فهرس إجمالي

كلمة المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام........................................... ٧

الباب الأول :

الفصل الأول : الإمام الحسين عليه‌السلام في سطور.............................. ١٧

الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيته عليه‌السلام............................... ٢٥

الفصل الثالث : مظاهر من شخصيته عليه‌السلام................................. ٣٧

الباب الثاني :

الفصل الأول : نشأة الإمام الحسين عليه‌السلام.................................. ٥١

الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الحسين عليه‌السلام............................ ٥٧

الفصل الثالث : الإمام الحسين عليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة.................. ٥٩

الباب الثالث :

الفصل الأول : عصر الإمام الحسين عليه‌السلام.................................. ٩١

الفصل الثاني : مواقف وإنجازات الإمام عليه‌السلام............................. ١١١

الفصل الثالث : نتائج الثورة الحسينيّة.................................... ٢٠٧

الفصل الرابع : من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام............................ ٢١٣



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، ثمّ الصلاة والسّلام على مَنْ اختارهم هداةً لعباده ، لاسيّما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى آله الميامين النجباء.

لقد خلق الله الإنسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة ، فبالعقل يبصر ، ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل ، وبالإرادة يختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه.

وقد جعل الله العقل المميِّز حجّةً له على خلقه ، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ؛ فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم ، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به ، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها ، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها.

وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها ، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة ، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهةٍ اُخرى.

قال تعالى :


(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) (الأنعام (٦) : ٧١).

(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة (٢) : ٢١٣).

(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب (٣٣) : ٤).

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران (٣) : ١٠١).

(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس (١٠) : ٣٥).

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ (٣٤) : ٦).

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (القصص (٢٨) : ٥٠).

فالله تعالى هو مصدر الهداية ، وهدايته هي الهداية الحقيقية ، وهو الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الصّراط المستقيم وإلى الحقّ القويم. وهذه الحقائق يؤيّدها العلم ، ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم.

ولقد أودع الله في فطرة الإنسان النزوع إلى الكمال والجمال ، ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به ، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال ، ومن هنا قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (القصص (٥١) : ٥٦). وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة ؛ إذ كانت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال.

وبعد أن زوّد الله الإنسان بطاقتي الغضب والشهوة ؛ ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال ، لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة والهوى الناشئ منها والملازم لها ؛ فمن هنا احتاج الإنسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر


أدوات المعرفة ـ إلى ما يضمن له سلامة البصيرة والرؤية ؛ كي تتمّ عليه الحجّة ، وتكمل نعمة الهداية ، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة ، أو طريق الشرّ والشّقاء بملء إرادته.

ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الإنسان عن طريق الوحي الإلهي ، ومن خلال الهُداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد ، وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة ، وإعطاء الإرشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة.

وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون ، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجّة هادية ، وعلم مرشد ونور مُضيء ، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه ؛ لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.

فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ، ولو لم يبقَ في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة. و [قد] صرّح القرآن بشكل لا يقبل الريب قائلاً : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد (١٣) : ٧).

ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها ، والتي تتلخّص في :

١ ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل ، واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة.

وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة ؛ ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه ، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الانعام (٦) : ١٢٤) و (اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آل عمران (٣) : ١٧٩).


٢ ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى البشرية ولمَنْ اُرسلوا إليه ، ويتوّقف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في «الاستيعاب والإحاطة اللازمة» بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها ، و «العصمة» عن الخطأ والانحراف معاً ، قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة (٢) : ٢١٣).

٣ ـ تكوين اُمّة مؤمنة بالرسالة الإلهية ، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة.

وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم ، قال تعالى : (يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة (٦٢) : ٢) والتزكية هي التربية باتّجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب (٣٣) : ٢١).

٤ ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها. وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية والتي تُسمّى العصمة.

٥ ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية ، وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية ، وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية ، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الاُمّة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية ، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً ، وشجاعةً فائقةً ، وصموداً كبيراً ، ومعرفةً تامّةً بالنفوس وبطبقات المجتمع ، والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية ، وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة ، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية ، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة


الدينية من كلّ سلوك منحرف ، أو عمل خاطئ بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الاُمّة لها ، بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها.

وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي ، واقتحموا سبيل التربية الشّاق ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهام الرسالية كلّ صعب ، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني من أجل مبدئه وعقيدته ، ولم يتراجعوا لحظة ، ولم يتلكأوا طرفة عين.

وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها ، طالباً منه تحقيق أهدافها.

وقد خطا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة ، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية ، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي :

١ ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء.

٢ ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف.

٣ ـ تكوين اُمّة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً ، وبالرسول قائداً ، وبالشريعة قانوناً للحياة.

٤ ـ تأسيس دولة إسلاميّة ، وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ، ويطبّق شريعة السّماء.

٥ ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته صلى‌الله‌عليه‌وآله.


ولتحقيق أهداف الرّسالة بشكل كامل كان من الضّروري :

أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدّوائر.

ب ـ أن تستمرّ عملية التّربية الصّحيحة باستمرار الأجيال على يد مربٍّ كفوء ؛ علميّاً ونفسيّاً ، حيث يكون قدوة حسنة في الخلق والسّلوك ، كالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يستوعب الرّسالة ويجسّدها في كلّ حركاته وسكناته.

ومن هنا كان التّخطيط الإلهيّ يحتّم على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إعداد الصّفوة من أهل بيته ، والتّصريح بأسمائهم وأدوارهم ؛ لتسلّم مقاليد الحركة النّبويّة العظيمة ، والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه ، وصيانة للرّسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجّاهلين وكيد الخائنين ، وتربية الأجيال على قيم ومفاهيم الشّريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها ، وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور ، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

وتجلّى هذا التّخطيط الربّاني في ما نصّ عليه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا ؛ كتاب الله وعترتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

وكان أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) خير مَنْ عرّفهم النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى لقيادة الاُمّة من بعده.

إنّ سيرة الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهم‌السلام تُمثّل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الإسلام الأصيل الذي أخذ يشقّ طريقه إلى أعماق الاُمّة بعد أن أخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ،


فأخذ الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام يعملون على توعية الاُمّة وتحريك طاقتها باتّجاه إيجاد وتصعيد الوعي الرساليِّ للشّريعة ولحركة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السّنن الكونية التي تتحكّم في سلوك القيادة والاُمّة جمعاء.

وتبلورت حياة الأئمّة الرّاشدين في استمرارهم على نهج الرّسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانفتاح الاُمّة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ، ومصابيح لإنارة الدّرب للسّالكين المؤمنين بقيادتهم ، فكانوا هم الأدلاّء على الله وعلى مرضاته ، والمستقرّين في أمر الله ، والتامّين في محبّته ، والذّائبين في الشّوق إليه ، والسّابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود.

وقد حفلت حياتهم بأنواع الجّهاد والصبر على طاعة الله وتحمّل جفاء أهل الجفاء حتّى ضربوا أعلا أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى ، ثمّ اختاروا الشّهادة مع العزّ على الحياة مع الذّل فيها حتّى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.

ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا حياتهم العطرة ، ويدّعوا دراستها بشكل كامل ؛ ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من حياتهم ، ولقطات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون ، واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق ، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق.

إنّ دراستنا لحركة أهل البيت عليهم‌السلام الرّسالية تبدأ برسول الإسلام وخاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنتهي بخاتم الأوصياء ، محمّد بن الحسن العسكري المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وأنار الأرض بعدله.


ويختصّ هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ، وهو المعصوم الخامس من أعلام الهداية والثالث من الأئمّة الاثني عشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي روّى بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الأبرار شجرة الإسلام العظيمة ، وصانها من الذّبول والانهيار ، فكان ـ كما أخبر عنه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مصباح الهدى وسفينة النجاة لأمّة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طوفان الطّغاة والظّالمين.

ولا بدَّ لنا من تقديم الشّكر إلى كلّ الإخوة الأعزّاء الذين بذلوا جهداً وافراً وشاركوا في إنجاز هذا المشروع المبارك وإخراجه إلى عالم النّور ، لاسيّما أعضاء لجنة التأليف بإشراف سماحة السيّد منذر الحكيم (حفظه الله تعالى).

ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والشّكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة ، فإنّه حسبنا ونعم النصير.

المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام

قم المقدسة


الباب الأول

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

الإمام الحسين عليه‌السلام في سطور

الفصل الثاني :

انطباعات عن شخصيته عليه‌السلام

الفصل الثالث :

مظاهر من شخصيته عليه‌السلام



الفصل الأول

الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام في سطور

* ـ الإمام أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام الشهيد بكربلاء ، ثالث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيّد شباب أهل الجّنة بإجماع المحدّثين ، وأحد اثنين نسلت منهما ذرية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد الأربعة الّذين باهل بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصارى نجران ، ومن أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، ومن القربى الذين أمر الله بمودّتهم ، وأحد الثقلين اللّذين مَنْ تمسّك بهما نجا ، ومَنْ تخلّف عنهما ضلّ وغوى.

* ـ نشأ الحسين مع أخيه الحسن عليهما‌السلام في أحضانٍ طاهرةٍ ، وحجورٍ طيّبةٍ ومباركةٍ ؛ اُمّاً وأباً وجدّاً ، فتغذّى من صافي معين جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وعظيم خلقه ووابل عطفه ، وحظي بوافر حنانه ورعايته حتّى أنّه ورّثه أدبه وهديه ، وسؤدده وشجاعته ؛ ممّا أهّله للإمامة الكبرى التي كانت تنتظره بعد إمامة أبيه المرتضى وأخيه المجتبى عليهم‌السلام ، وقد صرّح بإمامته للمسلمين في أكثر من موقف بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» ، «اللّهمّ إنّي اُحبّهما فأحبّ مَنْ يُحبّهما».

* ـ لقد التقى في هذا الإمام العظيم رافدا النبوّة والإمامة ، واجتمع فيه


شرف الحسب والنّسب ، ووجد المسلمون فيه ما وجدوه في جدّه وأبيه واُمّه من طهر وصفاء ونبل وعطاء ، فكانت شخصيّته تذكّر النّاس بهم جميعاً ؛ فأحبّوه وعظّموه، وكان إلى جانب ذلك كلّه مرجعهم الأوحد بعد أبيه وأخيه فيما كان يعترضهم من مشاكل الحياة واُمور الدين ، لاسيّما بعد أن دخلت الاُمّة الإسلاميّة حياة حافلة بالمصاعب نتيجة سيطرة الحكم الاُموي الجاهلي حتّى جعلتهم في مأزق جديد لم يجدوا له نظيراً من قبل ؛ فكان الحسين عليه‌السلام هو الشّخصية الإسلاميّة الرّسالية الوحيدة التي استطاعت أن تخلّص اُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة والإنسانية عامّة من براثن هذه الجاهلية الجديدة وأدرانها.

* ـ لقد كان الحسين بن عليّ عليهما‌السلام كأبيه المرتضى وأخيه المجتبى في جميع مراحل حياته ومواقفه العملية مثالاً للإنسان الرّسالي الكامل ، وتجسيداً حيّاً للخلق النبويّ الرفيع في الصبر على الأذى في ذات اللّه ، والسّماحة والجّود ، والرّحمة والشّجاعة ، وإباء الضّيم والعرفان ، والتعبّد والخشية لله ، والتواضع للحقّ والثورة على الباطل ، ورمزاً شامخاً للبطولة والجّهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واُسوة مثلى للإيثار والتّضحية لإحياء المُثل العُليا التي اجتمعت في شريعة جدّه سيّد المرسلين ، حتّى قال عنه جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حسين منّي وأنا من حسين». معبّراً بذلك أبلغ التعبير عن سموّ هذه الشخصية العظيمة التي ولدها صلى‌الله‌عليه‌وآله وربّاها بيديه الكريمتين.

* ـ بقي الحسين بن علىّ عليهما‌السلام بعد جدّه في رعاية الصدّيقة الزهراء سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام ، وفي كنف أبيه المرتضى سيّد الوصيّين وإمام المسلمين الذي عاش محنة الانحراف في قيادة الاُمّة المسلمة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حفّت بأبيه واُمّه نكبات هذه المحنة والصّراع مع الذين صادروا هذه الإمامة الكبرى بكلّ صلف ودون حجّة أو برهان ... لقد عاش الحسين


مع أخيه الحسن وأبيه عليّ واُمّه الزهراء عليهم‌السلام هذه المحنة وتجرّع مرارتها ، وهو لا يزال في سنّ الطفولة ، ولكنّه كان يعي جيّداً عمق المحنة وشدّة المصيبة.

* ـ شبَّ الإمام أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام أيّام خلافة عمر ، وانصرف مع أبيه وأخيه عن السّياسة والتّصدي للحكم في ظاهر الأمر ، وأقبل على تثقيف النّاس وتعليمهم معالم دينهم في خطّ الرّسالة الصحيح ، والذي كان يتمثّل في سلوك والده عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ومواقفه المبدئية المشرّفة.

* ـ وقف الإمام الحسين عليه‌السلام إلى جانب أبيه عليه‌السلام في عهد عثمان ، وهو في عنفوان شبابه يعمل مخلصاً لأجل الإسلام ، ويشترك مع أبيه في وضع حدّ للفساد الذي أخذ يستشري في جسم الاُمّة والدولة معاً في ظلّ حكم عثمان وبطانته ، ولم يتعدّ مواقف أبيه عليه‌السلام طيلة هذه الفترة ، بل عمل كجندي مخلص للقيادة الشّرعية التي أناطها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبيه المرتضى عليه‌السلام.

* ـ وفي عهد الدولة العلوية المباركة وقف الحسين إلى جانب أبيه عليهما‌السلام في جميع مواقفه وحروبه ، ولم يتوانَ عن قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، بينما كان أبوه حريصاً على حياته وحياة أخيه الحسن عليه‌السلام ؛ خشية انقطاع نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بموتهما ، وبقيا إلى جانب أبيهما حتّى آخر لحظة ، وهما يعانيان من أهل العراق ما كان يعانيه أبوهما المرتضى عليه‌السلام حتّى استشهد في بيت من بيوت الله ، وفاز بالشّهادة وهو في محراب العبادة بمسجد الكوفة ، وفي أقدس لحظات حياته ، أعني لحظة العبادة والتوجّه إلى ربّ الكعبة ، حيث خرّ صريعاً وهو يقول : «فزتُ وربِّ الكعبة».

* ـ ثمّ وقف إلى جانب أخيه الحسن المجتبى عليهما‌السلام بعد أن بايعه بالخلافة ، كما بايعه عامّة المسلمين في الكوفة من المهاجرين والأنصار


والتّابعين لهم بإحسان، ولم يتعدّ مواقف أخيه الّذي نصّ على إمامته كلّ من جدّه وأبيه عليهما‌السلام بالرغم من كلّ المغريات التي كان يستعملها معاوية لإسقاط الإمام الحسن عليه‌السلام ، وتفتيت قواه والقضاء على حكومته المشروعة.

* ـ لقد كان الحسين عليه‌السلام يعي مواقف أخيه الحسن عليه‌السلام بشكل تامّ والنتائج المترتّبة على تلك المواقف ؛ لأنّه كان يدرك حراجة الظرف الذي كان يكتنف الاُمّة الإسلاميّة آنذاك وبعد استشهاد الإمام علي عليه‌السلام بشكل خاص ، حيث انطلت ألاعيب معاوية وشعاراته الزائفة على جماعة كبيرة من السذّج والبسطاء ، ممّن كانوا يشكّلون القاعدة العظمى في مجتمع الكوفة ومركز الخلافة الإسلاميّة ، فأصبحوا يشكّون ويشكّكون في حقّانية خطّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد ذلك التضليل الإعلامي الذي قام به معاوية وبطانته وعمّاله في صفوف الجيش المساند للإمام عليه‌السلام، ولم يستطع الإمام الحسن عليه‌السلام بكلّ ما اُوتي من حنكة سياسية وشجاعة أدبية ورصانة منطقية أن يقنع تلك القاعدة الشّعبية ، ويوقفها على زيف الشّعارات الاُموية في عدم صحّة الخضوع لشعار السّلم الذي كان قد تسلّح به معاوية لنيل الخلافة بأبخس الأثمان ؛ ممّا اضطرّ الإمام الحسن عليه‌السلام للإقدام على الصلح من موقع القوّة بعد أن نفَّذَ جميع الخطط السّياسية الممكنة ، وبعد أن سلك جميع الطرق المعقولة التي ينبغي للقائد المحنّك أن يسلكها في تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية التي كان يعيشها الإمام الحسن عليه‌السلام وشيعته ؛ فتنازل عن الخلافة ، إلاّ إنّه لم يوقّع على شرعيّة حاكميّة معاوية ، بالإضافة إلى أنّه قد اشترط شروطاً موضوعيةً تفضح واقع معاوية والحكم الاُموي على المدى القريب أو البعيد.

* ـ وهكذا أفلح الإمام الحسن عليه‌السلام بعد أن اختار الطريق الصعب ، وتحمّل ما تحمّل من الأذى والمكروه من أقرب أفراد شيعته فضلاً عن


أعدائه ، حيث استطاع أن يكشف حقيقة الحكم الاُموي الجّاهلي الذي ارتدى لباس الإسلام ورفع شعار الصّلح والسّلم ؛ ليقضي على الإسلام باسم الإسلام وبمَنْ ينتسب إلى قريش قبيلة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد أن خطّط بشكل حاذق خطّةً يتناسى المسلمون بسببها أنّ آل أبي سفيان الذين يتربّعون اليوم على كرسي الحكم الإسلامي ، ويحكمون المسلمين باسم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلافته ، هم الذين حاربوا الإسلام بالأمس القريب.

* ـ وبهذا هيّأ الإمام الحسن عليه‌السلام ـ بتوقيعه على وثيقة الصّلح ـ الأرضية اللازمة للثورة على الحكم الاُمويّ الجاهليّ الذي ظهر بمظهر الإسلام من جديد ، وذلك بعد أن أخلف معاوية كلّ الشّروط التي اشترطها عليه الإمام الحسن عليه‌السلام بما فيها عدم تعيين أحد للخلافة من بعده ، وعدم التعرّض لشيعة عليّ وللإمام الحسن والحسين عليهما‌السلام بمكروه.

ولم يستطع معاوية أن يتمالك نفسه أمام هذه الشّروط حتّى سوّلت له نفسه أن يدسّ السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن عليه‌السلام ؛ ليستطيع توريث الخلافة لابنه الفاسق يزيد ، ولكنّه لم يعِ نتائج هذا التنكّر للشروط ولنتائج هذه المؤامرة القذرة ... وقد أيقن المسلمون ـ بعد مرور عقدين من الحكم الاُموي ـ بشراسة هذا الحكم وجاهليّته ؛ ممّا جعل القواعد الشعبية الشيعية تستعدّ لخوض معركة جديدة ضدّ النظام الحاكم ، وبذلك تهيّأت الظروف الملائمة للثورة ، واكتملت الشّروط اللازمة بموت معاوية ومجيء يزيد الفاسق ، شارب الخمور ، والمستهتر بأحكام الدين إلى سدّة الحكم ، والإقدام على أخذ البيعة من وجوه الصّحابة وعامّة التّابعين ، والإصرار على أخذها من مثل أبيّ الضّيم أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام سيّد أهل الإباء وإمام المسلمين.

* ـ لقد حكم معاوية بن أبي سفيان ما يُقارب عشرين سنة ، متّبعاً سياسة


التّجويع والإرهاب ، والخداع والتّزوير ؛ ممّا أدّى إلى انكشاف حقيقته للاُمّة من جهة ، في حين أنّها كانت قد ابتليت بداء موت الضّمير ، وداء فقدان الإرادة من جهة اُخرى ، وهكذا استيقظت الاُمّة من سُباتها ، وزال شكّها بحقّانية خطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، بعد أن ارتفع جهلها بحقيقة الاُمويّين ، ولكنّها لم تقوَ على مقارعة الظّلم والظّالمين ، وأصبحت كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه‌السلام حين كان متوجّهاً إلى العراق ومستجيباً لدعوة الكوفيين : قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

ومن هنا تأكّد الموقف الشّرعي للإمام الحسين عليه‌السلام بعد أن توفّرت كلّ الظّروف اللازمة للقيام في وجه الاُمويّين الجّاهليّين ، بينما لم تكن النّهضة مفيدة للاُمّة في حالة الابتلاء بمرض الشكّ والترديد التي كانت تعاني منه في عصر الإمام الحسن السّبط عليه‌السلام. لقد تمّت الحجّة على الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام حينما راسله أهل العراق ، وطلبوا منه التّوجّه نحوهم ، بعد أن أخرجوا عامل بني اُمية من الكوفة وتمرّدوا على الاُمويّين ، حيث كان هذا أحد مظاهر رجوع الوعي إلى عامّة شيعة أهل البيت عليهم‌السلام.

فاستجاب الإمام الحسين عليه‌السلام لطلبهم ، وتحرّك نحوهم بالرغم من علمه بعدم ثباتهم ، وضعف إرادتهم أمام إغراءات الحاكمين واضطهادهم وإرهابهم ؛ وذلك لأنّه كان لا بدّ له من معالجة هذا المرض الجديد الّذي يؤدّي باستشرائه إلى ضياع معالم الرسالة ، وفسح المجال لتحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة ، وإعطاء المشروعية لمثل حكم يزيد وأضرابه من الجّاهليّين الذين تستّروا بستار الشّريعة الإسلاميّة لضرب الشّريعة وتمزيقها.

* ـ وبعد أن استجمعت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام كلّ الشّروط اللازمة


لنجاحها وبلوغ أهدافها (١)؛ نهض مستنفراً كلّ طاقاته وقدراته التي كان قد أعدّها وهيّأها في ذلك الظرف التأريخي في صنع ملحمته الخالدة ، فحرّك ضمير الاُمّة ، وأعادها لتسلك مسيرة رسالتها ، وبعث شخصيّتها العقائدية من جديد ، وسلب المشروعية من الحكّام الطّغاة ، ومزّق كلّ الأقنعة الخدّاعة التي كانوا قد تستّروا بها ، وأوضح الموقف الشّرعي للاُمّة على مدى الأجيال.

ولم يستطع الطّغاة أن يشوّهوا معالم نهضته ، كما لم يستطيعوا أن يقفوا بوجه المدّ الثوري الذي أحدثه على مدى العصور ، ذلك المدّ الذي أطاح بحكم بني اُميّة وبني العباس ومَنْ حذا حذوهم ، فكانت ثورته مصدر إشعاع رسالي لكلّ الاُمم ، كما كانت القيم الرساليّة التي طرحها وأكّد عليها محفّزاً ومعياراً لتقييم كلّ الحكومات والأنظمة السّياسية الحاكمة ، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

* * *

__________________

(١) راجع الشّروط الضّرورية الخمسة للنجاح ، والتي توفّرت في ثورة الحسين عليه‌السلام في كتاب (ثورة الحسين. النظرية ـ الموقف ـ النتائج) ـ للسيّد محمّد باقر الحكيم ، الطبعة الأولى ، منشورات مؤسّسة الإمام الحسين عليه‌السلام / ٦٢ ـ ٩٢ ، وراجع مجلّة الفكر الإسلامي العدد (١٧) مقال الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر حول الثورة الحسينيّة تحت عنوان (التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة).



الفصل الثاني

انطباعات عن شخصيّة الإمام الحسين عليه‌السلام

١ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام في آيات الذكر الحكيم :

لم تتّفق كلمة المسلمين في شيء كاتّفاقهم على فضل أهل البيت عليهم‌السلام وعلوّ مقامهم العلمي والروحي ، وانطوائهم على مجموعة الكمالات التي أراد الله للإنسانيّة أن تتحلّى بها.

ويعود هذا الاتّفاق إلى جملة من الاُصول ، منها تصريح الذكر الحكيم بالموقع الخاصّ لأهل البيت عليهم‌السلام من خلال التنصيص على تطهيرهم من الرجس ، وأنّهم القربى الذين تجب مودّتهم كأجر للرسالة التي أتحف الله بها الإنسانيّة جمعاء ، وأنّهم الأبرار الذين أخلصوا الطاعة لله ، وخافوا عذاب الله ، وتجلببوا بخشيته فضمن لهم الجّنة والنّجاة من عذابه.

والإمام الحسين عليه‌السلام هو من أهل البيت عليهم‌السلام المطهّرين من الرّجس بلا ريب ، بل هو ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ آية المباهلة التي جاءت في حادثة المباهلة مع نصارى نجران. وقد خلّد القرآن الكريم هذا الحدث بمداليله العميقة في قوله تعالى :

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ


وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (١).

وروى جمهور المحدّثين بطرق مستفيضة أنّها نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم : رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، كما صرّحوا على أنّ الأبناء هنا هما الحسنان عليهما‌السلام بلا ريب.

وتضمّنت هذه الحادثة تصريحاً من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم خير أهل الأرض وأكرمهم على الله ؛ ولهذا فهو يباهل بهم. واعترف أسقف نجران بذلك أيضاً قائلاً : «أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله» (٢).

وهكذا دلّت القصة كما دلّت الآية على عظيم منزلتهم وسموّ مكانتهم وأفضليّتهم ، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله ورسوله ، وأنّهم لا يدانيهم في فضلهم أحد من العالمين.

ولم ينصّ القرآن الكريم على عصمة أحد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين سوى أهل البيت عليهم‌السلام الذين أراد الله أن يطهّرهم من الرجس تطهيراً (٣).

ولئن اختلف المسلمون في دخول نساء النبيّ في مفهوم أهل البيت عليهم‌السلام فإنّهم لم يختلفوا قطّ في دخول عليّ والزهراء والحسنَيْن عليهم‌السلام في ما تقصده الآية المباركة (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران / ٦١.

(٢) نور الأبصار / ١٠٠ ، وراجع تفسير الجلالين ، وروح البيان والكشّاف ، والبيضاوي والرازي ، وصحيح الترمذي ٢ / ١٦٦ ، وسنن البيهقي ٧ / ٦٣ ، وصحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة ، ومسند أحمد ١ / ٨٥ ، ومصابيح السّنة ٢ / ٢٠١.

(٣) كما نصّت على ذلك الآية ٣٣ من سورة الأحزاب.

(٤) راجع التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ، وتفسير النيسابوري ، وصحيح مسلم ٢ / ٣٣ ، وخصائص النسائي / ٤ ، ومسند أحمد ٤ / ١٠٧ ، وسنن البيهقي ٢ / ١٥٠ ، ومشكل الآثار ١ / ٣٣٤ ، ومستدرك الحاكم ٢ / ٤١٦ ، واُسد الغابة ٥ / ٥٢١.


ومن هنا نستطيع أن نفهم السرّ الكامن في وجوب مودّتهم والالتزام بخطّهم ، وترجيح حبّهم على حبّ مَنْ سواهم بنصّ الكتاب العزيز (١).

فإنّ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام أدلّ دليل على أنّ النّجاة في متابعتهم حينما تتشعّب الطّرق وتختلف الأهواء ، فمَنْ عصمه الله من الرجس وكان دالاًّ على النّجاة كان متّبعه ناجياً من الغرق.

ونصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما عن ابن عباس ـ بأنّ آية المودّة في القربى حينما نزلت وسأله بعض المسلمين عن المقصود من القرابة التي أوجبت على المسلمين طاعتهم بقوله : «إنّهم عليّ وفاطمة وابناهما» (٢).

ولا يتركنا القرآن الحكيم حتّى يبيّن لنا أسباب هذا التفضيل في سورة «الدهر» ، التي نزلت لبيان عظمة الواقع النفسي الذي انطوى عليه أهل البيت عليهم‌السلام ، والإخلاص الذي تقترن به طاعتهم وعباداتهم ، بقوله تعالى : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (٣).

لقد روى جمهور المفسّرين والمحدّثين أنّ هذه السّورة المباركة نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام بعد ما مرض الحسنان ، ونذر الإمام صيام ثلاثة أيام شكراً لله إن برئا ، فوفوا بنذرهم أيّما وفاء ، إنّه وفاءٌ جسَّد أروع أنواع الإيثار حتّى نزل قوله تعالى : (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٤) فشكر الله

__________________

(١) قال تعالى في سورة الشورى الآية ٢٣ مخاطباً رسوله الكريم : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). وقال في سورة سبأ : (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ).

(٢) راجع التفسير الكبير ، وتفسير الطبري ، والدرّ المنثور في تفسير آية المودّة.

(٣) سورة الإنسان / ٩ ـ ١٢.

(٤) سورة الإنسان / ٥ ـ ٧.


سعيهم على هذا الإيثار والوفاء بما أورثهم في الآخرة ، وبما حباهم من الإمامة للمسلمين في الدنيا حتّى يرث الأرض ومَنْ عليها.

٢ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام لدى خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد خصّ الرّسول الأعظم حفيديه الحسن والحسين عليهما‌السلام بأوصاف تنبئ عن عظم منزلتهما لديه ، فهما :

١ ـ ريحانتاه من الدنيا ، وريحانتاه من هذه الأمّة (١).

٢ ـ وهما خير أهل الأرض (٢).

٣ ـ وهما سيّدا شباب أهل الجّنة (٣).

٤ ـ وهما إمامان قاما أو قعدا (٤).

٥ ـ وهما من العترة (أهل البيت) التي لا تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة ، ولن تضلّ اُمّة تمسّكت بهما (٥).

٦ ـ كما أنّهما من أهل البيت الذين يضمنون لراكبي سفينتهم النّجاة من الغرق (٦).

٧ ـ وهما ممّن قال عنهم جدّهم : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف» (٧).

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٨٨ ، وسنن الترمذي / ٥٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٦٢.

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٥٦ ، والترمذي / ٥٣٩.

(٤) المناقب ـ لابن شهر آشوب ٣ / ١٦٣ ، نقلاً عن مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهم.

(٥) جامع الترمذي / ٥٤١ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩.

(٦) حلية الأولياء ٤ / ٣٠٦.

(٧) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.


٨ ـ وقد استفاض الحديث عن مجموعة من أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم قد سمعوا مقالته فيما يخصّ الحسنين عليهما‌السلام : «اللّهمّ إنّك تعلم أنّي اُحبُّهما فأحبَّهما وأحبّ مَنْ يحبّهما» (١).

٣ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام لدى معاصريه :

١ ـ قال عمر بن الخطّاب للحسين عليه‌السلام : فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم (٢).

٢ ـ قال عثمان بن عفان في الحسن والحسين عليهما‌السلام وعبد الله بن جعفر : فطموا العلم فطماً (٣) ، وحازوا الخير والحكمة (٤).

٣ ـ قال أبو هريرة : دخل الحسين بن عليّ وهو معتمّ ، فظننت أنّ النبيّ قد بُعث (٥).

وكان عليه‌السلام في جنازة فأعيى ، وقعد في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه ، فقال له : «يا أبا هريرة ، وأنت تفعل هذا؟». فقال له : دعني ، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم (٦).

٤ ـ أخذ عبد الله بن عباس بركاب الحسن والحسين عليهما‌السلام فعوتب في ذلك ، وقيل له : أنت أسنّ منهما. فقال : إنّ هذين ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفليس

__________________

(١) خصائص النسائي / ٢٦.

(٢) الإصابة ١ / ٣٣٣ ، وقال : سنده صحيح.

(٣) فطموا العلم فطماً : أي قطعوه عن غيرهم قطعاً ، وجمعوه لأنفسهم جمعاً.

(٤) الخصال / ١٣٦.

(٥) بحار الأنوار ١٠ / ٨٢.

(٦) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٢.


من سعادتي أن آخذ بركابهما (١)؟

وقال له معاوية بعد وفاة الحسن عليه‌السلام : يابن عباس ، أصبحت سيّد قومك. فقال : أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا (٢).

٥ ـ قال أنس بن مالك ـ وكان قد رأى الحسين عليه‌السلام ـ : كان أشبههم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

٦ ـ قال زيد بن أرقم لابن زياد حين كان يضرب شفتي الحسين عليه‌السلام : اعل بهذا القضيب ، فوالله الذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على هاتين الشفتين يُقبّلهما. ثمّ بكى.

فقال له ابن زياد : أبكى الله عينك ، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفت لضربت عنقك. فخرج وهو يقول : أنتم يا معشر العرب ، العبيد بعد اليوم ؛ قتلتم الحسين بن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة! فهو يقتل خياركم ويستبقي شراركم (٤).

٧ ـ قال أبو برزة الأسلمي ليزيد حينما رآه ينكث ثغر الحسين عليه‌السلام : أتنكث بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا ومحمّد شفيعه (٥).

٨ ـ وحين قال معاوية لعبد الله بن جعفر : أنت سيّد بني هاشم. أجابه

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٢.

(٢) حياة الإمام الحسين ـ للقرشي ٢ / ٥٠٠.

(٣) أعيان الشيعة ١ / ٥٦٣.

(٤) اُسد الغابة ٢ / ٢١.

(٥) الحسن والحسين سبطا رسول الله / ١٩٨.


قائلاً : سيّد بني هاشم حسن وحسين (١).

وكتب إليه : إن هلكت اليوم طُفئ نور الإسلام ؛ فإنّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين (٢).

٩ ـ سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض يكون في الثوب أفيصلى فيه؟ فقال له : ممّن أنت؟ قال : من أهل العراق. فقال ابن عمر : انظروا إلى هذا ، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هما ريحانتاي من الدنيا (٣)!

١٠ ـ قال محمّد بن الحنفيّة : إنّ الحسين أعلمنا علماً ، وأثقلنا حلماً ، وأقربنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحماً ؛ كان إماماً فقيهاً ... (٤).

١١ ـ مرّ الحسين عليه‌السلام بعمرو بن العاص وهو جالس في ظلّ الكعبة ، فقال : هذا أحب أهل الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السّماء اليوم (٥).

١٢ ـ قال عبد الله بن عمرو بن العاص ـ وقد مرّ عليه الحسين عليه‌السلام ـ : مَنْ أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السّماء فلينظر إلى هذا المجتاز (٦).

١٣ ـ وحين أشار يزيد على أبيه معاوية أن يكتب للحسين عليه‌السلام جواباً عن كتاب كتبه له ؛ على أن يصغّر فيه الحسين عليه‌السلام ، قال معاوية رادّاً عليه : وما

__________________

(١) الحسن بن عليّ ـ لكامل سليمان / ١٧٣.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٦٧.

(٣) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣١٤.

(٤) بحار الأنوار ١٠ / ١٤٠.

(٥) تأريخ ابن عسساكر ٤ / ٣٢٢.

(٦) بحار الأنوار ١٠ / ٨٣.


عسيت أن أعيب حسيناً؟! ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً (١).

١٤ ـ قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (والي المدينة) لمروان بن الحكم لمّا أشار عليه بقتل الحسين عليه‌السلام إذا لم يبايع : والله يا مروان ، ما أُحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها وأنّي قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال لا اُبايع؟! والله إنّي لأظنّ أنّ مَنْ يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة (٢).

١٥ ـ لمّا قبض ابن زياد على قيس بن مسهر الصيداوي ـ رسول الحسين عليه‌السلام إلى أهل الكوفة ـ أمره أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين وأباه ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ هذا الحسين بن عليّ ، خير خلق الله ، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرّمّة فأجيبوه ، واسمعوا له وأطيعوا.

ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ والحسين عليهما‌السلام ؛ فأمر به ابن زياد فأُلقي من رأس القصر فتقطّع (٣).

١٦ ـ من خطبة ليزيد بن مسعود النهشلي رحمه‌الله : وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله عليه‌السلام ، ذو الشّرف الأصيل ، والرأي الأثيل ، له فضل لا يُوصف ، وعلم لا يُنزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه ، وقدمه وقرابته ؛ يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة ، وإمام قومٍ وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة (٤).

__________________

(١) أعيان الشيعة ١ / ٥٨٣.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٤٧.

(٣) المصدر السابق ١٨ / ١٦٨.

(٤) أعيان الشيعة ١ / ٥٩٠.


١٧ ـ قال عبد الله بن الحرّ الجعفي : ما رأيت أحداً قطّ أحسن ولا أملأ للعين من الحسين (١).

١٨ ـ قال إبراهيم النخعي : لو كنت فيمَنْ قاتل الحسين ثمّ اُدخلت الجّنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

٤ ـ الإمام الحسين عليه‌السلام عبر القرون والأجيال :

١ ـ قال الربيع بن خيثم لبعض مَنْ شهد قتل الحسين عليه‌السلام : والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقبّل أفواههم ، وأجلسهم في حجره (٣).

٢ ـ قال ابن سيرين : لم تبكِ السّماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسين عليه‌السلام ، ولمّا قُتل اسودّت السّماء ، وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رُؤيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر ، ومكثت السّماء سبعة أيام بلياليها كأنّها علقة (٤).

٣ ـ قال علي جلال الحسيني : السيّد الزكي الإمام أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته ، وابن أمير المؤمنين عليّ (كرّم الله وجهه) ، وشأن بيت النبوّة له أشرف نسب وأكمل نفس ، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ؛ من علوّ الهمّة ، ومنتهى الشجاعة ، وأقصى غاية الجود ، وأسرار العلم ، وفصاحة اللسان ، ونصرة الحقّ ، والنهي عن المنكر ، وجهاد الظلم ، والتواضع عن عزّ ، والعدل ، والصبر ، والحلم ، والعفاف ، والمروءة ، والورع وغيرها.

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ١ / ١١٨.

(٢) الإصابة ١ / ٣٣٥.

(٣) بحار الأنوار ١٠ / ٧٩.

(٤) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩.


واختصّ بسلامة الفطرة ، وجمال الخلقة ، ورجاحة العقل ، وقوّة الجسم ، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير ، كالصلاة والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه ، مرشداً بعمله ، مهذّباً بكريم أخلاقه ، ومؤدّباً ببليغ بيانه ، سخيّاً بماله ، متواضعاً للفقراء ، مُعَظّماً عند الخلفاء ، موصِلاً للصدقة على الأيتام والمساكين ، منتصفاً للمظلومين ، مشتغلاً بعبادته ، مشى من المدينة على قدميه إلى مكّة حاجّاً خمساً وعشرين مرّة ....

كان الحسين في وقته علم المهتدين ونور الأرض ، فأخبار حياته فيها هدىً للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار فضله (١).

٤ ـ قال محمّد رضا المصري : هو ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلم المهتدين ، ورجاء المؤمنين (٢).

٥ ـ قال عمر رضا كحالة : الحسين بن عليّ ، وهو سيّد أهل العراق فقهاً وحالاً ، وجوداً وبذلاً (٣).

٦ ـ قال عبد الله العلايلي : جاء في أخبار الحسين : أنّه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جدّه العظيم ، فأفاض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إشعاعة غامرة من حبّه ، وأشياء نفسه ؛ ليتمّ له أيضاً من وراء الصّورة معناها فتكون حقيقة من بعد كما كانت من قبل ، إنسانيّة ارتقت إلى نبوّة «أنا من حسين» ، ونبوّة هبطت إلى إنسانيّة «حسين منّي» ، فسلام عليه يوم ولِد (٤).

٧ ـ قال عبّاس محمود العقّاد : مثل للنّاس في حلّة من النور تخشع لها

__________________

(١) راجع كتابه «الحسين» عليه‌السلام ١ / ٦. وراجع أيضاً مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ١٩٣.

(٢) الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله / ٧٥.

(٣) أعلام النساء ١ / ٢٨.

(٤) تاريخ الحسين عليه‌السلام / ٢٢٦.


الأبصار ، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان ، غير مستثنى منهم عربي ولا عجمي ، وقديم وحديث ؛ فليس في العالم اُسرة أنجبت من الشهداء مَنْ أنجبتهم اُسرة الحسين عدّة وقدرة وذكرة ، وحسبه أنّه وحده في تأريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السّنين (١).

٨ ـ قال عمر أبو النصر : هذه قصّة اُسرة من قريش ، حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها. قصة ألّف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش النّاس ، ولا ماتوا كما مات النّاس ؛ ذلك أنّ الله شرّف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوّة والوحي والإلهام في منازلها ، وزاد ندى فلم يشأ لها حظّ الرجل العادي من عبادة ، وإنّما أرادها للتشريد والاستشهاد ، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكتب لها أن تتزعّم لواء التقوى والصّلاح إلى آخر ما يكون من ذرّيتها (٢).

٩ ـ قال عبد الحفيظ أبو السّعود : عنوان النضال الحرّ ، والجهاد المستميت ، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة ، وعدم الخضوع لجور السّلطان وبغي الحاكمين (٣).

١٠ ـ قال أحمد حسن لطفي : إنّ الموت الذي كان ينشده فيها كان يُمثّل في نظره مثلاً أروع من كلّ مثل الحياة ؛ لأنّه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى ، ولأنّه السّبيل إلى الانتصار وإلى الخلود ، فهو أعظم بطل ينتصر بالموت على الموت (٤).

__________________

(١) أبو الشهداء الحسين بن عليّ عليهما‌السلام / ١٥٠ ، طبعة النجف ، مطبعة الغري الحديثة.

(٢) آل محمّد في كربلاء / ٣٠.

(٣) سبطا رسول الله الحسن والحسين / ١٨٨.

(٤) الشهيد الخالد الحسين بن عليّ / ٤٧.



الفصل الثالث

مظاهر من شخصية الإمام الحسين عليه‌السلام

ولد الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل ، في بقعة طاهرة تتصل بالسّماء طوال يومها بلا انقطاع ، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن التي تُتلى آناء الليل والنهار ، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله ، ونهل من نمير الرسالة عذب الارتباط مع الخالق ، وصاغ لبنات شخصيته نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه. فكان الحسين عليه‌السلام صورة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في اُمتّه ، يتحرّك فيها على هدى القرآن ، ويتحدّث بفكر الرسالة ، ويسير على خُطى جدّه العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق ، ويرعى للاُمّة شؤونها ، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها ونصرتها، جاعلاً من نفسه المقدّسة اُنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول ؛ فكان عليه‌السلام نور هدىً للضالّين ، وسلسبيلاً عذباً للراغبين ، وعماداً يستند إليه المؤمنون ، وحجّة يركن إليها الصّالحون ، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون ، وسيف عدل يغضب لله ويثور من أجل الله ، وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدافع عن دينه ورسالته العظيمة.

ومن الإمعان في شخصيّة الإمام الحسين عليه‌السلام الفذّة نتلمّس المظاهر التالية :


١ ـ تواضعه عليه‌السلام :

جُبل أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام على التواضع ومجافاة الأنانية ، وهو صاحب النّسب الرفيع ، والشّرف العالي ، والمنزلة الخصيصة لدى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان عليه‌السلام يعيش في الاُمّة لا يأنف من فقيرها ، ولا يترفّع على ضعيفها ، ولا يتكبّر على أحد فيها.

يقتدي بجدّه العظيم المبعوث رحمةً للعالمين ، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الاُمّة ، وقد نُقلت عنه عليه‌السلام مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع ، مظهراً سماحة الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة ، ومن ذلك :

إنّه عليه‌السلام قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء ، فسلّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : «لولا أنّه صدقة لأكلت معكم». ثمّ قال : «قوموا إلى منزلي» ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.

وروي : أنّه عليه‌السلام مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة ، فقالوا : الغداء. فقال عليه‌السلام : «إنّ الله لا يُحبّ المتكبّرين». فجلس وتغدّى معهم ، ثمّ قال لهم : «قد أجبتكم فأجيبوني». قالوا : نعم. فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته : «أخرجي ما كنتِ تدّخرين» (١).

٢ ـ حلمه وعفوه عليه‌السلام :

تأدّب الحسين السّبط عليه‌السلام بآداب النبوّة ، وحمل روح جدّه الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عفا عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلاميّة ، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ النّاس ، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل

__________________

(١) أعيان الشيعة ١ / ٥٨٠ ، تأريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ح ١٩٦ ، وتفسير البرهان ٢ / ٣٦٣.


عن إساءة جاهلهم ، يحدوه رضى الله تعالى ، يقرّب المذنبين ويطمئنهم ، ويزرع فيهم الأمل برحمة الله ، فكان لا يردّ على مسيء إساءة ، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال.

فقد روي عنه عليه‌السلام أنّه قال : «لو شتمني رجل في هذه الاُذن ـ وأومأ إلى اليمنى ـ واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه ؛ وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حدّثني أنّه سمع جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يرد الحوض مَنْ لم يقبل العذر من محقّ أو مبطل» (١).

كما روي أنّ غلاماً له جنا جنايةً كانت توجب العقاب ، فأمر بتأديبه ، فانبرى العبد قائلاً : يا مولاي ، والكاظمين الغيظ. فقال عليه‌السلام : «خلّوا عنه». فقال : يا مولاي ، والعافين عن النّاس. فقال عليه‌السلام : «قد عفوت عنك». قال : يا مولاي ، والله يحبّ المحسنين. فقال عليه‌السلام : «أنت حرّ لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت أعطيك» (٢).

٣ ـ جوده وكرمه عليه‌السلام :

وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام يعين الفقراء والمحتاجين ، ويحنو على الأرامل والأيتام ، ويثلج قلوب الوافدين عليه ، ويقضي حوائج السّائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة ، ويصل رحمه دون انقطاع ، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه ، وهذه سجيّة الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السّماحة.

فكان يحمل في دجى الليل البهيم جراباً مملوءاً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم معاوية بن أبي سفيان ، وذلك حين

__________________

(١) إحقاق الحقّ ١١ / ٤٣١.

(٢) كشف الغمّة ٢ / ٣١ ، والفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ / ١٦٨ مع اختلاف يسير ، وأعيان الشيعة ٤ / ٥٣.


بعث لعدّة شخصيات بهدايا ، فقال متنبّئاً : أمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَنْ قُتل مع أبيه بصفّين ، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به اللبن (١).

وفي موقف مفعم باللّطف والإنسانيّة والحنان جعل العتق ردّاً للتحية ، فقد روى عن أنس أنّه قال :

كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها ، فقال لها : «أنتِ حرّة لوجه الله تعالى».

وانبهر أنس وقال : جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال عليه‌السلام : «كذا أدّبنا الله ، قال تبارك وتعالى : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) ، وكان أحسن منها عتقها» (٢).

ومن كرمه وعفوه أنّه وقف عليه‌السلام ليقضي دين اُسامة بن زيد ، وليفرّج عن همّه الذي كان قد اعتراه وهو في مرضه (٣) ، رغم أنّ اُسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين عليه‌السلام وأنشد قائلاً :

لم يخب الآن مَنْ رجاك

حرّك من دون بابك الحلقة

أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ

أبوك قد كان قاتل الفسقة

فأسرع إليه الإمام الحسين عليه‌السلام وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر ، وقال متسائلاً : «ما تبقّى من نفقتنا؟». قال : مئتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك.

فقال عليه‌السلام : «هاتها فقد أتى مَنْ هو أحقّ بها منهم». فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه ، وأنشد قائلاً :

خذها فإنّي إليك معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصاً

أمست سمانا عليك مندفقة

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ١ / ١٢٨ عن عيون الأخبار.

(٢) كشف الغمّة ٢ / ٣١ ، والفصول المهمّة / ١٦٧.

(٣) بحار الأنوار ٤٤ / ١٨٩ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٦٥.


لكنّ ريب الزمان ذو غِيرٍ

والكفّ منّي قليلة النفقة

فأخذها الأعرابي شاكراً وهو يدعو له عليه‌السلام بالخير ، وأنشد مادحاً :

مطهّرون نقيّات جيوبهمُ

تجري الصلاةُ عليهم أينما ذكروا

وأنتمُ أنتمُ الأعلون عندكمُ

علمُ الكتاب وما جاءت به السورُ

مَنْ لم يكن علويّاً حين تنسبُه

فما له في جميع النّاس مفتخرُ (١)

٤ ـ شجاعته عليه‌السلام :

إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين يطالع صفحة الشّجاعة من شخصية الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ فإنّه ورثها عن آبائه وتربّى عليها ونشأ فيها ، فهو من معدنها وأصلها ، وهو الشّجاع في قول الحقّ والمستبسل للدفاع عنه ، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي وقف أمام أعتا قوّة مشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى.

ووقف مع أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام يُعيد الإسلام حاكماً ، وينهض بالاُمّة في طريق دعوتها الخالصة ، يُصارع قوى الضلال والانحراف بالقول والفعل وقوّة السّلاح ؛ ليعيد الحقّ إلى نصّابه.

ووقف مع أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة الاُمّة ، ونجاة الصّفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلاميّة.

ووقف صامداً حين تقاعست جماهير المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله ، وأزلامه والتيار الذي قاده لتشويه الدين القويم.

ولم يخشَ كلّ التهديدات ، ولا ما كان يلوح في الاُفق من نهاية مأساوية

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢٣ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٦٥.


نتيجة الخروج لطلب الإصلاح ، وإحياء رسالة جدّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والوقوف في وجه الظلم والفساد ، فخرج وهو مسلّم لأمر الله وساع لابتغاء مرضاته ، وها هو عليه‌السلام يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له : اُذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ ، ولئن قوتلت لتهلكنّ. فقال له الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام :

أبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك ، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه :

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى

إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى رجالاً صالحين بنفسه

وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فإنْ عشت لم أندم وإنْ متّ لم اُلَم

كفى بك ذلاً أن تعيش وتُرغما (١)

ووقف عليه‌السلام يوم الطفّ موقفاً حيّر به الألباب وأذهل به العقول ، فلم ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً ، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتّى شهد له عدوّه بذلك ، فقد قال حميد بن مسلم : فوالله ، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه ؛ إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب (٢).

٥ ـ إباؤه عليه‌السلام :

لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى صورها وأكملها في إباء الإمام

__________________

(١) تأريخ الطبري ٤ / ٢٥٤ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧٠.

(٢) أعلام الورى ١ / ٤٦٨ ، وتأريخ الطبري ٥ / ٥٤٠.


الحسين عليه‌السلام ورفضه للصبر على الحيف والسّكوت على الظلم ، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سنّة الإباء والتضحية من أجل العقيدة وفي سبيلها ، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الاُمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً وذلاً ، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً : «إنّ مثلي لا يبايع مثله».

وها هو يصرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة مجسّداً ذلك الإباء بقوله عليه‌السلام : «يا أخي ، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية» (١).

ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على ضمائر النّاس فأماتها حتّى رضيت بالهوان ، لكن الإمام الحسين عليه‌السلام وقف صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الاُموية قائلاً : «والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد ، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون» (٢).

لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات ، كما تنمّ عن عزّته واعتداده بالنفس ، فقد قال عليه‌السلام :

«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيَّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلة! يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (٣).

وهكذا علّم الإمام الحسين عليه‌السلام البشرية كيف يكون الإباء في المواقف ، وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة.

__________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٢٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٨ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٩.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٠ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٣٣٠ ، وإعلام الورى ١ / ٤٥٩ ، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٢.

(٣) أعيان الشيعة ١ / ٦٠٣ ، والاحتجاج ٢ / ٢٤ ، ومقتل الحسين عليه‌السلام ـ للخوارزمي ٢ / ٦.


٦ ـ الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ:

لقد كانت نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ الرسالة الإسلاميّة ، وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ ، والكلمة الطيبة التي دعت كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلاميّة إلى مواصلة المسيرة في بناء المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد نهج الإمام الحسين عليه‌السلام منهج الصراحة والمكاشفة ، موضّحاً للاُمّة الخلل والزيغ والطريق الصحيح ، فها هو بكلّ جرأة يقف أمام الطّاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد ... فهذه كتبه عليه‌السلام إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار في ظلمه ، ويكشف للاُمّة مدى ضلالته وفساده (١).

وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن معاوية ، وقال ـ موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد ـ : «إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب للخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله» (٢).

وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومَنْ أعلن عن نصرته ، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وخذلان النّاس له ، فقال عليه‌السلام للذين اتّبعوه طلباً للعافية : «قد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ، ليس عليه ذمام» (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٨٩ و١٩٥.

(٢) الفتوح ٥ / ١٤ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٤ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.

(٣) الإرشاد ٢ / ٧٥ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٣٠٣ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٤.


فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين ، وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه ، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت الذي كان يعزّ فيه الناصر.

وقبل وقوع المعركة أذن لكلّ مَنْ كان قد تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلاً : «إنّي لا أعلم أصحاباً أصحّ منكم ولا أعدل ، ولا أفضل أهل بيت ، فجزاكم الله عنّي خيراً. فهذا الليل قد أقبل ، فقوموا واتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه ، أو رجل من إخوتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يطلبون غيري ، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم» (١).

والحقّ أنّ مَنْ يطالع كلّ تفاصيل نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام سيجد الصّدق والصّراحة ، والجرأة في كلّ قول وفعل في جميع خطوات نهضته المباركة.

٧ ـ عبادته وتقواه عليه‌السلام :

ما انقطع أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام عن الاتّصال بربّه في كلّ لحظاته وسكناته ، فقد بقي يجسّد اتّصاله هذا بصيغة العبادة لله ، ويوثّق العُرى مع الخالق جلّت قدرته ، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهية متفانياً في ذات الله ومن أجله ، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقية بالله تعالى.

وإنّ نظرة واحدة إلى دعائه عليه‌السلام في يوم عرفة تُبرهن على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع الله تعالى ، وننقل مقطعاً من هذا الدعاء العظيم :

قال عليه‌السلام : «كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠٥ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٣١٥ ، وأعيان الشيعة ١ / ٦٠٠.


الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً ...

إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك ، وهذا حالي لا يخفى عليك. منك أطلب الوصول إليك ، وبك استدلّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدق العبودية بين يديك ...

أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحّدوك ، وأنت الذي أزلتَ الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك ، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ...

ماذا وَجدَ مَنْ فقدك؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟! لقد خاب مَنْ رضي دونك بَدلاً ، ولقد خسر مَنْ بغى عنك مُتحوّلاً ...

يا مَنْ أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين ، ويا مَنْ ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين ...» (١).

ولقد بدا عليه عظيم خوفه من الله وشدّة مراقبته له حتّى قيل له : ما أعظم خوفك من ربّك! فقال عليه‌السلام : «لا يأمن يوم القيامة إلاّ مَنْ خاف من الله في الدنيا» (٢).

صور من عبادته عليه‌السلام :

إنّ العبادة لأهل بيت النبوّة عليهم‌السلام هي وجود وحياة ، فقد كانت لذّتهم في مناجاتهم لله تعالى ، وكانت عبادتهم له متّصلة في الليل والنهار وفي السرّ والعلن ، والإمام الحسين عليه‌السلام ـ وهو أحد أعمدة هذا البيت الطاهر ـ كان يقوم

__________________

(١) المنتخب الحسني للأدعية والزيارات / ٩٢٤ ـ ٩٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٠.


بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن والعالم العابد ، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك فقال عليه‌السلام : «حقّ لمَنْ وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله» (١).

وحرص عليه‌السلام على أداء الصّلاة في أحرج المواقف ، حتّى وقف يؤدّي صلاة الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم (٢) وجيوش الضلالة تحيط به من كلّ جانب وترميه من كلّ صوب.

وكان عليه‌السلام يخرج متذلّلاً لله ساعياً إلى بيته الحرام يؤدّي مناسك الحجّ بخشوع وتواضع ، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه (٣).

وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله.

لقد كان عليه‌السلام كثير البرّ والصدقة ، فقد روي أنّه ورث أرضاً وأشياء فتصدّق بها قبل أن يقبضها ، وكان يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة ، لم يبتغ بذلك إلاّ الأجر من الله والتقرب إليه (٤).

__________________

(١) جامع الأخبار / ٧٦ ، وراجع إحقاق الحقّ ١١ / ٤٢٢.

(٢) ينابيع المودّة / ٤١٠ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ١٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٠١.

(٤) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ / ١٣٥.



الباب الثاني

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

نشأة الإمام الحسين عليه‌السلام

الفصل الثاني :

مراحل حياة الإمام الحسين عليه‌السلام

الفصل الثالث :

الإمام الحسين عليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة



الفصل الأول

نشأة الإمام الحسين عليه‌السلام

هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثالث أئمّة أهل البيت الطاهرين ، وثاني سبطَي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيّد شباب أهل الجّنة ، وريحانة المصطفى ، وأحد الخمسة أصحاب العبا ، وسيّد الشهداء ، واُمّه فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

تأريخ الولادة :

أكّد أغلب المؤرّخين أنّه عليه‌السلام ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السّنة الرابعة من الهجرة (١).

وثمّة مؤرّخون أشاروا إلى أنّ ولادته عليه‌السلام كانت في السّنة الثالثة (٢).

رؤيا اُمّ أيمن :

أوّلَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا للسيدة اُمّ أيمن ـ كانت قد فزعت منها حين

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٤ / ٣١٣ ، ومقاتل الطالبيين / ٧٨ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٩٤ ، واُسد الغابة ٢ / ١٨ ، والإرشاد / ١٨.

(٢) اُصول الكافي ١ / ٤٦٣ ، والاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ١ / ٣٧٧.


رأت أنّ بعض أعضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله مُلقىً في بيتها ـ بولادة الحسين عليه‌السلام الذي سيحلّ في بيتها صغيراً للرضاعة. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

أقبل جيران اُمّ أيمن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّ اُمّ أيمن لم تنم البارحة من البكاء ، لم تزل تبكي حتّى أصبحت. فبعث رسول الله إلى اُمّ أيمن فجاءته ، فقال لها : يا اُمّ أيمن ، لا أبكى الله عينكِ ، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّكِ لم تزلي الليل تبكين أجمع ، فلا أبكى الله عينكِ ، ما الذي أبكاكِ؟ قالت : يا رسول الله ، رأيت رؤيا عظيمة شديدة ، فلم أزل أبكي الليل أجمع، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فقصّيها على رسول الله ؛ فإنّ الله ورسوله أعلم، فقالت : تعظم عليّ أن أتكلّم بها، فقال لها : إنّ الرؤيا ليست على ما تُرى ، فقصّيها على رسول الله. قالت : رأيت في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك مُلقىً في بيتي! فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نامت عينكِ يا اُمّ أيمن ، تلد فاطمة الحسين فتربّينه وتُلبنيه (١) ، فيكون بعض أعضائي في بيتك (٢).

الوليد المبارك :

ووضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام وليدها العظيم ، وزفّت البشرى إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأسرع إلى دار عليّ والزهراء عليهما‌السلام ، فقال لأسماء بنت عميس : «يا أسماء ، هاتي ابني»، فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء ، فاستبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وضمّه إليه ، وأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثمّ وضعه في حجره وبكى ، فقالت أسماء : فداك أبي واُمّي! ممّ بكاؤك؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من ابني هذا». قالت : إنّه ولد الساعة، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا أسماء ،

__________________

(١) أي : تسقينه اللبن.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٤٢.


تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي ...» (١).

ثمّ إنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : «أيّ شيء سمّيت ابني؟». فأجابه عليّ عليه‌السلام : «ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله». وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حاملاً اسم الوليد من الله تعالى ، وبعد أن تلقّى الرّسول أمر الله بتسمية وليده الميمون ، التفت إلى عليّ عليه‌السلام قائلاً : «سمّه حسيناً».

وفي اليوم السابع أسرع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيت الزهراء عليها‌السلام فعقّ عن سبطه الحسين كبشاً ، وأمر بحلق رأسه والتصدّق بزنة شعره فضّة ، كما أمر بختنه (٢).

وهكذا أجرى للحسين السبط ما أجرى لأخيه الحسن السبط من مراسم.

اهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسين عليه‌السلام :

لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن الحسين عليه‌السلام وهي تبرز المكانة الرفيعة التي يمثّلها في دنيا الرسالة والاُمّة.

ونختار هنا عدّة نماذج منها للوقوف على عظيم منزلته :

١ ـ روى سلمان أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في الحسن والحسين عليهما‌السلام : «اللّهمّ إنّي اُحبّهما فأَحِبَّهما ، واُحبّ مَنْ أحبّهما» (٣).

٢ ـ «مَنْ أحبّ الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبّه الله ، ومن أحبّه الله (عزّ وجلّ) أدخله الجّنة ، ومن أبغضهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه الله ، ومن أبغضه الله __________________

(١) إعلام الورى بأعلام الهدى ١ / ٤٢٧.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٥ ، إعلام الورى ١ / ٤٢٧.

(٣) الإرشاد ٢ / ٢٨.


خلَّده في النار» (١).

٣ ـ «إنّ ابنيَّ هذين ريحانتاي من الدنيا» (٢).

٤ ـ رُوي عن ابن مسعود أنّه قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي فجاء الحسن والحسين عليهما‌السلام فارتدفاه ، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً ، فلمّا عاد عادا ، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر ، ثمّ قال : «مَنْ أحبّني فَلْيُحبّ هذين» (٣).

٥ ـ «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط» (٤).

٦ ـ «الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما ، واُمّهما أفضل نساء أهل الأرض» (٥).

٧ ـ «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجّنة» (٦).

٨ ـ عن برّة ابنة اُميّة الخزاعي أنّها قالت : لمّا حملت فاطمة عليها‌السلام بالحسن خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض وجوهه ، فقال لها : «إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل ، فلا ترضعيه حتّى أصير إليكِ». قالت : فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن عليه‌السلام ، وله ثلاث ما أرضعته ، فقلت لها : أعطينيه حتّى اُرضعه. فقالت : «كلاّ». ثمّ أدركتها رقّة الاُمهات فأرضعته ، فلمّا جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لها : «ماذا صنعتِ؟». قالت : «أدركني عليه رقّة الاُمهات فأرضعته». فقال : «أبى الله

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٢٨.

(٢) الإرشاد ٢ / ٢٨ ، وصحيح البخاري ٢ / ١٨٨ ، وسنن الترمذي ٥ / ٦١٥ ح ٣٧٧٠.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦ ، وكفاية الطالب / ٤٢٢ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١ ، ومسند أحمد ٤ / ١٧٢ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٦٥٨ ح٣٧٧٥.

(٥) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦١ ، وعيون أخبار الرضا ٢ / ٦٢.

(٦) سنن ابن ماجة ١ / ٥٦ ، والترمذي ٥ / ٦١٤ ح٣٧٦٨ ، وبحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٥.


(عزّ وجلّ) إلاّ ما أراد».

فلمّا حملت بالحسين عليه‌السلام قال لها : «يا فاطمة ، إنّكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أجيء إليكِ ولو أقمت شهراً». قالت : «أفعل ذلك». وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض وجوهه ، فولدت فاطمة الحسين عليه‌السلام ، فما أرضعته حتّى جاء رسول الله ، فقال لها : «ماذا صنعت؟». قالت : «ما أرضعته». فأخذه فجعل لسانه في فمه ، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إيهاً حسين! إيهاً حسين!». ثمّ قال : «أبى الله إلاّ ما يريد ، هي فيك وفي ولدك» (١) ، يعني الإمامة.

٩ ـ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فلمّا رآهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قام لهما واستبطأ بلوغهما إليه ، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه ، وقال : «نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان أنتما ، وأبوكما خير منكما» (٢).

كنيته وألقابه :

أمّا كنيته فهي : أبو عبد الله.

وأمّا ألقابه فهي : الرشيد ، والوفي ، والطيّب ، والسيّد ، والزكيّ ، والمبارك ، والتابع لمرضاة الله ، والدليل على ذات الله ، والسبط. وأشهرها رتبةً ما لقّبه به جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله عنه وعن أخيه : «إنّهما سيّدا شباب أهل الجّنة». وكذلك السبط ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حسين سبط من الأسباط» (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٥٤ ، وراجع المناقب ٣ / ٥٠.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، راجع ذخائر العقبى / ١٣٠.

(٣) أعيان الشيعة ١ / ٥٧٩.



الفصل الثاني

مراحل حياة الإمام الحسين عليه‌السلام

تنقسم حياة كلّ إمام من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام إلى قسمين متميّزين :

الأوّل : من الولادة إلى حين استلامه لمقاليد الإمامة والولاية المناطة إليه من الله ، والمنصوص عليها على لسان رسوله والأئمّة عليهم‌السلام أنفسهم.

والثاني : يبدأ من يوم تصدّيه لإدارة اُمور المسلمين والمؤمنين إلى يوم استشهاده.

وقد يشتمل كلّ قسم على عدّة مراحل حسب طبيعة الظروف والأحداث التي تميّز كلّ مرحلة.

ونحن ندرس الفترة الاُولى بجميع مراحلها وأهمّ أحداثها ـ وهي فترة الولادة حتّى الإمامة ـ في الفصل الثالث من الباب الثاني ، بينما ندرس الفترة الثانية بمراحلها المختلفة بشكل تفصيلي في الباب الثالث.

وينبغي أن نعرف أنّ الفترة الاُولى من حياة الإمام الحسين عليه‌السلام كانت ذات أربع مراحل هي :

١ ـ حياته في عهد جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي من السّنة (٤) إلى (١٠) هجرية.

٢ ـ حياته في عهد الخلفاء الثلاثة ، وهي من السّنة (١١) إلى (٣٥) هجرية.

٣ ـ حياته في عهد الدولة العلوية المباركة ، أي منذ البيعة مع أبيه إلى يوم


استشهاده (صلوات الله عليه) ، وهي من السّنة (٣٥) إلى (٤٠) هجرية.

٤ ـ حياته في عهد أخيه الحسن المجتبى عليه‌السلام وهي عشر سنوات تقريباً ، أي من أواخر شهر رمضان سنة (٤٠) هجرية إلى بداية أو نهاية صفر سنة (٥٠) هجرية حيث استشهد الحسن عليه‌السلام ، وتصدّى هو للأمر من بعده.

وأمّا الفترة الثانية من حياته وهي التي تبدأ بعد استشهاد أخيه عليه‌السلام وتنتهي باستشهاده بأرض الطفّ يوم عاشوراء سنة (٦١) هجرية ، فهي ذات مرحلتين متميّزتين :

١ ـ المرحلة الاُولى : مدّة حياته خلال حكم معاوية ، حيث بقي (صلوات الله عليه) ملتزماً بالهدنة التي عُقدت مع معاوية بالرغم من تخلّف معاوية عن كلّ الشّروط التي اشتُرطت عليه من قبل الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقد جسّد تمرّده على كلّ شروط الصلح بإيعاز السمّ الفاتك إلى الإمام الحسن عليه‌السلام ؛ ليتخلّص من رقيب مناهض ، ويزيل الموانع عن ترشيح ولده الفاسق يزيد.

٢ ـ المرحلة الثانية : وتبدأ بفرض معاوية ابنه يزيد حاكماً متحكّماً في رقاب المسلمين بعد موت أبيه ، وسعيه لأخذ البيعة من الحسين عليه‌السلام للقضاء على المعارضة التي كان قد عرف جذورها أيام أبيه.

ومن هنا تبدأ نهضته التي كانت بركاناً تحت الرماد ، فانفجرت بانفجار الفسق والفجور وظهورهما على مسرح القيادة وجهاز الحكم ، فبدأ حركته من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ، وتوّج صبره وجهاده بدمائه الطاهرة ودماء أهل بيته وأصحابه الأصفياء التي قدّمها في سبيل الله تعالى.


الفصل الثالث

الإمام الحسين عليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة

الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة الإسلاميّة مساحة واسعة لبيت عليّ وفاطمة وأبنائهما عليهم‌السلام ، ومعاني ودلالات عميقة ؛ حيث إنّه البيت الذي سيحتضن الرسالة ، ويتحمّل عبء الخلافة ، ومسؤولية صيانة الدين والاُمّة.

وكان لا بدّ لهذا البيت أن ينال القسط الأوفى ، والحظّ الأوفر من فيض حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورعايته واُبوّته ، فلم يدّخر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسعاً أن يروّي شجرته المباركة في بيت عليّ عليه‌السلام ، ويتعهّدها صباح مساء مُبيّناً أنّ مصير الاُمّة مرهون بسلامة هذا البيت وطاعة أهله ، كما يتجلّى ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ علياً راية الهدى بعدي ، وإمام أوليائي ، ونور مَنْ أطاعني» (١).

وحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليه‌السلام ؛ أخذ مكانته السّامية في قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضعه الرفيع في حياة الرسالة.

__________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٦٧ ، ونظم درر السّمطين / ١١٤ ، وتاريخ ابن عساكر ٢ / ١٨٩ ح ٦٨٠ ، ومقتل الخوارزمي ١ / ٤٣ ، وجامع الجوامع ـ للسيوطي ٦ / ٣٩٦ ، ومنتخب الكنز ٦ / ٩٥٣ ح٢٥٣٩ ، والفصول المهمّة ـ لابن الصباغ / ١٠٧ ، وتاريخ الخلفاء ـ للسيوطي / ١٧٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٣٥ ، وكنز العمّال ٥ / ١٥٣ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٣٢٨ ح٣٨٧٤ ، واُسد الغابة ٢ / ١٢.


وبعين الخبير البصير ، والمعصوم المسدّد من السّماء وجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوليد الجديد وريثاً للرسالة بعد حين ، ثائراً في الاُمّة بعد زيغ وسكون ، مُصلحاً في الدين بعد انحراف واندثار ، مُحيياً للسنّة بعد تضييع وإنكار ، فراح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يهيّئه ويعدّه لحمل الرسالة الكبرى مستعيناً في ذلك بعواطفه وساعات يومه ، وبهديه وعلّمه ؛ إذ عمّا قليل سيضطلع بمهام الإمامة في الرسالة الخاتمة بأمر الله تعالى.

فها هو صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «الحسن والحسين ابناي ، مَنْ أحبّهما أحبّني ، ومَنْ أحبّني أحبّه الله ، ومَنْ أحبّه الله أدخله الجّنة ، ومَنْ أبغضهما أبغضني ، ومَنْ أبغضني أبغضه الله ، ومَنْ أبغضه الله أدخله النّار» (١).

وهل الحبّ إلاّ مقدّمة الطاعة وقبول الولاية! بل هما بعينهما في المآل.

لقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألّم لبكائه ، ويتفقّده في يقظته ونومه ، يوصي اُمّه الطاهرة فاطمة (صلوات الله عليها) أن تغمر ولده المبارك بكلّ مشاعر الحنان والرفق (٢).

حتّى إذا درج الحسين عليه‌السلام صبيّاً يتحرّك شرع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يُلفت نظر النّاس إليه ، ويهيّئ الأجواء لأن تقبل الاُمّة وصاية ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها ، فكم تأنّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سجوده والحسين يعلو ظهره صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ليظهر للاُمّة حبّه له ، وكذا مكانته ، وكم سارع النبيّ يقطع خطبته ليلقف ابنه القادم نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره (٣)؟ كلّ ذلك ليدلّ على منزلته ودوره الخطير في مستقبل الاُمّة.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٦ ، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٢.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٩١ ، وذخائر العقبى / ١٤٣.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٣٥٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٣ ، وكنز العمال ٧ / ١٦٨ ، وصحيح الترمذي ٥ / ٦١٦ ح٣٧٧٤.


وحين قدم وفد نصارى نجران يحاجج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالص ، وامتنع عن قبولها رغم وضوح الحق أمر الله تعالى بالمباهلة ؛ فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ومعه خير أهل الأرض تقوىً وصلاحاً ، وأعزّهم على الله مكانةً ومنزلةً ؛ عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ليباهل بهم أهل الكفر والشرك وانحراف المعتقد ، ومُدَلّلاً بذلك ـ في نفس الوقت ـ على أنّهم أهل بيت النبوّة ، وبهم تقوم الرسالة الإسلاميّة ، فعطاؤهم من أجل العقيدة لا ينضب (١).

وما كان من النصارى إذ رأوا وجوهاً مشرقة ، وطافحة بنور التوحيد والعصمة إلاّ أن تراجعوا عن المباهلة ، وقبلوا بأن يعطوا الجزية عنيد وهم صاغرون.

لقد كانت هذه الفترة القصيرة التي عاشها الحسين عليه‌السلام مع جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهمّ الفترات وأروعها في تأريخ الإسلام كلّه ، فقد وطّد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها أركان دولته المباركة ، وأقامها على أساس العلم والإيمان ، وهزم جيوش الشرك ، وهدم قواعد الإلحاد ، وأخذت الانتصارات الرائعة تترى على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الأوفياء ؛ حيث أخذ النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً.

وفي غمرة هذه الانتصارات فوجئت الاُمّة بالمصاب الجلل حين توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخيّم الأسى العميق على المسلمين وبخاصة على أهل بيته عليهم‌السلام الذين أضنتهم المأساة ، ولسعتهم حرارة المصيبة بغياب شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٨٥ ، وصحيح مسلم ، كتاب الفضائل باب فضائل علي ٢ / ٣٦٠ ، وصحيح الترمذي ٤ / ٢٩٣ ح٥ ٢٠٨ ، والمستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠.


ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لسبطيه عليهما‌السلام :

ولمّا علمت سيّدة نساء العالمين أنّ لقاء أبيها بربّه (عزّ وجلّ) قريب أتت بابنيها الحسن والحسين عليهما‌السلام فقالت : «يا رسول الله ، هذان ابناك فورّثهما شيئاً»، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له شجاعتي وجودي» (١).

وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسّبطين عليهما‌السلام :

ووصّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليّاً برعاية سبطيه ، وكان ذلك قبل موته بثلاثة أيام ، فقد قال له : «سلام الله عليك أبا الريحانتين ، اُوصيك بريحانتيَّ من الدنيا ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك».

فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال عليّ عليه‌السلام : «هذا أحد ركنيَّ الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». فلمّا ماتت فاطمة عليها‌السلام قال عليّ : «هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله» (٢).

لوعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين عليه‌السلام :

حضر الإمام الحسين عليه‌السلام عند جدّه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما كان يعاني آلام المرض ويقترب من لحظات الاحتضار ، فلمّا رآه ضمّه إلى صدره وجعل يقول : «ما لي وليزيد! لا بارك الله فيه». ثمّ غشي عليه طويلاً ، فلمّا أفاق أخذ يوسع الحسين تقبيلاً وعيناه تفيضان بالدموع ، وهو يقول : «أما إنّ لي ولقاتلك موقفاً بين يدي الله (عزّ وجلّ)» (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٣ ، ومناقب آل أبي طالب ٢ / ٤٦٥ ، ونظم درر السّمطين / ٢١٢.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ / ٢٦٢.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ـ باقر شريف القرشي ١ / ٢١٨ ، نقلاً عن مثير الأحزان.


وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله ألقى السّبطان عليهما‌السلام بأنفسهما عليه وهما يذرفان الدموع والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوسعهما تقبيلاً ، فأراد أبوهما أمير المؤمنين عليه‌السلام أن ينحّيهما عنه فأبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : «دعهما يتزوّدا منّي وأتزوّد منهما ، فستصيبهما بعدي إثرة» (١).

ثمّ التفت صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عوّاده فقال لهم : «قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (٢).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١١٤.

(٢) المصدر السابق.


الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الخلفاء

الحسين عليه‌السلام في عهد أبي بكر :

لقد كان أهل البيت عليهم‌السلام بما فيهم الحسن والحسين عليهما‌السلام مفجوعين بوفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وألم المأساة يهيمن على قلوبهم وهم مشغولون بجهاز أعظم نبيّ عرفه التاريخ الإنساني ، إذ توجّهت إليهم صدمةٌ اُخرى ضاعفت آلامهم ، وبدّدت آمالهم التي غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفوسهم ونفوس الاُمّة.

إنها صدمة مصادرة الخلافة وتنحية الإمام علي عليه‌السلام عن مسرح القيادة ، ومصادرة المنصب الذي نصّبه فيه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله تعالى.

وكانت هذه الصدمة العنيفة بداية لمُسلسل القلق والاضطهاد الذي فرضه الخطّ الحاكم بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل بيت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتحقيق العزل التام ، والإبعاد الكامل لهم عن موقع القيادة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لوعة شهادة الزهراء عليها‌السلام :

كان لوفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقع مؤلم في روح الإمام الحسين الطاهرة ، وهو لم يكن بعد قد أنهى ربيعه الثامن.

وما هي إلاّ مدّة قصيرة وإذا بالحسين عليه‌السلام يُفجع باستشهاد اُمّه فاطمة بنت رسول الله بتلك الصورة المأساوية ، بعد أن ظلّت تعاني من الظلم والقهر ، وألم اغتصاب حقّها طوال الأيام التي عاشتها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت تنعكس معاناتها في روحه اللطيفة ؛ إذ كان كلّما نظر إلى اُمّه بعد وفاة أبيها شاهدها باكيةً ، محزونة القلب ، منكسرة الخاطر.


وقد روي : أنّها (سلام الله عليها) ما زالت بعد أبيها معصّبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة ، وتقول لولديها : «أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّةً بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ النّاس شفقةً عليكما ، فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما» (١).

وروي أن الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تصطحب الحسنين معها إلى البقيع ، حيث تظلّ تبكي إلى المساء ، فيأتي أمير المؤمنين عليه‌السلام فيعود بهم إلى البيت.

ونقل الرواة عن أسماء بنت عميس قصّة استشهادها مفصّلاً ، وقد جاء فيها أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام دخلا البيت بُعَيد وفاة اُمّهما ، فقالا : «يا أسماء ، ما يُنيم اُمّنا في هذه الساعة؟!». قالت : يا ابني رسول الله ، ليست اُمّكما نائمة ، بل فارقت روحها الدنيا. فوقع عليها الحسن يقبّلها مرةً ويقول : «يا اُمّاه ، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني». قالت : وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول : «يا اُمّاه ، أنا ابنك الحسين ، كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت». قالت لهما أسماء : يا ابني رسول الله ، انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت اُمّكما. فخرجا حتّى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء ، فابتدرهما جميع الصحابة ، فقالوا : ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لا أبكى الله أعينكما (٢).

وجاء في نصّ آخر : أنّه بعد أن فرغ أمير المؤمنين عليه‌السلام من تغسيل الزهراء عليها‌السلام نادى : «يا اُمّ كلثوم ، يا زينب ، يا سكينة ، يا فضّة ، يا حسن ، يا حسين ، هلمّوا

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ / ١٨١.

(٢) المصدر السابق / ١٨٦.


تزوّدوا من اُمّكم ، فهذا الفراق ، واللقاء الجّنة». فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما يناديان : «وا حسرةً لا تنطفئ أبداً من فقد جدّنا محمّد المصطفى واُمّنا فاطمة الزهراء!». فقال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «إنّي اُشهدُ الله أنّها قد حنّت وأنّت ، ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً ، وإذا بهاتف من السّماء ينادي : يا أبا الحسن ، ارفعهما فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات» (١).

وذكرت أكثر الروايات أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام حضرا مراسم الصلاة على جنازة اُمّهما عليها‌السلام ، وتولّى غسلها وتكفينها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأخرجها من بيتها ومعه الحسن والحسين في الليل ، وصلّوا عليها ... (٢).

لقد فجع الحسين عليه‌السلام وخلال فترة قصيرة بحادثتين عظيمتين مؤلمتين :

الاُولى : وفاة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والثانية : استشهاد والدته فاطمة بنت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما جرى عليها من أنواع الجفاء والظلم.

وإذا أضفنا إلى ذلك مأساة غصب حقوق أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومأساة إبعاده عن المسرح السياسي ليصبح جليس بيته ، تجلّت لنا شدّة المحن والمصائب التي أحاطت بالحسين عليه‌السلام وهو في صغر سنّه.

ولقد تعمّقت مصائب الإمام الحسين عليه‌السلام بسبب أنواع الحصار المفروض من قِبل خطّ الخلافة وقتذاك على أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الأوفياء لخطّه الرسالي ، وعلى علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام بشكل خاص ، مثل منع الخمس وسائر الحقوق من الوصول إليه ، كما تجلّى ذلك بوضوح في تأميم «فدك» ، والذي كان من أهدافه ممارسة ضغوط مالية اُخرى على أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبناء أمير المؤمنين عليهم‌السلام.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ / ١٧٩.

(٢) المصدر السابق / ٢١٢.


الحسين عليه‌السلام في عهد عمر بن الخطاب :

وفي عهد عمر بن الخطاب اتّخذ الحصار أبعاداً أكثر خطورة ، فقد ذكر المؤرّخون أنّ عمر حظر على أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج من المدينة إلاّ بترخيص منه ، وقد طال الحظر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام حتّى مثّل هذا الأمر نمطاً آخر من الضغوط التي مورست على أهل بيت الوحي الطاهرين.

أجل ، لقد أدّت هذه الممارسات القهرية ، والمواقف الظالمة إلى إقصاء عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعلته جليس بيته ، ومن ثمّ تغييبه عن الميادين السياسية والاجتماعية حتّى صار نسياً منسياً ، وإن كان الخليفة يرجع إليه في بعض المسائل أحياناً ، ولعلّ السبب في عدم إبعاده عن المدينة ، هو حاجته إليه في القضايا التي كانت تستجد للخليفة ، ولم يكن بمقدور أحد غير عليّ عليه‌السلام أن يقدّم الحلّ المقبول لها.

وبالحكمة السّديدة ، والصبر الجميل كظم أمير المؤمنين عليه‌السلام غيظه ، متغاضياً عن حقّه الذي استأثر به عمر بعد أبي بكر من دون حقّ شرعي ولا حجّة بالغة ، وفي كلّ ذلك عاش الحسين عليه‌السلام مع آلام أبيه عليه‌السلام ، ورأى كيفية تعامله مع الحدث ، وهو يحمل هموم الاُمّة الإسلاميّة ويقلقه مصيرها ، إنّه يتذكّر كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثر عليّاً على كلّ مَنْ عداه ، ويوصي به الاُمّة المرّة بعد المرّة ، ولكنّه الآن مقصيٌّ عن مقامه ، فما كان يملك إلاّ أن يكتم أحاسيسه ومشاعره.

يروى : أنّ عمر ذات يوم كان يخطب على المنبر فلم يشعر إلاّ والحسين عليه‌السلام قد صعد إليه وهو يهتف : «انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك» ،


وبهت عمر واستولت الحيرة عليه ، وراح يصدّقه ويقول له : صدقت لم يكن لأبي منبر ، وأخذه فأجلسه إلى جنبه ، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً له : مَنْ علّمك؟ فأجابه الإمام الحسين عليه‌السلام : «والله ، ما علّمني أحد» (١).

وقد كان الحق يقضي بأن لا يكتفي عمر بالتصديق الكلامي للحسين عليه‌السلام من دون إعادة حقّه في فدك والخمس إليه ، وإعادة حقّ والده في الخلافة إليه ؛ إطاعةً لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويروى أيضاً أنّ عمر كان معنيّاً بالإمام الحسين عليه‌السلام حتّى طلب منه أن يأتيه إذا عرض له أمر ، وقصده الحسين عليه‌السلام يوماً ومعاوية عنده ، ورأى ابنه عبد الله ، فطلب عليه‌السلام الإذن منه فلم يأذن له ، فرجع معه ، والتقى به عمر في الغد فقال له : ما منعك يا حسين أن تأتيني؟ قال الحسين عليه‌السلام : «إنّي جئت وأنت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر». قال عمر : أنت أحقّ من ابن عمر ، فإنّما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم (٢).

الحسين عليه‌السلام في عهد عثمان :

بخُلق الرسالة وآداب النبوّة ، وبالفضائل السّامية أطلّ الإمام الحسين عليه‌السلام على مرحلة الرجولة في العقد الثالث من العمر ، يعيش أجواء أبيه المحتسب وهو يرى اللعبة السّياسية تتلوّن والهدف واحد ، وهو أن لا يصل عليّ عليه‌السلام وبنوه إلى زعامة الدولة الإسلاميّة ، بل تبقى الخلافة بعيدة عنهم ؛ فها هو ابن الخطّاب لا يكتفي بحمل الاُمّة على ما لا تطيق من جفاء رأيه وطبعه وأخطاء اجتهاداته ، حتّى ابتلاها بالشورى السداسيّة التي انبثقت منها خلافة عثمان.

__________________

(١) الإصابة ١ / ٣٣٢.

(٢) المصدر السابق.


ولقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه المرحلة ، وهو الذي آثر مصلحة الدين والاُمّة على حقّه الخاصّ في الزعامة ، فصبر صبراً مُرّاً حتّى قال :

فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده ، فصيّرها في حوزة خشناء ؛ يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر؟! (١).

وازدادت محنة أهل البيت عليهم‌السلام ، وتضاعفت مهمّتهم صعوبةً ، وهم يواجهون عصراً جديداً من الانحراف بالخلافة ، وهو عصر يتطلّب جهوداً أضخم ، وسعياً أكبر ؛ لكي لا تضيع الاُمّة والرسالة ، ولكنّ لوناً متميزاً من المعاناة القاسية بدأ واضحاً يصبغ حياة الاُمّة الإسلاميّة ، فإنّ خيار رجالها من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يُهانون ويُضربون ويُنفون ، في الوقت الذي تتسابق على مراكز الدولة شرارها من الطلقاء وأبنائهم تحت ظلّ ضعف عثمان وجهله بالاُمور أحياناً ، وعصبيّته القبليّة الاُمويّة أحياناً اُخرى (٢).

وعاش الحسين عليه‌السلام معاناة الاُمّة وهي تنتفض على فساد حكم عثمان في مخاض عسير ، فتمتدّ الأيادي المظلومة لتزيح الخليفة الحاكم بقوّة السّيف.

وفي خطبة الإمام عليّ عليه‌السلام المعروفة بالشقشقيّة ، والتي وصف فيها محنة الاُمّة بتولّي الخلفاء الثلاثة دفّة الحكم قبله تصويراً دقيقاً لما جرى في حكم عثمان بن عفّان ؛ إذ قال عليه‌السلام :

__________________

(١) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.

(٢) تاريخ الخلفاء / ٥٧.


إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه (١) بين نثيله (٢) ومعتلفه (٣) ، وقام معه بنو أبيه يخضمون (٤) مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع (٥) ، إلى أن انتكث عليه فتله (٦) ، وأجهز (٧) عليه عمله ، وكبت (٨) به بطنته (٩).

موقف مع أبي ذرّ الغفاري :

أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته ، غير مراعٍ حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين طالتهم يداه ، فصبّ عليهم جام غضبه ، وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم.

وكان أبو ذر الغفاري ـ وهو أقدم أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين سبقوا إلى الإسلام ـ واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها ، وقد نهاه عثمان عن ذلك فلم ينته ، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشّام ، وفي الشّام أخذ أبو ذر يوقظ النّاس ، ويدعوهم إلى الحذر من السّياسة الاُمويّة التي كان ينتهجها معاوية بن أبي سفيان والي عثمان الاُموي على الشّام.

لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ ، وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه ، فاستدعاه إلى المدينة ، لكنّ هذا الصحابي الجليل واصل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتحذير من خطر الاُموية الدخيلة على

__________________

(١) نافجاً حضنيه : رافعهما ، والحضن : ما بين الإبط والكشح.

(٢) النثيل : الروث وقذر الدواب.

(٣) المعتلف : موضع العلف.

(٤) الخضم : أكل الشيء الرطب.

(٥) النبِتة ـ بكسر النون ـ : كالنبات في معناه.

(٦) انتكث عليه فتله : انتقض.

(٧) أجهز عليه : تمّم قتله.

(٨) كبت به : من كبا الجواد إذا سقط بوجهه.

(٩) البِطنة ـ بالكسر ـ : البطر والأشر والتخمة.


الإسلام والمسلمين. فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة نائية لا سكن فيها ، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع المسلمين من مشايعته وتوديعه ، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان ، فقد انطلق لتوديعه ـ بشكل علني ـ الإمام علي عليه‌السلام والحسنان عليهما‌السلام ، وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه. وقد جاء في كلمة الإمام الحسين عليه‌السلام ما نصّه :

يا عمّاه ، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصبر من الدين والكرم ، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً (١).

وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً ، فألقى نظرة الوداع الأخيرة على أهل البيت عليهم‌السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له ، وخاطبهم بقوله :

«رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام ، وكره أن اُجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فاُفسد النّاس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله ما اُريد إلاّ الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٢ / ٤١٢ ، وراجع مروج الذهب ٢ / ٣٥٠.

(٢) المصدر السابق.


الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الدولة العلوية

انتهى حكم الخلفاء الثلاثة بمقتل عثمان ، وانتهت بذلك خمسة وعشرون عاماً من العناء الناشئ عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.

وقد أيقن المسلمون أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام هو القائد الذي يحقّق آمالهم وأهدافهم ويعيد لهم كرامتهم ، وأنّهم سينعمون في ظلال حكمه بالحرية والمساواة والعدل فأصرّوا على مبايعته بالخلافة.

لكن وللأسف الشّديد فقد جاءت قناعة الاُمّة هذه متأخرةً كثيراً ؛ حيث اُصيبت الاُمّة بأمراض خطيرة وانحرافات كبيرة ، وغابت عنها الروح التضحوية والقيم الإيمانية ، وتسربلت بالأطماع والمنافع الشّخصية ، وانحدرت نحو التوجّهات الفئوية الضيّقة ؛ من هنا أعلن الإمام عليّ عليه‌السلام رفضه الكامل لخلافتهم قائلاً لهم : «لا حاجة لي في أمركم ، فمَنْ اخترتم رضيت» (١).

وذلك لعلمه عليه‌السلام بأنّه من الصّعب جدّاً أن يُعيد إلى المجتمع الأحكام الإسلاميّة التي بدّلها الخلفاء وغيّروها باجتهاداتهم الخاطئة ؛ فإنّه عليه‌السلام كان يعرف جيّداً أنّ المجتمع الذي نشأ على تلك الأخطاء سيقف بوجهه ، وسيعمل جاهداً على مناجزته والحيلولة بينه وبين تحقيق مخطّطاته السّياسية الهادفة إلى تحقيق العدل والقضاء على الجور. هذا وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مع سابقته الفريدة إلى الإسلام ، وحنكته السّياسية ، ومؤهّلاته القيادية العظيمة لم يستطع الوقوف بوجه الانحراف الذي سرى إلى جميع مفاصل المجتمع

__________________

(١) بحار الأنوار ٣٢ / ٧.


الإسلامي ، ولم يتمكّن من إعادة هذا المجتمع إلى طريق الحقّ والعدالة اللاّحب ، إذ وقفت في وجهه فئات من المنافقين والنفعيين ، ومَنْ كان يحمل في نفسه البغض والكره لله ولرسوله، وقد أكّد ذلك في خطبته الشقشقية بقوله عليه‌السلام : «فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة (١) ، ومرقت (٢) اُخرى ، وقسط آخرون (٣) ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤). بلى والله ، لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها» (٥).

مع أبيه عليه‌السلام في إصلاح الاُمة :

لقد بادر الإمام عليّ عليه‌السلام إلى إعادة الحقّ إلى نصابه ، والعدل إلى سيادته ، مُحيياً سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاُمّة ، مُنتهجاً الطريق القويم. وما أسرع ما وقفت قوى الضلال ضدّ إصلاحات الإمام عليه‌السلام في مجال الإدارة ، وفي مجال توزيع الأموال ، وفي مجال العدل في القضاء ، وفي مجال مراعاة شؤون الرسالة وشؤون المسلمين!

ولم يتردّد عليه‌السلام في التحرّك لفضح خطّ النّفاق والقضاء على الفساد واجتثاث جذوره ؛ لتسلم الرسالة والاُمّة منه ، وقام هو وأهل بيته عليهم‌السلام يخوضون غمار الحروب دفاعاً عن الإسلام مقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وشارك الإمام الحسين عليه‌السلام في جميع الحروب التي شنّها المنافقون ضدّ الإمام علي عليه‌السلام

__________________

(١) نكثت طائفة : نقضت عهدها ، وأراد عليه‌السلام بتلك الطائفة الناكثة أصحاب الجمل.

(٢) مرقت : خرجت ، وأراد عليه‌السلام بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النهروان.

(٣) قسط : جار ، وأراد عليه‌السلام بالجائرين أصحاب صفّين.

(٤) سورة القصص / ٨٣.

(٥) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.


وكان يبرز إلى ساحة القتال بنفسه المقدّسة كلّما اقتضى الأمر وسمح له والده عليه‌السلام. وقد سجّل المؤرّخون خطاباً للإمام الحسين عليه‌السلام وجّهه لأهل الكوفة لدى تحركهم إلى صفّين ، جاء فيه ـ بعد حمد الله تعالى والثناء عليه ـ : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في إطفاء ما وتر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم. ألا إنّ الحرب شرّها وريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها اُهبتها ، واستعدّ لها عُدّتها ، ولم يألم كُلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها ، واستبصار سعيه فيها فذاك قَمِن أن لا ينفع قومَه وإن يهلك نفسه ، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفيئة» (١).

حرص الإمام عليّ عليه‌السلام على سلامة الحسنين عليهما‌السلام :

قاتل الإمام الحسين عليه‌السلام في معركة صفّين كما قاتل في معركة الجمل ، مع أنّ بعض الروايات أفادت بأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يمنع الحسنين عليهما‌السلام من النزول إلى ساحة القتال خشية أن ينقطع نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كان عليه‌السلام يقول : «املكوا عنّي هذا الغلام لا يَهُدَّني ، فإنّني أنفسُ بهذين ـ يعني الحسن والحسين عليهما‌السلام ـ على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

وجاء في نصوص اُخرى أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يبعث ابنه محمّد ابن الحنفيّة إلى ساحات القتال مرّات عديدة دون أن يسمح للحسنين عليهما‌السلام بذلك ، وقد سُئل ابن الحنفيّة عن سرّ ذلك فأجاب : «إنّهما عيناه وأنا يمينه فهو يدفع عن عينه بيمينه» (٣). ويعكس هذا الجواب مدى ما كان يحظى به

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١ / ٢٨٤.

(٢) نهج البلاغة ، من كلام له عليه‌السلام في بعض أيام صفّين ، وقد رأى ابنه الحسن عليه‌السلام يتسرّع إلى الحرب ، باب خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام / ٢٠٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١ / ١١٨.


الحسنان عند الإمام علي عليه‌السلام.

وتفيد الأخبار بأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ظلّ مع أبيه بعد صفّين أيضاً في جميع الأحداث مثل قضية التحكيم ومعركة النهروان.

ومعلوم أنّ الأحداث التي عايشها الإمام الحسين مع أبيه عليهما‌السلام كانت مأساوية ومرّة جدّاً ، وقد بلغت المأساة ذروتها عندما تآمر الخوارج على قتل أسمى نموذج للإنسان الكامل ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أي عندما ضرب المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي إمامه أمير المؤمنين عليه‌السلام على رأسه بالسيف وهو في محراب العبادة.

وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام للإمام الحسين عليه‌السلام :

تدلُّ وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده الحسين عليه‌السلام على شدّة اهتمامه به ومحبّته له ، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) أوصى للحسن والحسين بالوصية التالية :

«اُوصيكما بتقوى الله ، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زُوِيَ عنكما ، وقولا بالحقّ ، واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً ، وللمظلوم عوناً. اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام. الله الله في الأيتام ، فلا تغبّوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم ؛ فإنّهم وصيّة نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم. والله الله في الصلاة ؛ فإنّها عمود دينكم. والله الله في بيت ربّكم ، لا تخلوه ما بقيتم ؛ فإنّه إن تُرك لم تُناظروا. والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله. وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي


عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم». ثمّ قال : «يا بني عبد المطلب ، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ، تقولون : قُتل أميرُ المؤمنين. ألا لا تقتُلنّ بي إلاّ قاتلي. انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة ، ولا تُمثّلوا بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (١).

وثمّة وصية اُخرى قيّمة وجامعة خاصّة بالإمام الحسين عليه‌السلام ذكرها ابن شعبة في تحف العقول ، ونحن ننقلها لأهمّيتها ؛ حيث تضمّنت حكماً غرّاء ووصايا أخلاقية خالدة. وإليك نصّ ما رواه ابن شعبة عن الإمام عليّ عليه‌السلام :

«يا بُنيّ ، اُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصديق والعدوّ ، وبالعمل في النشاط والكسل ، والرضا عن الله في الشدّة والرّخاء. أي بُنيّ ، ما شرٌ بعده الجّنة بشرّ ، ولا خير بعده النار بخير ، وكلّ نعيم دون الجّنة محقور ، وكلّ بلاء دون النار عافية.

واعلم يا بُنيّ ، أنّه مَنْ أبصر عيب نفسه شُغل عن عيب غيره ، ومَنْ تعرّى من لباس التقوى لم يستتر بشيء من اللباس ، ومَنْ رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته ، ومَنْ سلّ سيف البغي قُتل به ، ومَنْ حفر بئراً لأخيه وقع فيه ، ومَنْ هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، ومَنْ نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ، ومَنْ كابد الاُمور عطب ، ومَنْ اقتحم الغمرات غرق ، ومَنْ أعجب برأيه ضلّ ، ومَنْ استغنى بعقله زلّ ، ومَنْ تكبّر على النّاس ذلّ ، ومَنْ خالط العلماء وُقّر ، ومَنْ خالط الأنذال حُقّر ، ومَنْ سفه على النّاس شُتم ، ومَنْ دخل مداخل السّوء اتُّهِم ، ومَنْ مزح استُخِفّ به ، ومَنْ أكثر من شيء عُرِف به ، ومَنْ كثر كلامه كثر خطؤه ، ومَنْ كثر خطؤه قلّ حياؤه ، ومَنْ قلّ حياؤه قلّ ورعه ، ومَنْ قلّ ورعه مات قلبه ، ومَنْ مات قلبه

__________________

(١) نهج البلاغة ، باب الكتب والرسائل / ٤٧.


دخل النار.

أي بنيّ ، مَنْ نظر في عيوب النّاس ورضي لنفسه بها فذاك الأحمق بعينه ، ومَنْ تفكّر اعتبر ، ومَنْ اعتبر اعتزل ، ومَنْ اعتزل سلم ، ومَنْ ترك الشّهوات كان حرّاً ، ومَنْ ترك الحسد كانت له المحبّة عند النّاس.

أي بُنيّ ، عِزّ المؤمن غناه عن النّاس ، والقناعة مال لا ينفد ، ومَنْ أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومَنْ علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه.

أي بُنيّ ، العَجَبُ ممّن يخاف العقاب فلم يكفّ ، ورجا الثواب فلم يتُب ويعمل.

أي بُنيّ ، الفكرة تورث نوراً ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسّعيد مَنْ وعِظَ بغيره ، والأدب خير ميراث ، وحسن الخُلق خير قرين. ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولامع الفجور غنى. أي بُنيّ ، العافية عشرة أجزاء ؛ تسعة منها في الصمت إلاّ بذكر الله ، وواحدة في ترك مجالسة السّفهاء.

أي بُنيّ ، مَنْ تزيّا بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلاًّ ، ومَنْ طلب العلم علم.

أي بُنيّ ، رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق ، ومِنْ كنوز الإيمان الصبر على المصائب ، والعفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى. كثرة الزيارة تورث الملالة ، والطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم ، وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله. أي بُني ، كم نظرة جلبت حسرة ، وكم مِنْ كلمة سلبت نعمة.

أي بُنيّ ، لا شرف أعلا من الإسلام ، ولا كرم أعزّ من التقوى ، ولا معقل أحرزُ من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت ، ومَنْ اقتصر على بُلغة الكفاف تعجّل الراحة وتبوّأ خفض الدعة.

أي بُنيّ ، الحرص مفتاح التعب ، ومطيّة النصب ، وداعٍ إلى التقحّم في الذنوب ، والشّره جامع لمساوئ العيوب ، وكفاك تأديباً لنفسك ما كرهته من غيرك. لأخيك عليك مثل الذي


لك عليه ، ومَنْ تورّط في الاُمور بغير نظر في العواقب فقد تعرّض للنوائب. التدبيرُ قبل العمل يؤمنك الندم. مَنْ استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. الصبر جُنّة من الفاقة. البخل جلباب المسكنة. الحرص علامة الفقر. وصول مُعدم خير من جافٍ مكثر. لكلّ شيء قوت وابن آدم قوت الموت.

أي بُنيّ ، لا تؤيّس مذنباً ، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير ، وكم من مقبل على عمله مُفسد في آخر عمره ، صائر إلى النار.

أي بُنيّ ، كم من عاصٍ نجا ، وكم من عامل هوى. مَنْ تحرّى الصدق خفّت عليه المؤن. في خلاف النفس رُشدُها. الساعاتُ تنتقص الأعمار. ويلٌ للباغين من أحكم الحاكمين وعالم ضمير المضمرين!

يا بُنيّ ، بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد. في كلّ جُرعة شرق ، وفي كلّ أكلة غصص. لن تُنال نعمة إلاّ بفراق اُخرى.

ما أقرب الراحة من النّصب ، والبؤس من النّعيم ، والموت من الحياة ، والسّقم من الصحة! فطوبى لمَنْ أخلص لله عمله وعلمه ، وحبّه وبغضه ، وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وفعله وقوله ، وبخٍ بخٍ لعالم عمل فجدّ ، وخاف البيات فأعدّ واستعدّ ، إن سُئل نصح ، وإن تُرك صمت ، كلامه صوابٌ ، وسكوته من غير عيّ جواب.

والويل لمَنْ بُلي بحرمان وخذلان وعصيان ، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره ، وأزرى على النّاس بمثل ما يأتي!

واعلم أي بُنيّ ، أنّه مَنْ لانت كلمتُه وجبت محبّته. وفّقك الله لرشدك ، وجعلك من أهل طاعته بقدرته ، إنّه جواد كريم (١).

__________________

(١) تحف العقول / ٨٨ وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام.


الإمام الحسين مع أبيه عليهما‌السلام في لحظاته الأخيرة :

كان آخر ما نطق به أمير المؤمنين عليه‌السلام هو قوله تعالى : (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ، ثمّ فاضت روحه الزكية ، تحفّها ملائكة الرحمن ، فمادت أركان العدل في الأرض ، وانطمست معالم الدين.

لقد مات ملاذ المظلومين والمحرومين الذي كرّس جهده لإقامة دولة تُنهي دور الإثرة والاستغلال ، وتقيم العدل والحقّ بين النّاس.

وقام سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتجهيز أبيهما المرتضى عليه‌السلام ، فغسّلاه وأدرجاه في أكفانه. وفي الهزيع الأخير من الليل حملاه إلى قبره في النجف الأشرف ، وقد واروا أكبر رمز للعدالة والقيم الإنسانيّة المثلى كما اعترف بذلك خصومه. وكتب المؤرّخون : أنّ معاوية لمّا بلغه مقتل الإمام علي عليه‌السلام خرج واتّخذ يوم قتله عيداً في دمشق ، فقد تحقّق له ما كان يأمله ، وتمّ له ما كان يصبو إليه من اتّخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وإرغامهم على ما يكرهون (١).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٠٩.


الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما‌السلام

حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية :

لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي ـ الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها ـ في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة ؛ فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة ، إذ تولّى زمام اُمور الاُمّة مَنْ كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة ، وإنّما تصدّى لها مَنْ تصدّى على أساس العصبية القبلية (١) ، ويشهد لذلك قول أبي بكر : وُلّيت أمركم ولست بخيركم (٢).

وانحدرت الاُمّة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين ، مخالفاً سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً ، حتّى إذا حكم عثمان بن عفّان استفحل الفساد ، واستشرى في جهاز الحكم والإدارة حين سيطر فسّاق النّاس وشرارهم على اُمور النّاس ؛ فراحوا يعيثون في الاُمّة فساداً ، كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (٣).

وأصبحت العائلة الاُمويّة التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الاُمّة ، وعطايا عثمان لهم بغير حق ، وتغلغلوا في أجهزة الحكم ، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٦.

(٢) عليّ والحاكمون / ١٠٩ ، وتأريخ الخلفاء / ٧١.

(٣) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٤١ ، والعقد الفريد ٢ / ٢٦١ ، وأنساب الأشراف ٥ / ٣٨ ، وشرح النهج ١ / ٦٧.


وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين يوم فتح مكة ، ودخل في عداد الطلقاء ، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصّراع ضدّ الإسلام قبل فتح مكّة.

على أنّ طوال هذه الفترة ـ منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهاية حكم عثمان ـ لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلاميّة ونشرها وترسيخها في النفوس ، ولم يسعَ لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية ، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال.

وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام منذ وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جاهداً على أن لا تفقد الاُمّة شخصيتها الإسلاميّة وحاول تقليل انحرافها ، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم ؛ لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة ، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح (١).

لقد فُجعت الاُمّة بمصلحها الكبير ـ يوم استشهد الإمام علي عليه‌السلام ـ وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام عليّ عليه‌السلام متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مبالية بمصلحة الاُمّة ، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي ، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي ؛ ولهذا كانت حروب ، الجمل وصفّين ثمّ النهروان.

__________________

(١) شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ١ / ٢٤٨.


ورأى الإمام الحسن عليه‌السلام أن ينهض بالاُمّة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف ، ولكنّ الجموع آثرت السّلامة والركون إلى الراحة (١) ، فاضطرّ الإمام الحسن عليه‌السلام إلى الصلح والمهادنة مع معاوية ـ وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام ـ على شروط وعهود مهمّة ؛ ليضمن سلامة الصّفوة الخيّرة من الاُمّة ، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلاميّة ، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة ؛ إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع ، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة ، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلاميّة وحفظ الاُمّة الإسلاميّة في كلّ الأحوال ، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو اُميّة وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.

ولقد وقف الإمام الحسين عليه‌السلام إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه ، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف ، يُعاضده في توجيه الاُمّة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السّقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة ، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الاُمّة حتّى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه‌السلام ولا تستجيب لأوامره.

وأحاط الإمام الحسن عليه‌السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس ، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته ، بعد أن كان يُمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام عليّ عليه‌السلام.

ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه‌السلام أنّ المعركة ـ لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية ـ ستكون لصالح الأخير ، وستنتهي حتماً إمّا بقتل

__________________

(١) الإرشاد ـ للمفيد / ٨ ـ ٩.


الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم ، أو ستنتهي بأسرهم ، في الوقت الذي تحتاج فيه الاُمّة الإسلاميّة إلى وجود الإمام المعصوم بينها ؛ لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم ، فإنّ الرسالة الإسلاميّة خاتمة الرسالات ولا بدّ من إتمام ما بناه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه‌السلام ، وأنّه قال له : «اُنشدك الله أن لا تصدّق اُحدوثة معاوية وتكذّب اُحدوثة أبيك» ، وأنّ الحسن قال له : «اُسكت أنا أعلم منك» ... يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصّحة (١).

هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان أبعد نظراً ، وأعمق غوراً في الاُمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن عليه‌السلام موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه ، وكان عليه‌السلام أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتّى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.

ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين عليهما‌السلام في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه‌السلام لموقف أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام من الصلح مع معاوية.

فإذا كان الحسنان عليهما‌السلام إمامين مفترضي الطاعة ، كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي ، وطِبقاً لما أراده الله تعالى لهما ، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.

ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تُعارض تلك الروايات غير الصحيحة ، منها ما يلي :

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٢٣.


١ ـ قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «نحن قوم فرض الله طاعتنا ، وأنتم تأتمّون بمَنْ لا يعذر النّاس بجهالته» (١).

٢ ـ سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا عليه‌السلام فقال : طاعتك مفترضة؟ فقال : «نعم». قال : مثل طاعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟ فقال : «نعم» (٢).

٣ ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال له حمران : جُعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ) ، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتّى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «يا حُمران ، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه ، وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه ، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام عليّ والحسن والحسين ، وبعلم صمت مَنْ صمت منّا» (٣).

٤ ـ وعن عظيم أخلاق الحسين عليه‌السلام واحترامه لأخيه الحسن عليه‌السلام قال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : «ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له» (٤).

٥ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشّام ، فأذن لهم معاوية ، وأعدّ لهم الخطباء ... ثمّ قال : يا قيس ، قم فبايع ، فالتفت إلى الحسين عليه‌السلام ينظر ما يأمره ، فقال : يا قيس ، إنّه إمامي ـ يعني الحسن عليه‌السلام ـ» (٥).

__________________

(١ و٢) اُصول الكافي ١ / ١٤٣ ، باب فرض طاعة الأئمّة.

(٣) اُصول الكافي ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله (عزّ وجلّ) وأمر منه لا يتجاوزونه.

(٤) حياة الإمام الحسين ٢ / ٢٥٢.

(٥) بحار الأنوار ٤٤ / ٦١.


احترام الإمام الحسين عليه‌السلام لبنود صلح الإمام الحسن عليه‌السلام :

استشهد الإمام الحسن عليه‌السلام سنة (٤٩) أو (٥٠) للهجرة ، ومات معاوية سنة (٦٠) للهجرة ، وفي هذه المدّة كانت الإمامة والقيادة للإمام الحسين عليه‌السلام ، ولم تجب عليه طاعة أحد ، لكنّه عليه‌السلام ظلّ ملتزماً ببنود معاهدة الصلح التي عقدها أخوه الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية ، فلم يصدر عنه أيّ موقف ينتهك به بنود المعاهدة المذكورة ، بل لمّا طالبه بعض الشيعة بالقيام والثورة على معاوية ، أوصاهم بالصبر والتقية مُشيراً إلى التزامه بالمعاهدة ، وأنّه سيكون في حِلٍّ من المعاهدة بموت معاوية.

رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام :

كان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب من أخلص النّاس للإمام الحسين عليه‌السلام وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم الكوفة ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية ، فدفع جعدة رسالة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام هذا نصها : «أمّا بعد ، فإن من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة على أعدائك والشدّة في أمر الله ، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك» (١).

فأجابه الإمام الحسين عليه‌السلام بقوله : «أمّا أخي فإنّي أرجو أن يكون الله قد

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.


وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذاك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام».

يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ انطلاقاً من مسؤوليته الشّرعية ـ اتّبع أخاه الإمام الحسن عليه‌السلام في مسألة الصّلح مع معاوية ، وقد قبله والتزم به طيلة حكم معاوية ، بل إنّ عشرات الشّواهد تؤكّد أنّهما كانا منسجمين في تفكيرهما ونظرتهما إلى الاُمور ومعطياتها ، ومتّفقين في كلّ ما جرى وتمّ التوصل إليه.

وكما نسبوا إلى الإمام الحسين عليه‌السلام ذلك فقد نسبوا إلى الإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً أنّه كان على خلاف مع أبيه! في كثير من مواقفه السياسية قُبيل خلافته وخلالها. ومن الواضح أنّ الهدف من أمثال هذه المزاعم هو زرع الشّك في نفوس الاُمّة بالنسبة للموقع الريادي للإمامين الشّرعيين الحسن والحسين عليهما‌السلام ؛ بغية إيجاد الفرقة والاختلاف كي يبتعد النّاس عنهما.

استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام :

أقام الإمام الحسن عليه‌السلام بالكوفة أيّاماً بعد أن صالح معاوية ، ثمّ عاد مع أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام وجميع أهل بيته إلى المدينة ، فأقام بها كاظماً غيظه ، لازماً منزله ، منتظراً لأمر ربّه جلّ اسمه (١). وكما ذكرنا فإنّ الإمام الحسين عليه‌السلام رفض التحرّك ضدّ معاوية ما دام حيّاً ؛ التزاماً بمعاهدة الصّلح التي كان قد عقدها أخوه الحسن عليه‌السلام معه.

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١٥.


وقد اهتمّ الإمامان عليهما‌السلام في المدينة بالعبادة وترسيخ العقيدة الإسلاميّة في نفوس النّاس ، وتوضيح الأحكام الإسلاميّة للناس وإرشادهم وهدايتهم ، والعمل من أجل تربية جيل واعٍ يتحمّل مسؤوليته تجاه الظلم والفساد والانحراف الحاصل في مسيرة الاُمّة. وفي هذه السّنوات العشر ـ كما دوّنته جملة من مصادر التاريخ الإسلامي ـ قد حدثت عدّة مناوشات كلامية من جانب الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام بالنسبة لتصرّفات معاوية وجملة من عناصر بلاطه.

* * *



الباب الثالث

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

عصر الإمام الحسين عليه‌السلام

الفصل الثاني :

مواقف الإمام عليه‌السلام وإنجازاته

الفصل الثالث :

نتائج الثورة الحسينيّة

الفصل الرابع :

من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام



الفصل الأول

عصر الإمام الحسين عليه‌السلام

البحث الأوّل : حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام :

أمسك معاوية والطغمة الفاسدة من بني اُميّة بزمام الحكم ، وأكملوا بذلك الانحراف الذي حصل من السّقيفة ؛ حيث حوّل معاوية الخلافة إلى ملك عضوض مستبدّ حين صرّح بعدائه للاُمة الإسلاميّة ، واعترف بعدم رضى الاُمّة به حاكماً بقوله : والله ، ما ولّيتها ـ أي الخلافة ـ بمحبّة علمتها منكم ، ولا مسرّة بولايتي ولكن جالدتكم بسيفي (١).

ولكنّ معاوية والتّيار الذي تزعّمه واجه عقبةً كؤوداً ، هي تطبيق الإمام عليّ عليه‌السلام لأحكام الشّريعة الإسلاميّة بصورتها الصّحيحة ، مضافاً إلى أنّه لم يترك الاُمّة حتّى عمّق العقيدة في النّفوس ، فأحبّته الجماهير وخصوصاً أهل العراق ، وكان في ذلك حريصاً على الرسالة والاُمّة الإسلاميّة ، ومفنّداً مزاعم أرباب السّقيفة حين عبّر أبو بكر عن عجزه ، واعتذر عن كثرة أخطائه بقوله : فإنّي قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم (٢). فإنّ هذا الاعتذار قد يُفهم منه

__________________

(١) تأريخ الخلفاء / ٧١.

(٢) المصدر السابق.


عدم إمكان التطبيق التام للشريعة الإسلاميّة ، ولكنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام قد قدّم النّموذج الحيّ للقيادة الكفوءة الواعية والمعصومة بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت الاُمّة المسلمة تتوقّع قائداً كعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ولكن معاوية شرع في تشويه هذه القيم الإسلاميّة ، ومحاربة القوى المتعاطفة مع أهل البيت عليهم‌السلام ، وهدم كلّ ما بناه الإمام عليّ عليه‌السلام في الاُمّة الإسلاميّة من قيم ؛ فتفقد إرادتها ويموت ضميرها ؛ لئلاّ تكون قادرة على مواجهة أهواء الحكّام المخالفة للدين الحنيف.

لقد أعلن معاوية منذ أوّل خطوة أنّ هدفه الأساس هو استلام زمام الحكم حتّى لو اُريقت من أجله دماء المسلمين المحرّمة ، بكلمته المعروفة : والله ، ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم (١).

منهج معاوية لمحاربة الإسلام :

ولا بدّ لنا من دراسة موجزة للمخطّطات الشّيطانية التي تبنّاها معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام ؛ فإنّها من أهمّ الأسباب في ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام. لقد رأى الإمام عليه‌السلام ما وصل إليه حال المسلمين من التردّي ؛ عقائدياً وأخلاقياً ، واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

وكان كلّ هذا التردّي من جرّاء السّياسات التي أبعدت الاُمّة عن مسار الإسلام الأصيل من خلال ممارسات معاوية التي بلغت ذروتها في فرض يزيد بالقوة خليفةً على المسلمين ، فهبّ (سلام الله عليه) بعد هلاك معاوية إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٦.


تفجير ثورته الكبرى التي أدّت إلى إيقاظ النّفوس ، وتحريك إرادة الاُمّة.

وإليك بعض معالم سياسات الجاهلية الاُموية التي تصدّى لتنفيذها معاوية :

١ ـ سياسته الاقتصادية :

لم تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المتداول لهذه الكلمة ، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه ، فهو يهب الثّراء العريض للمؤيدين له ويحرم معارضيه من العطاء ، ويأخذ الأموال ويفرض الضّرائب بغير حقّ ، وقد شاع في عصر معاوية الفقر والحرمان عند الأكثرية السّاحقة من المسلمين ، فيما تراكمت الثروات عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير المسلمين وشؤونهم.

وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية :

أ ـ الحرمان الاقتصادي :

أشاع معاوية الحرمان الاقتصادي في الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له ، مثل :

* يثرب :

لم ينفق معاوية على أهل يثرب أيّ شيء من المال ؛ لأنّ فيهم كثيراً من الشّخصيات المعارضة للاُسرة الأموية والطّامعة في الحكم. يقول المؤرخون : إنّ معاوية أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان ، وقد أرسل قيّماً على أملاكه ؛ لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها ، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له : إنّ هذه الأموال لنا كلّها ، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا ، ولم يُعطنا


درهماً حتّى مضّنا الزمان ونالتنا المجاعة ، فاشتراها بجزء من مئة من ثمنها ، فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمّره (١).

وقد نصب معاوية على الحجاز مروان بن الحكم تارةً ، وسعيد بن العاص مرّة اُخرى ، وكان يعزل الأوّل ويولّي الثاني ، وقد جهدا معاً في إذلال أهل المدينة وإفقارهم.

* العراق :

فرض معاوية على أهل العراق عقوبات اقتصاديةً بصفته المركز الرئيسي للمعارضة ، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة ، وقد سار الحكّام الاُمويّون بعد معاوية على هذا النهج في اضطهاد أهل العراق وحرمانهم (٢) ؛ باعتبارهم الثقل الأكبر في الخطّ الواعي الذي وقف مع أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ب ـ استخدام المال لتثبيت ملكه :

استخدم معاوية بيت المال لتثبيت ملكه وسلطانه ، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه من التسلّط على الاُمّة ، فقد كان من عناصر سياسة الاُمويّين استخدام المال سلاحاً للإرهاب وأداةً للتقريب ، فحرم منه فئةً من النّاس ، وأغدق أضعافاً مضاعفة لطائفة اُخرى ثمناً لضمائرهم وضماناً لصمتهم (٣).

ووهب معاوية خراج مصر لعمرو بن العاص ، وجعله طعمة له مادام

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٣.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٥ ، وراجع العقد الفريد ٤ / ٢٥٩.

(٣) المصدر السابق ٢ / ١٢٧ ، نقلاً عن اتجاهات الشّعر العربي ـ د. محمّد مصطفى / ٢٧.


حيّاً ، وذلك لتعاونه معه على مناجزة أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

ج ـ شراء الذمم :

فتح معاوية باباً جديداً في سياسته الاقتصادية وهي شراء الذمم ، فقد أعلن عن ذلك بكلّ دناءة قائلاً : والله لأستميلنّ بالأموال ثُقات عليّ ، ولاُقسّمنّ فيهم الأموال حتّى تغلب دنياي آخرته (٢).

كما روي أنّه وفد عليه جماعة من أشراف العرب فأعطى كلّ واحد منهم مئة ألف درهم ، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين ألفاً ، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية ، فقال له ـ بلا خجل ولا حياء ـ : إنّي اشتريت من القوم دينهم ، ووكلتك إلى دينك.

فقال الحتات : اشتر منّي ديني. فأمر له بإتمام الجائزة (٣).

د ـ ضريبة النيروز :

فرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز في بدعة سنّها من غير دليل في الشّريعة الإسلاميّة ؛ ليسدّ بها نفقاته ، وبالغ في إرهاق النّاس واضطهادهم على أدائها ، وقد بلغت فيما يقول المؤرخون : عشرة ملايين درهم ، وهي من الضّرائب التي يألفها المسلمون ، وقد اتّخذها الحكّام من بعده سنّةً فأرغموا المسلمين على أدائها (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٧.

(٢) راجع وقعة صفّين ـ لنصر بن مزاحم / ٤٩٥ ، وشرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٣.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) المصدر السابق ٢ / ١٣١ ، وراجع الحياة الفكرية في الإسلام / ٤٢.


٢ ـ سياسة التفرقة :

بنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين ، إيماناً منه بأنّ الحكم لا يستقرّ له إلاّ بإشاعة العداء بين أبناء الاُمّة الإسلاميّة ، «وكانت لمعاوية حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها ، واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة ، العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشّبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم مَنْ كان من أهل بيته وذوي قرباه ... كان لا يُطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم» (١).

أ ـ اضطهاد الموالي :

بالغ معاوية في اضطهاد الموالي وإذلالهم ، وقد رام أن يبيدهم إبادةً شاملةً. يقول المؤرخون : إنّه دعا الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما : إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثُرت ، وأراها قد قطعت على السّلف ، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسّلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطراً منهم ، وأدع شطراً لإقامة السّوق وعمارة الطريق (٢).

ب ـ العصبية القبلية :

أحيا معاوية العصبيات القبلية ، وقد ظهرت في الشّعر العربي صور مُريعة ومؤلمة من ألوان الصّراع الذي كانت السّلطة الاُموية تختلقه ؛ لإشغال النّاس عن التدخّل في الشؤون السّياسية، وقال المؤرّخون :

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٥ ، عن العقّاد في كتابه «معاوية في الميزان» / ٦٤.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٦٠.


إنّ معاوية عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج ؛ محاولاً بذلك التقليل من أهمّيتهم ، وإسقاط مكانتهم أمام العالم العربي والإسلامي ، كما تعصّب لليمنيّين على المُضريّين ، وأشعل نار الفتنة فيما بينهم حتّى لا تتّحد لهم كلمة تضرّ بمصالح دولته (١).

٣ ـ سياسة البطش والجبروت :

ساس معاوية الاُمّة بسياسة البطش والقمع ، فاستهان بمقدّراتها وكرامتها ، وقد أعلن ـ بعد الصّلح ـ أنّه قاتل المسلمين وسفك دماءهم ؛ كي يتأمّر عليهم ، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وغطرسته فقال : نحن الزمان ، مَنْ رفعناه ارتفع ، ومَنْ وضعناه اتّضع (٢).

وسار عمّاله وولاته على هذه الخطّة الغادرة ، فقد خاطب عتبة بن أبي سفيان المصريّين بقوله : فوالله لأقطعنّ بطون السّياط على ظهوركم.

وجاء في خطاب لخالد القسري في أهل مكة : فإنّي والله ما اُوتي لي بأحد يطعن على إمامه (يعني معاوية) إلاّ صلبته في الحرم (٣).

٤ ـ الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية :

عُرف معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد : كان معاوية أيام عثمان شديد التهتّك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً ؛ خوفاً منه ، إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضّة ، ويركب البغلات ذوات السّروج المحلاّت بها ـ أي بالذهب ـ وعليها جلال الديباج والوشي ...

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٧.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، والعقد الفريد ٢ / ١٥٩.

(٣) الأغاني ـ لأبي الفرج الأصفهاني ٢٢ / ٣٨٢ طبعة بيروت.


ونقل النّاس عنه في كتب السّيرة : أنّه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشّام (١).

وروي عن عبد الله بن بريدة قوله : دخلتُ أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفراش ، ثمّ اُوتينا بالطعام فأكلنا ، ثمّ اُوتينا بالشّراب فشرب معاوية! ثمّ ناول أبي فقال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وثمة روايات عديدة تحدّثت عن أكل معاوية للربا ، منها : أنّ معاوية باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن مثل هذا إلاّ مِثلاً بمثل. فقال معاوية : ما أرى به بأساً. فقال له أبو الدرداء : مَنْ يُعذرُني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا اُساكنك بأرض أنت بها. ثمّ قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطّاب فذكر له ذلك ، فكتب عمر إلى معاوية : أن لا تبع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ووزناً بوزن (٣).

ومن مظاهر استخفاف معاوية بالقيم الإسلاميّة استلحاقه زياد بن عبيد الرومي وإلصاقه بنسبه من دون بيّنة شرعيّة ، وإنّما اعتمد على شهادة أبي مريم الخمّار وهو ممّا لا يثبت به نسب شرعي ، وقد خالف بذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٤).

٥ ـ إظهار الحقد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والعداء لأهل بيته عليهم‌السلام :

حقد معاوية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد مكث في أيام خلافته أربعين جمعةً لا يُصلّي عليه ، وسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال : «لا يمنعني عن ذكره إلاّ أن

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٤٧.

(٣) سنن النسائي ٧ / ٢٧٩.

(٤) راجع قصة الاستلحاق وأسبابها وآثارها في (حياة الإمام الحسن بن علي) ٢ / ١٧٤ ـ ١٩٠.


تشمخ رجال بآنافها» (١). وسمع المؤذّن يقول : «أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ...» ، واندفع يقول : «لله أبوك يابن عبد الله! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين» (٢).

وسخّر معاوية جميع أجهزته للحطّ من قيمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم وديعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى استخدم أخطر الوسائل في محاربتهم وإقصائهم عن واقع الحياة الإسلاميّة ، وكان من بين ما استخدمه في ذلك :

١ ـ تسخير الوعّاظ ليحوّلوا القلوب عن أهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ افتعال الأخبار على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للحطّ من قيمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد استفاد من أبي هريرة الدوسي ، وسمرة بن جندب ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، حيث اختلقوا مئات الأحاديث على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ استخدم معاوية معاهد التعليم وأجهزة الكتاتيب ؛ لتغذية النَشْء ببغض أهل البيت عليهم‌السلام وخلق جيل معاد لهم.

وتمادى معاوية في عدائه لأمير المؤمنين عليه‌السلام فأعلن سبّه ولعنه في نواديه العامّة والخاصّة ، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين النّاس ، وسرى سبّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وقد خطب معاوية في أهل الشّام فقال لهم : أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة ـ يعني الشّام ـ فإنّ فيها الأبدال ، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب (٣).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٥١ ، عن النصائح الكافية / ٩٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١٠ / ١٠١.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٦٠ ، وشرح نهج البلاغة ٣ / ٣٦١.


٦ ـ العنف مع شيعة أهل البيت عليهم‌السلام :

اضطُهدت الشّيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً ، ومورس معهم أشدُّ أنواع القمع والقهر. وقد وصف الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام الإرهاب الاُموي بقوله عليه‌السلام : «وقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان مَنْ يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدمت داره» (١).

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكّرة والواعية من الشّيعة ، وقد ساق أفواجاً منهم إلى ساحات الإعدام ، من قبيل : حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وأوفى بن حصن.

ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال الشّيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم ، فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ ، مثل : الزرقاء بنت عدي ، وسودة بنت عمارة ، واُمّ الخير البارقيّة.

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشّيعة ، ومحو أسمائهم من الديوان ، وقطع عطائهم ورزقهم ، كذلك عهد إلى عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره ؛ مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إنّ انحرافات معاوية وجرائمه لا يمكن استيعابها في هذه الإشارات السّريعة ، وهي تتطلّب كتاباً خاصّاً بها لكثرتها وسعتها ، ولقد كنّا نرمي في الدرجة الاُولى من هذه الإشارات إلى التمهيد للتطرّق إلى ذِكر جريمته الكبرى التي أدّت بالإمام الحسين عليه‌السلام إلى إعلان ثورته. هذه الجريمة التي تمثّلت في فرض ابنه يزيد الفاسق وليّاً للعهد.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٥ ، والطبقات الكبرى ٥ / ٩٥.


٧ ـ فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر :

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلاميّة ، وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسّيطرة على زمام السّلطة فإنّه ـ رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه ـ لم يجترئ على تحدّي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه ؛ إذ كان يستغلّ المظاهر الإسلاميّة لإحكام القبضة ، ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الاُمّة الإسلاميّة ؛ ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط ، لأنّه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكنّ تحميله ليزيد الفاجر ، المعلن بفسقه على الاُمّة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلاميّة ، واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين ؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلاميّة ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة ، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة ، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلاميّة وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض ، لولا ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام سبط الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحافظ لدين جدّه من الضّياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة لا بدّ أن نعرف أوّلاً مَنْ هو يزيد؟ وما هو السّبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام ، وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهليّة التي ناهضها الإسلام؟


البحث الثاني : من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسين عليه‌السلام من ذلك لا بدّ وأن نعرف مَنْ هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين ، وما هو رأي الإسلام في البيت الاُموي بصورة عامّة.

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الاُمويّين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم ، وأنّهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه ، وإعادة مظاهر الجاهليّة بكلّ أشكالها باُسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبيّ محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه ، وإبرازه على غير واقعه ، وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية ـ الذي وقف الإمام الحسين عليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد ـ كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون ، مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار ، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك (١).

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤١.


ولادة يزيد ونشأته وصفاته :

ولد يزيد سنة (٢٥ أو ٢٦ هـ) (١) ، واُمّه ميسون بنت بجدل الكلبية ، وقد ذكر المؤرّخون أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها ، فحملت بيزيد (لعنه الله) ، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله :

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحيِّ

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ

بأرض الطفّ أولادَ النبيِّ

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ، ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية ؛ لأنّه من عبد بجدل الكلبي (٢).

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة : فقد وصفه ابن كثير ـ في بدايته ـ بأنّه كان كثير اللحم ، عظيم الجسم ، وكثير الشعر مجدوراً (٣).

أمّا صفاته النفسية : فقد ورث صفات الغدر والنّفاق ، والطيش والاستهتار من سلفه ، حتّى قال المؤرّخون : وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه ، (إن كان من معاوية طبعاً) ، ولكنّه ليس داهيةً مثله. كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب إليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها ، وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك ، لقد كانوا من حثالة المجتمع (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢.

(٤) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨١ ـ ١٨٢.


وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حدّ بعيد ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد :

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد ، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه. قال المؤرّخون : كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد ، لاهياً به ، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب ، والجلال المنسوجة منه ، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه (١).

شغفه بالقرود :

وكان يزيد ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ولعاً بالقرود ، وكان له قرد يجعله بين يديه ويُكنّيه بأبي قيس ، ويسقيه فضل كأسه ، ويقول : هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السّباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل فسُرّ بذلك ، وجعل يقول :

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتْ خيلَ الجماعة كلّها

وخيلَ أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السّباق فطرحته الريح فمات ، فحزن عليه حزناً شديداً ، وأمر بتكفينه ودفنه ، كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم ، وأنشأ راثياً له :

كم من كرام وقوم ذوو محافظةٍ

جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

__________________

(١) راجع الفخري ـ لابن الطقطقي / ٤٥ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٣٠ ، وتاريخ الطبري ٤ / ٣٦٨ ، والبداية والنهاية ٨ / ٢٣٦ ـ ٢٣٩.


شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمالٌ وفيه لحية التيسِ (١)

وذاع بين النّاس هيامه وشغفه بالقرود حتّى لقّبوه بها ، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له :

يزيد صديق القرد ملّ جوارَنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيدُ

فتبّاً لمَنْ أمسى علينا خليفةً

صحابتُه الأدنون منه قرودُ (٢)

إدمانه على الخمر :

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتّى أسرف في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ ، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السُكر ، ومن شعره في الخمر :

أقول لصحبٍ ضمّت الخمرُ شملهمْ

وداعي صبابات الهوى يترنّمُ

خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذّةٍ

فكلّ وإن طال المدى يتصرّمُ (٣)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة ـ الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشّام في أعقاب استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ـ وصفه ليزيد بقوله : والله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء ؛ إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصّلاة. والله ، لو لم يكن معي أحد من النّاس لأبليت لله بلاءً حسناً (٤).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٢ ، نقلاً عن جواهر المطالب / ١٤٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ / ٢.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٣ ، نقلاً عن تأريخ المظفّري.

(٤) تأريخ ابن عساكر ٧ / ٣٧٢ ، وتأريخ الخلفاء ـ للسيوطي / ٨١.


وقال أعضاء الوفد : قدمنا من عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويلعب بالكلاب (١).

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه : والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة (٢).

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله : والله ، رأيت يزيد بن معاوية يترك الصّلاة مسكراً ... (٣).

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية :

شميسة كرم برجها قعر دنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

إذا اُنزلت من دنِّها في زجاجةٍ

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمدٍ

فخذها على دين المسيح بن مريمِ(٤)

وعنه قال المسعودي : وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب ، وقرود وفهود ومنادمة على الشّراب ، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد ، وذلك بعد قتل الحسين ، فأقبل على ساقيه فقال :

اسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنّوا. وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق ، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة ، واستُعملت الملاهي ، وأظهر النّاس شرب الشّراب (٥).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٢١٦ ، الكامل لابن الأثير ٤ / ٤٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تتمة المنتهى / ٤٣.

(٥) مروج الذهب ٢ / ٩٤.


ويؤكّد في مكان آخر : وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير (١).

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشّراب والغناء ، «وفي طليعة ندمائه الأخطل الشّاعر المسيحي الخليع ، فكانا يشربان ويسمعان الغناء ، وإذا أراد السّفر صحبه معه ، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه ، فكان يدخل عليه بغير استئذان ، وعليه جبّة خزّ ، وفي عنقه سلسلة ذهب ، والخمر يقطر من لحيته» (٢).

إنّ مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامّة الصّحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة ، حتّى أنّه لم يبالِ بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرّسول وريحانته أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وهو متسلّط ـ بالقهر ـ على رقاب المسلمين باسم الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلحاد يزيد وحقده على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له ؛ لأنّه وتره باُسرته يوم بدر ، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً ، فقد استوفى ثأره من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتمنّى حضور أشياخه ؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم ، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٩٤.

(٢) الأغاني ـ لأبي الفرج الأصفهاني ٧ / ١٧٠.


لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشلْ

قد قتلنا القرمَ من أشياخهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشمُ بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

لستُ من خندف إنْ لم أنتقمْ

من بني أحمد ما كان فعلْ (١)

بل إنّ يزيدَ جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة ؛ فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه ، وردّ فيها البيت الآتي :

ادع إلهك في السّماء فإنّني

أدعو عليك رجال عكٍّ وأشعرا (٢)

جرائم حكم يزيد :

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً ، بحيث لم تسوّد تأريخ الاُمويّين إلى الأبد فحسب ، وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك.

ومن هذه الجرائم :

١ ـ انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السّبط عليه‌السلام ، ومَنْ معه من اُسرته وأصحابه ، وسبي نسائه وأطفاله ، وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (٦١ هـ) وهم ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وملايين المسلمين تقدّسهم ، وتذكر فيهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

٢ ـ إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشّام ؛ لأنّهم استعظموا قتل الإمام

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٧ ، نقلاً عن البداية والنهاية ٨ / ١٩٢.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٩٥.


الحسين عليه‌السلام وأنكروه عليه.

٣ ـ إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة ، وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة :

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النّصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه ، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع ، وقالوا : إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصّة ، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي كما اتّفق على ذلك المؤرّخون (١).

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصّلة الوثيقة وتعلّقه الشّديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصّبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصّبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أنّ العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام ؛ كالوفاء وحسن الجوار ، والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم ، ولم يُعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وإنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه ، والذين ولِدوا في البادية على النّصرانية طيلة

__________________

(١) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٤٢ ، وراجع أيضاً حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ١٨٠ عن المناقب ـ للقاضي نعمان المصري / ٧١ ، وسمو المعنى في سموّ الذات ـ العلائلي / ٥٩.


حياتهم قبل الفتح الإسلامي ، وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلا بدّ إذن من القول : بأنّ لذلك الانحراف الشّديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى ، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى ، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كلّ مواقف الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ باعتباره القائد الرسالي ، الحريص على مصالح الرسالة والاُمّة الإسلاميّة ، وندرس تخطيطه الرسالي ؛ للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.


الفصل الثاني

مواقف الإمام الحسين عليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل : موقفه عليه‌السلام من البيعة ليزيد

١ ـ دعوة انتهازية وخطّة شيطانية :

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ، ومعلنةً عن انتصارها دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ، ونزعة الثأر من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام تكمن في صدريهما ، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يطل العهد حتّى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان ، وهو يخاطب عثمان بقوله : صارت إليك بعد تيمٍ وعديّ فأدرها كالكرة ؛ فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار (١).

وخاطب أبو سفيان بني اُميّة ثانيةً : يا بني اُميّة ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم ، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة (٢).

وحين أطلّ معاوية من نافذة السّقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

__________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٦٩٠.

(٢) مروج الذهب ١ / ٤٤٠ ، تأريخ ابن عساكر ٦ / ٤٠٧.


الانحراف واتّضحت خطورته ؛ فإنّه قد لاحظ أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظّروف بإعادة صرح الجاهليّة من جديد ، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

كما إنّ الانحراف السّياسي الذي ولّدته السّقيفة وتربّت عليه فئات من الاُمّة استثمره معاوية أيّما استثمار ، فقد احتجّ على النّاس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ ، أو أمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه خالف سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ جعل عمر خليفةً من بعده ، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الاُمّة ومصير الرسالة الإسلاميّة تكون اُلعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء ؛ من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد (٢) من بعده.

وقد خلت السّاحة السّياسية للزمرة الاُمويّة بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الاُمّة ، وموظّفاً كلّ الطّاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليّ عليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسن عليه‌السلام ، واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسن عليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه ، وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه ، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني اُميّة باستخلاف يزيد من بعده وفي الاُمّة مَنْ هو صاحب الخلافة الشّرعية وهو الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده أخوه الإمام الحسين عليه‌السلام الذي كان على الاُمّة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسن عليه‌السلام.

يُضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٣ ، وشرح النهج ٢ / ٣٥٧.

(٢) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٩.


فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الاُمّة ، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد ؛ من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السّبط عليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة اُولى ، ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة ـ الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة ـ علم بأنّ معاوية ينوي عزله ، فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الاُمّة الإسلاميّة ، وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك ؛ إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ، ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها (١) ، فسأله مخادعاً : ومَنْ لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة : أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة ، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة ، وهو يقول : لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد (٢).

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة ؛ ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الاُمّة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف اُخرى من بني اُميّة ، فمدّ كلّ من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك (٣).

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩ ، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٥ ، والإمامة والسّياسة ٢ / ٢٦٢.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٤٩.

(٣) وفيات الأعيان ٥ / ٣٨٩ ، والإمامة والسّياسة ١ / ١٨٢ ، وتأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٦.


وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد ؛ وذلك ليتّخذ إجراءات اُخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

٢ ـ أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد :

لمس معاوية رفض العائلة الاُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده ، فكيف بصاحب الحقّ الشّرعي الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل اُخرى تتراوح بين مخادعة الاُمّة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد ، ومن تلك السبل :

أ ـ استخدام الشّعراء لإسباغ فضائل على يزيد ، ولبيان مقدرته وإشاعة أمره ؛ لكي تخضع الاُمّة لولايته (١) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب ـ بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد ، لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية (٢).

ج ـ استقدام وفود من وجهاء الأنصار (٣) ومناقشة قضية يزيد معهم ؛ لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم ، ومعرفة نقاط الضّعف لكي ينفذ منها إليهم.

د ـ إيقاع الخلاف بين عناصر بني اُميّة الطّامعين في الحكم ؛ كي يضعف منافستهم ليزيد ، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً (٤).

هـ ـ اغتيال الشّخصيات الإسلاميّة البارزة ، والتي كانت تحظى باحترام

__________________

(١) الأغاني ٨ / ٧١ ، وشعراء النصرانية بعد الإسلام ـ للويس شيخو اليسوعي / ٢٣٤.

(٢ و٣) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٠.

(٤) تأريخ الطبري ٤ / ١٨.


كبير في نفوس الجماهير ، فاغتال الإمام الحسن عليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمن بن خالد ، وعبد الرحمن بن أبي بكر (١).

و ـ استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم ؛ للضغط عليهم وإضعاف دورهم ، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة (٢) ؛ إذ وقفوا مع الإمام الحسين عليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

٣ ـ محاولات الإمام الحسين عليه‌السلام لإيقاظ الاُمّة :

لم يخلد الإمام الحسين عليه‌السلام إلى السّكون والخمول حتّى عند إقراره الصّلح مع معاوية ، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشّريعة والاُمّة الإسلاميّة ، وبصفته وريث النبوّة ـ بعد أخيه الإمام الحسن عليه‌السلام ـ مراعياً ظروف الاُمّة ، وساعياً إلى المحافظة عليها.

وقد عمل الإمام عليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار التام ، فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن.

وإليك جملة من هذه المواقف :

١ ـ مواجهة معاوية وبيعةِ يزيد.

٢ ـ محاولة جمع كلمة الاُمّة.

٣ ـ فضح جرائم معاوية.

٤ ـ استعادة حقّ مضيّع.

٥ ـ تذكير الاُمّة بمسؤوليّاتها.

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ٢٩ ، وتأريخ الطبري ٥ / ٢٥٣ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٣٥٢.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٥٢ ، والإمامة والسّياسة ١ / ٢٠٠.


مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد :

أعلن الإمام الحسين عليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب ؛ فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس ، فأشاد بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه ، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ، ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمام عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

«أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصّفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبحُ فحمةَ الدُّجى ، وبهرت الشمسُ أنوار السّرج ، ولقد فضّلت حتّى أفرطت ، واستأثرت حتّى أجحفت ، ومنعت حتّى بخلت ، وجُرت حتّى تجاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب حتّى أخذ الشّيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله ، وسياسته لاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم النّاس في يزيد ، كأنّك تصفُ محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استفرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السّبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأتَ الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص، ورأيتك


عرّضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ، ولعمر الله لقد أورثنا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة ، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأذْعنَ للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ؛ فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون حتّى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له ، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرّسول وببعثه له ، وما صار لعمرو يومئذ حتّى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرّسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته ، ويُعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تُلبس النّاس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمام عليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟ فقال ابن عباس : لعمر الله! إنّها لذرّية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِنَ البيت المطهّر ، فاسأله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في النّاس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين (١).

وقد اتّسم موقف الإمام الحسين عليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصّرامة ، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.


محاولة جمع كلمة الاُمّة والاستجابة لحركة الجماهير :

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به ؛ نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها ، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد ، ونقلت العيون في يثرب إلى السّلطة المحلّية أنباء تجمّع النّاس واختلافهم إلى الإمام عليه‌السلام ، وكان الوالي مروان بن الحكم ؛ ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جدّاً ، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها : أمّا بعد ، فقد كثر اختلاف النّاس إلى الحسين. والله ، إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً (١).

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ فكتب إليه رسالةً جاء فيها : أمّا بعد ، فقد اُنهيت إليّ عنك اُمور ، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها ، وإن كانت باطلة فأنت أسعد النّاس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الاُمّة ، وأن تردّهم في فتنة (٢).

فضح جرائم معاوية :

كتب الإمام عليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته ، يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الاُمّة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية ، وهذا نصّها : «أمّا بعد ، بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٢٣.

(٢) المصدر السابق : ٢ / ٢٢٤.


ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أنّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون ، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم؟! قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة ؛ جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟! فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَ لستَ بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمَت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولدُ للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

أوَ لستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ (كرّم الله وجهه) ، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين عليّ. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء ، ورحلة الصّيف؟!

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة


وأن تردّهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني ، وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري ، ما وفيتَ بشرط ، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا ، وتعظيمهم حقَّنا ، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر

صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التُّهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك النّاس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغَشَشْتَ رعيّتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقيّ» (١).

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السّلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع :

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة ؛ لتدعيم ملكه ، كما كان يهب

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٣٥ عن الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤ ، والدرجات الرفيعة / ٣٣٤ ، وراجع الغدير ١٠ / ١٦١.


الأموال الطائلة لبني اُميّة ؛ لتقوية مركزهم السّياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحسين عليه‌السلام يشجب هذه السّياسة ، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي ، ولا يقوم إلاّ على القمع والتزييف والإغراء.

وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام عليه‌السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين ، وكتب إلى معاوية : «من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ؛ لتودعها خزائن دمشق ، وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها. والسّلام» (١).

فأجاب معاوية : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ. سلام عليك. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ ؛ لأودعها خزائن دمشق ، وأعُلّ بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منه. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتّى صار إليّ لم أبخسك حظّك منه ، ولكنّي قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوةً ، وبودّي أن يكون ذلك في زماني ، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلي بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة (٢).

إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام دلّل بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشّرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين ، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشّرعي ، والحاكم الشّرعي هو الإمام الحسين عليه‌السلام نفسه الذي ينفق أموال بيت

__________________

(١) نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧ ، الطبعة الاُولى ، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٤ / ٣٢٧ ، وناسخ التواريخ ١ / ١٩٥.


المال وفق المعايير الإسلاميّة. وقد أكّد عليه‌السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسميّاً بخلافة معاوية ؛ إذ لم يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون ؛ ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على موقف الإمام عليه‌السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي المسلمين ، ولكنّه فشل في محاولته تلك ، فقد بات موقف الإمام الحسين عليه‌السلام معياراً إسلامياً ، وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على مدى التأريخ ، في حين لم يعرِ المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ، ولم يعتبروه سوى أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام.

لقد كان موقف الإمام عليه‌السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية ، والمطالبة بسيادة الحقّ والعدل الإلهي.

تذكير الاُمّة بمسؤوليّتها :

عقد الإمام عليه‌السلام في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين ، فانبرى عليه‌السلام خطيباً فيهم ، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم ، وستر ما اُثر عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم ، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر ، ونصّ خطاب الإمام عليه‌السلام ، حيث قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومَنْ حجّ من الأنصار ممّن


يعرفهم الحسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رُسلاً ، وقال لهم : «لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصّلاح والنّسك إلاّ اجمعوهم لي».

فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم من التابعين ، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدّقوني ، وإن كذبتُ فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ؛ فمَنْ أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون ؛ فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

قال الراوي : فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه واُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. وممّا ناشدهم عليه‌السلام أن قال :

«اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له ، وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثمّ سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه ، فتكلّم في ذلك مَنْ تكلّم ، فقال : ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه ، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله ، فولد لرسول الله وله فيه أولاد؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى


عليه ، ثمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا : اللّهمّ نعم، قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النّصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأتِ إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا : اللّهمّ نعم، قال : اُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر ، ثمّ قال : لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار ، يفتحها الله على يديه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة ، وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به ، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ ، إلاّ يقول يا أخي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى بينه وبين جعفر وزيد ، فقال : يا عليّ أنت منّي وأنا منك ، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّه كانت له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم خلوة ، وكلّ ليلة دخلة ، إذا سأله أعطاه ، وإذا سكت أبداه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة عليها‌السلام : زوّجتك خير أهل بيتي ؛ أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا سيّد ولد آدم ، وأخي عليّ سيّد العرب ، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجّنة ، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجّنة، قالوا : اللّهمّ نعم. قال :

أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله ، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا : اللّهمّ نعم. قال :


أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها : أيّها النّاس ، إنّي تركتُ فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ قالوا : اللّهمّ نعم.

فلم يدع صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصّة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللّهمّ نعم قد سمعناه ، ويقول التابعي : اللّهم قد حدّثنيه مَنْ أثق به فلان وفلان.

ثمّ ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول : مَنْ زعم أنّه يُحبّني ويُبغض عليّاً فقد كذب ، ليس يُحبّني وهو يُبغض عليّاً. فقال له قائل : يا رسول الله ، وكيف ذلك؟ قال : لأنّه منّي وأنا منه ؛ مَنْ أحبّه فقد أحبّني ، ومَنْ أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَنْ أبغضه فقد أبغضني ، ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله؟ فقالوا : اللّهمّ نعم ، قد سمعناه. وتفرّقوا على ذلك (١).

موت معاوية :

لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة (٢).

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن ، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه ـ في أثناء وفاته ـ برحلات الصيد ، وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان (٣).

__________________

(١) كتاب سُليم بن قيس / ٣٢٣ ، تحقيق محمّد باقر الأنصاري.

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٥٤.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠.


البحث الثاني : حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين عليه‌السلام

بدايات النهضة :

ذكرنا أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان ـ والتي نقلنا صوراً عديدةً منها ـ رفض التحرّك لخلع معاوية ؛ التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسين عليه‌السلام ، فقالوا : لمّا مات الحسن عليه‌السلام تحرّكت الشّيعة بالعراق ، وكتبوا إلى الحسين عليه‌السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ، فإذا مات معاوية نظر في ذلك (١).

من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسين عليه‌السلام أنّه في حلّ من أيّ التزام ، ومن ثمّ فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق ؛ لذلك كان الإمام الحسين عليه‌السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.

رسالة يزيد إلى حاكم المدينة :

قال المؤرّخون : إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية ـ أن يأخذ على الحسين عليه‌السلام بالبيعة له ، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك (٢). وذكرت مصادر

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٢.

(٢) المصدر السابق.


تأريخية اُخرى أنّه جاء في الرسالة : إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما ، وخذ النّاس بالبيعة ، فمَنْ امتنع فأنفذ فيه الحكم (١).

الوليد يستشير مروان بن الحكم :

حار الوليد في أمره ؛ إذ يعرف أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لا يُبايع ليزيد مهما كانت النتائج ، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الاُسرة الاُموية فبعث إليه ، فأشار مروان على الوليد قائلاً له : ابعث إليهم (٢) في هذه السّاعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر ؛ فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً ، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ، ولا يرى له عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم اُراجع الحسين بكلمة واحدة حتّى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان (٣).

وعظم ذلك على الوليد ، وهو أكثر بني اُميّة حنكةً ، فقال لمروان : يا ليت الوليد لم يولد ، ولم يك شيئاً مذكوراً (٤).

فسخر منه مروان وراح يندّد به ، قائلاً : لا تجزع ممّا قلتُ لك ؛ فإنّ

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥.

(٢) المقصود هنا الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم جميعاً ، مثل تأريخ الطبري ٦ / ٨٤.

(٣) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥.

(٤) المصدر السابق ٢ / ٢٥١.


آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر (١). ونهره الوليد فقال له : ويحك يا مروان! اعزب عن كلامك هذا ، وأحسن القول في ابن فاطمة ؛ فإنّه بقيّة النبوّة (٢).

واتّفق رأيهما على استدعاء الإمام عليه‌السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السّلطة.

الإمام عليه‌السلام في مجلس الوليد :

أرسل الوليد إلى الحسين عليه‌السلام يدعوه إليه ليلاً ، فجاءه الرّسول وهو في المسجد ، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين النّاس ، وجال في خاطر الحسين عليه‌السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ، ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشّام ، فاستدعى الحسين عليه‌السلام مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه ، وأضاف : «إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه» (٣).

وقال الإمام عليه‌السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السّلاح : «كونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه» (٤).

ودخل الإمام عليه‌السلام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة ، فقال عليه‌السلام : «الصلةُ خير من القطيعة ، والصلح خير من الفساد ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما» (٥). ثمّ نعى إليه الوليد معاوية ، فاسترجع الإمام الحسين عليه‌السلام ،

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) إعلام الورى ١ / ٤٣٤ ، وروضة الواعظين / ١٧١ ، ومقتل أبي مخنف / ٢٧ ، وتذكرة الخواص / ٢١٣.

(٤) الإرشاد ٢ / ٣٣.

(٥) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢ / ٢٥٤.


ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له. فقال الحسين عليه‌السلام : «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً».

فقال الوليد : أجل، فقال الحسين عليه‌السلام : «فتصبح وترى رأيك في ذلك»، فقال له الوليد : انصرف على اسم الله تعالى حتّى تأتينا مع جماعة النّاس. فقال له مروان : والله لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عليه‌السلام عند ذلك وقال : «أنت يابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت». وخرج يمشي ومعه مواليه حتّى أتى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني! لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد : ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ، ما اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال : لا اُبايع؟ والله ، إنّي لأظنّ امرأً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة (١).

وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمام عليه‌السلام وبين مروان حتّى أعلن عليه‌السلام رأيه لمروان بصراحة ، قائلاً : «إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة» (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٤٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٥.


الإمام عليه‌السلام مع مروان :

والتقى الإمام الحسين عليه‌السلام في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد ، فبادره مروان قائلاً : إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد.

فقال الإمام عليه‌السلام : «وما ذاك يا مروان؟».

قال مروان : إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك.

فردّ عليه الإمام عليه‌السلام ببليغ منطقه ، قائلاً : «على الإسلام السّلام إذ قد بليت الاُمّة براع مثل يزيد! ... سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله ، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به» (١).

حركة الإمام عليه‌السلام في الليلة الثانية :

ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أقام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة ، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم ، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة ، فلمّا أصبح الوليد سرّح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني اُميّة في ثمانين راكباً ، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا ، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسين عليه‌السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية ، فقال لهم الحسين عليه‌السلام : «اصبحوا ثمّ ترون ونرى». فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.

__________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ١٧ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٤.


فخرج عليه‌السلام من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ـ متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجلّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة (رحمة الله عليه) فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه ، فقال له : يا أخي أنت أحبّ النّاس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها ، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثمّ ابعث رسلك إلى النّاس فادعهم إلى نفسك ، فإن بايعك النّاس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك ، وإن اجتمع النّاس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك ، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم ، فمنهم طائفة معك واُخرى عليك ، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً ، فإذا خير هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسين عليه‌السلام : فأين أذهب يا أخي؟ قال : انزل مكة ، فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك ، وإن (نَبَتَ بك) (١) لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر النّاس إليه ؛ فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال الإمام عليه‌السلام : «يا أخي ، قد نصحتَ وأشفقتَ ، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً» (٢). فسار الحسين عليه‌السلام إلى مكة وهو يقرأ : (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣).

__________________

(١) أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب ١٥ / ٣٠٢ مادة نبأ.

(٢) الإرشاد ٢ / ٣٥.

(٣) سورة القصص / ٢١.


وصايا الإمام الحسين عليه‌السلام

لقد كتب الإمام عليه‌السلام قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا ، منها : وصية لأخيه هذا نصّها : «هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمّد بن الحنفيّة ، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده ، وأنّ الجّنة حق والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور ، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين» (١).

ومنها : وصيّته لاُم المؤمنين اُمّ سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة رضي‌الله‌عنها فقالت : يا بُني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ؛ فإنّي سمعت جدّك يقول : «يُقتل ولدي الحسين عليه‌السلام بأرض العراق في أرض يُقال لها : كربلا». فقال لها : «يا اُماه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدّ ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه ، وأعرف مَنْ يقتلني ، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها ، وإنّي أعرف مَنْ يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشار إلى جهة كربلاء ، فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٥٦.


وسلّمت أمره إلى الله.

فقال لها : «يا اُمّاه ، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً».

وفي رواية اُخرى : قالت اُمّ سلمة : وعندي تربة دفعها إليَّ جدّك في قارورة ، فقال : «والله إنّي مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً». ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها ، وقال : «اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت» (١).

وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن الفضيل بن يسار قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «لمّا توجه الحسين عليه‌السلام إلى العراق ، ودفع إلى اُمّ سلمة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الوصية والكتب وغير ذلك قال لها : إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك. فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام أتى عليّ بن الحسين عليه‌السلام اُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين عليه‌السلام» (٢).

وروى عليّ بن يونس العاملي في كتاب الصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسين عليه‌السلام في حديث ، ثمّ قال : وكتب الحسين عليه‌السلام وصيّته وأودعها اُمّ سلمة ، وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام ، فطلبها الإمام زين العابدين عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣١ ، والعوالم ١٧ / ١٨٠ ، وينابيع المودّة / ٤٠٥ ... إلى قوله : بكت اُمّ سلمة بكاءً شديداً.

(٢) الغيبة ـ للطوسي / ١١٨ ح ١٤٨ ، وإثبات الهداة ٥ / ٢١٤.

(٣) إثبات الهداة ٥ / ٢١٦ ح ٨.


توجّه الإمام إلى مكة

قال المؤرّخون : إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير ؛ كي لا يلحقك الطلب. فقال : «لا والله ، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» (١). ولمّا دخل الإمام الحسين عليه‌السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، دخلها وهو يقرأ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (٢).

ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومَنْ كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين عليه‌السلام فيمَنْ يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير ، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه‌السلام في البلد ، وأنّ الحسين عليه‌السلام أطوع في النّاس منه وأجلّ (٣).

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٤ ، وينابيع المودّة / ٤٠٢ ، الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ٣٥.

(٢) سورة القصص / ٢٢.

(٣) الإرشاد ٢ / ٣٦ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٢.


البحث الثالث : أسباب ودوافع الثورة

إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن ، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة ، مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية ، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السّامية ، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلاميّة بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين ، وأثارت في الاُمّة الإسلاميّة الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.

إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينيّة هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائر عليه‌السلام وكذا آثار الثورة ، إلى جانب معرفتنا بشخصيّته عليه‌السلام ، فها هو الحسين عليه‌السلام يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ، ولم يسمح له بتغيير مساره قائلاً :

«أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ مَنْ غَيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي


مع أهليكم ، فلكم فيّ أُسوة» (١).

وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان ، والإصرار على محاربة الإمام عليه‌السلام وطاعة يزيد الفاسق ، قال عليه‌السلام : «فسحقاً لكم يا عبيد الأمة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونَبَذَة الكتاب ، ونفثة الشّيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السُّنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيدي عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنّسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون!».

ثمّ قال عليه‌السلام : «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، واُنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ...» (٢).

من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام كما يلي :

١ ـ فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة

لم يعد في مقدور الإمام الحسين عليه‌السلام أن يتوقّف عن الحركة ؛ وهو يرى الانحراف الشّامل في زعامة الاُمّة الإسلاميّة ، فإذا كانت السّقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشّرعي وهو الإمام عليّ عليه‌السلام ، وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة ، وحرمة تفريق كلمة الاُمّة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم ، فقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم ، وقد شهد الإمام الحسين عليه‌السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.

ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ

__________________

(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٠٤ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٨٠.

(٢) أعيان الشّيعة ١ / ٦٠٣.


اُسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلاً لتمرير مخطّطاته ، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف ؛ إذ بعد موت معاوية لم يبقَ أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر الإمام المعصوم ، وصاحب الحقّ الشّرعي ـ الحسين عليه‌السلام ـ فلم يعد في الإمكان ـ ولو نظرياً ـ القبول بصلاحيّة يزيد وبني اُميّة للحكم.

على أنّ نتائج انحراف السّقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين ، فقد قال الإمام عليه‌السلام : «أيّها النّاس ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً ، مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».

وقد كان يزيد يتّصف بكلّ ما حذّر منه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان الحسين عليه‌السلام وهو الوريث للنبيّ ، وحامل مشعل الرسالة أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.

٢ ـ مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة

كان الإمام الحسين عليه‌السلام يمثّل القائد الرسالي الشّرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السّامية.

وبحكم مركزه الاجتماعي ـ حيث إنّه هو سبط الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووريثه ـ فإنّه مسؤول عن هذه الاُمّة ، وقد وقف عليه‌السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الاُمور بطريقة سلمية ، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته (١) ، ونبّه الاُمّة إلى مسؤولياتها ودورها (٢) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الاُمّة على رفض الظلم (٣) ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٨٤.

(٢) كتاب سُليم بن قيس / ١٦٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢٧.


وحاول جمع كلمة الاُمّة في وجه الظالمين (١).

ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الاُمّة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره وعطائه ؛ لينهض بالاُمّة لتغيير واقعها الفاسد.

٣ ـ الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة

لم يكن بوسع الإمام الحسين عليه‌السلام أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية ، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام اُمورها والنهوض بها ، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم ، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين عليه‌السلام بمثابة الغطاء السّياسي الذي يُعطي الصّفة الشّرعية لحركته ، فلم تكن حركته بوازع ذاتي ، ولا مطمع شخصي ، لاسيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.

٤ ـ محاولة إرغامه عليه‌السلام على الذلّ والمساومة

لقد كان الإمام الحسين عليه‌السلام يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة ، ففاضت إباءً وعزّةً وكرامةً ، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشّريرة ونفسيات أزلامه ، فأرادوا من الإمام الحسين عليه‌السلام أن يعيش ذليلاً في ظلّ حكم فاسد ، وقد صرّح عليه‌السلام قائلاً : «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، ونفوس أبيّة ، واُنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وفي موقف آخر قال عليه‌السلام : «لا أرى الموت إلاّ سعادةً ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً».

__________________

(١) أنساب الأشراف ق ١ ج ١ ، وتأريخ ابن كثير ٨ / ١٦٢.


بهذه الصّورة الرائعة سنّ الإمام الحسين عليه‌السلام سنّة الإباء لكلّ مَنْ يدين بقيم السّماء وينتمي إليها ويدافع عنها ، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.

٥ ـ نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين عليه‌السلام

استشفّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك السّاحة السّياسية ، والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الاُمّة ـ نوايا الغدر والحقد الاُموي على الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام ، وتجارب السنين الاُولى من الدعوة الإسلاميّة ، ثمّ ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام علي عليه‌السلام ومن بعده مع الإمام الحسن عليه‌السلام.

وأيقن الحسين عليه‌السلام أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتّى لو سالمهم ، فقد كان يمثّل بقيّة النبوّة ، والشّخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلاميّة في نهجها الحقيقي وطريقها الصّحيح.

ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه ، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة :

لستُ من خندف إن لم انتقمْ

من بني أحمدَ ما كان فعلْ

وقد أعلن الإمام الحسين عليه‌السلام أنّ بني اُميّة لا يتركونه بحال من الأحوال ، فقد صرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة قائلاً : «لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني».

وقال عليه‌السلام لجعفر بن سليمان الضّبعي : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة ـ يعني قلبه الشّريف ـ من جوفي».


فتحرّك الإمام عليه‌السلام من مكة مبكّراً ؛ ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته ، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الاُمّة آنذاك ، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الاُمويّون للغدر به ، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.

٦ ـ انتشار الظلم وفقدان الأمن

قام الحكم الاُموي على أساس الظلم والقهر والعدوان ، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين وإمام الاُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للاُمّة ، فقد سفك الدماء الكثيرة ، واستعمل شرار الخلق لإدارة الاُمور يوم تفرّد بالحكم ، بل وقبل أن يتسلّط على الاُمّة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتّى قال النّاس في ولاية زياد بن أبيه : «انج سعد ، فقد هلك سعيد» ؛ للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد (١).

ومن جانب آخر أمعنت السّلطة الاُموية في احتقار فئات وقطاعات كبيرة من الاُمّة بنظرة استعلائية قبلية (٢) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين ، وبالأخص مَنْ عرف منه ولاء أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك ، فحنّطناهم وكفّناهم

__________________

(١) تأريخ الطبري ٦ / ٧٧ ، وتأريخ ابن عساكر ٣ / ٢٢٢ ، والاستيعاب ١ / ٦٠ ، وتأريخ ابن كثير ٧ / ٣١٩.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨ ، وطبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥ ، ونهاية الإرب ٦ / ٨٦.

(٣) شرح النهج ١١ / ٤٤ ، وتأريخ الطبري ٤ / ١٩٨.


وصلّينا عليهم ودفنّاهم (١). أمام هذه المظالم لم يقف الإمام الحسين عليه‌السلام مكتوف اليد ، فقد احتجّ على معاوية ثمّ ثار على ولده يزيد ؛ إذ لم ينفع النصح والاحتجاج لينقذ الاُمّة من الجور الهائل.

٧ ـ تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت عليهم‌السلام

اجتهد الحكم الاُموي أن يغيّر الصّورة الصّحيحة للرسالة الإسلاميّة ، والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم ، فقد عمد الاُمويّون إلى إشاعة الفرقة بين المسلمين ، والتمييز بين العرب وغيرهم ، وبثّ روح التناحر القبلي ، والعمل على تقريب قبيلة دون اُخرى من البلاط وفق المصالح الاُمويّة في الحكم.

وكان للمال دور مهمّ في إشاعة الروح الانتهازية والازدواج في الشّخصيّة والإقبال على اللهو (٢).

ولمّا كان لأهل البيت عليهم‌السلام الأثر الكبير في تجذير العقيدة الإسلاميّة ، ورعاية هموم الرسالة الإسلاميّة ؛ فقد عمد الاُمويّون ومنذ تفرّد معاوية بالحكم باُسلوب مبرمج إلى محو ذكر أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تكاملت هذه الخطوة في أواخر حكم معاوية ومحاولة استخلافه ليزيد (٣).

٨ ـ الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ عقيدة سامية ورسالة خاتمة لكل الرسالات كرسالة الإسلام لا يمكن أن يتركها قائدها الكبير ، ومبلّغها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو النبيّ المعصوم والمسدّد من السّماء دون تخطيط وعناية ، ودون قيّم يرعى شؤونها وأحوالها ، يخلص لها في قوله وعمله ، ويوجّهها نحو هدفها المنشود ، مستعيناً بدرايته وبعلمه الشّامل

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٦.

(٢) تأريخ الطبري ٨ / ٢٨٨ ، والأغاني ٤ / ١٢٠.

(٣) نهج البلاغة ٣ / ٥٩٥ و٤ / ٦١ وو ١١ / ٤٤.


بأحكامها ، ويفتديها بكلّ غال ونفيس من أجل أن تحيى وتبقى كلمة الله هي العليا. والمتتبّع لسيرة الرّسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم) يلمس بوضوح ترابط الأدوار التي قام بها المعصومون من آل النبيّ وتكاملها ، وهم مستسلمون لأمر الله ورسوله غاية التسليم.

وقد أدلى الإمام الحسين عليه‌السلام بذلك حينما أشار المشفقون عليه بعدم الخروج إلى العراق ، فقال عليه‌السلام : «أمرني رسول الله بأمر وأنا ماضٍ له» (١).

كما إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أخبر بمقتل الإمام الحسين عليه‌السلام بأيدي الظلمة الفاسقين حين ولادته حتّى بات ذلك من الاُمور المتيقّنة لدى المسلمين (٢).

أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام

إنّ أهداف الرجال العظام هي عظيمة في التأريخ ، وتزداد رفعةً وسموّاً حين تنبعث من عمق رسالة سامية. ونحن حين نقف أمام الحسين عليه‌السلام الذي يمثّل أعظم رجل في عصره وهو يحمل ميراث النبوّة ، وثقل الرسالة الخاتمة الخالدة مسدّداً بالتسديد الإلهي في القول والفعل ، وأمام سيرته لنبحث عن أهداف نهضته المقدّسة ـ التي فداها بنفسه وبأهل بيته وخيرة أصحابه ـ لا نجد من السّهل لنا أن نحيط علماً بكلّ ذلك ، لكنّنا نبحث بمقدار إدراكنا ووعينا للحدث وفق ما تتحمّله عقولنا طبعاً.

لقد تفانى الحسين عليه‌السلام في الله ومن أجل دينه ، فكانت أهدافه ـ التي

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٧٦ ، وتأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢١٨ ، والفتوح ٥ / ٧٤.

(٢) مستدرك الحاكم ٤ / ٣٩٨ و٣ / ١٧٦ ، وكنز العمال ٧ / ١٠٦ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٨٧ ، وذخائر العقبى / ١٤٨ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ١٥.


تمثّل رضى الله وطاعته ـ سامية جليلة ، كما إنّها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا أن نذكر بعض أهداف الإمام الحسين عليه‌السلام من ثورته كما يلي (١) :

١ ـ تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم

لقد أصابت الاُمّة حالة من الركود حتّى أنّها لم تعد تتحرّك لاتّخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم ، فالجميع يعرف مَنْ هو يزيد ، وبماذا يتّصف من رذائل الأخلاق ممّا تجعله غير لائق أبداً بأن يتزعّم الاُمّة الإسلاميّة.

في مثل هذا الظرف وقف الكثيرون حيارى يتردّدون في قرارهم ، فتحرّك الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ ليجسّد الموقف الرسالي الرافض للظلم والفساد ، في حركة قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء من أجل العقيدة الإسلاميّة ؛ لتتّخذ الاُمّة الموقف ذاته تجاه الظلم والعدوان.

٢ ـ فضح بني اُميّة وكشف حقيقتهم

إنّ الحكّام الذين تولّوا اُمور المسلمين ولم يكونوا معصومين ولا شرعيين كانوا يغطّون تصرّفاتهم بغطاء ذي مسحة شرعية عند الجماهير. وكان بنو اُميّة من أكثر الحكّام المستفيدين من هذا الاُسلوب الماكر ؛ إذ لم يتردّد معاوية في وضع الأحاديث المفتعلة لتدعيم حكمه ، بل سعى بكلّ وسيلة لتضليل الاُمّة ، وتمكّن من فعل ذلك مع عامّة النّاس.

وأصبح الأمر أكثر خطورة حين تولّى يزيد ولاية الحكم بطريقة لم يقرّها الإسلام ؛ ولهذا كان لا بدّ من فضح التّيار الاُموي وتصويره على حقيقته ، لتتّضح الصورة للعالم الإسلامي فيعي دوره ورسالته ، ويقوم بواجبه ووظيفته ،

__________________

(١) للمزيد من التفصيل راجع أضواء على ثورة الحسين عليه‌السلام ـ للسيّد محمّد الصدر / ٥٧.


فتحرّك الحسين عليه‌السلام بصفته الإمام المعصوم ؛ ليواجه زيف الحكم وضلالته. وفعلاً أسفر التّيار الاُموي عن مكنون حقده بارتكابه الجريمة البشعة في كربلاء بقتل خير النّاس وأصحابه وأهل بيته من الرجال والنساء والأطفال ، ثمّ أعقب ذلك بقصف الكعبة بالمنجنيق في واقعة الحرّة ، وإباحة المدينة ثلاثة أيام ؛ قتلاً ونهباً وسلباً واعتداءً على الأموال والنساء والأطفال بشكل بشع لم يسبق له مثيل (١).

وانتبه المسلمون إلى انحراف الفئة الحاكمة الضالّة وإلى فساد أعمالها ، وسعوا من خلال محاولات عديدة إلى تطهير الجهاز الحاكم المتوغّل في الظلم والطّغيان ، حتّى غدت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام اُنموذجاً يُحتذى به لمقارعة ومقاومة كلّ نظام يستشري فيه الفساد. وقد أفصح الإمام عليه‌السلام عن الصّفات التي يجب أن يتحلّى بها الحاكم بقوله : «فلعمري ، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله» (٢).

٣ ـ إحياء السنّة وإماتة البدعة

انحدرت الاُمّة الإسلاميّة في منحدر صعب يوم انحرفت الخلافة عن مسارها الشّرعي في يوم السّقيفة ؛ فإنّها قبلت بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها مَنْ يحتاج إلى المشورة والنّصيحة ، ويخطئ في حقّها ويعتذر ، فكانت النّتيجة بعد خمسين عاماً من غياب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتولّى أمرها رجل لا يتورّع عن محارم الله ، بل ويظهر الحقد على الإسلام والمسلمين ، فتعرّض الإسلام

__________________

(١) راجع الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٠١ ، والإمامة والسياسة ـ للدينوري ٢ / ١٩ ، مروج الذهب ٢ / ٨٤.

(٢) تأريخ الطبري ٦ / ١٩٧.


ـ عقيدةً وكياناً واُمّةً ـ للخطر الحقيقي ، والتشويه المقيت المغيّر لكلّ شيء ، على غرار ما حدث لبعض الرسالات السّماوية السّابقة.

في مثل هذا المنعطف الخطير وقف الإمام الحسين عليه‌السلام ومعه أهل بيته وأصحابه ، وأطلق صرخة قويّة ومدوّية محذّراً الاُمّة ، مفتدياً العقيدة والاُمّة بدمه الطاهر الزكي ، ومن قبل قال فيه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة». كما قال غير مرّة : «حسين منّي وأنا من حسين». فكان الحسين عليه‌السلام ونهضته التجسيد الحقيقي للإسلام الحقّ ؛ فقد كان الخطّ الحقيقي للإسلام المحمدي متمثلاً في الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).

وقد صرّح الإمام الحسين عليه‌السلام في رسالته التي بعثها إلى أهل البصرة بكل وضوح إلى أنّ السنّة قد ماتت حين وصل الانحراف إلى حدّ ظهور البدع وإجبائها.

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد كان غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولّي الزعامة المنحرفة ، وقد حدث هذا تحت عناوين متعدّدة ، منها : لزوم إطاعة الوالي ، وحرمة نقض بيعة تمّت حتّى لو كانت منحرفة ، وكذلك حرمة شقّ وحدة الكلمة ، وقد وصف الإمام عليه‌السلام هذه الحالة بقوله : «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله ...» (١). لذا تطلّب الأمر أن يبرز ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للجهاد وهو يحمل السّيف في محاولة لإعادة الحقّ إلى نصابه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أدلى عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٣.


بذلك في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين كتب له : «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

إنّ الإصلاح المقصود هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة ، وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قام عليه‌السلام بها ، فكانت الهداية والرعاية للبشر دينياً ومعنوياً ، وإنسانياً واُخروياً بمقتله وشهادته ، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من الاُمّة ، وتخرّجت من مدرستها الأبطال والصناديد ، ولا زالت وستبقى المشعل الوضّاء ينير درب الحقّ والعدل والحرية وطاعة الله إلى يوم القيامة.

٥ ـ إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف

في أحيان كثيرة لا يستطيع أصحاب العقائد ودعاة الرسالات أن يحاوروا العقل والذهن مجرّداً معزولاً عن عنصر العاطفة لأجل تعميق المعتقد والفكر لدى الجماهير ، وقد ابتليت الاُمّة الإسلاميّة في عهد الإمام الحسين عليه‌السلام وبعد تسلّط يزيد بحالة من الجمود والقسوة ، وعدم التحسّس للأخطار التي تحيط بها ، وبفقدان الإرادة في مواجهة التحديات ضدّ العقيدة الإسلاميّة ؛ لهذا لم يكتف الإمام الحسين عليه‌السلام بتثبيت الموقف الشّرعي وتوضيحه عملياً من خلال موقفه الجهادي ، بل سعى إلى إيقاظ ضمائر النّاس ، وتحريك وجدانهم وأحاسيسهم ليقوموا بالمسؤولية. فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من أجل العقيدة والدين ، واتّخذ اُسلوب الاستشهاد الذي يدخل بعمق وحرارة في قلوب الجماهير ، وقد ضرب لنا مثلاً رائعاً حينما برّزت ثورته أنّ التضحية لم تكن مقصورة على فئة أو مستوىً معيّن من


الاُمّة ، فللطفل كما للمرأة والشيخ دور فاعل فضلاً عن الشباب.

وما أسرع ما بان الأثر على أهل الكوفة ؛ إذ أظهروا الندم والإحساس بالتقصير تجاه الإمام والإسلام ، فكانت ثورة التوّابين التي أعقبت ثورة أهل المدينة التي وقعت في السّنة الثانية من بعد واقعة الطفّ.

لقد كانت واقعة الطفّ تأكيداً حقيقياً على أنّ المصاعب والمتاعب لا تمنع من قول الحقّ والعمل على صيانة الرسالة الإسلاميّة ، كما إنّها زرعت روح التضحية في سبيل الله في نفوس أبناء الاُمّة الإسلاميّة ، وحرّرت إرادتها ودفعتها إلى التصدّي للظلم والظالمين ، ولم تُبقِ عذراً للتهرّب من مسؤولية الجهاد والدفاع عن العقيدة والمقاومة لإعلاء كلمة الله.

لماذا لم ينهض الإمام الحسين عليه‌السلام بالثورة في حكم معاوية؟

إنّ الأحداث السّياسية التي عصفت بالاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ثقيلة الوطأة عليها ، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشّام ومحاربة الإمام عليّ عليه‌السلام ، وبالتالي اضطرار الإمام الحسن عليه‌السلام لإبرام صلح معه ؛ لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن عليه‌السلام تجاه معاوية حتّى بعد استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام ، فلم يعلن ثورته ، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن عليه‌السلام إلى قبول الصلح ، فمِنْ ذلك :

١ ـ حالة الاُمّة الإسلاميّة

كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلاميّة متأزّماً ، إذ كانت تتطلّع إلى حالة السّلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم


الإمام عليّ عليه‌السلام ، فكان رأي الإمام الحسن عليه‌السلام هو أن يُربّي جيلاً جديداً وينهض بعد حين ، فقد قال عليه‌السلام :

«إنّي رأيت هوى أعظم النّاس في الصّلح ، وكرهوا الحرب ؛ فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون ، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل ، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما ، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن» (١).

وهو نفسه موقف الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة ، فكان قوله لمَنْ فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن عليه‌السلام عنها : «صدق أبو محمّد ، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً».

وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام ؛ لبقاء نفس الأسباب ، فقد كتب عليه‌السلام يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة :

«أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً» (٢).

٢ ـ شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن

لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك.

ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً ؛ إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية ، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السّلطة

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٢١.

(٢) المصدر السابق / ٢٢٢.


بيده ، متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يُغطّي جرائمه الأخلاقية واللإنسانيّة ، والتي منها فتكه بخيار المسلمين ، ومخادعة عوام النّاس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم ، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب ، فهو الذي اغتال الإمام الحسن عليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقّاص (٢) ، وقضى على عبد الرحمن بن خالد (٣) ، ومن قبله على مالك الأشتر ، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة : «إنّ لله جنوداً منها العسل» (٤).

كما إنّ معاوية كان يضع كلّ مَنْ يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد ، فتُرفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه.

في مثل هذا الاُسلوب ـ أي التصرّف تحت ستار الإسلام ـ لو قام الإمام الحسين عليه‌السلام بحركة واسعة ، ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن عليه‌السلام مباشرةً لما كان قادراً على فضح معاوية ، وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته ، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج ، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها ، وتضيع جهود كبيرة كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً ، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ.

وما كان الإمام الحسين عليه‌السلام ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة (٥) ، المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم ، وصيانة الرسالة

__________________

(١) شرح النهج ـ لابن أبي الحديد ٢ / ٣٥٧.

(٢) مقاتل الطالبيين / ٢٩ ، ومختصر تأريخ العرب / ٦٢.

(٣) التمدن الإسلامي ـ لجرجي زيدان ٤ / ٧١.

(٤) عيون الأخبار ١ / ٢٠١.

(٥) للتفصيل راجع ثورة الحسين ، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٢.


الإسلاميّة من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.

وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة ، وهو مَنْ قد عرفه النّاس باللهو والفسق ، والشغف بالقرود وشرب الخمور ، وعدم صلاحيته للخلافة ؛ لتجاوزه وعدوانه على كلّ المقاييس الشّرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين ، فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين ، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح.

٣ ـ احترام صلح الإمام الحسن عليه‌السلام

لقد كان العهد والميثاق الذي تمّ بين معاوية وبين الإمام الحسن عليه‌السلام ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السّلطة ، صحيح أنّه عهد غير حقيقي ، وما كان برضى الإمامين عليهما‌السلام ، وتمّ في ظروف كان لا بدّ من تغييرها ، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام مع وجود هذا العهد ، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشّيعة ، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية.

وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين عليه‌السلام ، وإظهاره بموقف الناقض للعهد ، فقد كتب إلى الإمام عليه‌السلام :

أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ اُمور عنك ، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله ، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر ، وبعهد الله أوفِ ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة (١).

__________________

(١) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٨ ، والأخبار الطوال / ٢٢٤ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٨٢.


من هنا لجأ الإمام الحسن عليه‌السلام ، ومن بعده الحسين عليه‌السلام إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة ، والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره ، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح ، حتّى إذا مات معاوية كان كثير من النّاس ، وعامّة أهل العراق ـ بشكل خاصّ ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت عليهم‌السلام لأنفسهم ديناً (١).

المواقف من ثورة الحسين عليه‌السلام قبل انطلاقها

لم تكن نهضة الإمام الحسين عليه‌السلام وثورته حركةً آنيةً ، أو ردّة فعل مفاجئة ، بل كان الحسين عليه‌السلام في الاُمّة يُمثّل بقيّة النبوّة ، وكان وريث الرسالة ، وحامل راية القيم السّامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها ، كما إنّ العهد قريب برحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يُكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين عليه‌السلام ، وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين الفاسدة تجاه رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلاميّة واُمّته المؤمنة برسالته.

وقد وقف أهل البيت عليهم‌السلام بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلاميّة ، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

وفي عصر الإمام الحسين عليه‌السلام كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير ، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة وصيانتها ، وسيادة الحقّ والعدل.

__________________

(١) الفتنة الكبرى ، علي وبنوه ـ طه حسين / ٢٩٠ ، وللمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين عليه‌السلام ، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٧.


ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين عليه‌السلام تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة ، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلاميّة ، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج ، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة ، وبين التثبيط وفتّ العزائم.

وتبنّى شيعة أهل البيت عليهم‌السلام الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد ، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد ، واُودع البعض الآخر السجن ، أو حوصر من قبل قوّات السّلطة الاُمويّة.

كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام عليه‌السلام ـ مثل عبد الله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة ـ موقف الحذر ، ورجّحوا للإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى اليمن ؛ نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة ، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها (١).

وتبنّى آخرون موقف التثبيط ، وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم ، فنصحوا الإمام عليه‌السلام بالدخول فيما دخل فيه النّاس ، والصّبر على الظلم ، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٨٧ و٢١٦ ، ومروج الذهب ٣ / ٦٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩١.


البحث الرابع : توجّه الإمام عليه‌السلام إلى مكّة

خرج الإمام الحسين عليه‌السلام من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته ، وبني عمومته وبعض الخواصّ من شيعته ، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمّد بن الحنفيّة ، وأفادت بعض المصادر التأريخية بأنّ الإمام عليه‌السلام أقام في بيت العباس بن عبد المطلب (١) ، فيما تحدّثت مصادر اُخرى عن إقامته عليه‌السلام في شِعْب عليّ (٢). وأقام الإمام عليه‌السلام في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة ، كان فيها مهوى القلوب ، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام ، ويتعلّمون منه الحلال والحرام ، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء ، وحيث ترك الإمام عليه‌السلام وشأنَه ؛ فقد عزله يزيد بن معاوية عنها ، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شهر رمضان من تلك السنة (٦٠ هـ) ضمّ إليه المدينة ، وعزل عنها الوليد بن عتبة ؛ لأنّه كان معتدلاً في موقفه من الإمام عليه‌السلام ، ولم يستجب لطلب مروان (٣).

رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه‌السلام

وقد عرف النّاس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين عليه‌السلام عن البيعة ، فاتّجهت إليه الأنظار ، وبخاصّة أهل الكوفة ، فقد كانوا يومذاك من أشدّ النّاس نقمةً على يزيد ، وأكثرِهم ميلاً إلى الإمام عليه‌السلام ؛ فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي ، فقام فيهم خطيباً فقال : إنَّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

(٢) الأخبار الطوال / ٢٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر٢ / ٥٨.


تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه وأعلموه ، وإنْ خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه. قالوا : لا ، بل نقاتل عدوّه ، ونقتل أنفسنا دونه. قال : فاكتبوا إليه. فكتبوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم

«للحسين بن عليّ عليهما‌السلام من سليمان بن صرد ، والمسيّب بن نَجَبَة ، ورفاعة بن شدّاد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمَّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضا منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ ، وإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة ، وإنّنا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشّام إن شاء الله تعالى».

ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني ، وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء (١) ، فخرجا مسرعين حتّى قدما على الحسين عليه‌السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي ، وعبد الله وعبد الرحمن ابني

__________________

(١) النجاء : السرعة.


شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين عليه‌السلام ومعهم نحو من مئة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة ، ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي ، وكتبوا إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم

«للحسين بن علىّ عليهما‌السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمَّا بعد ، فإنّ النّاس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثمّ العجل العجل ، والسّلام».

ثمّ كتب شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير التميمي :

«أمَّا بعد ، فقد اخضرّ الجَناب ، وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة ، والسّلام» (١).

جواب الإمام عليه‌السلام على رسائل الكوفيّين

تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم ؛ لإنقاذهم من ظلم الاُمويّين وبطشهم ، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والاُمّة إن تأخّر عن إجابتهم. ورأى الإمام ـ قبل كلّ شيء ـ أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، وقد اختار ثقته وكبير أهل بيته مسلم بن عقيل ، وهو من أمهر السّاسة

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٨ ، وروضة الواعظين / ١٧١ ، وتذكرة الخواص / ٢١٣ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٢ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٥.


وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصّعبة ، والصمود أمام الأحداث الجسام ، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة ، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد ، وهي كما يلي :

بسم الله الرحمن الرحيم

«من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد ، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر مَنْ قَدِمَ عليّ من رسلكم ، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلّكم إنّه ليس علينا إمام ، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى. وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم ، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري ، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابسُ نَفسه على ذات الله. والسّلام» (١).

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة

لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة ، بعد أنْ أمره بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس ، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك (٢).

وفي النّصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة ، فعرّج

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٩ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٦ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٣٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٥.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٦ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ١٩٦.


على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.

وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل بعد أنْ وصل إلى الكوفة ، فثمّة مَنْ قال : إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة (١) ، وقيل : نزل في بيت مسلم بن عوسجة (٢) ، وقيل : في بيت هاني بن عروة (٣).

وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين عليه‌السلام إلى مدينتهم ازدحموا للقائه وبيعته ، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشّيعة تختلف إليه ، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه‌السلام وهم يبكون ، وبايعه النّاس ، حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً (٤).

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام

ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشّعبية ويأخذ البيعة للإمام عليه‌السلام ، وتوالت الوفود تقدّم ولاءها ، والجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ النّاس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام التي فيها يحيّيهم ، ويعلن استعداده للقدوم إليهم ، وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار بادر بالكتابة إلى الإمام عليه‌السلام ، ناقلاً إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة ، وقيّم له

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤١ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٢) الإصابة ١ / ٣٣٢.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٤٩.

(٤) الإرشاد ٢ / ٤١ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٠ ، وتذكرة الخواص / ٢٢٠.


الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

وقد جاء في رسالة مسلم للإمام عليه‌السلام : «أَمّا بعد ، فإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً ، فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ النّاس كلَّهُم معك ، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى» (١).

رسالة الإمام عليه‌السلام إلى زعماء البصرة

وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام ـ بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق ـ بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها : «أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلقه ، وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه إليه ، وقد نصح لعباده ، وبلّغ ما اُرسل به ، وكنّا أهلَه وأولياءه ، وأوصياءه وورثته ، وأحقَّ الناس بمقامه ، فاستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فإنّ السنّة قد أُميتت ، والبدعة قد أُحييت ، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد» (٢).

وقد بعث عليه‌السلام عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلّ من : مالك بن مسمع البكري ، والأحنفِ بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم ، وعمرو بن عبيد بن معمر ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وأرسل الإمام عليه‌السلام النسخ مع مولىً له يُقال له : سليمان أبو رزين.

ولم يُجب على رسالة الإمام عليه‌السلام غيرُ الأحنف بن قيس ويزيد بن مسعود ، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد ـ وكان

__________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢ / ٣٤٨ ، عن تأريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٦ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.


حينها والياً على البصرة ـ فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة (١). وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرّسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.

جواب الأحنف بن قيس

وأمّا الأحنف بن قيس ـ وهو أحد زعماء البصرة ـ فقد أجاب على رسالة الإمام عليه‌السلام برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة ، ولم يزد عليها : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٢).

وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.

جواب يزيد بن مسعود النهشلي

واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ ، فاندفع بوحي من إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام ، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له ، وهي : ١ ـ بنو تميم. ٢ ـ بنو حنظلة. ٣ ـ بنو سعد.

وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال : إنَّ معاوية مات ، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً ، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد! اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين ، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه ، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه على

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٠ ، والآية (٦٠) من سورة الروم.


الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشّرف الأصيل ، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه ، وقِدمه وقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. يعطف على الصغير ، ويُحسن إلى الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكعوا في وهد الباطل ... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده ، والقلّة في عشيرته ، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها ، وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. مَنْ لم يُقْتَلْ يَمُتْ ، ومَنْ يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب».

ولما أنهى النهشلي خطابه انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له ، فرفع النهشلي رسالة للإمام عليه‌السلام دلّت على شرفه ونبله ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لم يخلُ الأرض قطّ من عامل عليها بخير ، ودليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ، ووديعتُه في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمدية ، هو أصلها وأنتم فرعها ، فأقدم سعدت بأسعد طائر ؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد ، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع» (١).

ويقول بعض المؤرّخين : إنّ الرسالة انتهت إلى الإمام عليه‌السلام في اليوم العاشر من المحرّم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، وهو وحيد فريد قد أحاطت

__________________

(١) اللهوف / ٣٨ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.


به القوى الغادرة ، فلمّا قرأ الرسالة قال عليه‌السلام : «آمنك الله من الخوف ، وأرواك يوم العطش الأكبر».

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك ، وذابت نفسه أسىً وحسرات (١).

موقف والي الكوفة

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك ، ومع أنّه كان عثماني الهوى واُمويّ الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد ، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة ، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين ، كان ـ كما يتصوّر ـ لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشّام. وقد ذكر في خطابه :

أمّا بعد ، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال ، وتُسفَكُ الدماء ، وتُغْصَبُ الأموال. إنّي لا اُقاتل مَنْ لا يُقاتلني ، ولا آتي على مَنْ لم يأت عليَّ ، ولا اُنبّه نائمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل (٢).

__________________

(١) اللهوف / ٣٨ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٦٧.


فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني اُميّة فقال : إنَّه لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين. فقال له النعمان : لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله (١).

أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الاُمويّين والمعارضين لأهل البيت عليهم‌السلام ، وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين عليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الاُمويّين ، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت عليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الاُموي ، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل ؛ فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة وبايعته الشّيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف ، أو هو يتضَعَّفُ (٢).

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه ـ يعني إلى يزيد ـ عمارة بن عقبة بنحو كتابه ـ يعني كتاب الحضرمي ـ ، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك (٣).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ ، وأنساب الأشراف / ٧٧ ، والفتوح ٥ / ٧٥ ، والعوالم ـ للبحراني ١٣ / ١٨٢.

(٢) الإرشاد ٢ / ٤٢ ، وإعلام الورى ١ / ٢٣٧.

(٣) المصدر السابق.


قلق يزيد واستشارة السيرجون (١)

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة ، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الاُموي ومبايعتهم للإمام الحسين عليه‌السلام ؛ فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية ، فقال له : ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيّئ ، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد (٢). فقال له السيرجون : أَرأيت لو [يُنشر] إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال : بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة ،

__________________

(١) السيرجون : غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له ، واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية ، وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة ، والاُمة الإسلاميّة وقادتها الاُمناء عليها ؛ لقد كان لكلّ من تميم الداري (الراهب النصراني) وكعب الأحبار (اليهودي) موقع متميّز عند عمر ؛ حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ، ويسمح لهما بالتحدّث كلّ أُسبوع قبل صلاة الجمعة ، فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم ، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به ، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. (راجع كنز العمّال / الحديث رقم ٤٨٦٥ ، وتذكرة الحفاظ / بترجمة عمر ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر ، وتعاظم في عهد الاُمويّين ، واستمر في عهد العباسيين ، بالرغم من أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم ، وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في السّاحة الإسلاميّة وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب ؛ حيث تلاحظ أنّ كاتبه ومستشاره نصراني ، وهو (السيرجون) ، كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) ، وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل) ، والشّام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين ٢ / ٥١ ـ ٥٣).

(٢) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد ، انظر البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.


وقال : هذا رأي معاوية ، مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله. فقال له يزيد : أفعلُ. ابعث بعهد عبيد الله بن زياد إليه ... ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها ، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتّى تثقفه فتُوثِقَه ، أو تقتله أو تنفيَهُ ، والسّلام (١).

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية ، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته (٢) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين عليه‌السلام ومعظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل ، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسين عليه‌السلام.

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه ، ويتستّر على ملامحه ، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء ، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه ، وتردِّد : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم (٣).

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة ، فاضطرب النعمان

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ ـ ٤٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧ ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٣) الإرشاد ٢ / ٤٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.


وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد ، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام ، فخاطبه : اُنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي ، وما لي في قتالك من إرب ... (١).

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر ، حتّى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد ، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته ، وباتت الكوفة على وجل وترقّب ، وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصّباح وهو يحتلّ القصر بالنداء : الصلاة جامعةً ، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة ، وراح يُمنّي المطيع والسّائر في ركب السّياسة القائمة بالأماني العريضة ، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد ، حتّى قال : ... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي (٢).

ثمّ فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين ، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية ، فقال : ... فمَنْ يجيء لنا بهم فهو بريء ، ومَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه. وأيُّما عريف وجد في عرافته مَنْ بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره ، واُلغيت

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٣ ، وروضة الواعظين / ١٧٣ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي / ١٩٨ ، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٠٢.

(٢) مقاتل الطالبيّين / ٩٧ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.


تلك العرافة من العطاء (١).

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة ، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه وخطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته ، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم ؛ من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانئ بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه ، وهانئ يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع (٢).

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد

لقد كان مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) يحمل رسالةً ساميةً ، وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة ، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه ، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانئ بن عروة مرض مرضاً شديداً ، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته ، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد ، فقال : إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك الله منه ، وهو صائر إليّ ليعودني ، فقم وادخل الخزانة حتّى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله ، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه ؛

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٥ ، والفصول المهمّة / ١٩٧ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٦٧.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٨٩ ، والأخبار الطوال / ٢١٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.


فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من النّاس.

ولمس مسلم كراهية هانئ أن يُقتل عبيد الله في داره ، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك ، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم : ما منعك من قتله؟ قال مسلم : منعني منه خلّتان ؛ أحدهما كراهية هانئ لقتله في منزله ، والاُخرى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن» (١).

الغدر بمسلم بن عقيل

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السّياسي ، والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الاُموي ، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسين عليه‌السلام ، وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له ، واستطاع أن يكتشف مخبأه ، وأن يعلم بمقرّه (٢) ، فكانت بداية تخاذل النّاس عن الصّمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانئ بن عروة الذي آوى رسول الحسين عليه‌السلام وأحسن ضيافته ، واشترك معه في الرأي والتدبير ، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما ، وألقى بجثمانه من أعلا القصر إلى الجماهير المحتشدة حوله ، فاستولى الخوف والتخاذل على النّاس ، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

__________________

(١) الأخبار الطوال / ١٨٧ ، ومقاتل الطالبيّين / ٩٨ ، وإعلام الورى ١ / ٤٢٨.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٤٠ ، والأخبار الطوال / ١٧٨ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩١ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٦٩ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٧١ ، وأنساب الأشراف / ٧٩.


وكأنّ الأمر لا يعنيه (١).

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانئ ، ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ، ونادى مناديه في النّاس وسار بهم لمحاصرة القصر ، واشتدّ الحصار على ابن زياد ، وضاق به أمرُه ، ولكنّه استطاع بدهائه مكره أن يتغلب على المحنة ويُخذل الناس عن مسلم(٢).

لقد دسّ ابن زياد في أوساط النّاس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ، ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار ، وعدم إراقة الدماء ، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشّام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمَنْ بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ، ولا مَنْ يَدُلُّه على الطريق ، وأقفل النّاس أبوابهم في وجهه ، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك ، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً ، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصّباح ، فرحّبت به وأدخلته بيتها ، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً. وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه ، وما كاد الصّبح يتنفّس حتّى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمّد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل ، وفور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده (٣) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم ، وما أن سمع بالضجّة حتّى أدرك أنّ القوم

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٤١.

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ، القسم الثاني / ٦٣ ، وإعلام الورى ١ / ٤٤١ ، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٢ ، والكامل في التأريخ ٣ / ٢٧١.

(٣) جاء في «الإرشاد» أنّهم كانوا سبعين رجلاً.


يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، مع إنّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً ، وحُمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه ، وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه ، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش ، منطلقاً في بيانه ، قويّ الحجّة ، حتّى أعياه أمرُه ، وانتفخت أوداجه ، وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين ، ثمّ أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلا القصر ويقتلوه ، ويرموا جسده إلى النّاس ، ويسحبوه في شوارع الكوفة ، ثمّ يصلبوه إلى جانب هانئ بن عروة. هذا وأهل الكوفة وقوف في الشّوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسين عليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة ، وينصحه بعدم الشّخوص إليهم ، فوعده ابن الأشعث بذلك ، ولكنّه لم يفِ بوعده (١).

__________________

(١) يراجع في تفصيلاته أعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢ ، إعلام الورى ١ / ٤٤٢ ، والكامل في التأريخ ٤ / ٣٢ ، والفتوح ٥ / ٨٨ ، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٨٠ ، ومقاتل الطالبيّين / ٩٢.


المبحث الخامس : حركة الإمام الحسين عليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسين عليه‌السلام ويطاردهم ، ونعود إلى مكة لنتابع السّير مع ركب الحسين عليه‌السلام حتّى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون : كان خروج مسلم بن عقيل (رحمة الله عليه) بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين ، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة ، وكان توجّه الحسين (صلوات الله عليه) من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ـ وهو يوم التروية ـ بعد مُقامه بمكة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذي القعدة ، وثماني ليال خلون من ذي الحجّة سنة ستين. وكان عليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ، ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين عليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت ، وسعى بين الصّفا والمروة ، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً ؛ لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية ، فخرج عليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومَنْ انضمّ إليه من شيعته ، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه (١).

لماذا اختار الإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي ، وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم ، فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها :

١ ـ إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٧.


المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء ، إذ إنّنا لا نجد في النصوص التأريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلاميّة بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويّون في السّاحة السّياسية وحتى سقوطهم.

٢ ـ إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويّين وفسادهم ، والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد ، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك ، ولكن لم نرَ نصوصاً تأريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسين عليه‌السلام ونهضته غير العراق ، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الاُموي الفاسد.

٣ ـ لم يكن أمام الحسين عليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق ؛ لأنّ بقيّة الأقطار إمّا إنّها كانت مؤيّدة للاُمويين في توجّهاتهم وسياساتهم ، أو خاضعة مقهورة ، أو إنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام ، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها ؛ ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

٤ ـ كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصّالحة التي بناها الإمام عليّ عليه‌السلام ، والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيت عليهم‌السلام ؛ فأراد الإمام الحسين عليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة ، كما أراد أن يعمّق الإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك ، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد


الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيت عليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السّنين اللاحقة.

٥ ـ إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السّلبي ، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السّامية ، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية ، في الوقت الذي كان يهدف الإمام عليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية ، وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختياره عليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الاُمويّين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

٦ ـ لمّا كان العراق يُصارع الاُمويّين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسين عليه‌السلام وأفكاره ، ومن ثمّ فضح بني اُميّة وتستّرهم بالشّرعية وغطاء الدين ، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها ، لاسيما ونحن نرى أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصّراع ، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته ، وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسّياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السّياسي الحاذق ، والنّصائح التي قدّمها إليه عدد من الشّخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء ، كما نعتقد ؛ فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل النّاس ، وتركهم نصرة إمامهم ، ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.


تصريحات الإمام عليه‌السلام عند وداعه مكة

صدرت عن الإمام الحسين عليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق ، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبته عليه‌السلام على مَنْ أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه ، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة ، فنذكرُ منها هنا :

١ ـ روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قوله عليه‌السلام : «والله ، لا يَدَعُونَنِي حتّى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي ، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة» (١).

٢ ـ كان محمّد بن الحنفيّة في يثرب فلمّا علم بعزم الإمام عليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة ، وقد وصل إليها في الليلة التي أراد عليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق ، وقصده فور وصوله فبادره قائلاً : «يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، ويساورني خوف أن يكون حالك حال مَنْ مضى ، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعهم».

فأجابه الإمام عليه‌السلام : «خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية ، فأكون الذي تُستباح به حرمةُ هذا البيت». فقال محمّد : «فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع النّاس به ، ولا يقدر عليك أحد». قال الحسين عليه‌السلام : «أنظر فيما قلت».

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى ،

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٤ / ٣٩.


وأسرع محمّد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له : «يا أخي ، ألم تعدني فيما سألتك؟». قال الإمام عليه‌السلام : «بلى ، ولكنّي أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي : يا حسين ، اخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً». فقال محمّد : فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : «قد شاء الله أن يراهن سبايا» (١).

ولم يكن اصطحاب الحسين عليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي ، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب ، وكذا فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه ، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قويّة على المسلمين لنصرته ، فمَنْ تولّى الحسين عليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسين عليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خاصّة إنّ الخلاف بزعم الاُمويّين إنّما هو لأجل الخلافة؟

٣ ـ ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها ، جاء فيه : «خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله عليهم‌السلام لُحْمَتُه ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ؛ تَقِرُّ بهم عينُه ، ويُنْجَزُ بهم وعدُه. مَنْ كان باذلاً فينا مهجتَه ، وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا ،

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف / ٢٧ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٤.


فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى» (١).

يُبَيِّنُ الإمام الحسين عليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد ؛ قياماً بتكليفه الإلهي ، موضحاً سبب خروجِه من مكة ، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً ، داعياً إلى الالتحاق به مَنْ كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه ، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيت عليهم‌السلام.

خلاصة الثورة في رسالة

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسين عليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق ، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته ، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمام عليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام ، والمبادئ والقيم الإلهية ، والتألّق في سماء التضحية في الدنيا ، وخلود الذكر الطيّب ، والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء ، والفوز في أعلا درجات الجّنة في الآخرة. فقد جاء فيها بعد البسملة :

«من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمّد ومن قبله من بني هاشم. أمّا بعد ، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استشهد ، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح. والسّلام» (٢).

ولمّا وردت رسالة الإمام عليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب ، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ؛ ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

__________________

(١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٨ ، وكشف الغمة ٢ / ٢٠٤.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ / ٧٦ ، وبصائر الدرجات / ٤٨١ ، ودلائل الإمامة / ٧٧.

(٣) راجع تأريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.


ملاحقة السلطة للإمام عليه‌السلام

ولم يبعُد الإمام عليه‌السلام كثيراً عن مكة حتّى لاحقته مفرزة من الشّرطة بقيادة يحيى بن سعيد ، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عليه‌السلام عن السّفر ، وجرت بينهما مناوشات حتّى تدافع الفريقان ، واضطربوا بالسّياط ، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً (١).

في التنعيم

ومضى ركب الإمام الحسين عليه‌السلام لا يلوي على شيء ، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم (٢) صادفوا إبلاً قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشّام ، وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن ، فاستأجر من أهلها جِمالاً لرحله وأصحابه ، وقال لأصحابها : «مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته ، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق». فمضى معه قوم وامتنع آخرون (٣).

في الصّفاح

وواصل الإمام مسيره حتّى وصل الصّفاح (٤) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر النّاس خلفه ، فقال الفرزدق : قلوبُهم معك والسّيوف مع بني اُميّة ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٢) التنعيم : موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ / ٤٩.

(٣) الإرشاد ٢ / ٦٨.

(٤) الصّفاح : موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش ... جاء ذلك في معجم البلدان ٣ / ٤١٢.


والقضاء ينزل من السّماء. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «صدقت ، للهِ الأمر ، واللهُ يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشّكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَه» (١).

ثمّ واصل الإمام عليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات ، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل النّاس عنه وتجاوبهم مع الاُمويّين.

كتاب الإمام عليه‌السلام لأهل الكوفة

ولمّا وافى الإمام الحسين عليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة ـ وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية ـ كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم ، ولم يكن عليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل ، هذا نصّه :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين :

سلام عليكم. فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يُحسن لنا الصّنيع ، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ،

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٠٣ ، البداية والنهاية ـ ابن كثير ٨ / ١٨٠ ، صفة مخرج الحسين عليه‌السلام إلى العراق.


فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا (١) في أمركم وجِدّوا ؛ فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (٢).

وقد بعث عليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الاُمويّين

سرى نبأ مسير الإمام عليه‌السلام نحو الكوفة بين النّاس فاضطرب الموقف الاُموي ، وشعرت السّلطات بالخوف والحرج ، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم ، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد ، فأعدّ رجاله وجنده ، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسين عليه‌السلام ، والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة ، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي ، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة ، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمام عليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة ، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له عبيد الله : اصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ.

فصعد قيس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا رسوله إليكم ، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه. ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه ، فأمر عبيد الله

__________________

(١) انكمشوا : بمعنى أسرعوا.

(٢) الإرشاد ٢ / ٧٠ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٩.


أن يُرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع (١).

وروي أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فجاء رجل يُقال له : عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه ، فقال : أردتُ أن اُريحه.

مع زهير بن القين

وانتهت قافلة الإمام إلى «زرود» فأقام عليه‌السلام فيها بعض الوقت ، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى ، وقد حجّ بيت الله في تلك السّنة ، وكان يُساير الإمام في طريقه ولا يُحبّ أن ينزل معه ؛ مخافةَ الاجتماع به إلاّ إنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه ، فبعث الإمام عليه‌السلام إليه رسولاً يدعوه إليه ، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام ، فأبلغه الرّسول مقالة الحسين فذُعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام ، وكأنَّ على رؤوسهم الطير. فقالت له امرأته : سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثمّ لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه ، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسين عليه‌السلام ، ثمّ قال لامرأته : أنتِ طالق ، الحقي بأهلك ؛ فإنّي لا اُحبّ أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه : مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد. إنّي سأحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم ، فقال لنا سلمان الفارسي (رحمة الله عليه) : أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا : نعم. فقال : إذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧١ ، ومثير الأحزان / ٤٢ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨١.


أنا فأستودعكم الله. قالوا : ثمّ ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين عليه‌السلام حتّى قُتل (رحمة الله عليه) (١).

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام عليه‌السلام

ها هي الكوفة تضطرب وتموج ، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها ، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السّلطة الاُمويّة ، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة ، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها ، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون ، وقُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي ، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي ، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسين عليه‌السلام المسير ، وليس لديه معلومات جديدة عن تطوّر الأحداث ، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ؛ ليستجلي الموقف ، إلاّ إنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يُدعى «الثعلبية» بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل ، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنُقل إلى ابن زياد في الكوفة ، وكان كرسول الحسين عليه‌السلام السّابق مثالاً للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرّسول واستشهاده إلى الإمام عليه‌السلام في موضع يُدعى «زُبالة» ، وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة ، ولاحت له بوادر النكوص الخطير ، وشعر بالخذلان ونقض العهد ، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث ، ويضع أمامهم الحقائق ؛ ليكونوا على بصيرة من الأمر ، فقال لهم : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد ، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٢ ـ ٧٣ ، والكامل في التأريخ ٣ / ١٧٧ ، والأخبار الطوال / ٢٤٦.


قتلُ مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتُنا ، فمَنْ أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ في غير حرج ليس معه ذمام».

فتفرّق النّاس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً ، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وإنَّما فعل ذلك لأنّه عليه‌السلام علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون (١). فلمّا كان السَحَر أمر أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا ، ثمّ ساروا.

لقاء الإمام الحسين عليه‌السلام مع الحرّ

وبينما كان الإمام عليه‌السلام يسير بمَنْ بقي معه من أصحابه المخلصين وأهل بيته وبني عمومته إذا بهم يرون أشباحاً مقبلة من مسافات بعيدة ، وظنّها بعضهم أشباح نخيل ، ولكن لم يكن الذي شاهدوه أشجار النخيل ولكنّها جيوش زاحفة ، فبعد قليل تبيّن لهم أنّ تلك الأشباح المقبلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق على الحسين عليه‌السلام وتسيّره كما يريد ، ولمّا اقتربوا من ركب الحسين عليه‌السلام سألهم عن المهمّة التي جاؤوا من أجلها ، فقال لهم الحرّ : لقد اُمرنا أن نلازمكم ، ونجعجع بكم حتّى ننزلكم على غير ماء ولا حصن ، أو تدخلوا في حكم يزيد وعبيد الله بن زياد (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٧٥ ـ ٧٦ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٢ ، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٥.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢٢٩ ، والبداية والنهاية ٨ / ١٨٦ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.


وجرى حوار طويل بين الطرفين وجدال لم يتوصّلا فيه إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين ، فلقد أبى الحرّ أن يمكِّنَ الحسينَ من الرجوع إلى الحجاز ، أو سلوك الطريق المؤدّية إلى الكوفة ، وأبى الحسين عليه‌السلام أن يستسلم ليزيد وابن زياد (١)، وكان ممّا قاله الحسين عليه‌السلام وهو واقف بينهم خطيباً : «أيّها النّاس ، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا ؛ فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم». فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة ، فقال للحرّ : «أتريد أن تصلّيَ بأصحابك؟». قال : لا ، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين عليه‌السلام (٢).

وبعد أن صلّى الإمام عليه‌السلام بهم العصر خاطبهم بقوله : «أمّا بعد ، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد ، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم» (٣)، فقال له الحرّ : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فقال الحسين عليه‌السلام لبعض أصحابه : «يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ». فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه. فقال له الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٥ ، مقتل الحسين عليه‌السلام ـ للخوارزمي ١ / ٢٢٩ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٦ ، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٧٥.

(٢) الإرشاد ٢ / ٧٩ ، والفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٥ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٥٩٦.

(٣) الفتوح ـ لابن أعثم ٥ / ٨٧ ، وتأريخ الطبري ٣ / ٢٠٦ ، ومقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٣٣٢.


نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.

فقال له الحسين عليه‌السلام : «الموت أدنى إليك من ذلك». ثمّ قال لأَصحابه : «قوموا فاركبوا». فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم ، فقال لأصحابه : «انصرفوا». فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليه‌السلام للحرّ : «ثَكَلَتْكَ اُمُّك! ما تريد؟!». قال له الحرّ : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر اُمِّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه (١).

النزول في أرض الميعاد

أقلقت الأخبار عن تقدّم الإمام الحسين عليه‌السلام نحو الكوفة ابن زياد وأعوان السّلطة الاُموية ، فأسرع بكتابه إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يطلب فيه أن لا يسمح بتقدّم الإمام حتّى تلتحق به جيوش بني اُميّة ، وتلتقي به بعيداً عن الكوفة ؛ خشية أن يستنهض أهلها ثانية ، وليستغلّ ابن زياد ظروف المنطقه الصّعبة للضغط على الإمام عليه‌السلام واستسلامه.

وبغباء المنحرف السّاذج ، وجهالته ردّ حامل كتاب ابن زياد على أحد أصحاب الحسين عليه‌السلام ـ يزيد بن مهاجر ـ مدافعاً عمّا جاء به قائلاً : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي. فقال له ابن مهاجر : بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٨٠ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٠٦.


(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (١).

وحالت جنود ابن زياد قافلة الإمام الحسين عليه‌السلام دون الاستمرار في المسير ، فقد منعهم جيش الحرّ بن يزيد ، وأصرّوا على أن يدفعوا الإمام عليه‌السلام نحو عراء لا خضرة فيها ولا ماء.

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني اُميّة ، فقال للحسين عليه‌السلام : «إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم» ، ولكنّ الإمام عليه‌السلام رفض هذا الرأي ؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد ، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسع للاُمّة جمعاء ، وأيضاً لعظيم رسالته التي يدافع عنها وقِيَمهِ التي كان يسعى إلى بنائها في الاُمّة رغم أنّها بدت تظهر العداء سافراً ضدّه ، فقال عليه‌السلام : «ما كنت لأبدأهم بقتال».

وكان نزول الإمام في كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة إحدى وستين (٢) ، ثمّ اقترح زهير على الإمام عليه‌السلام أن يلجأوا إلى منطقة قريبة يبدو فيها بعض ملامح التحصين لمواجهة الجيش الاُموي لو نشبت المعركة.

وسأل الإمام عليه‌السلام عن اسم هذه المنطقة فقيل له : كربلاء ، عندها دمعت عيناه وهو يقول : «اللّهمّ أعوذ بك من الكرب والبلاء». ثمّ قال : «ذات كرب وبلاء ، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه فوقف ، فسأل عنه فاُخبر باسمه فقال : ها هنا محطّ ركابهم ، وها هنا مهراق دمائهم. فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمّد

__________________

(١) سورة القصص / ٤١.

(٢) تأريخ الطبري ٣ / ٣٠٩ ، ومعجم البلدان ٤ / ٤٤٤ ، وإعلام الورى ١ / ٤٥١ ، والأخبار الطوال / ٢٥٢ ، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٨٠.


ينزلون ها هنا» (١).

وقبض الإمام الحسين عليه‌السلام قبضةً من ترابها فشمّها وقال : «هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله أننّي اُقتل فيها ، أخبرتني اُمّ سلمة» (٢).

فأمر الإمام عليه‌السلام بالنزول ونصب الخيام إلى حين يتّضح الأمر ، ويتّخذ القرار النهائي لمسيرته.

جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد

وفي تلك الأثناء خرج عمر بن سعد من الكوفة في جيش قدّرته بعض المصادر بثلاثين ألفاً ، وبعضها بأكثر من ذلك ، وفي رواية ثالثة : إنّ ابن زياد قد استنفر الكوفة وضواحيها لحرب الحسين ، وتوعّد كلّ مَنْ يقدر على حمل السّلاح بالقتل والحبس إن لم يخرجْ لحرب الحسين.

وكان من نتائج ذلك أن امتلأت السّجونُ بالشّيعة واختفى منهم جماعة ، وخرج مَنْ خرج لحرب الحسين من أنصار الاُمويّين ، وأهل الأطماع والمصالح الذين كانوا يشكّلون أكبر عدد في الكوفة ، أمّا رواية الخمسة آلاف مقاتل التي تبنّاها بعض المؤرّخين فمع أنّها من المراسيل ، لا تؤيّدها الظروف والملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدِمَ عليه إلاّ بعد أن يُعِدَّ العُدَّة لكلّ الاحتمالات ، ويتّخذ جميعاً لاحتياطات ، وبخاصّة إذا كان خبيراً بأهل الكوفة وتقلّباتهم وعدم ثباتهم

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢ ، والأخبار الطوال / ٢٥٣ ، وحياة الحيوان ـ للدميري ١ / ٦٠.

(٢) تذكرة الخواص / ٢٦٠ ، ونفس المهموم / ٢٠٥ ، وناسخ التواريخ ٢ / ١٦٨ ، وينابيع المودّة / ٤٠٦.


على أمر من الأُمور (١).

وتوالت قطعات الجيش الأموي بزعامة عمر بن سعد فأحاطت بالحسين عليه‌السلام وأهله وأصحابه ، وحالت بينهم وبين ماء الفرات القريب منهم ، وقد جرت مفاوضات محدودة بين عمر بن سعد والإمام الحسين عليه‌السلام أوضح فيها الإمام عليه‌السلام لهم عن موقفه وموقفهم ودعوتهم له ، وألقى عليهم كلّ الحجج في سبيل إظهار الحقّ ، وبيّن لهم سوء فعلهم هذا وغدرهم ونقضهم للوعود التي وعدوه بها من نصرته وتأييده ، وضرورة القضاء على الفساد.

ولكن عمر بن سعد كان أداة الشرّ المنفّذة للفساد والظلم الاُموي ، فكانت غاية همّته هي تنفيذ أوامر ابن زياد بانتزاع البيعة من الإمام عليه‌السلام ليزيد أو قتله وأهل بيته وأصحابه (٢) ، متجاهلاً حرمة البيت النبوي ، بل وحاقداً عليه كما جاء في رسالته لعمر : أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان (٣).

__________________

(١) سيرة الائمّة الاثني عشر القسم الثاني / ٦٨.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ٢ / ٨٥ ، الفتوح ٥ / ٩٧ ، بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٤ ، إعلام الورى ١ / ٤٥١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٨٩ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ١ / ٢٤٥.

(٣) إعلام الورى ١ / ٤٥٢.


البحث السادس : ماذا جرى في كربلاء؟

ليلة عاشوراء

نهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحّرم ، وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه‌السلام فقال : أين بنو اُختنا؟ ـ يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء عليّ عليه‌السلام ـ. فقال الحسين عليه‌السلام : «أجيبوه وإن كان فاسقاً ؛ فإنّه بعض أخوالكم». وذلك أنّ اُمّهم اُمّ البنين كانت من بني كلاب وشمر بن ذي الجوشن من بني كلاب أيضاً.

فقالوا له : ما تريد؟ فقال لهم : أنتم يا بني اُختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد. فقالوا له : لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟

وناداه العباس ابن أمير المؤمنين : تبّت يداك ، ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله! أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

ثمّ نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري. فركب النّاس ثمّ زحف ابن سعد نحوهم بعد العصر والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبٍ بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت اُخته زينب الصّيحة ، فدنت من أخيها وقالت : يا أخي ، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال : «إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعة في المنام فقال : إنّك تروح إلينا». فلطمت اُخته وجهها ، ونادت بالويل ، فقال لها الحسين عليه‌السلام : «ليس لكِ الويل يا اُخيّة ، اسكتي رحمك الله».


وقال له العباس : يا أخي ، أتاك القوم. فنهض ، ثمّ قال : «يا عباس ، اركب ـ بنفسي يا أخي أنت ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما بالكم ، وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم». فأتاهم في نحو من عشرين فارساً ، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ، فسألهم ، فقالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ، ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام.

فلمّا أخبره العباس بقولهم قال له : «ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنّا العشية ؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة ، وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار».

فسألهم العباس ذلك ، فتوقف ابن سعد ، فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدي : سبحان الله! والله لو أنّهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد؟! وقال له قيس بن الأشعث بن قيس : أجبهم ، لعمري ليصبحنّك بالقتال. فأجابوهم إلى ذلك.

وجمع الحسين عليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء. قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه : اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا لك من الشّاكرين.

أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه


جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري.

فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول أخوه العباس ابن أمير المؤمنين واتّبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه.

ثمّ نظر إلى بني عقيل فقال : حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم اذهبوا قد أذنت لكم. قالوا : سبحان الله! فما يقول النّاس لنا ، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرِب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله ما نفعل ذلك ، ولكنّنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نردَ موردك ؛ فقبّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدّو؟! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟! لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك.

وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ أُحيا ثمّ اُحرق ثمّ اُذرّى يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونَك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟

وقام زهير بن القين وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ


نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.

وتكلّم بقيّة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً وقالوا : أنفسنا لك الفداء ، نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا ، وقضينا ما علينا» (١).

وأمر الحسين عليه‌السلام أصحابه أن يُقرّبوا بين بيوتهم ، ويُدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، ويكونوا بين يدي البيوت ؛ كي يستقبلوا القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم.

وقام الحسين عليه‌السلام وأصحابه الّليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ويدعون ، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.

قال بعض أصحاب الحسين عليه‌السلام : مرّت بنا خيل لابن سعد تحرسنا ، وكان الحسين عليه‌السلام يقرأ : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ، فسمعها رجل من تلك الخيل يُقال له : عبد الله بن سمير ، فقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم. فقال له برير بن خضير : يا فاسق ، أنت يجعلك الله من الطيبين؟! فقال له : مَنْ أنت ويلك؟! قال : أنا برير بن خضير. فتسابّا ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين عليه‌السلام برأسه خفقة ثمّ استيقظ ، فقال : «رأيت كأنّ كلاباً قد جهدت تنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص» (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٣.

(٢) راجع أعيان الشّيعة ١ / ٦٠١.


يوم عاشوراء

انقضت ليلة الهدنة ، وطلع ذلك اليوم الرهيب يوم عاشوراء ، يوم الدم والجهاد والشّهادة ، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين عليه‌السلام ، وتفتك بدعاة الحقّ والثوّار من أجل الرسالة والمبدأ.

نظر الحسين عليه‌السلام إلى الجيش الزاحف ، ولم يزل عليه‌السلام كالطود الشّامخ ، قد اطمأنت نفسه ، وهانت دنيا الباطل في عينه ، وتصاغر جيش الباطل أمامه ، ورفع يديه متضرّعاً إلى الله تعالى قائلاً : «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كَرْب ، وأنت رَجائي في كلّ شِدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعدَّةٌ ، كم مِنْ همٍّ يَضْعَفُ فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذُلُ فيه الصّديق ، ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته عنّي وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة» (١).

خطاب الإمام عليه‌السلام في جيش الكوفة

أخذ جيش عمر بن سعد يشدِّد الحصار على الإمام عليه‌السلام ، ولمّا رأى الحسين عليه‌السلام كثرتهم وتصميمهم على قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية ، تعمّم بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وركب ناقته ، وأَخذ سلاحه ، ثمّ دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته وراح يقول : «يا أهل العراق ـ وجُلُّهُمْ يسمعون ـ فقال : أيّها النّاس ، اسمعوا قولي ولا تعجلوا ؛ حتّى أعظَكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتى أُعْذَرَ إليكم ، فإن أعطيتموني النّصف كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٦.


ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ، ثمّ اْقضوا إليَّ ولا تُنظِرونِ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، وذكر الله تعالى بما هو أهله ، وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكته وأنبيائه ، فَلَمْ يُسْمَعْ متكلمٌ قطّ قبلَه ولا بعدَه أبلغُ في منطق منه. ثمّ قال : «أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاكُ حُرمتي؟! ألَسْتُ ابنَ بنتِ نبيّكم وابنَ وصيِّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند ربّه؟! أوَ ليس حمزةُ سيدُ الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيار في الجّنة بجناحين عَمّي؟! أو لم يبلغكم ما قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي : هذانِ سيّدا شباب أهل الجّنة؟ فإنْ صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمدتُ كذباً منذ علمت أن الله يَمْقُتُ عليه أهله ، وإنْ كذبتموني فإنَّ فيكم مَنْ إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخِدْري ، وسهل بنَ سعد السّاعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنسَ بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟! ثمّ قال لهم الإمام الحسين عليه‌السلام : «فإن كنتم في شكّ من هذا فتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فوالله ليس ما بين المشرق والمغرب ابنُ بنتِ نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطلبونني بقتيل منكم قَتَلْتُه ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة؟! فأخذوا لا يكلمونه ، فنادى : «يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألَمْ تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعت الثمار ، واْخضرّ الجَنابُ ، وإنما تقدِم على جند لك مجندة؟!». فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك. فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرُّ فِرار العبيد». ثمّ نادى : «يا عبادَ الله ، إنّي عذْتُ بربّي ورَبِّكم أنْ ترجمُونِ. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر


لا يؤمن بيوم الحساب» (١).

لقد أبى القوم إلاّ الإصرار على حربه والتمادي في باطلهم ، وأجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيَّهم كما حكى الله (عزّ وجلّ) عنهم في كتابه الكريم : (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً) (٢).

الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار

وتأثر الحرّ بن يزيد الرياحي بكلمات الإمام الحسين عليه‌السلام وندم على ما سبق منه معه ، وراح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة ويعود إلى موقفه أخرى ، وبدا عليه القلق والاضطراب. وعند ما سُئل عن السّبب في ذلك قال : والله ، إنّي أُخيِّرُ نفسي بين الجّنة والنّار ، وبين الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي لعاقل أن يختار على الآخرة والجنّة شيئاً. ثمّ ضرب فرسه والتحق بالحسين عليه‌السلام ، ووقف على باب فسطاطه ، فخرج إليه الحسين عليه‌السلام ، فانكبَّ عليه الحرّ يُقبّل يديه ويسأله العفو والصّفح ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «نعم ، يتوب الله عليك وهو التّواب الرحيم». فقال له الحرّ : والله لا أرى لنفسي توبة إلاّ بالقتال بين يديك حتّى أموتَ دونك. وخطب الحرّ في أهل الكوفة ، فوعظهم وذكّرهم موقفهم من الإمام عليه‌السلام ، ودعوتهم له ، وحثّهم على عدم مقاتلة الإمام عليه‌السلام ، ثمّ مضى إلى الحرب فتحاماه النّاس ، ثمّ تكاثروا عليه حتّى استشهد (٣).

المعركة الخالدة

حصّن الإمام عليه‌السلام مخيّمه ، وأحاط ظهره بخندق أوْقَد فيه النار

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٩٨ ، إعلام الورى ١ / ٤٥٩.

(٢) سورة هود / ٩١.

(٣) الإرشاد ٢ / ٩٩ ، الفتوح ٥ / ١١٣ ، بحار الأنوار ٥ / ١٥.


ليمنع المباغتة والالتفاف عليه من الخلف ، وليحميَ النساء والأطفال من العدوان المحقّق.

نظر شمر بن ذي الجوشن إلى النار في الخندق فصاح : يا حسينُ ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة. فردّ عليه : «أنت أولى بها صِلِيّاً» (١). وحاول صاحب الحسين عليه‌السلام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم ، فاعترضه الإمام ومنعه قائلاً : «لا ترمه ؛ فإنّي أكره أن أبدأهم» (٢).

ويقول المؤرخون : إنّ بعض أصحاب الإمام خطب بالقوم بعد خطبة الإمام الاُولى ، وإنّ الإمام عليه‌السلام أخذ مصحفاً ونشره على رأسه ووقف بإزاء القوم ، فخاطبهم للمرّة الثانية بقوله : «يا قوم ، إنّ بيني وبينكم كتاب الله ، وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه وعمامته ، فأجابوه بالتصديق ، فسألهم عمّا أقدمهم على قتله ، قالوا : طاعةً للأمير عبيد الله ابن زياد. فقال عليه‌السلام : «تبّاً لكم أيتها الجماعَةُ وترحاً! أحين استصرختمونا (٣) والهين ، فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحَشَشْتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً (٤) لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ ـ لكم الويلاتُ! ـ تركتمونا والسيفُ مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصفْ ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا (٥) ، وتداعيتم عليها كتهافُتِ الفراش ، ثمّ نقضتموها ، فسُحْقاً لكم يا عبيدَ الأُمّة ، وشُذّاذَ الأحزابِ ، ونبذة الكتابِ ، ومحرّفي الكلِمِ ، وعصبة الإثمِ ، ونفثةَ الشّيطان ، ومطفئي السُنَنِ ، ويْحَكم! أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٧٧.

(٢) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٧٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣١٨.

(٣) استصرختمونا : طلبتم نجدتنا.

(٤) إلباً : مجتمعين متضامنين ضدّنا.

(٥) الدَّبا : الجراد الصغير.


غدرٌ فيكم قديم ، وشجت عليه اُصولكم ، وتأزّرت فروعكم ، فكنتم أخبثَ ثمر شجىً للناظر ، وأكلةً للغاصب. ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السِّلة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة! يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون ، وحجورٌ طابت وطَهُرَتْ ، واُنوفٌ حميةٌ ، ونفوسٌ أبيّةٌ من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد ، وخذلان الناصر. ثمّ أنشدَ أبياتِ فروة بن مسيك المرادي :

فاِنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً

وإن نُهْزَمْ فغيْرُ مهزَّمينا

وما إن طبَّنا جُبْنٌ ولكن

منايانا ودولةُ آخرينا

فَقُلْ للشامتين بنا أفيقوا

سَيَلْقى الشامتون كما لقينا

إذا ما الموتُ رَفَّعَ عن اُناس

كلاكله أناخ بآخرينا (٤)

أما والله ، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يُركبُ الفرس حتّى تدور بكم دور الرَّحى ، وتقلق بكم قلق المحور ؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٢) ، (تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣)». ثمّ رفع يديه نحو السّماء وقال : «اللّهمّ احبس عنهم قطر السّماء ، وابعث عليهم سنينَ كسنيّ يوسف ، وسلِّطْ عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرةً ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكلّنا وإليك المصير» (٤).

كلّ ذلك وعمر بن سعد مُصرّ على قتال الحسين عليه‌السلام ، والإمام الحسين عليه‌السلام يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن. ولمّا لم يجدِ النصح مجدياً قال لا ابن سعد : «أيْ عمر ، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الرّيّ وجرجان؟

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٦٩ / ٢٦٥ ، اللهوف في قتلى الطفوف ـ ابن طاووس / ٥٩ و١٢٤.

(٢) و (٣) سورة يونس / ٧١. سورة هود / ٥٦.

(٤) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٩ ـ ٢٨٦ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ٦ ، تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام / ٢١٦ ، راجع إعلام الورى ١ / ٤٥٨.


والله لا تتهنّأ بذلك ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ؛ فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم». فصرف ابن سعد وجهه عنه مغضباً (١).

واستحوذَ الشّيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثمّ رمى باتجاه معسكر الحسين عليه‌السلام وقال : اشهدوا أنّي أوّلُ مَنْ رمى. ثمّ ارتمى النّاس وتبارزوا (٢).

فخاطب الإمام عليه‌السلام أصحابه قائلاً : «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإنّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» (٣).

فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت ، مستبشرين بلقاء الله (جلّ جلاله) ، وكأنّهم رأوا منازلهم مع النّبيين والصّديقين وعباده الصّالحين ، وكان لا يُقتل منهم أحد حتّى يقول : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح ، واحتدمت المعركة بين الطرفين ، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين عليه‌السلام حتّى يَقْتل العشرة والعشرين) (٤).

استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء ، واستمر معه شلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود ، وأصحابُ الحسين عليه‌السلام يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح ، وأرهقوه بالقتل ، فتصايح رجال عمر بن سعد : لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا ، لنهجم عليهم مرّة واحدة ، ولنرشقهم بالنّبال والحجارة.

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٨٩.

(٢) الإرشاد ٢ / ١٠١ ، اللهوف / ١٠٠ ، إعلام الورى ١ / ٤٦١.

(٣) مقتل الحسين ـ للمقرّم / ٢٩٢.

(٤) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٦.


فبدأ الهجوم والزحف نحو مَنْ بقي مع الحسين عليه‌السلام ، وأحاطوا بهم من جهات متعدّدة ، مستخدمين كلّ أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتّى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة.

وزالت الشّمس وحضر وقت الصلاة ، وها هو الحسين عليه‌السلام ينادي للصّلاة ، وقد تحوّل الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة ، ولم يكن في مقدور السّيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال.

ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبقَ مع الحسين عليه‌السلام إِلاّ أهل بيته خاصّةً ؛ فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين عليه‌السلام ـ واُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً ، فشدَّ على النّاس وهو يقول :

أنا عليُّ بن الحسين بن علي

نحن وبيت الله أولى بالنَّبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدَّعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله ، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال : عليَّ إثم العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكل أباه. فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل ، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصُرع ، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين عليه‌السلام حتّى وقف عليه فقال : «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيَّ ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!». وانهملت عيناه بالدُّموع ، ثمّ قال : «على الدُّنيا بعدك العفا!». وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي : يا أُخيّاه وابن أُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه ، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط ، وأمر فتيانه فقال : «احملوا أخاكم». فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.


ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له : عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل رحمه‌الله بسهم ، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه ، فأصاب السّهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها ، ثمّ انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله.

وحمل عبد الله بن قُطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

وحمل عامر بن نهشل التّيميّ على محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

وشدَّ عثمان بن خالد الهمدانيّ على عبد الرّحمن بن عقيل بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقتله.

قال حميد بن مسلم : فإنّا لكذلك إذ خرج علينا غلام كأنَّ وجهه شقَّة قمر ، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع إحداهما ، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدَّنَّ عليه. فقلت : سبحان الله! وما تريد بذلك؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم الّذين ما يبقون على أحد منهم. فقال : والله لأشدَّنَّ عليه ، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسّيف ففلقه ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلى (١) الحسين عليه‌السلام كما يجلي الصقر ، ثمّ شدَّ شدّة ليث أُغضب ، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسّيف فاتّقاها بالسّاعد فأطنَّها من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه‌السلام ، وحملت خيل الكوفة لتستنقذه فوطأته بأرجلها حتّى مات.

وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه‌السلام قائماً على رأس الغلام وهو

__________________

(١) جلّى ببصره : إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. «الصحاح ـ جلا ـ ٦ : ٢٣٠٥».


يفحص برجله ، والحسين يقول : «بُعداً لقوم قتلوك ، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدُّك». ثمّ قال : «عزَّ ـ والله ـ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثرَ واتروه ، وقلَّ ناصروه». ثمّ حمله على صدره ، فكأنِّي أنظر إلى رجلي الغلام تخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليِّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته ، فسألت عنه فقيل لي : هو القاسم بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهم‌السلام.

ثمّ جلس الحسين عليه‌السلام أمام الفسطاط ، فاُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين عليه‌السلام دمه ، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرض ثمّ قال : «ربّ إن تكن حبست عنّا النّصر من السّماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظّالمين». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله.

ورمى عبد الله بن عقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب عليهم‌السلام فقتله.

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمِّه ، وهم عبد الله وجعفر وعثمان : يا بني اُمِّي ، تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ...

فتقدّم عبد الله فقاتل قتالاً شديداً ، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرميّ ضربتين فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن عليّ عليه‌السلام فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خوليُّ بن يزيد الأصبحيّ عثمان بن عليّ عليه‌السلام وقد قام مقام إخوته ، فرماه بسهم فصرعه ، وشدَّ عليه رجل من بني دارم فاحتزَّ رأسه.


وحملت الجماعة على الحسين عليه‌السلام فغلبوه على عسكره ، واشتدَّ به العطش ، فركب المسنّاة (١) يريد الفرات وبين يديه العبّاس أخوه ، فاعترضته خيل ابن سعد ، وفيهم رجل من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكِّنوه من الماء. فقال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ أظمئه». فغضب الدّارميُّ ورماه بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه‌السلام السّهم وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدَّم ، فرمى به ثمّ قال : «اللّهمَّ إنِّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيِّك». ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدَّ به العطش.

استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام

لم يبقَ مع الإمام الحسين عليه‌السلام سوى أخيه العباس الذي تقدّم إليه يطلب منه الإذن في قتال القوم فبكى الحسين وعانقه ، ثمّ أذن له فكان يحمل على أهل الكوفة فينهزمون بين يديه كما تنهزم المعزى من الذئاب الضارية وضجّ أهل الكوفة من كثرة مَنْ قُتل منهم ، ولمّا قُتل قال الحسين عليه‌السلام : «الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي ، وشمت بي عدوّي» (٢).

وفي رواية اُخرى : إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام اتجه إلى نهر الفرات وبين يديه أخوه العباس ، فاعترضته خيل ابن سعد (لعنه الله) ، وفيهم رجل من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنُوهُ من الماء. فقال الحسين عليه‌السلام : «اللّهمّ أظمئه». فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه‌السلام السّهم ، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم ، فرمى به ثمّ قال : «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيّك». ثمّ رجع إلى مكانه

_____________________

(١) المسناة : تراب عال يحجز بين النهر والأرض الزراعية. «تاج العروس ـ سنى ـ ١٠ : ١٨٥».

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر ٢ / ٧٧ ، بحار الأنوار ٤٥ / ٤٤٠ ، المنتخب ـ للطريحي / ٤٣١.


وقد اشتدّ به العطش ، وأحاط القوم بالعبّاس عليه‌السلام فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رحمة الله عليه) (١).

ونظر الحسين عليه‌السلام إلى ما حوله ، ومدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة ، مقطّعَ الأوصال والأعضاء.

وهكذا بقي الإمام عليه‌السلام وحده يحمل سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين جنبيه قلب علي عليه‌السلام ، وبيده راية الحقّ البيضاء ، وعلى لسانه كلمة التقوى.

الحسين عليه‌السلام وحيداً في الميدان

حينما التفت أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام يميناً وشمالاً ولم يرَ أحداً يذبّ عن حرم رسول الله أخذ ينادي : «هل من ذابٍّ يذبّ عنا؟» فخرج الإمام زين العابدين عليه‌السلام من الفسطاط ، وكان مريضاً لا يقدر أن يحمل سيفه واُمّ كلثوم تنادي خلفه : يا بُني ارجع. فقال : «يا عمّتاه ، ذريني اُقاتل بين يدي ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وإذا بالحسين عليه‌السلام ينادي : «يا اُمّ كلثوم ، خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

ويقول المؤرخون : إنّه لمّا رجع الحسين عليه‌السلام من المسنّاة إلى فسطاطه تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فأحاطوا به ، فأسرع منهم رجل يُقال له : مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين عليه‌السلام ، وضربه على رأسه بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسه فأدماه

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١٠٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٦.


فامتلأت القلنسوة دماً ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «لا أكلت بيمينك ولا شربت بها ، وحشرك الله مع القوم الظالمين».

ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدَّ بها رأسَه ، واستدعى قلنْسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها ، ورجع عنه شمر بن ذي الجوشن ومَنْ كان معه إلى مواضعهم ، فمكث هنيئة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به (١).

حمل الإمام الحسين عليه‌السلام سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها في البراز ، وراح ينازل فرسانهم ، ويواجه ضرباتهم ببسالة نادرة وشجاعة فذّة ، فما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذلّ والهزيمة.

قال حميد بن مسلم : فوالله ، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه! أَن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدَّ عليها بسيفه فتنكشف عن شماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب (٢).

ولمّا عجزوا عن مقاتلته لجأوا إلى أساليب الجبناء ؛ فقد استدعى شمر الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرماة أنْ يرموه ، فرشقوه بالسّهام حتّى صار جسمُه كالقنفذ فأحجم عنهم ، فوقفوا بإزائه ، وخرجت أُخته زينب إلى باب الفسطاط فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص : ويلك يا عمر! أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها عمر بشيء ، فنادت : ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد بشيء ، ونادى شمر بن ذي الجوشن الفرسان والرجّالة فقال : ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ ثكلتكم أُمهاتكم! فحملوا عليه من كلّ جانب.

فضربه زُرعة بن شريك على كتفه اليسرى فقطعها ، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه ، وطعنه سنان بن أنس النخعي بالرمح فصرعه ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١١٠ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٧.

(٢) الإرشاد ٢ / ١١١ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٨.


وبدر إليه خُولى بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتزّ رأسه فأرعد ، فقال له شمر : فتَّ الله في عضدك ، ما لك ترعد؟!

ونزل شمر إليه فذبحه ، ثمّ رفع رأسه إلى خولى بن يزيد فقال : احمله إلى الأمير عمر بن سعد.

ثمّ أقبلوا على سلب الحسين عليه‌السلام فأخذ قميصه إِسحاق بن حَيْوَة الحضرمي ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب ، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه (١).

امتداد الحمرة في السّماء

ومادت الأرض ، واسودَّتْ آفاق الكون ، وامتدت حمرة رهيبة في السّماء كانت نذيراً من الله لاُولئك السفّاكين المجرمين الذين انتهكوا جميع حُرُماتِ الله (٢).

وصبغ فرس الحسين عليه‌السلام ناصيته بدم الإمام الشّهيد المظلوم ، وأقبل يركض مذعوراً نحو خيام الحسين عليه‌السلام ؛ ليعلم العيال بمقتله واستشهاده. وقد صوّرت زيارة الناحية المقدّسة هذا المشهد المأساوي كما يلي :

«فلمّا نظرت النساء إلى الجواد مخزيّاً ، والسّرج عليه ملويّاً ؛ خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مذَلَّلات ، وإلى مصرع الحسين مبادرات».

ونادت عقيلة بني هاشم زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهي ثكلى : وا محمداه! وا أبتاه! وا علياه! وا جعفراه! وا حمزتاه! هذا حسين بالعراء ، صريع

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ١١٢ ، إعلام الورى ١ / ٤٦٩.

(٢) راجع كشف الغمة ٢ / ٩ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٣١٢ ، تاريخ الإسلام ـ للذهبي / ١٥ ، حوادث سنة ٦١ ، إعلام الورى ١ / ٤٢٩.


بكربلاء ، ليت السّماء أُطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السّهل (١)!

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة

وعمد المجرمون اللئام إلى حرق خيام الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام غير حافلين بمَنْ في الخيام من بنات الرسالة وعقائل النبوّة. قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «والله ، ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهن يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : أحرقوا بيوت الظالمين» (٢).

وعمد أراذل جيش الكوفة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الرسالة ، فنهبوا ما عليهنّ من حليّ وحلل ، كما نهبوا ما في الخيام من متاع.

الخيل تدوس الجثمان الطاهر

لقد بانت خِسّة الاُمويّين لكلّ ذي عينين ، وعبّرت عن مسخفي الوجدان الذي كانوا يحملونه ، وماتت الإنسانيّة فتحوّلت الأجساد المتحركة إلى وحوش دنيئة لا تملك ذرّة من رحمة ، ولا يزعها وازعٌ من بقيّة ضمير إنساني.

فحين حاصرت جيوش الضلالة أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام في عرصات كربلاء كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد كتاباً وهو يبيّن له ما يستهدفه من نتيجة للمعركة ، وما تنطوي عليه نفسه الشّريرة من حقد دفين على الرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ ما يمتّ إليهما بصلة أو قرابة ، وقد جاء فيه ما يلي :

أما بعد ، فإنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ، ولا لتعقد له عندي شافعاً ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للمقرم / ٣٤٦.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ، نقلاً عن تاريخ المظفري / ٢٣٨.


الحكم واستسلموا فابعث بهم سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ مشاقّ ، قاطع ظلوم ، وليس في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قول ، لو قد قتلته فعلت هذا به (١).

على أنّ ابن زياد كان من أعمدة الحكم الاُموي. ولا نعلم أوامر صدرت من أحد أفراده بحيث كانت ترعى حرمة أو تقديراً لمقام ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم يكن خافياً على أحد من الاُمويّين.

وهكذا انبرى ابن سعد بعد مقتل ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينفّذ أوامر سيّده الحاقد ابن زياد ، فنادى في أصحابه : مَنْ ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟

فانتدب عشرة ، فداسوا جسد الحسين عليه‌السلام بخيولهم حتّى رضّوا ظهره (٢).

عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم

ووقفت حفيدة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام العقيلة زينب عليها‌السلام على جثمان أخيها العظيم ، وهي تدعو قائلةً : «اللّهمّ تقبّل هذا القربان» (٣).

إنَّ الإنسانيّة لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ الوحيد في خلود تضحية الحسين عليه‌السلام وأصحابه (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤ ، إعلام الورى ١ / ٤٥٣.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٧٠ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ٢ / ٣٩.

(٣) حياة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ٣ / ٣٠٤.



الفصل الثالث

نتائج الثورة الحسينيّة

انبعثت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام من ضمير الاُمّة الحيّ ، ومن وحي الرسالة الإسلاميّة المقدّسة ، ومن البيت الذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة للبشرية جمعاء ، البيت الذي حمى الرسالة والرسول ودافع عنهما حتّى استقام عمود الدين. وأحدثت هذه الثورة المباركة في التأريخ الإنساني عاصفة تقوّض الذلّ والاستسلام ، وتدكّ عروش الظالمين ، وأضحت مشعلاً ينير الدرب لكلّ المخلصين من أجل حياة حرّة كريمة في ظلّ طاعة الله تعالى.

ولا يمكن لأحد أن يغفل عمّا تركته هذه الثورة من آثار في الأيام والسّنوات التي تلتها ، رغم كلّ التشويه والتشويش الذي يحاول أن يمنع من سطوع الحقيقة لناشدها. وبالإمكان أن نلحظ بوضوح آثاراً كثيرة لهذه الثورة العظيمة عبر الأجيال وفي حياة الرسالة الإسلاميّة ، بالرغم من أنّا لا نحيط علماً بجميعها طبعاً ، وأهم تلك الآثار هي :

١ ـ فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني المزيّف

بفعل ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام تكشّفت للناس حقيقة النزعة الاُموية المتسلّطة على الحكم ، ونسفت تضحيات الثائرين كلّ الاُطر الدينية المزيّفة


التي استطاع الاُمويّون من خلالها تحشيد الجيوش للقضاء على الثورة ، مستعينين بحالة غياب الوعي ، وشيوع الجهل الذي خلّفته السّقيفة. ونلمس هذا الزيف في قول مسلم بن عمرو الباهلي يؤنّب مسلم بن عقيل ربيب بيت النبوّة ، والعبد الصالح لخروجه على يزيد الفاسق ، ويفتخر بموقفه قائلاً : أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته (١).

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة الجيش الأموي ـ يحفّز النّاس لمواجهة الإمام الحسين عليه‌السلام حين وجد منهم تردّداً وتباطؤاً عن الأوامر قائلاً : يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين وخالف الإمام (٢).

فالدين في دعوى الاُمويّين طاعة يزيد ومقاتلة الحسين عليه‌السلام.

ولكن حركة الإمام الحسين عليه‌السلام ورفضه البيعة وتضحياته الجليلة نبّهت الاُمّة ، وأوضحت لها ما طُمس بفعل التضليل ؛ فقد وقف الإمام الحسين عليه‌السلام يخاطبهم ويوضّح مكانته في الرسالة والمجتمع الإسلامي : «أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟!».

هذا بالإضافة إلى كلّ الخطب والمحاورات التي جرت في وضع متوتّر حسّاس أوضح للناس مكانة طرفي النزاع. ثمّ ما آلت إليه نتيجة المعركة من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٨١.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٣٣١.


بشاعة في السّلوك والفكر ؛ فاتّضحت خسّة الاُمويّين ودناءتهم ودجلهم.

وكان الأثر البالغ في مواصلة الثورة الحسينيّة بدون سلاح دمويّ حين واصلت العقيلة زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام فضح الجرائم التي ارتكبها بنو اُميّة ، ومن ثمّ توضيح رسالة الإمام الحسين عليه‌السلام.

إنّ جميع المسلمين متّفقون ـ على اختلاف مذاهبهم وآرائهم ـ بأنّ الموقف الحسيني كان يمثّل موقفاً إسلامياً شرعيّاً ، وأنّ يزيد كان مرتدّاً ومتمردّاً على الإسلام والشّرع الإلهي والموازين الدينية.

٢ ـ إحياء الرسالة الإسلاميّة

لقد كان استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام هزّة لضمير الاُمّة ، وعامل بعث لإرادتها المتخاذلة ، وعامل انتباه مستمر للمنحدَر الذي كانت تسير فيه بتوجيه من بني اُميّة ، ومَنْ سبقهم من الحكّام الذين لم يحرصوا على وصول الإسلام نقيّاً إلى مَنْ يليهم من الأجيال.

لقد استطاع سبط الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُبيّن الموقف النظري والعملي الشّرعي للاُمّة تجاه الانحراف الذي يصيبها حينما يستبدّ بها الطّغاة ، فهل انتصر الحسين عليه‌السلام في تحقيق هذا الهدف؟

لعلّنا نجد الجواب فيما قاله الإمام زين العابدين عليه‌السلام حينما سأله إبراهيم بن طلحة بن عبد الله قائلاً : مَنْ الغالب؟ قال عليه‌السلام : «إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب» (١).

لقد كان الحسين عليه‌السلام هو الغالب إذ تحقق أحد أهم أهدافه السّامية بعد محاولات الجاهليّة لإماتته وإخراجه من معترك الحياة.

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ٣ / ٤٤٠ عن أمالي الشيخ الطوسي.


٣ ـ الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين

اشتعلت شرارة الشّعور بالإثم في نفوس النّاس ، وكان يزيدها توهجاً واشتعالاً خطابات الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، وزينب بنت عليّ بن أبي طالب ، وبقية أفراد عائلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي ساقها الطّغاة الاُمويّون كسبايا من كربلاء إلى الكوفة فالشام.

فقد وقفت زينب عليها‌السلام في أهل الكوفة حين احتشدوا يُحدّقون في موكب رؤوس الشهداء والسّبايا ، ويبكون ندماً على ما فرّطوا وما حصل لآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فأشارت إليهم أن اسكتوا فسكتوا ، فقالت :

أما بعد :

يا أهل الكوفة أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ، ولا هدأت الرّنة ، إنّما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا ساء ما تزرون ، أي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبداً ، وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجّتكم ، ومنار محجّتكم ، وهو سيد شباب أهل الجّنة؟».

وتكلّم عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فقال :

أيّها النّاس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟ فتبّاً لكم لما قدمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم! بأيّ عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي؟ (١).

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ٣ / ٣٤١ عن مثير الأحزان.


وروي أيضاً أنّ يزيد بن معاوية فرح فرحاً شديداً ، وأكرم عبيد الله بن زياد ، ولكن ما لبث أن ندم ، ووقع الخلاف بينه وبين ابن زياد حين علم بحال النّاس وسخطهم عليه ، ولعنهم وسبّهم (١).

ولقد كان الشّعور بالإثم يمثّل موقفاً عاطفياً مفعماً بالحرارة والحيوية والرغبة الشديدة بالانتقام من الحكم الاُموي ؛ ممّا دفع بالكثير في الجماعات الإسلاميّة إلى العمل للتكفير عن موقفهم المتخاذل عن نصرة الإمام الحسين عليه‌السلام بصيغة ثورة مسلحة لمواجهة الحكم الاُموي الظالم.

صحيح إنّه لا يمكننا أن نعتبر موقف المسلمين هذا موقفاً عقلياً نابعاً من إدراك فساد الحكم الاُموي وبعده عن الرسالة الإسلاميّة ، إلاّ إنّه كان موقفاً صادقاً يصعب على الحاكمين السّيطرة عليه كالسيطرة على الموقف العقلاني ، فكان الحكّام الظلمة وعبر مسيرة العداء لأهل البيت النبوي عليهم‌السلام يحسبون له ألف حساب.

٤ ـ إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها (٢)

كانت ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام السّبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية ، وهزّة قويّة في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم ، عاجزاً عن مواجهة ذاته ومواجهة الحاكم الظالم الذي يعبث بالاُمّة كيف يشاء ، مؤطّراً تحرّكه بغطاء ديني يحوكه بالدجل والنفاق ، وبأيدي وعّاظ السّلاطين أحياناً ، واُخرى بحذقه ومهارته في المكر والحيلة.

فتعلّم الإنسان المسلم من ثورة الحسين عليه‌السلام أن لا يستسلم ولا يساوم ، __________________

(١) تأريخ الطبري ٤ / ٣٨٨ ، تأريخ الخلفاء / ٢٠٨.

(٢) للمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (النظرية ، الموقف ، النتائج) ـ للسيّد محمّد باقر الحكيم / ١٠٠.


وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظلّ حكم يتمتّع بالشّرعية ، أو على الأقل برضى الجماهير.

ونجد انطلاقات عديدة لثورات على الحكم الأموي وإن لم يُكتب لها النجاح إلاّ إنّها توالت حتّى سقط النظام. ورغم أنّ أهدافها كانت متفاوتة إلاّ إنّها كانت تستلهم من معين ثورة الحسين عليه‌السلام ، أو تستعين بالظرف الذي خلقته. فمن ذلك ثورة التوّابين (١) التي كانت ردّة فعل مباشرة للثورة الحسينيّة ، وثورة المدينة (٢) ، وثورة المختار الثقفي (٣) الذي تمكّن من محاكمة المشاركين في قتل الحسين عليه‌السلام ، ومجازاتهم بأفعالهم الشنيعة وجرائمهم الفضيعة ، ثمّ ثورة مطرف بن المغيرة ، وثورة ابن الأشعث ، وثورة زيد بن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام (٤) ، وثورة أبي السّرايا (٥).

لقد أحيت الثورة الحسينيّة روح الجهاد وأجّجتها ، وبقي النبض الثائر في الاُمّة حيّاً رغم توالي الفشل اللاحق ببعض تلكم الثورات ، إلاّ إنّ الاُمّة الإسلاميّة أثبتت حيويّتها ، وتخلّصت من المسخ الذي كاد أن يطيح بها بأيدي الاُمويّين وأسلافهم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٢٦ ، ٤٤٩.

(٢) المصدر السابق ٤ / ٤٦٤.

(٣) المصدر السابق ٤ / ٤٨٧.

(٤) مقاتل الطالبيين / ١٣٥.

(٥) المصدر السابق / ٥٢٣.


الفصل الرابع

من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام

نظرة عامّة في تراث الإمام الحسين عليه‌السلام

الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام قائد مبدئي ، وأحد أعلام الهداية الربّانية الذين اختارهم الله لحفظ دينه وشريعته ، وجعلهم اُمناء على تطبيقها ، وطهّرهم من كلّ رجس ليصونوها من أيّ تحريف أو تحوير.

إنّ المحنة التي عاشها الأئمّة الثلاثة عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام كانت أكبر محنة للعقيدة والأُمّة ؛ لأنّها قد بدأت بانحراف القيادة عن خطّ الرسالة ، ولكنها لم تقتصر على الانحراف عن المبدأ الشّرعي في ممارسة الحكم فحسب ، وإنّما كانت تمتد أبعادها إلى أعماق الأُمّة والشّريعة.

إنّ هذا الانحراف الخطير قد زاد في عزيمة هؤلاء الأئمّة الهداة ، ممّا جعلهم يهتمّون بإحكام قواعد الشّريعة في الاُمّة وتعليمها وتربيتها بما يحول دون تسرّب الانحراف إليها بسرعة ، وبما يحول دون تفتيتها وتمزيق قواها.

ومن هنا كانت تربية الجماعة الصّالحة ، والسّهر على تنشئتها والاهتمام بقضاياها أمراً في غاية الأهمّية ، ويظهر للمتتبع والمحقّق عظمة ذلك فيما لو أراد أن يقارن بين مواقف المسلمين تجاه أهل بيت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله خلال


خمسين عاماً بعد وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هنا كان التراث الذي تركه لنا كلّ من الإمام المرتضى والحسن المجتبى والحسين الشّهيد بكربلاء تراثاً عظيماً ومهمّاً جدّاً.

حيث نلمس الغناء في هذه الثروة الفكرية والعلمية التي وصلتنا عنهم عليهم‌السلام.

وللمتتبع أن يراجع موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام ، ووثائق الثورة الحسينيّة ، وبلاغة الحسين ، ومجموعة خطبه ورسائله ؛ ليقف على عظمة هذه الثروة الكبرى وقفة متأمّل ومستفيد.

وها نحن نستعرض صوراً من اهتمامات هذا الإمام العظيم فيما يلي من بحوث :

في رحاب العقل والعلم والمعرفة

قال عليه‌السلام :

١ ـ خمس مَنْ لم تكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع : «العقل ، والدين ، والأدب ، والحياء ، وحسن الخلق» (١).

٢ ـ وسُئل عن أشرف النّاس ، فقال : «مَنْ اتّعظ قبل أن يوعَظ ، واستيقظ قبل أن يوقِظ» (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «لا يكملُ العقلُ إلاّ باتّباع الحقّ» (٣).

٤ ـ «العاقل لا يُحدِّث مَنْ يخاف تكذيبَه ، ولا يَسأل مَنْ يخاف منعَه ، ولا يثِقُ بمَنْ يخافُ غدرَه ، ولا يرجو مَنْ لا يوثقُ برجائه» (٤).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٤٣ عن حياة الإمام الحسين ١ / ١٨١.

(٢) المصدر السابق / ٧٤٣ عن إحقاق الحق ١١ / ٥٩٠.

(٣) المصدر السابق / ٧٤٢ عن أعلام الدين / ٢٩٨. وورد هذا النص عن الإمام علي عليه‌السلام أيضاً.

(٤) المصدر السابق / ٧٤٢ عن حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ / ١٨١.


٥ ـ «العلم لقاحُ المعرفة ، وطول التجارب زيادةٌ في العقل ، والشّرف التقوى ، والقنوعُ راحةُ الأبدان ، ومَنْ أحبَّكَ نهاكَ ، ومَنْ أبغضك أغراك» (١).

٦ ـ «من دلائل العالم انتقادُه لحديثهِ ، وعلمه بحقائق فنونِ النظر» (٢).

٧ ـ «لو أنّ العالِمَ كلّ ما قال أحْسَنَ وأصابَ لأوْشَكَ أن يجنّ من العُجْبِ ، وإنّما العالِمُ مَنْ يكثرُ صَوابُه».

٨ ـ وفي دعاء عرفةَ للإمام الحسين عليه‌السلام مقاطع بديعة ترتبط بالمعرفة البشرية وسُبُل تحصيلها ، وقيمة كلّ سبيل وما ينبغي للعاقل أن يسلكه من السبل الصحيحة والموصلة إلى المقصود ، نختار منها نماذج ذات علاقة ببحثنا هذا.

قال عليه‌السلام :

أ ـ «إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟!».

ب ـ «إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليَّ في كلّ شيء حتّى لا أجهلك في شيء».

ج ـ «إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار ؛ فَاجمعني عليك بحذمة توصلني إليك ، كيف يُستَدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكونَ هو المظهِرَ لك؟! متى غبتَ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بَعُدْتَ حتّى تكونَ الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً».

د ـ «إلهي أمرتَ بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوةِ الأنوار وهداية الاستبصار ؛ حتّى أرجعَ إليك منها كما دخلتُ إليك منها ، مَصونَ السرِّ عن النظرِ إليها ، ومرفوع

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام / ٧٤٢ و٧٤٣ عن بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٨ ح ١١.

(٢) المصدر السابق.


الهمّة عن الاعتمادِ عليها».

هـ ـ «منك أطلُبُ الوصول إليك ، وبك استدلُّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدْق العبودّية بين يديك».

و ـ «إلهي علّمني من علمك المخزون ، وصُنّي بستْرك المصون. إلهي حققّني بحقايق أهلِ القُرب».

ز ـ «إلهي أخرِجني من ذُلِّ نفسي ، وطهّرني مِن شكّي وشركي قبل حلول رمسي».

ح ـ «إلهي إنّ القضاء والقدر يُمنيّني ، وإنّ الهوى بوثائق الشهوة أسرني ، فكن أنت النصير لي حتّى تنصرني وتبصرني».

ط ـ «أنتَ الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوْليائك حتّى عرفوك ووحَّدوك ، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سِواك ولم يلجأوا إلى غيرك ، أنت المُؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد مَنْ فقدكَ؟! وما الذي فقد مَنْ وجدك؟!».

ي ـ «أنت الذي لا إله غيرك ، تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيءٌ ، وأنت الذي تعرّفت إليَّ في كلّ شيء فرأيْتُك ظاهراً في كلّ شيء. كيف تخفى وأنت الظاهرُ؟ أم كيف تغيبُ وأنت الرقيبُ الحاضِرُ؟!» (١).

في رحاب القرآن الكريم

لقد اعتنى أهل البيت الطاهرون عليهم‌السلام بالقرآن الكريم اعتناءً وافراً ، فعكفوا على تعليمه وتفسيره ، وفقه آياته وتطبيقه وصيانته عن أيدي العابثين والمحرّفين ، وتجلّت عنايتهم به في سلوكهم وهديهم وكلامهم. وقد اُثرت عن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام كلمات جليلة حول التفسير والتأويل والتطبيق ، وهي جديرة بالمطالعة والتأمّل نختار نماذج منها :

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٨٠٣ ـ ٨٠٦ عن إقبال الأعمال / ٣٣٩.


أ ـ قال عليه‌السلام : «كتاب الله (عزّ وجلّ) على أربعة أشياء ؛ على العبارة والإشارة ، واللطائف والحقائق ؛ فالعبارةُ للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائفُ للأولياء ، والحقائق للأنبياء» (١).

ب ـ «مَنْ قرأ آيةً من كتاب الله في صلاته قائماً يُكتَب له بكلّ حرف مِئةُ حَسَنَة ، فإن قَرَأها في غير صلاة كتب اللهُ له بكلّ حرف عَشْراً ، فإن استمَعَ القرآنَ كان له بكلّ حرف حَسَنةٌ ، وإن خَتَمَ القرآنَ ليلاً صلّت عليه الملائكة حتّى يُصبِحَ ، وإن ختَمَه نهاراً صلّت عليه الحفَظَةُ حتّى يُمسيَ ، وكانت له دعوةٌ مستجابَةٌ ، وكان خيراً له ممّا بين السّماء والأرضِ» (٢).

ج ـ وعنه عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) يعني بها «أرض لم تُكتسب عليها الذنوب ، بارزة ليست عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة» (٣).

د ـ وسأله رجل عن معنى (كهيعص) ، فقال له : «لو فسّرتُها لك لمشيت على الماء» (٤).

هـ ـ وقال النصرُ بن مالك له : يا أبا عبد الله ، حَدِّثني عن قول الله (عزّ وجلّ) (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)، قال : «نحن وبنو اُمية اختصمنا في الله عزّ وجلّ ؛ قلنا : صدق الله ، وقالوا : كذب اللهُ. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة» (٥).

و ـ وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ) ، قال عليه‌السلام : «هذه فينا أهل البيت» (٦).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٥١ عن جامع الأخبار / ٤٨.

(٢) المصدر السابق / ٥٥١ ، عن الكافي ٢ / ٦١١ ح ٣.

(٣) المصدر السابق / ٥٦٠ عن تفسير البرهان ٢ / ٣٢٣.

(٤) المصدر السابق / ٥٦١ عن ينابيع المودّة / ٤٨٤.

(٥) المصدر السابق / ٥٦٣ عن حياة الحسين ٢ / ٢٣٤.

(٦) المصدر السابق / ٥٦٤ عن بحار الأنوار ٢٤ / ١٦٦.


ز ـ في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، قال عليه‌السلام : «إنّ القرابة الّتي أمَرَ اللهُ بصلتها ، وعظم حقّها ، وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب حقَّنا على كلّ مسلم» (١).

ح ـ وفسّر النعمة في قوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). «بما أنعم الله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من دينهِ» (٢).

ط ـ وفسّر الصَمَد بقوله : «إنّ الله قد فَسَّرَهُ بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)» (٣).

ي ـ وقال : «الصمد : الذي لا جوف له. والصمد : الذي قد انتهى سؤدده. والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب. والصمد : الذي لا ينام. والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (٤).

ك ـ وروي أنّ عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين عليه‌السلام سورة الحمد ، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه عليه‌السلام ألف دينار ، وألف حُلّة ، وحشا فاه دُرّاً ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه‌السلام : «وأين يقع هذا من عطائه؟» ، يعني بذلك تعليمه القرآن (٥).

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة

لقد عاصر الحسين جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعاش في كنف الوحي والرسالة ، وارتضع من ثدي الإيمان ، فحمل هموم الرسالة الخاتمة كاُمّه وأبيه وأخيه ، وعلم أنّ سنة الرّسول وسيرته هي المصدر الثاني للإشعاع الرسالي ،

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٦٥ عن بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥١ ح ٣٧.

(٢) المصدر السابق / ٥٦٧ عن المحاسن ١ / ٣٤٤ ح ١١.

(٣) المصدر السابق / ٥٦٨ عن التوحيد / ٩٠ ح ٥ ، ثمّ نقل تفسيرها بشكل تفصيلي فراجع.

(٤) المصدر السابق / ٥٦٩ عن معادن الحكمة ٢ / ٥١.

(٥) المصدر السابق / ٨٢٧ عن بحار الأنوار ٤٤ / ١٩١.


وأيقن بضرورة الاهتمام بهما ، وضرورة الوقوف أمام مؤامرات التحريف والتضييع ، ومنع التدوين التي تزعّمها جملة من كبار الصّحابة ، وكيف واجهوا جدّه بكلّ صلف ؛ حذراً من انكشاف الحقائق التي تحول دون وصولهم للسّلطة ، أو تعكّر عليهم صفوها.

ومن هنا نجد الحسين عليه‌السلام يقف بكلّ شجاعة أمام هذا التآمر على الدين ، ويُضحّي بأغلى ما لديه من أجل إحياء شريعة جدّه سيّد المرسلين ، محقّقاً شهادة جدّه الخالدة في حقّه : «حسين منّي وأنا من حسين» ، «ألا وإنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النّجاة».

وهكذا نجد في تراثه الرائع اعتناءه البليغ بنقل السّيرة النبويّة الشّريفة ، والتحديث بسنّته والعمل بها وإحيائها ، ولو بلغ مستوى الثورة على مَنْ يتسلّح بها لمسخها وتشويهها.

قال (صلوات الله عليه) :

١ ـ «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن ما خلق اللهُ خلْقاً» (١).

٢ ـ وروى الحسين عليه‌السلام ـ كأخيه الحسن عليه‌السلام ـ وصفاً دقيقاً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهديه في سيرته مع نفسه وأهل بيته وأصحابه ، ومجلسه وجلسائه ، أخذاه من أبيهما علي عليه‌السلام وهو الذي ربّاه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره حتّى التحاقه بالرفيق الأعلى. ونشير إلى مقطع من هذه السّيرة : قال الحسين عليه‌السلام : «فسألته عن سكوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

كان سكوته على أربع ؛ على الحلم والحذر ، والتقدير والتفكّر ؛ فأمّا التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين النّاس ؛ وأمّا تفكّره ففيما يبقى أو يفنى. وجمع له الحلم في

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٧١ ، عن كنز العمّال ٧ / ٢١٧.


الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه ، وجُمع له الحذر في أربع ؛ أخذه بالحَسَن ليُقتدى به ، وتركه القبيح ليُنتهى عنه ، واجتهاده الرأي في صلاح اُمّته ، والقيام في ما جُمع له من خير الدنيا والآخرة» (١).

٣ ـ وروى أيضاً أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح وهو مهموم ، فقيل له : ما لَكَ يا رسول الله؟ فقال : «إنّي رأيت في المنام كأنّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا». فقيل : يا رسول الله ، لا تهتم ؛ فإنّها دُنيا تنالهُمُ. فأنزل الله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ...) (٢).

٤ ـ وروى أيضاً أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أكل طعاماً يقول : «اللّهمّ بارك لنا فيه ، وارزقنا خيراً منه» ، وإذا أكل لَبَناً أو شَرِبَه يقول : «اللّهمّ بارك لنا فيه وارزقنا منه» (٣).

وكان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا يفصل بينهما كما يَستَطْعِمُ المسكينُ (٤).

٥ ـ وسُئل عن الأذان وما يقول النّاس فيه ، قال : «الوحي ينزل على نبيّكم وتزعمون أنّه أخَذَ الأذانَ عن عبد الله بن زيد؟! بل سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : أهبَطَ الله (عزّ وجلّ) ملكاً حين عُرِج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأذّن مثنى مثنى ، وأقامَ مثنى مثنى ، ثمّ قال له جبرئيل : يا محمّد ، هكذا أذان الصلاة» (٥).

٦ ـ وروى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مع عليّ عليه‌السلام ثلاثين فرساً في غزاة السلاسل ، فقال : «يا عليّ ، أتلو عليك آيةً في نفقة الخيل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام / ٥٧١ ـ ٥٧٥ عن مجمع الزوائد ٨ / ٢٧٤ ، ومعاني الأخبار / ٧٩.

(٢) المصدر السابق / ٥٧٥ عن الغدير ٨ / ٢٤٨.

(٣) المصدر السابق / ٥٧٨ عن عيون أخبار الرضا ٢ / ٤٢.

(٤) المصدر السابق عن بحار الأنوار ١٦ / ٢٨٧.

(٥) المصدر السابق / ٦٨٣ عن مستدرك الوسائل ٤ / ١٧.


وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً). يا علي ، هي النفقة على الخيل ينفق الرجلُ سّراً وعلانيةً» (١).

وقد نقل عليه‌السلام حوادث عصر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا رآه مباشرة ، أو سمعه عن اُمّه أو أبيه ، وهما المعصومان من الزلل والمعتمدان في النقل (٢).

في رحاب أهل البيت عليهم‌السلام

لقد دلّ حديث الثقلين ـ المتواتر والمقبول لدى عامّة المسلمين ـ على أنّ خلود الإسلام رهن الأخذ بركنين مُتلازمين وهما ؛ القرآن الكريم وعترة النبيّ المختار (صلوات الله عليهم أجمعين) ؛ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا الحوض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلا بدّ للمسلمين من التمسّك بهما ليصونوا أنفسهم عن الضلال في كلّ عصر وزمان.

ومن هنا جهد أعداء الإسلام القدامى على التفريق بين هذين الركنين ؛ تارةً بدعوى تحريف القرآن لفظاً أو معنىً ، واُخرى بالمنع عن تفسيره أو تطبيقه ، وثالثةً بانتقاص العترة ، ورابعةً بعزلهم عن ممارسة دورهم السّياسي والاجتماعي التثقيفي ، وخامسةً بطرح البديل عنهم ورفع شعار الاستغناء عنهم وعن علمهم ودرايتهم.

والأئمّة المعصومون المأمونون ـ على سلامة الرسالة الإسلاميّة بنص من الوحي الإلهي ـ كثّفوا جهودهم ، وركّزوا جهادهم على صيانة هذين الأساسين من أيدي العابثين وإن كلّفهم ذلك أنفسهم وأموالهم ، بل كلّ ما يملكون تقديمه فداءً للرسالة المحمّدية.

ونشير إلى جملة من النصوص المأثورة عن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام / ٧١٠ عن مستدرك الوسائل ٨ / ٢٠٣.

(٢) راجع موسوعة كلمات الإمام الحسين ، وتتبع ما نقله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.


في هذا الصدد :

١ ـ لمّا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول : «لا يدخل الجّنة إلاّ مَنْ كان مُسلماً». فقام إليه أبو ذرّ الغفاري رحمه‌الله فقال : يا رسول الله ، وما الإسلام؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام عريان ، ولباسه التقوى ، وزينته الحياء ، وملاكه الورع ، وكماله الدين ، وثمرته العمل ، ولكلّ شيء أساس ، وأساس الإسلام حبنّا أهل البيت» (١).

٢ ـ وجاء عنه عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ أحبّنا كان منّا أهل البيت». واستدلّ على ذلك بقوله تعالى ـ تقريراً لقول العبد الصالح ـ : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (٢).

وواضح أنّ مَنْ أحبّهم فسوف يتّبعهم ، ومَنْ تبعهم كان منهم.

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «أحِبّونا حُبَّ الإسلام ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا ترفعوني فوق حقّي ؛ فإنّ الله تعالى اتخّذني عبداً قبل أن يتخّذني رسولاً» (٣).

٤ ـ وقال عليه‌السلام : ما كُنّا نعرفُ المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ ببغضهم عليّاً وولده عليهم‌السلام (٤).

٥ ـ وروي أنّ المنذر بن الجارود مرّ بالحسين عليه‌السلام فقال : كيف أصبحت ـ جعلني الله فداك ـ يابن رسول الله؟ فقال عليه‌السلام : «أصبَحَتْ العربُ تعتدّ على العَجَم بأنّ محمّداً منها ، وأصَبَحَتْ العَجَمُ مُقِرَّةً لها بذلك ، وأصبَحْنا وأصبَحَتْ قريشٌ يعرفون فضلَنا ولا يَرَوْنَ ذلكَ لنا ، ومن البلاء على هذِهِ الاُمّةِ أنّا إذا دعوناهُم لم يُجيبونا ، وإذا تركناهم لم يهتدوا بغيرِنا» (٥).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٨٢ عن أمالي الطوسي ١ / ٨٢.

(٢) المصدر السابق / ٥٨٢ عن نزهة الناظر وتنبيه الخاطر / ٨٥.

(٣) المصدر السابق عن مجمع الزوائد ٩ / ٢١.

(٤) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٨٥ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ / ٧٢.

(٥) المصدر السابق / ٥٨٦ عن نزهة الناظر / ٨٥.


بشائر الحسين عليه‌السلام بالمهدي عليه‌السلام ودولته

تراكمت البشائر النبويّة حول غيبة الإمام المهدي المنتظر وظهوره ، وخصائص دولته وأوصافه ونسبه الشّريف ، كما توضّح الصّحاح والمسانيد هذه الحقيقة في أبواب الملاحم والفتن ، وأشراط السّاعة وغيرها.

واعتنى الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام بهذه القضية اعتناءً لا يقلّ عن عناية الرّسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستمراراً للخطّ الذي اختطّه ، والمنهج الذي سلكه في التمهيد لدولة الحقّ التي تتكفّل تحقيق آمال الأنبياء والأوصياء جميعاً وعلى مدى التاريخ.

وقد كثرت النصوص الواصلة إلينا عن أبي الأئمّة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام. فروى عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام مجموعة فريدة من التصريحات المهمّة بشأن المهدي عليه‌السلام ، نختار نماذج منها :

١ ـ قال عليه‌السلام : «دخلت على جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأجلسني على فخذه ، وقال لي : إنّ الله اختار من صُلبك يا حسين تسعة أئمّة تاسعهم قائمهم ، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء» (١).

٢ ـ وسأله شعيب بن أبي حمزة قائلاً : أنت صاحبُ هذا الأمر؟ فأجابه : «لا». فقال له : فمَنْ هو؟ فأجاب عليه‌السلام : «الذي يملؤها عدلاً كما مُلئِت جَوْراً ، على فترة من الأئمّة تأتي كما إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعِث على فترة من الرسل» (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «لصاحب هذا الأمر غيبتان ؛ إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم :

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٦٥٩ عن ينابيع المودّة / ٥٩٠.

(٢) المصدر السابق / ٦٦٠ عن عقد الدرر / ١٥٨.


مات ، وبعضهم : قُتِل ، وبعضهم : ذهب ، ولا يطّلعُ على موضعه أحدٌ مِن وليّ ولا غيرهِ إلاّ المولى الذي يلي أمره» (١).

٤ ـ وقال عليه‌السلام : «لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوَّلَ الله (عزّ وجلّ) ذلك اليوم حتى يخرجَ رجلٌ من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئِت جوراً وظُلماً ، كذلك سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول» (٢).

٥ ـ وقال عليه‌السلام : «للمهدي خمسُ علامات ؛ السفياني ، واليماني ، والصيحةُ من السّماء ، والخسفُ بالبيداء ، وقتل النفسِ الزكيّة» (٣).

٦ ـ وقال عليه‌السلام أيضاً : «لو قام المهديّ لأنكره النّاس ؛ لأنّه يرجع إليهم شابّاً موفّقاً ، وإنّ من أعظم البليّة أن يخرج إليهم صاحبُهم شابّاً وهم يحسبونَه شيخاً كبيراً» (٤).

٧ ـ وقال عليه‌السلام : «في التاسع من ولدي سُنّة من يوسف ، وسنّة من موسى بن عمران عليه‌السلام ، وهو قائمنا أهل البيت ، يُصلح الله تبارك وتعالى أمرَه في ليلة واحدة» (٥).

٨ ـ وقال عليه‌السلام : «إذا خرج المهدي عليه‌السلام لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاّ السّيف ، وما يستعجلون بخروج المهديّ؟ والله ما لباسُه إلاّ الغليظُ ، ولا طعامه إلاّ الشعيرُ ، وما هو إلاّ السّيفُ ، والموتُ تحت ظِلِّ السّيْفِ» (٦).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين عن عقد الدرر / ١٣٤.

(٢) المصدر السابق / ٦٦١ عن كمال الدين / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق / ٦٦٢ عن عقد الدرر / ١١١.

(٤) المصدر السابق / ٦٦٥ عن عقد الدرر / ٤١.

(٥) المصدر السابق عن كمال الدين / ٣١٧.

(٦) المصدر السابق / ٦٦٣ عن عقد الدرر / ٢٢٨.


في رحاب العقيدة والكلام

ونختار من هذه البحوث نماذج ممّا وصلنا عن أبي الشّهداء الحسين بن عليّ عليهما‌السلام.

١ ـ وممّا قاله عن توحيد الله سبحانه : «... ولا يقدّر الواصِفون كنه عظمته ، ولا يخطر على القلوبِ مبلَغَ جبروته ؛ لأنّه ليس له في الأشياء عديل ، ولا تدركه العلماء بألبابها ، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلاّ بالتحقيق إيقاناً بالغيبِ ؛ لأنّه لا يوصَفُ بشيء من صفات المخلوقين وهو الواحد الصمدُ ، ما تُصُوِّر في الأوهامِ فَهُوَ خلافُه ... يوجِدُ المفقودَ ويُفقِدُ الموْجُودَ ، ولا تجتمع لغيره الصفتانِ في وقت ، يصيب الفكرُ منه الإيمانَ به موجوداً ، ووجودَ الإيمانِ لا وجودَ صِفَة ، به توصف الصّفاتُ لا بها يوصَفُ ، وبه تُعرَفُ المعارِفُ لا بها يُعرَف ، فذلك الله ، لا سَميَّ لَهُ ، سبحانه! ليس كمثلِهِ شيء ، وهو السّميعُ البصيرُ» (١).

وممّا قاله أيضاً لابن الأزرق : «أصف إلهي بما وصف به نفسَه ، وأُعرِّفُه بما عرّف به نفسَه. «لا يُدْرَك بالحواس ، ولا يُقاس بالنّاسِ ، فهو قريبٌ غير ملتصِق ، وبعيدٌ غير مُتَقَصّ (تقص) ، يُوَحَّدُ ولا يُبَعَّضُ ، مَعروف بالآيات ، موصوف بالعلاماتِ ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعالُ» (٢).

٢ ـ وخرج على أصحابه فقال : «أيّها النّاس ، إنّ اللهَ (جَلَّ ذكرهُ) ما خَلَقَ العباد إلاّ ليعرفوهُ ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنَوْا بعبادته عن عبادة ما سواهُ». ثمّ سأله رجل عن معرفة الله فقال : معرفةُ أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه» (٣).

٣ ـ وتكلّم عن ملاك التكليف قائلاً : «ما أخَذَ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه

__________________

(١) موسوعة كلمة الإمام الحسين / ٥٣٠ عن تحف العقول / ١٧٣.

(٢) المصدر السابق / ٥٣٣ عن التوحيد / ٧٩.

(٣) المصدر السابق / ٥٤٠ عن علل الشّرايع / ٩.


طاعتَه ، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنهُ كُلْفَتَه» (١).

٤ ـ وكتب للحسن بن أبي الحسن البصري جواباً عن سؤاله حول القدر : «إنّه مَنْ لم يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه فقد كفر ، ومَنْ حمل المعاصي على الله (عزّ وجلّ) فقد افترى على الله افتراءً عظيماً. إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه ، ولا يُعصى بغَلَبَة ، ولا يُهملُ العبادَ في الهلكة ، لكنّه المالك لما ملّكهم ، والقادرُ لما عليه أقدَرَهُم ، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادّاً عنها مُبطِئاً ، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمن عليهم فيحولَ بينهَم وبين ما ائتمروا به فعل ، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلَهم عليها قسراً ولا كلّفهم جبراً ، بل بتمكينهِ إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم طوّقَهُم ومكّنهم ، وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم ، وترك ما عنه نهاهم» (٢).

٥ ـ واشتملت أدعيته عليه‌السلام على دُرر باهرة في التوحيد والمعرفة والهداية الإلهية ، ولاسيما دعاء العشرات المرويّ عنه (٣) ، ودعاء عرفة الذي عُرِف به ؛ لِما يسطع به من معارف زاخرة وعلوم جمّة ، بل هو دورة عقائدية كاملة. وإليك مطلعه :

«الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ، ولا لعطائه مانعٌ ، ولا كصنعه صنعُ صانِع ، وهو الجوادُ الواسِعُ. فَطَر أجناسَ البدائعِ ، وأتقنَ بحكمتِهِ الصنائعَ. لا تخفى عليه الطلائعُ ، ولا تضيع عنده الودائعُ. أتى بالكتابِ الجامعِ ، و (بشرع السّلام) النور السّاطعِ ، وهو للخليقة صانعٌ ، وهو المستعانُ على الفجائِع» (٤).

__________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٥٤٢ عن تحف العقول / ١٧٥.

(٢) المصدر السابق / ٥٤٠ ـ ٥٤١ عن معادن الحكمة ٢ / ٤٥.

(٣) البلد الأمين ـ للكفعمي / ٢٤.

(٤) موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٩٣ ـ ٨٠٦ عن إقبال الأعمال / ٣٣٩.


في رحاب الأخلاق والتربية الروحية

١ ـ سُئل عن خير الدنيا والآخرة فكتب عليه‌السلام : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعدُ ، فإنّه مَنْ طلب رضى الله بسخط النّاس كفاه الله اُمور النّاس ، ومَنْ طلب رضى النّاس بسخط الله وكلّه الله إلى النّاس. والسّلام» (١).

٢ ـ بيّن عليه‌السلام أقسام العبادة ، ودرجات العُبّاد ، قائلاً : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (٢).

٣ ـ قال عليه‌السلام عن آثار العبادة الحقيقية : «مَنْ عَبَدَ الله حقَّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايتهِ» (٣).

٤ ـ سُئل عن معنى الأدب فقال : «هو أن تخرج من بيتك فلا تَلقى أحداً إلاّ رأيت له الفضلَ عليك» (٤).

٥ ـ قال الإمام الحسين عليه‌السلام : «مالُك إن يكن لك كنتَ له فلا تبقِ عليه ؛ فإنّه لا يُبقي عليك ، وكلُه قبل أن يأكلك» (٥).

في رحاب مواعظه الجليلة

١ ـ كتب إليه رجل : عِظني بحرفين. فكتب إليه : «مَنْ حاوَل أمراً بمعصية الله

__________________

(١) أمالي الصدوق / ١٦٧.

(٢) تحف العقول / ١٧٥.

(٣) بحار الأنوار ٧١ / ١٨٤.

(٤) ديوان الإمام الحسين / ١٩٩.

(٥) بحار الأنوار ٧١ / ٣٥٧.


تعالى كانَ أفْوَتَ لما يَرجو ، وأسْرَعَ لمجي ما يحذَرُ» (١).

٢ ـ وجاءه رجل فقال له : أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة.

فقال عليه‌السلام : «افعل خمسةَ أشياءَ واذنب ما شئتَ ؛ فأوّل ذلك : لا تأكل رزقَ اللهِ واذنب ما شئِتَ. والثاني : اخرج من ولاية الله واذنِب ما شئت. والثالث : اطلُبْ موضِعاً لا يراكَ اللهُ واذنب ما شِئتَ. والرابع : إذا جاء ملَكُ الموتِ ليقبِضَ روحَكَ فادفَعْهُ عن نفسِكَ واذنب ما شئتَ. والخامِسُ : إذا أدخَلَكَ مالكُ النارَ فلا تدخُلْ في النارِ واذنِب ما شئتَ» (٢).

٣ ـ وممّا جاء عنه عليه‌السلام في الموعظة : «يابن آدمَ ، تفكَّرْ وقل : أينَ ملوكُ الدنيا وأربابُها الذين عَمّروا واحتفَروا أنهارها ، وغَرَسوا أشجارها ، ومدّنوا مدائِنَها ، فارقوها وهم كارهون ، وورثها قوم آخرون ، ونحن بهم عمّا قليل لاحقونَ. يابن آدم ، اذكر مصرعك ، وفي قبرك مضجعَك ، وموقفَك بين يَدَي اللهِ تشهَدُ جوارحُكَ عليكَ يوم تَزِلُّ فيه الأقدامُ ، وتبلغُ القلوبُ الحناجِرَ ، وتبيضّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجوهٌ ، وتبدو السرائرُ ، ويوضَعُ الميزانُ القِسط. يابن آدمَ ، اذكُر مصارعَ آبائك وأبنائك ، كيف كانوا ، وحيثُ حَلّوا ، وكأنّك عن قليل قد حَلَلْتَ مَحَلَّهُم ، وصِرتَ عِبرَةً للمعتَبِر» (٣).

٤ ـ وخطب عليه‌السلام فقال : «يا أيّها النّاس ، نافسِوا في المكارم ، وسارِعوا في المغانِم ، ولا تحتسِبوا بمعروف لم تُعجّلوا ، واكسبوا الحمدَ بالنُجح ، ولا تكتسِبوا بالمطلِ ذَمّاً ؛ فمهما يكنْ لأحد عند أحد صنيعةٌ له رأى أنّه لا يقومُ بشكرِها ، فالله له بمكافاتهِ ؛ فإنّه أجْزَلُ عطاءً ، وأعظمُ أجراً.

واعلموا أنّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم ، فلا تملّوا النّعم فتُحوّر نقماً» (٤).

__________________

(١) الكافي ٢ / ٣٧٣.

(٢) بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٦.

(٣) إرشاد القلوب ١ / ٢٩.

(٤) كشف الغمة ٢ / ٢٩.


في رحاب الفقه والأحكام الشّرعية

لقد أثبت أهل البيت المعصومون عليهم‌السلام جدارتهم للمرجعية الدينية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المجالين العلمي والسّياسيّ معاً.

وقد عمل خطّ الخلافة بشكل مدروس على حذف هذا الخطّ النّبويّ وعزله عن السّاحة السّياسية والاجتماعية ، وخطّط أهل البيت عليهم‌السلام لمواجهة هذه المؤامرة ، كما عرفت.

غير أنّ البُعْد العلمي قد برز وطغى على البعد السّياسي حتّى اتُّهِمَ أهل البيت عليهم‌السلام باعتزالهم السّاحة السّياسية بعد الحسين عليه‌السلام ، ولكنّ العجز العلمي للخطّ الحاكم بالرغم من كلّ ما أوتي من إمكانات ماديّة وبشرية هو الذي قد بانَ على مدى التاريخ ، وتميّزت مرجعيّة الأئمّة الأطهار على مَنْ سواها من المرجعيات السّائدة آنذاك. وكانت حاجة الاُمة الإسلاميّة إلى تفاصيل الأحكام الشّرعية نظراً للمستجدّات المستمرّة هي السّبب الآخر في ظهور علم أهل البيت عليهم‌السلام وفضلهم وكمالهم.

وما سجّلته كتب التاريخ من حقائق لا تخفى على اللبيب ، مثل حقيقة عدم عجزهم أمام الأسئلة المُثارة ، وعدم اكتسابهم العلم من أحد من أهل الفضل سوى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام لدليل واضح على تميّزهم عمّن سواهم.

وهنا نختار نماذج ممّا يرتبط بالفقه بمعناه المصطلح بمقدار ما يسمح به المجال.

١ ـ ممّا يرتبط بباب الصّلاة ، ذكر الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام جواز الصّلاة بثوب واحد ، مستشهداً بأنّه قد حدّثه مَنْ رأى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام


وهو يصلّي في ثوب واحد ، وحدّثه أنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يُصلّي في ثوب واحد (١).

٢ ـ وجاء أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر فيه بالقراءة من الصّلوات في أوّل فاتحة الكتاب ، وأوّل السّورة في كلّ ركعة ، وجاء عن الحسين عليه‌السلام قوله : «اجتمعنا ولد فاطمة عليها‌السلام على ذلك» (٢).

٣ ـ وكان الحسين بن عليّ عليهما‌السلام يصلّي فمرّ بين يديه رجل ، فنهاه بعض جلسائه ، فلمّا انصرف من صلاته قال له : «لِمَ نَهَيْتَ الرَجُلَ؟» فقال : يابن رسول الله ، خطر فيما بينك وبين المحراب. فقال عليه‌السلام : «ويحك! إنّ الله (عزّ وجلّ) أقربُ إليَّ من أن يخطرَ فيما بيني وبين أحد» (٣).

٤ ـ وكان الحسين عليه‌السلام جالساً فمرّت عليه جنازةٌ ، فقام النّاس حين طلعت الجنازة ، وهنا أوضح الإمام عليه‌السلام للناس ما تصوّروه خطأً من أنّ القيام عند مرور الجنازة من السنّة ؛ باعتبار ما سمعوه من قيام رسول الله عند مرور الجنازة ، فقال الحسين بن عليّ عليهما‌السلام : «مرَّت جنازة يهودي ّفكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على طريقها جالساً ، فكره أن تعلو رأسَه جنازةُ يهوديّ فقامَ لِذلك» (٤).

وقد أحصى مؤلّف موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه‌السلام ما يُقارب من مئتين وخمسين رواية في الأحكام الشّرعية وردت عن الإمام الحسين عليه‌السلام في مختلف أبواب الفقه الإسلامي.

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ / ١٧٥.

(٢) مستدرك الوسائل ٤ / ١٨٩.

(٣) وسائل الشّيعة ٣ / ٤٣٤ ح ٤.

(٤) الكافي ٣ / ١٩٢.


على أنّ سيرة الإمام الحسين عليه‌السلام مثل سيرة سائر الأئمّة الأطهار تعتبر مصدراً من مصادر استلهام الأحكام الشّرعية ؛ لتنظيم السّلوك الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم وللمجتمع الإسلامي.

في رحاب أدعية الإمام الحسين عليه‌السلام

لقد تميّز تراث أهل البيت عليهم‌السلام بظاهرة الدعاء تميّزاً فريداً في جانبي الكمّ والكيف معاً.

فالاهتمام بالدعاء في جميع الحالات والظروف التي يمرّ بها الإنسان في الحياة ، كما قال تعالى : (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) (١) ، هو المظهر الذي ميّز سلوك أهل البيت عليهم‌السلام عمّن سواهم ، وعلى ذلك ساروا في تربيتهم لشيعتهم.

والمسلمون بشكل عام يلمسون هذه الظاهرة بوضوح في موسم الحجّ وغيره من مواسم العبادة عند أتباع أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم.

وتفرّدت أدعية أهل البيت عليهم‌السلام في المحتوى والمقاصد ، والمعاني التي اشتملت عليها أدعيتهم ؛ فإنّها تُفصح بوضوح عن البون الشاسع بينهم وبين غيرهم. فأين الثرى وأين الثريّا؟

وتدلّنا بعض النصوص المأثورة عن الإمام الحسين عليه‌السلام على سرّ هذا الاهتمام البليغ منهم بالدعاء.

١ ـ قال عليه‌السلام : «أعجز النّاس مَنْ عجز عن الدعاء ، وأبخل النّاس مَنْ بخل بالسّلام» (٢).

٢ ـ وجاء عنه أنّه كان يدعو في قنوت الوتر بالدعاء الذي علّمه

__________________

(١) سورة الفرقان / ٧٧.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ / ٢٩٤.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو : «اللّهمّ إنّك تَرى ولا تُرى ، وأنت بالمنظر الأعلى ، وإنّ إليك الرجعى ، وإنّ لك الآخرة والاُولى. اللّهمّ إنّا نعوذ بك من أن نَذِلّ ونخزى» (١).

٣ ـ من الأدعية القصيرة المأثورة عنه قوله عليه‌السلام : «اللّهمّ لا تستدرِجني بالإحسانِ ، ولا تؤدِّبني بالبلاء» (٢).

وقال في معنى الاستدراج : «الاستدراج من الله لعبده أن يُسبغ عليه النِعَمَ ويَسْلُبَه الشُكرَ» (٣).

٤ ـ ومن أدعيته في قنوته : «اللّهمّ مَنْ آوى إلى مأوى فأنتَ مأوايَ ، ومَنْ لجأ إلى مَلجَأ فأنتَ مَلجايَ. اللّهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد ، واسمع ندائي ، وأجب دُعائي ، واجعل مآبي عندك ومثوايَ ، واحرُسني في بَلواي من افتتانِ الامتحان ، ولُمَّةِ الشّيطانِ بعظمتك التي لا يشوبُها وَلَعُ نفس بِتَفتين ، ولا واردُ طيف بتظنين ، ولا يلُمُّ بها فَرَجٌ حتّى تقلبني إليك بإرادتك غير ظنين ولا مظنون ، ولا مُراب ولا مُرتاب ، إنّك أنت أرحمُ الراحِمينَ» (٤).

٥ ـ وله دعاء آخر كان يدعو به في قنوته هو : «اللّهمّ منك البدءُ ولك المشيئةُ ، ولك الحولُ ولك القوّةُ ، وأنت اللهُ الذي لا إله إلاّ أنتَ. جَعَلْتَ قلوبَ أوليائك مسكناً لمَشِيّتِكَ ، ومكمَناً لإرادتكَ ، وجَعَلتَ عُقولَهُم مَناصِبَ أوامِركَ ونواهيكَ ، فأنتَ إذا شِئت ما نشاءُ حرّكتَ مِن أسرارهم كوامِن ما أبطَنْتَ فيهم ، وأبَدأتَ من إرادتك على ألسنتِهِم ما أفهَمْتَهُم به عنكَ في عقودِهم بعقول تدعوك ، وتدعو إليك بحقائقِ ما مَنَحتَهُم به ، وإنّي لأعلَمُ ممّا علّمتني ممّا أنت المشكورُ على ما منه أريتني ، وإليه آوَيتني».

٦ ـ وله دعاء يُسمّى بـ (العشرات).

__________________

(١) كنز العمال ٨ / ٨٢ ، ومسند الإمام أحمد ١ / ٢٠١.

(٢) بحار الأنوار ٧٨ / ١٢٨.

(٣) تحف العقول / ١٧٥.

(٤) نهج الدعوات / ٤٩.


٧ ـ وله دعاء كان يدعو به حين كان يمسك الركن اليماني ويناجي ربّه هو : «إلهي ، أنعمتني فلم تجدني شاكراً ، وأبليتني فلم تجدني صابراً ، فلا أنت سلَبْتَ النعمة بترك الشكر ، ولا أدَمْتَ الشدّةَ بترك الصبرِ. إلهي ، ما يكونُ من الكريمِ إلاّ الكرَمُ» (١).

٨ ـ وروي أن شُريحاً دخل مسجد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجد الحسين عليه‌السلام في المسجد ساجداً يُعفِّر خدّه على التراب وهو يقول : «سيّدي ومولاي ، ألِمقامِعِ الحديد خَلَقْتَ أعضائي؟ أم لِشُربِ الحميمِ خَلَقْتَ أمعائي؟ إلهي ، لئن طالبتني بذنوبي لاُطالبنّك بكرمك ، ولئن حَبَستني مع الخاطئينَ لأخبِرنَّهُم بحُبّي لك. سيّدي ، انّ طاعَتي لا تنفعُك ، وَمعصيتي لا تضرّك ، فهب لي ما لا ينفعُك ، واغفر لي ما لا يضرّك ؛ فإنّك أرحم الراحمين» (٢).

٩ ـ وكان من دعائه إذا دخل المقابِرَ : «اللّهمّ ربَّ هذه الأرواح الفانيةِ ، والأجساد البالية ، والعِظامِ النَخِرةِ ، التي خرجتْ من الدنيا وهي بك مؤمنة ، أدخِل عليهم رَوْحاً منك وسلاماً مِنّي». وقال عليه‌السلام : «إذا دعا أحد بهذا الدعاء كتب الله له بعدد الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم السّاعةُ حسنات» (٣).

١٠ ـ ومن دعائه في الصّباح والمساء قوله : «بسم الله الرحمن الرحيم. بسم الله وبالله ، ومن الله وإلى الله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملّة رسول الله ، وتوكّلت على الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم. اللّهمّ إنّي أسلمْتُ نفسي إليك ، ووجّهت وجهي إليك ، وفوّضت أمري إليك ، إياك أسألُ العافية من كلّ سوء في الدنيا والآخرة. اللّهمّ إنّك تكفيني من كلّ أحد ولا يكفيني أحد منك ، فاكفني من كلّ أحد ما أخاف وأحذرُ ، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً ؛ إنّك تعلمُ ولا أعلم ، وتقدرُ ولا أقدِر ، وأنت على كلّ شيء قدير ، برحمتك

__________________

(١) إحقاق الحق ١١ / ٥٩٥.

(٢) المصدر السابق ١١ / ٤٢٤.

(٣) مستدرك الوسائل ٢ / ٣٧٣ ح ٢٣٢٣.


يا أرحم الراحمين» (١).

وأمّا دعاء عرفة المرويّ عن الإمام الحسين عليه‌السلام فهو من غرر الأدعية المطوّلة ، والتي تستدرّ الرحمة الإلهية بما تمليه على الإنسان من أسباب الإنابة والتوبة وشموخ المعرفة ، وقد أشرنا إلى مقاطع منه في بحوث سابقة.

وإليك مقطعاً آخر من هذا الدعاء : «الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً ، ولم يكن له شريك في الملك فيضادّه فيما ابتدع ، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع ، سبحانه سبحانه سبحانه! لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا وتفطّرتا ، فسبحان الله الواحد الحقّ الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد! الحمد لله حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وصلّى الله على خيرته من خلقه محمّد خاتم النبّيّين وآله الطّاهرين المخلصين. اللّهمَّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك ، وأسعدني بتقواك ، ولا تشقني بمعصيتك ، وخرْ لي في قضائك ، وبارك لي في قدرك حتّى لا اُحبّ تعجيل ما أخّرت ، ولا تأخير ما عجّلت» (٢).

في رحاب أدب الإمام الحسين عليه‌السلام

لا ريب في أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام يُعدّ امتداداً لجدّه وأبيه وأخيه من حيث المعرفة ، ومن حيث الاقتدار الفني في التعبير. وقد جاء على لسان خصومهم أنّهم أهل بيت قد زقّوا العلم زَقّاً ، وأنّها ألسِنَةُ بني هاشم التي تفلق الصّخر ، وتغرف من البحر (٣).

وعلّق عمر بن سعد يوم عاشوراء على خطبة للإمام الحسين عليه‌السلام : «إنّه

__________________

(١) مهج الدعوات / ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) المجالس السنية / ٢١ ، ٢٨ ، ٣٠.


ابن أبيه ، ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حُصِر» (١).

وقال أصحاب المقاتل عن كلماته وخطبه في كربلاء ويوم عاشوراء : إنّه لم يُسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقه من الحسين عليه‌السلام (٢).

وبالرغم من قصر المدّة الزمنيّة لإمامته ، وعدم إتاحة الفرصة السّياسيّة التي تفرض صياغة الخطب عادةً ، بخاصّة أنّه عليه‌السلام التزم بالهدنة التي عقدها أخوه عليه‌السلام في زمن معاوية ، فقد اُثر عنه عليه‌السلام في ميدان الخطبة وغيرها أكثر من نموذج ، فضلاً عن أنّه عليه‌السلام في زمن أبيه عليه‌السلام قد ساهم في خطب المشاورة والحرب (٣) ، وحشَد فيها كلّ السّمات الفنّية التي تتناسب والغرض الذي استهدف توصيله إلى الجمهور (٤).

وأمّا خطب المعركة التي خاضها في الطفّ أو كربلاء ، حيث فجّرت هذه المناسبة عشرات الخطب منذ بدايتها إلى نهايتها ، فقد تنوّعت صياغةً ومضموناً ، وتضمّنت التذكير بكتبهم التي أرسلوها إليه ، وبطاعة الله وبنصرته وبالتخليّ عن قتاله.

وممّا جاء في أحدها : «تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرَحاً! أحين استصرختمونا والهِين فأصرخناكم موجِفين ، مؤدّين مستعدّين ، سَلَلْتُم علينا سيفاً لنا في أيْمانِكم ، وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا ، فأصبحتم إلبْاً على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغيرِ عدلٍ أفشوه فيكُم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه».

واحتشدت هذه الخطبة بعناصر الفنّ المتنوعة بالإضافة إلى عنصرَي المحاكمة والعاطفة. وبمقدور المتذوّق الفني الصّرف أن يلحظ ما تتضمّنه من

__________________

(١ و٢) المجالس السنية / ٢١ ، ٢٨ ، ٣٠.

(٣) راجع حياة الإمام الحسين في عهد أبيه ، في هذا الكتاب.

(٤) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي / ٣٠٧ ـ ٣١١.


دهشة فنّية مثيرة كلّ الإثارة (١).

والأشكال الأدبيّة الاُخرى التي طرقها أدب الإمام الحسين عليه‌السلام هي الرسائل والخواطر ، والمقالة والأدعية والشّعر (٢) والحديث الفني.

ونشير إلى نموذجين من شعره بما يتناسب مع المجال هنا :

ـ ١ ـ

تباركَ ذو العلا والكبرياءِ

تفرّد بالجلالِ وبالبقاءِ

وسوّى الموتَ بين الخلقِ طُرّاً

وكلّهُمُ رهائنُ للفناءِ

ودنيانا وإن ملنا إليها

وطالَ بها المتاعُ إلى انقضاءِ

ألا إنّ الركونَ على غرورٍ

إلى دارِ الفناءِ من الفناءِ

وقاطنها سريعُ الظعنِ عنها

وإن كان الحريصُ على الثَّواءِ (٣)

ـ ٢ ـ

اغنَ عن المخلوق بالخالقِ

تَغنَ عن الكاذبِ والصادقِ

واسترزق الرحمنَ من فضله

فليس غيرُ الله من رازقِ

مَنْ ظنّ أنّ النّاس يغنونَه

فليس بالرحمنِ بالواثقِ

أو ظنَّ أنّ المالَ من كسبِه

زلّت بهِ النعلان من حالقِ (٤)

والحمد لله ربِّ العالمين

__________________

(١) تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي / ٣١١ ـ ٣٠٣.

(٢) للاطلاع التفصيلي على خصائص كلّ شكل في أدب الحسين عليه‌السلام راجع تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي ـ للدكتور محمود البستاني.

(٣) عن ديوان الإمام الحسين ٤ / ١١٥.

(٤) عن البداية والنهاية ٨ / ٢٢٨.


الفهرس التفصيلي

فهرس إجمالي................................................................. ٥

مقدمة المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام........................................... ٧

الباب الأول

الفصل الأول : الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام في سطور....................... ١٧

الفصل الثاني : انطباعات عن شخصيّة الإمام الحسين عليه‌السلام................... ٢٥

١ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام في آيات الذكر الحكيم.................... ٢٥

٢ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام لدى خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.................. ٢٨

٣ ـ مكانة الإمام الحسين عليه‌السلام لدى معاصريه............................ ٢٩

٤ ـ الإمام الحسين عليه‌السلام عبر القرون والأجيال............................ ٣٣

الفصل الثالث : مظاهر من شخصية الإمام الحسين عليه‌السلام..................... ٣٧

١ ـ تواضعه عليه‌السلام..................................................... ٣٨

٢ ـ حلمه وعفوه عليه‌السلام................................................ ٣٨

٣ ـ جوده وكرمه عليه‌السلام............................................... ٣٩

٤ ـ شجاعته عليه‌السلام.................................................... ٤١

٥ ـ إباؤه عليه‌السلام....................................................... ٤٢

٦ ـ الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ................................. ٤٤

٧ ـ عبادته وتقواه عليه‌السلام............................................... ٤٥

صور من عبادته عليه‌السلام................................................ ٤٦


الباب الثاني

الفصل الأول : نشأة الإمام الحسين عليه‌السلام.................................. ٥١

تأريخ الولادة.......................................................... ٥١

رؤيا اُمّ أيمن............................................................ ٥١

الوليد المبارك.......................................................... ٥٢

اهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسين عليه‌السلام......................................... ٥٣

كنيته وألقابه.......................................................... ٥٥

الفصل الثاني : مراحل حياة الإمام الحسين عليه‌السلام............................ ٥٧

الفصل الثالث : الإمام الحسين عليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة.................. ٥٩

الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله................................ ٥٩

ميراث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لسبطيه عليهما‌السلام........................................ ٦٢

وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسّبطين عليهما‌السلام....................................... ٦٢

لوعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين عليه‌السلام....................................... ٦٢

الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الخلفاء....................................... ٦٤

الحسين عليه‌السلام في عهد أبي بكر........................................... ٦٤

لوعة شهادة الزهراء عليها‌السلام............................................... ٦٤

الحسين عليه‌السلام في عهد عمر بن الخطاب.................................... ٦٧

الحسين عليه‌السلام في عهد عثمان............................................. ٦٨

موقف مع أبي ذرّ الغفاري............................................... ٧٠

الإمام الحسين عليه‌السلام في عهد الدولة العلوية................................. ٧٢

مع أبيه عليه‌السلام في إصلاح الاُمة............................................ ٧٣

حرص الإمام عليّ عليه‌السلام على سلامة الحسنين عليهما‌السلام....................... ٧٤


وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام للإمام الحسين عليه‌السلام.............................. ٧٥

الإمام الحسين مع أبيه عليهما‌السلام في لحظاته الأخيرة............................ ٧٩

الإمام الحسين في عهد أخيه الإمام الحسن عليهما‌السلام........................... ٨٠

حالة الاُمّة قبل الصلح مع معاوية......................................... ٨٠

احترام الإمام الحسين عليه‌السلام لبنود صلح الإمام الحسن عليه‌السلام................... ٨٥

رسالة جعدة بن هبيرة إلى الإمام الحسين عليه‌السلام............................. ٨٥

استشهاد الإمام الحسن عليه‌السلام............................................. ٨٦

الباب الثالث

الفصل الأول : عصر الإمام الحسين عليه‌السلام.................................. ٩١

البحث الأوّل : حكومة معاوية ودورها في تشويه الإسلام................... ٩١

منهج معاوية لمحاربة الإسلام............................................. ٩٢

١ ـ سياسته الاقتصادية............................................. ٩٣

أ ـ الحرمان الاقتصادي............................................. ٩٣

ب ـ استخدام المال لتثبيت ملكه..................................... ٩٤

ج ـ شراء الذمم................................................... ٩٥

د ـ ضريبة النيروز.................................................. ٩٥

٢ ـ سياسة التفرقة................................................. ٩٦

أ ـ اضطهاد الموالي.................................................. ٩٦

ب ـ العصبية القبلية................................................ ٩٦

٣ ـ سياسة البطش والجبروت........................................ ٩٧

٤ ـ الخلاعة والمجون والاستخفاف بالقيم الدينية....................... ٩٧

٥ ـ إظهار الحقد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والعداء لأهل بيته عليهم‌السلام.............. ٩٨


٦ ـ العنف مع شيعة أهل البيت عليهم‌السلام.............................. ١٠٠

٧ ـ فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر................................ ١٠١

البحث الثاني : من هو يزيد بن معاوية؟................................. ١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته............................................ ١٠٣

ولع يزيد بالصيد..................................................... ١٠٤

إدمانه على الخمر..................................................... ١٠٥

إلحاد يزيد وحقده على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله................................. ١٠٧

جرائم حكم يزيد..................................................... ١٠٨

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة................................. ١٠٩

الفصل الثاني : مواقف الإمام الحسين عليه‌السلام وإنجازاته...................... ١١١

البحث الأوّل : موقفه عليه‌السلام من البيعة ليزيد............................. ١١١

١ ـ دعوة انتهازية وخطّة شيطانية..................................... ١١١

٢ ـ أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد................................. ١١٤

٣ ـ محاولات الإمام الحسين عليه‌السلام لإيقاظ الاُمّة......................... ١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد........................................... ١١٦

محاولة جمع كلمة الاُمّة والاستجابة لحركة الجماهير.................... ١١٨

فضح جرائم معاوية................................................ ١١٨

استعادة حقّ مضيّع................................................. ١٢٠

تذكير الاُمّة بمسؤوليّتها............................................. ١٢٢

موت معاوية......................................................... ١٢٥

البحث الثاني : حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسين عليه‌السلام.................. ١٢٦

بدايات النهضة....................................................... ١٢٦

رسالة يزيد إلى حاكم المدينة........................................... ١٢٦


الوليد يستشير مروان بن الحكم........................................ ١٢٧

الإمام عليه‌السلام في مجلس الوليد............................................ ١٢٨

الإمام عليه‌السلام مع مروان................................................. ١٣٠

حركة الإمام عليه‌السلام.................................................... ١٣٠

وصايا الإمام عليه‌السلام.................................................... ١٣٢

توجّه الإمام عليه‌السلام إلى مكة............................................. ١٣٤

البحث الثالث : أسباب ودوافع الثورة.................................. ١٣٥

١ ـ فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة........................... ١٣٦

٢ ـ مسؤولية الإمام تجاه الاُمّة...................................... ١٣٧

٣ ـ الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة................................ ١٣٨

٤ ـ محاولة إرغامه عليه‌السلام على الذلّ والمساومة......................... ١٣٨

٥ ـ نوايا الغدر الاُموي والتخطيط لقتل الحسين عليه‌السلام................. ١٣٩

٦ ـ انتشار الظلم وفقدان الأمن.................................... ١٤٠

٧ ـ تشويه القيم الإسلاميّة ومحو ذكر أهل البيت عليهم‌السلام............... ١٤١

٨ ـ الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.............................. ١٤١

أهداف منظورة في ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام............................. ١٤٢

١ ـ تجسيد الموقف الشّرعي تجاه الحاكم الظالم....................... ١٤٣

٢ ـ فضح بني اُميّة وكشف حقيقتهم............................... ١٤٣

٣ ـ إحياء السنّة وإماتة البدعة..................................... ١٤٤

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر............................... ١٤٥

٥ ـ إيقاظ الضمائر وتحريك العواطف.............................. ١٤٦

لماذا لم ينهض الإمام الحسين عليه‌السلام بالثورة في حكم معاوية؟................ ١٤٧


١ ـ حالة الاُمّة الإسلاميّة.......................................... ١٤٧

٢ ـ شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن................................ ١٤٨

٣ ـ احترام صلح الإمام الحسن عليه‌السلام................................ ١٥٠

المواقف من ثورة الحسين عليه‌السلام قبل انطلاقها............................. ١٥١

البحث الرابع : توجّه الإمام عليه‌السلام إلى مكّة.............................. ١٥٣

رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه‌السلام..................................... ١٥٣

جواب الإمام عليه‌السلام على رسائل الكوفيّين................................ ١٥٥

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة....................................... ١٥٦

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين عليه‌السلام............................ ١٥٧

رسالة الإمام عليه‌السلام إلى زعماء البصرة.................................... ١٥٨

جواب الأحنف بن قيس............................................... ١٥٩

جواب يزيد بن مسعود النهشلي........................................ ١٥٩

موقف والي الكوفة................................................... ١٦١

أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم...................................... ١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون......................................... ١٦٣

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة...................................... ١٦٤

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة................................. ١٦٥

موقف مسلم بن عقيل من اغتيال ابن زياد............................... ١٦٦

الغدر بمسلم بن عقيل................................................. ١٦٧

المبحث الخامس : حركة الإمام الحسين عليه‌السلام إلى العراق.................. ١٧٠

لماذا اختار الإمام الحسين عليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟........................ ١٧٠

تصريحات الإمام عليه‌السلام عند وداعه مكة.................................. ١٧٣


خلاصة الثورة في رسالة............................................... ١٧٥

ملاحقة السلطة للإمام عليه‌السلام........................................... ١٧٦

كتاب الإمام عليه‌السلام لأهل الكوفة........................................ ١٧٧

إجراءات الاُمويّين.................................................... ١٧٨

اعتقال الصيداوي وقتله............................................... ١٧٨

مع زهير بن القين..................................................... ١٧٩

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمام عليه‌السلام.................................. ١٨٠

لقاء الإمام الحسين عليه‌السلام مع الحرّ بن يزيد الرياحي........................ ١٨١

النزول في أرض الميعاد................................................. ١٨٣

جيش الكوفة ينطلق بقيادة عمر بن سعد................................ ١٨٥

البحث السادس : ماذا جرى في كربلاء؟............................... ١٨٧

ليلة عاشوراء......................................................... ١٨٧

يوم عاشوراء......................................................... ١٩١

خطاب الإمام عليه‌السلام في جيش الكوفة.................................... ١٩١

الحرّ يُخيّر نفسه بين الجّنة والنّار........................................ ١٩٣

المعركة الخالدة....................................................... ١٩٣

استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام.......................................... ٢٠٠

الحسين عليه‌السلام وحيداً في الميدان.......................................... ٢٠١

امتداد الحمرة في السّماء............................................... ٢٠٣

حرق الخيام وسلب حرائر النبوة........................................ ٢٠٤

الخيل تدوس الجثمان الطاهر........................................... ٢٠٤


عقيلة بني هاشم أمام الجثمان العظيم.................................... ٢٠٥

الفصل الثالث : نتائج الثورة الحسينيّة.................................... ٢٠٧

١ ـ فضح الاُمويّين وتحطيم الإطار الديني............................... ٢٠٧

٢ ـ إحياء الرسالة الإسلاميّة.......................................... ٢٠٩

٣ ـ الشعور بالإثم وشيوع النقمة على الاُمويّين......................... ٢١٠

٤ ـ إحياء إرادة الاُمّة وروح الجهاد فيها............................... ٢١١

الفصل الرابع : من تراث الإمام الحسين عليه‌السلام............................ ٢١٣

في رحاب العقل والعلم والمعرفة......................................... ٢١٤

في رحاب القرآن الكريم............................................... ٢١٦

في رحاب السُنّة النبويّة المباركة......................................... ٢١٨

في رحاب أهل البيت عليهم‌السلام............................................ ٢٢١

بشائر الحسين عليه‌السلام بالمهدي عليه‌السلام ودولته............................... ٢٢٣

في رحاب العقيدة والكلام............................................. ٢٢٥

في رحاب الأخلاق والتربية الروحية.................................... ٢٢٧

في رحاب مواعظه الجليلة.............................................. ٢٢٧

في رحاب الفقه والأحكام الشّرعية..................................... ٢٢٩

في رحاب أدعية الإمام الحسين عليه‌السلام.................................... ٢٣١

في رحاب أدب الإمام الحسين عليه‌السلام..................................... ٢٣٤

الفهرس التفصيلي.......................................................... ٢٣٧

اعلام الهداية الامام الحسين سيد الشهداء

المؤلف:
الصفحات: 244