من الحياة موقف مُتخاذل وموسوم
بالانحطاط والانهيار ؛ ولذلك انتهى الواقع إلى حدّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه
الوحيد.
وإذاً ، فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق
أسمى ممّا يُمارسه المجتمع ضرورة لازمة ؛ لأنّه لا بدّ أن تتغيّر نظرة الإنسان إلى
نفسه وإلى الآخرين وإلى الحياة ليمكن إصلاح المجتمع.
ولقد قدّم الحسين عليهالسلام وآله وأصحابه ـ في
ثورتهم على الحكم الاُموي ـ الأخلاق الإسلاميّة العالية بكلّ صفاتها ونقائها ، ولم
يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم ، وإنّما كتبوه
بدمائهم وحياتهم.
لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى
الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال ، وبعرض الحياة الدنيا. لقد
اعتاد أن يرى الجباه تعنوا خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير لمجرد أنّه يملك أن يُحرم
من العطاء.
لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون
ليزيد على علمهم بحقارته وانحطاطه ، وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله
الحقير ومنبته الوضيع ، وخضعوا لغير هذا وذاك من الطغاة ؛ لأنّ هؤلاء الطغاة
يملكون الجاه والمال والنفوذ ، ولأنّ التقرّب منهم والتودّد إليهم كفيل بأن يجعلهم
ذوي نفوذ في المجتمع وإن عليهم النعمة والرفاه. وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كلّ
شيء في سبيل نيل هذه الحظوة. كانوا يخونون مجتمعهم فيتمالون مع هؤلاء الطغاة على
إذلال هذا المجتمع وسحقه وحرمانه ، وكانوا يخونون ضمائرهم فيبتدعون من ألوان الكذب
ما يدعم هذه العروش ، وكانوا يخونون دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم.
كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي
آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال ، ويعرف لوناً آخر منهم وهم اُولئك الزُّهّاد
الدّجّالون الذين
يتظاهرون بالزهد
رياء ونفاقاً ، حتّى إذا تقربوا من الطغاة كانوا لهم أعواناً وأنصاراً ، إنّهم هذا
الصنف الذي وصفه الإمام علي عليهالسلام
بقوله :
«ومنهم مَنْ يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا
يطلب الآخرة بعمل الدنيا. قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف
من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية» .
هؤلاء هم الزعماء الذين كان الرجل
العادي يعرفهم وقد اعتادهم وأفهم ، بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير
التساؤل.
ولذلك فقد كان غريباً جدّاً على كثير من
المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يُخيّر بين حياة رافهة فيها الغنى وفيها المتعة ، وفيها
النفوذ والطاعة ، ولكن فيها إلى جانب ذلك كلّه الخضوع لطاغية والإسهام معه في
طغيانه ، والمساومة على المبدأ والخيانة ، وبين الموت عطشاً مع قتل الصفوة الخلّص
من أصحابه وأولاده ، وإخوته وأهل بيته جميعاً أمامه ، وحيث تنظر إليهم عينه في
ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ ، وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدواً هائلاً يريد
لهم الموت أو هذا اللون من الحياة ، ثم يرى مصارعهم واحداً بعد واحد ، وإنّه ليعلم
أيّ مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده ؛ سبي وتشريد ، ونقل من بلد إلى بلد
، وحرمان ... يعلم ذلك كله ثمّ يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون
الرغيد من الحياة.
لقد كان غريباً جدّاً على هؤلاء أن يروا
إنساناً كهذا ؛ لقد اعتادوا على زعماء يُمرّغون جباههم في التراب خوفاً من مصير
أهون من هذا بكثير ، أمثال عمر بن سعد ، والأشعث بن قيس ونظائرهما. تعودوا على
هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان ، هذا
__________________
النموذج الذي يتعالى
ويتعالى حتّى ليكاد القائل أن يقول : ما هذا بشر ...
ولقد هزّ هذا اللون من الأخلاق ، هذا
اللون من السلوك الضميرَ المسلم هزّاً مُتداركاً ، وأيقظه من سُباته المرَضي
الطويل ؛ ليشاهد صفحة جديدة مُشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشرف والمبدأ ، والحياة
العارية من الذلّ والعبودية. ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها ، وعن زيف
الزعماء ـ أصنام اللحم ـ الذين يعبدهم ، وشق له طريقاً جديداً في العمل ، وقدّم له
اُسلوباً جديداً في العمل ، وقدّم له اُسلوباً جديداً في مُمارسة الحياة ، فيه
قسوة وفيه حرمان ، ولكنّه طريق مُضيء لا طريق غيره جدير بالإنسان.
ولقد غدا هذا اللون المُشرق من الأخلاق
، وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على كلّ حاكم يُجافي روح الإسلام في
حكمه. إنّ ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثّر بهذه المُثل المضيئة ، ولكنّ الذي
يتأثّر هي الاُمّة ، وهذا هو ما كان يريده الحسين عليهالسلام.
لقد كان يريد شقّ الطريق للاُمّة المُستعبدة لتناضل عن إنسانيتها.
* * *
وفي جميع مراحل الثورة ، منذ بدايتها في
المدينة حتّى ختامها الدامي في كربلاء ، نلمح التصميم على هذا النمط العالي من
السلوك.
ها هو الحسين عليهالسلام يقول لأخيه محمد بن
الحنفيّة وهما بعد في المدينة :
«يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا
ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية» .
وها هو يتمثل بأبيات يزيد بن مفرغ
الحميري
حين انسلّ من المدينة في جنح الليل إلى مكة :
__________________
لا ذُعرت السّوام في فلقِ الصب
|
|
حِ مُغيراً ولا دُعيت يزيدا
|
يوم أُعطي على المهانةِ ضيماً
|
|
والمنايا ترصدنني أن أحيدا
|
وها هو يجيب الحرّ بن يزيد الرياحي حين
قال له :
«أذكرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن
قاتلت لتُقتلن ، ولئن قوتلت لتهلكن».
فقال له الإمام الحسين عليهالسلام :
«أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن
تقتلوني؟ ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو
يريد نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال له : أين تذهب فإنّك مقتول. فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى
|
|
إذا ما نوى خيراً وجاهدَ مسلما
|
وواسى رجالاً صالحينَ بنفسه
|
|
وخالفَ مثبوراً وفارقَ مجرما
|
فإن عشتُ لم أندم وإن مُتُّ لم أُلمْ
|
|
كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وتُرغما»
|
وها هو وقد أُحيط به ، وقيل له : انزل
على حكم بني عمّك ، يقول :
«لا والله ، لا اُعطيهم بيدي إعطاء
الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد ، ألا
__________________
وإنّ الدّعي ابن
الدّعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله
لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة
لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» .
وها هو يخطب أصحابه فيقول :
«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر بنا ما
ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة
كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى
الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ
سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» .
وكان يقول كثيراً :
«موت في عزّ خير من حياة في ذلّ» .
كلّ هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي
اختطّه الحسين عليهالسلام
لنفسه ولمَنْ معه في كربلاء ، وألهب به الروح الإسلاميّة بعد ذلك ، وبثّ فيها قوّة
جديدة.
* * *
لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون
والسياسيون يُمارسون حياتهم. وهنا نرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها
الإنسان العادي إذ
__________________
ذاك. لقد كان همّ
الرجل العادي هو حياته الخاصّة يعمل لها ويكدح في سبيلها ، ولا يُفكّر إلاّ فيها ،
فإذا اتّسع اُفقه كانت القبيلة محلّ اهتمامه. أمّا المجتمع وآلامه ـ المجتمع
الكبير ـ فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأيّ اهتمام ، كانت القضايا العامّة
بعيدة عن اهتمامه. لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين ؛
يُفكّرون ويرسمون خطّة العمل وعليه أن يسير فقط ، فلم تكن للرجل العادي مشاركة
جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.
وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه فيحافظ
عليه ، ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء ، ويسكت عن نقد ما يراه
جوراً بسبب ذلك .
وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل ، ويروي الأشعار في هذا وذاك.
هذا مُخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.
أمّا أصحاب الحسين عليهالسلام فقد كان لهم شأن
آخر.
لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليهالسلام ، وشاركته في مصيره
رجالاً عاديين ، لكلّ منهم بيت وزوجة وأطفال وصداقات ، ولكلّ منهم عطاء من بيت
المال ، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا ، في حياته مُتّسع للاستمتاع
بالحُبّ وطيّبات الحياة ، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه وواجهوا مجتمعهم
بعزمهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به ، وصمموا على الموت في سبيله.
ولا أستطيع أن أقدّم هنا صورة كاملة
وافية لسُلوك آل الحسين وأصحابه
__________________
في هذه الثورة ، وعليك
لكي تخرج بهذه الصورة الوافية أن تقرأ قصّة كربلاء بتمامها ، وغاية ما أستطيعه هنا
هو أن أقدّم لك لمحات من سلوكهم العالي :
ـ في زُبالة استبان للحسين عليهالسلام مصيره حين علم بقتل
رسوله إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل ، وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ، فأخبر
مَنْ معه بذلك ، وقال :
«أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ؛
قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ
أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه منّا ذمام» .
فتفرّق عنه الناس يميناً وشمالاً حتّى
بقي في أصحابه الذين يُريدون الموت معه ، واستمروا على عزمهم هذا إلى اللحظة
الأخيرة لكلّ منهم. اللحظة التي أدّى فيها ضريبة الدم كاملة.
ـ في كربلاء أقبل على أصحابه فقال :
«الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على
ألسنتهم ، يُحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».
ثمّ قال :
«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر بنا ما
ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة
كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى
الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ
سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».
__________________
فقال زهير بن القين :
«سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو
كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها».
وقال برير بن خضير :
«يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك
علينا أن نُقاتل بين يديك ، نقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة».
وقال نافع بن هلال :
«سر بنا راشداً مُعافى ، مشرقاً إن شئت
أو مغرباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على
نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك ، ونعادي مَنْ عاداك» .
ومرّة اُخرى جمع الحسين عليهالسلام أصحابه قرب المساء
ـ مساء يوم العاشر ـ فخطبهم قائلاً :
«... أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً
أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله
عنّي جميعاً. ألا وإنّي أظنّ أنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم
فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ، ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه
جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ،
__________________
وتفرّقوا في سوادكم
ومدائنكم ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ...».
هذه فرصة أخيرة منحهم إيّاها الحسين عليهالسلام ، فماذا كان ردّ
الفعل؟
قال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه
وأبناء عبد الله بن جعفر :
ولِمَ نفعل؟
لنبقى بعدك؟!
لا أرنا الله ذلك أبداً.
والتفت الحسين عليهالسلام إلى بني عقيل ، وقال
:
«حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد
أذنت لكم».
فقالوا :
فما يقول الناس ، وما نقول لهم؟! إنّا
تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرمِ معهم بسهم ، ولم نطعن
برمح ، ولم نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا.
لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا
وأموالنا وأهلينا ، نقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
وجاء دور أصحابه ، فقال مسلم بن عوسجة :
أنحن نُخلي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في
أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت
قائمه في يدي ، ولو لم يكن
معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة
دونك حتّى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي :
والله ، لا نُخليك حتّى يعلم الله أنّا
قد حفظنا غيبة رسول الله صلىاللهعليهوآله
فيك. والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرى ، يُفعل ذلك
بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة
واحدة.
وقال زهير بن القين :
والله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ، ثمّ
قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء
الفتية من أهل بيتك.
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه
بعضاً في وجه واحد ، فقالوا :
والله لا نفارقك ، ولكن أنفسنا لك
الفداء ، نقيك بنحورنا ، وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما
علينا .
وقال الحسين عليهالسلام لنافع بن هلال في
جوف الليل :
«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف
الليل وتنجو بنفسك؟». فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول : ثكلتني اُمّي! إنّ
سيفي بألف ، وفرسي بمثله ، فوالله الذي
__________________
مَنْ عليّ بك لا فارقتك حتّى يكلاّ عن
فري وجري.
وصاح شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته :
أين بنو اُختنا. فخرج إليه العباس وجعفر
وعثمان بنو علي ، فقالوا له : ما لك ، وما تريد؟ قال :
أنتم يا بني اُختي آمنون. فقال له
الفتية :
لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا!
أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!
هذا هو مستوى السلوك الذي ارتفع إليه
الثائرون ، وهذه هي الأخلاق الجديدة التي قدّموها لمجتمعهم. هذا المجتمع الذي قدر
لكثير من فئاته فيما بعد أن تأخذ نفسها بالسير على هذا المستوى العالي من الأخلاق
ومُمارسة الحياة.
* * *
ولنا أن نتساءل هنا عن دور المرأة
المسلمة في ثورة كربلاء ؛ لقد كان في الثائرين الزوج والأخ والولد ، فما كان موقف
المرأة من مصارع هؤلاء؟ ويأتينا الجواب من التأريخ فنهتزّ لموقف المرأة في كربلاء
، لقد كانت المرأة اُمّاً واُختاً وزوجة في طليعة الثائرين المُناضلين المُضحين
الباذلين لضريبة الدم. ولا أتحدّث هنا عن زينب وعن أخواتها ؛ فمستوى سلوكهن لم
يبلغه بشر ، وإنّما أتحدّث عن نساء عاديات جدّاً كنّ إلى أيّام قليلة قبل يوم
كربلاء يشغلهن ما يشغل كلّ امرأة من شؤون بيتها وزينتها ، وتربية أولادها والتحدّث
مع جاراتها. نساء لا تربطهن بالثائرين رابطة دم ، ولكن تربطهن بهم رابطة مبدأ
ورابطة عقيدة ، فضحّين بالولد والزوج
__________________
مستبشرات ، ثمّ
ضحّين بأنفسهن في النهاية.
* * *
هذا عبد الله بن عمير قال لزوجته إنّه
يريد المسير إلى الحسين عليهالسلام
، فقالت له :
أصبت ، أصاب الله بك أرشد اُمورك ، افعل
وأخرجني معك. فخرج بها حتّى أتى حسيناً فأقام معه.
ثمّ برز ليُقاتل ، فأخذت امرأته عموداً
ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول :
فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطيبين
ذرّية محمد. فأقبل إليها يردّها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ، ثمّ قالت :
إنّي لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها
الحسين عليهالسلام
، فقال : «جُزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ».
فانصرفت ، ثمّ قُتل زوجها ، فخرجت تمشي إليه حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه
وتقول :
هنيئاً لك الجنّة. فقال شمر بن ذي
الجوشن لغلام يُسمّى رستم :
اضرب رأسها بالعمود. فضرب رأسها فشدخه
فماتت مكانها ، وهي أوّل امرأة قُتلت من أصحاب الحسين عليهالسلام .
وهذا وهب بن حبّاب الكلبي ، قالت له
اُمّه :
قم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله. فقال :
أفعل. فحمل على القوم ، ولم يزل يُقاتل
حتّى قتل جماعة ، ثمّ رجع وقال : يا اُمّاه ، هل رضيتِ؟ فقالت :
ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين عليهالسلام. فقالت له امرأته :
بالله عليك
__________________
لا تفجعني بنفسك.
فقالت له اُمّه :
يا بُني ، اعزب عن قولها ، وارجع فقاتل
بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع ، ولم يزل يُقاتل حتّى
قُطعت يداه ثمّ قُتل .
وبرز جنادة بن الحارث السلماني ـ وكان
خرج بعياله وولده إلى الحسين عليهالسلام
ـ فقاتل حتّى قُتل ، فلمّا قُتل أمرت زوجته ولدها عمراً ـ وهو شاب ـ أن ينصر
الحسين عليهالسلام
، فقالت له :
اخرج يا بُني وقاتل بين يدي ابن بنت
رسول الله. فخرج واستأذن الحسين عليهالسلام
، فقال الحسين عليهالسلام
:
«هذا شاب قُتل أبوه ، ولعلّ اُمّه تكره
خروجه». فقال الشاب :
اُمّي أمرتني بذلك. فبرز وقاتل حتّى
قُتل وحُزّ رأسه ، ورُمي به إلى عسكر الحسين عليهالسلام
، فحملت اُمّه رأسه وقالت :
أحسنت يا بُني. وأخذت عمود خيمة وهي
تقول :
أنا عجوزٌ سيدي ضعيفهْ
|
|
خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ
|
أضربكم بضربةٍ عنيفهْ
|
|
دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ
|
وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين عليهالسلام بصرفها ، ودعا لها .
* * *
هذه نماذج من سلوك الثائرين في كربلاء. ولقد
أهمل التأريخ ذكر كثير من بطولات هؤلاء الثائرين ؛ فإنّ المؤرّخين يحرصون غالباً
على تجنّب ذكر التفاصيل الدقيقة ، ويقصرون اهتمامهم على ما يلوح لهم أنّه جليل ،
__________________
ولا ينال الناس
العاديون شيئاً من اهتمامهم ، بينما يقصرون هذا الاهتمام على البارزين من القادة
وإن كان الدور الحقيقي في المعركة هو ما يقوم به هؤلاء الناس العاديون. على أنّ
أخبار ثورة كربلاء استهدفت لحملة من السلطة الحاكمة فأهمل المؤرّخون الرسميون ذكر
كثير من تفاصيلها الدقيقة ذات المغزى.
* * *
ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في
اكتساب الحياة الإسلاميّة سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين عليهالسلام بوقت طويل ، وذلك
هو الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في الحياة العامّة بعد أن تأثّر وجدانه
بسلوك الثائرين في كربلاء ، وقد بدأ الحكّام المُجافون للإسلام يحسبون حساباً
لهؤلاء الرجال العاديين ، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة
يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم ؛ لبُعدهم عن الإسلام ،
وعدم استجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم. ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر
القائمين بها ، وتدفعهم إلى الاستماتة في سبيل ما يرونه حقّاً.
ولقد تحطّمت دولة اُميّة بهذه الثورات ،
وقامت دولة العباسيِّين بوحي من الأفكار التي تُبشّر بها هذه الثورات ، ولمّا
تبيّن للناس أنّ العباسيين كمَنْ سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا ... واستمرت الثورات
التي تقودها روح كربلاء بدون انقطاع ضدّ كلّ ظلم وطغيان وفساد.
ـ ٥ ـ
٤ ـ انبعاث الروح النضاليّة
كانت ثورة الحسين عليهالسلام السبب في انبعاث
الرّوح النضالية في الإنسان المسلم من جديد بعد فترة طويلة من الهمود والتسليم ، ولقد
كانت الآفات النفسية والاجتماعيّة تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يُناضل عن ذاته
وعن إنسانيته ، فجاءت ثورة الحسين عليهالسلام
وحطّمت كلّ حاجز نفسي واجتماعي يقف في وجه الثورة.
كان الإطار الديني الذي أحاط به
الاُمويّون حكمهم العفن الفاسد يحول بين الشعب وبين أن يثور ، فجاءت ثورة الحسين عليهالسلام وحطّمت هذا الإطار
وكشفت الحكم الاُموي على حقيقته ، فإذا هو حكم جاهلي لا ديني ، لا إنساني ، تجب
الثورة عليه وتحطيمه.
وكانت المُسلّمات الأخلاقية تحول بين
الإنسان المسلم وبين أن يثور ، كانت قوانينه الأخلاقية تقول له : حافظ على ذاتك ، حافظ
على عطائك ، حافظ على منزلتك الاجتماعيّة ، فجاءت ثورة الحسين عليهالسلام وقدّمت للإنسان
المسلم أخلاقاً جديدة تقول له : لا تستسلم ، لا تُساوم على إنسانيتك ، ناضل قوى
الشرّ ما وسعك ، ضحِ بكلّ شيء في سبيل مبدئك.
كان الرضا عن النفس يحول بينه وبين أن
يثور ، ويغريه بالقعود عن النضال. فجاءت ثورة الحسين عليهالسلام
وخلّفت في أعقابها لجماهير كثيرة شعوراً بالإثم ، وتأنيباً للنفس وبرماً بها ، ورغبة
عارمة في التكفير.
كانت كلّ هذه الأسباب تحول بين الناس
وبين الثورة ، فجاءت ثورة الحسين عليهالسلام
ونسفت هذه الأسباب كلّها ، وأعدّت الناس إعداداً كاملاً للثورة.
وللرّوح النضالية شأن كبير وخطير في
حياة الشعوب وحكّامها.
فحين تكون الرّوح النضالية هامدة ، وحين
يكون الشعب مُستسلماً لحكّامه يشعر حكّامه بالأمان فيفعلون كلّ شيء ، ويرتكبون ما
يشاؤون دون أن يحسبوا حساب أحد. هذا من جهة الحاكمين. وأمّا المحكومون فتلاحظ أنّه
كلّما امتد الزمن بهمود الرّوح النضالية سهل التسلّط على الشعب ، واستشرت فيه روح
التواكل والخنوع ، واستمرأ الرضا بحياته القائمة ، ولم يعُد بحيث يُرجى منه القيام
بمحاولة جدّية لتطوير واقعه وإثبات وجوده أمام حاكميه ، وهذا يجعل إصلاحه وتطويره
أمراً بالغ الصعوبة.
ولقد كان الإمام علي عليهالسلام حريصاً على أن تبقى
روح النضال حيّة نامية في الشعب ؛ لتبقى للشعب القدرة على الثورة حين تدعو الأحوال
للثورة ، وتشهد لذلك هذه الكلمة التي قالها وهو على فراش الموت ، ومن جملة وصيته :
«لا تُقاتلوا الخوارج بعدي ؛ فليس مَنْ
طلب الحقّ فأخطأه كمَنْ طلب الباطل فأدركه» .
معرّضاً بمعاوية بن أبي سفيان.
وعلّة هذا واضحة ، فقد حارب هو الخوارج
؛ لأنّهم تمرّدوا على حكم يتجاوب مع مصالح الشعب العليا ، انسياقاً مع أفكار خاطئة
وسخيفة ، ولكن هذا لم يغيّر موقفهم من الحكم الاُموي الذي كانوا لا يزالون يرونه
حكماً بغير حقّ ، فكان يريد ألاّ يتكتّل المجتمع ضدّهم بعده ؛ إذ سيُمكنهم
__________________
سكون المجتمع عنهم
من وخز الحكم الاُموي دائماً ، وبذلك لا يخلو الجو تماماً للحكّام الاُمويِّين. ولكن
وصيته لم تُمتثل ، فتكتّل المجتمع ضدّهم وحاربهم ، ومع ذلك ظلّوا شوكة في جنب
الحكم الاُموي دائماً ، ولكنّهم لم يُؤثّروا فيه لأسباب تقدّم ذكرها.
* * *
ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير
ثورة الحسين عليهالسلام
في بعث روح الثورة في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أنّ هذا المجتمع أخلد
إلى السكون عشرين عاماً كاملة قبل ثورة الحسين عليهالسلام
، لم يقم خلالها بأيّ ثورة على توفر الدواعي إلى الثورة خلال هذه الأعوام الطوال.
فمنذ قتل أمير المؤمنين علي عليهالسلام ، وغدا أمر الحكم
للاُمويِّين خالصاً ، إلى حين ثورة الحسين عليهالسلام
لم يقم في هذا المجتمع أيّ احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والتقتيل وسرقة
أموال الأمّة التي كان يقوم بها الاُمويّون وأعوانهم ، بل كان موقف السادة من هذه
الأفاعيل هو إيجاد المُبرّرات الدينية والسياسية ، وكان موقف الجماهير هو موقف
الخضوع والتسليم. عشرون عاماً على هذا المجتمع ـ من سنة أربعين إلى سنة ستين
للهجرة ـ وهذه هي حالته. وتغيّرت هذه الحالة بعد سنة ستين ، بعد ثورة الحسين عليهالسلام ؛ فقد بدأ الشعب
يثور ، وبدأت الجماهير ترقب زعيماً يقودها ، هي مستعدة للثورة وللتمرّد على
الاُمويِّين في كلّ حين ، ولكنّها تحتاج إلى قائد ، وكلّما وجد القائد وجدت الثورة
على حكم الاُمويِّين.
التمرّد الوحيد الذي كان يُصادفه
الاُمويّون طيلة هذه العشرين عاماً وعلى فترات متعاقبة هو تمرّد الخوارج ، ولكنّه
ـ كما قدّمنا ـ لم يكن مُتجاوباً مع المجتمع الإسلامي فلم يكن ناجحاً ، وكانت
السلطة تقمعه بجيوش تُؤلّفها من سكّان البلاد التي ينجم التمرّد فيها. ولكن ما حدث
بعد ثورة الحسين عليهالسلام
كان شيئاً آخر ، كان تمرّداً يحظى بعطف المجتمع الإسلامي
كلّه ، مَنْ شارك
فيه ومَنْ لم يشارك ، وكانت أسبابه بعيدة عن تلك التي تدفع الخوارج إلى الثورة. كانت
أسباباً تنبع من واقع المجتمع ؛ من الظلم والاضطهاد والتجويع ، ولم يتمكّن الحكّام
الاُمويّون من قمع هذه الثورات بجيوش من سكّان المناطق الثائرة ، فقد كانوا يعرفون
أنّ ثمّة تجاوباً نفسياً بين الثائرين وبين القاعدين ، فاضطروا إلى قمع هذه
الثورات بجيوش أجنبية عن مناطق الثائرين ، اضطروا إلى جلب جيوش سورية ، وإقرار
حاميات دائمة في مراكز الحكم.
هذه صورة مجملة لوضع المجتمع الإسلامي
بعد ثورة الحسين عليهالسلام
فلنأخذ بشيء من التفصيل.
ـ ٢ ـ
أ ـ ثورة التوّابين
كان أوّل رد فعل مباشر لقتل الحسين عليهالسلام هو حركة التوّابين
في الكوفة.
فلمّا قُتل الحسين عليهالسلام ورجع ابن زياد مع
معسكره بالنخيلة تلاقت الشيعة بالتلاؤم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأً
كبيراً بدعاء الحسين عليهالسلام
إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يغسل
عارهم والإثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل مَنْ قتله أو القتل فيه. ففزعوا بالكوفة غلى
خمسة نفر من رؤوس الشيعة :
سليمان بن صرد الخزاعي.
والمسيب بن نجيّة الفزاري.
وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي.
وعبد الله بن وائل التميمي.
رفاعة بن شداد البجلي ، فاجتمعوا ، وبدأ
المسيب بن نجيّة الكلام فقال :
«... وقد كنّا مُغرمين بتزكية أنفسنا ، وتقريظ
شيعتنا حتّى بلا الله خيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وقد بلغتنا كتبه
، وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا يسألنا نصره ، عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً ،
فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قُتل إلى جانباً ؛
لا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه
بألسنتنا ، ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا ، فما عذرنا
عند ربّنا وعند لقاء نبيّنا؟ لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتليه والموالين عليه
، أو تُقتلوا في طلب ذلك ؛ فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك».
وتكلّم سليمان بن صرد الخزاعي ـ وقد
جعلوه زعيماً لهم ـ فقال :
«إنّا كنّا نمدّ أعناقنا إلى قدوم آل
نبيّنا ونُمنّيهم النصر ونحثهم على القدوم ، فلمّا قدموا ونينا وعجزنا وأدهنّا
وتربصنا وانتظرنا ما يكون ، حتّى قُتل فينا ولد نبيّنا وسلالته وبضعة من لحمه ودمه.
ألا انهضوا قد سخط ربّكم ، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله ، وما
أظنّه راضياً حتّى تُناجزوا مَنْ قتله أو تُبيروا ، ألا لا تهابوا الموت ؛ فوالله
ما هابه امرؤ قطّ إلاّ ذلّ. كونوا كالأوّل من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيّهم : (إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)».
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن
اليمان ومَنْ معه من الشيعة بالمدائن يأمرهم فأجابوه إلى دعوته ، وكتب إلى المثنى
بن مخرمة العبدي في البصرة وللشيعة هناك فأجابوه إلى ذلك.
وكان أوّل ما ابتدؤوا به أمرهم بعد قتل
الحسين عليهالسلام
سنة إحدى وستين ، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السرّ إلى الطلب بدم
الحسين عليهالسلام
، فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنفر بعد النفر من الشيعة وغيرها ، فلم يزالوا
كذلك [حتّى] مات يزيد ، فخرجت طائفة دعاة يدعون الناس
فاستجاب لهم ناس
كثير بعد هلاك يزيد أضعاف مَنْ كان استجاب لهم قبل ذلك. وخرجوا يشترون السلاح
ظاهرين ، ويجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.
حتّى إذا كانت ليلة الجمعة لخمس مضين من
شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين خرجوا وتوجّهوا إلى قبر الحسين عليهالسلام ، فلمّا وصلوا إليه
صاحوا صحية واحدة فما رُئي يوم أكثر باكياً منه ، وقالوا :
«يا ربّ ، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا
فاغفر لنا ما مضى وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم ، وارحم حسيناً وأصحابه
الشهداء الصدّيقين ، وإنّا نُشهدك يا ربّ إنّا على مثل ما قُتلوا عليه ، فإن لم
تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين».
وغادروا القبر مُستقتلين ، فقاتلوا جيوش
الاُمويِّين حتّى اُبيدوا جميعاً .
ولقد اعتبر التوابون أنّ المسؤول الأول
والأهم عن قتل الحسين عليهالسلام
هو النظام وليس الأشخاص ، وكانوا مُصيبين في هذا الاعتقاد ؛ ولذا نراهم توجّهوا
إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى مَنْ في الكوفة من قتلة الحسين عليهالسلام.
ونلاحظ هنا أنّ هذه الثورة قد انبعثت عن
شعور بالإثم والندم وعن رغبة في التكفير ، فمَنْ يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم يلمس
فيها الشعور العميق بالإثم والندم والرغبة الحارة في التكفير ، وكونها صادرة عن
هذه البواعث جعلها ثورة انتحارية استشهادية ؛ فالثائرون هنا يريدون الانتقام
والتكفير ولا يستهدفون شيئاً آخر وراء ذلك ، فلا يريدون نصراً ولا ملكاً ولا مغانم
، وإنّما يريدون انتقاماً فقط ، وقد خرجوا من ديارهم وهم على مثل اليقين بأنّهم لا
يرجعون إليها ، كانوا يريدون أن يموتوا ، ولقد بُذل لهم الأمان فلم
__________________
يقبلوا . وإذاً ، فلم تكن لهذه الثورة أهداف
اجتماعية واضحة ومُحدّدة ، لقد كان الهدف الواضح منها هو الانتقام والتكفير.
وإنّ الفقرة التي في صدر خطاب سليمان بن
صرد لتصوّر لنا بدقة متناهية حالة المجتمع قبل ثورة الحسين عليهالسلام وموقفه من الحركات
الإصلاحية كما عكسه موقف هذا المجتمع من ثورة الحسين عليهالسلام
نفسها. وإنّ الكلمات في هذه الفقرة لتكاد تختلج حياء بما تحمل من معاني الونى
والعجز والإدهان والتربّص والخذلان ، كما إنّ بقيّة الخطاب وسائر ما قيل في الحثّ
على هذه الثورة يُصوّر كيف كانت ثورة الحسين عليهالسلام
بركاناً عصف بكلّ هذا الركام من معاني العجز والانهيار والتلوّن ، وأحلّ محلّه
الرغبة العارمة في الثورة والاستشهاد. وقد رأيت فيما مرّ عليك من نصّ الطبري أنّ
الاستجابة للثورة لم تقتصر على الشيعة وحدهم ، بل شاركهم فيها غيرهم ممّن يأملون
تغيير الأوضاع عن طريق إزالة النير الاُموي بالثورة.
وكون هذه الثورة انتقامية انتحارية
استشهادية لا هدف للقائمين بها إلاّ الانتقام والموت في سبيله يُفسّر لنا قلّة عدد
المُستجيبين لها إلى النهاية ؛ فقد أحصى ديوان سليمان بن صرد ستة عشر ألف رجل لم
يخرج معه منهم أربعة آلاف
، ولم يستجب للدعوة من المدائن إلاّ مئة وسبعون رجلاً ، ومن البصرة إلاّ ثلاثمئة
رجل ، فالعمل
الانتحاري الاستشهادي لا يستهوي إلاّ أفراداً على مستوى عالٍ من التضحية [والتشبّع]
بالمبدأ ، وهؤلاء قلّة في كلّ زمان.
هذا ، ولكنّ الإنصاف للواقع يقتضينا أن
نسجّل أنّ هذه الثورة وإن كانت ثورة انتحارية استشهادية ولم تكن لها أهداف
اجتماعية واضحة ، إلاّ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً ؛ فقد عبّأت
خطب قادات هذه الثورة
__________________
وشعاراتهم الجماهير
في الكوفة للثورة على الحكم الاُموي ؛ ولذلك فلم يكد يبلغهم خبر هلاك يزيد حتّى
ثاروا على العامل الاُموي عمرو بن حريث فأخرجوه من قصر الإمارة ، واصطلحوا على
عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزّبير
، فكان ذلك مطلع العهد الذي زال فيه سلطان الاُمويِّين عن العراق إلى حين.
__________________
ـ ٣ ـ
ب ـ ثورة المدينة
وكانت ثورة المدينة ردّ فعل آخر لمقتل
الحسين عليهالسلام.
إلاّ إنّنا هنا نشاهد لوناً آخر من
الثورات ، ثورة تختلف عن ثورة التوابين في الدوافع والأهداف. لقد كانت الدوافع إلى
هذه الثورة شيئاً غير الانتقام ، كانت ثورة تستهدف تقويض سلطان الاُمويِّين الظالم
الجائر البعيد عن الدين.
وما نشكّ في أنّ شُعلة هذه الثورة كانت
مُتأجّجة ولكنّها كانت تبحث عن مُبرّر للانفجار ، والذي أجّج شُعلة الثورة أسباب
منها مقتل الحسين عليهالسلام
ولعلّه كان أهمّها ؛ فإنّ زينب بنت علي عليهاالسلام
دأبت بعد وصولها إلى المدينة على العمل للثورة ، وعلى تعبئة النفوس لها ، وتأليب
الناس على حكم يزيد ، حتّى لقد خاف عمرو بن سعيد الأشدق والي يزيد على المدينة
انتقاض الأمر ، فكتب إلى يزيد عن نشاطها كتاباً قال فيه :
إنّ وجودها بين أهل المدينة مُهيّج
للخواطر ، وإنّها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومَنْ معها على القيام للأخذ
بثأر الحسين. فأتاه كتاب يزيد بأن يُفرّق بينها وبين الناس .
__________________
وقد كان السبب المباشر لاشتعال الثورة
هو وفد أهل المدينة إلى يزيد ؛ فقد أوفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان والي المدينة
إلى زيد وفداً من أهلها فيهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري غسيل الملائكة ، وعبد
الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، والمُنذر بن الزّبير ، ورجالاً من
أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم ، فلمّا
رجعوا قدموا المدينة كلّهم إلاّ المنذر بن الزّبير ؛ فإنّه قدم العراق. فلمّا قدم
اُولئك النفر الوفد المدينةَ قاموا في أهل المدينة وأظهروا شتم يزيد وعيبه ، وقالوا
: قدمنا من عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويعزف عنده
القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسعر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد
خلعناه. وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل ، فقال :
جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ بنيّ
هؤلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوى به.
فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة
الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم.
وأمّا المنذر بن الزّبير فقدم المدينة
فكان ممّن يُحرّض الناس على يزيد ، وقال :
«إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني
ما صنع بي أن أخبركم خبره وأصدقكم عنه ؛ والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه
ليسكر حتّى يدع الصلاة».
وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ.
وثارت المدينة على الحكم الاُموي ، وطرد
الثائرون عامل يزيد والاُمويِّين ،
وقدرهم ألف رجل ، ولم
ينفع الوعد ولا الوعيد في ردّهم عن ثورتهم ، فقُمعت الثورة بجيش من الشام بوحشيّة
متناهية ، ودعا القائد الاُموي مسلم بن عقبة المُرّي لبيعة يزيد بن معاوية كما نقل
الطبري وغيره : دعا الناس للبيعة على أنّهم خول ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم
وأموالهم وأهليهم ما شاء .
* * *
وهلك يزيد ، وقد باشر جيشه بقمع ثورة
ابن الزّبير في مكة بعد أن فرغ من قمع ثورة المدينة ، وكان ابن الزّبير قد أعلن
الخلاف بعد ما بلغه مقتل الحسين عليهالسلام
، ولا يمكن أن نعتبر ثورة ابن الزّبير امتداداً لثورة الحسين عليهالسلام ؛ فقد كان ابن
الزّبير يعد العدّة للثورة قبل مقتل الحسين عليهالسلام
، وكانت أطماعه الشخصيّة في الحكم هي بواعثه على الثورة ، وكان يرى في الحسين عليهالسلام منافساً خطيراً كما
عرفت ، فلمّا بلغ خبر مقتل الحسين عليهالسلام
أهل مكة وثب إليه أصحابه وقالوا : أظهر بيعتك ؛ فإنّه لم يبقَ أحد إذ هلك الحسين
ينازعك الأمر ، ولكنّه قال لهم : لا تعجلوا .
حتّى إذا كانت سنة خمس وستين بُويع له في الحجاز والعراق ، والشام والجزيرة .
وما نشكّ في أنّ استجابة الناس للثورة
التي دعا لها ابن الزّبير كان مبعثها هذه الروح الجديدة التي بثّتها ثورة الحسين عليهالسلام الدامية في نفوس
الجماهير ، وقد مرّ عليك آنفاً كيف أثّر التوابون في الكوفة على الحكم الاُموي
بحيث أعدّوا الناس لتقبّل حكم ابن الزّبير وطرد عامل بني اُميّة على العراق.
__________________
ـ ٤ ـ
ج ـ ثورة المختار الثقفي
ودخلت سنة ست وستين للهجرة ، فثار
المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالباً ثأر الحسين عليهالسلام.
ولكي نعرف السرّ في استجابة جماهير
العراق لابن الزّبير أوّل الأمر ثمّ انقلابها عليه واستجابتها لدعوة المُختار ، لا
بدّ أن نلاحظ أنّ مجتمع العراق كان يطلب إصلاحاً اجتماعياً ، وكان يطلب الثأر من
الاُمويِّين وأعوانهم ؛ وعلى أمل الإصلاح الاجتماعي والانتقام استجاب مجتمع العراق
لابن الزّبير ، فهو عدو الاُمويِّين من جهة ، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة
عن الدنيا من جهة اُخرى ، فلعلّ سلطانه أن يُحقّق كلا الأمرين.
ولكنّ سلطان ابن الزّبير لم يكن خيراً
من سلطان الاُمويِّين ؛ لقد أخرج العراق عن سلطانهم ، ولكن قاتلي الحسين عليهالسلام كانوا مُقرّبين إلى
السلطة كما كانوا في عهد الاُمويِّين. إنّ شمر بن ذي الجوشن ، وشبت بن ربعي ، وعمر
بن سعد ، وعمرو بن الحجّاج ، وغيرهم كانوا سادة المجتمع في ظلّ سلطان ابن الزّبير
، كما كانوا سادته في ظلّ سلطان يزيد.
كما إنّه لم يُحقّق لهم العدل الاجتماعي
الذي يطلبونه ، لقد كانوا يحنّون إلى سيرة علي بن أبي طالب عليهالسلام فيهم ، هذه السيرة
التي حقّقت لهم أقصى ما يمكن من رفاه وعدل ، هذا عبد الله بن مطيع العدوي عامل ابن
الزّبير على الكوفة يقول للناس إنّه أمر أن يسير بسيرة عمر وعثمان ، فيقول له
المتكلّم بلسان أهل الكوفة :
«... أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد
أنّا لا نرضى أن يُحمل عنّا فضله ، وألاّ يُقسم إلاّ فينا ، وأن لا يُسار فينا
إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه ، ولا حاجة لنا في سيرة
عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطّاب فينا وإن كانت أهون
السيرتين علينا» .
كان هذا أو ذاك سبباً في انخذال الناس
عن ابن الزّبير وتأييدهم لثورة المختار عليه ، ولقد ربط المختار دعوته بمحمد بن
الحنفيّة بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح ، لقد جعل شعاره «يا لثارات
الحسين» وهذا يُحقّق لهم الهدف الثاني.
ولقد حارب عبد الله بن مطيع عامل ابن
الزّبير في الكوفة الثائرين مع المختار بالرجال الذين تولّوا قتل الحسين عليهالسلام. لقد حاربهم بشمر
بن ذي الجوشن ، وعمرو بن الحجّاج ، وشبث بن ربعي وأمثالهم ، وكان هذا كافياً في
حفز الثائرين على المضي في ثورتهم والتصميم على النصر.
وقد أنصف المختار عندما تولّى الحكم
طبقة في المجتمع الإسلامي كانت مُضطهدة في عهد الاُمويِّين واستمر اضطهادها في عهد
ابن الزّبير ، وهي طبقة الموالي «المسلمين غير العرب» ، فقد كانت عليهم واجبات
المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم ، فلمّا استتب الأمر للمختار أنصفهم فجعل لهم من
الحقوق مثل ما لغيرهم من عامّة المسلمين.
وقد أثار هذا العمل الأشراف وسادة
القبائل فتكتّلوا ضدّ المختار ، وتآمروا عليه ، وأجمعوا على حربه ، وكان على رأس
هؤلاء المتمردين قتلة الحسين عليهالسلام
، ولكنّهم فشلوا في حركتهم .
__________________
وكانت حركة التمرّد هذه سبباً في حفز
المختار على التعجيل بتتبع قتلة الحسين عليهالسلام
وآله في كربلاء وقتلهم ؛ فقتل منهم في يوم واحد مئتين وثمانين رجلاً ، ثمّ تتبعهم فقتل كثيراً منهم ، ولم
يفلت من زعمائهم أحد ؛ فقتل شمر بن ذي الجوشن ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجّاج ،
وشبث بن ربعي ، وغيرهم .
__________________
ـ ٥ ـ
د ـ ثورة مطرف بن المغيرة
وفي سنة ٧٧ للهجرة ثار مطرف بن المغيرة
بن شعبة على الحجّاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان.
كان هذا الرجل والياً للحجّاج على
المدائن ، وكان حيّ الضمير ، فلم يعمِ عينيه السلطان الذي حباه به الاُمويّون عن
إدراك الظلم الفادح الذي ينزلونه بالأمّة المسلمة ، وقد اتصل به دعاة الخوارج
فأرادوه على أن ينظمّ إليهم ويسلّم بإمرة المؤمنين لزعيمهم شبيب ، وأرادهم على أن
ينظمّوا إليه ليعيدوا الأمر شورى في المسلمين ، فأبى وأبوا ، واستشار نصحاءه في
الثورة فلم ينصحه بها أحد منهم ، ولكنّه ثار بمَنْ أجابه ، وكلّم رؤوس أصحابه ، فقال
:
«أمّا بعد ، فإنّ الله كتب الجهاد على
خلقه ، وأمر بالعدل والإحسان ، وقال : فيما أنزل علينا : (وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، وإنّي اُشهد الله أنّي خلعت عبد
الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف ، فمَنْ أحبّ منكم صحبتي وكان على مثل رأيي
فليبايعني ؛ فإنّ له الأسوة وحُسن الصحبة ، ومَنْ أبى فليذهب حيث شاء ؛ فإنّي لست
أحبّ أن يتبعني مَنْ ليس له نيّة في جهاد أهل الفجور. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة
نبيّه وإلى قتال
الظلمة ، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان
هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم مَنْ أحبّوا».
وكتب إلى سويد بن سرحان الثقفي وبُكير
بن هارون البجلي :
«أمّا بعد ، فإنّا ندعوكم إلى كتاب الله
وسنّة نبيّه ، وإلى جهاد مَنْ عَنِدَ عن الحقّ ، واستأثر بالفيء ، وترك حكم الكتاب
، فإذا ظهر الحقّ ومنع الباطل ، وكانت كلمة الله هي العليا ، جعلنا هذا الأمر شورى
بين الأمّة ؛ يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا ، فمَنْ قبل هذا منّا كان أخانا في
ديننا ، وولّينا في محيانا ومماتنا ، ومَنْ ردّ ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله
عليه» .
هذا هو منهج ثورة مطرف ، وفيه عبير من
روح كربلاء.
__________________
ـ ٦ ـ
ه ـ ثورة ابن الأشعث
وفي سنة ٨١ للهجرة ثار عبد الرحمن بن
محمد بن الأشعث على الحجّاج وخلع عبد الملك بن مروان.
وسبب هذه الثورة التي هزّت الحكم
الاُموي على حدّ تعبير ولهاوزن
هو الفتوح الاستعمارية التي أدرك الشعب أنّها ليست في مصلحته.
فقد أرسل الحجّاج عبد الرحمن إلى سجستان
على رأس جيش عراقي في الوقت الذي كان جيش الشام الذي قضى على حركة الخوارج لا يزال
مرابطاً في العراق
، وقد أبدى عبد الرحمن مهارة عسكرية فائقة ؛ ففتح قسماً من البلاد ، فكتب إلى الحجّاج يُعرّفه ذلك ، وأنّ
رأيه أن يتركوا التوغّل في بلاد رتبيل حتّى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها. فكتب
إليه الحجّاج يوبّخه على ذلك ، ويتّهمه بالعجز ، ويأمره بالتوغّل ، وكتب إليه بذلك
ثانياً وثالثاً.
وعرض عبد الرحمن على جنوده أمر الحجّاج
بعد أن بيّن لهم رأيه الذي استقر عليه بعد أن استشار قوّاده واُمراء جنده ، ثمّ
قال :
وإنّما أنا رجل منكم ؛ أمضي إذا مضيتم ،
وآبى إذا
__________________
أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا :
بل نأبى على عدوّ الله ، ولا نسمع له
ولا نطيع.
وقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني
، وله صحبة ، فقال :
أمّا بعد ، فإنّ الحجّاج يرى بكم ما رأى
القائل الأوّل : احمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك ، وإن نجا فلك ، إنّ الحجّاج
ما يبالي أن يُخاطر بكم فيُقحمكم بلاداً كثيرة ، ويغشي اللهوب واللصوب ؛ فإن غنمتم
وظفرتم أكل البلاد وحاز المال ، وكان ذلك زيادة في سلطانه ، وإن ظفر عدوّكم بكم
كنتم أنتم الأعداء البُغضاء الذين لا يُبالي عنتهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج
وبايعوا الأمير عبد الرحمن ، فإنّي اُشهدكم أنّي أوّل خالع. فنادى الناس من كلّ
جانب : فعلنا ، فعلنا ، قد خلعنا عدوّ الله.
وقال عبد المؤمن بن شبث بن ربعي :
«عباد الله ، إنّكم إن أطعتم الحجّاج
جعل هذه البلاد بلادكم ، وجمركم تجمير فرعون الجنود. ولن تعاينوا الأحبّة أو يموت
أكثركم فيما أرى ، فبايعوا أميركم ، وانصرفوا إلى عدوّكم الحجّاج فانفوه عن بلادكم».
فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على
خلع الحجّاج ونفيه من أرض العراق ، وقفلوا راجعين ، حتّى إذا بلغوا فارس خلعوا عبد
الملك على كتاب الله وسنّة نبيّه ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم ، وجهاد
المُحلّين.
فلمّا بلغ البصرة بايعه جميع أهلها
وقرّائها وكهولها ، مُستبصرين في قتال
الحجّاج ومَنْ معه
من أهل الشام وخلع عبد الملك. وسبب إسراع أهل البصرة إلى مساندة الثورة هو الظلم
والجوع ؛ فقد كتب عمّال الحجّاج إليه أنّ الخراج قد انكسر ، وأنّ أهل الذمّة قد
أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها : مَنْ كان له أصل في قرية فليخرج
إليها ، فخرج الناس فعسكروا ، فجعلوا يبكون وينادون : يا محمداه! يا محمداه!
وجعلوا لا يدرون أين يذهبون ، فجعل قرّاء أهل البصرة يخرجون إليهم مُتقنّعين
فيبكون لما يسمعون منهم ويرون ، فقدم ابن الأشعث على مجتمع معبّأ ينتظر قائداً ، فاستجاب
المجتمع هذه الاستجابة السريعة ، واستبصر قرّاء البصرة في قتال الحجّاج مع عبد
الرحمن بن الأشعث.
وقد استمرت هذه الثورة من سنة ٨١ هـ إلى
سنة ٨٣ هـ ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثمّ قضى عليها الحجّاج بجيوش سورية .
هذه هي ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ، وهي
ثورة قام بها العرب ولم يقم بها الموالي. قام بها العرب العراقيون الذين ساءت
حالتهم الاقتصادية إلى حدّ مروّع ، والذين استُخدموا في الفتوح الاستعمارية دون أن
يحصلوا على غنائمها ، والذين كان عليهم أن يُحاربوا مقابل جرايات ضئيلة لا تكفي ، بينما
يفوز بالمغانم والأعطيات الكثيرة الجنود السوريون الذين تركهم الحجّاج في العراق ؛
ليستعين بهم على قمع الثورات التي يقوم بها العراقيون .
__________________
ـ ٧ ـ
و ـ ثورة زيد بن علي بن الحسين
عليهمالسلام
وفي سنة ١٢١ هـ تهيّأ زيد بن علي بن
الحسين عليهمالسلام
للثورة في
الكوفة ، وثار في سنة ١٢٢ هـ. وخُنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الاُموي الذي كان
مُرابطاً في العراق.
وكانت شعارات الثائرين مع زيد «يا أهل
كوفة ، اخرجوا من الذل إلي العز ، وإلي الدين والدنيا» .
ويبدو أنّ الدعوة إلى الثورة لقيت
استجابة واسعة من الجماهير المسلمة في أقطار كثيرة من بلاد الإسلام ؛ فقد بويع زيد
على الثورة في الكوفة والبصرة ، وواسط والموصل ، وخراسان والرّي وجرجان. ولقد كان
حريّاً بثورته أن تنجح لولا اختلال التوقيت ؛ فقد حدث ما دفع زيداً إلى إعلان
الثورة قبل الموعد الذي بينه وبين أهل الأمصار .
وقد تكوّن بفضل هذه الثورة جهاز ثوري
دائم على استعداد للمساهمة في كلّ عمل ثوري ضدّ السلطة ، وهو طائفة الزيدية الذين
يرون أنّ الإمام المُفترض الطاعة هو كلّ قائم بالسيف ذوداً عن الدين ضدّ الظالمين.
قال ولهاوزن :
«ولئن كان عُصيان زيد قد انتهى انتهاء
مُفجعاً فإنّه
__________________
مُهمّ ؛ ذلك أنّ ثورات الشعب التي حدثت
بعده والتي أدّت إلى انهيار دولة دمشق انهياراً نهائياً كانت ذات علاقة بها ، وسرعان
ما ظهر أبو مسلم بعد وفاة يحيى آخذاً بثأره ، قاتلاً قتلته» .
وهذا يبرز بوضوح عظيم تأثير ثورة الحسين
عليهالسلام
في تغذية الرّوح الثورية ومدّها بالعطاء ، فما ثورة زيد إلاّ قبس من ثورة جدّه في
كربلاء.
__________________
ـ ٨ ـ
ز ـ ثورة أبي السرايا
هذه نماذج للرّوح الثورية التي بثّتها
ثورة الحسين عليهالسلام
في الشعب المسلم ، فقضت بذلك على روح التواكل والخنوع والتسليم للحاكمين ، وجعلت
من الشعب المسلم قوّة معبّأة وعلى أهبة الانفجار دائماً.
ولقد استمرت طيلة الحكم الاُموي ضدّ هذا
الحكم حتّى قضت عليه بثورة العباسيّين ، هذه الثورة التي لم تكن لتنجح لو لم تعتمد
على إيحاءات ثورة كربلاء ، وعلى منزلة الثائرين في كربلاء في نفوس المسلمين.
ولم تُبدّل هذه الثورة كثيراً من واقع
الشعب المسلم ، بل لعلّنا لا نعدوا الحقّ إذا قلنا أنّها لم تُبدل شيئاً سوى وجوه
الحاكمين. ولكن هذا لم يخمد الرّغبة في الثورة بقدر ما كان حافزاً عليها ، فاستمرت
الثورات على حالتها ومضى العباسيّون وجاءت دول بعدهم ، ولم تخمد الثورات بل بقيت
ناشبة أبداً ، يقوم بها الإنسان المسلم دائماً ، فيُعبّر بها عن إنسانيته التي
خنقها الحاكمون وزيّفوها.
ولقد كانت هذه الثورات كما رأينا صادرة
عن وعي للواقع ، وإحساس بانحطاطه وقسوته ، واحتجاج عليه ومحاولة لتطويره.
حدث هذا في ظلّ الحكم الاُموي وقد رأيت
بعض نماذجه ، وحدث في ظلّ الحكم العباسي أيضاً.
ونضرب مثلاً بثورة أبي السرايا مع محمد
بن إبراهيم بن طباطبا العلوي
الحسني على المأمون.
كان محمد بن إبراهيم هذا يمشي في بعض
طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء
عليها رثّ ، فسألها عمّا تصنع بذلك ، فقالت : إنّي امرأة لا رجل لي يقوم بمُؤنتي ،
ولي بنات لا يعدنَ على أنفسهنَّ بشيء ، فأنا أتتبع هذا من الطريق وأتقوّته أنا
وولدي.
فبكى بكاءً شديداً ، وقال :
«أنتِ وأشباهك تُخرجوني غداً حتّى يُسفك
دمي. ونفذت بصيرته في الخروج» .
فلمّا أعلن أمره خطب الناس ودعاهم إلى
البيعة ، وإلى الرضا من آل محمد ، والدعاء إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم الكتاب ، فبايعه جميع الناس حتّى تكابسوا
وازدحموا عليه .
ومات إبراهيم بن محمد بعد نشوب الثورة
بقليل فلم تخمد ، وإنّما قام عليها من بعده علي بن عبيد الله العلوي .
وشملت الثورة العراق والشام ، والجزيرة
واليمن .
ونقرأ عن هذه الثورة فنعجب بأخلاق
الثائرين الجياع ، وبضبطهم لأنفسهم ؛ لقد أمسك هؤلاء الثائرون عن النهب والسلب بعد
أن هزموا عدوّهم واستولوا على حصنه بمجرد أن أمرهم قائدهم بأن يُمسكوا .
__________________
وأقبل أهل بغداد ـ جنود السلطة ـ يصيحون
:
«يا أهل الكوفة ، زينوا نساءكم وأخواتكم
وبناتكم للفجور ، والله لنفعلنّ [بهن] كذا وكذا. ولا يُكنون. والثائرون يذكرون
الله ويقرؤون القرآن ، وقائدهم يقول لهم : اذكروا الله وتوبوا إليه ، واستغفروه
واستعينوه. صحّحوا نيّاتكم وأخلصوا الله ضمائركم ، واستنصروه على عدوّكم ، وابرؤوا
إليه من حولكم وقوّتكم» .
__________________
ـ ٩ ـ
وقد يقول قائل إنّ الرّوح النضالية التي
بعثتها ثورة الحسين عليهالسلام
في الشعب المسلم لم تطوّر واقع هذا الشعب بواسطة الثورات التي أشعلتها. لقد كانت
الثورات تنشب دائماً ، ولكنّها تخفق دائماً ولا تسوق إلى الشعب إلاّ مزيداً من
الضحايا ومزيداً من الفقر والإرهاب.
وتقول : نعم ، إنّها لم تطوّر واقع هذا
الشعب تطويراً آنيّاً ، ولم تقدّم في الغالب أيّة نتائج ملموسة ، ولكنّها حفظت
للشعب إيمانه بنفسه وبشخصيته وبحقّه في الحياة والسيادة وهذا نصر عظيم.
إنّ أخطر ما يُبتلى به شعب هو أن يُقضى
على روح النضال فيه ، إنّه حينئذ يفقد شخصيته ويذوب في خضمّ الفاتحين كما قدّر
لشعوب كثيرة أن تضمحلّ وتذوب وتفقد كيانها ؛ لأنّها فقدت روح النضال ، ولأنّها
استسلمت وفقدت شخصيتها ومقوّمات وجودها المعنوي فأذابها الفاتحون. إنّ هذه الشعوب
التي لم يحفظ لنا التأريخ إلاّ أسماءها لم تأت من ضعفها العسكري أو الاقتصادي ، وإنّما
أُتيت من فلسفة الهزيمة والتواكل والخنوع التي وجدت سبيلها إلى النفوس بعد أن خبت
روح النضال في هذه النفوس.
ولو أنّها بقيت مؤمنة بشخصيتها
وثقافاتها ومقوّماتها ، ولو احتفظت بروح النضال حيّة في أعماقها لما استطاع الغزاة
إبادتها ، ولشقّت لنفسها طريقاً جديداً في التأريخ.
وهذا ما حقّقته ثورة الحسين عليهالسلام.
لقد أجّجت ثورة الحسين عليهالسلام تلك الرّوح التي
حاول الاُمويّون إخمادها ،
وبقيت مستترة تعبّر
عن نفسها دائماً في انفجارات ثورية عاصفة ضدّ الحاكمين مرّة هنا ومرّة هناك. وكانت
الثورات تفشل دائماً ولكنّها لم تخمد أبداً ؛ لأنّ الرّوح النضالية كانت باقية
تدفع الشعب المسلم إلى الثورة دائماً ، إلى التمرّد ، وإلى التعبير عن نفسه قائلاً
للطغاة : إنّي هنا.
حتى جاء العصر الحديث وتعدّدت وسائل
إخضاع الشعوب ، وحُكم الشعب المسلم بطغمة لا تستوحي مصالحه ، وإنّما تخدم مصالح
آخرين ، ومع ذلك لم يهدأ الشعب ولم يستكن ، ولم تفلح في إخضاعه وسائل القمع
الحديثة ، وإنّما بقي ثائراً معبّراً عن إنسانيته دائماً بالثورة ، بالدم المسفوح.
وهكذا أثبتت الاُمّة الإسلاميّة وجودها ولم يجرفها التاريخ ، وإنّما بقيت لتصنع
التاريخ.
هذا صنيع ثورة الحسين عليهالسلام. لقد كانت هذه
الثورة رأس الحرية في التطوّر. إنّ الأفكار والمشاعر والرّوح التي خلقتها هذه
الثورة ، والتي نمّتها وأثرتها الثورات التي جاءت بعدها ، والتي هي امتداد لها ، هي
التي صنعت تاريخ الكفاح الدامي من أجل التحرر لهذه البقعة من العالم.
ولا ندري تماماً ماذا كان سيحدث لو لم
يقم الحسين عليهالسلام
بثورته هذه.
غير إنّنا نستطيع أن نحدس ذلك الآن ؛
لقد كان يحدث أن يستمر الحكم الاُموي دائماً نفسه بالدجل الديني ، وبفلسفة التواكل
والخنوع والتسليم. وكان يحدث أن تستحكم هذه الفلسفة وهذا الجدل الديني في الشعب
فيطأطئ دائماً لحاكميه ، ويستكين الحاكمون لموقف الشعب منه فيلهون ، ويضعفون عن
القيام بأعباء الحكم وصيانة الدولة ، ويغرقون في اللهو والترف. وعاقبة ذلك هي
الانحلال ، انحلال الحاكمين والمحكومين ، وكان يحدث أن يكتسح البلاد الفاتحون ،
فلا يجدون مقاومة ولا نضالاً بل يجدون انحلالاً من الحاكمين والمحكومين ، ثم يجرف
التاريخ اُولئك وهؤلاء.
ولكن ما حدث غير ذلك ؛ لقد انحلّ
الحاكمون حقّاً ، ولقد اكتسحت الدولة حقّاً ، ولكنّ المحكومين لم ينحلّوا بل ظلّوا
صامدين.
وكان ذلك بفضل الرّوح التي بثّتها ثورة
الثائرين في كربلاء.
خاتمة
ما نريده ونلح على أنّه ضروري لنا في
مرحلتنا الثورية الراهنة هو ألسنة التاريخ ، هو جعله ذا صلة بحياة الإنسان ومطامحه
، هو إعداده ليندمج مع الكائن الإنساني في تركيب عضوي مُتفاعل مُتكامل وليس مجرّد
انعكاس خاوٍ لحياة إنسانيّة سابقة.
لقد دأب مدوّنو التأريخ العرب على
الاهتمام بالتأريخ الشخصي للملوك والقادة ؛ فسجّلوا بإسهاب عظيم حروبهم
وانتصاراتهم ، ومجالس مجونهم ولهوهم ، ولم يولوا الجانب الاجتماعي من الحياة
الإسلاميّة ـ وهو ما يتّصل بحياة الأمّة ـ اهتماماً وإن كان ضئيلاً.
ومن هنا أضحى التأريخ عندنا ـ بالنسبة
إلى الجماهير ـ مجرّد انعكاس لحيوات سابقة لا يُسهم في تكوين الشخصيّة الإنسانيّة.
إنّه قد يُسهم في إثارة الحماس الخلاّق تارة والغرور المدمر اُخرى ، ولكنّه لا
يُسهم أبداً في تكوين شخصيّة إنسانيّة سوية مُتكاملة ترتكز على أصول إنسانيّة
عريقة ، فلا تفقد محور الارتكاز حين تتعرّض لامتحان قاسٍ لا يجتازه إلاّ الإنسان
... الإنسان.
وإن حُقبتنا الحياتية الراهنة لتُحتم
علينا أن نتناول التاريخ تناولاً إنسانياً ،
تناولاً يُتيح له أن
يكون عاملاً مطوّراً فيما يتعلّق بموقفنا من الحياة والكون.
إنّ اُمّتنا الإسلاميّة تجتاز في هذه
الحقبة أدق وأخطر مرحلة من مراحل كفاحها الطويل عبر العصور.
لقد حقّقت انتصارات باهرة يجب أن تُحافظ
عليها ، وتعمل في الوقت نفسه لتحقيق انتصارات جديدة. وهنا تكمن الخطورة في هذه
المرحلة ؛ إنّها الآن حين تقنع بالانتصارات التي حقّقتها وتقعد عن محاولة تحقيق
غيرها تتعرّض لخطر فقد هذه الانتصارات نفسها ، ولذلك فيجب أن تحمي هذه الأمّة
نفسها من تطرق الوهن والاستسلام إليها. يجب ألا ترضى عن نفسها.
هذه واحدة.
واُخرى وهي أنّها إذا صمّمت على السير
ولم تهن ولم تنكل يخشى عليها أن تزيغ وتنحرف في تطوّرها إذا لم يكن عندها ... في
أعماقها محور ترتكز عليه وترجع إليه ، محور نابع من شخصيّتها التأريخيّة وذاتيتها
العقائديّة.
وما يُؤمنها من أنفسها ، وما يُؤمنها من
الزيغ والانحراف في تطوّرها هو أن تعي تأريخها بعد تطهيره ، وتأريخها هي ـ تأريخ
الاُمم ـ ليس تأريخ حروب حكّامها ، وانتصاراتهم ومجالس لهوهم ، وإنّما هو تأريخ
ثوراتها على هؤلاء الحكّام. إنّ ثورات الاُمم هي التي تمثّل روحها ونضالها
وإيمانها ، أمّا الحكّام الذين ثارت عليهم فليسوا منها ؛ لو كانوا منها لما ثارت
عليهم ، لو كانوا منها لأحسوا بعذابها ، ولما خلقوا بتصرّفاتهم مبرّرات ثوراتها.
إنّ تأريخ الثورات هو تأريخ الشعوب.
ولكي تبقى هذه الشعوب في يقظة دائمة
لئلاّ تخدع عن انتصاراتها ، ولكي
تبقى في وعي دائم
لعملها التطويري الذي تمارسه يجب أن تكون في ثورة دائمة على أعدائها في الخارج
والداخل لتحتفظ بانتصاراتها ، وثورة دائمة على نفسها تتناول نفسها بالنقد ، وتفحص
موقفها دائماً ؛ لئلاّ تنحرف وتزيغ. ولكي تبقى في ثورة دائمة تُصحح بها أوضاعها من
الداخل والخارج يجب أن تُلقن تاريخ نفسها تاريخ ثوراتها.
ففي هذا التأريخ تجد الأساس التأريخي
لشخصيتها العقائديّة والنضاليّة فتعصمها شخصيتها العقائديّة من الزيغ والانحراف ، وتعصمها
شخصيتها النضاليّة من الوهن والنكول.
ولقد أهمل المؤرّخون الأقدمون تأريخ
الثورات أو زيّفوه ؛ لأنّهم ـ بوحي من أنفسهم أو حكّامهم ـ كانوا يعتبرون هذه
الثورات حركات تمرّد وعصيان ضدّ السلطة الشرعية.
أمّا الآن ، فيجب أن يُصحح الوضع ، يجب
أن يُكتب التأريخ النضالي لأمّتنا كتابة صحيحة ، يجب أن يكشف عن العذاب والاضطهاد
والجوع الذي كان يدفع الناس إلى الثورة ، إلى الموت احتجاجاً على واقعهم. يجب أن
يكشف عن الشخصيّة التأريخيّة لهذه الأمّة ، ومحور ارتكازها العقائدي والنضالي غير
التاريخ. يجب أن يكشف عن مناقبيّة الثائرين التي كانت تعصمهم دائماً من أن ينقلبوا
إلى لصوص ، أو سفّاحي دماء لا هدف لهم ولا يشعرون بمسؤوليتهم.
وتأريخ أمّتنا النضالي تأريخ مضيء ؛
فالثورات التي قامت بها أمّتنا عبر العصور كانت دائماً تعبّر تعبيراً تلقائياً
حرّاً عن هذه الأمّة وعن إنسانيتها ، وعن رغبتها الحارّة في أن تعيش متمتّعة بكافة
حقوقها الإنسانيّة.
وتأتي ثورة الحسين عليهالسلام في كربلاء على رأس
هذا التأريخ.
فهي رأس الحربة في التأريخ الثوري ، هي
الثورة الأولى التي عبّأت الناس ودفعت بهم في الطريق الدامي الطويل ، طريق النضال
، بعد أن
كادوا أن يفقدوا
روحهم النضاليّة بفعل سياسة الاُمويِّين.
وهي أغنى ثورة بالعزم والتصميم على
المضي في النضال الدامي إلى نهايته أو النصر ؛ فقد عُرضت على الثائرين أمتع حياة ،
ولكنّهم أبوا هذه الحياة التي ٥ / ١٩ سيسكتون معها عن الظلم والعسف وإرهاب الأمّة.
وهي ثورة امتحن أبطالها بأقسى ما امتحن
به الثائرون على مدى التاريخ. فلم يهنوا ولم ينكلوا بل ثبتوا ـ رغم كلّ شيء ـ
ثائرين إلى اللحظة التي توّجوا فيها عملهم العظيم بسقوطهم صرعى في سبيل مبدئهم
الحقّ.
وهي أنبل ثورة قام بها جماعة من الناس ؛
فإنّ الثائرين لم يستهدفوا من ثورتهم مغنماً شخصياً لأنفسهم ، وإنّما استهدفوا من
ثورتهم تحرير مجتمعهم من الطغاة الذين كانوا يسومونه العذاب ويجرّعونه الصّاب.
ومن هنا تأتي أهيمتها التأريخيّة
والتطويرية.
من أنّها النموذج المحتذى ، النموذج
الذي جاء كاملاً والذي يجب أن يُستوحى.
وحيث كانت بهذه المثابة وجب أن تنال
عناية خاصّة من القيّمين على شأن الكلمة عندنا ، فعلى هؤلاء ـ وهم القوّة المطوّرة
والقائدة في الأمّة ـ أن يهتمّوا اهتماماً جدّياً بهذه الثورة بشرح الدور الذي
أسهمت به تغذية روح النضال وإلهابها ، وبالكشف عن أخلاقيتها التي بشّرت بها ، وبإحلالها
في محلّها اللائق بها تأريخنا الثوري.
وإنّ أدوات الأداء الحديثة لتتيح
إمكانيات لا حدّ لها لاستخدام تأريخنا الثوري في تطوير مجتمعنا ، وفي إبراز شخصيته
التأريخيّة لعينيه ؛ ليعمل على تركيز نضاله الحديث على الأسس التأريخيّة
العقائديّة لحركته النضاليّة الكبرى عبر العصور.
الفهرس
مقدمة الناشر................................................................. ٥
مقدمة الطبعة الرابعة........................................................... ٧
المقدمة..................................................................... ١٣
ملامح
من ثورة الحسين (ع).................................................. ١٧
الفصل الأول الظروف
السياسة والاجتماعية ٢٥ ـ ١٠٦
تمهيد....................................................................... ٢٩
أ ـ منطق السقيفة........................................................ ٣١
ب ـ مبدأ عمر في العطاء................................................. ٣٣
ج ـ الشوري........................................................... ٣٥
سياسة
عثمان المالية والادارية................................................. ٣٩
موقف
عثمان من معارضيه................................................... ٤٤
نتائج
سياسة عثمان.......................................................... ٤٧
موقف
الامام (ع) من الحكم بعد عثمان....................................... ٥٠
إصلاحات
الامام وموقف المستغلين منها........................................ ٥٢
سياسة
معاوية : الارهاب والتجويع............................................ ٦٠
سياسة
معاوية : إحياء النزعة القبلية والعنصرية.................................. ٧٢
سياسة
معاوية : التخدير الديني................................................ ٨٧
آثار
سياسة معاوية في المجتمع الاسلامي......................................... ٩٩
موقف
الحسن والحسين (ع) من السياسة الأموية.............................. ١٠٣
الفصل الثاني دوافع الثورة وأسبابها ١٠٧ ـ ١٥٠
لماذا
لم يثر الحسين في عهد معاوية؟........................................... ١٠٩
أ
ـ الوضع النفسي والاجتماعي للمجتمع في عهد معاوية ، ويشتمل هذا البحث علي تحليل لموقف
الحسن (ع) من معاوية ١١٢
ب
ـ شخصية معاوية...................................................... ١٢٢
ج
ـ العهد والميثاق بين الحسن (ع) ومعاوية.................................. ١٢٧
شخصية
يزيد............................................................. ١٣١
موقف
الحسين (ع) من يزيد في حياة معاوية.................................. ١٣٣
موقف
الحسين من البيعة ليزيد............................................... ١٣٤
بواعث
الثورة عند الحسين.................................................. ١٣٩
بواعث
الثورة لدي الرأي العام.............................................. ١٤٥
بواعث
الثورة الدي الثائرين................................................. ١٤٨
الفصل الثالث آثار الثورة في الحياة الإسلامية ١٥١ ـ ٢٢٢
تمهيد
: ميزان النجاح والفشل في ثورة الحسين
١
ـ آثار الثورة : تحطيم الاطار الديني....................................... ١٥٣
٢
ـ آثار الثورة : الشعور بالاثم............................................ ١٦١
٣
ـ آثار الثورة : الاخلاق الجديدة......................................... ١٧٤
٤
ـ آثار الثورة : انبعاث الروح النضالية.................................... ١٩٥
أ
ـ ثورة التوابين.......................................................... ١٩٩
ب
ـ ثورة المدينة.......................................................... ٢٠٤
ج
ـ ثورة المختار الثقفي................................................... ٢٠٧
د
ـ ثورة مطرف بن المغيرة................................................. ٢١٠
هـ
ـ ثورة ابن الأشعث................................................... ٢١٢
و
ـ ثورة زيد بن علي بن الحسين........................................... ٢١٥
ز
ـ ثورة أبي السرايا...................................................... ٢١٧
ماذا
أفادت الأمة من انبعاث الروح النضالية................................... ٢٢٠
خاتمة..................................................................... ٢٢٣
|