سورة مريم

مكية ، ثمان وتسعون آية ، تسعمائة واثنتان وستون ثلاثة آلاف وثلاثمائة وحرفان

بسم الله الرحمن الرحيم

(كهيعص) (١) وهو من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه ، وقيل : هو ثناء من الله على نفسه ، وهو وصفه تعالى بأنه كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم بأمرهم ، صادق في وعده. (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) ، فإن جعلت (كهيعص) اسما للسورة على ما عليه اتفاق أكثر العلماء ، فهي مبتدأ وخبره (ذِكْرُ) أي المسمى (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) ، أي إصابة الله رحمته عبده زكريا. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) ، فإنه أدخل في الإخلاص ، وأبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص ، عن لوم الناس على طلب الولد في زمان الشيخوخة. (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف بدني ، وإنما أسند الضعف إلى العظم لأنه دعامة الجسد ، فإذا ضعف كان غيره أضعف. (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، أي أخذ رأسي شمطا ، وقد صار مثل شواظ النار. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤) أي ولم أكن بدعائي إياك يا رب خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كلما دعوتك استجبت لي وقد توسّل سيدنا زكريا عليه‌السلام ، بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة بعد ذكر ما يتسبب للرأفة من كبر السن ، وضعف الحال. (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) ، أي الذين يخلفونني في السياسة ، وفي القيام بأمر الدين. (مِنْ وَرائِي) ، أي بعد موتي ، وهم بنو عمه عليه‌السلام ، وكانوا أشرار بني إسرائيل ، فخاف عليه‌السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته ، ويبدّلوا عليهم دينهم ، وقوله : (مِنْ وَرائِي) متعلق بمحذوف أي فعل الموالي ، أو جور الموالي لا بـ «خفت» لفساد المعنى. (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد من حين شبابها. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) ، أي أعطني من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة. (وَلِيًّا) (٥) أي ولدا من صلبي. (يَرِثُنِي) ، من حيث العلم والدين والنبوة. (وَيَرِثُ) الملك. (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، بن إسحاق ، بن إبراهيم عليه‌السلام ، لأن زوجة زكريا هي أخت مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود ، من ولد يهوذ بن يعقوب. أما زكريا فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق.


وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرث» في الكلمتين بالجزم على جواب الأمر ، والباقون بالرفع على أنه صفة. (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) أي مرضيا عندك قولا وفعلا. قال تعالى بواسطة الملك جبريل : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ، أي ولد يرث العلم والنبوة في حياتك فإنه قتل قبل موت أبيه (اسْمُهُ يَحْيى) لإحيائه رحم أمه بعد موته بالعقم. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧) ، أي شريكا له في الاسم حيث لم يكن قبل يحيى أحد يسمّى بيحيى ، وقيل : أي شبيها في الفضل والكمال ، فإنه لم يعص ولم يهم بمعصية من حال الصغر ، وأنه صار سيّد الشهداء على الإطلاق. (قالَ) زكريا : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي من أين يكون لي ولد ، (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي والحال أنه قد صارت امرأتي لم تلد قط ، (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨) ، أي يبوسا.

وقرأ أبي ابن كعب وابن عباس «عسيا» بالسين غير المعجمة (قالَ) أي الله تعالى : (كَذلِكَ) أي الأمر ، ذلك الوعد ، من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما ، (قالَ رَبُّكَ هُوَ) ، أي خلق يحيى منكما على حالتكما ، (عَلَيَ) خاصة (هَيِّنٌ) ، وإن كان في العادة مستحيلا. (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩) أي وقد أوجدتك يا زكريا من قبل يحيى ، والحال أنك إذ ذاك عدم بحت.

وقرأ حمزة والكسائي «خلقناك». (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ، أي علامة تدلني على حصول حبل امرأتي (قالَ) أي الله تعالى : (آيَتُكَ) على تحقق المسؤول (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) ، أي أن لا تقدر على أن تكلم الناس (ثَلاثَ لَيالٍ) مع أيامهن ، (سَوِيًّا) (١٠) ، أي حال كونك سليم الجوارح ، لم يحدث بك مرض ولا خرس. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) ، أي من المصلى ، وهم اجتمعوا ينتظرون فتح الباب ليصلّوا فيه بإذنه على العادة ، فخرج إليهم للإذن وهو لا يتكلم ، متغيرا لونه فأنكروه ، فقالوا : ما لك يا نبي الله (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إليهم ، (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١) ، أي صلوا صلاة الفجر ، وصلاة العصر.

قال الله تعالى ليحيى بعد ما بلغ : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ، أي اعمل بما في التوراة بجدّ ، (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي الفهم في التوراة والفقه في الدين. (صَبِيًّا) (١٢) ، أي في صغره. وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ ، فهو ممن «أوتي الحكم صبيا». روي أنه عليه‌السلام دعاه الصبيان إلى اللعب فقال : ما للعب خلقنا. (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً) ، أي وأعطينا تعظيما من عندنا على يحيى ، حيث جعلناه نبيا وهو صغير ، وتشريفا له.

ويقال : وأعطينا يحيى رحمة من لدنّا على زكريا وتزكية له ، عن أن يصير مردود الدعاء. ويقال : وأعطينا يحيى تعطفا منا على أمته لعظم انتفاعهم بإرشاده ، وتوفيقا للتصدق عليهم ، وتطهيرا منا عن الالتفات لغيرنا ، (وَكانَ تَقِيًّا) (١٣). بطبعه ، ومن جملة تقواه ، أنه كان يتقوّت


بالعشب وكان كثير البكاء ، فكان لدمعه مجار على خدّه. (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) ، أي لطيفا بهما ، محسنا إليهما. (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي متكبرا في دينه. (عَصِيًّا) (١٤) ، أي عاصيا لربه ، عاقا بوالديه. (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) ، أي أمان من الله تعالى على يحيى. (يَوْمَ وُلِدَ) ، من أن يناله الشيطان. (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ، من فتنة القبر ، (وَيَوْمَ يُبْعَثُ) ، من القبر (حَيًّا) (١٥) ، من هول القيامة ، وهذا تنبيه على كونه عليه‌السلام من الشهداء. (وَاذْكُرْ) ، يا أكرم الرسل للناس ، (فِي الْكِتابِ) أي هذه السورة (مَرْيَمَ) أي قصتها ، (إِذِ انْتَبَذَتْ) أي اعتزلت ، (مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) (١٦) أي شرقي بيت المقدس ، وشرقي دارها ، لتتخلى هناك للعبادة. (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي فأرخت لأجل منع رؤية أهلها سترا لتغتسل من حيضها ، (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) رسولنا جبريل ، (فَتَمَثَّلَ لَها) بعد فراغها من الاغتسال ، وبعد لبسها ثيابها ، (بَشَراً سَوِيًّا) (١٧) أي لم ينقص من الصورة البشرية شيئا.

وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحّولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد ، فلما طهرت وهي في مغتسلها ، أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها في صورة آدمي شاب أمرد ، وضيء الوجه ، جعد الشعر ، كامل البدن لم ينقص من حسان نعوت الآدمية شيئا. وقيل : تمثّل في صورة ترب لها اسمه يوسف ، من خدم بيت المقدس ، لتستأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى ، (قالَتْ) أي مريم : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨) أي مطيعا لله ، يرجى منك أن تتقي الله ، ويحصل ذلك بالاستعاذة به ، فإني عائذة به منك.

وقيل : كان في ذلك الزمان ، رجل فاجر اسمه تقي ، يتبع النساء ، فظنت مريم أن ذلك المشاهد هو ذلك التقي ، فمن ذلك تعوّذت منه ، وخصّت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. (قالَ) لها جبريل : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الذي استعذت به ، (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩) ، أي لأكون سببا في هبة ولد طاهر من الذنوب ، بالنفخ في الدرع.

قرأ نافع وأبو عمرو «ليهب» بياء مفتوحة بعد اللام ، أي ليهب الرب لك ولدا ذكرا ، مترقيا من سن إلى سن ، على الخير. (قالَتْ) مريم لجبريل : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي من أين يكون لي ولد كما وصفت ، والحال أنه لم يباشرني رجل بنكاح ، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠) أي فاجرة تبغي الرجال. (قالَ) لها جبريل : (كَذلِكِ) أي الأمر كما قلت لك ، (قالَ رَبُّكِ) الذي أرسلني إليك (هُوَ) أي هبة الولد من غير أن يمسك بشر أصلا. (عَلَيَ) خاصة (هَيِّنٌ) وإن كان مستحيلا عادة ، لأني لا أحتاج إلى الوسائط ، (وَلِنَجْعَلَهُ) أي وهب الولد من غير أب ، (آيَةً لِلنَّاسِ) أي برهانا لهم يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك.

وبهذا إتمام الأنواع الأربعة في خلق البشر ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر وأنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى معا.


(وَرَحْمَةً) ، عظيمة كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون بهدايته ، (وَكانَ) ، أي خلق الولد بلا أب ، (أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١) أي لا يتغيّر. فلو لم يقع لا نقلب علم الله جهلا وهو محال. وجميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء إلى واجب الوجود ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا فائدة في الحزن ، وهذا هو سرقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب». (فَحَمَلَتْهُ) أي فنفخ جبريل في طوق قميصها نفخة وصلت إلى فرجها ، ودخلت منه جوفها فحملته في الحال ، (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي فاعتزلت وهو في بطنها ، (مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢) ، أي بعيدا من الناس.

قال وهب : إن مريم لما حملت بعيسى ، كان معها ابن عم لها يقال له : يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ، ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادة منهما. وأول من علم حمل مريم هو يوسف ، فتحيّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط. وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذي ظهر بها من الحمل.

فأول ما تكلم به أن قال : قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه ، فغلبني ذلك ، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري ، فقالت : قل قولا جميلا. قال : أخبريني يا مريم ، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث؟ وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر ، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة ، أو تقول أن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ، ولو لا ذلك لم يقدر على إنباتها.

فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، فيقول له : كن فيكون. فقالت له مريم : ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه.

وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل ، وضيق القلب ، فلما دنت ولادتها ، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فخرجت أقصى الدار. (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي فألجأها وجع الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي إلى أصل نخلة يابسة لا رأس لها ، وكان الوقت شتاء شديد البرد ، فلما اعتمدت عليه بصدرها اخضر ، وأطلع الجريد ، والخوص ، والثمر رطبا في وقت واحد ، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد.

وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء فهو خرسة لها ، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرا على البرد ،


ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل ، وإذا قطعت رأسها ماتت. فكأنه تعالى قال : كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر ، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح. ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد ، (قالَتْ) لما خافت أن يظن بها السوء في دينها ، فيقع في المعصية من يتكلم فيها وهي راضية بما بشّرها به جبريل : (يا) أي أنبهك يا مخاطب ، (لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ، الوقت الذي فيه الأمر العظيم.

وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «مت» بكسر الميم. والباقون بالضم. (وَكُنْتُ نَسْياً) ، أي شيئا تافها لا يعتدّ به أصلا كخرقة الطمث ، ونحوها.

وقرأ حفص وحمزة وابن وثاب والأعمش بفتح النون ، والباقون بالكسر. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وبهما ، وهو الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لقلته واستهلاكه في الماء ، (مَنْسِيًّا) (٢٣) أي متروكا لم يذكر بالبال ، وهو نعت للمبالغة. وهذا جرى على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم ، فإنهم يقولون مثل ذلك.

كما روي عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال : طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة ، وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال : يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئا. وعن علي أنه قال يوم الجمل : يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال : ليت بلالا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش : «منسيا» بكسر الميم اتباعا للسين. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤).

وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي : بـ «من» الجارة ، أي فناداها جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة ، أي لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى ، قد جعل ربك بمكان أسفل منك ، أو قريب منك نهرا صغيرا ، أو إنسانا شريفا جليلا.

ويدل على ذلك قراءة ابن عيسى ، فناداها ملك من تحتها ، ويقال : فناداها المولود كائنا من تحت ذيلها ، أي لا تحزني يا أمي ، قد جعل ربك تحتك جدولا يجري ، ويمسك بأمرك ، أو نبيا مرتفع القدر. وقرأ الباقون بـ «من» الموصولة.

وقرأ زر وعلقمة «فخاطبها» من تحتها بفتح الميم ، أي فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها أي لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسا عزيزا لا يكاد يوجد له نظير أو جدولا بضرب جبريل الأرض برجله.

ويقال : فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة ، أو من تحت النخلة بأن لا تحزني ، قد جعل ربك قربك عين ماء عذب ، تعظيما لشأنك فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات. كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها ما تقدم من أصناف البشارات ، أو


يقال : إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته تطييبا لقلبها ، وإزالة للوحشة عنها ، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشّرها به جبريل من علوّ شأن ذلك الولد.

كما قال الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما : إن عيسى عليه‌السلام لو لم يكن كلّمها لما علمت أنه ينطق ، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام. وحمل فاعل «نادى» على عيسى أقرب (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي حرّكي أصل النخلة تحريكا عنيفا إلى جهتك ، (تُساقِطْ عَلَيْكِ) أي تسقط النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز ، (رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥) أي طريا استحق أن يجنى.

وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة ، وفتح القاف. وقرأ حفص بضم التاء ، وكسر القاف. والباقون بفتح التاء ، وتشديد السين ، وفتح القاف ، (فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي فكلي من الرطب ، واشربي من النهر ، أو كلي من الرطب ، واشربي من عصيره. (وَقَرِّي عَيْناً) أي طيبي نفسا بولدك عيسى ، فالعين إذا رأت ما يسّر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ، وأن دمعة السرور باردة ، ودمعة الحزن حارة ، ولذلك يقال : للمحبوب قرة العين ، وللمكروه سخنة العين. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) ، أن فإن تري يا مريم أحدا من الآدميين فيسألك عن ولدك ، فقولي له إن استنطقك : إني نذرت للرحمن صمتا فلن أكلم اليوم آدميا ، بعد أن أخبرتك بنذري وإنما أكلم الملائكة ، وأناجي ربي. وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها ، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها ، ولكراهة مجادلة السفهاء. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) أي فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملة له وهو ابن أربعين يوما.

روي عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما حتى طهرت من النفاس ، ثم حملته إلى قومها ، فكلّمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين. (قالُوا) مؤنبين لها : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (٢٧) ، أي لقد فعلت شيئا منكرا عظيما ، (يا أُخْتَ هارُونَ) ، أي يا شبيهة هارون في العبادة ؛ وكان هارون هذا رجلا صالحا من أفضل الناس من بني إسرائيل ، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح وهذا لمّا مات تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمّون هارون تبركا به وباسمه. والمراد أنك يا مريم كنت في الزهد كهارون ، فكيف صرت هكذا! (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) ، أي ما كان أبوك عمران رجلا زانيا ، (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨) ، أي وما كانت أمك حنة امرأة فاجرة (فَأَشارَتْ) ، مريم (إِلَيْهِ) ، أي إلى عيسى أن كلموه ، (قالُوا) منكرين لجوابها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ) ، أي في الحجر أو في السرير (صَبِيًّا) (٢٩) أي صغيرا ابن أربعين يوما.

روي أن عيسى كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار بسبابة يمينه ، فتكلم عيسى (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ، وإنما نص عيسى على إثبات عبودية نفسه ، لأن إزالة التهمة عن الله تعالى ، تفيد إزالة التهمة عن الأم ، لأن الله تعالى لا يخص


الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية. أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى ، فكان الاشتغال بذلك أولى. وقد وصف عيسى عليه‌السلام نفسه بصفات ثمانية : أولها : العبودية ، فاعترف بها لئلا يتخذوه إلها. وآخرها : تأمين الله له في أخوف المقامات ، وكل هذه الصفات تقتضي تبرئة أمه. (آتانِيَ الْكِتابَ) ، أي علمني التوراة والإنجيل في بطن أمي ، (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠) بعد الخروج من بطن أمي ، (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) أي نفاعا معلما للخير ، (أَيْنَ ما كُنْتُ) ، أي في أي مكان كنت.

روى الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلمت مريم عيسى إلى الكتاب ، فقالت للمعلم : أدفعه إليك على أن لا تضربه ، فقال له المعلم : اكتب. فقال : أيّ شيء أكتب؟ فقال : اكتب أبجد. فرفع عيسى عليه‌السلام رأسه فقال : هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه ، فقال : يا مؤدب لا تضربني ، إن كنت لا تدري فاسألني فإني أعلمك الألف من آلاء الله ، والباء من بهاء الله ، والجيم من جمال الله ، والدال من أداء الحق إلى الله». (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي أمرني بإقامة العبودية وتطهير النفس عن الصفات الذميمة. (ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١) ، في الدنيا ليكون ذلك حجة على من ادعى أنه عليه‌السلام إله ، لأنه لا شك في أن من يعبد إلها ليس بإله ، والله تعالى صيّره حين انفصل عن أمه عاقلا. (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وكلفني برا بأمي ، وهذا إشارة إلى غير تنزيه أمه عن الزنا ، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) ، أي متعاظما. (شَقِيًّا) (٣٢) أي عاصيا لله ، عنيدا له لفرط التكبر ، بل جعلني متواضعا. وكان من تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر ، ويجلس على التراب ، ولم يتخذ له مسكنا. وروي أن عيسى عليه‌السلام ، قال : قلبي لين وأنا صغير في نفسي. (وَالسَّلامُ عَلَيَ) أي الأمان من الله علي ، (يَوْمَ وُلِدْتُ) ، أي حين ولدت من لمزة الشيطان ، (وَيَوْمَ أَمُوتُ) ، أي حين أموت من ضغطة القبر ، (وَيَوْمَ أُبْعَثُ) من القبر ، (حَيًّا) (٣٣). وإنما خصّ هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) ، أي عيسى بن مريم كلمة الله ، فالحق اسم الله ، أو المعنى خبر عيسى ابن مريم خبر الحق ، فعيسى عطف بيان.

وقرأ عاصم وابن عامر قول الحق بالنصب على المدح إن فسّر بكلمة الله فحينئذ الوقف في مريم وقف كاف وإن فسّر بالقول الصدق ، كان مصدرا مؤكدا لقال : إني عبد الله ، فـ «عيسى» خبر المبتدأ وعلى قراءة النصب كان اسم الإشارة راجعا لمن بينت نعوته الجليلة. (الَّذِي فِيهِ) ، أي في عيسى (يَمْتَرُونَ) (٣٤) ، أي يتنازعون.

فيقول اليهود : هو ساحر. ويقول بعض النصارى : هو ابن الله. ويقول بعضهم : هو الله. ويقول : بعضهم هو شريكه. (ما كانَ لِلَّهِ) ، أي ما صحّ له تعالى ، (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) ، لأنه يلتزم من اتخاذه ولدا الحاجة ، وهو نقص ، (سُبْحانَهُ) ، أي تنزه الله عن ذلك ، (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥). أي إذا أراد الله أن يحدث أمرا من الأمور ، فإنما يريده ويعلق قدرته به ، فيكون


حينئذ بلا تأخير. وقرأ ابن عامر بنصب «يكون» على الجواب. (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

قرأ ابن عامر والكوفيون بكسر «إن» عطف على قوله : «إني عبد الله» أو على الاستئناف ، ويؤيده ما قرأه أبي «إن الله» بالكسر بغير واو. وقرأ أبو عمرو والمدنيون بالفتح على حذف حرف الجر متعلقا بما بعده ، أي ولأن الله أو بسبب أنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه. (هذا) التوحيد ونفي الولد والزوجة الذي أمرتكم به ، (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦) ، يوصل إلى الجنة ورضا الله تعالى. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ، أي اختلف النصارى في شأن عيسى عليه‌السلام بعد رفعه إلى السماء. فأخرج كل قوم عالمهم ، فأخرج منهم أربعة نفر ، فقال أحدهم : هو الله تعالى هبط إلى الأرض ، فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم : اليعقوبية. فقالت الثلاثة كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث : قل فيه ، قال : هو ابن الله وهم النسطورية. فقال الاثنان : كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه. فقال : هو ثالث ثلاثة الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ، ملوك النصارى ، ولذلك سموا ملكانية. فقال الرابع : كذبت ، بل هو عبد الله ، وروحه ، ورسوله ، وكلمته ، فخصمهم ، وقال : أما تعلمون أن عيسى كان يطعم ، وينام ، وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك ، وهم المسلمون. وكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال ، فاقتتلوا وغلبوا على المسلمين.

فذلك قول الله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ٢١] فصاروا أحزابا. وذلك قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) فاختلفوا فيه ، وهذا معنى قوله تعالى : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فَوَيْلٌ) أي فشدّة عذاب ، (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي اختلفوا في شأن عيسى ، (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧) ، أي من حضور هول الحساب ، والجزاء يوم القيامة ، أو من مكان الحضور في الحساب وهو الموقف ، أو من وقت حضوره ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وهو شهادة الملائكة والأنبياء ، وشهادة ألسنتهم وأيديهم ، وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال ، أو من وقت شهادة يوم عظيم الهول أو من مكانها. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) ، أي أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء ، جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميانا في الدنيا. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٨) ، أي لكن الكافرون في الدنيا في ضلال مبين ، حيث تركوا النظر بالكلية ، وهم في الآخرة يعرفون الحق. (وَأَنْذِرْهُمْ) ، أي خوف يا أشرف الخلق ، كفار مكة (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، أي يوم الندامة ، (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الحساب ببيان أمر الثواب والعقاب ، فيندم في ذلك اليوم الناس ، المسيء على إساءته في الدنيا ، والمحسن على قلة إحسانه فيها.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سئل عن قوله تعالى : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ، فقال : «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح ، والفريقان ينظران فينادي المنادي : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح ، وأهل النار غما إلى


غم». (١) و «إذ» بدل من «يوم الحسرة» أو ظرف لـ «الحسرة» ، و «يوم الحسرة» مفعول به ، أي خوفهم نفس ذلك اليوم. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٩) ، أي أنذرهم في حال كونهم في جهلة عن ذلك اليوم ، وفي حال كونهم لا يصدقون به. (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) ، أي إنا لا ندع في الأرض شيئا من عاقل وغيره ونسلب جميع ما في أيديهم (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) أي وإلى حكمنا يردّون للجزاء ، وهذا تخويف عظيم للعصاة. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) ، أي واتل على كفار مكة قصة إبراهيم في هذه السورة ، فإنهم ينتسبون إليه عليه‌السلام ، فعساهم باستماع قصته يتركون ما هم فيه من القبائح. (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) أي يبلغ الصدق في أقواله ، وأفعاله وأحواله. (نَبِيًّا) (٤١) ، رفيع القدر عند الله ، وعند الناس ، فلا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه ، وبين عباده. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) ، آزر ، متلطفا في الدعوة : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) ، ثناءك عليه ، (وَلا يُبْصِرُ) ، خشوعك بين يديه ، (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢) ، أي ولا يقدر على أن يكفيك شيئا من جلب نفع ، أو دفع ضرّ. (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي) ، من الله ، (مِنَ الْعِلْمِ) ، أي علم الوحي ، (ما لَمْ يَأْتِكَ) ، منه ، (فَاتَّبِعْنِي) ، بالتوجه إلى الله ، (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (٤٣) ، أي طريقا موصلا إلى أسنى المطلب ، منجيا عن المعاطب. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يزيّنها بوسوسته. (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤) ، فطاعة العاصي عصيان ، والعصيان يوجب العذاب. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ). إن لم تؤمن به ، (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥) أي قرينا في العذاب.

روي عن أبي هريرة أنه قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوحى الله إلى إبراهيم عليه‌السلام ، أنك خليلي ، فحسّن خلقك ، ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار ، فإن كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه ، أن أظلّه تحت عرشي. وأن أسكنه حظيرة قدسي ، وأن أدنيه من جواري» (٢). (قالَ) آزر : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) ، أي أمعرض أنت عن آلهتي! (يا إِبْراهِيمُ) ، أنكر آزر نفس الانصراف عن الأصنام مع نوع من التعجب ، كان الانصراف عنها مما لا يصدر من العاقل. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) ، عن مقالتك هذه ، (لَأَرْجُمَنَّكَ) ، أي لأقتلنك ، أي لأظهرن ، أمرك للناس ليقتلوك ، وهذا تهديد عما كان إبراهيم عليه من العظة. (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦) أي تباعد عني لكيلا أراك زمانا طويلا. (قالَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير ، باب : قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، ومسلم في كتاب الجنّة ، باب : ٤ ، والترمذي في كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٩ ، باب : ٢ ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في ذبح الموت ، وأحمد في (م ٢ / ص ٣٧٧).

(٢) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٢ : ١٥٥) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ : ٣٠٨) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦ : ٢٤٣٢).


إبراهيم : (سَلامٌ عَلَيْكَ) ، وهذا توادع ومتاركة ، أي لا أشافهك بما يؤذيك بعد. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، أي أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان ، فإن حقيقة الاستغفار للكافر طلب التوفيق للإيمان المؤدي للمغفرة. (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) ، أي بليغا في البرّ والألطاف. (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي وأترككم وما تعبدون من الأصنام ، بالارتحال من بلادكم. (وَأَدْعُوا رَبِّي) ، أي أعبده وحده. (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي) ، أي بعبادته ، (شَقِيًّا) (٤٨) ، أي ضائع العمل كما ضاع عملكم بعبادة الأوثان. فارتحل سيدنا إبراهيم من كوثي إلى الأرض المقدسة. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي فلما فارقهم إبراهيم في المكان في طريقتهم من عبادة الأوثان وأبعد عنهم إلى الأرض المقدسة ، والتشاغل بالعبادة ، (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، يأنس بهما لأنه عاش حتى رأى يعقوب. (وَكُلًّا) أي كل واحد منهم (جَعَلْنا نَبِيًّا) (٤٩) ، ينبئهم الله تعالى بعلوم المعارف ، وهم ينبّئون الخلق بالله وبالإسلام. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) ، المال ، والجاه والأتباع ، والذرية الطيبة. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) ، أي جعلنا لهم ثناء صادقا يفتخر بهم الناس ، ويثنون عليهم ، ويذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة ، بما لهم من الخصال المرضية.

وتقول هذه الأمة في الصلوات الخمس : كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلى قيام الساعة. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً). قرأه عاصم وحمزة والكسائي ، بفتح اللام أي معصوما من الأدناس اختاره الله تعالى. والباقون بالكسر أي مخلصا لعبادته عن الرياء ، ولنفسه عما سوى الله. (وَكانَ رَسُولاً) إلى بني إسرائيل والقبط ، (نَبِيًّا) (٥١) يخبرهم عن الله تعالى. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي الذي يلي يمين موسى ، والطور : جبل بين مصر ومدين ، وذلك حين توجه من مدين إلى مصر ، أي تمثل له الكلام من تلك الجهة. يقول يا موسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) [طه : ١٤] (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢) ، أي مناجيا أي رفعنا قدره ، وشرّفناه بالمناجاة ، بأن أسمعه الله تعالى كلامه بلا واسطة. وقيل : رفعناه مكانا عاليا فوق السموات ، حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) ، أي وجعلنا أخاه هارون نبيا من أجل رأفتنا به ، ليكون وزيرا له ، ومعينا له في تبليغ الرسالة.

وهذا إشارة إلى أن النبوة ليست كسبية ، بل هي من مواهب الله تعالى ، يهب لمن يشاء النبوة والرسالة ، وإشارة إلى أن لموسى اختصاصا بالقربة ، والقبول عند الله تعالى ، حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته ، كما يهب الأنبياء والرسل بشفاعة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه‌السلام». (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ، فكان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده.

روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما إنه عليه‌السلام وعد صاحبا له أن ينتظر في مكان ، فانتظره


سنة. وقد وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ، (وَكانَ رَسُولاً) إلى جرهم ـ وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا في وادي مكة ـ بشريعة أبيه ، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته. (نَبِيًّا) (٥٤) ، يخبر عن الله ، (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) ، أي قومه ، (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، أي الصدقات الواجبة ، (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥) ، أي فائزا في كل طاعاته بأعلى الدرجات. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) ، وهو سبط شيث وجدّ أبي نوح (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ، أي ملازما للصدق في جميع أحواله ، (نَبِيًّا) (٥٦) ، وهذا مخصص للخبر الأول ، إذ ليس كل صديق نبيا. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧) ، وهو السماء الرابعة.

وكان سبب رفعه إليها ، أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس ، فقال : يا ربّ إني قد مشيت فيها يوما فأصابني منها ما أصابني ، فكيف من يحملها مسيّرة خمسمائة في يوم واحد؟ اللهم خفف عنه من ثقلها ، وحرّها ، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ، ما لا يعرف ، فقال : يا ربّ خففت عني حرّ الشمس ، فما الذي قضيت فيه؟ قال : إن عبدي إدريس ، سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته ، قال : يا ربّ اجعل بيني وبينه خلة ، فأذن الله تعالى له حتى أتى إدريس ورفعه إلى السماء. (أُولئِكَ) العشرة المذكورون في هذه السورة ، (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، بفنون النعم الدينية والدنيوية ، (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) ، وهو إدريس ، (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي ومن ذرية من مع نوح في السفينة وهو إبراهيم فإنه من ذرية سام بن نوح ، (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، (وَإِسْرائِيلَ) ، أي ومن ذرية يعقوب ، وهم يوسف ، وإخوته ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) ، أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق. (وَاجْتَبَيْنا) أي اصطفيناهم للإسلام ، كعبد الله بن سلام ، وأصحابه واسم الموصول خبر اسم الإشارة ، ومن النبيين بيان للموصول ، ومن ذرية بدل بإعادة الجار ، ومن للتبعيض. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) وهي ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم ، (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨) ، من مخافة الله تعالى.

قال العلماء : ينبغي أن يدعو الساجد للتلاوة في سجدته بما يليق بآياتها ، فههنا يقول : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم ، المهديين ، الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك ، اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) ، أي حدث من بعد النبيين جماعة سوء ويقال لعقب الخير : «خلف» بفتح اللام ولعقب الشر : «خلف» بالسكون. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) ، أي تركوها ، (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ).

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : هم اليهود ، تركوا الصلاة المفروضة ، وشربوا الخمر ، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن علي رضي‌الله‌عنه : هم من بني المشيد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور. (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٥٩) أي واديا في جهنم ، بعيدا قعره ، تستعيذ منه


أوديتها ، أعد للزناة ، وشربة الخمر ، وشهّاد الزور ، وأكلة الربا ، والعاقّين لوالديهم. (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ) أي من اتصف بهذه الأمور الثلاثة : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ) ، أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم ، (شَيْئاً) (٦٠).

وتوقّف الأجر على العمل الصالح هو الغالب ، لأنه لا تناط الأحكام إلا بالأعم الأغلب ، ولا تناط بالنادر ، كمن تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة ، أو وجد الحيض ، فإنه لا يجب عليه العمل قبل وجود سببه وشرطه ، فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة ، مع أنه لم يصدر عنه عمل صالح ، من صلاة وزكاة وصوم ، وعلى هذا لا يتوقف الأجر على وجود العمل الصالح. (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) ، حال من المفعول أي وهم غائبون عنها لا يرونها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار منه تعالى ، أي وعدهم بها وهم في الدنيا ، ومن في الدنيا لا يشاهدها. (إِنَّهُ) تعالى أو إن الشأن ، (كانَ وَعْدُهُ) تعالى ، (مَأْتِيًّا) (٦١) ، أي مفعولا منجزا أي الوعد منه تعالى لا بد من وقوعه فهو وإن كان بأمر غائب ، فكأنه حاصل مشاهد. (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي الجنة (لَغْواً) أي فضول كلام لا فائدة فيه (إِلَّا سَلاماً) من بعضهم على بعض ، أو من الملائكة عليهم. فإن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. فأهل الجنة لا يحتاجون إلى هذا الدعاء لأنهم في دار السلام ، فهذا من فضول الحديث لو لا ما فيه من فائدة الإكرام. (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) أي طعامهم في الجنة ، (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢) أي لهم رزق واسع ودائم ، فلهم ما يشتهون متى شاءوا ، إذ لا ليل فيها ، ولا بكرة ، ولا عشيّ. وإنما ذكرهما ليرغب كل قوم بما أحبوه ، لأنه لا شيء أحب إلى العرب من الغداء والعشاء ، فوعدهم بذلك. ولذلك ذكر أساور الذهب ، والفضة ، ولباس الحرير ، التي كانت عادة العجم ، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وهي كانت من عادة أشراف العرب في اليمن. (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣) من الكفر أي هذه الجنة التي عظم شأنها ، نعطيها من أطاعنا عطاء لا يردّ كالميراث الذي يأخذه الوارث فلا يرجع فيه المورث. (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

قيل : احتبس جبريل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سألوه في أمر الروح وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال : «أخبركم غدا» ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبطأت علي حتى ساءني ، واشتقت إليك» (١). فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، حكاية قول جبريل أمره الله تعالى أن يقوله لمحمد جوابا لسؤاله بقوله : يا جبريل : «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» (٢) والمعنى وما نتنزل من السماء وقتا غبّ وقت إلّا

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧ : ٢٥٤٧) ، وعبد الرزاق في المصنف (٢٠٩١٨).

(٢) رواه أحمد في (م ١ / ص ٣٥٧) ، والحاكم في المستدرك (٢ : ٦١١) ، والطبري في التفسير


بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته. (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) ، أي لربك ما قدّامنا وما خلفنا من الجهات ، وما نحن فيه ، فلا ننتقل من جهة إلى جهة ، ومن مكان إلى مكان ، إلّا بأمره ومشيئته ، فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤) أي تاركا لك بتأخير الوحي عنك ، فعدم النزول لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه.

وقال أبو مسلم : ويجوز أن يكون قوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، حكاية قول أهل الجنة يدخلونها ، والمعنى : وما نتنزل الجنة إلا بأمر الله تعالى ولطفه ، له ما بين أيدينا في الجنة مما يكون مستقبلا ، وما خلفنا مما كان في الدنيا ، وما بين ذلك فيما نحن فيه مما بين الوقتين. وقول تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ابتداء كلام من الله تعالى ، تقرير لقولهم أي وما كان الله ناسيا لأعمال العاملين وللثواب عليها بما وعدهم ، لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ، فلا يجوز عليه النسيان ، وهو بدل من ربك أو خبر مبتدأ مضمر أي هو (فَاعْبُدْهُ) ، يا أكرم الرسل ، (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) ، وعدي الاصطبار باللام لأن العبادة جعلت بمعنى القرب ، ففيه معنى الثبات لأن العبادة ذات شدائد ومشاق ، فكأنه قيل : اثبت لعبادة الرب ، ولا يضق صدرك ، من قول الكافرين لك. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ) ، أي للرب (سَمِيًّا) (٦٥) أي نظيرا فيما يقتضي العبادة ، من كونه منعما بأصول النعم وفروعها ، وشريكا في الاسم الخاص كرّب السموات والأرض وما بينهما وكالله. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لا يسمّى بالرحمن غير تعالى. (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) أبي بن خلف الجمحي بطريق الإنكار والاستبعاد فإنه أخذ عظاما بالية ففتّها ، وقال : يزعم محمد أنا نبعث ما نموت ، ونصير إلى هذه الحال أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف. (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (٦٦) ، أي أبعث من الأرض. (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وقالون ، عن يعقوب بسكون الذال ، وضم الكاف ، أي أيقول المجترئ بهذا الإنكار على ربه ولا يتفكر ، (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل الحالة التي هو فيها من نطفة منتنة ، (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧) أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا أصلا ، أي أولا يعلم ذلك من حال نفسه؟ لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا ، ثم صار حيا فيها. (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) أي لنجمعنّ القائلين بعدم البعث بالسوق إلى المحشر ، بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياء. (وَالشَّياطِينَ).

روي أن كل كافر يحشر مع شيطانه الذي يضلّه في سلسلة. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ) بعد طول الوقوف في المحشر (حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٦٨) ، أي باركين على الركب ، لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي من كل أمة تبعث دينا من الأديان ، (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩) أي جراءة. أي فمن كان أشدهم تمردا في كفره ، خصّ

__________________

(١٦ : ٧٨) ، والقرطبي في التفسير (١١ : ١٢٨).


بعذاب أعظم ، لأن عذاب الضّال المضل ، يجب أن يكون فوق من يضلّ تبعا لغيره ، وليس عذاب من يتجبّر كعذاب المقلّد ، وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل ، كعذاب من يقتدي به مع الغفلة. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها) أي أحقّ بجهنم (صِلِيًّا) (٧٠) أي دخولا فنبدأ بهم. (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي ما منكم أيها الإنسان أحد إلّا حاضر قرب جهنم ، ويمرّ بها المؤمنون ، وهي خامدة ، وتنهار بعيرهم.

وعن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل فقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة»(١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية» (٢) ، فقالت حفصة أليس الله يقول : وإن منكم إلّا واردها؟فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم ننجي الذين اتقوا»أي نبعدهم عن عذاب جهنم.

وقيل : ورود جهنم هو الجواز على الصراط الممدود عليها ، وقيل : الورود : الدخول ، فالمؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة ، بل مع الغبطة والسرور. (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٧١) أي كان ورودهم إياها أمرا محتوما أوجبه الله تعالى على ذاته. (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) من الكفر والمعاصي ، أي نخرجهم منها ، فلا يخلدون بعد أن أدخلوا فيها ، وإنما دخلوا لهم فيها ليشاهدوا العذاب ، ليصير ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) ، بالكفر والمعاصي (فِيها) أي جهنم (جِثِيًّا) (٧٢) أي منهارا بهم. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي المشركين ، (آياتُنا) الناطقة بحسن حال المؤمنين ، وسوء حال الكفرة ، (بَيِّناتٍ) أي مرتلات الألفاظ ، مبينات المعاني ، (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مردوا منهم على الكفر ، ومرنوا على العناد ، وهم : النضر بن الحرث ، وأتباعه الفجرة. (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لفقراء المؤمنين الذين هم في خشونة عيش ، ورثاثة ثياب وضيق منزل ، واللام للتبليغ لأنهم شافهوا المؤمنين وخاطبوهم بقولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي المؤمنين والكافرين (خَيْرٌ مَقاماً) أي منزلا. وقرأ ابن كثير بضم الميم (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣) أي مجلسا أي أنحن أو أنتم.

روي أنهم كانوا يرجلون شعورهم ، ويدهنونها ، ويتطيبون ، ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يدعون فقراء المؤمنين ، ويقولون مفتخرين عليهم : انظروا إلى منازلنا فتروها أحسن من منازلكم ، وانظروا إلى مجالسنا عند التحدث ومجلسكم ، فترونا نجلس في صدر المجلس ، وأنتم في طرفه الحقير. فإذا كنا بهذه المثابة ، وأنتم بتلك ، فنحن عند الله خير منكم ، ولو كنتم على خير لأكرمكم بهذه الأمور ، كما أكرمنا بها.

__________________

(١) رواه ابن عبد البر في التمهيد (٧ : ١٥٦) ، بما معناه.

(٢) رواه أحمد (م ٦ / ص ٣٦٢).


والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات ، بينات الإعجاز ، وعجزوا عن معارضتها ، شرعوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا ، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ، أي كثيرا أهلكنا بفنون العذاب قبل هؤلاء القريش ، من أمم عاتية كعاد ، وثمود وأمثالهم ، (هُمْ أَحْسَنُ) من هؤلاء (أَثاثاً) أي أمتعة (وَرِءْياً) (٧٤) ، أي منظرا ، أي فهم أفضل من هؤلاء فيما يفتخرون به ، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا ، أي فإن ما أنتم أيها الكفار فيه من النعم ، محض استدراج لم ينفعكم الترفه شيئا عند نزول البلاء بكم ، كما وقع للأمم الماضية ، حيث كانوا في رفاهية أكثر منكم ، ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم ، ولم ينفعهم الترفه شيئا (قُلْ) يا أشرف الرسل لهؤلاء المفتخرين بما لهم من حظوظ : (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ، وهذا الأمر بمعنى الخبر ، أي من كان مستقرا في الضلالة ، مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، فيمهله الله بطول العمر ، وبسط المال ، وإنفاقه فيما يستلذّ به من الأوزار ، ولا يزال يمدّ له استدراجا وقطعا للمعاذير يوم القيامة. (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) ، من الله تعالى (إِمَّا الْعَذابَ) الدنيوي بغلبة المسلمين عليهم ، وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا ، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) ، أي ما نالهم يوم القيامة من الخزي والنكال. (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ ، (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا من الفريقين (وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥) ، أي أقلّ ناصرا ، أهم أم المؤمنون. وهذا ردّ لما كانوا يزعمون أن لهم أنصارا من الأخيار ، ويفتخرون بذلك في المحافل ، (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان ، (هُدىً) أي بالإخلاص ، وبالعبادات المتفرعة على الإيمان ، وبالثواب على ذلك الإيمان. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) ، أي الطاعات التي تبقى فوائدها (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي فائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦) أي عاقبة. (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) ، الناطقة بالبعث ، وهو العاص بن وائل السهمي ، (وَقالَ) لخباب بن الأرت : (لَأُوتَيَنَ) في الآخرة (مالاً وَوَلَداً) (٧٧).

نزلت هذه الآية في شأن العاص بن وائل ، عن خباب قال : كان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أقتضيه ، فقال لي : لن أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لن أكفر به ، حتى تموت ثم تبعث. قال : وإني لمبعوث من بعد الموت ، قلت : نعم ، قال : إني إذا بعثت وجئتني فسيكون لي ثمّ مال وولد ، فأعطيك.

وقرأ حمزة والكسائي «وولدا» بضم الواو وسكون اللام. وقيل : صاغ خباب للعاص حليا فطلب الأجرة ، فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهبا ، وفضة ، وحرير ، أفأنا أقضيك ، ثم فإني أوتى مالا وولدا حينئذ فأجاب الله تعالى عن كلامه بقوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي أعلم الغيب ، وأن يعطى ما قاله ، أو أقد بلغ من عظمة الشأن ، إلى أن ارتقى إلى علم الغيب ، الذي انفرد الله به ، حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا ، وأقسم عليه. (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ


عَهْداً) (٧٨) ، بأن يؤتى ما قاله ، وقيل : المعنى انظر في اللوح المحفوظ أن له ما يقول ، أم اعتقد وحدة الله بكلمة الشهادة فيكون له ما يقول.

وعن قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بدلك ما يقول : (كَلَّا) ردع له عن التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة ، وتنبيه على خطئه ، أي لا يكون له ما يقول ، (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) ، أي سنظهر له أنا كتبنا قوله ونؤاخذه به ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٧٩) أي نطوّل به من العذاب ما يستحقه ، ونضاعفه له لكفره وافترائه على الله تعالى ، واستهزائه بآياته ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) ، أي ننزع ما آتيناه بموته ، ونحرمه ما تمناه في الآخرة من مال ، وولد ، ونجعله لغيره من المسلمين ، (وَيَأْتِينا) يوم القيامة (فَرْداً) (٨٠) لا يصحبه مال ، ولا ولد ، ولا عشيرة ، ولا خير. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) ، أي اتخذ كفار قريش الأصنام آلهة متجاوزين الله تعالى ، (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١) أي ليكون الأصنام مانعين لهم من عذاب الله ، (كَلَّا) أي لا مانع من عذابهم ، فلا يعتقدوا أن الأصنام شفعاء لهم عنده تعالى ، (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي سيجحد الأصنام بعبادتهم لها ، بأن ينطقها الله تعالى ، وتقول ما عبدتمونا ، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ) أي تكون الأوثان التي كانوا يرجون أن تكون لهم منعة من العذاب ، (ضِدًّا) (٨٢) ، أي أعداء وأعوانا بالعذاب ، فإنهم وقود النار ، ولأنهم عذّبوا بسبب عبادتهم. (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣) أي ألم تنظر يا أشرف الرسل ، أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ، تهيّجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع الوساوس ، (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) ، بطلب إهلاكهم حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم. (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (٨٤) ، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة ، وأنفاس معدودة ، فنضبط عليهم ما يقع منهم ، حتى نؤاخذهم به ولا نهمله. (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) بإيمانهم ، (إِلَى الرَّحْمنِ) أي إلى محل كرامة ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة ، (وَفْداً) (٨٥) ، أي وافدين على ربهم ، منتظرين لكرامتهم وأنعامهم ، فبعضهم كانوا ركبانا على نجائب سرجها من ياقوت ، وعلى نوق رحالها من ذهب ، وأزمتها من زبرجد ، من أول خروجهم من القبور ، أو من منصرفهم من الموقف حتى يقرعوا باب الجنة. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) بكفرهم ومعاصيهم (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٨٦) أي عطاشا بإهانة كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧) ، أي لا يستحق هؤلاء المجرمون أن يشفع لهم غيرهم ، إلا من اتخذ كلمة الشهادة بالتوحيد والنبوة ، ولو كانوا أهل الكبائر.

وروى ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه ذات يوم : «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا : وكيف ذلك؟ قال : «يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر ، وتبعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ، ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم


عند الرحمن؟ عهد ، فيدخلون الجنة» (١). (وَقالُوا) أي الكافرون (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) (٨٨) عزيرا ، والمسيح ، والملائكة ، (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩) أي لقد قلتم قولا منكرا عظيما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) ، أي يتشققن (مِنْهُ) أي من قولهم ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي تنخسف بهم ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٩٠) أي تسقط الجبال منطبقة عليهم. (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١) أي من نسبهم ولدا للرحمن ، وهذا بدل من الهاء في منه.

قال ابن عباس : فزعت السموات والأرض والجبال ، وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وغضبت الملائكة حين قالوا : الله ولد ، أي استعظاما للكلمة ، وتهويلا من فظاعتها ، وتصويرا لأثرها في الدين. (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٩٢) ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد ، ولا مشبه لله تعالى. ولأن اتخاذ الوالد إنما يكون لأجل سرور الوالد به ، واستعانته به ، وذكر جميل به ، وكل ذلك لا يليق به تعالى ، محال عليه. وهذه الجملة حال من فاعل قالوا أو دعوا ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣) ، أي ما من أحد فيهما إلا مملوك له ، مقرّ له بالعبودية ، مطيع له ، غير الكافر. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) فلا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وملكوته ، (لَكَ صَدْرَكَ) (١) أي عدّ أشخاصهم ، وأنفاسهم ، وأفعالهم ، وكل شيء عنده بمقدار ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) أي كل واحد منهم يجيء إلى الله وحيدا ، بلا مال ، ولا أتباع. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦) أي سيحدث لهم في القلوب محبة ، من غير تعرض للأسباب من قرابة ، أو صداقة ، أو اصطناع معروف ، أو غير ذلك تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة. كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب إعظاما لهم. أي إن الله تعالى وعدهم أن يؤلف بين قلوبهم في الدنيا إذا ظهر الإسلام ، وأن يحبّبهم إلى خلقه يوم القيامة ، بما يظهر من حسناتهم ، وينشر من ديوان أعمالهم ، على رؤوس الأشهاد. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي القرآن (بِلِسانِكَ) أي أنزلناه ميسرا بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) ، بامتثال ما فيه من الأمر والنهي ، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٩٧) ، أي الذين يجادلون فيه بالباطل وهم كفار مكة. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قرونا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨) أي هلكوا جميعا فلم يبق منهم عين ، ولا أثر فلا يرى منهم أحد ، ولا يسمع منهم صوت حفي ، أي فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء. وختم الله تعالى هذه السور بموعظة بليغة ، لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ومن الانتهاء إلى الموت ، خافوا ذلك وخافوا سواء العاقبة في الآخرة ، فكانوا أقرب إلى الحذر من المعاصي.

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٠٨).


سورة طه

مكية ، مائة وخمس وثلاثون ، ألف وثلاثمائة وإحدى

وأربعون ، خمسة آلاف ومائتان اثنان وأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢). أي لتتعب بالمبالغة في محاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم ، أو لتهلك نفسك بالعبادة وبكثرة الرياضة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) ، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه ، ولكن تذكرة لمن يسلم. (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤) ، منصوب على المدح والاختصاص ، أو منصوب بـ «يخشى» مفعولا به أي أمدح تكليما من الله ، أو أنزل الله القرآن تذكرة لمن يخشى ، تكليم الله تعالى. (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) أي الرحمن أوجد الكائنات ، ودبر أمرها فالاستواء على العرش ، مجاز عن الملك والسلطان ، متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير ، يقال : استوى فلان على سرير الملك ، ويراد بهذا القول صار فلان ملكا ، وإن لم يقعد على السرير أصلا. والمراد هنا بيان تعلّق إرادته تعالى بإيجاد الكائنات ، وتدبير أمرها. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، سواء كان فيهما جزءا منهما ، أو حالا فيهما. (وَما بَيْنَهُما) ، من الموجودات الكائنة في الجوّ دائما كالهواء ، والسحاب ، أو أكثريا كالطير (وَما تَحْتَ الثَّرى) (٦) ، أي والذي تحت الأرض السابعة السفلى ، لأن الأرضين على ظهر الحوت ، والحوت على الماء والماء على صخرة خضراء ، فخضرة السماء منها والصخرة ، على قرني ثور ، والثور على الثرى ، وهو التراب الندي ، ولا يعلم ما تحته إلا الله أي أنه تعالى مالك لهده الأقسام الأربعة ، تصرفا وإيجادا وإعداما ، وإحياء ، وإماتة. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) ، أي وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه ، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك. (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧) أي لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك في خفاء ، وما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا. وهذا إما نهي عن الجهر وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى ، بل لغرض آخر كحضور القلب ودفع الشواغل ، والوسوسة : (اللهُ) ، أي ذلك الموصوف بصفات الكمال ، هو الله لا إله إلا هو ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).


قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله مادا بها صوته ، ولا يقطعها ، ولا يتنفس فيها ، ولا يتمّها ، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور ، وقامت القيامة تعظيما لله عزوجل» اهـ.

وينبغي لأهل لا إله إلا الله ، أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله : التصديق ، والتعظيم ، والحلاوة ، والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق. ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ، ومن ليس له الحلاوة فهم مراء ، ومن ليس له الحرية فهو فاجر. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) ، فحسن الأسماء لحسن معانيها. (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً) ، أي أليس قد أتاك خبر موسى حين رأى نارا.

روي أن موسى عليه‌السلام استأذن شعيبا في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق ، مخافة من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ، ولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية ، مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد حاد عن الطريق ، فقدح عليه‌السلام النار فلم تنوّر المقدحة شيئا فبينما هو في مزاولة ذلك ، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور ، (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) في مكانكم أي لا تتبعوني في الذهاب إلى النار ، (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها إبصارا بينا ، (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) ، أي لعلّي أجيئكم من النار بشعلة مقتبسة من معظم النار ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠) ، أي عند النار من يدلني على الطريق. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) أي فلما أتى النار رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، كأنها نار بيضاء ، فوقف متعجبا من شدة ضوء تلك النار ، وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغيّر خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار ، فسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما ، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها ، فإذا حضرته ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك ، وضع يده على عينيه ، فنودي (يا مُوسى) (١١) (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي فلما نودي يا موسى أجاب سريعا فقال : لبيك ، من المتكلم؟ إني أسمع صوتك ولا أراك ، فأين أنت؟

فقال تعالى : أنا فوقك ، ومعك ، وأمامك ، وخلفك ، وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي ، ولا يكون إلا من الله فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا ، وسمعه من جميع الجهات. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمر عليه الصلاة والسلام بالخلع ، لأن الحفوة تواضع لله ، وحسن أدب معه تعالى ، (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) ، أي المبارك (طُوىً) (١٢) ، اسم الوادي ، أو اسم بئر قد طويت بالحجر في ذلك الوادي الذي كانت فيه الشجرة.

قال أهل الإشارة : والمراد بخلع النعلين ، ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة. كأنه تعالى أمره عليه‌السلام ، بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ، ولا يلتفت بخاطره إلى


ما سواه تعالى. والمراد من الوادي المقدس : طهارة عزة الله تعالى وجلاله. والمعنى : إنك لما وصلت إلى بحر المعرفة ، فلا تلتفت إلى المخلوقات اه. ويقال : معنى طوى قد طوته الأنبياء قبلك.

قال ابن عباس : إنه عليه‌السلام مرّ بذلك الوادي ليلا فطواه ، فكان المعنى : أنك بالوادي المقدس الذي طويته طيا ، أي جاوزته حتى ارتفعت إلى أعلاه وعلى هذا إن «طوى» مصدر خرج عن لفظه. (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) للرسالة والكلام الذي خصصتك به.

وقرأ حمزة : «وأنا اخترناك» بنون العظمة ، وبتشديد النون من «أنا» ، وبفتح الهمزة والكسر. وقرأ أبي بن كعب : «إني اخترتك» (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣) أي فاستمع للذي يوحي إليك مني. وقوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) يفيد نهاية اللطف والرحمة. وقوله تعالى : (فَاسْتَمِعْ) يفيد نهاية الهيبة ، فكأنه تعالى قال : لقد جاءك أمر عظيم ، هائل ، فتأهب له ، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه. فأرسله الله تعالى في ذلك الوقت ، في ذلك المكان ، وكان عمره حينئذ أربعين سنة (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بدل مما يوحى ، (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وهذا إشارة للعقائد العقلية ، (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤) إي لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على كلامي ، أو لذكري إياك بالمدح والثناء ، أو لإخلاص ذكري لا تقصد بالصلاة غرضا آخر. وهذا إشارة للأعمال الفرعية. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي كائنة لا بد ، (أَكادُ أُخْفِيها) ، أي أكاد أظهرها ، أي قرب إظهارها.

ويؤيده قراءة فتح الهمزة أو المعنى ، أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب ، كقولك أشكلت الكتاب ، أي أزلت إشكاله ، وهذا إشارة إلى العقائد السمعية ، وهذه الثلاثة جملة الدين. فإن أصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة : علم المبدأ ، وعلم الوسط ، وعلم المعاد. فعلم المبدأ ، هو معرفة الله تعالى ، وهو المراد بقوله تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وعلم الوسط ، هو علم العبودية ، فقوله تعالى : (فَاعْبُدْنِي) إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله : (لِذِكْرِي) ، بمعنى لتكون ذاكرا لي غير ناس ، إشارة إلى الأعمال الروحانية ، فالعبودية أولها الأعمال الجسمانية ، وآخرها الأعمال الروحانية ، وعلم المعاد هو قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها). (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) برة أو فاجرة (بِما تَسْعى) (١٥) أي بما تعمل من خير أو شر فقوله : (لِتُجْزى) متعلق بـ «آتية» أو بـ «أخفيها». (فَلا يَصُدَّنَّكَ) أي فلا يصرفنّك يا موسى (عَنْها) ، أي عن ذكر الساعة ، (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ميل نفسه إلى إنكار الساعة ، فإن منكر البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا للدليل ، (فَتَرْدى) (١٦) أي فتهلك بالنار. فالله تعالى راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب ، لأنه قال لموسى أولا (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وهو إشارة إلى الأمر ، بتطهير السر عما سوى الله تعالى ، ثم أمره بتحصيل ما يجب تحصيله من التكاليف ، وافتتحها بمحض اللطف ، وهو قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله تعالى : (فَلا


يَصُدَّنَّكَ عَنْها) الآية تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة ، والرهبة ، والرجاء ، والخوف. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) أي وما تلك مأخوذة بيمينك (يا مُوسى) (١٧) ، فقوله : (وَما تِلْكَ) ، إشارة إلى العصا ، وقوله : (بِيَمِينِكَ) إشارة إلى اليد.

أراد الله تعالى بالسؤال أن يثبت قلب موسى ، ويزداد علمه ، حتى إذا قلب الله تعالى العصا ثعبانا لا يخافه ولا يعتريه شك ، وكذا إذا أخرج الله من يد موسى شعاعا ، فيعرف أن ذلك بقدرة الله تعالى. والنكتة في ذلك السؤال ، أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة ، أراد ربّ العزة إزالتها ، فسأله عن أمر لا يغلط فيه وهي العصا. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال ، فالدهشة تغلبه ، والحياء يمنعه عن الكلام ، فتسأله الملائكة عن الأمر الذي لم يقع الغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد ، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. (قالَ هِيَ) أي التي قارة بيميني (عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها عند النهوض إلى القيام ، أو عند الإعياء ، أو عند المشي. (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أخبط بها ورق الشجر لغنمي. وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين غير المنقوطة ـ وهو زجر الغنم وتعديته بـ «على» لتضمن معنى الأنحاء والإقبال أي أزجر الغنم بها منحيا ومقبلا عليها (وَلِيَ فِيها) أي العصا (مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) ، أي حاجات شتى.

وأجمل موسى عليه‌السلام ، رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ثم أراد الله أن يعرّفه عليه‌السلام ، أن فيها أعظم من مآربه التي هي : حمل الزاد ، والقوس ، وعرض الزند ، وإلقاء الكساء للاستظلال ، وطرد السباع وغير ذلك ، فأمره الله بإلقائها. (قالَ أَلْقِها) من يدك (يا مُوسى) (١٩) (فَأَلْقاها) من يده على الأرض ، (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠).

قيل كانت العصا أول انقلابها حية صفراء صغيرة في غلظ العصا ، ثم انتفخت وتزايد جرمها ، حتى صارت ثعبانا ، فأول حالها جان ، ومآلها ثعبان. وقيل : إنها كانت من أول الأمر في شخص الثعبان ، وسرعة حركة الجان ، وكان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين فكّيها أربعون ذراعا ، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار ، حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها ، وجوفها ، وعيناها تتّقدان كالنار ، وهي تشتد رافعة رأسها فلما عاين موسى ذلك ولى هاربا منها. (قالَ) تعالى له : (خُذْها) يا موسى بيمينك ، (وَلا تَخَفْ) منها ، (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى ، التي هي الهيئة العصوية.

فلما قال له ربه (لا تَخَفْ) ، ذهب خوفه حتى أدخل يده في فمها ، وأخذ بلحييها ، فعادت عصا كما كانت. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر وأخرجها ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي متبرقة مثل البرق ، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس ، تغطي البصر عن الإدراك. ثم إذا ردّها إلى كفّه صارت إلى لونها الأول بلا نور ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ،


آيَةً أُخْرى) (٢٢) أي معجزة أخرى غير العصا. فقوله تعالى : (بَيْضاءَ) حال من الضمير في تخرج ، ومن غير سوء متعلق ببيضاء لما فيها من معنى الفعل ، وهو ابيضت. وآية أخرى حال من ضمير تخرج. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٣) في الإعجاز وهي اليد فإنها أكبر آيات موسى لأنها لم تعارض أصلا ، وأما العصا فقد عارضها السحرة. فقوله : (لِنُرِيَكَ) متعلق ، بقوله تعالى : (وَاضْمُمْ) أو بقوله : (تَخْرُجْ) وقوله : (مِنْ آياتِنَا) حال من الكبرى ، فـ «الكبرى» مفعول ثان «لنريك» ، والتقدير لنريك الآية الكبرى ، حال كونها بعض آياتنا الدالة على قدرتنا (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بما رأيته من الآيتين العظيمتين ، وادعه إلى عبادتي وحذّره نقمتي. (إِنَّهُ طَغى) (٢٤) أي جاوز الحدّ في الكبر ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. (قالَ) مستعينا بالله تعالى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٢٥) ، أي ليّن لي قلبي لأجترئ على مخاطبة فرعون ، وكان موسى يخاف فرعون لشدة شوكته ، وكثرة جنوده. فسأل الله تعالى أن يوسّع قلبه ليكون حمولا لما يستقبل من الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) أي هوّن عليّ تبليغ الرسالة إلى فرعون. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٢٧) متعلق باحلل.

روي أنه عليه‌السلام كان في لسانه رتة ، لأنه حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها لما كان فيها من الجوهر ، فغضب فرعون وأمر بقتله ، وقال : هذا هو الذي يزول ملكي على يده ، وقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرّب منه التمرة ، والجمرة ، فقرّبا إليه فأخذ الجمرة ، فجعلها في فيه. (يَفْقَهُوا) أي يفهموا (قَوْلِي) (٢٨) عند تبليغ الرسالة. (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي) (٣٠). فـ «وزيرا» مفعول ثان لأنه نكرة ، و «هارون» مفعول أول لأنه معرفة ، وقدم الثاني اعتناء بشأن الوزارة ، و «أخي» عطف بيان ، ولي متعلق بمحذوف على أنه حال من وزيرا ، ومن أهلي متعلق بأجعل ، والمعنى واجعل من أهلي هارون أخي ، متحملا على الأعباء لي ، ومعينا على أمري ، يقوي أمري ، وأثق برأيه ، (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣١) ، أي قوي بهارون ظهري ، وأعنّي به (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) أي اجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.

وقرأ العامة على صيغة الطلب وهي ضم الهمزة من «أشدد» وهي همزة وصل ، وفتح الهمزة من أشركه وهي همزة قطع. وقرأ ابن عامر وحده على صيغة الجواب ، وهو فتح همزة «أشدد» ، وضم همزة «أشركه» ، وكلاهما همزة قطع للمتكلم فيهما ، ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر ، أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء ، واشدد به خبره ويوقف على هارون. (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) ، أي كي ننزهك عمّا لا يليق بك من الصفات ، والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ، ويقبله منه جماعته الباغية ، من ادّعاء الشركة في الألوهية ، ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ، والجمال ، والجلال ، زمانا كثيرا من جملته ، زمان دعوة فرعون ، وأوان المحاجة معه ، وهذا إشارة إلى أن للجليس الصالح ، والصديق الصديق ، أثرا عظيما في


المعاونة على كثرة الطاعات ، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) أي عالما بأن ما دعوتك به مما يفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة ، وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به. (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣٦) أي قد أردت إعطاء مسؤولك ألبتة ، (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) ، أي في وقت غير هذا الوقت من غير سابقة دعاء منك وطلب. فلأن أنعم عليك بمثل تلك النعم التامة وأنت طالب له أولى. (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨) أي ألهمنا أمك الذي يلهم ، أو أريناها في منامها الذي يرى ، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون. (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ، أي بأن تضعي الصبي في الصندوق ، (فَاقْذِفِيهِ) أي فألقي الصبي ، (فِي الْيَمِ) أي في بحر النيل ، (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) ، أي فيلقي بحر النيل هذا الصبي على الشط. والأمر بمعنى الخبر ، وحكمة صورة الأمر لوجوب وقوع ذلك ، لتعلّق الإرادة الربانية به.

روي أن أم موسى اتخذت تابوتا ، وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى عليه‌السلام ، وقيرت رأس التابوت ، وشقوقه بالقار ، ثم ألقته في نيل مصر ، وكان يشرع منه نهر كبير إلى دار فرعون ، فرفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأس البركة مع امرأته آسية بنت مزاحم ، إذ بتابوت يجيء به الماء ، فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراج ما فيه ، ففتحوا رأس التابوت فإذا صبي من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) ، وهو فرعون.

فالأول : باعتبار الواقع لكفره وعتّوه.

والثاني : باعتبار ما يؤول إليه ، وما لو ظهر لفرعون حال موسى لقتله ، وفي هذا الأمر بقذفه في البحر ، وفي وقوعه في يد العدو ، لطف خفي مندرج تحت قهر صوري. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي وألقيت عليك محبة عظيمة حاصلة مني ، واقعة بخلقي ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون ، حتى قالت لفرعون : «قرة عين لي ولك» لا تقتلوه.

ويروى أنه عليه‌السلام ، كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) ، معطوف على علة مقدرة متعلقة بألقيت ، والتقدير وألقيت عليك المحبة ليعطف عليك ، ولتربى بالشفقة بحفظي. وقرأ العامة «لتصنع» بالبناء للمجهول ، بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وقرئ بكسر اللام ، وسكونها ، وبالجزم بلام الأمر. وقرأ الحسن وأبو نهيك ، بفتح التاء بالبناء للفاعل. أي ليكون تصرفك على رعاية مني. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ، مريم وكانت شقيقته ، وهي غير أم عيسى ، وهذا الظرف متعلق بألقيت ، أي ألقيت عليك محبة مني في وقت مشي أختك ، أو بتصنع أي لتربى ، ويحسن إليك في هذا الوقت ، (فَتَقُولُ) لفرعون وآسية : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي يربيه ، ويرضعه.


ويروى أنه لما فشا الخبر بمصر ، أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، واضطروا إلى تتبع النساء. فخرجت أخته مريم لتعرف خبره ، فدخلت قصر فرعون ، فقالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم. ثم جاءت بالأم ، فقبل ثديها. فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) ، معطوف على محذوف. أي فقالوا : دلينا على من تكفله ، فجاءت بأمك فرددناك إلى أمك. (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك. (وَلا تَحْزَنَ) أي ليزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك ، أو كي لا تحزن أنت بفراقها.

وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، قبل إلقائه في اليم. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قبطيا طباخا لفرعون اسمه قاب قان ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي من غم اقتصاص فرعون منه ، بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين ، ومن غم عقاب الله تعالى ، حيث قتله لا بأمر الله بالمغفرة ، وكان قتله للكافر خطأ. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي أوقعناك في محنة بعد محنة ، وخلّصناك منها.

فإنه ولد في عام يقتل فيه الولدان. وألقته أمه في البحر ، والتقطه آل فرعون ، وامتنع من ارتضاع الأجانب ، وهمّ فرعون بقتله ، ووضع الجمرة في فيه ، وقتل قبطيا ، ثم هرب إلى مدين. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ) أي مكثت عشر سنين ، (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي بلدة شعيب عليه‌السلام ، على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) أي ثم جئت إلى المكان الذي أونس فيه النار ، ووقع فيه النداء كائنا على مقدار معين من الزمان وهو أربعون سنة ، فنبأتك وأرسلتك حينئذ. (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي اصطفيتك (لِنَفْسِي) (٤١) بالرسالة وبالكلام. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أي وليذهب أخوك إلى فرعون ، وقومه ، وبني إسرائيل ، (بِآياتِي) أي مع آياتي التي هي العصا واليد ففي كل منهما آيات شتى.

فانقلاب العصا حيوانا آية ، وكونها ثعبانا عظيما لآية أخرى ، وسرعة حركته مع عظيم جرمه آية أخرى ، ثم إنه عليه‌السلام يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى ، ثم انقلابه عصا آية أخرى. وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشعاعها آية أخرى ، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٤٢) أي لا تضعفا عن تبليغ رسالتي ، فإن الذكر يطلق على كل عبادة ، والتبليغ من أعظم العبادات. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ).

روي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر ، أن يتلقى موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ طَغى) (٤٣) أي تكبر بادعائه الربوبية ، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) فإن تليين القول ، مما يكسر سورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة ، وإن فرعون كان قد ربّاه عليه‌السلام ، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) أي قولا له قولا ليّنا على أن تكونا راجيين لأن يقبل


وعظكما أو يخشى الله فيرجع من الإنكار ، إلى الإقرار بالحق. فإن لم ينتقل من الإنكار ، إلى الإقرار لكنه إذا حصل في قلبه الخوف ترك الإنكار. وإن لم ينتقل إلى الإقرار ، فإن ترك الإنكار ، خير من الإصرار على الإنكار. وفائدة إرسالهما مع علم الله بأن فرعون لا يؤمن إلزام الحجة من الله ، وقطع المعذرة عن فرعون ، وإظهار الآيات. ويروى عن كعب أنه لمكتوب في التوراة : «فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن». (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي أن يعجّل علينا بالعقوبة ، بأن لا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. أي إنا نخاف فوات القيام لتبليغ الرسالة كما أمرتنا ، إذا قتلنا. وقرئ «يفرط» بضم الياء ، وكسر الراء ، أي نخاف أن يحمله حامل من ادعاء الربوبية ، أو حبه للرياسة ، والمملكة ، أو قومه المتمردين على المعالجة بالعقاب. (أَوْ أَنْ يَطْغى) (٤٥) ، أي يزداد تكبرا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجراءته عليك ، وقساوة قلبه. (قالَ) الله تعالى : (لا تَخافا) ، مما عرض في قلبكما من أذية فرعون لكما ، ومن ازدياد كفره. (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) ، أي إنني حافظكما سميعا وبصيرا.

قال القفال : يحتمل أن يكون قوله تعالى : (أَسْمَعُ وَأَرى) مقابلا لقولهما (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) ، أي أن يعدو علينا بأن لا يسمع منا ، أو أن يطغى ، أي يغلب علينا بأن يقتلنا. فقال الله تعالى (إِنَّنِي مَعَكُما) أي معينكما ، وعالم بما يليق من حالكما معه ، أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما ، وأرى أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه. (فَأْتِياهُ) أي فلتكونا واصلين إلى فرعون ، (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) إليك ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، نذهب بهم إلى أرضهم ـ وفي ذلك إدخال النقص على ملكه ، لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال ، من بناء أو غيره ـ (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأمور الشاقة كالحفر ، ونقل الأحجار ، وقتل ذكور أولادهم ، عاما دون عام ، واستخدام نسائهم. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ، أي بإثبات الدعوى ببرهانها. فهو بيان من عند الله. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧) ، أي السلامة في الدارين ، من عذاب الله لمن صدق آيات الله الهادية إلى الحق. وهذا من جملة قوله تعالى الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون ، أي وفقولا له والسلام إلخ. (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) ، من جهة ربنا ، (أَنَّ الْعَذابَ) الدنيوي والأخروي ، (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بآياته تعالى (وَتَوَلَّى) (٤٨) ، أي أعرض عن قبولها. (قالَ) أي فرعون بعد ما أتياه وبلّغا ما أمرا به ، (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩) ، لم يقل فمن ربي ، مع أن حق الجواب كذلك ، لغاية عتوّه أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما وتخصيص النداء بموسى ، بعد مخاطبته لهما معا لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون وزيره. (قالَ) أي موسى مجيبا له : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) ، من أنواع المخلوقات (خَلْقَهُ) أي صورته اللائق بما نيط به من الخواص ، والمنافع. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وتقديم المفعول الثاني للاعتناء به. (ثُمَّ هَدى) (٥٠) ، إلى طريق الانتفاع من


الأكل ، والشرب ، والجماع. (قالَ) أي فرعون لموسى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٥١) ، أي ما حال الأمم الماضية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة ، أي فلما ذكر موسى عليه‌السلام برهانا نيرا على هذا المطلوب ، خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة ، فيظهر للناس صدقه عليه‌السلام ، وحقيقة مقالاته ، وتبين عندهم بطلان خرافات نفسه. فأراد فرعون أن يصرف موسى عليه‌السلام عن ذلك الكلام الذي يتعلق بالرسالة ، إلى الحكايات. فعسى يظهر منه نوع غفلة ، فيرتقي فرعون إلى أن يدعي قدام قومه نوع معرفة. فقال : ما حال القرون الحالية (قالَ) موسى : (عِلْمُها) أي علم حالهم (عِنْدَ رَبِّي) ، فلا يعلمها إلا الله ، وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه. (فِي كِتابٍ) ، أي ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، يكون المكتوب فيه يظهر للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم لكل المعلومات ، منزّه عن السهو ، والغفلة ، أو المعنى. إن بقاء المعلومات في علمه تعالى كبقاء المكتوب في الكتاب ، فلا يزول شيء منها عن علمه تعالى. (لا يَضِلُّ رَبِّي) ، أي لا يخطئ عن معرفة الأشياء ، ولا يخفى شيء عن علمه ، (وَلا يَنْسى) (٥٢) شيئا علمه. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا. وقرأ عاصم وحمزة بفتح الميم وسكون الهاء. والباقون بكسر الميم وفتح الهاء مع الألف. (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) ، أي جعل لكم في الأرض طرقا تذهبون وتجيئون فيها. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ، هذا تمام كلام موسى عليه‌السلام ، ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه ، تتميما لكلام موسى لخطاب أهل مكة فقال : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء ، (أَزْواجاً) ، أي أصنافا ، (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣) ، أي مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع ، بعضها صالح للناس ، وبعضها للبهائم ، على اختلاف وجوه الصلاح. وقيل : هذا من تمام كلام موسى عليه‌السلام ، كأنه يقول : ربي الذي جعل لكم كذا وكذا ، فأخرجنا نحن معشر عباده بذلك الماء بالحراثة ، أزواجا من نبات شتى. وقال صاحب الكشاف : إن كلام موسى عليه‌السلام تم عند قوله : (وَلا يَنْسى) ثم ابتدأ كلام الله ، من قوله (الَّذِي جَعَلَ) فهو خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير هو الذي جعل ، ويكون الانتقال من الغيبة إلى التكلم ، التفاتا للدلالة على كمال القدرة والحكمة. وللإعلام بأن ذلك لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) ، حال من ضمير ، أخرجنا على إرادة القول ، أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم : كلوا وارعوا أنعامكم ، أي مبيحين لكم الأكل وعلف الأنعام ، آذنين في الانتفاع بها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اختلاف النبات في الشكل والطبع ، (لَآياتٍ) واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى ، في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، (لِأُولِي النُّهى) (٥٤) أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل. (مِنْها) أي الأرض ، (خَلَقْناكُمْ) وذلك إذا وقعت النطفة ، فيخلق الله الولد من النطفة ، ومن التراب. وأيضا أن تولّد الإنسان إنما هو من النطفة ، ودم الطمث ، وهما يتولّدان من الأغذية ، وهي تنتهي إلى


النبات ، وهي إنما تحدث من امتزاج الماء والتراب. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) ، إلى الموضع الذي أخذ ترابكم منه مدفونين فيه. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥) ، يوم البعث على الهيئة السابقة. (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أي والله لقد بصّرنا فرعون (آياتِنا كُلَّها). روي أن موسى لما ألقى عصاه انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، وتوجّه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه ، فصاح فرعون يا موسى : أنشدك بالذي أرسلك ألا أخذته ، فأخذه ، فعاد عصا.

وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ، ويقول فرعون : يا موسى أنشدك إلخ. ونزع موسى يده من جيبه ، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا ، خارجا عن حدود العادات ، قد غلب شعاعه شعاع الشمس ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة ، ولذلك أكدت بكلها. (فَكَذَّبَ) موسى عليه‌السلام ، (وَأَبى) (٥٦) أن يؤمن ويطيع لعتوّه (قالَ) لموسى خوفا من أن يتبعه الناس : (أَجِئْتَنا) من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا ، (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) مصر ، (بِسِحْرِكَ) أي الذي هو العصا واليد البيضاء ، (يا مُوسى) (٥٧) وليكون لك الملك فيها ، (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي مثل سحرك في الغرابة. (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي وعدا لإتيانك بالسحر ، (لا نُخْلِفُهُ) ، أي ذلك الوعد ، (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) ، فـ «موعدا» مفعول أول ، والظرف مفعول ثان. (مَكاناً) مفعول فيه منصوب بـ «اجعل» ، (سُوىً) (٥٨).

قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بضم السين ، أي تستوي مسافة المكان على الفريقين ، والباقون بكسرها ، أي غير هذا المكان الذي نحن فيه الآن. (قالَ) موسى : (مَوْعِدُكُمْ) أي أجلكم (يَوْمُ الزِّينَةِ) ، وهو يوم النيروز ، أو يوم عيد لهم ، وكان يوم عاشوراء. واتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت. وقرأ الحسن ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وغيرهم «يوم» بالنصب أي موعدكم يقع يوم الزينة ، (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩) ، عطف على الزينة أو على يوم. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) ، أي انصرف عن المجلس وفارق موسى ، (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ، أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم ، (ثُمَّ أَتى) (٦٠) بهم الموعد وأتى موسى أيضا. (قالَ لَهُمْ). أي لأهل الكيد ، (مُوسى) بطريق النصيحة : (وَيْلَكُمْ) أي ألزمكم الله ضيقا في الدنيا ، (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) ، بإتيان السحر في معارضة آيات الله وبادعائكم أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر (فَيُسْحِتَكُمْ).

قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء ، وكسر الحاء والبيخقون بفتحهما ، أي فيهلككم ، (بِعَذابٍ) في الدنيا بالاستئصال أو في الآخرة بالنار. (وَقَدْ خابَ) أي حرم عن المقصود (مَنِ


افْتَرى) (٦١) على الله. (فَتَنازَعُوا) أي السحرة ، (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) ، أي تشاوروا ليستقروا على شيء واحد حين سمعوا كلام موسى عليه‌السلام ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) (٦٢) من فرعون وملئه ، فقالوا في نجواهم : إن غلب علينا موسى آمنا به. ثم (قالُوا) بطريق العلانية ، أي قال السحرة ، وقيل : قال لهم فرعون ومن معه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ). قرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من «إن» ، وشدّدها الباقون. وشدّد ابن كثير نون «هذان» ، وقرأ عمرو «هذين» بالياء. (يُرِيدانِ) أي موسى وهارون ، (أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ، أي أرض مصر ، (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه لكم ، (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٦٣) ، أي يذهبا دينكم ، الذي هو أفضل الأديان بإعلاء دينهما. أو يقال : يذهبا بإشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما ـ وهم بنو إسرائيل ـ فإنهم ذوو علم ومال. (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ).

وقرأ أبو عمرو بفتح الميم ، وبوصل الهمزة ، أي فأجمعوا أدوات سحركم فلا تتركوا شيئا منها. وقرأ الباقون بكسر الميم ، وقطع الهمزة ، أي ليكن عزمكم مجمعا عليه لا تختلفوا ، (ثُمَّ ائْتُوا) للقاء موسى وهارون ، (صَفًّا) ، أي مصطفين مجتمعين لكي يكون الصف أنظم لأمركم ، وأشد لهيبتكم.

قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) (٦٤) ، أي وقد فاز بالمطلوب من غلب. ومرادهم بالمطلوب الأجر والتقريب من فرعون على ما وعدهم بذلك. ومرادهم بمن غلب أنفسهم جميعا ، أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة. (قالُوا) أي السحرة لموسى : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥) ، أي اختر إما إلقاءك ما معك قبلنا ، وإما القاءنا ما معنا قبلك.

وهذا التخيير حسن أدب منهم ، وتواضع لموسى عليه‌السلام ، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع ، لم يضر ، بل نفعهم ، ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته. ثم إن موسى عليه‌السلام ، قابل أدبهم بأدب أحسن من أدبهم ، حيث بتّ القول بإلقائهم أولا لأنه فهم أن مرادهم الابتداء. (قالَ بَلْ أَلْقُوا) ، أي قال لهم موسى : لا ألقي أنا أولا بل ألقوا أنتم أولا إن كنتم محقين ، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي ، ميلا من هذا الجانب ، وميلا من هذا الجانب. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي موسى ، (مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها) حيات (تَسْعى) (٦٦). «فإذا» ظرفية تطلب متعلقا ينصبها من فعل المفاجأة ، وجملة ابتدائية تضاف إليها. أي ففاجأ موسى إذا حبالهم وعصيهم ، مخيلة إلى موسى السعي ، كسعي ما يكون حيا من الحيات ، من أجل سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليه الشمس ، اضطربت واهتزت فخيّل إليه أنها تتحرك (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) أي أضمر موسى في قلبه بعض خوف من أن لا يظفر بهم ، فيقتلون من آمن به عليه‌السلام (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨) ، أي الغالب عليهم.


وقيل : إن موسى خاف من مفاجأته بمقتضى طبع البشرية من النفرة من الحيات ، ومن الاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه ، فإن خوف البشرية مركوز في جبلّة الإنسان ، وذلك مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها. ولذلك قال تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. (وَأَلْقِ) ، على الأرض (ما فِي يَمِينِكَ) ، يا موسى وإنما لم يقل وألق عصاك تعظيما لشأنها ، أي لا تحفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها ، وهذه على كثرتها أقل شيء عنده ، فألقه ، (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ، أي تلقم ما طرحوا من الحبال والعصي ، الذي خيل إليك سعيها وخفتها.

وقرأ ابن عامر «تلقّف» بتشديد القاف ، وبالرفع. والعامة بالجزم ، وحفص بسكون اللام وبالجزم (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي لأن الذي صنعوه عمل ساحر. وقرأ حمزة ، والكسائي و «كيد سحر» بكسر ، فسكون ، على أن الإضافة للبيان. وقرأ مجاهد ، وحميد ، وزيد بن علي ، بنصب «كيد ساحر» ، على أنه مفعول به ، و «ما» كافة مزيدة ، (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) ، أي لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا ، (حَيْثُ أَتى) (٦٩) أي أينما كان ، وهذا من تمام التعليل. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي فألقى موسى عصاه ، فتلقّفت حبال السحرة وعصيّهم فسجدوا ، فإنهم من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا ، فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود. روي أنهم في سجودهم رأوا الجنة ، ومنازلهم التي يصيرون إليها ، ثم رفعوا رؤوسهم ، (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠) قال رئيسهم : كنا نغالب الناس بالسحر ، وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا ، فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه؟! (قالَ) لهم فرعون : (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له ، (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ) أي أستاذكم ، (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ، وأنكم تلامذته في السحر ، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لشأنه وتفخيما لأمره ، (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) ، أي في حال كونها مختلفات ، والقطع من خلاف ، أن تقطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، لا كل واحد من العضوين ، فإن هذا يد ، وذاك رجل ، وهذا يمين وذاك شمال ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، أي عليها ، وأتى بكلمة «في» ، للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا ، تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف ، (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) أي أنا أو موسى ، (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١). وهذا لقصد توضيع موسى عليه‌السلام والهزء به ، لأنه عليه‌السلام لم يكن من التعذيب في شيء. أو لإرادة أن إيمانهم كان على خوف من موسى ، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم ، فخافوا على أنفسهم أيضا ، وفي ذلك تبجّح فرعون بما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب. (قالُوا) : أي السحرة لفرعون غير مكترثين بوعيده : (لَنْ نُؤْثِرَكَ) ، أي لن نختار اتباعك (عَلى ما جاءَنا) من الله تعالى على يد موسى عليه‌السلام ، (مِنَ


الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الظاهرة الدالة على صدق موسى. (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي ولا على عبادة الذي خلقنا ، (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاصنع ما أنت صانعه ، (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٧٢) ، أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط ، وليس لك علينا سلطان في الآخرة ، وأنت تجزى على حكمك في الآخرة ، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا ولا رهبة من عذابها. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) ، أي شركنا ومعاصينا ، (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) ، أي وليغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى رغبة في خيرك ، ورهبة من شرك ، بإكراهك علينا في الحضور إليك من المدائن القاصية ، (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣) أي فخيره تعالى أبقى من خيرك لمن أطاعه ، وعذابه أبقى من عذابك لمن عصاه ، (إِنَّهُ) أي لأنه الشأن ، (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) يوم القيامة (مُجْرِماً) ، بأن مات على الكفر ، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) ، فينتهي عذابه ويستريح (وَلا يَحْيى) (٧٤) ، حياة ينتفع بها. (وَمَنْ يَأْتِهِ) يوم القيامة (مُؤْمِناً) ، بما وعد من الثواب ، وأوعد من العقاب على لسان أنبيائه ، (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) التي جاءوا بها ، (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥) ، أي المنازل الرفيعة في الجنان. (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، وهي في وسط الجنان ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ) ، أي الدرجات العلى ، (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦) ، أي تطهر من الذنوب. (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي).

قرأ نافع وابن كثير بكسر النون ، وهمزة وصل. أي سر ببني إسرائيل أول الليل من أرض مصر إلى البحر ، (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) ، أي اجعل لهم بالضرب بعصاك طريقا في البحر يابسا ليس فيه وحل ولا نداوة. (لا تَخافُ دَرَكاً) ، أي إدراك فرعون ، (وَلا تَخْشى) (٧٧) ، من الغرق. وقرأ حمزة «لا تخف» بالجزم جوابا للأمر. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) ، أي فلحقهم فرعون مع جموعه ، (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨) ، أي فسترهم ما سترهم من البحر. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) ، أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الهلاك في الدين والدنيا معا ، حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الدنيوي المتصل بالعذاب الأخروي. (وَما هَدى) (٧٩) أي ما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب دنيوي وأخروي.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر ، وكان موسى وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه ، فخرج بهم ليلا وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ، ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين ، وخرج فرعون في طلب موسى ، وعلى مقدمته ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب. فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هاهنا أمرت ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب ، فانفلق ، فقال لهم موسى عليه‌السلام : أدخلوا فيه. فقالوا : وأرضه رطبة ، فدعا الله تعالى فهبت عليها الصبا فجفت. فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا ، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر.


فأقبل فرعون إلى تلك الطرق ، فقال قومه له : إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى ، وكان على فرس حصان ، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، فسار جبريل بين يدي فرعون ، فأصبر الحصان الحجر ، فاقتحم بفرعون على أثرها ، فصاحت الملائكة في الناس : الحقوا الملك ، حتى إذا دخل آخرهم ، وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليها فغرقوا ، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم ، فقالوا : ما هذا يا موسى؟ قال : قد أغرق الله فرعون وقومه ، فرجعوا حتى ينظروا إليهم ، وقالوا : يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فدعا ، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وقلنا : يا أولاد يعقوب ، (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه بإغراقهم ، (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) ، أي واعدناكم إتيان جانب الجبل الأيمن ، لمن انطلق من مصر إلى الشام. فإن الله أمر أن يأتي منهم سبعون مع موسى إلى طور سيناء لأخذ التوراة ، ففيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم ، (وَنَزَّلْنا) في التيه ، (عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) (٨٠) ، فالمنّ : هو شيء «حلو أبيض مثل الثلج ، كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع». والسلوى : «هو السماني يبعثه الجنوب عليهم فيذبح الرجل منهم ما يكفيه». (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي من لذائذه. وقرأ حمزة والكسائي : «قد أنجيتكم» ، و «وعدتكم» ، و «رزقتكم» بتاء المتكلم. والباقون بنون العظمة ، واتفقوا على ونزلنا بالنون. وأسقط أبو عمرو ألف «واعدنا». (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي فيما رزقناكم بأن لم تشكروه.

قال ابن عباس : أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه ، (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) ، بكسر الحاء أي يجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائي بضم الحاء أي ينزل (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٨١) ، أي هلك وو قرأ الكسائي بضم اللام الأولى. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) من الشرك والمعاصي ، (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به ، (وَعَمِلَ صالِحاً) أي مستقيما عند الشرع والعقل ، (ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢) أي استمرّ على الهدى من غير تقصير ، ومات على ذلك فلما ذهب موسى عليه‌السلام مع السبعين إلى الميقات تعجّل إلى الميعاد قبلهم ، قال الله له : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) (٨٣) أي وقلنا له : أي شيء أعجبك منفردا عن النقباء ، (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي هم معي ، وإنما سبقتهم بخطي يسيرة ظننت أنها لا تخلّ بالمعيّة ولا تقدح في الاستصحاب. (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٨٤) عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك ، واعتنائي بالوفاء بعهدك ، (قالَ) تعالى : يا موسى (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) ، أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.

وهم الذين خلفهم موسى مع هارون ، وكانوا ستمائة ألف ، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) ، حيث كان هو المدبّر في الفتنة ، واسمه موسى بن


ظفر ، وكان منافقا قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان قد ربّاه جبريل فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة ، فيخرج له من أحدها لبن ، ومن الأخرى سمن ، ومن الأخرى عسل. وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان ، كانت المرأة من بني إسرائيل ، تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة أو كهف من جبل ، أو غير ذلك ، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس.

وقرئ وأضلّهم السامري على صيغة التفضيل ، أي أشدهم ضلالا السامري ، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) ، بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة (غَضْبانَ أَسِفاً) ، أي حزينا.

روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح ، وكانوا يرقصون حول العجل ، فقال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) بأن يعطيكم التوراة ، فيها ما فيها من الهدى؟ (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي أوعدكم ذلك فطال عليكم مدة الإنجاز ، ومدة نعم الله تعالى عليكم من إنجائه إياكم من فرعون ، أفنسيتم ذلك العهد أو تعمدتم المعصية؟! (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بسبب عبادة العجل (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٨٦) ، بالإقامة على طاعة الله تعالى؟ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا).

قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ، أي بسلطاننا وقوتنا. ونافع وعاصم ، بفتح الميم. وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أي بأمر كنا نملكه ونريده. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص ، وابن عامر بضم الحاء ، وكسر الميم مشددة ، أي أمرنا أن نحمل أحمالا من حليّ القبط التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وفي الواقع ليس للعرس ، أي فإن موسى أمرهم باستعارة الحليّ والخروج بها. وقرأ حمزة والكسائي ، وأبو عمرو ، وعاصم ، في رواية أبي بكر بفتح الحاء والميم مخففة ، أي حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من حليّ آل فرعون ، (فَقَذَفْناها) أي فطرحنا الحليّ في النار بأمر السامري.

روي أنه قال لهم : إنما تأخر عنكم مجيء موسى عليه‌السلام لما معكم من الأوزار ، أي فهو محبوس عقوبة بالحلي ، فالرأي أن تحفروا لها حفيرة ، وتوقدوا فيها نارا ، وتقذفوها فيها لتخلصوا من ذنبها. (فَكَذلِكَ) ، أي فمثل ذلك القذف ، (أَلْقَى السَّامِرِيُ) (٨٧) ما كان معه منها ، (فَأَخْرَجَ) أي السامري (لَهُمْ عِجْلاً) أي صورة عجل من تلك الحلي المذابة ، أي فصاغ لهم السامري من الذهب الذي ألقوا في النار في ثلاثة أيام ، (جَسَداً) أي حال كون العجل جسدا صغيرا من ذهب بلا روح. (لَهُ خُوارٌ) أي صوت يسمع. أي أن السامري صوّر صورة على شكل العجل. وجعل فيها منافذ ومخارق ، بحيث تدخل فيها الرياح ، فيخرج صوت يشبه صوت العجل.


قال ابن عباس : لا ، والله ما كان له صوت قط ، وإنما كان الريح يدخل في دبره فيخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك. (فَقالُوا) أي السامري ومن تبعه في بادئ الرأي لمن توقف من بني إسرائيل : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) ، أي موسى أن إلهه هنا فيطلبه في الطور. وفي موضع آخر أو فنسي السامري الاستدلال على حدوث الأجسام ، وأن الإله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) أي العجل ، (إِلَيْهِمْ قَوْلاً). أي ألا يتفكر السامري وأصحابه فلا يعلمون أنه لا يرجع إليهم كلاما. وقرئ «يرجع» بالنصب ، أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم ، قولا من الأقوال ، و «أن» الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩) أي ، ولا يقدر العجل على أن يدفع عنهم ضرا ، ولا أن يجرّ لهم نفعا فيخافوا كما يخافون فرعون ، ويرجوا منه كما يرجون من فرعون ، فكيف يقولون ذلك؟ (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل مجيء موسى عليه‌السلام : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، أي أوقعتم في الفتنة بالعجل ، (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) أي إن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن. وإنما قال هارون ذلك شفقة منه على نفسه ، وعلى الخلق.

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلممن أصبح وهمّه غيرالله فليس من الله في شيء،ومن أصبح لايهتمّ بالمسلمين فليس منهم»(١).

ويروى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أصحابه ، إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» (٢) ، فسمع الشاب ذلك فولّى ، فقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار ، وأنا أعلم أنه صادق ، فإذا كان الأمر كذلك ، فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشعل النار بي حتى تبرّ يمينه ، ولا تشعل النار بأحد آخر. فهبط جبريل عليه‌السلام وقال يا محمد : بشّر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك ، وفدائه أمتك بنفسه ، وشفقته على الخلق. (قالُوا) في جواب هارون عليه‌السلام : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) ، أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل ، (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١). جعلوا رجوع موسى عليه‌السلام إليهم ، غاية لعكوفهم على عبادة العجل بطريق التعلل والتسويف ، وقد دسّوا تحت ذلك ، أن موسى لا يرجع بشيء مبين اعتمادا على مقالة السامري.

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧ : ٢٥٣٠) ، والحاكم في المستدرك (٤ : ٣٢٠) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨ : ٨٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٤٣٧٠٦) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٣ : ٤٨).

(٢) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٩ : ٥٢٩) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤ : ٢٨٢).


واعلم أن هارون عليه‌السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الطرق ، لأنه زجرهم عن الباطل :

أولا : بقوله : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، وهو إزالة الشبهات ـ لأنه لا بدّ قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق ـ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى.

ثانيا : بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ، لأنها الأصل ، وإنما خصّ هذا الموضع باسم الرحمن ، لأنه عليه‌السلام كان ينبئهم ، بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم ، لأنه هو الرحمن كما خلصهم من آفات فرعون برحمته ، ثم دعاهم.

ثالثا : إلى معرفة النبوة بقوله : فاتبعوني ، ثم دعاهم.

رابعا : إلى الشريعة بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ، ثم إنهم لجهلهم وتقليدهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال ، بقولهم (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فجحدوا قول هارون كما هو عادة المقلّد. فكأنهم قالوا : لا نقبل حجّتك ، ولكن نقبل موسى.

روي أنهم لما قالوا ذلك : اعتزلهم هارون عليه‌السلام ، في اثني عشر ألفا ، وهم الذين لم يعبدوا العجل. (قالَ) موسى : (يا هارُونُ) حين سمع جوابهم له وهو مغتاظ : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٩٢) بعبادة العجل ، (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) في حالي الغضب لله تعالى ، والمقاتلة مع من كفر به ، أي أيّ شيء دعاك إلى أن لا تتبعني في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعا أو كرها ، فلم تركت قتالهم وتأديبهم ، وتركت وصيتي ، وأنت نبي الله ، وأخي ، ووزيري ، وخليفتي في قومي؟ وأثبت الياء بعد النون ابن كثير ، وقفا ووصلا ، وأثبتها نافع وأبو عمرو ، وصلا لا وقفا ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) ، أي ألم تتبعني وعصيت أمري؟ وأمره عليه‌السلام هو ما حكاه الله تعالى عنه في قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فلما أقام هارون معهم ولم يبالغ في منعهم ، نسبه إلى مخالفة أمره. (قالَ) هارون لموسى : (يَا بْنَ أُمَ) ذكر هارون أمه ، مع أن موسى أخوه الشقيق ، ترقيقا لقلبه. قرأ حمزة والكسائي بكسر الميم (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ، أي ولا بشعر رأسي.

روي أن موسى عليه‌السلام أخذ شعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله من فرط غضبه لله. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، برأيك بسبب القتال تفريقا لا يرجى بعده الاجتماع. (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) ، أي ولم تنتظر قدومي ، فمن ذلك تركت القتال معهم. وإني رأيت أن الإصلاح ، في المداراة معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت ، (قالَ) موسى عليه‌السلام للسامري موبخا له بعد سماع الاعتذارين : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٩٥) أي فيما شأنك الداعي إلى ما صنعت ، وما مطلوبك مما فعلت من عبادة العجل؟ (قالَ) أي السامري مجيبا له عليه‌السلام : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ، بضم الصاد فيهما. وقرأ حمزة والكسائي ، بالتاء على خطاب موسى وقومه ، أي رأيت ما لم يره بنو إسرائيل ، قال له


موسى : وما رأيت دونهم؟ قال : رأيت جبريل لما نزل على دابة الحياة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) ، أي حفنة من تربة موطئ فرس الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة ، وأخذ التوراة. وقرأ الحسن «قبضة» بضم القاف. وقرئ «قبصت قبصة» ، بالصاد المهملة ، فالضاد المعجمة للأخذ بجميع الكف ، والمهملة للأخذ بأطراف الأصابع. (فَنَبَذْتُها) أي فطرحت المأخوذ في فم العجل المصوغ ودبره فخار ، أو في الحلي المذابة.

قال أبو مسلم الأصفهاني : إن موسى عليه‌السلام ، لما أقبل على السامري باللوم على الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) إلخ. أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق. وقد كنت أخذت شيئا من سنتك أيها الرسول فطرحتها ، وعلى هذا فالمراد بالأثر : الدين ، وبالرسول : سيدنا موسى عليه‌السلام.

قال الرازي : وهذا القول أقرب إلى التحقيق لأن جبريل لم يجر له فيما تقدم ذكره ، وليس بمشهور عندهم باسم الرسول ولأن إضمار الكلام خلاف الأصل ، ولأن جبريل ربّى السامري حال طفولته فلا يعرفه ، ولو عرفه بعد البلوغ لعرف قطعا أن موسى عليه‌السلام نبي صادق ، ولأنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة أن تراب فرس جبريل له خاصية الإحياء ، لاطلع موسى عليه‌السلام على شيء آخر يشبه ذلك ، فلأجله أتى بالمعجزات. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) ، أي وزينت لي نفسي تزينا كائنا مثل ذلك التزيين الذي فعلته من القبص ، والنبذ ، فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري ، بل اتبعت هواي فيه. (قالَ) له موسى : (فَاذْهَبْ) يا سامري من بين الناس ، (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ، أي فإن قولك لا مساس ثابت لك في مدة حياتك لا ينفك عنك ، فكان يصيح بأعلى صوته : لا مساس ، أي إني لا أمسّ ولا أمسّ ، وإذا مسّه أحدّهم أخذت الحمّى الماسّ والممسوس ، فكان إذا أراد أحد أن يمسّه صاح خوفا من الحمى ، وقال : لا مساس. وحرّم موسى عليهم مكالمته ، ومبايعته ، وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس ، فكان يهيم في البرية مع السباع والوحوش ، ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى : «لا تقتله فإنه سخي». (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك في الآخرة (لَنْ تُخْلَفَهُ).

قرأ أهل المدينة والكوفة ، بفتح اللام أي لن يخلفك الله ذلك الوعد. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو والحسن بكسر اللام ، أي لن تجد للوعد خلفا ولن يتأخر عنك. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ، أي الذي أقمت عابدا على إلهك ثم (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار. ويؤيده قراءة «لنحرقنّه» بضم النون ، وسكون الحاء أو «لنبردنّه» بالمبرد ، ويعضده قراءة أبي جعفر ، وابن محيصن «لنحرقنّه» بفتح النون ، وضم الراء ، أي لنبردنّه بعد أن أحميه بالنار ، حتى لان فهان على المبارد. (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧) أي لنذرينّه في هواء البحر ذروا إذا صار رمادا ، أو مبرودا ، كأنه هباء. ولقد فعل موسى عليه‌السلام ذلك كله حينئذ ، فلما فرغ موسى من إبطال ما


ذهب إليه السامري ، عاد إلى بيان الدين الحق فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) أي إنما معبودكم المستحق للعبادة الله ، (الَّذِي لا إِلهَ) أي لا معبود لشيء من الأشياء موجود ، (إِلَّا هُوَ) ، وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء. وقرئ «الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش» ، (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨) ، أي وسع علمه كل شيء فيعلم من يعبده ومن لا يعبده. (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) ، أي نقص عليك يا أشرف الخلق ـ من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية ـ قصا مثل ذلك القصّ المارّ ، زيادة في معجزاتك ، وليكثر الاعتبار للمكلّفين بها في الدين. (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩) أي ولقد أعطيناك من عندنا قرآنا مشتملا على هذه الأخبار. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن ذلك الذكر ، (فَإِنَّهُ) أي المعرض عنه ، (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (١٠٠) أي عقوبة ثقيلة ، (خالِدِينَ فِيهِ) أي في حمل العقوبة ، (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١) ، أي بئس لهم حملا عقوبتهم ، أو بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، النفخة الثانية.

قرأ الجمهور بالياء المضمومة ، وفتح الفاء ، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة ، وضم الفاء ، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له ، وقرئ بالياء المفتوحة ، والضمير لله تعالى ، أو لإسرافيل ، وإن لم يجر ذكره لشهرته. (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين ، (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ ينفخ في الصور (زُرْقاً) (١٠٢) أي زرق العيون ، سود الوجوه ، لأن زرقة العيون أبغض ألوان العين إلى العرب ، أو عميا ، لأن حدقة الأعمى تزرق ، أو عطاشا لأنهم من شدة العطش ، يتغيّر سواد عيونهم حتى تزرق ، أو طامعين فيما لا ينالونه. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) ، أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة لما يملأ صدورهم من الرعب ، (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (١٠٣) أي ما مكثتم في القبور إلّا عشرة أيام ، لأنهم يرون من شدة أهوال ذلك اليوم ، ما يقلل ذلك في أعينهم ، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلّا عشرة أيام ، وهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك ، اعترافا به ، وتحقيقا لسرعة وقوعه ، كأنهم قالوا قد بعثتم ، وما لبثتم في القبور ، إلا مدة يسيرة. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) في ذلك اليوم أي ليس كما قالوا. (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً). أي أصوبهم رأيا (إِنْ لَبِثْتُمْ) ، أي ما مكثتم في القبور ، (إِلَّا يَوْماً) (١٠٤) ، ونسبة هذا القول إلى أفضلهم عقلا لكونه أدلّ على شدة الهول. (وَيَسْئَلُونَكَ) أي يسألك يا أشرف الخلق ، مشركو مكة على سبيل الاستهزاء ، أو بنو ثقيف ، (عَنِ الْجِبالِ) أي عن أمر الجبال كيف تكون يوم القيامة ، (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) ، أي يصير الجبال كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح ، (فَيَذَرُها) أي فيترك الأرض بعد قلع الجبال ، (قاعاً) أي مستويا (صَفْصَفاً) (١٠٦) أي ملساء لا نبات فيها ، (لا تَرى فِيها) أي الأرض (عِوَجاً) أي لا تدرك فيها انخفاضا (وَلا أَمْتاً) (١٠٧) أي نتوءا يسيرا. (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) ، أي يوم إذ نسفت الجبال ، يتبع الناس


صوت الداعي إلى المحشر بعد القيام من القبور ، فيقبلون من كل أوب إلى جهته. والراجح أن الداعي : جبريل ، والنافخ : إسرافيل ، (لا عِوَجَ لَهُ) ، أي لا يعدل الداعي عن أحد بدعائه ، بل يحشر الكل.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) ، أي سكنت (لِلرَّحْمنِ) ، أي لهيبة الرحمن. (فَلا تَسْمَعُ) ، يا أشرف الخلق ، (إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) ، أي وطأ خفيا كوطء الإبل ـ وهو خفق أقدامهم في مشيها إلى المحشر ـ وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وابن زيد. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) أي يوم إذ يتبعون الداعي ، لا تنفع الشفاعة أحدا من الخلق ، إلا شخصا أذن لأجله في أن يشفع له ، وقبل منه قولا واحدا من أقواله ، وهو شهادة «أن لا إله إلا الله» ، بأن مات على الإسلام وإن عمل السيئات ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق وهي نافعة لهم. (يَعْلَمُ) ، أي الرحمن (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، أي المتبعين للداعي وهم الخلق جميعهم ، (وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما مضى من أحوالهم وما بقي منها ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ) ، أي بما بين أيديهم وما خلفهم (عِلْماً) (١١٠) (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ، أي ذلّت المكلفون لله تعالى ذلّ الأسارى في يد الملك القهار. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) ، أي خسر من أشرك بالله ولم يتب. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) ، أي بعضا من الصالحات وهو الفرائض ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، فإن الإيمان شرط في الصحة والقبول. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي منعا من الثواب ، (وَلا هَضْماً) (١١٢) أي نقصا من ثوابه.

وقال أبو مسلم : الظلم : نقص من الثواب ، والهضم : عدم تمام حقه من التعظيم ، لأن الثواب مع كونه من اللذات ، لا يكون ثوابا ، إلا إذا قارنه التعظيم. فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.

وقرأ ابن كثير : «فلا يخفّ» بالجزم على النهي ، أي فليأمن فالنهي عن الخوف والأمر بالأمن. (وَكَذلِكَ) ، ومثل إنزال هذه الآيات ، (أَنْزَلْناهُ) ، أي القرآن كله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهمه العرب ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) ، أي وكرّرنا في القرآن نوعا من الوعيد ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أي لكي يتقوا الكفر والفواحش. (أَوْ يُحْدِثُ) ، أي القرآن (لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣). أي اتعاظا يدعوهم إلى الطاعات ، وفعل ما ينبغي ، فإن لم يحصل التقوى ، فأقلّ ما يحصل أن يحدث القرآن لهم شرفا وصيتا حسنا. (فَتَعالَى اللهُ) أي تنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله. (الْمَلِكُ) ، النافذ أمره ونهيه ، (الْحَقُ) ، أي الثابت في ملكه. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). أي ولا تستعجل يا أشرف الخلق بقراءة القرآن ، من قبل أن يفرغ جبريل من قراءة القرآن عليك. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا ألقى إليه جبريل الوحي ، يتبعه عند تلفّظ كل حرف ، وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالحفظ ، فنهي عن ذلك ، وأمر باستزادة العلم من الله تعالى فقيل : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) أي فهما لإدراك حقائقه ، فإنها غير متناهية.


روى الترمذي ، عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلّمني ما ينفعني ، وزدني علما والحمد لله على كل حال ، وأعوذ بالله من حال أهل النار» (١). وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية ، قال : اللهم زدني علما ويقينا. (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ، أي وصّيناه أن لا يأكل من الشجرة ، (مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل أكله منها ، (فَنَسِيَ) عهدنا وأكل منها.

وقرئ «فنسي» بالبناء للمجهول ، وبتشديد السين ، أي فنسّاه الشيطان. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥). أي تصميما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد. فهو إنما أخطأ في الاجتهاد ، أو لم نجد له عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد ، وهذا أقرب إلى المدح ، فـ «عزما» مفعول به ، و «له» حال منه ، أو متعلّق بـ «نجد» ، أو بـ «عزما» (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، أي واذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه ، حتى يتبين نسيانه لك ، وفقدان صبره عما نهيناه عنه ، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ، رئيسهم (أَبى) (١١٦) ، أي أظهر الإباء ، (فَقُلْنا) عقب ذلك : (يا آدَمُ إِنَّ هذا) الذي تكبّر عليك ، (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء ، لأن إبليس رأى آثار نعم الله تعالى ، في حق آدم عليه‌السلام ، فإنه كان شابا عالما وإبليس كان شيخا جاهلا فأثبت فضله بفضيلة أصله ، وهو النار. وبينها وبين أصل آدم وهو الماء ، والتراب ، عداوة فثبتت تلك العداوة. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما) ، بوسوسته (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧). أي فتتعب ففي طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.

روي أنه هبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) أي الجنة ، (وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) ، أي لا تعطش (فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) ، أي لا يصيبك حرّ الشمس ، أو تعرق.

فالجوع : ذل الباطن. والعري : ذلّ الظاهر. والظمأ : حرّ الباطن. والضحو : حرّ الظاهر. فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن ، وحرّ الظاهر والباطن.

وقرأ نافع ، وأبو بكر ، و «إنك» بكسر الهمزة استئناف أو عطف على «أن» الأولى. والباقون بفتحها عطف على «أن لا تجوع». (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) ، أي أنهى إليه وسوسته ، ثم بيّن الله صورة الوسوسة بقوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠). أي لا يزول ولا يختل ، أي هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلّد ، ولا يموت أصلا ودام ملكه ، إما على حاله ، أو على أن يصير ملكا. (فَأَكَلا مِنْها) ، أي الشجرة

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات ، باب : ١٢٨ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : الانتفاع بالعلم والعمل به.


(فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ، أي ظهرت فروجهما لكل منهما ، بسبب تساقط حلل الجنة عنهما لمّا أكلا من الشجرة. (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي شرعا يلزقان ورق التين بعضه ببعض ، لأجل ستر عوراتهما ، كلما ألزقا بعضه ببعض تساقط. (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) ، بأكله من الشجرة أي خالف آدم نهي ربه ، لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة ، وأن غيرها ليس منهيا عنه (فَغَوى) (١٢١). أي خاب من نعيم الجنة فلم يصب بأكله من الشجرة ما أراده ، لأنه إنما أكل منها ليصير ملكه دائما ، فلما أكل زال ملكه ، وخاب سعيه. (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي قرّبه بالتوفيق للتوبة ، (فَتابَ عَلَيْهِ) ، أي قبل توبته حين تاب هو وزوجته ، (وَهَدى) (١٢٢) إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) أي انزلا يا لآدم وحواء من الجنة إلى الأرض ، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فالخطاب لآدم وحواء ولإبليس. وقيل : مع آدم ، وذريته قابيل وأقليما ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، أي فإن يأتكم يا ذرية لآدم مني دلالة من كتاب ورسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) ، أي دلالتي (فَلا يَضِلُ) في الدين والدنيا (وَلا يَشْقى) (١٢٣) ، بسبب الدين فيها وفي الآخرة. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) ، أي عن الهدى الداعي إلي ، (فَإِنَّ لَهُ) ، في الدنيا ، (مَعِيشَةً ضَنْكاً). أي ضيقة ، وهي معيشة الكافر فإنه يكون حريصا على الدنيا للزيادة أبدا ، فحالته مظلمة ، لأن مطامح نظره مقصورة على أمتعة الدنيا ، وهو خائف من انتقاصها. أما المسلم فهو يعيش في الدنيا عيشا طيبا لتوكّله على الله تعالى ، فإن المؤمن الطالب للآخرة يوسّع ببركة الإيمان. (وَنَحْشُرُهُ) أي المعرض عن الأدلة ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) ، أي فاقد البصر أي فإذا خرج هو من القبر خرج بصيرا ، فإذا سيق إلى المحشر عمي ، فإذا دخل النار زال عماه ، ليرى محلّه وحاله. (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (١٢٥) في الدنيا وعند البعث؟ (قالَ كَذلِكَ) ، أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسّره بقوله تعالى : (أَتَتْكَ آياتُنا) أي دلائلنا في الدنيا واضحة بحيث لا تخفى على أحد ، (فَنَسِيتَها) أي تركتها ، (وَكَذلِكَ) أي مثل تركك آياتنا في الدنيا (الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦). أي تترك في العذاب جزءا وفاقا (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية ، (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) ، بالانهماك في الشهوات ، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) ، بل كذّبها ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧) ، من عذاب الدنيا وعذاب القبر. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) ، أي أغفلوا ، فلم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى.

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : أفلم نهد بالنون ، أي أفلم نبيّن لأهل مكة بيانا يهتدون به كثرة من أهلكنا من القرون الماضية من أصحاب الحجر ، وثمود ، وقريات قوم لوط. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ، حال من الضمير لهم ، أي حال كون هؤلاء القريش ماشين في منازل تلك القرون إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الإهلاك (لَآياتٍ) ظاهرة الدلالة على الحق ، (لِأُولِي النُّهى) (١٢٨). أي لأهل العقول الناهية عن القبائح. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ،


وهي عدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه. (لَكانَ) أي الإهلاك بجناياتهم ، (لِزاماً) ، أي لازما لهم بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (١٢٩) عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى ، لعذابهم يوم القيامة ، لما تأخر عذابهم أصلا ، (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، أي لا يضطرب قلبك يا أكرم الرسل ، لما صدر منهم من الأذيّة ، بالشتم والتكذيب ، فيما تدعيه من النبوة. فقالوا : إن محمدا ساحر ، أو مجنون ، أو شاعر ، أو غير ذلك. فهذه الآية غير منسوخة. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) ، أي ساعاته. (فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ).

عطف على محل من «آناء» المنصوب بـ «سبّح» المقرون بالفاء الزائدة ، أو عطف على «قبل» ، أي في طرفي نصفيه ، أي في الوقت الذي يجمع الطرفين ، وهو وقت الزوال ، فهو نهاية للنصف الأول ، وبداية للنصف الثاني ، أي اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات عما ينسبونه إليه تعالى مما لا يليق به ، حامدا له على ما ميّزك بالهدى. أو المعنى صلّ وأنت حامد لربك على كمال هدايته إياك ، صلاة الصبح وصلاة العصر ، وصلاة المغرب ، والعشاء ، وصلاة الظهر. (لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠). رجاء أن تنتفع بذلك وترضي به نفسك.

وقرأ الكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم ، بضم التاء أي لعلك تعطى ما يرضيك. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تطل نظرهما ، (إِلى ما مَتَّعْنا) ، أي ألذذنا ، (بِهِ أَزْواجاً) ، أي أصنافا (مِنْهُمْ) ، أي الكفرة من بني قريظة والنضير. (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي زينتها بدل من «أزواجا» ، أو حال من «ما» الموصولة ، أو من «الهاء» في «به». (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنعذبهم في الآخرة بسببه أو لنجعل ذلك فتنة لهم ، بأن يزيدوا بذلك طغيانا (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٣١). أي ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة ، خير لك من حيث العاقبة. أبقى لأن أموالهم الغالب عليها الغصب ، والسرقة ، فالحلال خير وأبقى.

قال أبو رافع : نزل ضيق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف ، فقال : والله لا أفعل ذلك إلا برهن ، فأخبرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله ، فأمرني أن أذهب بدرعه الحديد إليه ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ). وقال أبو مسلم : أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا ، فالذي نهى عنه الأسف لا النظر. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) أي أهل دينك (بِالصَّلاةِ) ، لئلا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ، أي على مشاقّها وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش. (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) ، أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وإياهم ، ففرّغ بالك بأمر الآخرة (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) أي العاقبة الجميلة لأهل تقوى الله تعالى. (وَقالُوا) أي مشركو مكّة : (لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ، أي هلا يأتينا محمد بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة ، وبآية مما اقترحناها. قال تعالى ردا عليهم : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣) أي ألم يكفهم اشتمال القرآن على بيان ما في التوراة ، والإنجيل ، وسائر الكتب


السماوية في كونه آية دالة على صدق محمد ، حتى طلبوا غيرها ، فإن في الصحف الأولى : بشارة بصفة محمد ، ونبوته ، وبعثته ، وأنباء الأمم الماضية ، وإهلاكهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ، أي ولو أنا أهلكنا أهل مكة في الدنيا بعذاب مستأصل من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن ، (لَقالُوا) يوم القيامة : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا) أي لم لم ترسل إلينا في الدنيا ، (رَسُولاً) مع كتاب ، (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ، أي فنطيع رسولك ونؤمن بكتابك (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) ، أي أن يحصل لنا الذل بالعذاب في الدنيا (وَنَخْزى) (١٣٤). أي أن يحصل لنا الفضيحة بدخول النار اليوم ، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيان البينات ، فانقطعت معذرتهم ، فعند ذلك قالوا : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ، فَكَذَّبْنا ، وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الملك : ٩].

روي أن أبا سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك ، في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلّا كنت أطوع خلقك لك ، والمغلوب عقله ، يقول : لم تجعل لي عقلا أنتفع به ، ويقول الصبي : كنت صغيرا لا أعقل ، فترفع لهم نار ، ويقال لهم : ادخلوها ، فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد ، ويبقى من في علمه أنه شقي ، فيقول الله تعالى لهم : عصيتم اليوم ، فكيف برسلي لو أتوكم». (١) (قُلْ) لأولئك الكفرة المتمردين : (كُلٌ) أي كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. إما قبل الموت : بسبب الأمر بالجهاد ، وبسبب ظهور القوة ، وإما بالموت : فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه. وإما بعد الموت : بظهور أمر الثواب والعقاب ، فيظهر على المحق أنواع كرامة الله تعالى ، وعلى المبطل أنواع إهانته. (فَتَرَبَّصُوا). وقرئ «فتمتعوا». (فَسَتَعْلَمُونَ) ، عن قريب بوعد من الله لا خلف فيه ، (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي العدل. وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد. وقرئ «السوء» ، و «السوأى» ، و «السوي» ، تصغير السوء (وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥) إليه أنحن أم أنتم؟ وهذا تهديد الكفار.

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (١٦ : ١٧).


سورة الأنبياء

مكية ، مائة واثنتان وعشرة آية ، ألف ومائة وثلاثون كلمة ، أربعة آلاف وثمانمائة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) ، أي قرب من كفار قريش وقت حساب أعمالهم الموجبة للعقاب ، فإن كل آت قريب ، وإن طالت أوقات ترقّبه ، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، أي والحال أنهم منكرون للحساب ، لا يتفكرون في عاقبتهم ، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء المحسن والمسيء ، (مُعْرِضُونَ) (١). عن الآيات المنبّهة لهم عن سنة الغفلة. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) ، أي من جزء نازل من القرآن ينبههم عن الغفلة أتمّ تنبيه ، (مِنْ رَبِّهِمْ) ، متعلق بـ «يأتيهم» ، (مُحْدَثٍ) أي متجدد ننزله آية بعد آية ، وسورة بعد سورة ، بحسب اقتضاء الحكمة.

قرأ ابن أبي عبلة «محدث» بالرفع صفة لـ «محل» ذكر ، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢). أي والحال أنهم يهزئون. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، حال من واو «يلعبون». والمعنى : ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه مستهزئين به حال كون قلوبهم غافلة عن معناه ، لفرط إعراضهم عن النظر في الأمور وعن التفكّر في العواقب.

وقرأ ابن أبي عبلة «لاهية» بالرفع خبر ثان ، أو خبر مقدّم (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) ، أي بالغوا في إخفاء التناجي ، وجعلوه بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ، (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو «أسرّوا» ، أو مبتدأ وخبره «أسرّوا النجوى». والمعنى : وهم أسرّوا النجوى ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ، (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) فـ «هل» بمعنى النفي ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، و «أنتم» حال من فاعل «تأتون» مؤكدة للاستبعاد ، فالجملتان الاستفهاميتان في محل نصب ، على أنهما محكيتان للنجوى ، لأنها في معنى القول. والمعنى : ما محمد إلّا بشر من جنسكم ، فكيف يختص عنكم بالرسالة؟ وما أتى به سحر ، أتعلمون ذلك فتحضرونه على وجه القبول والحال أنكم تبصرون بأعينكم أنه آدمي مثلكم ، وأن ما ظهر منه من نوع السحر. (قالَ) أي محمد وهو حكاية من الله لقول رسوله ، وهذا قراءة حمزة والكسائي وحفص ، عن عاصم.


وقرأ الباقون «قل» ـ على الأمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) ، الكائن (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، سواء كان سرا أم جهرا (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٤) فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ).

وهذا متصل بقوله تعالى (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ) ، فإن الظالمين لم يقتصروا على قولهم في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هذا إلّا بشر ، وفي حق ما ظهر على يده من القرآن أنه سحر ، بل قالوا : ما أتانا به محمد أباطيل أحلام كاذبة رآها في النوم ، بل اختلق محمد ما أتانا به من تلقاء نفسه من غير أن يكون له. صل ، بل محمد هو شاعر ، فما أتى به كلام يخيّل للسامع معاني لا حقيقة لها ، ويرغّبه فيها ، فترتيب كلامهم كأنهم قالوا : ندّعي أن كون محمد بشرا مانع من كونه رسولا لله ، فإن سلّمنا أنه غير مانع فلا نسلّم أن هذا القرآن معجز ، فإن ساعده على أن فصاحته خارجة عن مقدور البشر. قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم تساعده فصاحته عليه ، فإن ادّعينا كونه في غاية الركاكة ، قلنا : إنه أضغاث أحلام.

وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة ، قلنا : إنه افتراء ، وإن ادعينا أنه كلام فصيح ، قلنا : إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء. وعلى هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا ولا يثبت كون محمد رسولا لله تعالى ، وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولا من الله تعالى ، فليأتنا بآية (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥) أي بآية كائنة مثل الآية التي أرسل بها الأولون ، كاليد ، والعصا والناقة ، ونظائرها ، حتى نؤمن به. قال الله تعالى مجيبا لهم : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) ، أي قبل مشركي مكة ، (مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات ، (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦) أي الأمم المهلكة لم يؤمنوا عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوا مع كونهم أشدّ عتّوا من أولئك. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) ، أي وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالا مخصوصين من أفراد جنسك ، متأهلين للإرسال ، ولم يكونوا ملائكة ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) بواسطة الملك ، كما نوحي إليك من غير فرق.

وقرئ «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول. (فَسْئَلُوا) أيها الجهلة (أَهْلَ الذِّكْرِ) ، أي أهل الكتاب التوراة والإنجيل ، فإنهم يخبرونكم بحقيقة الحال ليزول شككم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) أن الرسل بشر فأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديقكم للذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما جَعَلْناهُمْ) ، أي الرسل (جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ، أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل والشرب ، بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يخرج منه (وَما كانُوا) أي الرسل (خالِدِينَ) (٨). في الدنيا بل يموتون كغيرهم لأن عاقبة التحلّل هو الفناء. (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم بإهلاك من كذبهم ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ)


ممن يصدقونهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩). أي المجاوزين للحدود في الكفر ، بعذاب الاستئصال في الدنيا. (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا معشر قريش ، (كِتاباً) أي قرآنا (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي فيه ما يوجب الثناء عليكم ، لكونه بلسانكم وفيه موعظتكم ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠)؟ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون؟ إن ذلك الكتاب شرفكم ، وسبب اشتهاركم لكونه نازلا بينكم على لسان رسول منكم. (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي وكثيرا كسرنا من أهل قرية كانوا كافرين بآيات الله ، بأن قتلوا بالسيوف ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) أي بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) (١١) أي ليسوا منهم نسبا ، ولا دينا فسكنوا ديارهم. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي أدركوا عذابنا الشديد (إِذا هُمْ مِنْها) أي القرية (يَرْكُضُونَ) (١٢) أي يهربون مسرعين ، فقيل لهم ـ بلسان الحال أو بلسان المقال ـ : (لا تَرْكُضُوا) أي لا تهربوا ، (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ) أي أنعمتم (فِيهِ) من العيش والحال الناعمة ، (وَمَساكِنِكُمْ) التي كنتم تفتخرون بها ، (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣). أي لكي يسألكم الوافدون عطاياكم ، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس ، أو كانوا بخلاء ، فقيل لهم ذلك ، تهكما إلى تهكم. (قالُوا) لما أيقنوا بنزول العذاب : (يا وَيْلَنا) أي هلاكنا ، (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤). أي بقتل نبينا. (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) ، أي قولهم ، أي فلم يزالوا يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي مثل الزرع المحصود بالمناجل في استئصالهم ، (خامِدِينَ) (١٥). أي ميتين لا يتحركون أي أنهم أهلكوا بالعذاب ، حتى لم يبق لهم حسّ ، ولا حركة ، وجفّوا كما يجفّ الحصيد ، وخمدوا كما تخمد النار.

وهذه قصة أهل قرية في جهة اليمن ـ يقال لها : حضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة ـ بعث الله لهم نبيا وهو موسى بن ميشا ، بن يوسف ، بن يعقوب ، وكان قبل موسى بن عمران ، فقتلوا ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلّط الله عليهم بختنصر. كما سلّطه الله على أهل بيت المقدس ، فلما علموا أنهم مدركون ، خرجوا هاربين ، فقالت لهم الملائكة استهزاء (لا تَرْكُضُوا) إلخ. فرجعوا ، فقتلهم جميعا ولم يترك فيهم عينا تطرف. فلمّا رأوا القتل فيهم أقرّوا بذنوبهم وندموا وقالوا : (يا وَيْلَنا) أي يا ويل ، احضر فهذا وقتك ، ولم ينفعهم هذا الندم كقوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ). (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦). أي وما سوّينا هذا السقف المرفوع ، وهذا المهاد الموضوع ، وما بينهما من العجائب ، التي لا تحصر أنواعها خالية عن الحكم ، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفروشهم للعب ، وإنما سوّيناها لفوائد دينية ، ودنيوية ، ليتفكّر المتفكّرون فيها ، ويستدلوا بها إلى معرفتنا ، وللمنافع التي لا تحصى. (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي يلعب به (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي من جهة قدرتنا مما يليق بشأننا من المجردات ، لا من الأجسام المرفوعة ، والأجرام الموضوعة. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة ، فيستحيل اتخاذنا له قطعا ، (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧) اتخاذ اللهو أردناه لكنا لم نرده فلم نتخذه ، ويجوز أن


تكون «إن» نافية ، أي ما كنا فاعلين اتخاذ اللهو لعدم إرادتنا به. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) ، أي يذهبه بالكلية ، كما فعلنا بأهل القرى المحكية ، (فَإِذا هُوَ) أي الباطل (زاهِقٌ) أي ذاهب بالكلية وهذا انتقال من إرادة اتخاذ اللهو إلى تنزيه ذاته تعالى ، كأنه تعالى قال : سبحاننا أن نريد اتخاذ اللهو ، بل شأننا بمقتضى حكمتنا ، أن نغلب اللعب بالجدّ ، وندحض الباطل بالحق. والمقصود من هذه الآية ، تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد على منكريها ، لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان محمد كاذبا كان إظهار الله المعجزة عليه من باب اللعب ، وذلك منفي عنه تعالى ، وإن كان صادقا فهو المطلوب ، وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن ، (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي ولكم يا كفار مكة شدة العذاب ، (مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨). أي من أجل قولكم بتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام ، إلى غير ذلك من الأباطيل. وهذه الآية دالة على أن إهلاك الله أهل القرية لتكذيبهم الرسل عدل منه تعالى ، ومجازاة على ما فعلوا. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهو تعالى منزّه عن طاعتهم ، لأنه تعالى هو المالك لجميع المحدثات (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي والملائكة مع كمال شرفهم ، ونهاية جلالتهم ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يتعظمون عن طاعته تعالى ، ولا يعدّون أنفسهم كبيرا فكيف يليق بالبشر مع نهاية الضعف ، التمرّد عن طاعته ، (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) أي لا يسأمون ولا يتعبون. (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) أي ينزهونه تعالى في جميع الأوقات ، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام ، فكذا اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (٢١). فـ «أم» بمعنى : بل ، والهمزة ، ومعناها إنكار انشار الأصنام للموتى ، لا إنكار نفس الاتخاد فإقدامهم على عبادتها ، يوجب عليهم الإقرار ، بكون الآلهة قادرين على الحشر ، والنشر ، والثواب ، فإذا كانوا عير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ، ويضرّوا وينفعوا ، فأيّ عقل يجوز اتخاذهم آلهة ، فقوله : (مِنَ الْأَرْضِ) كقولك : فلان من مكة ، أي فلان مكي ، فمعنى نسبة الأصنام إلى الأرض ، إعلام بأن الأصنام التي تعبد إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة ، أو معمولة من بعض جواهر الأرض. وفي قوله تعالى : (هُمْ يُنْشِرُونَ) معنى الخصوصية ، وحاصل المعنى بل أعبد أهل مكة آلهة أرضية لا يقدر على إحياء الموتى من القبور إلّا هم وحدهم ، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي لو تولى أمور السموات والأرض إله غير الواحد الذي هو فاطرهما ، لبطلتا بما فيهما جميعا ، وحيث انتفى فسادهما علم انتفاء تدبير إلهين ، ويدلّ العقل على ذلك ، لأنّا لو قدرنا إليهن لكان أحدهما إذا انفرد صحّ منه تحريك الجسم ، وإذا انفرد الثاني صحّ منه تسكينه ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كانا عليه وقت الانفراد ، فيصحّ أن يحاول أحدهما التحريك ، والآخر التسكين ، فإما أن يحصل المرادان وهو محال لاجتماع الضدين ، وإما أن يمتنعا ، وهو محال أيضا لكون كل واحد منهما


عاجزا ، فثبت فساد نظام العالم ، فكان القول بوجود إلهين باطلا ، فثبت أن مدبّر العالم إله واحد ، وإذا عرفت حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم السفلي والعلوي ، دليل على وحدانية الله تعالى. (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢). أي نزهوا الله عما يقول الكفار ، بوجود آلهة غير الله لأجل هذه الأدلة ، فالاشتغال بالتنزيه إنما ينفع بعد إقامة الأدلة على كون الله تعالى منزها فنبّه الله تعالى على نكتة خاصة بعيدة الأصنام وهي :

كيف يجوز للعاقل ، أن يجعل الجماد الذي لا يعقل شريكا في الألوهية لخالق العرش العظيم ، وموجد السموات والأرضين ، واللوح والقلم ، ومدبر الخلائق ، من النور والظلمة ، والنباتات ، وأنواع الحيوانات والذات والصفات؟ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي عما يحكم في عباده من إعزاز ، وإذلال ، وهدى ، وإضلال ، وإسعاد وإشقاء ، لأنه المالك القاهر. (وَهُمْ) أي العباد (يُسْئَلُونَ) (٢٣). سؤال توبيخ يقال لهم يوم القيامة : لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم ، والله تعالى ليس له شريك في الألوهية يقول له : لم فعلت كذا؟ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي بل أوصفوا الله تعالى بأن له شريكا وهذا استقباح أمرهم وإظهار جهلهم (قُلْ) يا أكرم الرسل : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على إثبات الآلهة إما من جهة العقل أو من جهة النقل ، كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل. (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي هذا إثبات وحدانية الله عظة أمتي وعظة الأمم الماضية ، فهم متمسكون على التوحيد فأقيموا أنتم برهانكم على تعدّد الآلهة ، ولا يمكن إثبات التعدد بالبرهان ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ، ولا يميزون بين الحق والباطل ، (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) عن استماع الحق ، أي أن وقوعهم في المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه ، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الفساد ، وهو عدم العلم ، ثم تفرّع منه الإعراض عن طلب الحق. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) ، أي فوحّدوني فالحكمة في بعث الرسل مقصورة على المصلحتين : إثبات وحدانية الله تعالى ، وعبادته بالإخلاص.

وقرأ حفص وحمزة والكسائي : بالنون. والباقون على صيغة الغائب ، مبنيا للمفعول. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي وقال فرق من أجناس العرب ، وهم : خزاعة ، وجهينة ، وبنو سلمة ، وبنو مليح : الملائكة بنات الله ، (سُبْحانَهُ) أي تنزّه الله تعالى تنزيها لائقا بذاته تعالى (بَلْ عِبادٌ) أي ليست الملائكة كما قالوا ، بل هم عباد الله تعالى. فالعبودية تنافي الولدية ، كما أن الولد للإنسان لا يكون عبده. (مُكْرَمُونَ) (٢٦) أي مقرّبون عنده تعالى ، ومفضلون على سائر العباد بالعصمة. (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) ، فإنهم يتبعونه في قوله تعالى ولا يقولون شيئا حتى يقوله ، فلا يسبق قولهم قوله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) أي فلا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما قدّموا ، وما أخّروا من أعمالهم ، أي لما علموا كونه


تعالى عالما بكل شيء ، علموا كونه تعالى عالما بظواهرهم ، وبواطنهم ، فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى). أي لمن هو مرضي عند الله ، وهو من قال : «لا إله إلا الله» ، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بشفاعته مهابة من الله تعالى. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) تعالى (مُشْفِقُونَ) (٢٨) ، أي مرتعدون ، فلا يأمنون من مكره تعالى وهم خائفون أن يؤاخذهم الله بما قالوا ، أو بما عملوا. وهذه المذكورات صفات للعبيد ، لا صفات للأولاد. (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) ، أي الملائكة (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ، أي من غير الله (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) ، فلا ينفعهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة وأفعالهم المرضية ، وهذا على سبيل التقدير ، إذ لم يقع من واحد من الملائكة أنه قال ما ذكر وفي ذلك دلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩). أي مثل ذلك الجزاء نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ألم يتفكروا ولم يعلموا ، (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي مستوية صلبة ملتزقا بعضها على بعض ، لم تنزل من السماء قطرة من مطر ، ولم ينبت على الأرض شيء من النبات ، (فَفَتَقْناهُما) أي شققنا السماء بنزول المطر منها ، وشققنا الأرض بظهور النبات عليها.

وقرأ ابن كثير «ألم ير» بغير واو ، بين الهمزة «ولم». (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي خلقنا من ماء الذكر والأنثى ، كل حيوان. أو صيّرنا كل شيء حييّ بسبب من الماء لا بدّله من ذلك وقرئ حيا بالنصب مفعولا ثانيا (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠) أي ألا يتدبرون هذه الأدلة فلا يؤمنون بتوحيدي! (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أوتادا لها (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ، أي كراهة أن تتحرك بهم. قال ابن عباس : إن الأرض بسطت على الماء ، فكانت تتكفأ بأهلها ، كما تتكفأ السفينة ، فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال ، (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الجبال (فِجاجاً) أي مسالك واسعة (سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١) ، أي لكي يهتدوا إلى منافعهم ، وإلى وحدانية الله بالاستدلال. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) على الأرض ، (مَحْفُوظاً) من السقوط ومن الشياطين بالشهب ، (وَهُمْ عَنْ آياتِها) أي عن الآيات الكائنة فيها ، الدالة على وحدانية الله تعالى ، وعلمه ، وقدرته ، وإرادته ، (مُعْرِضُونَ) (٣٢). لا يتفكرون فيبقون على الكفر والضلال. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ) ، أي كل واحد منهما (فِي فَلَكٍ) أي طاحونة مستديرة كهيئة فلك المغزل ، (يَسْبَحُونَ) (٣٣) أي يسيرون في سطح الفلك كالسبح في الماء. والجملة حال من الشمس والقمر ، والجمع باعتبار المطالع. (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) ، أي البقاء في الدنيا ، (أَفَإِنْ مِتَ) ، يا أشرف الخلق ، (فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٣٤). في الدنيا أي إن متّ أنت يا خاتم الرسل ، أيبقى هؤلاء حتى يشمتوا بموتك.

نزلت هذه الآية في قولهم ننتظر محمدا حتى يموت فنستريح. ويحتمل أنه لما ظهر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم


خاتم الأنبياء ، جاز أن يقدّر أنه لا يموت ، إذ لو مات لتغير شرعه ، فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم‌السلام في الموت. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، أي ذائقة مرارة مفارقتها جسدها في الدنيا ، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ، أي نعاملكم بالشرّ والخير معاملة المختبر اختبارا ، لننظر أتصبرون عند الشر ، وتشكرون عند الخير ، أم لا؟ فالشرّ : هو المضار الدنيوية من الفقر والآلام ، وسائر الشدائد النازلة على المكلفين ، والخير : هو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور ، والتمكين من المرادات. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥). أي إلى حكمنا ترجعون بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم. (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ، يقولون في حال الهزء ، (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ، بعيب ونقصان. فـ «إن» نافية ، وهي وما في حيّزها جواب ، «إذا» ولا يجب إتيان الفاء في جواب «إذا» منفيا بـ «إن» ، أو بـ «ما». والمعنى : وإذا رآك الذين كفروا كأبي جهل ، وأبي سفيان ، ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا قائلين : (أَهذَا الَّذِي) إلخ. ويحتمل أن جواب إذا محذوف القول ، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وجوابه المقدّر ، والتقدير ، يقول بعضهم لبعض في حال السخرية : أهذا الذي إلخ. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) (٣٦). و «هم» الأول مبتدأ وخبره «كافرون» ، و «بذكر» متعلق بالخبر. و «هم» الثاني تأكيد لفظي للأول ، وهذه الجملة حال من فاعل القول المقدّر. والمعنى : أنهم يعيبون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يذكر بالسوء آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع. والحال أنهم جاحدون بذكر الرحمن بما يليق به من التوحيد ، وهو المنعم عليهم ، الخالق ، المحيي المميت ، فإنهم كانوا يقولون : لا نعرف الرحمن ، إلا رحمن اليمامة ، وهو مسيلمة الكذاب. (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي خلق الإنسان عجولا.

روي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث ، حين استعجل العذاب بقوله : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر. والآية : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي نقماتي في الآخرة ، كعذاب النار ، وغيره ، في الدنيا ، كوقعة بدر فإنها ستأتي في وقتها. (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧) في طلب العذاب قبل الأجل. (وَيَقُولُونَ) ـ أي كفار مكة بطريق الاستهزاء والإنكار ، لا بطريق الإلزام في تعيين وقت العذاب ـ : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي وعد إراءة الآيات التي تعدنا يا محمد؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) في وعدكم بأن العذاب يأتينا. (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) أي لا يدفعون ، (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٣٩). في دفع العذاب أي لو يعلمون الوقت يسألون عنه ، بقولهم متى هذا الوعد ـ وهو وقت صعب شديد ـ تحيط النار بهم فيه من كل جانب لا يقدرون على دفعها عن أنفسهم بأنفسهم ، ولا يجحدون ناصرا ينصرهم في دفعها ، لما استعجلوا العذاب ولما قاموا على إنكارهم ولرجعوا إلى طلب الحق فقوله (حِينَ) مفعول به لـ «يعلم». (بَلْ تَأْتِيهِمْ) ، أي النار (بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) أي فتحيّرهم ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ)


بقوتهم ، (رَدَّها) أي دفع النار عنهم بالكلية (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٤٠) أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين بشؤم الإنكار والاستهزاء. (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي وبالله ، لقد أستهزئ برسل أولي شأن خطير ، وذوي عدد كثير ، كائنين في زمان قبل زمانك ، (فَحاقَ) أي أحاط عقب ذلك ، (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) ، أي من أولئك الرسل عليهم‌السلام ، وهو متعلق بـ «حاق». (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤١) أي جزاء الذي كانوا به يستهزئون ، فكذلك يحيق بمن استهزءوا بك وبال استهزائهم. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمستهزئين بك بطريق التقريع : (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، أي من يحفظكم في الليل إذا نمتم ، وفي النهار إذا انصرفتم إلى معايشكم (مِنَ الرَّحْمنِ) ـ أي من عذاب الرحمن الذي تستحقونه إن نزل بكم ـ؟ (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) (٤٢). أي بل هم لا يخطرون ببالهم ذكره تعالى ، مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحراسة ، فضلا أن يخافوا عذابه تعالى فلو تأمّلوا في أنه لا حافظ لهم سواه تعالى ، لتركوا عبادة الأصنام التي لا حظّ لها في حفظهم ، ولا في الإنعام عليهم ، (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ، أي بل ألهم آلهة تمنعهم مما يحزنهم ، كائنة من غيرنا فـ «من دوننا» صفة لـ «آلهة» ، (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي آلهتهم (نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) ، أي حمايتها عن الآفات ، فكيف تقدر على حماية غيرها (وَلا هُمْ مِنَّا) أي من عذابنا (يُصْحَبُونَ) (٤٣). أي يمنعون ، فكيف يمنعون غيرهم من العذاب؟ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك ، وأن ذلك بسبب ما هم عليه. أي دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم ، بل ما هم فيه من الحفظ إنما هو منّا حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السّراء ، لكونهم من أهل الاستدراج ، والانهماك فبما يؤدّيهم إلى العذاب. (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، أي ألا ينظر هؤلاء المشركون بالله ، المستعجلون بالعذاب ، فلا يرون أنّا نأخذ أرض الكفرة واحدا بعد واحد ، ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة لمحمد ، ونميت رؤساء المشركين المتمتعين بالدنيا ، وننقص من الشرك بإهلاك أهله. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (٤٤) على محمد وأصحابه؟! أما كان لهم عبرة في ذلك فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا؟ (قُلْ) لهم : (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) الذي هو كلام ربكم ، فلا تظنّوا أن ذلك من قبلي ، بل الله أمرني بإنذاركم. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) (٤٥).

قرأ ابن عامر : «ولا تسمع» بالتاء المضمومة ، وكسر الميم ، وبنصب الاسمين ، أي ولا تقدر يا أشرف الرسل أن تسمع الدعاء من يتصامم. (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أي وبالله لئن أصابهم شيء قليل ، (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) ، أي يا هلاكنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٤٦). على أنفسنا (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ، أي نقيم الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال ، (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، أي فيه أو لأجل أهله ، (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي حقا من حقوقها بل يوفّى كل


ذي حقّ حقّه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَإِنْ كانَ) أي العمل (مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي وزن حبة ، (مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) ، أي أحضرنا ذلك العمل للوزن.

وقرأ نافع برفع «مثقال» على «إن كان» تامة. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧). أي محصين في كل شيء. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨). أي والله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل ، لما فيه من الشرائع ، وذكرا يتعظ به الناس ، (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، حال من الفاعل ، أي يخشون عذاب ربهم حال كونهم في الخلوات منفردين عن الناس ، فخشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم ، لا ، إن ذلك مما يظهرونه في الملأ ، أو حال من المفعول ، أي يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم ، غير مشاهد لهم ، فيعلمون له تعالى ، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي ما يجري في يوم القيامة من الحساب ، والسؤال ، والميزان ، (مُشْفِقُونَ) (٤٩) أي خائفون ، فيعدلون بسبب ذلك الخوف عن معصية الله تعالى ، (وَهذا) أي القرآن (ذِكْرٌ مُبارَكٌ) أي كثير النفع غزير العلم ، (أَنْزَلْناهُ) ، على أشرف الرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٠)؟ أي أبعد أن علمتم أن شأن القرآن ، كشأن التوراة ، في كونه منزّلا من عندنا ، فأنتم يا أهل مكة جاحدون للقرآن ، خاصة دون كتاب اليهود ، فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات. (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) ، أي اهتداءه لوجوه الصلاح في الدين والدنيا ونبوته ، (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة ، (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) (٥١) ، أي بأنه لائق بما آتيناه ، يقوم يحقه ، ويجتنب ما ينفّر قومه من القبول. (إِذْ قالَ) إبراهيم ، (لِأَبِيهِ) آزر ، (وَقَوْمِهِ) : ـ نمروذ بن كنعان ـ وأصحابه : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) (٥٢). أي ما هذه الصور التي أنتم عابدون لها ، وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب ، وبعضها من فضة ، وبعضها من حديد ، وبعضها من رصاص ، وبعضها من نحاس ، وبعضها من حجر ، وبعضها من خشب ، وكان كبيرها من ذهب ، مكللا من جواهر. في عينيه ياقوتتان تتّقدان ، تضيئان في الليل. (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) (٥٣) ، فنحن نعبدها اقتداء بهم ، فلم يجدوا في جوابه إلّا طريقة التقليد. فأجابهم إبراهيم وأبطله على طريقة التوكيد القسمي بقوله ، (قالَ) لهم إبراهيم : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الذين سنّوا لكم هذه السنّة الباطلة ، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥٤) أي في خطأ بيّن ، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ذلك ، والتقيّد إنما جاز لمن علم في الجملة أنه على الحق ، (قالُوا أَجِئْتَنا) يا إبراهيم في قولك هذا (بِالْحَقِ) إن بالجدّ (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) (٥٥)؟ أي من الممازحين بنا فيه. (قالَ) إبراهيم : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي خلقهنّ على غير مثال سبق ، وهو الذي خلقها لمنافع العباد ، وهو الذي يستحق أن يعبد لأن من يقدر على ذلك ، يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب ، والثواب. (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي كون ربكم رب


السموات والأرض فقط ، (مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٥٦) بذلك ، فأنا قادر على إثبات الحجة في ذلك ، وأني لست مثلكم أقول بغير إثبات الحجة ، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ، ولم تزيدوا على مجرّد التقليد بآبائكم. (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَ) أي لأكسرنّ (أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (٥٧) أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى العيد.

روي أن آزر خرج في يوم عيد لهم ، فبدءوا ببيت الأصنام ، فدخلوا ، فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم ، وذهب معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه ، وقال : إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا ، ثم نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس حيث قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ، فسمع قوله الضعفاء ، فرجع إبراهيم إلى بيت الأصنام ، (فَجَعَلَهُمْ) ، أي الأصنام ، (جُذاذاً) أي قطعا (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) لم يكسره ، (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى مقالة إبراهيم (يَرْجِعُونَ) (٥٨). فيبكتهم ، فيعدلون عن الباطل ، أي أن إبراهيم عليه‌السلام لما دخل بيت الأصنام ، وجد قبالة الباب صنما عظيما وإلى جنبه أصغر منه ، وهكذا كل صنم أصغر من الذي يليه ، وكانوا وضعوا عند الأصنام طعاما يأكلون منه إذا رجعوا من عيدهم إليهم ، فقال لهم إبراهيم : ألا تأكلون؟ فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلّا الكبير ، ثم علّق الفأس في عنقه. (قالُوا) حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا : (مَنْ فَعَلَ هذا) أي التكسير ، (بِآلِهَتِنا إِنَّهُ) أي من فعل ، (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٩). إما لجراءته على إهانة الآلهة ، أو لإفراطه في الكسر ، أو لتعريض نفسه للهلكة. فإنهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تماثيل الكواكب ، وأنها طلسمات موضوعة ، بحيث إن كل من عبدها انتفع بها ، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد. (قالُوا) أي الذين سمعوا حلف إبراهيم وأخبروا أكابرهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي يعيب الأصنام ويسبها فلعلّه هو الذي فعل بها هذا الفعل ، (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٦٠) أي يطلق عليه هذا الاسم وهذه صفة ثانية لـ «فتى». (قالُوا) أي فيما بينهم ، والقائل لذلك القول هو النمروذ : (فَأْتُوا بِهِ) ، أي بإبراهيم (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) ، أي حال كونه ظاهرا للناس ، (لَعَلَّهُمْ) أي بعض الناس ، (يَشْهَدُونَ) (٦١) عليه بفعله فكل حاكم يحكم على جماعة بالجناية من غير بينة ، أسوأ حالا ، فلا يحكم بعض الكفار على أهل الجناية إلا بحضور عدول (قالُوا) أي قال له نمروذ بعد إتيانه (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) أي الكسر (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) (٦٢)؟ (قالَ) إبراهيم متهكما بهم وملزما بالحجة : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، أي الذي الفأس على عنقه ، وهو مشير إلى الذي لم يكسره ، وسلك عليه‌السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم ، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه عليه‌السلام ، وهو إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء ، والتضليل ، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه ، وعاجز عنه ، وأثبت للعاجز بطريق التهكم به ، لزم منه


انحصاره في القادر ، فهذا نعت لكبيرهم ، أو بدل منه. وقيل : هو خبر «لكبيرهم» ، وتم الكلام عند قوله : (بَلْ فَعَلَهُ) ، وفاعل الفعل محذوف ، أي فعله من فعله.

ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله : (بَلْ فَعَلَهُ) ، ثم يستبدي (كَبِيرُهُمْ هذا). وقرأ محمد بن السميفع : «فعله كبيرهم» بتشديد اللام أي فلعل الفاعل كبيرهم هذا ، (فَسْئَلُوهُمْ) ، أي الأصنام عن كاسرهم ، (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) حتى يخبروكم من كسرهم ، وجواب الشرط هو ما قبله ، وهذا مرتبط بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فيكون إسناد الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين ، فلما لم يكونوا ناطقين ، امتنع أن يكون الكبير فاعلا. والمعنى : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون ، فاسألوهم. وهذه التأويلات لنفي كذب سيدنا إبراهيم. والأولى هو الأول ، فإن التعريض لا يسمى كذبا. وأيضا يجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك الكلام لقصد الصلاح ، وتوبيخهم ، والاحتجاج عليهم ، كما أذن ليوسف عليه‌السلام ، حين نادى مناديه فقال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠] ولم يكونوا سرقوا (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) ، بالتفكر فلاموها ، (فَقالُوا) أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم ، أو قال لهم ملكهم نمروذ : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٤) ، بعبادة الأصنام ، لا من كسرها ومن قلتم في حقه أنه لمن الظالمين ، فإنهم علموا بعد التفكر أن عبادة الأصنام باطلة ، وأنهم على غرور في ذلك ، أو أنتم الظالمون لأنفسكم ، حيث سألتم من إبراهيم عن كاسر الأصنام ، حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي انقلبوا عن الفكرة الصالحة إلى الحالة الأولى ، فأخذوا في المجادلة بالباطل قائلين : والله (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا إبراهيم ، (ما هؤُلاءِ) الأصنام ، (يَنْطِقُونَ) (٦٥) أي لقد علمت أنه ليس من شأنهم النطق ، فكيف تأمرنا بسؤالهم.

وقرئ «نكّسوا» بالتشديد ، و «نكسوا» بالبناء للفاعل ، أي نكّسوا أنفسهم على رؤوسهم ، وهي قراءة رضوان بن المعبود ، (قالَ) إبراهيم مبكّتا لهم : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي أتعلمون ذلك فتعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى ، (ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) ، أي نفعا قليلا (وَلا يَضُرُّكُمْ) (٦٦) (أُفٍّ لَكُمْ) أي قذرا وقبحا لكم (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره ، واللام لبيان المتضجّر لأجله ، وعائد الموصول محذوف ، وهذا تضجّر من سيدنا إبراهيم من إصرارهم على الباطل البيّن. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧). أي ألا تتفكرون ، فلا تعقلون قبح صنيعكم من عبادة ما لا يضر في ترك عبادته ، ولا ينفع في عبادته. (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المجادلة وضاقت عليهم الحيل ، والقائل لهم ملكهم نمروذ بن كنعان ، وقيل القائل رجل من أكراد فارس اسمه هينون ، خسف الله به الأرض ، (حَرِّقُوهُ) أي إبراهيم بالنار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي انتقموا منه لآلهتكم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨) ، لنصرتها فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.


وروي أنهم لما اجتمعوا على إحراقه عليه‌السلام بنوا له حظيرة في قرية كوثي ، فجمعوا له أصناف الحطب شهرا ، وأوقدوا نارا سبعة أيام ، حتى لو مرّ الطير في أقصى الهواء لاحترق ، ثم أخذوا إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ، ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموه به في النار ، فجعل الله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) أي أبردي بردا غير ضارّ ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وكان عنده عين ماء عذب ، وورد أحمر ، ونرجس ، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة ، وقال : يا إبراهيم ، إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضرّ أحبابي ولم تحرق النار منه إلّا وثاقه ، فإن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق.

وروي أنهم أوقدوا عليه النار سبعة أيام بعد إلقائه في ذلك البنيان ، ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عليه من الغد ، فإذا هو غير محترق ، ويعرق عرقا فقال لهم هاران ـ أبو لوط عليه‌السلام ـ : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا النار تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا النار تحته ، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته. (وَأَرادُوا بِهِ) أي إبراهيم (كَيْداً) أي مكرا عظيما في الإضرار به ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٧٠) فإنهم خسروا السعي والنفقة فلم يحصل لهم مرادهم ، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض ، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغ نمروذ بعوضة فأهلكته (وَنَجَّيْناهُ) أي إبراهيم من النار. (وَلُوطاً) ابن أخيه هاران الأصغر من الخسف وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور ، والثلاثة أولاد آزر. وأما هاران الأكبر فكان عما لإبراهيم ، وكانت سارة بنت عم إبراهيم ، الذي هو هاران الأكبر. (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٧١) في الدين والدنيا أي بلغناهما من العراق ، إلى الشام فنزل إبراهيم بفلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وسبب بركة في الدين ، لأن أكثر الأنبياء بعثوا منها ، فانتشرت شرائعهم فيها وفي الدنيا لأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر. (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم عليه‌السلام (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي وهبناهما لإبراهيم (نافِلَةً) أي عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا ، فـ «نافلة» منصوب على المصدر. (وَكُلًّا) أي كل واحد من هؤلاء الأربعة ، (جَعَلْنا صالِحِينَ) (٧٢) في الدين والدنيا فصاروا كاملين. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم في أمور الدنيا ، (يَهْدُونَ) أي يدعون الناس إلى الخيرات (بِأَمْرِنا) وإذننا ، (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ، أي أن يعملوا الشرائع هم وأتباعهم ، (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) وهذان من عطف الخاص على العام ، دلالة على إنافتهما فإن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، والزكاة أفضل العبادات المالية. (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣) أي مخلصين في العبادة لا يخطر ببالهم غير عبادتنا. (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) أي فصلا بين الخصوم. قال الزجّاج : أي هذه الجملة عطف على قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ). وقال أبو


مسلم عطف على قوله : (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) ، وآتينا لوطا. (وَعِلْماً) لائقا به (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) أي من أهل قرية سذوم. (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) ، أي التي كان أهلها قبل إنجائنا له منها ، يعملون الأعمال الخبائث من اللواط ، ورمي المارة بالبندق ، واللعب بالطيور ، والتضارط في أنديتهم ، وغير ذلك. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أي قوما يحزنون الناس بأفعالهم ، (فاسِقِينَ) (٧٤) أي خارجين من كل خير (وَأَدْخَلْناهُ) أي لوطا (فِي رَحْمَتِنا) ، بأن فتحت عليه أبواب المكاشفات ، وتجلّت له أنوار الإلهية ، (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥) أي من المستعدّين لقبول ذلك وللدخول فيه. (وَنُوحاً) عطف على قوله : ولوطا (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً إِذْ نادى) ، أي دعا على قومه بالعذاب ، بدل اشتمال من نوحا (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء المذكورين ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) الدعاء ، (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) ، أي أهل دينه (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦) وهو الغرق وأذية قومه. (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) ، أي عصمناه من مكروه القوم كما قاله المبرد. وقال أبو عبيدة : من بمعنى على ، كقراءة أبيّ ابن كعب ونصرناه على القوم ، (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، الدالة على رسالته عليه‌السلام (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) لأجل تكذيبهم له ، (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧) بالطوفان لإصرارهم على تكذيب الحق ، ولانهماكهم في الشرّ وهذا بيان للوجه الذي خلّصه الله منهم به. (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي آتيناهما حكما (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي في حق الزرع ، (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي انتشرت في الزرع غنم القوم في الليل ترعى بلا راع ، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) أي داود وسليمان (شاهِدِينَ) (٧٨) أي إنما حكما بإرشادنا لهما وأوقع الجمع موقع التثنية مجازا ، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية. (فَفَهَّمْناها) أي الفتيا (سُلَيْمانَ وَكُلًّا) أي كل واحد منهما ، (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، كثيرا.

روي أنه دخل على داود عليه‌السلام ، رجلان فقال أحدهما : إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته ، وما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه‌السلام : اذهب فإن الغنم لك. وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث ، وقيمة الغنم تفاوت ، فخرجا ، فمرا على سليمان عليه‌السلام ، وهو ابن إحدى عشرة سنة ، فقال : كيف قضي بينكما؟ فأخبراه بذلك ، فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا وهو أرفق بالفريقين ، فأخبرا بذلك داود عليه‌السلام ، فدعاه وقال : كيف تقضي بينهما؟ فقال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له منافعها من الدّر ، والنسل ، والصواف ، وأدفع الحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود كهيئته يوم أكل ، ثم دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه فقال داود : القضاء ما قضيت ، وأمضى الحكم بذلك. ورأى داود قياس ، كما أن العبد إذا جنى على النفس ، يدفعه المولى إلى المجني عليه ، أو يفديه عند أبي حنيفة ببيعه في ذلك ، أو يفديه عند الشافعي. ورأى سليمان استحسان كما قال أصحاب الشافعي ، فيمن غصب عبدا فأبق منه ، أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه ، بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع


العبد ، فإذا ظهر ترادا وحكم هذه المسألة في مذهب الشافعي أن الغنم إن كانت وحدها ولو بصحراء ، فأتلفت شيئا كزرع ، ليلا أو نهارا ضمنه ذو يد إن فرّط في ربطها أو إرسالها كأن ربطها بطريق ولو واسعا وكأن أرسلها ولو في نهار لمرعى بوسط مزارع فأتلفتها ، فإن لم يفرّط ، كأن أرسلها المرعى لم تتوسطه مزارع لم يضمن. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ، عدم الضمان بالليل والنهار ، إلا أن يكون معها سائق أو قائد (وَسَخَّرْنا) أي ذللنا (مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) أي ينطقن بالتسبيح ، وكان داود يسبّح وحده فالله تعالى خلق فيها الكلام ، كما سبّح الحصى في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع الناس ذلك. (وَالطَّيْرَ) أي إذا ذكر داود عليه‌السلام ربّه ، ذكرت الجبال والطير ربّها معه ، (وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) أي إنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم ، أي مستغربا في اعتقادكم. (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) أي درع ، (لَكُمْ) أي لأجلكم يا أهل مكة ، فإن الله تعالى ألان الحديد لداود ، فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي لتحرسكم من الجرح ، والسيف ، والسهم ، والرمح. فقرأ شعبة : بالنون ، وابن عامر وحفص بالتاء ، فالضمير لـ «لبوس». والباقون بالياء التحتية ، فالضمير لـ «داود» ، أو لـ «لبوس» ، وهذا بدل اشتمال من «لكم» مبيّن لكيفية الاختصاص والمنفعة (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (٨٠) أي اشكروا الله يأهل مكة على ما يسّر عليكم من هذه الصنعة بتصديق الرسل (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب ، فإذا مرت بكرسيه عليه‌السلام ، أبعدت به في مدة يسيرة أي جعلنا الريح طائعة لسليمان ، فإن أرادها عاصفة كانت عاصفة ، وإن أرادها ليّنة كانت ليّنة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها).

قال الكلبي : كان سليمان عليه‌السلام وقومه ، يركبون عليها من إصطخر إلى الشام ، وإلى حيث شاء ، ثم يعود إلى منزله. قال وهب : كان سليمان عليه الصلاة والسلام ، إذا أخرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الإنس والجن حين يجلس على سريره ، وكان امرأ غازيا قلّما كان يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذلّه.

وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك ، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ، ويروح على مثل ذلك ، ثم عطف يمينه على مطلع الشمس على ساحل البحر ، حتى أتى أرض السند وجاوزها ، وخرج منها إلى مكران ، وكرمان ، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس ، فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة يؤمر. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (٨١) ، فنجري ما سخرنا له بحسب ما تقتضيه الحكمة (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ، أي وسخرنا لسليمان من الشياطين الكافرين من يدخلون في البحار ويخرجون الجواهر منها له ، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) ، أي غير ذلك من بناء المدن والقصور ، وصنع النورة ، والطواحين ، والقوارير ، والصابون ، والحمام ، لأن


ذلك من استخراجاتهم (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٨٢) ، حتى لا يخرجوا من أمره ، وحافظين من أن يفسدوا ما عملوا ، فكان دأبهم أنهم يعلمون بالنهار ، ثم يفسدونه في الليل ، ومن أن يهيّجوا أحدا على أحد في زمانه عليه‌السلام. (وَأَيُّوبَ) أي آتيناه حكما (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣).

وكان أيوب عليه‌السلام روميا من ولد عيص بن إسحاق ، وكانت أمه من ولد لوط ، وكان الله تعالى قد جعله نبيا وقد أعطاه من الدنيا حظا وافرا من النعم ، والدواب ، والبساتين ، وأعطاه ولدا من رجال ونساء. وكان رحيما بالمساكين ، وكان يكفل الأيتام ، والأرامل ، ويكرم الضيف. فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم ، وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. فإنه خرج من فرقه إلى قدمه ثآليل ، وقد وقعت في جسده حكة لا يملكها ، وكان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره ، ثم حكّها بالمسوح الخشنة ، ثم حكها بالفخار والحجار ولم يزل يحكّها حتى تقطع لحمه وأنتن ، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشا.

روي أن امرأته ما خير بنت ميشا بن يوسف عليه‌السلام ، أو رحمة بنت إفرايم بن يوسف ، قالت له يوما : لو دعوت الله تعالى. فقال : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة. فقال : أستحي من الله أن أدعوه ، وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. وروي أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة فقال : أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت ، لأنه تركني وعبد إله السماء لو سجدت لي سجدة لرجعت المال والولد وعافيت زوجك. فرجعت إلى أيوب وكان ملقى في الكناسة ، لا يقرب منه أحد ، فأخبرته بالقصة فقال عليه‌السلام : «كأنك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله تعالى لأضربنّك مائة سوط ، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك ، فطردها ، فذهبت ، فبقي طريحا في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس ، فلما نظر أيوب شأنه وليس عنده طعام ، ولا شراب ولا صديق ، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدا فقال : رب (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فقال تعالى : ارفع رأسك فقد استجبت لك ، اركض برجلك ، فركض برجله ، فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها ، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه ، ولا جراحة إلا برئت ، ثم ركض برجله مرة أخرى ، بعد أن مشى أربعين خطوة فنبعت عين أخرى فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، وعاد صحيحا ، ورجع إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ، ثم كسي حلّة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والولد ، والمال ، إلا وقد ضاعفه الله تعالى ، حتى روي أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب ، فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت في نفسها : هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع ، لأرجعنّ إليه ، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ، ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمور ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلّة أن تأتيه وتسأله


عنه ، فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال : ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة ، فقال لها أيوب عليه‌السلام : فما كان منك؟ فبكت ، وقالت : بعلي فقال : أتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت : وهل يخفى علي؟ فتبسّم وقال : أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته. ثم قال : إنك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس ، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فردّ علي ما ترين وذلك قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) الدعاء ، (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي مرض وهزال ، (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ).

روي أن امرأته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا. قال ابن عباس : أبدل بكل شيء ذهب منه ضعفا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكا فقال : إن ربك يقرئك السلام بصبرك ، فاخرج إلى أندرك ، وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام ، فخرج إليه ، فأرسل عليه جرادا من ذهب (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤) أي آتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب ، وتذكرة لغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب. (وَإِسْماعِيلَ) ابن إبراهيم (وَإِدْرِيسَ) ، بن شيب بن آدم (وَذَا الْكِفْلِ) واسمه بشر ، أي أعطيناهم ثواب الصابرين ، (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٨٥) على أمر الله والمرازي (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي في النبوة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٦) أي الكاملين في الصلاح.

فصلاحهم معصوم من كدر الفساد ، فإسماعيل ، قد صبر عند ذبحه ، وعلى الإقامة في بلد لا زرع فيه ، ولا ضرع ، ولا بناء ، وصبر في بناء البيت فأخرج منه خاتم النبيين. وإدريس قد صبر على دراسة الكتب وسمي إدريس لكثرة دراسته ، وبعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى ، فأبوا ، فأهلكهم الله ورفع إلى السماء الرابعة. وذو الكفل ، قد صبر على قيام الليل ، وصيام النهار ، وأذى الناس في الحكومة بينهم ، بأن لا يغضب. ومعنى الكفل : هو النصيب ، وإنما سمي ذا الكفل بذلك على سبيل التعظيم ، فيكون الكفل كفل الثواب ، لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه ، وضعف ثوابهم ، وقد كان في زمنه أنبياء عليهم‌السلام. (وَذَا النُّونِ) أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس عليه‌السلام ، (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي غضبان على قومه لما برم من طول دعوته إياهم ، وشدة شكيمتهم ، وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر ، لأنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب ، فلما كشف العذاب عنهم بتوبتهم ، وهو لم يعرف الخالد خرج منهم غضبان من ذلك ، (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن أنه لن نضيّق عليه ، أي فإنه ظن أنه مخيّر إن شاء أقام وإن شاء خرج ، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره.

فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم ، فلما تلجّجت السفينة تكفأت بهم ، وكادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : هاهنا رجل عاص ، أو عبد آبق ، لأن السفينة لا تكون هكذا من غير ريح ، إلّا وفيها رجل عاص ، فلا بد من أن نقترع ليظهر ، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في


البحر ، فإن غرق واحد خير من أن تغرق السفينة ، فاقترعوا ثلاث مرات ، فوقعت القرعة فيها على يونس عليه‌السلام ، فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق ، وألقى نفسه في البحر ، فجاء حوت فابتعله ، فأوحى الله تعالى إلى ذلك الحوت لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإنه ليس رزقا لك ، وإنما جعلتك له سجنا (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي في ظلمات بطن الحوت ، والبحر ، والليل ، وقيل : ابتلع حوته حوت آخر ، فحصل في ظلمتي بطن الحوتين ، وظلمة البحر والليل : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أي بأنه فـ «أن» مخففة من «أن» المشددة أو بمعنى أي (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧) بفراري من قومي بغير إذنك فكان ذلك ظلما ، فعوقب على ترك الأفضل الذي هو المكث فيهم صابرا على أذاهم فإنه خرج لا على تعمّد المعصية ، بل لظنه أن خروجه موسّع ، يجوز أن يقدّم ويؤخّر. فقد وصف يونس عليه‌السلام ربه ، بكمال الربوبية. ووصف نفسه بضعف البشرية ، والنقص في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال ولذا قال تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له». (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) بسبب كونه في بطن خطيئته ، فألقاه الحوت في الساحل من يومه أو بعد ثلاثة أيام ، (وَكَذلِكَ) ، أي كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين بهذا الدعاء. (وَزَكَرِيَّا) ، أي واذكر خبره (إِذْ نادى رَبَّهُ) بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي وحيدا بلا ولد يرثني إرث نبوّة وعلم ، وحكمة ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (٨٩). أثنى عليه‌السلام على ربه لأنه ينكشف عن علمه أن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. فإنه تعالى الباقي بعد فناء الخلق. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ، نبيا حكيما عظيما (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ، للولادة بعد انتهائها إلى اليأس منها بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان سن زكريا مائة ، وسن زوجته تسعا وتسعين (إِنَّهُمْ) أي زكريا وولده وأهله ، (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي في طاعة الله تعالى ، (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي يفزعون إلينا رغبة في ثوابنا ، ورهبة من عقابنا ، (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٩٠) أي خائفين متواضعين في عبادتهم ، حذرين عن الانبساط في الأمور. (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي واذكر خبر مريم التي أحصنت فرجها إحصانا كليّا ، من أن يصل إليه أحد بحلال أو حرام جميعا. (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ، أي فنفخنا الروح في عيسى فيها ، أي أحييناه في جوفها ، أي أجريناه فيه إجراء الهواء بالنفخ من جهة روحنا جبريل ، (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١).

أما آيات مريم فظهور الحبل فيها لا من ذكر ، ورزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة ، وأنها لم تلتقم ثديا يوما قط. وتكلّمت في صباها ، كما تكلّم عيسى في صباه ، فجعلهما الله آية للناس ، فيستدلّون بما خصا به من الآيات على قدرته تعالى وحكمته. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي


إن ملة الإسلام وهي التوحيد ، هي ملتكم أيها الناس ، حال كونها غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم‌السلام ، أي يجب عليكم أن تكونوا عليها ، لا تنحرفوا عنها.

وقرأ الحسن «أمتكم» بالنصب على البدل من هذه ، أو عطف بيان ، و «أمة» بالرفع خبران ، وبرفعهما معا خبرين. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢) أي وحّدوني واعرفوني أيها الكفار أو داوموا على عبادتي أيها المؤمنون. (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تفرقوا في أمرهم بأن آمنوا بالبعض ، وكفروا بالبعض ، (كُلٌ) ، من الثابت على الدين الحق ، والزائغ عنه إلى غيره ، (إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣). فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي الفرائض والنوافل ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) ، أي لا حرمان لثواب عمله ، (وَإِنَّا لَهُ) أي لسعيه ، (كاتِبُونَ) (٩٤) أي مثبّتون في صحائف أعمالهم. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٩٥). أي ممتنع على أهل قرية قدّرنا هلاكهم بالموت ، عدم رجوعهم إلينا للجزاء ، بأن يذهبوا تحت التراب باطلا من غير إحباس بالنعمة ، أو بالعذاب. أو المعنى : واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت ، عدم رجوعهم عن الشرك ، وعن الدنيا ، فإن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب كقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] وترك الشرك واجب وليس بمحرّم. (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) ، أي يستمرون على الهلاك ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون : يا ويلنا إلخ. أو لا يرجعون عن الكفر ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ، ويأجوج ومأجوج ، قبيلتان من الإنس ، والمراد حتى إذا فتحت سدّهما وذلك بعد نزول عيسى إلى الأرض ، وبين موت عيسى والنفخة الأولى ، قدر اثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة.

وقرأ ابن عامر بتشديد التاء. (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦) أي والحال أن يأجوج ومأجوج من مكان مرتفع يخرجون.

وقرأ ابن عباس «من كل جدث» أي والناس يخرجون من قبورهم ، فيحشرون إلى موقف الحساب. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) ، أي وهو البعث والحساب والجزاء (فَإِذا هِيَ) ، «فإذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء ، فإذا دخلتها الفاء ، تعاونت على وصل الجزاء بالشرط ، وتأكدت ، والضمير للقصة ، وما بعده خبر مقدم أي فالقصة (شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال ، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا ، تعال فهذا أوان حضورك ، (قَدْ كُنَّا) في الدنيا ، (فِي غَفْلَةٍ) تامة (مِنْ هذا) ، أي الذي أصابنا من البعث والجزاء ولم نعلم أنه حق ، (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٩٧). أي لم نكن غافلين عنه ، بل كنا ظالمين أنفسنا بتعمّد الكفر والإعراض عن الإيمان حيث كذبنا الرسل وعبدنا الأوثان. (إِنَّكُمْ) يا اهل مكة ، (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير


الله من الأوثان وغيرها ، (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي حطب جهنم يرمون فيها ، (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) أي داخلون فيها.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تلا هذه الآية وقال له ابن الزبعري ـ والد عبد الله القرشي ـ : خصمتك ورب الكعبة ، أليست اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة؟ رد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ما أجهلك بلغة قومك ، أما فهمت أن «ما» لما لا يعقل؟» وقد أسلم ابن الزبعري بعد هذه القصة. (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) أي أصنامهم (آلِهَةً) كما يزعمون (ما وَرَدُوها) ، أي ما دخلوا النار ، (وَكُلٌ) من العبدة والمعبودين ، (فِيها خالِدُونَ) (٩٩) أي لا خلاص لهم عنها. (لَهُمْ) أي للعبدة (فِيها زَفِيرٌ) ، أي أنين وتنفّس شديد ، (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠) أصوات المعذّبين لشدة الهول وفظاعة العذاب.

وقد جرت عادة الله تعالى ، أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ، أي الذين سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة ، (أُولئِكَ عَنْها) ، أي جهنم (مُبْعَدُونَ) (١٠١). عن ألمها فإنهم في الجنة. وشتان بينها وبين النار. (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ، أي صوت جهنم وحركة تلهّبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وهذه الجملة بدل من «مبعدون» ، أو حال من ضميره ، أو خبر ثان ، وهي مذكورة للمبالغة في إنقاذهم منها. (وَهُمْ) أي من تقدم لهم الوعد بالثواب ، (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) ، أي تمنت نعيم الجنة ، (خالِدُونَ) (١٠٢) أي دائمون في غاية النعم. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ، حين تغلق النار على أهلها وييأسون من الخروج منها ، وحين يذبح الموت في صورة كبش أملح بين الجنة والنار ، وينادى : يا أهل النار خلود بلا موت ، فييأس أهل النار من الخروج منها ، وحين يؤمر بالكافر إلى الذهاب إلى النار. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، أي الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ، على أبواب الجنة بالبشرى قائلين (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣). أي هذا الوقت وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا بفنون المثوبات ، وبجميع ما يسركم بإيمانكم وطاعاتكم. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) بنون العظمة.

وقرئ «يطوي» بالياء والتاء على البناء للمفعول ، فالظرف منصوب بـ «أذكر» أو بـ «تتلقاهم». (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، أي يوم نطوي السماء طيا ، كطيّ الطومار للمكتوبات. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بصيغة الجمع. والباقون بصيغة الإفراد ، واللام متعلقة بمحذوف وهو حال من السجل ، ومعنى طي الطومار للمكتوب ، كون الطومار ساترا لتلك الكتابة ، ومخفيا لها لأن الطيّ ضد النشر الذي يكشف. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، أي نعيد ما خلقناه أو لا إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجادا بعد عدم ، أو جمعا للأجزاء المتبددة ، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما على السواء (وَعْداً عَلَيْنا) أي وعدنا


بالإعادة ، وعدا حقا علينا إنجازه بسبب الإخبار عن ذلك ، وتعلق العلم بوقوعه. (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤) أي إنا سنفعل ذلك لا بد فوقوع ما علم الله وقوعه واجب. (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داود بعد ما كتبنا في التوراة ، أو لقد كتبنا في جميع كتب الأنبياء بعد ما أثبتنا في اللوح المحفوظ ، (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥). أي أن أرض الكفار يفتحها المسلمون ، وهذا حكم من الله بإظهار الدين ، وإعزاز المسلمين. (إِنَّ فِي هذا) أي في المذكور هذه السورة من البراهين الدالّة على التوحيد وصحة النبوة ، (لَبَلاغاً) أي لكفاية ، (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦) أي عاملين بعلومهم وهم أهل الصلوات الخمس ، وشهر رمضان. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) أي وما أرسلناك يا أشرف الخلق بالشرائع ، إلّا رحمة للعالمين أي إلّا لأجل رحمتنا للعالمين قاطبة في الدين والدنيا.

فإن الناس في ضلالة وحيرة ، فبعث الله سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيل الثواب وأظهر الأحكام ، وميّز الحلال من الحرام. وإن كل نبيّ قبل نبيّنا إذا كذّبه قومه ، أهلكم الله بالخسف ، والمسخ ، والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذب نبينا إلى الموت ، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (قُلْ) يا أكرم الرسل ، (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، أي إنما يوحى إليّ وحدانية إلهكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٨) أي يا أهل مكة خصّصوا العبادة بإلهكم الواحد وهو الله تعالى ، فالاستفهام بمعنى الأمر. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) أي فإن أعرضوا عن توحيد المعبود ، فقل يا سيّد الرسل : إني أعلمتكم بأني محارب لكم على إعلان ، ولكن لا أدري متى يأذن الله لي محاربتكم. فتبيّن بهذا أن السورة مكية ، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة (إِنَّهُ) تعالى ، (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (١١٠) ، من الأحقاد للمسلمين ، ومن النفاق ، فيجازيكم عليه. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١١١) أي ما أدري لعلّ تأخير الجهاد استدراج وضرر لكم ، وتمتع لكم إلى انقضاء آجالكم. (قالَ) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ حفص بصيغة الماضي. والباقون بصيغة الأمر : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب وقد استجيب دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث عذّبوا في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) أي كثير الرحمة على عباده ، (الْمُسْتَعانُ) أي المطلوب منه المعونة (عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢) أي تقولون : إن الشوكة تكون لهم ، وإن راية الإسلام تخفق ثم تركد. فكذب الله ظنونهم وخذلهم ، ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.


سورة الحج

مختلطة بين مكي ومدني ست وسبعون آية ، ألف ومائتان وإحدى

وتسعون كلمة خمسة آلاف ومائة وخمسة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بأن تطيعوه بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١). أي إن شدة حركة الأرض في قرب الساعة في نصف رمضان ، معها طلوع الشمس من مغربها ، أمر حادث ، جليل ، لا تدرك العقول كنهه.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الصور : «أنه قرن عظيم ، ينفخ فيه ثلاث نفخات ، نفخة الفزع ، ونفخة الصعقة ، ونفخة القيام ، لرب العالمين ، وأن عند نفخة الفزع ، يسيّر الله الجبال ، و (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) «وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج ، أو كالقناديل المعلّق ترجرجه الرياح» (١). (يَوْمَ تَرَوْنَها) ، منصوب بـ «تذهّل» ، أو بدل اشتمال من «زلزلة» ، أي وقت رؤيتكم الزلزلة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، أي تغفل مع دهشة عن طفلها الذي ألقمته ثديها ، بحيث لا يخطر ببالها أنه ما ذا ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) ، أي تلقي الحوامل جنينها لغير تمام ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ، فالخطاب لكلّ أحد ، أي يراهم كلّ أحد برؤية الزلزلة ، كأنهم سكارى ، وما هم بسكارى حقيقة. وقال ابن عباس ، والحسن : أي وتراهم سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب.

وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» بفتح السين ، وسكون الكاف. وقرئ : «ترى الناس» بالبناء للمجهول ، والضمير للمخاطب ، والناس بالنصب ، أي تظنهم سكارى ، وبالرفع نائب الفاعل على تأويله بالجماعة. وقرئ «تري» ، بضم التاء وكسر الراء ، أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢) أي ولكن ما أزهقهم من هول عذاب الله

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة ، باب : ٨ ، والدارمي في كتاب الرقاق ، باب : في نفخ الصور ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٦٢ ، ١٩٢)


تعالى ، هو الذي أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم. (وَمِنَ النَّاسِ) ، أي وبعض الناس ، كالنضر بن الحرث ، وأبي جهل ، وأبيّ بن خلف ، (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) ، أي في دين الله وكتابه وقدرته ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ملتبسا بغير علم ، فإنهم ينكرون البعث ، وقالوا : إن الله لا يقدر على إحياء من صار ترابا ، ويكذّبون القرآن ويقولون : ما يأتيكم به محمد ، كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية ، فهو أساطير الأولين. (وَيَتَّبِعُ) في جداله ، (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٣) أي عات متجرد للفساد ، والمراد : إما شياطين الإنس ، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده. (كُتِبَ عَلَيْهِ) مبني للمفعول صفة ثانية ، أي قد كتب على الشيطان في أمّ الكتاب لظهور ذلك من حاله ، (أَنَّهُ) أي الشأن ، (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي من اتخذه وليا وأطاعه ، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي من يقبل الشيطان بقوله فشأنه أن الشيطان يضلّه عن طريق الجنة. (وَيَهْدِيهِ) أي يدعوه (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤) أي إلى ما يؤدي إلى عذاب النار الوقود ، من السيئات. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة ، (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) ، أي خلقنا كلّ فرد منكم ، (مِنْ تُرابٍ) ، لأن المني ودم الطمث ، يتولدان من الأغذية وهي من النبات ، وهو يتولّد من الأرض والماء ، (ثُمَ) خلقناكم ، (مِنْ نُطْفَةٍ) ، أي مني (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي دم جامد ، (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ ، (مُخَلَّقَةٍ) ، أي تامة الصور ، والحواس ، والتخاطيط ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي وناقصة في هذه الأمور. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، أي أخبرناكم في القرآن ، بدء خلقكم لنبيّن لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم ، فإن القادر على هذه الأشياء ، كيف يكون عاجزا عن الإعادة (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي ونحن نقر بعد ذلك في الأرحام ما نشاء أن نقره فيها من الولد إلى وقت الوضع. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها ، عند تمام الوقت المقدر بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية ، (طِفْلاً) أي حال كونكم صغارا ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، أي ثم نسهل في تربيتكم أمورا لتبلغوا كما لكم في القوة والعقل والتمييز ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على كماله في ذلك ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى أخسه ، وهو الهرم والخرف. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من ضعف البدن ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدّر عليه. (وَتَرَى) أيها المجادل (الْأَرْضَ هامِدَةً) أي يابسة خالية من النبات ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أي ماء المطر والعيون ، والأنهار ، (اهْتَزَّتْ) أي تحرّكت في رأي العين بسبب حركة النبات ، (وَرَبَتْ) أي انتفخت للنبات ، (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥) أي وأخرجت بالماء كل نوع من أنواع النبات حسن ، يسّر ناظره. (ذلِكَ) ، أي الصنع البديع في الإنسان ، والأرض حاصل (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الموجود الثابت ، المتحقق في


الألوهية فهذه الموجودات دالة على وجود الصانع ، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) ، أي شأنه إحياء الموتى كما أحيى الأرض الميتة ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) فإذا دلّت المشاهدة على قدرته تعالى على إحياء بعض الأموات ، لزم اقتداره تعالى على إحياء جميع الأموات ، فلا بدّ وأن يكون قادرا على إعادة الموتى إلى الحياة ، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧).

وهذا كناية عن كونه تعالى حكيما ، لأنه من روادف الحكمة ، فالمعنى ذلك أي خلق الإنسان ، وإحياء النبات ، حاصل بسبب أنه تعالى قادر على إحياء الموتى ، وأنه تعالى حكيم لا يخلف وعده وقد وعد بإتيان الساعة ، والبعث ، فلا بد أن يفي بما وعد. (وَمِنَ النَّاسِ) وهو أبو جهل بن هشام ، (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في شأنه تعالى ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي كائنا بغير علم ضروري ، (وَلا هُدىً) أي نظر صحيح هاد إلى المعرفة. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨) أي وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه من غير تمسّك بقياس ضروري ولا بحجة نظرية ، ولا ببرهان سمعي. (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال ثانية من فاعل «يجادل» ، أي معرضا بجانبه عن الحق متكبّر.

وقرأ الحسن بفتح العين أي مانعا لتعطّفه قاسيا. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، متعلق بـ «يجادل» أي فإن المجادل أظهر التكبّر لكي يتبعه غيره ، فيضلّه عن طريق الحق بالتمويهات ، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح الياء ، فتكون اللام للعاقبة ، أي فإن المجادل أظهر التكبّر فيستمر ضلاله عن دين الله ، أو يزيد ضلاله عنه في عاقبة أمره ، فلا هداية له بعده. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والإهانة. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٩) أي عذاب النار المحرقة. (ذلِكَ) ، أي العذاب الدنيوي والأخروي ، (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠) ومحل «أن» رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين ، لا في وسطه ، وعلى ضعيف يقين ، والجار والمجرور حال من فاعل يعبد أي متزلزلا. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) ، دنيوي وهو ما يوافق الطبع ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي ثبت على ذلك الدين ، بسبب ذلك الخير الذي يوافق هواه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) وهو ما يثقل على طبعه (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي رجع إلى دينه الأول ، وهو الشرك بالله ولما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شر لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرا في نفسه ، بل هو سبب القرب بشرط التسليم والرضا بالقضاء.

نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ في المدينة جسمه ، ونتجت فرسه مهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما ، وكثر ماله ، قال : هذا دين حسن واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض ، وولدت امرأته جارية ، أو أجهضت


رماكه ، ولم تلد فرسه ، وذهب ماله ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين ، فينقلب عن دينه ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والكلبي رضي‌الله‌عنه. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ).

قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا وهو استئناف أو حال من فاعل «انقلب» ، أو بدل من «انقلب». وقرأ مجاهد «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على الفاعلية ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وذلك لأنه يذهب في الدنيا الكرامة ، وإصابة الغنيمة ، وأهلية الشهادة ، والإمامة ، والقضاء ، وعصمة ماله ودمه ، ويفوت في الآخرة الثواب الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١) أي الواضح إذ لا خسران مثله (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) استئناف مبين لعظم الخسران ، وهي واردة في المشركين الذين قدموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى وجه النفاق وهم : بنو الحلاف ، منافقو بني أسد وغطفان ، أي أيعبد من ذكروهم بنو الحلاف متجاوزا عبادة الله تعالى ، جمادا لا يضرّه إذا لم يعبده ، ولا ينفعه إن عبده (ذلِكَ) العبادة (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٢) عن الصواب ، وهو الكفر العظيم. (يَدْعُوا) بالقول (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، استئناف مذكور لبيان عاقبة عبادته المذكورة ، فالدعاء بمعنى القول ، واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا له ، و «من» مبتدأ ، و «ضره» مبتدأ ثان ، خبر «أقرب» ، والجملة صلة للمبتدأ الأول. أي يقول ذلك الكافر يوم القيامة بصراخ حين يرى تضرّره بمعبوده ودخوله النار بسببه ، لمن ضرّه أقرب من نفعه والله ، (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي الناصر هو ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣) أي الصاحب هو (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لأن عبادتهم حقيقية ، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤) بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١٥).

أي من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته ، وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، فليطلب سببا يصل به إلى سماء الدنيا فليقطع نصر الله لنبيه ، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة ، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله ، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة ، وهذا زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه ، فإن أعداءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا يتمنون أن لا ينصره الله ، وأن لا يعليه على أعدائه ، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك. (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فآيات حال من الهاء (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦) هدايته ، بأن يخلق له المعرفة ومحل الجملة ، إما الجر على حذف الجار المتعلق بمحذوف مؤخر ، أي ولأن الله يهدي من يريد أنزله كذلك ، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والأمر أن الله يهدي


من يريد هدايته ، ثم بيّن من يهديه ومن لا يهديه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، بكل ما يجب أن يؤمن به ، (وَالَّذِينَ هادُوا) : أي تدينوا بدين اليهودية ، (وَالصَّابِئِينَ) : وهم شعبة من النصارى ـ قيل : سمّيت بذلك لنسبتها إلى صابئ عم نوح عليه‌السلام ـ (وَالنَّصارى) : وهم الذين انتحلوا دين النصرانية ، (وَالْمَجُوسَ) : عبدة الشمس والنيران ، (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم عبدة الأوثان ، (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، في الأحوال والأماكن فيظهر المحق ، من المبطل ، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ، ولا يجمعهم في موطن واحد ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧). أي فهو عالم بما يستحقه كلّ منهم ، فلا يجري في ذلك الفصل حيف ، ولا يغيب عن علمه شيء.

والأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء ستة ، فمن الناس من يعترفون بوجود الأنبياء ، ومن لا ، فالمعترفون بذلك : فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا أو لمن كان متنبيا ، فاتباع الأنبياء هم المسلمون ، واليهود ، والنصارى ، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى ، وهم الصابئون : فهم مختلفون في نبوة محمد ، وموسى ، وعيسى ، فاليهود : نفوا نبوّة محمد وعيسى. والنصارى : نفوا نبوّة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصابئون ، تارة يوافقون النصارى في أصول دينهم ، فتحلّ لنا مناكحتهم ، وتارة يخالفونهم فلا تحلّ مناكحتهم ، ويطلق الصابئون أيضا على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ، ويضيفون الآثار إليها ، وينفون الصانع المختار ، فهؤلاء لا تحلّ مناكحتهم وأتباع المتنبي هم المجوس ، قيل : هم قوم يستعملون النجاسات. والمنكرون للأنبياء على الإطلاق : هم عبدة الأصنام ، وهم المسمّون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم.

وقال قتادة : ومقاتل الأديان ستة ، واحد لله تعالى وهو الإسلام ، وخمسة للشيطان ، وهي ما عداه. وقرأ نافع «الصابين» بالياء التحتية بعد الباء الموحدة. وقال الزجّاج : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) خير لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كما نقول : إن أخاك إن الدين عليه لكثير ، وأدخلت «إن» على واحد من جزء ، أي الجملة لزيادة التأكيد. (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق بخبر الله تعالى لك (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ) أي ينقاد (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) فهؤلاء ينقادون لتدبيره تعالى انقيادا تاما يقبلون لما أحدثه الله تعالى فيهم من غير امتناع (وَ) يسجد له تعالى (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) سجود طاعة وعبادة وهم المؤمنون. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بامتناعه من السجود وهو من لا يوحد الله تعالى.

وقرئ «حق» بالرفع ، و «حقا» بالنصب أي حق عليه العذاب حقا (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بالشقاوة (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) بالسعادة أي إن الذين وجب عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم بطريق الشفاعة لهم. وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر


ميمي أي فما له من إكرام (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨) من الإكرام بالثواب والإهانة بالعقاب (هذانِ خَصْمانِ) أي طائفة المؤمنين وطائفة الكفار المنقسمة إلى الفرق الخمس فريقان مختصمان.

وقرأ ابن كثير «هذان» بتشديد النون.

وروي عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في شأنه قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في المسلمين وأهل الكتاب حيث قال أهل الكتاب : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المسلمون : نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. فهذه خصومتهم في ربهم فحكم الله بينهم فقال : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي قدرت على مقادير جثثهم نيران تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها. فالمراد بالثياب إحاطة النار بهم أي جعلت النار محيطة بهم كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] ، كما روي عن أنس ، وقال سعيد ابن جبير : أي قطعت قمص وجباب من نحاس أذيب بالنار كقوله تعالى : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠]. فليس شيء حمى بالنار أشد حرارة منه (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) أي الماء الحار (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٢٠) أي يذاب بالماء الحار إذا يصب على رؤوسهم ظاهرهم وباطنهم من الجلود والأمعاء. وفي الحديث الذي رواه الترمذي : «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه ـ وهو الصهر ـ ثم يعاد كما كان»(١). (وَلَهُمْ) أي للكفرة (مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) أي مطارق من حديد فـ «اللام» للاستحقاق (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار (مِنْ غَمٍ) شديد (أُعِيدُوا فِيها) بالمقامع.

روي عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا (وَ) قيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢) أي عذاب الغليظ من النار لعظيم الإهلاك (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها) بالبناء للمفعول وبتشديد اللام أي يزينون. وقرئ بسكون الحاء أي يبلسون في الجنة أي تحليهم الملائكة بأمره تعالى. وقرئ «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء أي يلبسون حليهم (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) بالجر في قراءة الجمهور عطفا على ذهب بناء على أن الأساور مركبة منهما بأن يرصع الذهب باللؤلؤ وفي سورة الكهف ليس فيها ذكر لؤلؤ وفي سورة هل أتى لم يذكر فيها اللؤلؤ ولا الذهب وهنا قد ذكرا فيجتمع لهم التزين بهذه الأمور بالذهب

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٣٧٤).


وحده وبالفضة وحدها وبالذهب واللؤلؤ وبالنصب في قراءة نافع وعاصم عطفا على محل من أساور ، لأنه يقدر ويحلون حليا من أساور ويحلون لؤلؤا فمن ذهب بيان للأساور (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي الجنة (حَرِيرٌ) (٢٣) أي أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة فلا يمكن عراؤهم منه (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية كما قاله ابن عباس في رواية عطاء (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤) أي أرشدوا إلى الطريق إلى الله تعالى وهو دين الإسلام فالحميد هو الله فهو محمود في أفعاله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصرفون الناس عن دين الله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وعن دخوله (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ) أي المقيم (فِيهِ وَالْبادِ) أي الطارئ. وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب «سواء» بالنصب مفعول ثان لـ «جعلناه» و «العاكف» مرفوع به على الفاعلية وللناس متعلق «بسواء» ظرف له. والباقون «سواء» بالرفع على أنه خبر مقدم و «العاكف» مبتدأ والجملة مفعول ثان لـ «جعلناه». وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) فبإلحاد وبظلم حالان مترادفان ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول أي ومن يرد في مكة مرادا ، مائلا عن الاعتدال ظالما أحدا نذقه من عذاب أليم فإن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق العدل في جميع ما يقصده. وقرئ «يرد» بفتح الياء أي من أتى فيه بإلحاد كاحتكار الطعام ، وكدخول مكة بغير إحرام (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مرجعا له بأن يكون موحدا بقلبه لرب البيت عن الشريك ومشتغلا بجسده بتنظيف البيت عن الأوثان (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) فـ «أن» مفسرة لـ «بوأنا» أي لا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت ولا تجعل في العبادة لي شريكا وكان البيت قد رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله ، فبناه على أسه الأول ، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأوثان والأقذار (لِلطَّائِفِينَ) حوله (وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦) أي المصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي ناد فيهم بالأمر بالحج زوي أن سيدنا إبراهيم صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابه يومئذ بالتلبية من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ فمن لبى مرة حج مرة ، ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته (يَأْتُوكَ) أي يأتوا البيت الذي بنيته (رِجالاً) أي مشاة على أرجلهم. وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديدها. وقرئ «رجالي» كعجالي عن ابن عباس (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا على كل بعير مهزول لطول سفره (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧) أي تأتي جماعة الإبل من كل طريق بعيد. وقرئ «يأتون» أي الناس (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ


لَهُمْ) أي ليحضروا منافع مختصة بهذه العبادة كائنة لهم دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة كحصول المغفرة والأموال وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا) متعلق بـ «يأتوك» (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وهي أيام عشر ذي الحجة كما اختاره الشافعي وأبو حنيفة لأنه معلوم عند الناس لحرصهم على علمه من أجل أن وقت الحج في آخره. وقال ابن عباس في رواية عطاء : إن أياما معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، كما اختاره أبو مسلم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم‌الله تعالى. والمراد بالذكر ما وقع عند الذبح كان يقول الذابح باسم الله ، والله أكبر اللهم منك وإليك ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي لأجل ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته (فَكُلُوا مِنْها) أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨).

قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه. والفقير الذي تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غناء. قال الشافعي : لا يأكل من الواجب شيئا وذلك مثل دم التمتع والقرآن وجزاء الصيد والنذر وغير ذلك. وقال ابن عمر وأحمد وإسحاق : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك. وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدى وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر. وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من التمتع ودم القرآن ولا يأكل من واجب سواهما (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ثم بعد خروجهم من الإحرام ليقطعوا أدرانهم كالشارب والأظفار والإبط والعانة (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي ما أوجبوه على أنفسهم ما لم يكن الحج يقتضي وجوب ذلك من الضحايا وغيرها.

وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء أي ليتموا ذلك (وَلْيَطَّوَّفُوا) الطواف الذي يتم به التحلل (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) أي القديم ، لأنه أول بيت بني وقد أعتق من غرق الطوفان زمن نوح ومن تسلط كل جبار دخل فيه ليهدمه ، وهو بيت كريم لم يملك قط. وفي قراءة أبي عمر وتحريك اللامات الثلاثة بالكسر. وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين. وفي قراءة الباقين بإسكان الكل (ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ويذكر للفصل بين كلامين أي الشأن ، ذلك المذكور من قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا) إلى هنا أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الأمر لازم لكم أو مفعول لمحذوف أي احفظوا ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعظم جميع تكاليف الله تعالى من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه فتعظيمه قربة عند الله يثاب عليها في الآخرة (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي رخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام وأكل لحومها (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه مما حرم منها لعارض كالميتة


وما أهل به لغير الله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان فعبادة الأوثان قذر معنوي (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠) أي القول المنحرف عن الواقع كالافتراء على الله تعالى بأنه حكم بتحريم البحائر والسوائب ونحوهما. (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) شيئا من الأشياء وهذان حالان من واو «فاجتنبوا» فالأولى مؤسسة والثانية مؤكدة. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) أي إن بعد من أشرك بالله عن الحق كبعد من سقط من السماء فذهب كالطير حيث تشاء فإن الأهواء المردية توزع أفكاره أو قذفت به الريح في مكان بعيد ، فإن الشيطان قد طرحه في وادي الضلالة. أو المعنى من أشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا شبيها باستلاب الطير لحمه وتفرق أجزائه في حواصلها أو بسقوطه في المكان البعيد بعصف الريح به (ذلِكَ) أي الأمر ذلك التباعد لمن أشرك بالله أو امتثلوا ذلك أمر الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي معالم الحج وهي الهدايا (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢) أي فإن تعظيمها من أفعال دوي تقوى القلوب وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وسميت الهدايا شعائر لتعليمها بعلامة يعرف بها أنها هدايا كطعن حديدة في سنامها وتعليق النعال في أعناقها وتعليق آذان القرب في آذان الغنم (لَكُمْ فِيها) أي الشعائر واجبة أو مندوبة (مَنافِعُ) مع تسمية الأنعام هدايا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وتركبوها لغيركم بلا أجرة ، فإن كان إركابها بأجرة حرم وإن تشربوا ألبانها الفاضلة عن ولدها إذا اضطررتم إليها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أن تنحروها ولا تسمى الأنعام شعارا قبل أن تسمى هديا ، كما اختاره الشافعي. وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اركبها ويلك»(١). (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣) أي ثم أعظم هذه المنافع وقت وجوب نحر الهدايا منتهية إلى الحزم كله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل فجاج منى منحر» (٢). (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه‌السلام إلى من بعده (جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي قربانا يتقربون إلى الله تعالى.

وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما «منسكا» بكسر السين ، أي مذبحا وهو موضع ذبح القربان. وقرأ الباقون بالفتح وهو إراقة الدم لوجه الله تعالى وهو ذبح القرابين (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك ، باب : ركوب البدنة وأبو داود في كتاب المناسك ، باب : في ركوب البدن ، والنسائي في كتاب مناسك الحج ، باب : ركوب البدنة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٥٤).

(٢) رواه أحمد في (م ٤ / ص ٨٢).


أي عند ذبحها وفي هذا تنبيه على أن المقصود الأصلي من طلب الذبائح تذكر المعبود وعلى أن القربان يجب أن يكون من الأنعام (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله وفي هذا بيان أن الله تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته لكل الخلق (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له الذكر بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة وانقادوا له تعالى في جميع تكاليفه (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤) أي المتواضعين فالحج من صفات المتواضعين كالتجرد عن اللباس ، وكشف الرأس ، والغربة من الأوطان (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من مشاق التكليف والمصائب ، فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها.

وقرأ الحسن «والمقيمي الصلاة» بنصب «الصلاة» على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود «والمقيمين الصلاة» على الأصل (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥) في وجوه الخيرات وأمر الله تعالى رسوله أن يبشر بالجنة المتواضعين المتصفين بوجل القلوب إذا أمروا بأمر من الله تعالى وبالصبر إذا أصابهم البلاء من الله تعالى وبإقامة الصلاة في وقت السفر للحج وبصدقة التطوع ، أي لذلك الوجل أثران الصبر على البلايا التي من قبل الله تعالى والاشتغال بالخدمة بالنفس وبالمال وهما أعز الأشياء عند الإنسان ، فالخدمة بالنفس : هي الصلاة. والخدمة بالنفس وبالمال : هي إنفاقه في وجوه الخيرات (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي أعلام دينه وهو مفعول ثان و «لكم» متعلق به «والبدن» عند الشافعي خاصة بالإبل ، وعند أبي حنيفة الإبل والبقر (لَكُمْ فِيها) أي البدن (خَيْرٌ) أي منافع دينية ودنيوية هي درها ونسلها وصوفها وظهرها (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي على نحرها (صَوافَ) أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى ويد أخرى معقولة فينحرها كذلك بأن تقولوا عند الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك.

وقرئ «صوافن» بضم النون. وقرئ «صوافي» أي خوالص لوجه الله تعالى ، لا تشركوا بالله في التسمية أحدا على نحرها وخوالص من العيوب. وعن عمرو بن عبيد «صوافيا» بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها (فَكُلُوا مِنْها) إن شئتم إذا كانت الأضاحي تطوعا (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) أي الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال (وَالْمُعْتَرَّ) أي الذي يعتر بالسلام ولا يسأل بل يري نفسه للناس كالزائر (كَذلِكَ) مع كمال عظمها ونهاية قوتها ، أي فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدنيا والدين (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦) أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالإخلاص (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن يصل إلى الله تعالى أي إلى مرضاته لحوم القرابين ولا دماؤها ، ولكن يقبل


الله الأعمال الطاهرة منكم فمنها التصديق باللحم : وهو من عمل العبد فيرفع إلى الله وأما نفس اللحم المتصدق به : فلا يرفع إلى الله. والمعنى : إن الله لا يثيبكم على لحمها إلا إذا وقع موقعا من وجوه الخير وهو امتثال أمره تعالى وتعظيمه والإخلاص له تعالى.

وروي أنهم كانوا في الجاهلية يضربون لحم الأضاحي على حائط الكعبة ويلطخونها بدمها فأراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا إلى الله تعالى فنزلت هذه الآية : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي إنما سخّر الله تعالى البدن لكم هكذا لتشكروا الله تعالى على إرشادكم إلى أعلام دينكم وإلى كيفية التقرب بها ، وإلى طريق تذليلها ولتقولوا : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧) أي المخلصين في كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال مع الألف وكسر الفاء أي يبالغ في دفع ضرر المشركين عن الذين آمنوا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) في أمانات الله تعالى وهي أوامره ونواهيه (كَفُورٍ) (٣٨) لنعمته وهم المشركون فإنهم أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ).

قرأ أهل المدنية والبصرة وعاصم في رواية حفص «أذن» بالبناء للمجهول. والباقون بالبناء للفاعل. وقرأ أهل المدنية وعاصم «يقاتلون» بالبناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ببناء الفعلين للفاعل وأبو عمرو وأبو بكر بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل. وابن عامر عكس هذا أي أذن الله بعد الهجرة للذين يريدون قتال المشركين في أن يقاتلوا (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قيل : نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدنية فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة بسبب أنهم مظلمون بالإيذاء. وقيل : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذى شديدا ، وكانوا يأتونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ) أي نصر المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون عليهم (لَقَدِيرٌ) (٣٩) وعد الله للمؤمنين بالنصر على طريق الكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) مكة المعظمة فالموصول إما نعت للموصول الأول أو الثاني ، أو بيان له أو بدل منه ، وإما منصوب على المدح أو مرفوع بإضمار مبتدأ على المدح (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ). وهذا بدل من حق أي أنهم أخرجوا من مكة بغير سبب إلا بقولهم : ربنا الله وحده ومحمد رسوله إلينا ، فالتوحيد هو الذي ينبغي أن يكون سبب التمكين في مكة لا سبب الإخراج فالإخراج به إخراج بغير حق (وَلَوْ لا دَفْعُ


اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل زمان (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) للرهبانية (وَبِيَعٌ) للنصارى (وَصَلَواتٌ) أي كنائس لليهود (وَمَساجِدُ) للمسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا) أي في هذه المواضع الأربعة (اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

قال الزجاج : أي ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين بالإذن لهم في جهادهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا مواضع عبادات المؤمنين منهم فهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلى فيه ، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه. وهي المسماة بالصلوات ، وهي كلمة معربة أصلها بالعبرانية : «صلوثا» بفتح الصاد والثاء المثلثة والقصر وبه قرئ في الشواذ. ومعناه في لغتهم «مصلى» ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وهما للنصارى. لكن الصوامع هي التي يبنونها في الصحارى والبيع هي التي يبنونها في البلدان ، وفي زمن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المساجد.

وقرأ نافع «دفاع» بكسر الدال وفتح الفاء مع الألف وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بتخفيف الدال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي من ينصر دينه وأولياءه بأن يظفرهم بأعدائهم بالتجلد في القتال ، وبإيضاح الأدلة وبالإعانة على الطاعات (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على هذه النصرة التي وعدها للمؤمنين (عَزِيزٌ) (٤٠) أي لا يمنعه شيء وقد أنجز الله وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب ، وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم ، أرضهم وديارهم. (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي المأذون لهم في القتال المخرجون من ديارهم هم الذين إن أعطيناهم السلطنة ونفاذ القول على الخلق أتوا بالأمور الأربعة هي : إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهذا دليل على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله تعالى لم يعط نفاذ الأمر غيرهم من المهاجرين. أما الأنصار فلم يخرجوا من ديارهم وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى بالغيب عما تكون عليه سيرة المهاجرين إن أعطاهم السلطنة على الأرض وثناء منه تعالى عليهم قبل إحداثهم الخير (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١) وفي هذه إشارة إلى حضور سلطنة من أخرجهم كفار مكة ووقوع ملكه مع السيرة العادلة ـ وهم الخلفاء الراشدون ـ ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى في العاقبة فإنه تعالى هو الذي لا يزول ملكه أبدا ، وفي هذا تأكيد للوعد بإعلاء دينه تعالى وإظهار أوليائه (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى) أي وإن تحزن يا أشرف الخلق على تكذيب قومك إياك فأنت يا أكرم الرسل لست بأوحدي في التكذيب ، فتسل بهم فإنه قد كذب سائر الأمم أنبياءهم قبل تكذيب قومك إياك. كذب قوم نوح الذين هم من أشد الناس نوحا عليه‌السلام ، وكذب قوم هود الذين هم ذوو الأبدان الشداد هودا عليه‌السلام ، وكذب قوم صالح الذين هم أولوا الأبنية الطوال في الجبال والسهول صالحا


عليه‌السلام ، وكذب قوم إبراهيم المتكبرون إبراهيم عليه‌السلام ، وكذب قوم لوط الأنجاس لوطا عليه‌السلام ، وكذب قوم شعيب أرباب الأموال المجموعة شعيبا عليه‌السلام ، وكذب أهل مصر وهم القبط موسى عليه‌السلام ، (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بعذاب الاستئصال (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٤) أي فانظر يا سيد الرسل كيف كان تغييري عليهم ، فإن الله غيّر حياتهم بإهلاكهم بعذاب الاستئصال وعمارتهم بالخراب (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها).

وقرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» على وفق «فأمليت» ثم «أخذتهم» ، أي فأهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها ، (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي كافرا أهلها. وهذه جملة حالية من مفعول أهلكنا (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي فهي ساقطة حيطانها على سقوفها ، بأن خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، أو فهي خالية عن الناس مع بقاء عروشها ، وهذه معطوفة على «أهلكناها» فلا محل لها من الاعراب إن جعلت أهلكناها مفسرة لمضمر ناصب لـ «كائن» ، ومحلها رفع إن جعل خبرا لـ «كأين» (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي وكم بئر عامرة كثيرة الماء متروكة لا يستسقى منها لهلاك أهلها. (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) أي مرفوع البنيان أو مجصص أخليناه عن ساكنه.

روى أبو هريرة أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بـ «حضرموت» وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات. ثمّ وثمّ بلدة عند البئر اسمها «حاضورا» بناها قوم صالح ، وأمّروا عليها حاسر بن جلاس ، وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله تعالى وعطّل بئرهم ، وخرّب قصورهم. وعلى هذا فالمراد بالبئر بئر بسفح جبل بحضرموت وبالقصر مشرف على قلته (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أغفل أهل مكة فلم يسافروا في تجاراتهم (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يجب أن يعقل من التوحيد بسبب ما شاهدوه من مواد الاعتبار (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ما يجب أن يسمع من أخبار الرسول (فَإِنَّها) الضمير للقصة يفسره ما بعده (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) أي ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم ، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة ، والاعتماد في التقليد (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي تطلب قريش كالنضر بن الحرث أن تأتيهم بالعذاب عاجلا استهزاء بك وتعجيزا لك على زعمهم. وكان رسول الله يهددهم بنقمات الله دنيا وأخرى ، وهم يقولون : إن ما حذرتنا به لا يقع ، وإنه لا بعث ، فذكر الله تعالى نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، وقد أنجز الله وعده يوم بدر ، فقتل منهم سبعون ، وأسر منهم سبعون (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) أي وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا في كثرة الآلام وشدتها ، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه.


وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي بالياء التحتية فيكون مناسبا لقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ).

وقرأ الباقون بالتاء فيكون التفاتا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وكم من أهل قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخر (ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨) أي ثم عاقبت أهل تلك القرية في الدنيا ، بأن أنزلت العذاب بهم ، ومع ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة فإذا رجعوا إليّ بهم ما يليق بأعمالهم (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٩) أي إنما أنذركم إنذارا بينا بما أوحي إلي من أنباء الأمم المهلكة وليس بي تعجيل للعذاب ولا تأخير ، وإنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الذنوب الصغائر والكبائر (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥٠) أي ثواب حسن في الجنة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي الذين اجتهدوا في إبطال آياتنا حيث قالوا : شعر أو سحر أو أساطير الأولين ، (مُعاجِزِينَ) أي معارضين المؤمنين ، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. أو ظانين عجزنا عنهم بأن لا يدركهم عذابنا!

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم بعد العين المفتوحة ، أي مثبطين الناس عن الإيمان ، أو طامعين في عجز الرسول بالمكايد ظانين ذلك. (أُولئِكَ) الموصوفون بالسعي في إبطال القرآن واعتقاد العجز لله أو للرسول ، أو للمؤمنين. (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١) أي ملازمو النار الموقدة. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي إذا قرأ النبي أو الرسول (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، أي في قراءة ذلك النبي أو الرسول. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتّل قراءته للقرآن ، فارتصد الشيطان سكتته ، ونطق بقوله :

وإن شفاعتهن لترتجي

 

«تلك الغرانيق العلا

محاكيا نغمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه ، فظنها من قول النبي وأشاعها وفي هذا إخبار من الله تعالى بأن رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه محاكيا صوتهم ، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن نبينا قاله لأنه معصوم. وفي هذه الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قد حزن بذلك ، وشبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طيور الماء ، التي تعلوا في السماء ، وترتفع لاعتقاد الكفار أنها تقرّبهم من الله تعالى وتشفع لهم ، وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها ، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى به (فَيَنْسَخُ اللهُ) أي يزيل (ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبت الله القرآن لنبيه لكي يعمل بها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالح عباده المخلصين (حَكِيمٌ) (٥٢) فيما يجري عليهم من الأعمال والأحوال ، ومن حكمته تعالى فيما يلقي الشيطان (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ـ وهم المنافقون ـ (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ، وهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا ، فيرون الباطل حقا فأثبتوه ونفوا الحق فأبعدهم الله بهذا الامتحان عن حضرته (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي هؤلاء المنافقين والمشركين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) أي عداوة شديدة.


قالت قريش : ندم محمد على ذكر منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك ، وكانت الكلمتان اللتان زادهما الشيطان في قول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وقعتا في فم كل مشرك ، فازدادوا شرا على ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي الذين رزقوا حسن بصيرة الذين يميزون بها بين الحق والباطل ، (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي أن القرآن هو الحق النازل من عند ربك (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي فيثبتوا على الإيمان بالقرآن ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي فتنقاد قلوبهم بالقبول لما في القرآن من الأوامر والنواهي. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) في الأمور الدينية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤) أي إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة نفسها (بَغْتَةً) أي فجأة من دون أن يشعروا (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥) أي عذاب يوم لا يوم بعده فيستمر ذلك اليوم كاستمرار المرأة على تعطل الولادة. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي في يوم عقيم (لِلَّهِ) وحده فلا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجازا ولا صورة لأحد ولا معنى كما في الدنيا ، فإنه تعالى ملك فيها الأمور غيره صورة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، أي بين المؤمنين بالقرآن والممارين فيه ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا) امتثالا بما أمروا فيه (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٥٦) يكرمون بالتحف فضلا من الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي أصروا على ذلك (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧) ، أي شديد بسبب معاصيهم. أما إعطاء الثواب فبفضل الله لا بأعمالهم كما هو حكمة ذكر الفاء وتركه في الجانبين (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هاجروا إلى المدينة لنصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللتقرب إلى الله تعالى (ثُمَّ قُتِلُوا) أي قتلهم العدو.

وقرأ ابن عامر بتشديد التاء (أَوْ ماتُوا) في سفر أو حضر من غير قتل (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة لاستواء النوعين في القصد وأصل العمل.

وروي أن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك ، كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك! فنزلت هذه الآية : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٥٨) فإن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والرزق الصادر منه لمحض الإحسان وإن غيره إنما يدفع الرزق من يده ليد غيره ولا يفعل نفس الرزق ، ويرزق لانتفاعه إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق بالإعطاء ثناء أو عوضا ، أو لأجل الرقة الجنسية. وأما الله تعالى فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من أحد كمالا زائدا فهو يرزق بغير حساب (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) بأن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم إدخالا فوق ما يتمنونه ومدخلا فوق الذي يهوونه.

وقيل : هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف مصراع. وقال ابن عباس : إنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا.


وقرأ نافع «مدخلا» بفتح الميم أي مكانا. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بما يرضونه وبما يستحقونه فيعطيهم ذلك في الجنة ويزيدهم. (حَلِيمٌ) (٥٩) فلا يعجل من عصاه بالعقوبة لتقع التوبة منه فيستحق الجنة. (ذلِكَ) أي الأمر ذلك الذي قصصناه عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي والذي قاتل من كان يقاتله من الكفار ، ثم إن القاتل ظلم عليه بأن ألجئ إلى مفارقة الوطن ، وابتدئ بالقتال لينصرن الله المظلوم على الظالم. قوله : (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) الباء الأولى : للآلة ، والثانية : للسببية. والعقاب مأخوذ من التعاقب. وهي مجيء الشيء بعد غيره.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم. فقال بعضهم لبعض : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام ، فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا ، وقاتلوهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) عن هذه الإساءة (غَفُورٌ) (٦٠) لهم ما صدر عنهم من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المطلوب إليهما وإنما عفا عنهم ذلك مع كونه محرما إذ ذاك ، لأنهم فعلوه دفعا للصائل فكان من نوع الواجب عليهم. وهذا تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة ، إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده (ذلِكَ) أي النصر بسبب أنه تعالى قادر ، ومن آيات قدرته كونه خالق الليل والنهار فذلك قوله تعالى : (بِأَنَّ اللهَ) تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي بسبب أن الله تعالى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات أو يحصل ظلمة أحدهما في مكان ضياء الآخر وعكسه ، (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بكل المسموعات (بَصِيرٌ) (٦١) بجميع المبصرات أي أن الله كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، فكذلك يدوم الاتصاف بالسمع والبصر فلا يحتاج لسمعه إلى سكون الليل ولا لبصره إلى ضياء النهار (ذلِكَ) أي الإنصاف بكمال القدرة والعلم (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الثابت الذي يمتنع عليه التغير في ذاته وصفاته فعبادته هو الحق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي وأن ما يعبده المشركون من غير الله هو الباطل ألوهيته ، وأنه معدوم في حد ذاته.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ، وشعبة بالتاء على خطاب المشركين. وقرئ بالبناء للمفعول على أن «الواو» عائد لـ «ما» فإنه كناية عن الآلهة (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢) أي وأن الله هو القاهر الذي لا يغلب القادر على الضر والنفع العظيم في سلطانه الذي لا تدرك حقيقته (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي فتصير الأرض نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي رحيم بعباده في إخراج النبات (خَبِيرٌ) (٦٣) أي عالم بمقادير مصالحهم ، وبما في قلوبهم (لَهُ ما فِي


السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل ذلك منقاد له. وهو تعالى غير ممتنع من التصرف فيه (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦٤) أي الغني عن الأشياء كلها ، لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور ، ولكنه لما خلق الحيوان خلق الأشياء رحمة للحيوانات ، لا لحاجة إلى ذلك وكان إنعامه تعالى خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا (أَلَمْ تَرَ) أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ) تعالى (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي جعل ما فيها معدا لمنافعكم فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مذللة لكم ، وذلل لكم الحيوانات حتى تنتفعوا بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها ، والانتفاع بالنظر إليها فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر والخيل لما انتفع بها أحد (وَالْفُلْكَ) معطوف على ما أو على اسم «أن» (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) حال من الفلك أو خبر (بِأَمْرِهِ) أي بإذنه فلولا أن الله سخر السفن بالماء والرياح لجريها لكانت تغوص أو تقف (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي ويمنع السماء من أن تقع على الأرض (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بإمساك السماء من السقوط ، لأنه جرم ثقيل مسكن الملائكة لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة ، فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥) حيث هيأ لهم أسباب معاشهم ، وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم نطفا ، بعد أن كنتم معدومين (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة للثواب والعقاب (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي المشرك كبديل بن ورقاء الخزاعي والأسود بن عبد الأسد ، وأبي جهل ، والعاص بن وائل ، وأبيّ بن خلف. (لَكَفُورٌ) (٦٦) أي جحود لنعم الله مع ظهورها حيث ترك توحيده تعالى (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي لكل أمة معينة وضعنا شريعة خاصة تلك الأمة المعينة عاملون بها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث نبينا منسكهم الإنجيل ، هم عاملون به لا غيرهم. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي ومن بعدهم إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي يجب على أرباب الملأ أن يتبعوك وأن يتركوا مخالفتك في أمر الدين وقد استقر الأمر الآن على شرعك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادعهم إلى شريعتك ولا تخص بالدعاء إلى توحيد ربك أمة دون أمة فكلهم أمتك. (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٦٧) أي على أدلة دين واضحة موصلة إلى الله تعالى ، (وَإِنْ جادَلُوكَ) أي إن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريق المجادلة والتمسك بالعادة (فَقُلِ) لهم على سبيل التحذير من حكم يوم القيامة ، الذي يتردد بين جنة لمن قبل ونار لمن أنكر : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨) من المجادلة الباطلة وغيرها. (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالثواب والعقاب (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩) من أمر الدين ، فتعرفون حينئذ


الحق من الباطل (أَلَمْ تَعْلَمْ) أي قد علمت يا أشرف الخلق (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء مما يقوله الكفرة وما يعملونه. (إِنَّ ذلِكَ) أي ما في السماء والأرض (فِي كِتابٍ) أي لوح محفوظ (إِنَّ ذلِكَ) أي إن علم ما في السماء والأرض بغير الكتاب جملة وتفصيلا (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠) أي هين وإن تعذر على الخلق. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ويعبد كفار مكة متجاوزين عبادة الله ما لم ينزل الله بجواز عبادته حجة من جهة الوحي ، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من دليل عقلي ، أي أن عبادتهم لغير الله من الأصنام ليست مأخوذة من دليل سمعي ولا من دليل عقلي بل هو من تقليد أو جهل أو شبهة فوجب أن يكون ذلك باطلا (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي المشركين (مِنْ نَصِيرٍ) (٧١) أي ليس لهم ناصر في مذهبهم بالحجة ولا في دفع عذاب الله عنهم ، (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي القرآن (بَيِّناتٍ) أي واضحات في الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة. (تَعْرِفُ) يا أشرف الخلق (فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن (الْمُنْكَرَ) أي الكراهية للقرآن وأثر الغضب (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يكادون يثبون على من يقرءوا القرآن عليهم بالبطش من فرط الغضب. (قُلْ) ردا عليهم : (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي أخاطبكم فأخبركم بأشر من غيظكم على التالين ، وقهركم عليهم ومن الضجر بسبب ما تلي عليكم. (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا ماتوا على الكفر. فـ «النار» إما مبتدأ وخبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ مقدر. وقرأه زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بالنصب على الاختصاص أو على أنه منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده.

وقرأه ابن أبي إسحاق ، وإبراهيم بن نوح بالجر بدلا من شر (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢) النار. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (ضُرِبَ مَثَلٌ) أي بيّن لكم حال عجيبة غريبة (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي تدبروا المثل حق تدبره (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي أن الأصنام الذين تعبدونهم لن يقدروا على خلق الذباب مع صغره (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لخلقه أي تعاونوا على خلقه فكيف يليق بالعاقل جعل الأصنام معبودا (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي وإن يأخذ الذباب من الأصنام شيئا من الطيب والعسل الذي لطخوا عليها لا تسترده من الذباب.

قال ابن عباس : إنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٧٣).

قال ابن عباس : أي ضعف الذباب والصنم ، فالذباب طالب ما يأخذه من الذي على الصنم. وقال الضحاك : أي ضعف العابد والمعبود ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوا الله حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق


الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات عن آخرها (عَزِيزٌ) (٧٤) أي غالب على جميع الأشياء (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى بني آدم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة (وَمِنَ النَّاسِ) أي ويختار من الناس رسلا مختصين بالنفوس الزكية كإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلوات الله عليهم. نزلت هذه الآية لما قال الوليد بن المغيرة مع موافقة الباقي لم ينزل على محمد القرآن لأنه ليس بأكبرنا ولا بأشرفنا. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالتهم. (بَصِيرٌ) (٧٥) بأفعالهم ، وبمن يستحق الرسالة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم الله ما عملوه وما سيعملونه من أمور الدنيا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٧٦). وهذا إشارة إلى التفرد بالإلهية والحكم ، وإلى الزجر عن مباشرة المعصية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي ارجعوا من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع الحيوانية وذلة النباتية. قال ابن عباس : إن الناس كانوا في أول الإسلام يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر ما كلفكم به خالصا لوجهه (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) واجبا ومندوبا وتوجهوا إلى الله تعالى في جميع أحوالكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧) أي لتظفروا بنعيم الجنة ، أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الفلاح ، غير متيقنين أنها مقبولة عند الله تعالى والعواقب مستورة وكل ميسر لما خلق له : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي لله أعداء دينه الظاهرة والباطنة من أهل الضلال والهوى والنفس (حَقَّ جِهادِهِ) أي جهادا من أجل الله ، حقا لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة. (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم للاشتغال بطاعته من بين سائر البريات (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ) أي في أمر الدين (مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق بتكليف ما يشق عليكم إقامته. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي سهل الله عليكم الدين مثل ملة أبيكم إبراهيم ، فإنه أبو رسول الله وهو كالأب لأمته ، ولأن أكثر العرب كانوا من ذرية إبراهيم فغلبوا على غيرهم (هُوَ) أي الله. كما قرأ أبيّ بن كعب. (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا القرآن في كتب الأنبياء (وَفِي هذا) أي القرآن بقوله تعالى : ورضيت لكم الإسلام دينا. وقيل : الله سماكم المسلمين في الأزل من قبل أن خلقكم وبعد أن خلقكم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يوم القيامة بأنه بلغكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي الأمم الماضية ، بتبليغ الرسل إليهم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي فلما خصكم الله بهذه الكرامة ، فاعبدوه وتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكر لفضلهما. (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ).

قال القفال : أي اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون. وقال ابن عباس : أي سلوا الله العصمة عن كل المحرمات أي ولا تطلبوا الإعانة في كل الأمور إلا منه تعالى. (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم. (فَنِعْمَ الْمَوْلى) أي الحافظ. (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) بل فلا حافظ ولا ناصر في الحقيقة سواه تعالى.


سورة المؤمنون

مكية ، مائة وثمان عشرة آية عند الكوفيين ، وتسع عشرة عند البصريين

ألف وثمانمائة وأربعون كلمة أربعة آلاف وثمانمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١) أي فازوا بالمراد. وقرأ طلحة بن مصرف «أفلح» على البناء للمفعول ، أي أدخلوا في الفلاح الذي هو الوصول إلى الله تعالى. (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) أي خاضعون للمعبود بالقلب ، غير ملتفتين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح ، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ، ويرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي. والحضور عندنا ليس شرطا للإجزاء بل شرط للقبول كما قاله الرازي (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (٣) أي الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) أي مؤدّون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٥) أي ممسكون فلا يرسلونها على أحد (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي سراريهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٦) على عدم حفظها منهن إذا كان إتيانهن على وجه الحلال (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي فمن طلب غير ذلك المستثنى كإتيان بهيمة أو زنا أو لواط ، أو استمناء بيد ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٧) أي الكاملون في مجاوزة الحدود (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٨) أي قائمون بحفظ وإصلاح فكل ما يكون تركه داخلا في الخيانة فهو أمانة ، والعهد هو ما عقده العبد على نفسه فيما يقربه إلى الله تعالى ، وما أمر الله تعالى به ، وذلك كالوضوء والاغتسال من الجنابة والصلاة ، والصوم ، والودائع ، والأسرار وغير ذلك.

وقرأ نافع وابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩) لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما ، ولأركانها.

وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد (أُولئِكَ) أي المؤمنون المتصفون بتلك الصفات (هُمُ الْوارِثُونَ) (١٠) (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ).


روي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر ، وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان. وروى أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» (١). وسمى استحقاقهم الفردوس إرثا بأعمالهم بحسب وعده تعالى ، لأن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديرها (هُمْ فِيها) أي الفردوس (خالِدُونَ) (١١) لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي جنس الإنسان (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢) أي من خلاصة كائنة من طين (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي السلالة (نُطْفَةً) أي منيا ، أربعين يوما (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣) أي مكان حريز. فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولا طينا ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في صلب الأب فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم فصار الرحم مستقرا حصينا لهذه النطفة (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم صيرنا المني الأبيض دما جامدا أربعين يوما ، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم صيرنا الدم الجامد الأحمر لحما صغيرا ، مقدار ما يمضغ أربعين يوما (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرنا اللحم الصغير عظاما بلا لحم بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين وما بينهما. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) وشددناها بالأعصاب والعروق. فاللحم يستر العظام كالكسوة.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر «عظما» و «العظم» بالإفراد في الموضعين. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي حولنا العظام المستورة باللحم عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين فإن الله جعلها حيوانا ناطقا ، سميعا بصيرا ، عاقلا. وأودع كل جزء من أجزائه عجائب وغرائب لا يحيط بها وصف الواصفين (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) أي فتعالى شأن الله تعالى أتقن المحولين (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي التركيب بالأمور العجيبة (لَمَيِّتُونَ) (١٥) أي لصائرون إلى الموت.

وقرأ ابن أبي عبلة وابن محيص «لمائتون». (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي عند النفخة الثانية (تُبْعَثُونَ) (١٦) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب. (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي سبع سموات طرائق بعضها فوق بعض وإنما قيل للسموات : طرائق لتطارقها ، أي لكون بعضها موضوعا فوق بعض طاقا فوق ، كمطارقة النعل. فجعل الله في السموات موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها. وكان نزول الوحي ومقرا للملائكة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (١٧) بل كنا حافظين لهم عن أن تسقط عليهم الطباق السبع فتهلكهم ، ولسنا تاركين لهم بلا أمر ولا نهي ،

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٢ : ٣٧١) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢٩٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣١٨٤) ، بما معناه.


ولا غافلين من أعمالهم ومصالحهم. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم.

قال الرازي : إن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار منافعهم ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم ينزلها على قدر الحاجة إليها اه ـ. وفي الأحاديث : «إن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض ، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء» (١). (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلناه قارا فيها بعضه في بطنها وبعضه على ظهرها كالأنهار والغدران والعيون (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي على إزالته بالإفساد أو بالتصعيد أو بالتغوير في الأرض (لَقادِرُونَ) (١٨) كما كنا قادرين على إنزاله (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي بذلك الماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ). وإنما ذكرهما الله تعالى لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا (لَكُمْ فِيها) أي البساتين (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) من ألوان شتى (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١٩) أي ترزقون ، وتحصلون معايشكم أي تتنعمون بفوائد البستان وتتعيشون بها (وَشَجَرَةً) أي وأنشأنا لكم زيتونة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهو جبل نودي منه موسى عليه‌السلام بين مصر وأيلة. وقيل : في فلسطين. ومن قرأ بفتح السين منع الصرف لألف التأنيث الممدودة. ومن قرأ بكسرها وهو نافع وابن كثير ، وأبو عمرو فقد منع الصرف للعلمية والعجمة ، فإن الهمزة ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس. قيل : إن الزيتونة أول شجرة نبتت بعد الطوفان. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تخرج الدهن.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء ، أي تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠) معطوف على الدهن أي تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يغمس الخبز فيه للائتدام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) أي الإبل (لَعِبْرَةً) تستدلون بأحوالها على تعظيم قدرة الله تعالى وسابغ رحمته وتشكرونه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره. ووجه الاعتبار في اللبن أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ويصير غذاء ، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها تجده شرابا طيبا نافعا للبدن ، وإذا ذبحتها لم تجد له أثرا ، فمن استدل بذلك على قدرة الله تعالى وحكمته كان ذلك معدودا من النعم الدينية ومن انتفع به كان معدودا من النعم الدنيوية (وَلَكُمْ فِيها) أي الأنعام. (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) كالانتفاع بثمنها وأجرتها (وَمِنْها) أي الأنعام بعد ذبحها (تَأْكُلُونَ) (٢١) فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها (وَعَلَيْها) أي الأنعام (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢) فإن الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر

__________________

(١) رواه العجلوني في كشف الخفاء (١ : ٣١٢) ، بما معناه.


بمنزلة الانتفاع بالسفن في البحر ، ولذلك جمع الله بينهما في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وهم جميع أهل الأرض. (فَقالَ) متعطفا عليهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده فلا تعبدوا سواه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بالرفع صفة لـ «إله» باعتبار محله على أنه فاعل ، أو مبتدأ مؤخر أو محذوف الخبر ولكم للتبيين أي ما لكم في العالم إله غيره تعالى.

وقرأ الكسائي بجر غيره صفة لـ «إله» على الاحتمالين الأولين باعتبار لفظه (أَفَلا تَتَّقُونَ) (٢٣) أي أتعرفون انتفاء «الإله» غيره تعالى فلا تتقون أنفسكم عذابه تعالى بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه (فَقالَ الْمَلَأُ) أي الرؤساء : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لعوامهم ما هذا أي نوح (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ، بادعاء الرسالة لتكونوا أتباعا له (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي لو شاء الله إرسال الرسول إلينا لأنزل ملكا من الملائكة (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالأمر بعبادة الله خاصة وترك عبادة ما سواه (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٢٤) أي الماضين قبل بعثة نوح عليه‌السلام وذلك لكون آبائهم في زمان فترة متطاولة ، وإما لغلوهم في التكذيب وانهماكهم في الضلال. ويقال : ما سمعنا بنوح أنه نبي في الذين مضوا قبلنا في زمنه عليه‌السلام (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي ما نوح إلا رجل فيه جنون ، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا ، (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٢٥) أي انتظروه إلى زمن موته. أو المراد أنه مجنون فاصبروا إلى زمان تظهر عاقبة أمره فيه ، فإن أفاق فذاك واضح وإلا فاقتلوه ، (قالَ) نوح لما رآهم قد أصروا على التكذيب حتى يئس من إيمانهم بالكلية : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٢٦) بالرسالة أي أبدلني من غير تكذيبهم سلوة النصر عليهم ، أو أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي. (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) عند ذلك (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) فـ «أن» مفسرة لوقوعها بعد فعل فيه معنى القول (بِأَعْيُنِنا) أي بحفظنا لك عن أن تخطئ في صنعها أو يفسدها عليك غيرك فإن جبريل علمه عمل السفينة ، ووصف له كيفية اتخاذها. (وَوَحْيِنا) أي وتعليمنا ، فأوحى الله إليه جبريل فعلمه صنعة السفينة ، وصنعها في عامين ، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين وارتفاعها ثلاثين. وجعلها ثلاث طبقات. السفلى : للسباع والهوام. والوسطى للدواب والأنعام. والعليا : للإنس (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي وقت عذابنا عقب تمام الفلك (وَفارَ التَّنُّورُ) لآدم عليه‌السلام عند طلوع الفجر وكان في موضع مسجد الكوفة عن يمين الداخل من باب كندة اليوم. وقيل : كان في عين وردة من الشام (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فأدخل في الفلك من كل حيوان حضر في هذا الوقت فردين مزدوجين ذكرا وأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان.


وقرأ حفص بتنوين «كل» فـ «زوجين» مفعول به واثنين تأكيد أي من كل نوع. وقرأ الباقون بغير تنوين فـ «اثنين» مفعول به (وَأَهْلَكَ) أي وأدخل في الفلك أهل بيتك من زوجك وأولادك. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي الوعد الأزلي من الله تعالى بالإهلاك ، وهو ولده كنعان وأم كنعان فهي كافرة. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالدعاء لإنجائهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢٧) أي أنهم محكوم عليهم بالغرق وبالطوفان (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ) أي ركبت (وَمَنْ مَعَكَ) من المؤمنين والدواب وغيرها (عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٨) ومن الغرق بالالتجاء إلى السفينة. (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي مكان نزول فيه خير كثير ، وهو نفس السفينة ، لأن من ركبها خلصته من الغرق.

وقرأ أبو بكر «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. والباقون بضم الميم وفتح الزاي (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩) في الدنيا والآخرة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في قصة نوح وقومه (لَآياتٍ) جليلة. فإن اظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلّا القادر على كل المقدورات ، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه‌السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين من أعظم أنواع العبر في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر ، (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠) أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم مختبرين به عبادنا فيما بعد للنظر من يتذكر ، (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكهم (قَرْناً آخَرِينَ) (٣١) هم عاد. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود عليه‌السلام. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وقلنا لهم على لسان الرسول : اعبدوا الله وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣٢) عذابه (وَقالَ الْمَلَأُ) أي الرؤساء (مِنْ قَوْمِهِ) أي الرسول (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب ، (وَأَتْرَفْناهُمْ) أي نعمناهم بالأموال والأولاد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يخاطبون أتباعهم مضلين لهم : ما هذا أي الرسول (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصفات والأحوال ، (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (٣٣) فكيف يكون رسولا (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) أي إن امتثلتم آدميا مثلكم في الخلق والحال بأوامره ، (إِنَّكُمْ إِذاً) أي إن أطعتموه (لَخاسِرُونَ) (٣٤) أي مغلوبون في عقولكم جاهلون. (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً) أي وصارت أجسامكم ترابا (وَعِظاماً) نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣٥) من القبور أحياء كما كنتم (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٣٦) أي بعد حصول ما توعدون من خروجكم من القبور فلا يقع هذا. (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة إلا حياتنا في الدنيا (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧) بعد الموت (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي ما مدعي الرسالة إلا رجل تعمّد على الله كذبا فيما يدّعيه من إرساله ، وفيما يعدنا من أن الله يبعثنا (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (٣٨) أي بمصدقين فيما يقوله من البعث بعد الموت ومن دعوى الرسالة. (قالَ) أي هود بعد يأسه من إيمانهم : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما


كَذَّبُونِ) (٣٩) أي انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي. (قالَ) تعالى عدة بالقبول (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) (٤٠) أي بعد زمان قليل ليصيرن نادمين على التكذيب ، وذلك عند معاينتهم للعذاب (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) أي دمرهم الله تعالى بالصيحة العظيمة وبالريح العقيم ، بالعدل من الله تعالى وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار بأهله إليها ، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فجعلناهم بعد موتهم مثل ورق يابس يحمله السيل في عدم المبالاة بهم. (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤١) «فبعدا» مصدر منصوب بفعل لا يستعمل إظهاره لأنه بمعنى الدعاء عليهم ، و «للقوم» متعلق بمحذوف واللام للبيان. فالله تعالى ذكر ذلك على وجه الإهانة لهم وهو التبعيد من الخير. وقد نزل بهم العذاب دالا على ذلك مع أن الذي ينزل بهم في الآخرة من العذاب أعظم مما نزل بهم ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم. والمعنى أهلكوا وخابوا من رحمة الله تعالى دنيا وأخرى. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد هلاكهم (قُرُوناً آخَرِينَ) (٤٢) هم قوم صالح ، ولوط ، وشعيب ، ويونس ، وأيوب. فالله تعالى ما أخلى الأرض من مكلفين بل أوجدهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٤٣) فلا نهلك أمة قبل مجيء أجلها ، ولا يستأخرون عنه بساعة. فالله تعالى عالم الأشياء قبل كونها ، فلا توجد إلا على وفق العلم والمقتول ميت بأجله ، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص. (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي أرسلنا إلى كل قرن من القرون رسولا خاصا به (تَتْرا) أي واحدا بعد واحد بينهما زمان طويل.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو هريرة وهي قراءة الشافعي «تترى» بالتنوين ، فألفه للإلحاق بجعفر ، فـ «لما» نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين ، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة ، والتاء بدل من الواو ، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالا أي متواترة أي متتابعة فرادى. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي بالهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا ، فيعتبر منهم أهل السعادة ويتغافل منهم أهل الشقاوة. (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (٤٤) أي بعدوا من رحمة الله تعالى بعدا ، إذ لم يؤمنوا ولم يعتبروا منهم. (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) التسع ، (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٤٥) أي حجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أشراف قومه ، (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد لهما (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) (٤٦) في أمور الدنيا ، قاهرين بني إسرائيل بالظلم (فَقالُوا) فيما بينهم بطريق المناصحة (أَنُؤْمِنُ) أي أننقاد (لِبَشَرَيْنِ) موسى وهارون (مِثْلِنا) في البشرية (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٤٧) أي والحال أن قومهما بني إسرائيل


خاضعون لنا خادمون كالعبيد لنا ، (فَكَذَّبُوهُما) بالرسالة (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (٤٨) أي فصاروا من المغرقين في بحر القلزم (وَلَقَدْ آتَيْنا) بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٤٩) أي لكي يهتدوا إلى الطريق الحق بالعمل بما فيها من الأحكام ، (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى (وَأُمَّهُ آيَةً) دالة على عظيم قدرتنا بولادته من غير مسيس بشر ، ونطقه في الصغر (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أي أسكناهما في أرض مرتفعة. فقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس فهو أقرب بقاع الأرض إلى السماء ، ويزيد على غيره في الارتفاع ثمانية عشر ميلا. وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق وعليه الأكثرون.

وقرأ ابن عامر ، وعاصم بفتح الراء. والباقون بالضم (ذاتِ قَرارٍ) أي مستوية مبسوطة ذات نعيم (وَمَعِينٍ) (٥٠) أي ماء ظاهر جار على وجه الأرض. (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) نودي بهذا المعنى كل رسول في زمانه ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل وأمروا به حقيق أن يعمل به. والمعنى نخبرك يا محمد أنّا أمرنا الرسل المتقدمين وقلنا لهم إلخ ، دالا على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات ، أي وقلنا لكل رسول : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلالات سواء كانت مستلذة أو لا ، (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي عملا صالحا من فرض ونفل. والأكل إذا كان بأمر الشرع لا بأمر الطبع يكون من نتائجه الأعمال الصالحة ، (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والباطنة (عَلِيمٌ) (٥١) فأجازيكم عليه. وهذا تحذير لهم من الله تعالى من مخالفة ما أمرهم به ، وإذا كان هذا تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذير الغير هم أولى (وَإِنَّ هذِهِ) أي العقائد (أُمَّتُكُمْ) أي دينكم أيها المخاطبون (أُمَّةً واحِدَةً) أي دينا واحدا ، والاختلاف في الشرائع لا يسمى اختلافا في الدين.

وقرأ الكوفيون بكسر همزة «إن» على الاستئناف الداخل فيما خوطب به الرسل والباقون بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن ، وقيل : «العطف على «ما» ، أي إني عليم بأن هذه أمتكم. وقرأ ابن عامر «وإن» بإسكان النون ، فاسمها ضمير الشأن و «هذه» مبتدأ ، و «أمتكم» خبر و «أمة» حال لازمة (وَأَنَا رَبُّكُمْ) من غير أن يكون لي شريك في الربوبية (فَاتَّقُونِ) (٥٢) أي فأطيعوني ، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي فجعل أتباع الأنبياء أمر دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة وأديانا مختلفة بينهم فـ «زبرا» جمع زبرة بمعنى قطعة كغرفة وغرف ، فهو حال من «أمرهم» ، أو من واوا «تقطعوا». (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٥٣) أي كل فريق منهم معجبون بما اتخذوه دينا فيرى كل منهم أنه المحق الرابح ، وأن غيره المبطل الخاسر (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٥٤) أي اترك يا أشرف الخلق كفار مكة في جهلهم إلى موتهم على الكفر أو إلى مجيء عذابهم بالقتل وغيره. (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي أيظنون أن الذي نعطيهم إياه من المال والبنين نسارع به لهم في إكرامهم ليكونوا فارغي البال من غير اشتغال بالتكاليف. (بَلْ


لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) حتى يتفكروا في ذلك الإمداد أهو استدراج أم مسارعة في الخير أي فهم أشباه البهائم لا فطنة لهم. (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٥٧) أي إن الذين هم من خوف عذاب ربهم حذرون من أسباب العذاب دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزلة (يُؤْمِنُونَ) (٥٨) أي يصدقون بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (٥٩) بأن يكون العبد مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لطلب رضوان الله تعالى ومن الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول ، والفرح بمدحهم ، والانكسار بذمهم ، وقصور النظر في المسار والمضار على الأسباب عند انقطاع النظر عن المسبب ، الذي هو الله تعالى كنظر حصول الشفاء من الدواء والشبع من الطعام ، وليس المراد من عدم الإشراك هنا نفي الشريك لله تعالى ، لأن ذلك داخل في ما تقدم (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي والذين يعطون ما أعطوه من الصدقات ، والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦٠). وقرأت عائشة وابن عباس ، والحسن ، والأعمش «يأتون ما أتوا» من الإتيان ، أي ويفعلون ما فعلوه من الطاعات ، والحال أن قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم فلا يقبل منهم ذلك ، ولا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ. وهذا مناط الوجل.

وقرأ الأعمش «إنهم» بكسر الهمزة على الاستئناف (أُولئِكَ) أي أهل هذه الصفات الأربعة (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها) أي يناولون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦١) أي هم فاعلون السبق لأجل الخيرات أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها وتفيد معنى الثبوت بعد ما تفيد معنى التجدد وقوله أولئك خبر عن أن الذين إلخ وقرئ يسرعون في الخيرات (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في طاقتها أي فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أي يظهر المطابق للواقع ، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم فلا يضيع لعامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٢) في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عقاب (بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي الكفرة (فِي غَمْرَةٍ) أي غفلة (مِنْ هذا) الذي بيناه في القرآن من أن لدينا ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها ، (وَلَهُمْ) أي الكفار (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي أعمال سيئة غير كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر ، وهي فنون معاصيهم كطعنهم في القرآن وإقامة إمائهم في الزنا (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٦٣) هم مستمرون على أعمال سيئة (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي أكابرهم الذين أمدهم الله تعالى بالمال والبنين (بِالْعَذابِ) أي الأخروي (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) (٦٤) أي يرتفع صوتهم


بالاستغاثة في كشف العذاب عنهم لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي لا تلتجئوا اليوم إلينا (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٦٥) أي لأنه لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما نزل بكم (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) (٦٦) أي فكنتم تعرضون عن تلك الآيات ، وتنفرون عمن يتلوها وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد.

وقرأ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه على أدباركم بدل على أعقابكم (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً) فالجار والمجرور متعلق بقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ) والباء سببية ، والضمير يعود إلى الحرم أي متعظمين بالحرم أو متعلق بـ «سامرا» والباء بمعنى في ، والضمير يعود إلى البيت الحرام أي ساهرين في الليل المظلم يتحدثون حول البيت العتيق والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت ، ويجوز أن يكون متعلقا بـ «تهجرون» والضمير يعود إلى القرآن (تَهْجُرُونَ) (٦٧).

قرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم ، أي تسبون القرآن وتسمونه سحرا وشعرا. والباقون بفتح التاء وضم الجيم أي تتركون القرآن ، وتعرضون عنه وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون ، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن والطعن فيه وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وكانوا يقولون : لا يعلو علينا أحد لأنا أهل الحرم وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ) وقوله : (سامِراً) وقوله : (تَهْجُرُونَ) أحوال من الواو في «تنكصون» ، أو في كل واحدة حال من ضمير ما قبلها و «سامرا» ، اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب فالكل يطلق على الجمع (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار ، والهجر ، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم والإخبار بالغيب أنه الحق من ربهم ، بل أجاءهم من الكتاب وبعثة الرسل ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه‌السلام وأعقابه من عدنان وقحطان ، ومضر ، وربيعة ، وقس ، والحرث بن كعب ، وأسد بن خزيمة ، وتميم بن مرة ، وتبع وضبة بن أد فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله. فإن مجيء الكتب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى ، وإن مجيء القرآن على طريقته ، فمن أين ينكرونه! بل ألم يعرفوا رسولهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمانة والصدق ، وحسن الأخلاق ، وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩) أي فهم جاحدون برسالة رسولهم ، أي أنهم عرفوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ادعاء الرسالة كونه في غاية الفرار من الكذب ، فكيف كذبوه بعد اتفاق كلمتهم على تسميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمين (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي بل أيقولون في رسولهم جنون ويقولون : إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه ، مع أنه أرجح الناس عقلا وأوفرهم رزانة (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي جاءهم رسولهم


عليه الصلاة والسلام بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا ، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِ) أي أيّ حق كان (كارِهُونَ) (٧٠) من حيث تمسكوا بالتقليد ، ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزالت مناصبهم واختلت رئاساتهم ، فلذلك كرهوه وكان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لعدم فكرته لا لكراهة الحق. (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي ولو كان الحق الذي كرهوه موافقا لأهوائهم الباطلة لخرجت السموات والأرض ومن فيهن عن الصلاح والانتظام بالكلية ، (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه شرفهم.

وقرأ أبو عمرو في رواية «آتيناهم» بمد الهمزة ، أي أعطيناهم فخرهم ، فالباء مزيدة في «بذكرهم» ، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمرو وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده وقرأ الجحدري وأبو رجاء آتيتهم بالتاء على خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث أي بوعظهم. وقرأ أبو قتادة «نذكرهم» بنون المتكلم مضارع «ذكر» مشدد الكاف ، وهي جملة حالية. (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي فخرهم وشرفهم (مُعْرِضُونَ) (٧١) ، وكان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبالألف والباقون بسكونها (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء. والباقون بفتحها وبالألف. أي أم تسألهم على هدايتهم قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء ربك خير فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل هذه التهمة البعيدة ، وهم غير معذورين ألبتة ، وهم محجوجون من جميع الوجوه ، فهذا توبيخ بوجه آخر كأنه قيل : أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ولا تسألهم ذلك ، فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٧٢) أي أفضل المعطين في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٣) تشهد العقول السليمة باستقامته (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والثواب والعقاب (عَنِ الصِّراطِ) أي عن جنس الصراط (لَناكِبُونَ) (٧٤) أي منحرفون فلا يطلق على ما ذهبوا إليه اسم الصراط لغاية ضلالهم (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٥) أي ولو كشفنا ما أصابهم من جمع وسائر مضار الدنيا لتمادوا في ضلالهم وهم متحيّرون عن الهدى لا يبصرون الحق ، وقد كان الأمر كذلك.

روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ، منع الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله تعالى بالسنين سبع سنين حتى أكلوا الجلود والجيف والعلهز (١) ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ، ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط ، فدعا ، فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية وذلك بسبب

__________________

(١) العلهز : بالكسر ، طعام من الدم والوبر ، كان يتخذ في المجاعة [القاموس المحيط ، مادة : العلهز].


دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) وهو ما ينالهم يوم بدر من القتل والأسر (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي فما خضعوا لربهم بالتوحيد (وَما يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦) أي فما يؤمنون ، أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع الذي هو أشد منهما ، فما رؤي منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء ، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه ، فجاء كما قيل : إذا جاء ضغا وإذا شبع طغى ، وأكثرهم مستمرون على ذلك (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) هو عذاب الآخرة (إِذا هُمْ فِيهِ) أي في ذلك العذاب (مُبْلِسُونَ) (٧٧) أي آيسون من كل خير (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وخصّ الله هذه الثلاثة بالذكر ، لأن الاستدلال موقوف عليها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧٨) أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة يا أهل مكة. (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٩) أي تجمعون يوم القيامة إلى موضع لا حاكم فيه سواه وجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وينقل من نعمة الحياة إلى دار الثواب والعقاب (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو المؤثر في تعاقبهما واختلافهما ازديادا وانتقاصا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٨٠) أي أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر أن الكل مناف أن قدرتنا تعم الممكنات التي من جملتها البعث بعد الموت (بَلْ قالُوا) أي فلم يعقل كفار مكة بل قالوا (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) (٨١) من قوم نوح ، وهود ، وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل. (قالُوا) مقلدين للأولين : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٨٢) بعد ذلك (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) أي البعث (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيء محمد أي لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا ، أي فلما لم يوجد البعث طول الزمان ظنوا أنه يكون في دار الدنيا ثم قالوا : (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي تقول يا محمد (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣) أي إلا أكاذيبهم التي كتبوها (قُلْ) يا أشرف الرسل لكفار مكة : (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٤) فأخبروني بخالقهم (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ) لهم بعد أن تجيبوا بما ذكر توبيخا لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٨٥) أي أتعلمون ذلك فلا تتذكرون أن من قدر على خلق الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادته ثانيا؟ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ) : إفهاما لهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) (٨٧) أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه حيث تكفرون به ، وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي من تحت قدرته ملك كل شيء من إنس وجن وغيرهما. (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يغيث غيره إذا شاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي لا يغاث أحد منه إذا أراد هلاكه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٨) ذلك فأجيبوني (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).


وقرأ أبو عمرو «سيقولون الله». في الأخيرتين من غير لام جر ، مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله : (من) لأن المسؤول به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا. والباقون «لله» باللام في الأخيرين ، وهو جواب على المعنى ، لأن التقدير في الموضع الأول منهما ، قل من له السموات السبع والعرش ، وفي الثاني : قل من له ملكوت كل شيء ، فـ «لام» الجر مقدرة في السؤال ، فظهرت في الجواب نظرا للمعنى. وأما جواب السؤال الأول لله باللام باتفاق السبعة ، لأنها قد صرح بها في السؤال. (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (٨٩) أي فمن أين تصرفون عن الرشد إلى الغي ، (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) الذي هو التوحيد والوعد بالبعث (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٩٠) في ادعاء الشرك وإنكار البعث (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لا من الملائكة ولا من غيرهم كما قال الكفار. (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشاركه في الألوهية كما يقوله الثنوية (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) فـ «إذا» بمعنى لو الامتناعية أي لو كان معه آلهة كما يقولون لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ، ولغلب بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده تعالى حينئذ ملكوت كل شيء ، وهو باطل لا يقول به عاقل قط (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) من إثبات الولد والشريك (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

وقرأ نافع وشعبة وحمزة والكسائي بالرفع خبر مبتدأ محذوف. والباقون بالجر بدل من الجلالة وهذا دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرّده تعالى بذلك كأنه قيل : الله عالم الغيب والشهادة وغيره لا يعلمهما ، فغيره ليس بإله (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢) فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتنزهه عن أن يكون له شريك وشبيه (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب الدنيوي المستأصل فلا تجعلني قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وأعيد لفظ الرب مبالغة في التضرع ، و «في» بمعنى مع. (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) من العذاب المستأصل (لَقادِرُونَ) (٩٥) ولكنا نؤخره للحكمة الداعية إلى التأخير وهذا يدل على صحة قدرته تعالى لا على خلاف علمه فإنه تعالى أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ، ثم لم يفعل ذلك لحكمة فصحة القدرة غير المعلوم والكافرون ينكرون التهديد بالعذاب ويضحكون به (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. قيل : هذه الآية محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين أو نقصان في المروءة ، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) (٩٦) أي بما يصفونك به على خلاف ما أنت عليه (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٩٧) أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) أي من أن يحوموا حولي في حال من الأحوال ، لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) وحتى متعلقة بيصفون


أي هي معمولة لمحذوف يدل عليه ذلك ، أي يستمر كفار مكة على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحدهم وظهرت له أحوال الآخرة قال : رب ، ردني إلى الدنيا لكي أعمل صالحا فيما قصرت في الإيمان ، وفي العبادات البدنية والمالية والحقوق ، وقوله : (ارْجِعُونِ) خطاب لله ، وجمع الضمير تعظيما لله أو لتكرير قوله : «ارجعني» كأنه قال ارجعني ، ارجعني ، ارجعني ثلاث مرات كما قالوا في قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] أنه بمعنى ألق ، ألق ، فثني الفعل للدلالة على ذلك. وقوله : (رَبِ) منادى. وقيل : الخطاب للملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة ، ورب للقسم ، فكأنه عند معاينة مقعده من النار وملك الموت وأعوانه قال : بحق الرب ارجعون إلى الدنيا لكي أصلح ما أفسدت ، وأطيع في كل ما عصيت ، ومكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيما خلفت من المال كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعند ذلك يقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» (١). أي لكي أصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى فيما تركت التركة. (كَلَّا) أي لا يرد إلى الدنيا. وهذا كالجواب لهم في المنع مما طلبوا.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي‌الله‌عنها : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا. فيقول : إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوما على الله تعالى. وأما الكافر فيقال له : نرجعك فيقول : ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب ، إلى جمع المال ، أو غرس الغراس ، أو بناء البنيان ، أو شق الأنهار؟ فيقول : لعلي أعمل صالحا فيما تركت. فيقول الجبار كلا» (٢). (إِنَّها) أي قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) إلى آخره (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لا محالة لتسلط الحسرة عليه ، ولكنها لا تفيده. (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي أمامهم (بَرْزَخٌ) أي حائل مانع لهم عن الرجوع إلى الدنيا ، وهو مدة بين الموت والبعث وذلك قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠) من قبورهم (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فلا يتفاخرون بأنسابهم ، ويتراحمون بها في ذلك اليوم (وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١) عنها لاشتغال كل منهم بنفسه.

قال ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد إلا أن هذا فلان ، فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها ، أو أبيها ، أو أخيها ، أو ابنها ، أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. وعن قتادة : لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يراه من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء.

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٤٠٤).

(٢) رواه أحمد في (م ١ / ص ٣٤).


والصور : آلة ينفخ فيه. وقال الحسن : الصور مجموع الصورة وكان يقرأ بفتح الواو. وقرأ أبو رزين بفتح الواو وكسر الصاد. والمعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها فلا قرابة تنفعهم لزوال التعاطف من فرط الحيرة. وأما قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الطور : ٢٥] فبعد ذلك. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي فمن كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها قدر عند الله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٢) أي الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مرهوب (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي ومن لم يكن له قدر عنده تعالى من العقائد والأعمال وهم الكفار (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن صارت منازلهم من الجنان للمؤمنين (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (١٠٣) بدل من الصلة (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تضربها وتأكل لحومها وتحرق جلودها (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤) أي متقلصو الشفتين عن الأسنان من شدة الاحتراق ويقال لهم : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) في الدنيا تبين لكم بالدلائل الواضحة كيفية سلوك الطريق الحق (فَكُنْتُمْ بِها) أي بآياتي (تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) فصرتم مستحقين للعذاب الأليم؟ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) بسوء اختيارنا. وفي قراءة سبعية «شقاوتنا» بفتح الشين.

وقرأ قتادة بالكسر (وَكُنَّا) بسبب ذلك (قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦) عن الحق (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧) أي يا ربنا أخرجنا من النار ومن هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون على أنفسنا. (قالَ) الله لهم بلسان مالك : (اخْسَؤُا فِيها) أي ذلوا في النار (وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) بطلب الإخراج من النار وهذا آخر كلامهم في النار فلا يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير ، والشهيق ، والنباح كنباح الكلاب.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا ، فيجابون : حق القول مني. فينادون ألف سنة ثانية : ربنا أمتنا اثنتين ، وأحييتنا اثنتين فيجابون : ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم. فينادون ألف ثالثة : يا مالك ليقض علينا ربك. فيجابون : إنكم ماكثون. فينادون ألفا رابعة : ربنا أخرجنا منها. فيجابون : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟ فينادون ألفا خامسة : أخرجنا نعمل صالحا. فيجابون : أولم نعمركم؟ فينادون ألفا سادسة : رب ارجعون. فيجابون اخسئوا فيها (إِنَّهُ) أي الشأن. وقرأ أبيّ بفتح الهمزة أي «لأنه» ، (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ) في الدنيا (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١٠٩) أي أنت أرحم علينا من الوالدين (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا). وقرأ نافع وأهل المدنية ، وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي ص.

وقال الخليل وسيبويه. هما لغتان. وقال الكسائي والفراء : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى السخرية والعبودية (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي طاعتي (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ


تَضْحَكُونَ) (١١٠) وذلك غاية الاستهزاء. والمعنى : اسكتوا عن الدعاء بقولكم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) ألخ لأنكم كنتم تستهزءون بالداعين بقولهم : (رَبَّنا آمَنَّا) ألخ وتتشاغلون باستهزائهم حتى أنساكم الاستهزاء بهم عن توحيدي وطاعتي.

قال مقاتل : إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلق كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويضحكون بالفقراء منهم مثل : بلال ، وخباب ، وعمار ، وصهيب. (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١).

وقرأ حمزة والكسائي «إنهم» بكسر الهمزة تعليل للجزاء. والباقون بالفتح ثاني مفعولي «جزيت» فمعنى الأول : فإنهم قد فازوا بسبب صبرهم على أذيتكم إياهم فجوزوا أحسن الجزاء. ومعنى الثاني : إنهم انتفعوا بأذيتكم إياهم بسبب صبرهم على أذيتكم فإني جزيتهم اليوم بفوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. (قالَ) أي الله لهم بلسان مالك توبيخا (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي في الدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها (عَدَدَ سِنِينَ) (١١٢) تمييز لكم. والغرض من هذا السؤال : التبكيت ، لأنهم كانوا لا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ، ولا إعادة ، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم مخلدون فيها سألهم الله كم لبثتم في الأرض فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل تذكيرا لهم بأن الذي ظنوه طويلا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه ، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) يشكون في ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (١١٣) أي الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات ، أو الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتهم ، فإنا قد نسيناه. وقرئ «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة ، رؤساءنا الذين أضلونا. وقرئ «العاديين» أي القدماء المعمرين. (قالَ) الله لهم بلسان مالك : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤) أي ما لبثتم في الدنيا إلا زمانا قليلا لو علمتم البعث فإن الدنيا قليل أيامها في مقابلة أيام الآخرة ، ولكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدون الدنيا طويلا ، ولو علمتم أن لبثكم في الآخرة لا نهاية له لأصلحتم أعمالكم في الدنيا ، ولتقربتم بها إلى الله تعالى.

وقرأ الأخوان «قل كم لبثتم؟» «قل : إن لبثتم» بالأمر في الموضعين خطاب للملك وابن كثير كالأخوين في الموضع الأول فقط. والباقون قال بالماضي في الموضعين : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي ألم تعلموا يا أهل مكة شيئا فحسبتم إنما خلقناكم لأجل العبث ، بل لحكمة بالغة فخلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم ، فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحة حتى أنكرتم البعث (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) فلو لا القيامة لما تميّز المطيع من العاصي ، والصديق من الزنديق. فخلقكم بغير بعث من نوع العبث ، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم.


وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم. (فَتَعالَى اللهُ) أي تبرأ الله عن العبث وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة (الْمَلِكُ) أي المتصرف في كل شيء (الْحَقُ) أي الثابت الذي لا يزول ملكه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإن كل ما عداه عبيده. (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦) أي مالك السرير الحسن.

وقرئ «الكريم» بالرفع صفة لـ «رب» أي الجامع لصفات الكمال. (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وقوله : (لا بُرْهانَ) صفة لازمة لـ «ألها». وقوله : (فَإِنَّما) جواب الشرط. أي ومن يعبد إلها آخر لا حجة له بعبادته ، فهو تعالى مجاز له في الآخرة بقدر ما يستحقه ويبلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (١١٧) والجمهور على كسر همزة أنه على الاستئناف المفيد للعلة.

وقرأ الحسن وقتادة بفتح الهمزة فيكون خبر حسابه ، المعنى : حسابه في الآخرة عدم الفلاح. (وَقُلْ) يا أكرم الرسل : (رَبِّ اغْفِرْ) أي تجاوز عني وعن أمتي ، (وَارْحَمْ) أمتي فلا تعذبهم (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨) أي أرحم الراحمين.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] حتى ختم العشر»(١). وروي : «أن أول سورة (قَدْ أَفْلَحَ) وآخرها : من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح».

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الطلاق ، باب : ما جاء في الخلع.


سورة النور

مدنية ، أربع وستون آية ، ألف وثلاثمائة وست عشرة

كلمة ، خمسة آلاف وتسعمائة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سُورَةٌ) قرأ العامة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه الآيات الآتي ذكرها سورة. وقرأ الحسن بن عبد العزيز ، وعيسى الثقفي ، وعيسى الكوفي ، ومجاهد ، وأبو حيوة بالنصب بفعل يفسره ما بعده ، أو بفعل آخر نحو «اقرءوا» أو «اتبعوا». (أَنْزَلْناها) أي أعطيناها الرسول (وَفَرَضْناها) أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة المفروض عليهم (وَأَنْزَلْنا فِيها) أي في أثناء السورة (آياتٍ) نيطت بها الأحكام المفروضة. (بَيِّناتٍ) أي واضحة دلالتها على أحكامها كبراءة الصدّيقة ابنة الصدّيق (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) أي تتذكرونها فتعلمونها.

وقرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي بتخفيف الذال وحذف ، احدى التاءين. والباقون بالتشديد. (الزَّانِيَةُ) أي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه ، (وَالزَّانِي) وهما بكران (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي ضربة. وجملة «فاجلدوا» خبر المبتدأ ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، إذ اللام بمعنى الموصول والتقدير. التي زنا والذي زنى وقرأ عيسى الثقفي ، ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد ، وأبو جعفر وأبو شيبة بنصب الاسمين على إضمار فعل يفسره الظاهر.

وقرئ «والزان» بلا ياء (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) أي رحمة (فِي دِينِ اللهِ) أي في طاعة الله وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوه. وقرأ العامة «رأفة» هنا ، وفي الحديد بسكون الهمزة ، وابن كثير بفتحها. وقرأ ابن جرير كما روي عن ابن كثير وعاصم بمد الهمزة على وزن سحابة. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفي الحديث : «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطا فيقول : رحمة لعبادك : فيقال له : أنت أرحم مني؟ فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار». وعن أبي هريرة : إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢). ي وليحضر ندبا حدّهما ؛ جمع يحصل به التشهير والزجر. وعن ابن عباس هم أربعة رجلا من المصدقين بالله تعالى (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً


وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) وهذا كما قال القفال : المراد منه الأعم الأغلب وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من عادته الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقه ، أو في مشركة والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال ، وإنما يرغب فيها الفسقة والمشركون بهذا على الأعم إلا غلب كما يقال : لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي ، فكذا هاهنا ، (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣) أي إن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين أي الحصر المذكور وهو ان الزاني لا يرغب الا في الزانية محرم عليهم ، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية.

قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ، ليس لهم أموال ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ، ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار ليعرف أنها زانية وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين. وقالوا : نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فتقدير الآية : أولئك الزناة لا ينكحون الا تلك الزواني ، وتلك الزواني لا ينكحهن إلا أولئك الزناة. وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين ، فالألف واللام في قوله : (الزَّانِي) وفي قوله : (الْمُؤْمِنِينَ) وإن كانت للعموم ظاهرا لكنه هاهنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت في حقهم هذه الآية. ودليل جواز نكاح الزانية ما روي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس. قال : «طلقها». قال : فإني أحبها وهي جميلة. قال : «استمتع بها» (١) ، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي يقذفون الحرائر المسلمات المكلفات العفائف بالزنا (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا) إلى الحكام (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ذكور يشهدون على صحة ما رموهن به (فَاجْلِدُوهُمْ) أيها الحكام (ثَمانِينَ جَلْدَةً) لظهور كذبهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) أي لا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي (أَبَداً) أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا ، لأن رد الشهادة منهم تتمة للحد لما فيه من معنى الزجر ، لأنه مؤلم للقلب كما ان الجلد مؤلم للبدن ، فإن القاذف قد آذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه وفائدة قوله تعالى لهم تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي ، وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام ، لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل عن أهلية حدثت له بعد إسلامه فلا يتناولها الرد (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤) أي المحكوم عليهم بالفسق (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد اقترافهم ذلك

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب : في اللعان ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٣٨).


الذنب العظيم (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم بعد التوبة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) فحينئذ لا ينظمهم في سلك الفاسقين ، ومحل المستثنى نصب ، لأنه من مثبت وهو راجع إلى الفسق فقط كما قال أبو حنيفة : إن الفاسق لا تقبل شهادته وإن تاب أو هذا الاستثناء راجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق كما هو مذهب مالك والشافعي ، وكما يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وجمع من الصحابة ، فمحل المستثنى حينئذ الجر على البدلية من الضمير في «لهم» ، فعند الشافعي : أن التائب تقبل شهادته ويزول فسقه ، ومعنى الأبد عنده مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة. قال الشافعي : التوبة من القذف إكذابه نفسه ، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة ، وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ، ثم قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لا يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع وتابا وكان عمر يقبل شهادتهما ، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته ، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة ، واتفق الأئمة الأربعة على عدم رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ) فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بدل من شهداء أو صفة لها على أن الا بمعنى غير ، أو وجدت البينة ولكن لم يريدوا إظهارها (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٦).

وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع أربع خبر لشهادة وبالله متعلق بشهادات ، والباقون بنصب «أربع» على أنه مفعول مطلق والعامل فيه شهادة وهو خبر لمبتدأ محذوف ، أي فالواجب شهادة ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة كل واحد منهم واجبة (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧) فيما رماها به من الزنا.

وقرأ نافع بسكون نون «أن» ، ورفع لعنة. والباقون بتشديد النون ونصب «لعنة» وهو خبر ، و «الخامسة» أو بدل منها أو على تقدير حرف الجر أي بأن لعنة الله ، ويجوز أن تكون الخامسة معطوفا على المبتدأ ، فالخبر المحذوف خبر عن المعطوف والمعطوف عليه وجملة و «الخامسة أن لعنة الله» إلخ معترضة بين المبتدأ وخبره المحذوف. وقرئ و «الخامسة» بالنصب على معنى : ويشهد الخامسة كما قاله الرازي : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي يدفع عن المقذوفة حد الزنا الذي ثبت بيمين القاذف (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (٨) فيما رماها به من الزنا (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) أي زوجها (مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩) فيما قال عليها. وقرأ حفص و «الخامسة» بالنصب ، أي وتشهد الشهادة الخامسة وما بعدها بدل منها أو على تقدير حرف الجر والباقون بالرفع وما بعدها خبرها.

وقرأ نافع «أن» بالسكون و «غضب الله» بكسر الضاد ، وضم الجلالة على أنه فعل وفاعل ، والباقون بتشديد «أن» ، وقرئ غضب بالرفع مع تخفيف «أن».

روي أن هلال بن أمية قذف امرأته بالزنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إما


البينة وإما إقامة الحد عليك». فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم حتى بلغ إن كان من الصادقين فلما سرى عنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا». قال : قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوها» فدعيت ، فكذبت هلال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» وأمر بالملاعنة ، فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الخامسة : «اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد الخامسة ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتشهدين؟» فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها : «اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة» ، فتفكرت ساعة وهمّت بالاعتراف ، ثم قالت : «والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ثم قال : «انظروها فإن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين ، فهو لهلال وإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» (١) ، فجاءت به كذلك (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠) لكان ما كان أي لو لم يشرع الله لهم اللعان لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر أنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضيحة ، ولأنه أعرف بحال زوجته ، وإنما أوجب الله لهم أربعة شهداء للستر على من اقترف الكبائر وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل أيمانه موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها ، ولو جعل أيمانها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له فجعل أيمان كل منهما دارئة للغائلة الدنيوية مع كذب أحدهما حتما ، وفي ذلك آثار التفضل والرحمة ، أما على الصادق فظاهر ، وأما على الكاذب فهو إمهاله في الدنيا بدرء الحد عنه لعله يتوب في الدنيا فغفر له. وكما ستر الله عليهم في الدنيا ولم يفضحهم بإظهار صدقهم وكذبهم وأجلهم بالعقوبة إلى الآخرة لدرك التوبة في الدنيا ، كذلك جعل سنة اللعان باقية بين المسلمين لتكون الحكمة باقية بينهم سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته ، (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بأبلغ الكذب (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة من المؤمنين ؛ وهم زيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وعباد بن المطلب ، وحمنة بنت جحش ، وهي زوجة طلحة بن عبيد الله. و «عصبة» خبر «إن» وهي من العشرة إلى الأربعين (لا تَحْسَبُوهُ) الإفك (شَرًّا لَكُمْ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم ، فإن قصة الإفك كانت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي حق عائشة وأبويها ، وفي حق جميع الصحابة امتحانا لهم

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٣٦٩).


وتهذيبا فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أشد الناس بلاء : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبتلى الرجل على قدر دينه» (٢). أي وذلك لأن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه ، ويرده إلى حضرته ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل له : أيّ الناس أحب إليك؟ قال : «عائشة» فساكنها (٣) وقال : «يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة» وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك اه. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك حتى رد الله رسوله عن عائشة إلى الله تعالى بانحلال عقدة حبها عن قلبه ، ورد عائشة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الله تعالى حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها : بحمد الله لا بحمدك.

وقصة الإفك : إن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه ، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق ، فخرج فيها اسمي ، فخرجت معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد نزول آية الحجاب ، فحملت في هودج ، فسرنا حتى إذا رجعنا وقربنا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت والتمسته ، وحبسني طلبه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فحملوا هودجي ، فظنوا أني في الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي فلما رجعت لم أجد في المكان أحدا فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني ، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت ، وجهي بجلبابي وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، فنزل حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها ، فركبتها ، ثم قاد البعير حتى أتينا الجيش فتفقّدني الناس حين نزلوا وماجوا في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليها فخاض الناس في حديثي ، والذي بدأ بالإفك وأذاعه بين الناس عبد الله بن أبيّ فقدمنا المدينة ، فلحقني وجع ولم أر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ، ثم يقول : «كيف تيكم؟» ثم ينصرف فلا أشعر بما جرى من الإفك حتى نقهت ، فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح جهة المناصع ، وكان متبرزنا ثم أقبلت أنا وهي قبل بيتي فعثرت ، أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! فقالت : أو ما بلغك الخبر؟ فقلت :

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٨٠).

(٢) رواه أحمد في (م ٦ / ص ١٠٣ ، ١٩٧) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٤٣٥٨) ، والطبري في التفسير (٨ : ٧٣).

(٣) رواه ابن حبيب في مسند الربيع (١ : ٦) ، بما معناه.


وما هو؟ فقالت : أشهد أنك من المؤمنات الغافلات ، ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي ، ثم دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال : «كيف تيكم؟» فقلت له : ائذن لي أن آتي أبوي ، فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي : يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فو الله ما كانت امرأة وصيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، ثم قالت : ألم تكوني علمت ما قيل فيك حتى الآن ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي : ما يبكيها قالت : لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن. فأقبل يبكي ، ثم قال : اسكتي يا بنية فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلم ، ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل ، ثم قال : «أما بعد ، يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت برئية فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه». قالت : فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته فاض دمعي ، ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله. فقال : والله ما أدري ما أقول ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله فقالت : والله ما أدري ما أقول فقلت والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني ، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني ، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، ثم تحولت واضطجعت على فراشي ، والله أنا أعلم أن الله يبرئني ، وكنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت : فو الله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه ، فو الله ما سرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس. فلما سرى عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها ، أن قال : «أبشري يا عائشة قد برأك الله» (١) فقلت بحمد الله لا بحمدك ، ولا بحمد أصحابك. فقالت : أمي قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحدا إلا الله الذي أنزل براءتي قالت : ولما نزل عذري قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل ضرب الحد على عبد الله بن أبي ومسطح ، وحمنة ، وحسان (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي على كل امرئ من أولئك العصبة (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاؤه فقدر العقاب يكون مثل قدر الخوض في الإثم ، وصار حسان أعمى أشل اليدين في آخر عمره ، ومسطح بن أثاثة وابن خالة أبي بكر الصديق ، مكفوف البصر وجلدت معهما امرأة من قريش (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) أي الذي تحمل أكثر الإفك من

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب النكاح ، باب : فيما يؤمر به من غضّ البصرة وأحمد في (م ٥ / ص ٣٥٣ ، ٣٥٧).


أولئك العصبة فابتدأ به ورغب في إشاعته وهو عبد الله بن أبي (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١) في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالحد ، وبالطرد ، وبأنه مشهور عليه بالنفاق (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١٢) أي هلا ظننتم بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم خيرا حين سمعتم الإفك ، ولم لم تقولوا حينئذ هذا إفك ظاهر؟ فكيف بالصدّيقة ابنة الصدّيق ، أم المؤمنين ، حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! كما روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوءا قال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعائشة خير مني وصفوان خير منك (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا أتوا على ما قالوا بأربعة شهداء عاينوا الزنا (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك الخائضون في حكمه تعالى ، هم الكاملون في الكذب (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤) أي ولولا فضل الله عليكم أيها السامعون والمستمعون ورحمته في الدنيا بالإمهال للتوبة ، وفي الآخرة بالمغفرة بعد التوبة لأصابكم عاجلا بسبب حديث الإفك الذي خضتم فيه عذاب عظيم. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي وقت أخذكم حديث الإفك من المخترعين حتى اشتهر بسبب إفاضتكم (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي تقولون بأفواهكم كلاما ليس تفسيرا عن علم في قلوبكم. (وَتَحْسَبُونَهُ) أي حديث الإفك (هَيِّناً) أي ذنبا صغيرا أو لا إثم فيه حيث سكتم عن إنكاره ، (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) أي والحال أن حديث الإفك عنده تعالى (عَظِيمٌ) (١٥) في الوزر واستجرار العذاب (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) أي وهلا قلتم تكذيبا للمخترعين والمشيعين حين سمعتم حديث الإفك ما يليق لنا أن نتكلم بهذا القول ، وأن يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه (سُبْحانَكَ) أي أتعجب ممن تفوه بهذا الكلام فإنه أمر عظيم وأنزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة ، (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦) أي كذب عظيم عند الله تعالى لعظمة المتقول عليه ولاستحالة صدق هذا القول (يَعِظُكُمُ اللهُ) بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظم هذا الذنب ، كراهة (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي مدة حياتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧) فإن الإيمان وازع عنه. (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي لأجلكم الآيات الدالة على محاسن الآداب دلالة واضحة لتتأدبوا بها ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع أحوال عباده ، (حَكِيمٌ) (١٨) في جميع تدابيره وأفعاله. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الذين يريدون انتشار الخصلة المفرطة في القبح فيما بين الناس ، فالجار متعلق بتشيع أو متعلق بمضمر هو حال من الفاحشة ، أي إن العصبة الذين يقصدون شيوع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين عائشة وصفوان. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) من الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين. ولقد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبيّ ، فظهر كفره بعد أن كتمه ، وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسانا ومسطحا حد القذف ، وقعد صفوان


لحسان ، فضربه ضربة بالسيف فكف بصره. (وَالْآخِرَةِ) من عذاب القبر وعذاب النار ، ومما يعلمه الله تعالى ، فالحدود جوابر للذنب المحدود به ، كالقذف. وأما ذنب الأقدام فلا يكفره إلا التوبة وعذاب الآخرة لعبد الله بن أبيّ خاصة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) جميع الأمور ، ومن جملتها محبة ظهور الفاحشة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩) ما يعلمه الله تعالى ، لأن محبة القلب كامنة ، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن بالغ العبد في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم ذلك منه ، ويعلم قدر الجزاء منه ، أما نحن فلا نعلم محبة القلب إلا بالأمارات (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بكم (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢٠) لهلكتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفاحشة في المؤمنين (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن يتبع طرق تزيين الشيطان فقد فعل القبيح ، وما لا يعرف في شريعة ، ولا في سنة ، لأن عادته يأمر بهما. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب ، وبشرع الحدود المكفّرة لها ، (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب إلى آخر الدهر. فإن العصبة قد تابوا وطهروا غير عبد الله بن أبي فإنه استمر على الشقاوة حتى مات.

وقرأ يعقوب وابن محيصن «ما زكّى» بتشديد الكاف أي ما طهر الله تعالى أحدا من أولئك العصبة من تلك الذنوب أبدا (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهره من الذنوب بحمله على التوبة وبقبولها ، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما أظهروه من التوبة ، ولأقوالكم في القذف ، وفي إثبات البراءة لعائشة ، (عَلِيمٌ) (٢١) بإخلاصكم في التوبة وبمحبة إشاعة الفاحشة وبكراهيتها. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ولا يقصر أولو الفضل في الدين والسعة في المال في أن يحسنوا إليهم ـ كذا قاله أبو مسلم ، كما يروى عن أبي عبيدة ـ والمعنى عند أكثر المفسرين : ولا يحلف أولو الفضل منكم في الدين والبذل ، والغنى بالمال على أن لا ينفقوا عليهم وعلى أن لا يعطوهم. وقرأ الحسن «ولا يتأل» ، (وَلْيَعْفُوا) أي وليتجاوزوا عن الخائضين في الإفك بالظاهر ، (وَلْيَصْفَحُوا) أي ليعرضوا عن لومهم بالقلب بأن يتناسوا جرمهم. وقرئ الأفعال الثلاثة بتاء الخطاب. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢).

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح ـ وهو ابن خالته ـ وكان من فقراء المهاجرين وقد كان يتيما في حجره ، وكان ينفق عليه ، وأن لا ينفق على ذوي قرابته لما خاضوا في أمر عائشة ، فلما نزلت الآيات التي أبرأت عائشة من الإفك قال لهم أبو بكر : قوموا فلستم مني ولست منكم ، ولا يدخلن أحد منكم علي. فقال مسطح : ننشدك الله والإسلام والقرابة أن لا تحوجنا إلى أحد ، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب وإنما كنت أغشى


مجلس حسان ، وأسمع ولا أقول. فقال لمسطح : إن لم تتكلم فقد ضحكت وشاركت فيما قيل فقال : قد كان ذلك تعجبا من قول حسان ، فلم يقبل عذره وقال : انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون ، وأين يتوجهون من الأرض. وبعض الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي بكر ، وقرأ عليه الآية ، فلما وصل إلى قوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)» قال : بلى يا رب ، إني أحب أن تغفر لي ، فذهب أبو بكر إلى بيته ، وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال : قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين ، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم ، فرجع إلى مسطح نفقته ، وحلف أن لا ينزعها منه أبدا وألطف بقرابته وأحسن إليهم وهذا من أعظم أنواع المجاهدات ، فإن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة الكفار. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي العفائف من الفاحشة (الْغافِلاتِ) أي النقيات القلوب (الْمُؤْمِناتِ) أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا وهن أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢٣) وهو عذاب الكفر ، فإن كان القذفة مؤمنين فذلك الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين ، وهجرهم لهم ، وزوالهم عن رتبة العدالة ، وضرب الحد. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) فإن الله تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها ، (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة (يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يعطيهم الله جزاء عملهم المقطوع بحصوله لهم ، (وَيَعْلَمُونَ) عند معاينتهم الأهوال (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥) أي الثابت في ذاته وصفاته ، وكلماته المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها ، المظهر للأشياء كما هي في أنفسها ، (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي النساء الخبيثات مختصات بالرجال الخبيثين. (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون لائقون بالنساء الخبيثات ؛ ويقال : المقالات الخبيثة من القذف مختصة بالخبيثين من أهل الإفك من الرجال والنساء. ويقال : المقالات الخبيثة من اللعن والذم ونحو ذلك مختصة بهم (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس. أو المعنى : والكلمات الطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال والنساء. ويقال : والطيبون من الفريقين لائقون بالكلمات الحسنة ، وحيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب الطيبين وأفضل الأولين والآخرين ، تبين كون زوجاته أطيب الطيبات بالضرورة. (أُولئِكَ) أي أهل البيت (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات. فالله تعالى برأ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأكاذيب الباطلة لكيلا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة ، ونزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمثال هذا الأمر ، فلا أحد أطهر منه فأزواجه إذا لا يجوز أن يكنّ إلا طيبات. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي براءة من الله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)


في الآخرة. وهذه الجملة خبر ثان لأولئك ويجوز أن يكون لهم خبر أولئك ومغفرة فاعله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) أي التي تسكنونها (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ وحتى يؤذن لكم ، (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) عند الاستئذان.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن التسليم أن يقال السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا رجع». (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي التسليم مع الاستئناس خير لكم من تحية الجاهلية والدمور ، وهو الدخول بغير إذن وفي الحديث : «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر». (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧) أي أمرتم بهذا التأديب لكي تتذكروا به وتعملوا به.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد ، وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد ، فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال. فنزلت هذه الآية. فقال أبو بكر : يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن أفلا ندخلها إلا بإذن؟! فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) [النور : ٢٩] الآية (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي البيوت (أَحَداً) ممن يملك الإذن (فَلا تَدْخُلُوها) ، واصبروا (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) من جهة من يملك الإذن عند إتيانه ، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق ، أو كان فيه منكر ونحوه ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، فارجعوا سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا ، ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن (هُوَ) أي الرجوع (أَزْكى لَكُمْ) أي أصلح لكم من الوقوف على أبواب الناس ، لأنه قد يكرهه صاحب الدار. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدخول بإذن وبغيره (عَلِيمٌ) (٢٨) فيجازيكم عليه. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم (أَنْ تَدْخُلُوا) بغير استئذان (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) كالربط والخانات والحوانيت ، والحمامات ونحوها ، فإنها معدة لمصالح الناس (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي حق انتفاع لكم كالاستكنان من الحر والبرد ، وإيواء الأمتعة والشراء والبيع ، والاغتسال وغير ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩) من قصد صلاح ، أو فساد ، أو اطلاع على عورات في دخول هذه المواضع. (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ). ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه ، أي قل لهم : أن (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي يكفوا أبصارهم عن الحرام. «من» زائدة أو للتبعيض ، لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن ، فوقع قصد أو لم يقصدوه ، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي ، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (١). (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (ذلِكَ) أي غض البصر عن

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٢ : ٢٥٨).


عمله وحفظ الفرج (أَزْكى لَهُمْ) أي أبعد لهم عن دنس الريبة ، وأصلح من كل شيء نافع. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠) من إجالة النظر وتحريك الجوارح للحظوظ وللحقوق.

وقدم الأمر بمنع البصر على الأمر بحفظ الفرج ، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أكثر. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) بالتّصون عن الزنا ، (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) وهي ثلاثة أمور :

أحدها : الثياب.

وثانيها : الحلي كالخاتم والسوار والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط.

وثالثها : الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها ، والغمزة في خديها ، والحناء في كفيها وقدميها. (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل ، والخضاب في اليدين ، والغمزة ، والثياب. والسبب في تجويز النظر إليها إن في سترها حرجا بينا ، لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة ، والمحاكمة والنكاح ، وفي ذلك مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها كما لا يخفى. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أي وليرخين قناعهن على صدورهن. وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن ، فتظهر نحورهن وقلائدهن من جيوبهن ، فأمرن بإرسال مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) فإنهن المقصودون بالزينة ، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود ، ولكنه يكره نظره (أَوْ آبائِهِنَ) وإن علون من جهة الذكران والإناث ، (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَ) في النسب أو اللبن (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ) من غيرهن وإن سفلوا ، (أَوْ إِخْوانِهِنَ) في النسب أو اللبن (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) كذلك ، لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن فلهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند الخدمة ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهن ، (أَوْ نِسائِهِنَ) المختصة بهن من جهة الاشتراك في الحدين وهي حرائر المؤمنات (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء دون العبيد فإنهم بمنزلة الأجانب من ساداتهم. وقيل : من الإماء والعبيد فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة ، وينظروا له وكذا العكس وذلك بشرط العفة ، وعدم الشهوة من الجانبين (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ولا حاجة لهم إلى النساء ، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمورهن. أو شيوخ صلحائهم قد ذهبت شهوتهم إذا كانوا معهن ، غضوا أبصارهم ، أو الممسوحون وهم ذاهبوا الذكر والأنثيين.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر «غير» بالنصب على الاستثناء والحال. (أَوِ


الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ، ولم يدروا ما هي لعدم تمييزهم ـ كما قاله ابن قتيبة ـ أو الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء ـ كما قاله الفراء والزجاج ـ فيجوز أن يبدين للتابعين والأطفال ما عدا ما بين السرة والركبة. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي لا يضربن الأرض بأرجلهن ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال ، ومن فعل ذلك منهن بحليهن فهو مكروه ، ومن فعل ذلك منهن تبرجا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم ، فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم. (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) أي توبوا من نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي.

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة ، أي فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه ، والعزم على تركه كلما خطر بباله ؛ كما قال بعض العلماء : من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة ، لأنه يلزم أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.

وقرأ ابن عامر هنا ، وفي «الزخرف» ، وفي «الرحمن» بضم الهاء وصلا ، ووجهه أن الهاء كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على حرف خفي ، فضمت الهاء اتباعا للرسم واتباعا لحركة ما قبلها ، وقد رسمت هذه الثلاثة دون ألف ، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها ابتاعا للرسم ، فالرسم سنة متبعة. (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من الأحرار والحرائر (وَالصَّالِحِينَ) لأمر النكاح (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ليحصن دينهم وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة ، وفي بذل المال والمنافع ، وعدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ، لأن الغالب فيهم الصلاح لمساعدة الأولياء لهم ، ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم (إِنْ يَكُونُوا) أي الأحرار (فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، أي لا تنظروا إلى فقراء أحد الجانبين ، الخاطب والمخطوبة ، ففي فضل الله ما يغني عن المال ، فإنه غاد ورائح ، يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ، (وَاللهُ واسِعٌ) أي ذو سعة لخلقه ، (عَلِيمٌ) (٣٢) بمقادير ما يصلحهم من الرزق ، يبسطه لمن يشاء ويضيق (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي وليجتهد في قمع الشهوة من لا يتمكنون من الوصول إلى النكاح (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي فمن لا يتمكن من المال فليطلب العفة عن الحرام ولينتظر أن يوصله الله إلى بغيته من النكاح (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم ليصيروا أحرارا (فَكاتِبُوهُمْ) أي فصيروهم أحرارا بعقد الكتابة ، والاسم الموصول منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي وفاء بأداء مال الكتابة ، وصلاحا لا يؤذي الناس بعد العتق.


وهذا لندب الكتابة وليس لشرط الصحة. (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي حطوا أيها السادة عن المكاتبين جزءا من مال الكتابة ، أو ادفعوا إليهم جزءا مما أخذ منهم. وذلك للندب عند مالك وأبي حنيفة ، وللوجوب عند الشافعي. وقيل : هو أمر بإعطاء سهمهم من الزكوات ، فالأمر للوجوب حتما. وقيل : هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.

وروي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى يقال له : صبيح سأله أن يكاتبه فأبى عليه ، فنزلت هذه الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي ولا تجبروا إماءكم على الزنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي تعففا عن الزنا ، فالتقييد بهذا الشرط لأجل تحقق الإكراه المنهي عنه ، لأنه لا يتحقق إلا عند إرادة التحصن. أما عند ميلهن للزنا فهو باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ. وفائدة الشرط بالمبالغة في النهي عن الإكراه أي إنهن إن أردن العفة فالسيد أحق بإرادتها وفي ذلك إشارة على أن السادة إكراههن على النكاح فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لتطلبوا بالإكراه الأمول بكسبهن وأولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) على الزنا (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣) لهن لأنهن آثمات لأن الزنا لا يباح بإكراه.

روي أنه كان لعبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ست جوار معاذة ، ومسيكة ، وأميمة وعمرة ، وأروى ، وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب ، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية وقيل : إن عبد بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ).

قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء أي مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود ، وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك. والباقون بفتحها ، أي موضحات في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وأنزلنا مثلا كائنا من نوع أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة ، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة ، والكلمة الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام ، فتنتظم قصة عائشة لقصة يوسف وقصة مريم ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بتلك الآيات العظام. (وَمَوْعِظَةً) تنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات ، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب (لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤). وهذا حث للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثار الموعظة ، المقتبسون من أنوارها ، ثم ذكر الله تعالى مثلين :


أحدهما : في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور.

والثاني : في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول فقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال ابن عباس : أي الله هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون ، فمعنى النور هو الهداية ، أي ذو نور ، أي ذو هداية (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة النور الفائض من الله تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن (كَمِشْكاةٍ) أي كصفة كوة غير نافذة في الجدار في الإضاءة والتنوير ، (فِيها مِصْباحٌ) أي سراج ضخم ثاقب. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي متلألئ وقّاد ، شبيه بالدر في صفائه وزهرته. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على صيغة الماضي. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية ، وسكون الواو على المضارع المبني للمفعول. وعن نافع وحفص بياء كذلك. وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو ، وتشديد القاف و «زيتونة» بدل من «شجرة» ، و «لا شرقية» صفة لها ، أي يبتدئ إيقاد المصابيح ، وفتيلة الزجاج من زيت شجرة كثيرة المنافع ، تبرز على جبل عال ، أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب ، أي تقع الشمس عليها طول النهار ، لا شرقية وحدها ، ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية. وكان زيتها الصفاء. وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، واختيار الفراء والزجاج.

وقال ابن عباس : في الزيتون منافع يسرج بزيته وهو إدام ودهان ، ودباغ ، ووقود يوقد بحطبه وثفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم ، وهو أول شجرة نبتت في الدنيا ، وأول شجرة ثبتت بعد الطوفان ، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة ، ودعا له سبعون نبيا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال مرتين : «اللهم بارك في الزيت والزيتون» (١).

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وهذه الجملة صفة لـ «شجرة» أي يقرب زيت تلك الشجرة يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا لصفائه.

قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن ، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإن الزيت إذا كان خالصا رؤي من بعيد كأن له شعاعا فإذا مسته النار إزداد ضوءا على ضوئه ، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاء العلم ازداد

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب المساجد ، باب : ما يكره في المساجد.


نورا على نور ، وهدى على هدى كقلب إبراهيم عليه‌السلام من قبل أن تجيئه المعرفة ، أي قبل أن يخبره أحد بأن له ربا ، فإنه قال : هذا ربي ، فلما أخبره الله بأنه ربه وقال له : أسلم زاد هدى وقال : أسلمت لرب العالمين. (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي نور حاصل بالزيت ، كائن مع نور بالنار في قنديل ، فالزيت نور ، والقنديل نور والمصباح نور فالمشكاة التي هي الطاقة غير النافذة أجمع للنور فيكون فيها أقوى مما لو كانت نافذة ، فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كان أضوأ وأجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإن الضوء ينتشر فيه ، فالقنديل أعون على زيادة الإنارة ، وكذلك ضوء الزيت. والمعنى : ذلك القرآن نور عظيم كائن على نور عظيم متضاعف من غير تحديد كتضاعف نور المشكاة بما ذكر (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يهدي الله لنوره المتضاعف ، وهو القرآن من يشاء هدايته من عباده هداية موصلة إلى المطلوب ، بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيقته من الأخبار عن الغيب ، وغير ذلك من موجبات الإيمان. فالله تعالى بين الدلائل حتى بلغت في الوضوح إلى الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه. فوضوح الدلائل لا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان والعلم. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) كافة تقريبا للمعقول من المحسوس. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا. (فِي بُيُوتٍ) صفة لـ «مشكاة» ، أي كمشكاة فيها مصباح في بيت من بيوت الله ، أو صفة لزجاجة. والمعنى : ذلك القنديل معلق في مساجد (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي أمر الله أن نبنى رفيعة وتطهر عن الأنجاس والأقذار ، وقد كره بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد ورأى أنه من باب البيع ، وهذا إذا كان بأجرة ، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد ، وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، وجمروها في الجمع ، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر» (١). (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بجميع أذكاره تعالى.

وقال ابن عباس : يتلى في المساجد كتابه تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) (رِجالٌ).

وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم بالبناء للمفعول ونائب الفاعل لفظ له ، و «رجال» فاعل لفعل مقدر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي يسبح له رجال أو المسبح رجال ، والوقف على الآصال حسن. والباقون بالبناء للفاعل و «رجال» فاعل ولا يوقف على «الآصال» لعدم تمام الكلام والصلاة التي تؤدي في الغداة صلاة الصبح ، وفي العشي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وقرئ و «الإيصال» أي الدخول في الأصيل (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا فرد من أفراد البياعات عن حضور المساجد لطاعة الله ،

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢١٤).


وعن أداء الصلاة في وقتها جماعة. روى سالم عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهم أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس ، أغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في شأنهم. وروي عن أبي أمامة أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم ، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يقصد إلا ذلك كان أجره كأجر المعتمر» (١). وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة» (٢). وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا : «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا وليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما»(٣) ، (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي وعن إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين.

قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) أي يخافون يوما تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين ، أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ أي فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته ، فـ «يخافون» ، صفة ثانية لـ «رجال» أو حال من مفعول «لا تلهيهم» و «يوما» مفعول به و «تتقلب» صفة له (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي أحسن جزاء أعمالهم بحسب وعده لهم من أن حسنة واحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلق بمحذوف ، أي أيفعلون هذه القربات ليجزيهم الله فـ «اللام» لام العاقبة والصيرورة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ما لم يستحقوه بأعمالهم وما لم يخطر ببالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨) أي فالله يعطيهم غير جزاء أعمالهم مما لا يفي به الحساب ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أن مناط الرزق محض مشيئته تعالى ، وللإعلام بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره ، فإن جميع ما ذكر من أعمالهم الحسنة مقتبس من القرآن الذي هو المراد بالنور ، وبذلك يتم أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ) أي من أنواع البر كصدقة وعتق ووقف ونحو ذلك من كل ما لا يتوقف على نية ، (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي في أرض منبسطة. والسراب : ما يتراءى في

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٥٠٩) بما معناه.

(٢) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٢٤) بما معناه.

(٣) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٨ : ٣١) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٠ : ٢٤١).


الفلوات شبيها بالماء الجاري ، وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا. وقيل : هو لمعان الشمس على الفلوات يظن أنه ماء يجري. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي ويقصد الظمآن ما ظنه ماء ولا يزال جائيا إليه حتى إذا جاءه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أصلا ، كما كان يراه من قبل. فالكافر الذي يأتي بأعمال البر ، كصلة الرحم وسقاية الحاج ، وعمارة الكعبة ، وقرة الأضياف ، وإغاثة الملهوفين يعتقد أن له ثوابا عند الله ، فإذا مات ووافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه ، بل وجد العقاب العظيم ، فعظمت حسرته ، وتناهى غمّه. فيشبه حاله حال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء ، فإذا شاهد السراب ، تعلق قلبه به ويقوى طعمه فإذا جاءه أيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي وجدوا حكم الله عند المجيء يوم القيامة أو وجد الله بالمرصاد عليه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي أعطاه جزاء عمله كاملا بالعقاب ، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم وإفراد الضمير الراجع إلى الذين كفروا لإرادة الجنس ، أو لإرادة كل واحد منهم. وقد قيل : نزلت هذه الآية في شأن عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبّد في الجاهلية ، ولبس المسوح ، والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩) لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).

وروي عن ابن كثير أنه قرأ «سحاب» و «ظلمات» بالجر على البدل من «ظلمات» كقراءة قنبل بتنوين «سحاب» وبجر «ظلمات» بجعلها بدلا من «ظلمات» الأولى. وروي عن ابن كثير أيضا على إضافة «سحاب» كقراءة البزي بجعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب. وقرأ الباقون «سحاب» و «ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين و «يغشاه» صفة ثانية لـ «بحر» ، وجملة «من فوقه موج من» مبتدأ وخبر صفة لـ «موج» وجملة «من فوقه سحاب» صفة لـ «موج» الثاني و «ظلمات» خبر مبتدأ محذوف وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على كـ «سراب» وأو للتقسيم أي إن عمل الكافر قسمان قسم كالسراب وهو العمل الحسن وقسم كالظلمات وهو العمل القبيح : والمعنى. أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق يعلوه موج كائن ، من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة ، وهي ظلمة البحر ، وظلمة الموج الأول ، وظلمة الموج الثاني ، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) بيان لغاية قوة النور ، إلا أن ذلك متعلق بالمشبه ، وهذا بالمشبه به (إِذا أَخْرَجَ) أي من في هذه الظلمات (يَدَهُ) لينظر إليها (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يقارب أن يراها ولم يحصل له رؤيتها مع أنها قريبة من عينه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) أي ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ولم يوفقه للإيمان به فما له هداية أصلا من أحد (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي قد علمت يا


أشرف الخلق بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح أن الله ينزهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه ما في السموات والأرض وتنزهه الطير تنزيها خاصا بها حال كونها باسطات أجنحتها في جو السماء ، فإن كل موجود يدل على وجوب صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي كل واحد من المخلوقات قد علم هو دعاءه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله تعالى إياه ، فالضمائر كلها عائدة على كل.

وروي عن ابن ثابت قال : كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت : لا ، قال : فإنهن يقدسن ربهن ، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء : إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وهذا دليل على أن الله يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) أي بحقيقة ما يفعلونه بالكمال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن جميع الموجودات في تصرفه تعالى إيجادا واعداما لأنه خالق لها (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢) أي رجوع الكل بالفناء والبعث. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) أي يسوق (سَحاباً) متفرقا ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي مجتمعا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوق السحاب ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) فـ «من» الأولى ابتدائية ، وكذا الثانية بدل اشتمال من «من» الأولى ، و «من» الثانية تبعيضية ، أي وينزل مبتدئا من السماء من جبال كائن في السماء بعض برد ، ففي السماء جبال من برد ، كما أن في الأرض جبالا من حجارة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. والباقون بفتحها وتشديد الزاي (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد (مَنْ يَشاءُ) أن يصيبه ، فيضر ما يقع عليه من حيوان ونبات ، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) صرفه عنه فلا يسقط عليه. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي يقرب ضوء برق السحاب (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) أي يسلب الأبصار الناظرة له لشدة الإضاءة وسرعة ورودها ، (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالمعاقبة بينهما ، وبتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما تقدم ذكره (لَعِبْرَةً) أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته وعلمه (لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) أي لكل من له بصر يرجع إلى بصيرة. وهذا يدل أن الواجب على المرء أن يتفكر في هذه الأمور ، ويدل على فساد التقليد. (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، فمن صلة كل دابة لا صلة خلق ، فكل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وقيل : أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة ، فصارت ماء ، ثم خلق منه النار والهواء والتراب والنور. والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة ، فكان أصل الخلقة الماء.


وقرأ حمزة والكسائي «خالق» بصيغة اسم الفاعل وبالإضافة. (فَمِنْهُمْ) أي الدواب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية والحيتان والديدان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) كما يشاء (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥) فلا يمنعه مانع. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦) موصل إلى الفوز بالجنة (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) هما في الأمر والنهي (ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي يعرض عن طاعتهما (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما قالوا هذه الكلمة. (وَما أُولئِكَ) أي الذين يدعون الإيمان والطاعة (بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) حقيقة.

وقال الحسن : نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر (وَإِذا دُعُوا) أي الذين ادعوا الايمان والطاعة (إِلَى اللهِ) أي إلى كتاب الله (وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ) الرسول (بَيْنَهُمْ) بكتاب الله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) عن كتاب الله وحكم الرسول إن كان الحكم عليهم (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) (٤٩) أي طائعين لجزمهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكم لهم فقوله (إِلَيْهِ) متعلق بـ «يأتوا» لأنه متعد بـ «إلى» أو بـ «مذعنين» لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي إعراضهم لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم (أَمِ ارْتابُوا) أي أم لأنهم شكوا في أمر نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تقرير الإسلام في القلب ، (أَمِ) لأنهم (يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي يجورا عليهم في الحكم فإنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه ؛ كما قال تعالى ، (بَلْ أُولئِكَ) أي المعرضون عن حكم الله (هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠) أي ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة ، بل لأنهم هم الظالمون ، أي يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ، ويتم لهم جحوده ، فيأبون المحاكمة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق.

قال الضحاك : نزلت هذه الآية في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض ، فتقاسما ، فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة : بعني أرضك. فباعها إياه وتقابضا. فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء! فقال لعلي : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها ، لأنه لا ينالها الماء. فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها ، وعرفت حالها ، لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال المغيرة : أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني ، وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت تلك الآيات : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي إلى كتابه (وَرَسُولِهِ) أي وإلى سنة رسوله (لِيَحْكُمَ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَيْنَهُمْ) بحكم الله (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) أي أجبنا الدعاء ، (وَأَطَعْنا) لأحكامهما.

وقرأ الجمهور «قول المؤمنين» بالنصب على أنه خبر «كان» و «أن يقولوا» اسمها. وهذا


أقوى صناعة ، لأن الأولى جعل الأعرف الاسم و «أن يقولوا» أوغل في التعريف ، لأن الفعل المبتدأ بأن لا سبيل إليه للتنكير بخلاف «قول المؤمنين» ، فإنه يجوز تنكيره بعزل الإضافة عنه. والمعنى : إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية قولهم المحكي عنهم.

وقرأ الحسن «قول المؤمنين» بالرفع على العكس. وهذا أفيد بحسب المعنى ، لأن مصب الفائدة هو الخبر ، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى : إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وهذا تعليم أدب الشرع بمعنى : أن ما يجب أن يسلك المؤمنون هكذا ، (وَأُولئِكَ) المؤمنون القائلون بذلك (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥١) أي الفائزون بكل مطلب ، والناجون من كل غضب (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمروا به من الاحكام الشرعية ، فيما سرهم وساءهم (وَيَخْشَ اللهَ) على ما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره (فَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) بالنعيم الدائم في الجنة.

وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء. وقالون اختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف وقصر كسرة الهاء والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أقسم المنافقون به تعالى أقصى مراتب اليمين في الوكادة : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج إلى الغزو (لَيَخْرُجُنَ). نزلت هذه الآية لما قال المنافقون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ، ولئن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. (قُلْ) لهم إظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين في تلك اليمين : (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) وهذا خبر مبتدأ محذوف ، والجملة تعليل للنهي ، أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير موافقة للقلب وهي معروفة لكل أحد.

وقرأ اليزيدي بالنصب على معنى تطيعون طاعة معروفة لكل أحد مشهورة في ذلك. والمعنى : أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية لأنه ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها كما رواه الطبراني عن عثمان ، وعن سعيد لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا من كان. وعن عثمان بن عفان قال : لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت فأدى هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣) مما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها. وهو مجازيكم على ذلك. (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) فيما يدعوكم إليه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في مسلكه إلى الله تعالى ،


(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فاعلموا أن ما على الرسول ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد شاهدتموه عند قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي ما أمرتم به من الطاعة. وعن نافع أنه قرأ «ما حمل» بفتح الحاء والميم مع التخفيف أي عليه ما حمل من أعباء الرسالة ، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) فيما أمركم به من الطاعة (تَهْتَدُوا) أي تصيبوا الحق (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤) أي ما على الرسول إلا التبليغ عن الله الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح ، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) يا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أقسم الله على من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح من أصحاب محمد ليجعلنهم بدلا عن الكفار متصرفين في الأرض العرب والعجم تصرف الملوك في مماليكهم ، (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما استخلف الله تعالى بني إسرائيل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، وكما استخلف هارون ويوشع ، وداود ، وسليمان.

وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بضم التاء وكسر اللام فالموصول مرفوع بخلاف قراءة الجمهور من فتح التاء واللام فإن الموصول منصوب (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم وهو الإسلام (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء (أَمْناً) ، لأنه كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة قبل الهجرة خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا فيها يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة». فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنجز وعده وفتح لهم بلاد الشرق والغرب.

وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بسكون الباء الموحدة (يَعْبُدُونَنِي) حال من الموصول الأول الذي هو مفعول «وعد» أو استئناف بيان لجواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويثبتون في دين الإسلام ويأمنون فقيل : يعبدونني. (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الفاعل ، أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأوثان ، (وَمَنْ كَفَرَ) أي جحد حق هذه النعم بأن لا يقيموا حقها (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الاستخلاف والتمكين والتبديل (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥) أي العاصون الخارجون عن حريم الأمن ، وأول من كفر بتلك النعم قتلة عثمان رضي‌الله‌عنه. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عطف على مقدر يطلبه نظام الكلام تقديره : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة فإنها مواصلة بينكم وبين ربكم. (وَآتُوا الزَّكاةَ) فإنها مواصلة بينكم وبين إخوانكم ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) أي راجين أن ترحموا (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ، والخطاب لكل أحد ممن يصلح له ، والموصول مفعول أول ، و «معجزين» مفعول ثان و «في الأرض» ظرف له لإفادة شمول عدم الإعجاز


لجميع أجزاء الأرض أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم بالإهلاك في قطر من أقطار الأرض وإن هربوا كل مهرب.

وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على الغيبة ، والفاعل ضمير يعود على ما دل عليه شأن الكلام ، أي لا يحسبن حاسب إلخ فإنهم مدركون (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) في الآخرة (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧) أي والله لبئس المرجع هي ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي العبيد الصغار في الدخول.

وعن ابن عباس ليس للكبير من المماليك أن ينظر إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه.

وقال ابن المسيب : لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها. وشعرها. وشيء من محاسنها وقال الآخرون : بل للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مالكته وما شابهه (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي من الأحرار ، وهم الصبيان الذين حكوا عورات النساء وميّزوا بين الجميلة وغيرها ، وظاهر الآية أمر المماليك والأطفال الأحرار بالاستئذان ، وفي الحقيقة أمر الأولياء بتأديبهم فإن المقصود أمر المؤمنين بأن يمنعوا هؤلاء من الدخول عليهم في هذه الأوقات الثلاث من غير إذن لو كان المقصود أمرهم للزم تكليفهم ولما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، فيكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة فثلاث مرات منصوب على الظرف الزماني أو على المصدرية ، أي ثلاثة استئذانات ، ثم بين الأوقات فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت للقيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وهذا في محل نصب على أنه بدل من ثلاث مرات ، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها بين الناس ، لأجل القيلولة ـ وهي شدة الحر عند انتصاف النهار ـ فـ «من» بيان لـ «حين» ، أو تعليل لـ «تضعون» ، أي من أجل حر وقت الاستواء (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) ، لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والالتحاف باللحاف (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) بالرفع خبر مبتدأ مقدر و «لكم» صفة ، أي هي ثلاثة انكشافات كائنة لكم ، أو مبتدأ وخبر أي ثلاث عورات مخصوصة لكم بالاستئذان ، وعلى هذا فالوقف على العشاء هو وقف كاف ـ وقرأ أهل الكوفة بالنصب على البدل من ثلاث مرات وكأنه قيل : في أوقات ثلاث عورات لكم ، وعلى هذا فالوقف على لكم وهو وقف تام (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) في تمكينهم من الدخول عليكم (وَلا عَلَيْهِمْ) في ترك الاستئذان في الدخول ، (جُناحٌ) أي إثم (بَعْدَهُنَ) أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وإنما أباح الله تعالى ذلك في الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن لما في العادة أنه لا تكشف العورة فيها (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي لأنهم يكثرون التردد عليكم بالدخول والخروج للخدمة ، فلو كلفتم الاستئذان في كل طوفة لضاق الأمر عليكم (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي كما أن


بعضكم طائف على بعض ، طوافا ، كثير اللجاجة يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما وقد أغلق عليه الباب فدق الغلام عليه الباب ، وحركه ورده ودفعه فناداه ودخل فاستيقظ عمر ، فانكشف منه شيء. فقال عمر : وددت أن الله تعالى ينهى آباءنا وأبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية ، فحمد الله تعالى وخرّ ساجدا شكر الله تعالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ذاك يا عمر؟» فأخبره بما فعل الغلام ، فتعجب رسول الله من صنعه وقال : «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف» (١). (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) (٥٨) ، فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب سن نزول المنى سواء رأى منيا أو لا. (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) إذا أرادوا الدخول عليكم في جميع الأوقات (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي استئذانا كاستئذان الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) الآية. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي هكذا ينزل الله لكم آياته واضحة الدلالة على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه (حَكِيمٌ) (٥٩) فيما دبره لهم ، (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي والعجائز الكائنة من النساء اللاتي لا يحتجن إلى الزوج لكبرهن بحيث إذا رآهن الرجل استقذرهن ، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي أن ينزعن بحضرة الرجال عنهن ثيابهن الظاهرة فوق الثياب الساترة كالملحفة.

وعن ابن عباس أنه قرأ : «أن يضعن جلابيبهن» ، وعن السدي عن شيوخه أنه قرأ «أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن». وعن بعضهم أنه قرأ «أن يضعن من ثيابهن». (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير مظهرات لمحاسنها ولزينتها الخفية ، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء لبعده من المظنة ، فعند المظنة يلزمهن أن لا يلقين ذلك ، كما يلزم مثله في الشابة ، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة ، (عَلِيمٌ) (٦٠) بمقاصدهن (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الطوائف مأثم في أكلهم مع السالمين من هذه النقائص الثلاثة ، فإنهم تركوا مؤاكلة الأصحاء. فقال الأعمى : إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الأرد ، أو خاف الأعرج والمريض أن يفسد الطعام على الأصحاء. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : كان العرجان والعميان

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب البيوع ، باب : الرجل يأكل من مال ولده.


والمرضى يتبعدون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ليس عليكم مأثم في أن تأكلوا من بيوت أولادكم بغير إذن بالعدل لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»(٢). (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) من الأب أو الأم ، أو منهما بالنسب أو الرضاع (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ).

قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام ، فيتحرج لأنه ليس ثمّ رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة : (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).

روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية : أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غائبون ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم ، وهذا قول عائشة رضي‌الله‌عنها (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي بيت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية ، ونزل هذا في حق مالك بن زيد ، والحرث بن عمار ، وكانا صديقين. ونقل عن ابن عباس ومقاتل بن حبان : نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى : يجوز الأكل من بيوت من ذكر إذا علم رضاه بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه وإن كانت ضعيفة ، كما علم بالعادة في طيب أنفسهم فإن العادة كالإذن في ذلك ، والمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة ، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي مأثم في (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً). قيل : نزلت هذه الآية في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. وقال أكثر المفسرين : نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة حيث كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحافلات ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب البيوع ، باب : الحث على الكسب ، وابن ماجة في كتاب التجارات ، باب : الحث على المكاسب ، والدارمي في كتاب البيوع ، باب : في الكسب وعمل الرجل بيده ، وأحمد في (م ٦ / ص ٣١).

(٢) رواه السهمي في تاريخ جرجان (٤٥٣).


من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي‌الله‌عنهما. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إذا دخلتم بيوتا من البيوت المذكورة فسلموا على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية ، فالله تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقال ابن عباس : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من قبل ربنا ، وإذا دخل المسجد فليقل : السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال : وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل : السلام على من اتبع الهدى. (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) منصوب على المصدر من معنى فسلموا أي فحيوا تحية ثابتة بأمره ، مطلوبة من عنده. (مُبارَكَةً) أي مضاعفة في الثواب ؛ كما قاله الضحاك ، (طَيِّبَةً) أي تطيب بالتحية نفس المستمع.

وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» (١). (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يفصل شرائعه لكم ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) ، أي لتفهموا عن الله أمره ونهيه. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي الرسول (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوهما في جميع الأحكام ، كما إذا كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر موجب للاجتماع في شأنه لم يتفرقوا عنه حتى يطلبوا منه الإذن فيأذن لهم.

قال الكلبي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظرون يمينا وشمالا فإذا لم يرهم أحد خرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفا ، فكان المؤمن إذا أراد أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر قام بحيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) رعاية للأدب معك وتعظيما لهذا الأمر (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي يعملون بمقتضى الإيمان.

قال الضحاك ومقاتل : المراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وذلك أنه خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فاستأذنه في الخروج إلى أهله لعلة كانت به ، فأذن له وقال : ارجع إلى المدينة فلست بمنافق ، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي أمرهم المهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) لما علمت في ذلك من مصلحة.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦٤).


قال ابن عباس : إن عمر استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العمرة فأذن له ، ثم قال : يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك. وهذه الآية تدل على أنه تعالى فوّض إلى رسوله أمر الدين ليجتهد فيه برأيه. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد (رَحِيمٌ) (٦٢) بالتسهيل عليهم (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تجعلوا دعاءه لكم في الاعتقاد وغيره ، وأمره إياكم في أمر من الأمور كدعوة بعضكم لبعض فتستبطئون عنه ، بل أجيبوه فورا ، وإن كنتم في الصلاة إذ كان أمره فرضا لازما. وهذا قول المبرد والقفال ، ومختار أبي العباس. وأقرب إلى نظم الآية كما قاله ابن عادل والرازي وغيره. وقيل : لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم فإنه قد يجاب وقد يرد ، فإن دعوات الرسول مستجابة فاحذروا سخطه فإن دعاءه مجاب ، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وروي عنه أيضا لا تجعلوا نداءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنداء بعضكم لبعض باسمه ، ورفع الصوت ، والنداء من وراء الحجرات ، بل نادوه بغاية التوقير وبلقبه المعظّم. وذلك بمثل قولك : يا رسول لله ، يا نبي الله مع التواضع وخفض الصوت ، فلا تنادوه باسمه ولا بكنيته بأن تقولوا : يا محمد يا أبا القاسم. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد علم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية ، مستترين ببعض فـ «لواذا» حال ، أو مصدر لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا أي يستتر بعضهم بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يعرضون عن أمره (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة في الدنيا من تسليط جائر عليهم وإسباغ نعمه استدراجا بهم (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) في الآخرة والكناية ترجع إلى الله ، لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه المقصود بالذكر (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا. وهذا دليل على قدرته تعالى على المجازاة بثواب وعقاب ، وعلى علمه تعالى بما يخفيه المكلف ويعلنه ، (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ) أيها المكلفون (عَلَيْهِ) من المخالفة في الدين والنفاق ، (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) أي ويعلم يوم يرجع المنافقون إليه تعالى للجزاء (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في الدنيا من الأعمال ـ كمخالفة الأمر ـ فلا يعاقبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.


سورة الفرقان

مكية ، سبع وسبعون آية ، ثمانمائة واثنتان وسبعون

كلمة ، ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) أي تعالى الله الذي نزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذاته وصفاته وأفعاله ، فتعالت ذاته عن جواز التغيّر والفناء. وعن مشابهة شيء من الممكنات وتعالت صفاته عن حدوث ، وتعالت أفعاله عن عبث.

ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد في أقصى مراتب العبودية ، (لِيَكُونَ) أي ذلك العبد أو الذي نزل الفرقان (لِلْعالَمِينَ) أي المكلفين من الثقلين (نَذِيراً) (١) أي مخوفا من عذاب الله بالقرآن (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من الموصول الأول أو خبر مبتدأ محذوف (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) عطف على الصلة. وهذا رد على النصارى واليهود وبعض مشركي العرب (الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ) أي في ملك السموات والأرض فهو المنفرد بالإلهية. وهذا معطوف على الصلة أيضا وهو رد على الثنوية وعباد الأصنام والنجوم ، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) أي أحدث كل موجود إحداثا جاريا على طريق التقدير بحسب ما اقتضته إرادته وهيّأه لما أراد به مما يصلح له مثاله أنه تعالى خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المستوي الذي تراه فيقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة ، فقدره لأمر ما ، ومصلحة ما موافقا لما قدر غير متأخر عنه. (وَاتَّخَذُوا) أي المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه (مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) أي جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله غيره آلهة لا يقدرون على خلق شيء أصلا ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) كسائر المخلوقات (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا يقدرون لأنفسهم على دفع ضرر ما وعلى جلب نفع ما فمن لا ينفع نفسه لا ينفع غيره ، (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣) أي ولا يقدرون على اماتة الأحياء واحياء الموتى ، وبعثهم ، فالا له يجب أن يكون


قادرا على جميع ذلك. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي قال النضر بن الحرث : ما القرآن الا كذب مصروف عن وجهه اختلقه محمد من تلقاء نفسه ، وأعانه على اختلاقه غير قومه ، وهم اليهود جبر ويسار أبو فكيهة الرومي.

قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر ، وهؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، وكانوا يقرءون التوراة ، ويحدثون أحاديث منها في مكة ، فلما أسلموا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعهدهم ، فزعم النضر أنهم يلقون اليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار الأمم الماضية ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبر عنها بعبارات من عنده ، فهذا معنى اعانتهم له فمن أجل ذلك قال النضر ما قال ، فرد الله تعالى ذلك بقوله تعالى (فَقَدْ جاؤُ) أي قائلو هذه المقالة (ظُلْماً) عظيما حيث جعلوا الحق البحت إفكا مفترى من قبل البشر (وَزُوراً) (٤) أي كذبا كبيرا حيث نسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو بريء منه. (وَقالُوا) أي النضر وأصحابه : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) أي هذا القرآن ما سطره المتقدمون من الخرافات انتسخها محمد بن عداس ويسار وجبر ، أي أمرهم بكتابتها له وقراءتها عليه لأنه أمي (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) أي فتلك الأساطير تقرأ على محمد بعد طلبه منهم كتابتها غدوة وعشيا ليحفظها من أفواههم من ذلك المكتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة. وهذا على قول جمهور المفسرين فإن قوله : (تُمْلى) ألخ من كلام القوم الكافرين.

وقال الضحاك : معنى قولهم ذلك : وما يملى على محمد بكرة يقرأه عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة خلافا للحسن حيث قال : إن ذلك من محض كلام الله تعالى ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال : إن هذه الآيات تلقى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي مني حالا بعد حال ، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين ، (قُلْ) لهم ردا عليهم : (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس ذلك القرآن مما يفتعل بإعانة قوم وكتابتهم من الأحاديث الملفقة ، بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء فيعلم ما تسرونه من كيدكم لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ، وما تقولونه زور ، ويعلم براءة رسوله مما تتهمونه به وهو مجازيكم على ما علم منكم وما علم منه. (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦) أي إنما أنزل القرآن لأجل الإنذار فوجب أن يكون غير مستعجل في العقوبة. وهذا تنبيه على أنهم استحقوا بمكايدتهم هذه أن يصب الله عليهم العذاب صبا ، ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما فيمهلهم ولا يعجل عليهم العذاب. (وَقالُوا) أي أبو جهل وأصحابه ، والنضر وأصحابه ، وأمية ابن خلف وأصحابه : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي سبب حصل لهذا الذي يدّعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله ، فمن أين له


الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور؟ (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ) أي هلا ينزل على صورته (مَلَكٌ) لا يأكل ولا يشرب (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) أي فيكون معينا له في الإنذار يشهد له ويرد من خالفه (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) من السماء ، فينفقه ، فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالياء التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي المشركون أبو جهل ، والنضر ، وأمية وأصحابهم للمؤمنين : (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون أيها المؤمنون (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨) أي مختل النظر والعقل (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي انظر يا أفضل الخلق كيف اشتغل القوم بضرب هذه التي لا فائدة فيها من الأقوال العجيبة الخارجة عن العقول ، (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) أي فأرادوا القدح في نبوتك ، فضلوا عن طريق المحاجة ، فلم يجدوا سبيلا إلى القدح في نبوتك وفي معجزاتك ، وضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) أي تكاثر خير من الذي إن شاء (جَعَلَ لَكَ) في الدنيا شيئا (خَيْراً) لك (مِنْ ذلِكَ) الذي قالوه (جَنَّاتٍ) أي بساتين كثيرة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠) أي بيوتا مشيدة رفيعة في الدنيا ، فقوله تعالى : (جَنَّاتٍ) بدل من خير.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه معطوف على جواب الشرط ، لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع ، أو مستأنف بوعد ما يكون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة. وقرأ الباقون بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» إما بتقدير الجزم على أنه معطوف على محل جواب الشرط وهو جزم ، أو بتقدير الرفع ، وإنما سكن اللام لأجل الإدغام ، فعلى الرفع حسن الوقف على «الأنهار» فإن المعنى : وسيجعل لك قصورا في الآخرة وعلى الجزم لا يحسن الوقوف على «الأنهار» فإن المعنى : إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا.

روي عن طاوس عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وجبريل عليه‌السلام عنده قال جبريل عليه‌السلام : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا ، وبين أن يجمعها لك في الآخرة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل يجمعها جميعا في الآخرة» (١) فنزل قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) الآية. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ). وهذا جواب ثالث كأنه تعالى قال : ليس ما تعلقوا به شبهة علمية في نفس المسألة لأنهم لا يعتقدون فيك كذبا بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بوجود

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦٨).


وقت الجزاء استثقالا للاستعداد له ، فإنهم لا يتحملون مشقة النظر ، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) أي جعلنا نارا عظيمة شديدة الاشتعال معدة لمن كذب بوجود القيامة ، (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من مسيرة عام كما قاله الكلبي والسدي (سَمِعُوا لَها) أي النار (تَغَيُّظاً) أي صوت غليانها ، (وَزَفِيراً) (١٢) أي صوتا شديدا كصوت الحمار (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) أي النار (مَكاناً ضَيِّقاً).

وقرأه ابن كثير بسكون الياء (مُقَرَّنِينَ) في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم (دَعَوْا هُنالِكَ) أي في ذلك المكان (ثُبُوراً) (١٣) بأن يقولوا : يا ثبور هذا زمانك ويتمنوا موتا.

وقال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون ، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال ابن عمر : إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح. وتقول لهم : خزنة جهنم (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) فإن ما أنتم فيه من العذاب مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن لغاية شدته وطول مدته (قُلْ) لهم تحسيرا على ما فاتهم : (أَذلِكَ) السعير التي هيئت لمن كذب بوجود القيامة (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) التي لا ينقطع نعيمها (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي التي وعدها من يجتنبون الكفر. وهذا يحسن في مقام التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فأبى واستكبر ، فضربه ضربا وجيعا وقال له على سبيل التوبيخ ، هذا أحب إليك أم ذاك (كانَتْ) أي تلك الجنة (لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) (١٥) أي مسكنا فما وعد الله به فهو كائن لا بد من وقوعه ، فكأنه قد كان ، ولأنه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمان متطاولة : أن الجنة جزاؤهم ومستقرهم. (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) فكل فريق منهم مشتغل بما فيه من اللذات فلا يلتفتون إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ، وفي هذا تنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة. (خالِدِينَ) حال من الهاء في «لهم» فإن من شرط نعيم الجنة أن يكون دائما إذ لو انقطع لكان مخلوطا بنوع من الغم كنعيم الدنيا ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل : وما هو يا رسول الله؟ فقال : «سرور يوم» (كانَ) أي ما يشاءونه (عَلى رَبِّكَ) يا أفضل الخلق (وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) أي موعودا مطلوبا لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، فإن المكلفين سألوه بلسان الحال ، لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته تعالى كان ذلك قائما مقام السؤال وما في «على» من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى ، فإن تعلق إرادته تعالى بالوعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز ، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ).

وقرأ ابن كثير وحفص بالياء. والباقون بالنون (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غيره ، أي ويوم القيامة يحشر الله العابدين لغير الله ومعبوديهم (فَيَقُولُ). قرأ ابن عامر بالنون. والباقون بالياء كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها أو كأن جوابها بلسان الحال كما ذكره بعضهم


في تسبيح الموات وفي شهادة الأيدي والأرجل أي يقول الله للمعبودين تقريعا للعابدين (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) بأن دعوتموهم لعبادتكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧) أي أم هم ضلوا عن السبيل بأنفسهم بتركهم النظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد وعبدوكم بهوى أنفسهم. (قالُوا) أي المعبودين متبرئين عن العابدين : (سُبْحانَكَ) أي قالوه تعجبا مما قيل لهم أو إشعارا بأنهم منزّهون الله تعالى عما لا يليق به ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده أو قصدا لتنزيهه تعالى عن الأنداد (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) فنتخذ متعد لواحد ، و «من أولياء» مفعول ، و «من» زائدة ، و «من دونك» حال ، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا. وعن أبي جعفر وابن عامر أنهما قرءا «تتخذ» بالبناء للمفعول فهو متعد لمفعولين ، والمفعول الأول نائب الفاعل ، و «من أولياء» مفعول ثان ، و «من» للتبعيض وتنكير «أولياء» من حيث إنهم أولياء مخصوصون ، وهم الجن والأصنام. ومعنى الآية : لا يستحق لنا أن يتخذ بعضنا أولياء. والحاصل إن كان معبودهم ملائكة قالت : نحن عبيدك فلا يستقيم لعبيدك أن يتخذوا من غيرك أحباء يعبدونهم فإذا كنا نعتقد أن غيرك لا يجوز أن يكون معبودا ، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا وإن كان أصناما قالت : لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا أن ندعي أننا من المعبودين فما أضللناهم. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أي ولكن يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي تركوا الإيمان بالقرآن (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨) أي وصاروا قوما هالكين فاسدة القلوب. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي فقال الله تعالى عند ذلك : فقد كذبكم أيها الكفرة معبودكم في قولكم : إنهم آلهة. فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب ، أي فقد كذبوا قولكم : إنهم آلهة. وانظر كيف أظهر الله صدق الأصنام وكذب الكفار ، وتقولون بالتاء الفوقانية باتفاق العشرة.

وقرئ شاذة بالياء ، أي كذبوكم بقولهم : (سُبْحانَكَ) الآية. (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً). وقرأ حفص بالتاء على الخطاب ، أي فما تستطيعون أيها الكفار صرف الأصنام والملائكة عن شهادتهم عليكم ولا نصر أنفسكم في إضافة الصدق إلى أنفسكم ولا تستطيعون دفع العذاب عنكم ولا منعه عنكم بأنفسكم ولا بغيركم. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة أي فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ويحتالوا لكم ، ولا أن ينصروكم بوجه من الوجوه. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩) أي ومن يكفر منكم يا معشر المؤمنين ، أو ومن يستمر منكم يا معشر الكفار على ما أنتم عليه من الكفر والعناد نذقه عذابا كبيرا في الدنيا والآخرة والعامة. قرءوا «نذقه» بنون العظمة. وقرئ بالياء والضمير عائد لله تعالى أو للظلم المفهوم من الفعل على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) و «إن» مكسورة باتفاق العشرة و «اللام» لام


الابتداء زيدت في الخبر ، والجملة الواقعة بعد إلا حالية ، أي وما أرسلنا قبلك يا أشرف الخلق أحدا من المرسلين إلا وحالهم آكلون وماشون فأنت مثلهم في ذلك. وقرئ «يمشون» على البناء للمفعول ، أي يمشيهم حوائجهم (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي وجعلنا كل أمة كافرة فتنة لرسولها المبعوث إليها كأن يقول بعض الكفار لبعض الأنبياء آتنا معجزة كمعجزة بني فلان (أَتَصْبِرُونَ) يا معشر الأنبياء على ما تسمعون من أقاويلهم الخارجة من حدود الإنصاف ، فالمعنى جرت سنتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم بإيذائهم لهم لنعلم صبرهم. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) بأعمال كلهم وجزائها. وهذا وعد كريم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يؤملون وعدنا على الطاعة من الثواب فلا يخافون العقاب لكفرهم بالبعث. وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) إلخ. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخربنا بصدق محمد في رسالته. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي أنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه. (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١) أي تجاوزوا الحد في الظلم حتى اجترءوا على هذا القول العظيم الشنيع. (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) منصوب بعامل دل عليه «لا بشرى» أي يبغون البشرى يوم يرون ملائكة العذاب قائلين : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين في كل الأوقات فإنهم يشافهون في أول الأمر بما يدل على نهاية اليأس والخيبة ، فذلك هو النهاية في الإيلام (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٢) أي يقول الكافرون الذين طلبوا نزول الملائكة إذا رأوا الملائكة وفزعوا منهم عند الموت : ويوم القيامة حجرا محجورا ؛ وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول شدة ، ويضعونها موضع الاستعاذة. والمعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا. وقيل : يقول الحفظة للكفار ، إذا خرجوا من قبورهم : حجرا محجورا. ومعناه جعل الله الغفران والجنة والبشرى حراما عليكم.

وقال الكلبي : إن الملائكة على باب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجرا محجورا. وقرأ الضحاك والحسن وأبو رجاء على ضمها. وقرئ بفتحها. (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي وقصدنا إلى أعمالهم التي ظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) أي أبطلناه وجعلناه مثل الهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه في عدم إمكان الانتفاع به بالكلية والهباء شبه غباريرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هم المؤمنون (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) أي موضع استراحة نصف النهار في الحر وقد أشارت الآية إلى أن كلا من أهل الجنة وأهل النار قد استقروا في وقت القيلولة. وإن كان استقرار المؤمنين في راحة ، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلائق قد انقضى في هذا الوقت ، لأن القائلة تكون في نصف النهار ، والحساب يكون من أوله.

والمراد من ذلك : بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع ، كما أن موضع القيلولة يكون


كذلك ، وإشارة إلى أنه مزين بفنون الزخارف (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥) أي يوم القيامة تتفتح كل سماء بسبب طلوع الغمام منها ، وهو سحاب أبيض فوق السموات السبع ، ثخنه كثخن السموات السبع ، وثقله كذلك ، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله ، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض ، وفيه ملائكة كل سماء ، فينزل أولا ملائكة السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من إنس وجن ، ثم ينزل ملائكة السماء الثانية وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا ، وهكذا ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ، فإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجموع في المحشر صفا ، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفا آخر ، وهكذا ، أي يحيطون بمن بعدهم حتى يصيروا سبع صفوف حول العالم. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي السلطنة القاهرة الثابتة ثباتا لا يمكن زواله صورة ومعنى ثابتة للرحمن يوم إذ تشق الغمام لا يشركه فيها أحد. (وَكانَ يَوْماً) أي ذلك اليوم (عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦) أي شديدا بخلاف المؤمنين فقد جاء في الحديث أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) أي يوم القيامة يأكل الكافر يديه إلى المرفق ، ثم ينبتان ، ثم يأكلهما وهكذا فلا يزال كذلك ـ كما قاله الضحاك وعطاء ـ وقال أهل التحقيق : هذه اللفظة كناية عن الندامة والغم. (يَقُولُ) حال من فاعل يعض (يا) لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (٢٧) أي ليتني صاحبت رسول الله في اتخاذ سبيل الهدى ، واستقمت على دين الرسول. (يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي ، تعال فهذا أوانك (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨) أي صديقا وافقته في أعماله. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي والله لقد صرفني عن القرآن وموعظة الرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي).

قال ابن عباس : والمراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية ، بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرانه من أهل مكة ، ويكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعجبه حديثه ، فصنع طعاما ودعا الرسول ، فلما قرب إليه الطعام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طعامه. وكان أبي بن خلف الجمحي صديقه فعاتبه ، فقال له : يا عقبة قد ملت إلى دين محمد! فقال عقبة : والله ما ملت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن شهدت له ، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم فقال : أبيّ لا أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فأتاه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل عقبة ذلك ، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» (١) فنزل قوله تعالى :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢ ، باب : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا


(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) إلخ ، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحرث ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، طعنه في أحد ، فرجع إلى مكة ومات. وقال الشعبي : كان عقبة خليل أمية فأسلم عقبة وقال أمية ، وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فارتد ، فأنزل الله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) وعلم من ذلك أن المراد بفلان أبي أو أمية (وَكانَ الشَّيْطانُ) أي إبليس (لِلْإِنْسانِ) أي الكافر (خَذُولاً) (٢٩) أي مبالغا في ترك النصرة بعد المعاونة ، وكان يعد الإنسان في الدنيا بأنه ينفعه في الآخرة وهذا من كلام الله تعالى ، فإن آخر كلام الظالم بعد إذ جاءني ، فالوقف عليه تام (وَقالَ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكاية لله مما صنع قومه وفي هذا تخويف لقومه ، لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا). (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٣٠) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يتأثروا بتخويفه وفي هذا تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب ، عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» (١). (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ، ويفعلون ما يفعلون جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا ، (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣١) أي كفاك مبلغك إلى الكمال ومالك أمرك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا وناصرا لك على جميع من يعاديك. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة كأبي جعل وأصحابه (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي هلا أنزل القرآن كله جملة واحدة ، كالكتب الثلاثة : التوراة والإنجيل والزبور (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي مثل ذلك التنزيل المفرّق نزلناه لنقوي بذلك فؤادك ، فإن فيه تيسير الحفظ ، وفهم المعاني. وهذا كلام الله ذكره جوابا لهم وردا لهذه الشبهة (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) معطوف على الفعل المقدر الذي تعلق به كذلك ، أي كذلك أنزلناه وآتينا بعضه بعد بعض على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أي ولا يأتي المشركون إياك يا أشرف الخلق بسؤال عجيب ، يريدون به القدح في نبوتك إلا جئناك بالجواب الحق الذي يدفع قولهم ، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣) بيانا وبأقوى حجة (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي يحشرون يوم القيامة كائنين على وجوههم يسبحون

__________________

منها ، ومسلم في كتاب الإيمان ، باب : ١٤١ ، والترمذي في كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٥ ، باب : ١ ، وأحمد في (م ١ / ص ٣٨٠)

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٧ : ٣١٩) ، وأحمد في (م ٥ / ص ١٥٣).


عليها ، ويجرون إلى جهنم. وهذا الموصول صفة للموصول الأول ، أو بدل منه (أُوْلئِكَ) أي الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت (شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا في الآخرة وعملا في الدنيا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤) عن الحق (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي أنزلنا التوراة على موسى بعد غرق فرعون وقومه ، (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) (٣٥) يعينه في الدعوة وإعلاء الكلمة (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي آيات الإلهية وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده بالملك والعبادة ، أي فذهبا إليهم فأرياهم الآيات التسع كلها ، وهي آيات النبوة ، فكذبوها كما كذبوا الآيات الإلهية (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) (٣٦) أي أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكا عجيبا (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) أي نوحا ومن قبله ، فإنهم اشتركوا في المجيء بالتوحيد (أَغْرَقْناهُمْ).

فقال الكلبي : أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا (وَجَعَلْناهُمْ) أي وجعلنا إغراقهم (لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة لمن سمع قصتهم لكيلا يقتدوا بهم ، (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي قوم نوح ومن سلك سبيلهم في تكذيب الرسل (عَذاباً أَلِيماً) (٣٧) هو عذاب الآخرة ، (وَعاداً) عطف على المفعول الأول «لجعلنا» ، (وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) ، وهي بئر غير مطوية ، ولهم وجوه.

أحدها : هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه ، فبينما هم حول البئر خسف الله بهم وبديارهم.

وثانيها : أن الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود ، فبعث إليهم نبي فقتلوه ، فهلكوا.

ثالثها : هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم بطير عظيم فيها من كل لون سمي بالعنقاء فتخطف صبيانهم ، وعروسا فدعا عليها حنظلة فأصابتهم الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه‌السلام فأهلكوا.

ورابعها : أن الرس بئر في أنطاكية كذبوا حبيبا النجار وقتلوه ، فدسوه في البئر.

وخامسها : عن علي رضي‌الله‌عنه أنهم كانوا قوما يعبدون شجر الصنوبر وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوها في الأرض بينهم.

وسادسها : هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له : الرس من بلاد المشرق فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب ، فكذبوه ، فلبث فيهم ، فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها ، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة ، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (٣٨) أي أقواما كثيرا بين الطوائف المذكورة (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي كل قرن بينا له القصص العجيبة الزاجرة عن الكفر والمعاصي بواسطة الرسل (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٣٩) أي كل


واحد منهم فتتنا تفتيتا لما كذبوا الرسل فإنا لم نهلكهم إلا بعد الإنذار وجواب ما أوردوه من الشبه حتى وضح لهم السبيل. (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وبالله لقد مرّ قريش على قرية سذوم من قرى قوم لوط التي أهلكت بالحجارة من السماء في أسفارهم إلى الشام للتجارة ، (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) أي أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠) أي بل كانوا قوما ينكرون البعث ، ولا يؤمنون بالجزاء الأخروي فلا يرجون ثواب الآخرة حينئذ لا يتحملون متاعب التكاليف ومشاق الاستدلال (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ، أي إذا رآك يا أشرف الخلق كفار مكة قصروا معاملتهم معك على اتخاذهم إياك هزوا فقوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) جواب «إذا» ، واختصت «إذا» بكون جوابها لا يحتاج إلى الفاء إذا كان منفيا بما أو إن أو لا بخلاف غيرها من أدوات الشرط. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١).

وهذا محكي لقول مضمر هو حال من فاعل «يتخذونك» أي إذا رأوك يستهزئون بك قائلين : أبعث الله هذا رسولا إلينا ، وهذا على سبيل الاستهزاء. والمعنى : أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها).

ويروى أن هذا من قول أبي جهل و «إن» مخففة من «إن» الثقيلة ، وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن كاد هذا الرجل ليصرفنا من عبادة آلهتنا صرفا كليا لو لا أن ثبتنا عليها ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجج وإظهار المعجزات إلى حيث قاربوا أن يتركوا دينهم ، لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) الذي يستحقه كفرهم وعنادهم عيانا في الآخرة (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٢) أي من أخطأ حجة فهذا وعيد شديد لهم على الإعراض عن الاستدلال والنظر (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٤٣). وهذا أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعجب من شناعة حالهم ، أي أرأيت يا أشرف الخلق الذي جعل معبوده ما يهواه وهو النضر وأصحابه أفأنت تكون عليه حفيظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك.

وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم ، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات سماع تفكّر ، أو يفهمون ما فيها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن ، وهذا انتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ممن يسمع أو يعقل فـ «أم» بمعنى بل والهمزة التي للاستفهام الإنكاري وإنما ذكر الأكثر لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم ، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل


والمعجزات ، وإقبالهم على اللذات الحاضرة (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤) من الأنعام ، لأنها تنقاد لمن يتعهدها ، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها ، وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه تعالى من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب ولا يتقون العقاب ، ولأنها جارية إلى ما خلقت هي له فلا تقصير منها ، في طلب الكمال لأنه غير ممكن منها وهؤلاء معطلون لعقولهم مستحقون بتقصيرهم أعظم العقاب ، (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق إلى حسن صنع ربك ، (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)؟ أي كيف بسطه؟ فالظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص ، والظلمة الخالصة ، وهو فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران ، وهو أطيب الأحوال ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وتسد النظر والضوء الخالص من شعاع الشمس يبهر البصر ويسخن الجو ، وهي مؤذية. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما غير زائل بأن لا تذهبه الشمس (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي الظل (دَلِيلاً) (٤٥) ، فالنظر إلى الجسم الملون وقت الظل لا يشاهد شيئا سوى الجسم ، واللون ، ولا يعرف شيئا ثالثا فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ، زال ذلك الظل ، فعرف أن للظل وجودا لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، فلولا الشمس لما عرف الظل ، ولولا الظلمة لما عرف النور ، فالله تعالى لما أطلع الشمس على الأرض ، وأزال الظل ، ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ، فلهذا قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي خلقنا الظل أولا بالمنافع واللذات ، ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطلاع الشمس فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة ، والخطاب في (أَلَمْ تَرَ) عام ، وإن كان ظهره للرسول ، لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في تنبههم على هذه النعمة وتوجيه الرؤية إلى الله تعالى إشارة إلى أن الذي ينبغي للعاقل أن يكون مطمح نظره معرفة شؤون الصانع الحكيم وأن يكون نظره مقصور على الآثار والصنائع ، (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) أي ثم أزلنا الظل يسيرا يسيرا ، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل ، وقبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ، فإذا غربت الشمس ، فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار وقوله تعالى : (إِلَيْنا) للتصريح على كون مرجع الظل إليه تعالى كما أن حدوثه منه تعالى ، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي مثل اللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي جعل النوم الواقع في الليل قطعا عن الأفعال المختصة بحال اليقظة. (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧) أي زمان بعث من ذلك النوم. وفي هذا إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر.

وقرأ ابن كثير «الريح» بالإفراد وقرأ «نشرا» نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي


ناشرات للسحاب. وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي متفرقة. وقرأه عاصم بالباء الموحدة المضمومة وسكون الشين أي مبشرات فالرياح المبشرات هي : الصبا ، والجنوب ، والشمال. أما الدبور : فهي ريح العذاب التي أهلكت بها عاد. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨) أي بليغا في الطهارة (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي مكانا لا نبات فيه ، أي ليصير ذا نبات (وَنُسْقِيَهُ) أي ذلك الماء (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي بهائم (وَأَناسِيَ) جمع إنسان أصله أناسين ، (كَثِيراً) (٤٩). وهذا إما راجع لـ «الأناسي» ، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار ومنابع المياه فهم في غنية في شرب الماء عن المطر ، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وإما راجع إلى «ونسقيه» ، وذلك لأن الحيوان يحتاج إلى الماء حالا بعد حال ما دام حيا وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان أقرب إلى الضرر. (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي وبالله لقد أجرينا المطر في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة حتى انتفعوا بالزرعات ، وأنواع المعاش به ، كما روي مرفوعا عن ابن مسعود قال : «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ، ورزق معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله تعالى ذلك إلى غيرهم فما زيد لبعض نقص من غيرهم ، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار». (لِيَذَّكَّرُوا).

وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف ، أي ليذكروا نعمة الله به ويقوموا بشكره. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين ، أي ليعتبروا بالصرف إليهم وعنهم (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠) أي جحودا للنعمة من حيث لا يتفكرون فيها ، ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه. وقيل : المعنى : وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر بين الناس المتقدمين والمتأخرين في القرآن ، وسائر الكتب المنزلة على الرسل ليستدلوا به على الصانع ، فأبى أكثر الناس إلا كفور النعمة القرآن والكتب ، ولنعمة المطر حيث أسندوها لغير خالقها ، (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٥١) أي نبيا ينذر أهلها فيخف عليكم أعباء الرسالة ، ولكنا قصرنا الأمر عليكم وفضلناك على سائر الرسل (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي فلا توافقهم فيما يأمرونك (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٥٢) أي جاهدهم بسبب كونك نذيرا كافة القرى جهادا جامعا لك مجاهدة ، أو وجاهدهم ملابسا بترك طاعتهم بل بالشدة لا بالمداراة جهارا كبيرا ، وذلك بتلاوة ما في القرآن من الزواجر والنواذر وتذكير أحوال الأمم المكذبة ، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسلهما في مجاريهما متلاصقين (هذا عَذْبٌ) أي سائغ (فُراتٌ) أي بالغ في العذوبة حتى يصير إلى


الحلاوة ، (وَهذا مِلْحٌ) أي مر (أُجاجٌ) أي زعاق. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما) أي الطيب والمالح (بَرْزَخاً) أي حائلا غير مرئي بقدرة الله تعالى (وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٥٣) أي سترا ممنوعا به تغيير أحدهما طعم الآخر ، فالعذوبة أو الملوحة ، إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ) أي من ماء الذكر والأنثى (بَشَراً) أي خلقا كثيرا (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي فقسم البشر قسمين : ذكورا ينسب إليهم وإناثا يصاهر بهن ، أي يقارب ويخالط بهن. وقيل : النسب : ما لا يحل تزويجه من القرابة ، والصهر ما يحل التزويج من القرابة وغيرها. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (٥٤) حيث خلق من مادة واحدة بشرا مختلفا ألوانه ، وأعضاؤه وطباعه. وربما خلق من نطفة واحدة توأمين فأكثر. (وَيَعْبُدُونَ) أي كفار مكة (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) بعبادته في الدنيا والآخرة (وَلا يَضُرُّهُمْ) بترك عبادته فيهما ، وهو الأوثان. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥) أي وكان الكافر جماعة بعضهم معاون لبعض على إطفاء نور دين الله ، أو وكان الكافر معاونا للشيطان على عصيان ربه بالعداوة والشرك ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للمؤمنين على الطاعة (وَنَذِيراً) (٥٦) للكافرين على المعصية. (قُلْ) يا أكرم الرسل لأهل مكة : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧) أي لا أطلب على تبليغ الرسالة من أموالكم أجرأ إلا فعل من أراد أن يطلب المنزلة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة كما أدعوكم إليهما. وقيل : لا أطلب من أموالكم جعلا لنفسي عن التبليغ لكن من شاء أن ينفق أمواله لاتخاذ السبيل إلى ربه بالصدقة وغيرها فليفعل فالاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي اعتمد بقلبك في كل الأمور على الله تعالى والأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي نزهه تعالى عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على كثير نعمه. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨) أي كفى الله مطلعا على ذنوب عباده ما ظهر منها وما بطن. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، فخلق الأرض في يومين : الأحد والاثنين. وما بينهما في يومين : الثلاثاء والأربعاء. والسموات ، في يومين الخميس والجمعة وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة ومحل الموصل جر على أنه صفة ثانية لـ «الحي» (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) فالوقف على العرش تام إن أعرب «الرحمن» على المدح خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود إلا له وهو في الحقيقة صفة ثالثة لـ «الحي» كما قرأ زيد بن علي بالجر ، لأن المنصوب والمرفوع على سبيل المدح وإن خرجا عن التبعية لما قبلها صورة تابعان له حقيقة ولا يوقف على العرش إن أعرب «الرحمن» بدلا من الضمير المستكن في «استوى» فحينئذ فالوقف على الرحمن ، وهو وقف كاف. ومعنى «استوى على العرش» أي ارتفع خالق السموات والأرض ارتفاعا يليق بجلاله


وتصرف في ملكه تصرفا تاما. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩) أي فاسأل أيها الإنسان عنه تعالى عالما بصفاته من الراسخين في العلم ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي وإذا قيل لكفار مكة : اخضعوا للرحمن بالتوحيد والصلاة وغير ذلك. (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) : وما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذب أي فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرنا بسجوده من غير أن نعرف السجود له ماذا.

وقرأ حمزة والكسائي بالياء أي أنسجد لما يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو هل هو مسيلمة الكذاب أو غيره أو كان الضمير راجعا لسيدنا محمد على أن بعضهم قال لبعض : أنسجد لأمر محمد إيانا بالسجود من غير معرفتنا للمسجود له. (وَزادَهُمْ) أي الأمر بسجود الرحمن (نُفُوراً) (٦٠) أي تباعدا عن الإيمان (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي منازل الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم :

فتزاهرت لعطارد الأقمار

 

زحل شرى مريخه من شمسه

وأسماء البروج منظومة في قول بعضهم :

ورعى الليث سنبل الميزان

 

حمل الثور جوزة السرطان

نوح الدلو بركة الحيتان

 

و رمى عقرب بقوس لجدي

وهذه البروج الإثنا عشر مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس : مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي : مثلثة أرضية. والجوزاء والميزان والدلو : مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. (وَجَعَلَ فِيها) أي البروج (سِراجاً) وهو الشمس.

وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» بضم السين والراء وهي الشمس والكواكب الكبار ، (وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١) أي مضيئا بالليل. وقرأ الحسن والأعمش و «قمرا» وهي جمع قمراء ، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يعتقبان يأتي أحدهما بعد الآخر (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ). قرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين. وعن أبي بن كعب : ليتذكر أي لينظر الناظر في اختلافهما ، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من صانع رحيم للعباد ، (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢) أي ليشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف في النهار. وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، والحسن ، معنى الآية : من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار. ومن فاته بالنهار أدركه بالليل (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي هينين أي إن مشى عباد الله المقبولين في لين وسكينة وتواضع لا يضربون بأقدامهم ، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء. وعن زيد بن أسلم قال : التمست


تفسير «هونا» فلم أجد ، فرأيت في النوم فقيل لي : هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض. و «عباد» مبتدأ خبره الموصول و «ما» عطف عليه. (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بالسوء (قالُوا سَلاماً) (٦٣) أي ردوا معروفا كأن يقولوا لا خير بيننا وبينكم ، ولا شر فهو سلام توديع لا تحية. كقول سيدنا إبراهيم عليه‌السلام لأبيه سلام عليكم : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤) أي يحيون الليل بالصلاة ، و «سجدا» خبر «يبيتون». (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) في دعائهم : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (٦٥) أي هلاكا لازما أي فإنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦) وهذا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى فهو مستأنف ، وأن يكون حكاية لقولهم تعليل بسوء حالها في نفسها عقب تعليل بسوء حال عذابها. والمعنى : أن جهنم بئست جهنم هي حال كونها مستقرا للعصاة من أهل الإيمان فإنهم غير مقيمين فيها وحال كونها مقاما للكافرين فإنهم يخلدون ويقال : إن جهنم أحزنت داخليها من جهة موضع استقرار ، ومن جهة موضع إقامة. (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) أي لم يجاوزوا حد الكرام (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي ولم يضيفوا تضييق الشحيح (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار وسطا.

وقرأ نافع وابن عامر «يقتروا» بضم التحتية وكسر الفوقية ، وابن كثير وأبو عمرو بفتح التحتية وكسر الفوقية ، والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية فالقراءات السبعية ثلاثة والقاف على كل ساكنة. وقرئ «قواما» بكسر القاف ، أي ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة ، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد.

وروي أن رجلا صنع طعاما في أملاك ، فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «حق فأجيبوا». ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال : «خلق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد». ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال : «رياء ولا خير فيه». (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) أي لا يعبدون (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ). والمقصود من هذا تنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أي بالردة وبالقتل قودا ، وبالزنا بعد الإحصان ، فالمقتضى لحرمة القتل قائم أبدا وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله تعالى : (حَرَّمَ اللهُ) إشارة إلى المقتضى وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) إشارة إلى المعارض (وَلا يَزْنُونَ). وعن ابن مسعود قلت : يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال :«أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت : ثم أيّ قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت : ثم أيّ قال : أن «تزني بحليلة جارك» (١). فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ)

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٠٢٢٧).


أي ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين (يَلْقَ أَثاماً) (٦٨) أي جزاء إثمه. وقال الحسن : الأثام اسم من أسماء جهنم. وقال مجاهد : الأثام واد في جهنم.

وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد ، لأنه يقال لليوم الصعيب يوم ذو أيام (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وإسقاط الألف (وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي في ذلك العذاب (مُهاناً) (٦٩) أي مقرونا بالإذلال كما أن الثواب مقرون بالتعظيم. وقرأ ابن عامر وشعبة «يضاعف» و «يخلد» كلاهما بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال. وقرأ حفص مع ابن كثير «فيه» بصلة الهاء بالياء (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يغفر الله لهم تلك السيئات ، ويكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع ، ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (١). (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠).

روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ، فلما نزل صدرها قال أهل مكة : قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش فأنزل الله الا من تاب إلى رحيما (وَمَنْ تابَ) عن المعاصي بتركها والندم عليها ، (وَعَمِلَ صالِحاً) يتدارك به ما فرط ، ولو كان نيته وعمله كلاهما ضعيفا (فَإِنَّهُ يَتُوبُ) أي يرجع (إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١) أي رجوعا مرضيا عند الله أي ومن تاب عن المعاصي إلى الطاعة ، فإن التوبة منه في الحقيقة توبة إلى الله أي فإنه قد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب ، محصلة للثواب ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليتمنين أقوام لو أنهم أكثروا من السيئات». قيل : من هم يا رسول الله؟ قال : «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» (٢). (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يحضرون مواضع الكذب ، فإن حضور مجامع الفساق مشاركة لهم في تلك المعصية ولأن النظر دليل الرضا بها أو لا يشهدون بالكذب.

وقال محمد بن الحنفية : الزور الغناء (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي بأهل اللغو على سبيل الاتفاق من غير قصد (مَرُّوا كِراماً) (٧٢) أي مكرمين أنفسهم عن مثل حال اللغو ، وهو كل ما يجب أن يترك وإكرامهم لأنفسهم لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) أي والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على

__________________

(١) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٥٠٨٦) ، والبغوي في شرح السنّة (١٣ : ٨٦) ، وابن المبارك في الزهد (١٣٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٦٩٣).

(٢) رواه السيوطي في جمع الجوامع (٤٧٠٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٥٨١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٣٤٤) ، والقرطبي في التفسير (١٣ : ٨٧).


الأحكام والمواعظ أكبوا على تلك الآيات حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها ، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية. لا كالذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها ، وهم كالصم والعميان ، كالمنافقين والكفرة ـ كأبي جهل والأخنس بن شريق ـ فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل وهو الخرور كقولك : لا يلقاني زيد مسلما فهو نفي للإسلام لا للقاء وذلك تعريض بما يفعله الكفرة والمنافقون ، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي اجعل لنا ما يحصل به سرور أعين من أزواجنا وذرياتنا بأن نراهم صالحين مطيعين لك. وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم «ذرياتنا» بألف على الجمع. والباقون بغير ألف على الإفراد (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) أي يقتدون بنا في أمر الدين بإفاضة العلم وبالتوفيق للعمل (أُوْلئِكَ) أي المتصفون بتلك الصفات الثمانية (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي يثابون أعلى منازلة الجنة (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على طاعة الله والفقر والمرازي (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٧٥).

قرأ حمزة والكسائي وشعبة «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام أي يجدون في الغرفة إكرام الله تعالى لهم بالهدايا وسلامه عليهم بالقول. والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي يجعلهم الله تعالى في الغرفة لاقين ذلك. (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرفة ، لا يموتون ولا يخرجون (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦) ، أي حسنت الغرفة من حيث موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي أيّ اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى فإنكم وسائر البهائم سواء أو لا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته ، فإن مبالاة الله بشأن عباده حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إنما هو ليعرفوا حق المنعم ويطيعوه فيما كلفهم به (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به (فَسَوْفَ يَكُونُ) أي جزاء التكذيب (لِزاماً) (٧٧) أي ملازما لكم وهو عقاب الآخرة.


سورة الشعراء

مكية ، إلا أربع آيات من قوله : (وَالشُّعَراءُ) إلى آخر السورة فمدنية ، مائتان وسبع وعشرون

آية ، ألف ومائتان وسبع وستون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم) (١) ومحله رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف إن كان اسما للسورة وأما إن كان مسرودا على نمط التعديد بطريق التحدي فلا محل له من الإعراب وقيل : قسم أقسم الله تعالى به. وقال أهل الإشارة : هو إشارة إلى طاء طوله تعالى في كمال عظمته وإلى سين سلامته عن كل عيب ونقص وهو منفرد في تنزهه عنه وإلى ميم مجده في عزة كرم لا نهاية لها ، وإشارة أيضا إلى طاء طهارة قلب نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكونيين ، وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين ، وإلى ميم مشاهدته لجمال رب العالمين. وإشارة أيضا إلى طاء طيران الطائرين بالله ، وإلى سين سير السائرين إلى الله ، وإلى ميم مشي الماشين لله ، مشي العبودية لا مشي التفخر والتكبر. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ» (١). وعن البراء بن عازب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المص مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي»(٢). (تِلْكَ) أي هذه السورة (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) أي آيات القرآن الظاهر إعجازه والمبين للأحكام ، فألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم ، كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله ، فهو دليل التوحيد من هذا الوجه ، ودليل النبوة من حيث الإعجاز ، ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع ، وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع ، (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) فلعل للإشفاق وهو بمعنى الأمر أي أشفق على نفسك أن تقتلها

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٣٩٨).

(٢) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٣٩) ، والبغوي في شرح السنّة (٥ : ١٢٧) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٦٤١٩) ، والطبري في التاريخ (٢ : ٣٢١).


لعدم إيمان قريش بذلك الكتاب الفاصل بين الحق والباطل ، أو لا تبالغ في الحزن على ما فاتك من إسلام قومك لأنك يا أكرم الرسل إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ، ثم لا ينتفع بذلك أصلا ، والله تعالى نبه رسوله أن غمه على ذلك لا نفع فيه ، كما أن وجود الكتاب على وضوحه لا نفع لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله بخلافه (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) أي إن نشأ ننزل عليهم من السماء علامة مخوفة لهم ، قاصرة على الإيمان كرفع الجبل فوق رؤوسهم ، كما وقع لبني إسرائيل فيصيروا لتلك العلامة منقادين في قبول الإيمان وذكر الأعناق لبيان موضع الخضوع ، واكتسبت إضافتها إلى العقلاء حكمهم ، كما اكتسبت الإضافة إلى المؤنث التأنيث كعكسه ، ولذلك كان الخبر مجموعا جمع سلامة لمذكر عاقل. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥) أي ما يأتي أهل مكة من موعظة من المواعظ القرآنية تنبههم عن الغفلة من جهة الله تعالى مجدد تنزيله بحسب المصلحة إلا وقد جددوا إعراضا عنه على وجه التكذيب. (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بلغوا النهاية في رد الذكر الذي يأتيهم ردا مقارنا للاستهزاء به حيث جعلوه تارة سحرا ، وأخرى أساطير وأخرى شعرا (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٦) أي سيأتيهم مصداق استهزائهم من العقوبات العاجلة والآجلة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) أي أفعل كفار مكة الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا الداعية إلى الإيمان بالآيات (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٧) أي كثيرا من كل صنف مرضى في جماله ، وفي فوائده أنبتنا في الأرض ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنبات (لَآيَةً) عظيمة دالة على كمال قدرة المنبت ، وغاية وفور عمله وحكمته ونهاية سعة رحمته (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) أي وما أكثر قومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنين أي مع ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم ، وكان صلة عند سيبويه ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩) أي إن ربك غالب على الأمور ، ومع ذلك رحيم بعباده ، ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) أي واذكر يا أكرم الرسل لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى موسى عليه‌السلام ، وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه زجرا لهم عن التكذيب.

قال أبو الحسن الأشعري : المسموع هو الكلام القديم ، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات مع أنها مرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة ، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع.

وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه‌السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات لأنا حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت أنا نسمع الأجسام فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعا. (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) أي بالكفر والمعاصي واستعباد بني


إسرائيل وذبح أبنائهم ، وكان بنو إسرائيل في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان (أَلا يَتَّقُونَ) (١١).

وهذا كلام مستأنف جيء به حملا لموسى على التعجب من حالهم في الظلم والعسف ، ومن عدم خوفهم أي تعجب يا موسى من عدم تقواهم.

وقرئ بكسر النون والأصل ألا يتقونني ، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة. وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات الدال على زيادة الغضب عليهم ، أي قل لهم : ألا تخافون عقاب الله فـ «ألا» للتنبيه وللعرض. (قالَ) أي موسى إظهارا لعجزه وطلبا للمعونة : (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (١٢) من أول الأمر (وَيَضِيقُ صَدْرِي) بتكذيبهم إياي (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بسبب ضيق القلب ، وهذان الفعلان مرفوعان معطوفان على «أخاف».

وقرأ زيد بن علي ، وطلحة ، وعيسى ، والأعمش بالنصب فيهما معطوفان على صلة «أن» و «الأعرج» بنصب الأول ورفع الثاني ، (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (١٣) أي فأرسل جبريل إلى أخي هارون ليكون رسولا مصاحبا لي في دعوة فرعون وقومه : وكان هارون إذ ذاك بمصر وموسى في المناجاة في الطور (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي تبعة قتل القبطي (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (١٤) به قبل أداء الرسالة ، كما ينبغي إن أتيتهم وحدي فيفوت المقصود من الرسالة. (قالَ) الله : (كَلَّا) أي ارتدع يا موسى عما تظن أو حقا لا أسلطهم عليك بالقتل ، (فَاذْهَبا) أي اذهب أنت ومن طلبته ـ وهو هارون ـ (بِآياتِنا) الدالة على صدقكم ، أي فإنها تدفع خوفكما (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥) أي لكما ولعدوكما ناصر لكما عليه ، وسامع لما يجري بينكما وبينه فأعلّيكما عليه ، وأكسّر شوكته عنكما (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦) إليك وإلى قومك وإفراد الرسول لاتحادهما بسبب الأخوة واتفاقهما على شريعة واحدة ، أو لأن المعنى : إن كل واحد منا رسول رب العالمين. (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧) ، و «أن» مفسرة ، أي أطلقهم وخلهم وشأنهم ليذهبوا معنا إلى الشام ، فانطلقا إلى فرعون ، وقالا له ما أمرا به ، وروى وهب وغيره : أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود ، يتفرج عليها ، فخاف خدامها أن تبطش بموسى وهارون فأسرعوا إليها وأسرعت السباع إلى موسى وهارون ، فأقبلت تلحس أقدامهما وتبصبص إليهما بأذنابها ، وتلصق خدودها بفخذيهما ، فعجب فرعون من ذلك فقال : ما أنتما؟ قالا : إنّا رسول رب العالمين فعرف هو موسى عليه‌السلام : (قالَ) عند ذلك لموسى عليه‌السلام (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) أي في منازلنا (وَلِيداً) أي صغيرا (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (١٨) ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين ، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ، ثم بعد الغرق خمسين سنة. وقيل : مكث عليه الصلاة والسلام عند فرعون خمس عشرة سنة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) وهي وكز القبطي حتى مات (وَأَنْتَ مِنَ


الْكافِرِينَ) (١٩) أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية ، وعدم اتخاذك عبدا لي كبني إسرائيل أو من الذين يكفرون في دينهم ، فقد كانت لهم آلهة (قالَ) موسى : (فَعَلْتُها) أي تلك الفعلة (إِذاً) أي حين إذ كنت لابثا فيكم (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٠) أي الناسين عن معرفة ما يؤول إليه القتل ، لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب.

وقرئ من الجاهلين أي بأن ذلك الفعل يؤدي إلى القتل (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) إلى ربي (لَمَّا خِفْتُكُمْ) أن تؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي ، لأني قتلت القتيل خطأ ، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرا. وروي عن حمزة «لما خفتكم» بكسر اللام وب «ما» المصدرية ، أي لتخوفي منكم (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي علما وفهما في الدين (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) بعد تلك الفعلة (وَتِلْكَ) أي التربية (نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢) ، ومحل «أن عبدت» رفع عطف بيان لتلك أو بدل من «نعمة» أي وتلك جعلك بني إسرائيل عبيدك وقصدك إياهم بذبح أبنائهم هو السبب في وقوعي عندك وإنفاقك علي مما أخذت من أموالهم ، فلو لم يكن ذلك الظلم لكنت مستغنيا عن تربيتك ، فلا نعمة لك علي بالتربية ، ولا فضيلة لك في عدم استعبادي الذي مننت به علي ، لأن استبعادك لغيري ظلم ، كما أن عدم قتلك إياي لا يعد إنعاما ، لأن قتلك غيري ظلم.

وقال الزجاج : ويجوز أن يكون «أن عبدت» في محل نصب مفعولا لأجله والمعنى إنما صارت التربية نعمة علي لأجل أن عبدت بني إسرائيل فلو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي. (قالَ فِرْعَوْنُ) ـ لما سمع منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالة المتينة ـ : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣) أي أيّ شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله؟ (قالَ) موسى مجيبا له بإبطال دعواه أنه إله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق هذه الثلاثة ، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢٤) باستناد هذه المحسوسات إلى موجود هو واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته ، فالسؤال عن الحقيقة سفه. (قالَ) أي فرعون : (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه كانوا خمسمائة لابسين للأساورة ولم يلبسها إلا السلاطين : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٢٥) جوابه ، فقد سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله؟! (قالَ) موسى : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) ، جاء موسى عليه‌السلام بدليل يفهمونه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء فنوا ، وأنهم كانوا بعد أن لم يكونوا ، وأنهم لا بد لهم من مكون ومفن. (قالَ) فرعون لخاصته وعليهم أقبية الديباج ، مخوصة بالذهب ، وقد خاف من تأثرهم من جواب سيدنا موسى عليه‌السلام : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) لا يفهم السؤال لأني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن آخر ، وأسند فرعون الرسول إلى من حوله تكبرا عن أن يكون مرسلا إلى نفسه ، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء. (قالَ) موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) أي هو خالق موضع طلوع الشمس وغروبها ووقتهما وما بينهما فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع ، تنتظم به أمور الكائنات وكل


ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) أي إن كان لكم عقل ، علمتم أن لا جواب فوق ذلك وأن الأمر كما قلته. (قالَ) فرعون لموسى عليه‌السلام لما عجز عن الحجج : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٩) أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني ، وكان من عادة اللعين أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها ولا يسمع حتى يموت ، فكان ذلك أشد من القتل ولذلك لم يقل تعالى : لأسجننك ، لأنه لا يفيد إلا صيرورته مسجونا.

وروي أن اللعين يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله. (قالَ) موسى له : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٣٠) أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك بأمر بيّن في باب الدلالة على وجود الله تعالى ، وعلى أني رسوله أي وهل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بالمعجزات الدالة على صدق دعواي؟! (قالَ) فرعون له : (فَأْتِ بِهِ) أي بذلك الشيء (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١) في دعوى الرسالة ، وفي أن لك برهانا ، وإنما أمره ـ عليه‌السلام ـ فرعون بالإتيان بالشيء الموضح لصدق دعواه عليه‌السلام ، لظنه أنه يقدر على معارضته ، ولطمعه في أن يجد موضعا للإنكار. (فَأَلْقى عَصاهُ).

قال ابن عباس : عصا موسى اسمها ماشا. وقيل : نبعة. (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢) أي حية عظيمة صفراء ، ذكر تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات ، وليس بتمويه كما يفعله السحرة : (وَنَزَعَ يَدَهُ) من إبطه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣) تضيء الوادي من شدة بيضاها من غير برص ، لها شعاع كشعاع الشمس تعجب الناظرين إليها. قيل : لما رأى فرعون الآية الأولى قال هل لك غيرها فأخرج موسى يده فقال لفرعون ما هذه فقال فرعون : يدك. فما فيها فأدخلها في إبطه ، ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ، ويسد الأفق ، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورا ثلاثة. (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا) الرسول (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣٤) أي حاذق بالسحر ، فإن الزمان كان زمن السحرة ، وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج فرعون عليهم هذا القول ، (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد هذا الرجل أن يخرجكم من مصر بما يلقيه بينكم من العداوات ، فيفرق جمعكم ، وهذا يجري مجرى التنفير عن موسى عليه‌السلام ، فإن مفارقة الوطن أصعب الأمور ، فنفرهم عنه بذلك (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٣٥) أي فأيّ شيء تأمرونني به في شأنه؟ فإني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم. ومثل هذا الكلام يوجب انصراف القلوب عن العدو ، فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخر مناظرتهما لوقت اجتماع السحرة. وقيل : احبسهما ولا تقتلهما لما روي أن فرعون أراد قتلهما ، ولم يصل إليهما فقالوا له : لا تفعل فإنك إن قتلتهما أدخلت على الناس شبهة في الدين ولكن أخّر أمرهما إلى أن تجمع السحرة ليقاوموها ، فلا تثبت لهما حجة عليك.


وقرأ قالون «ارجه» بغير همز ، وباختلاس كسرة الهاء وورش والكسائي بإشباع كشرة الهاء ، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة ، وبصلة الهاء المضمومة. وأبو عمرو بضم الهاء مع الاختلاس وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء مع الاختلاس. وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٣٦) أي أنفذ إلى مدائن الساحرين شرطا يحشرهم وذلك لظنهم إذا كثر السحرة غلبوا موسى عليه‌السلام وكشفوا حاله. (يَأْتُوكَ) أي الحاشرون (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧) أي فائق في فن السحر على موسى ، (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣٨) أي في زمان يوم معروف ، وفي مكان معروف. وعن ابن عباس : وافق يوم السبت من أول يوم النيروز وهو أول سنتهم. وعن ابن عباس قال : كانت السحرة سبعين رجلا وسمى ابن إسحاق رؤساءهم : سابورا وغادور وخطخط ومصفى وشمعون. وعن ابن جرير كان اجتماعهم بالإسكندرية. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٤٠). والاستفهام للحث على المبادرة إلى الاجتماع والتراجي للغلبة لا لاتباع السحرة ، لأنه مقطوع به عندهم أي احضروا لتشاهدوا ما يكون من الجانبين ، فإنا نرجو أن تكون الغلبة للسحرة ، فنتبعهم لا نتبع موسى (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي جزاء من المال والجاه (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (٤١) على موسى ، فبذل فرعون لهم البذل والمنزلة. (قالَ) فرعون : (نَعَمْ) أي لكم الأجرة على عملكم السحر ، (وَإِنَّكُمْ إِذاً) أي إذ كنتم غالبين (لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٢) عندي في الدخول على تكونون أول من يدخل علي ، وآخر من يخرج عني.

وقرأ الكسائي «نعم» بكسر العين. (قالَ لَهُمْ مُوسى) مريدا لإبطال سحرهم ، لأنه لا يمكن منه إلا بإلقائهم : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤٣). وهذا تهديد ، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما نبطله ، (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) اثنين وسبعين حبلا واثنتين وسبعين عصا (وَقالُوا) أي السحرة عند الإلقاء : نقسم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) (٤٤) على موسى ، (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥) أي تبتلع بسرعة ما يغيرونه عن حاله الأول من الجمادية إلى كونه حية تسعى.

روي عن ابن عباس كانت حبالهم مطلية بالزئبق ، وعصيهم مجوفة مملوءة من الزئبق ، فلما حميت اشتدت حركتها ، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض ، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ، حتى أكلت الكل. ثم أخذ موسى عصاه ، فإذا هي كما كانت ، فلما رأت السحرة ذلك قالوا لفرعون : كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي ، وكذلك إن غلبونا ، ولكن هذا حق! (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦) أي سقطوا على الأرض ساجدين عقب ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم ، لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يد موسى عليه الصلاة والسلام ، لتصديقه. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) عطف بيان لـ «رب»


العالمين ، لأن فرعون كان يدّعي الربوبية ، فأرادوا عزله وإنما أسندوا الرب إلى موسى وهارون ، لأنهما اللذان دعواهم إليه (قالَ) أي فرعون للسحرة : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي آمنتم لموسى بغير أن آذان لكم! (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي إن موسى علمكم شيئا دون شيء ، فلذلك غلبكم ، فإنكم فعلتم ذلك عن موافقة بينكم وبين موسى ، وقصرتم في السحر لتظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل فعل موسى عليه‌السلام ـ وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله عليه‌السلام ـ (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) ، وهو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٩) على شاطئ نهر مصر. وهذا تهديد شديد وليس في الإهلاك أقوى من ذلك ، وليس في الآية أن فرعون فعل ذلك أو لم يفعل. (قالُوا) أي السحرة : (لا ضَيْرَ) أي لا ضرر في ذلك علينا (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (٥٠) ومقصودهم بالإيمان محض الوصول إلى مرضاته تعالى ، والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١) فإنا إلى ربنا ، و (إِنَّا نَطْمَعُ) كلاهما تعليل لعدم الضير ، و (أَنْ كُنَّا) تعليل لطمع غفران الخطايا ، أي لا ضير علينا في قتلك إيانا لأنا نرجو أن يغفر لنا ربنا شركنا لكوننا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف من رعية فرعون.

وقرئ «إن كنا» بالكسر على الشرط على طريقة قول المدل كقول العامل لمستأجر يؤخر أجرته : إن كنت عملت لك فوفني حقي. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد ثلاثين سنة (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) من آمن بك من بني إسرائيل ، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة. والباقون بسكون النون وقطع الهمزة. وقرئ «أن سر» فـ «أن» حرف تفسير (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢) تعليل للأمر بالإسراء ، أي لأنه يتبعكم فرعون وجنوده فلا يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون : إن لنا في هذه الليلة عيدا ، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر.

قال القرطبي : فخرج موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره ، وتوجه نحو البحر ، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر وقوّى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم ، ووصف قوم نفسه بصفة المدح ، وذلك قوله تعالى : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٥٣) أي شرطا جامعين للعساكر ليتبعوهم. قيل : كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية. وقال لهم : (إِنَّ هؤُلاءِ) أي بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) (٥٤) أي لطائفة قليلة ، وكانوا ستمائة ألف مقاتل ليس فيهم من دون عشرين ولا من يبلغ ستين سوى الحشم ، وفرعون يقللهم لكثرة من معه


أو لإرادة ذلتهم. إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ، ومع كل ملك ألف ، وخرج فرعون في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان ، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث.

وروي أن فرعون خرج على حصان أدهم وفي عسكره على لون فرسه ثلاثمائة ألف ، (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) (٥٥) أي لفاعلون أفعالا تضيق صدورنا حيث خالفوا ديننا وذهبوا بأموالنا التي استعاروها ، وخرجوا من أرضنا بغير إذننا ، (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦) أي لجماعة يستعملون الحزم في الأمور.

وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء أي شاكون السلاح. وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء أشداء. (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي جعلنا في قلوب فرعون وقومه داعية الخروج (مِنْ جَنَّاتٍ) أي بساتين من أسوان إلى رشيد ، (وَعُيُونٍ) (٥٧) أي أنهار جارية في البساتين والدور ، (وَكُنُوزٍ) أي أموال. وسميت كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. قيل : كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام ، على فرس عتيق ، في عنق كل فرس طوق من ذهب (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٥٨) أي منازل حسنة قيل : كان فرعون إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء ، وعليهم أقبية الديباج مرصعة بالذهب. (كَذلِكَ) وهو مصدر تشبيهي أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، أو وصف لمقام أي وأخرجناهم من مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم أو خبر مبتدأ محذوف أي إخراجنا كما وصفنا. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) أي جعلناهم متملكين لتلك النعم بعد هلاك فرعون وقومه. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٦٠) أي فجعلوا أنفسهم تابعة لبني إسرائيل وقت طلوع الشمس.

وقرئ «فاتبعوهم» أي فلحقوهم داخلين في وقت الشروق. (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي رأى كل واحد من جمع موسى وجمع فرعون الآخر. وقرئ «تراءت الفئتان». (قالَ أَصْحابُ مُوسى) بنو إسرائيل وغيرهم (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) أي لملحقون. وقرئ «لمدّركون» بتشديد الدال وكسر الراء أي لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد. (قالَ) موسى لهم : (كَلَّا) أي ارتدعوا عن ذلك التوهم ، أو حقا لن يدركونا ، لأن الله وعدنا الخلاص منهم. (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالنصرة (سَيَهْدِينِ) (٦٢) أي يدلني على طريق النجاة منهم ألبتة.

روي أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه كان يدي موسى عليه‌السلام فقال : يا كليم الله أين أمرت؟ قال : هاهنا فحرك فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه ، ثم أقحمه البحر ، فارتسب في الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فأوحى الله إليه بضرب البحر بعصاه ، فإذا الرجل واقف على فرسه ولم يبتل سرجه وذلك قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه (فَانْفَلَقَ) أي انشق بقدرة الله تعالى فصار اثني عشر فرقا بعدد


الأسباط بينهن مسالك. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) حاصل بالانفلاق (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) أي كالجبل المرتفع في السماء فدخلوا في شعاب تلك الفرق ، كل سبط في شعيب منها فقال كل سبط : قتل أصحابنا ، فعند ذلك دعا موسى ربه ، فجعل في تلك الجدارن المائية مناظر كالكوى ، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (٦٤) أي قربنا في موضع انفلاق البحر قوم فرعون حتى دخلوا عقب قوم موسى مداخلهم. وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه‌السلام كان بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم ، ويقول للقبط : رويدكم ليلحق آخركم أولكم. وقيل : وقربناهم إلى الموت لأنهم قربوا من أجلهم في ذلك الوقت. وقيل : المعنى : وحبسنا فرعون وقومه في الضبابة عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى.

وقرئ و «أزلقنا» بالقاف أي أزللنا أقدامهم. والمعنى : أذهبنا عزهم ، (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ) من قومه وغيرهم (أَجْمَعِينَ) (٦٥) بحفظ البحر على انفلاقه اثني عشر فرقا إلى أن عبروا إلى البر (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٦٦) بإطباق البحر عليهم لما تكامل دخولهم البحر. قيل : هذا البحر بحر القلزم وقيل : بحر إساف وهو بحر وراء مصر. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الذي حدث في البحر (لَآيَةً) أي عبرة عجيبة دالة على قدرته تعالى ، وذلك أن الله تعالى أراد أن تكون الآية متعلقة بفعل موسى وإلا فضرب العصا ليس بفارق البحر ، ولا معينا على ذلك بذاته بل بما اقترن به من اختراع الله تعالى (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٦٧) فـ «كان» زائدة على رأي سيبويه ، أي وما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش مؤمنين ، لأنهم لا يتدبرون في حكايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد ، ويجوز أن يجعل «كان» بمعنى صار ، أي وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان ، (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا أكرم الرسل (لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨) ، أي لهو القادر على إهلاك المكذبين إياك بعد مشاهدة هذه الآية العظيمة من طريق الوحي ، وهو المبالغ في رحمة عباده ولذلك لا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم مع كمال استحقاقهم لذلك. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي كفار مكة (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (٦٩) والفعل معطوف على الفعل المقدر العامل في «إذ نادى» إلخ. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر (وَقَوْمِهِ) ليريهم أن ما يعبدونه ليس ممن يستحق العبادة في شيء فـ «إذ» ظرف للنبأ. (ما تَعْبُدُونَ) (٧٠) أي أيّ شيء تعبدونه؟ (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١) أي فنصير مديمين على عبادتها وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج بعبادة الأصنام. (قالَ) إبراهيم منبها على فساد مذهبهم : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) (٧٢) أي هل يسمعون دعاءكم حين دعوتموهم وهل يجيبونه؟ وقرئ «هل يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم أي هل يسمعونكم جوابا عن دعائكم ، (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) في معايشكم بسبب عبادتكم لها (أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) في معايشكم بترككم لعبادتها إذ لا بد للعبادة من


جلب نفع أو دفع ضر. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٧٤) أي فعند هذه الحجة القوية لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى قولهم : ما علمنا منهم ما ذكر من الأمور ، بل وجدنا آباءنا يعبدون مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ، وعلى وجوب الاستدلال. (قالَ) إبراهيم : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) (٧٦) أي أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه حق العلم ، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أو لا؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) فالاستثناء إما منقطع فالمعنى : فاعلموا أن معبودكم عدو لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فأعبده. أو متصل فالمعنى : فإن كل معبود عدو لي إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوي بل هو وليي ومعبودي ، وصوّر سيدنا إبراهيم الأمر في نفسه تعريضا بهم فالمعنى إني تفكرت في أمري فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان ، فإنه أعدى عدو الإنسان فاجتنبتها. وأراهم سيدنا إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول وأبعث إلى الاستماع منه (الَّذِي خَلَقَنِي) من النطفة على هيئة التصوير ، (فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩) أي يرزقني بكل منافع الرزق (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) وأكثر أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) في الدنيا بقبض روحي (ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) يوم القيامة للمجازاة ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) بترك الأولى (يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) أي الجزاء.

روي أن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم ، وتعليم لأممهم ليكونوا على حذر ، ثم ذكر الله تعالى مناجاة سيدنا إبراهيم بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي كمالا في العمل ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٨٣) أي الأنبياء المرسلين في درجات الجنة أي اجمع بيني وبينهم في الجنة ، (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) أي اجعل لي جاها وذكرا جميلا باقيا إلى يوم الدين ، فإن من صار ممدوحا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل ، فيكون له مثل أجورهم ، أو اجعل من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى ، وقد أجاب الله دعاءه فما من أمة إلا وهي تثني عليه ، وجعله الله شجرة فرع الله منها الأنبياء ، (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) أي اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم ، وهذا إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بكرمه تعالى (وَاغْفِرْ لِأَبِي) أي اهده إلى الإيمان (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) من طريق الحق (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧) أي ولا تجعلني من الذليلين ، ولا من المستحيين يوم


يبعث العباد من القبور فخزي كل واحد على حسب مقامه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما أن درجات الأبرار دركات المقربين (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) فيوم بدل من يوم قبله وإلا من أتى مفعول لينفع أي لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه الخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء إلا أحدا سلم قلبه عن الكفر والأخلاق الرذيلة فينفعه ماله الذي أنفقه في الخير وولده الصالح بدعائه ، وأما الذنوب فلا يسلم منها أحد (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٩٠) أي ويوم قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ، فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٩١) أي ويوم جعلت النار ظاهرة للضالين عن طريق الإيمان والتقوى بحيث يرونها مع ما فيها فيتحرنون على أنهم المسوقون إليها. (وَقِيلَ لَهُمْ) على سبيل التوبيخ : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ)؟ أي أين آلهتهم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع عذاب عنكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (٩٣) أي أو ينفعون أنفسهم بامتناعهم من العذاب فإنهم وآلهتهم وقود النار ، وهو قوله تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٩٥) أي فألقي في الجحيم الأصنام والذين عبدوها ، والذين أضلوهم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها ، فيجتمعون في العذاب لاجتماعهم فيما يوجبه. (قالُوا) أي العابدون معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة ، (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) (٩٦) أي والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٩٧) وهذا معمول لـ «قالوا» ، وجملة «وهم فيها» إلخ في محل نصب على الحال «وإن» مخففة من الثقيلة قد حذف اسمها الذي هو ضمير الشأن ، واللام فارقة بينها وبين النافية أي إن الشأن كنا في ضلال واضح لإخفاء فيه (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) ظرف لكونهم في ضلال مبين أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام برب العالمين الذي أنتم أذل مخلوقاته في استحقاق العبادة ، (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٩٩) أي الذين دعونا إلى عبادة الأصنام من رؤسائنا وكبرائنا (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (١٠٠) كما نرى المؤمنين أن لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ، (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١) أي خالص مع موافقة الدين كما نرى أن المؤمنين أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون ، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض ، وفي بعض الأخبار يجيء يوم القيامة عبد يحاسب فيستوي حسناته وسيئاته فيقول الله تعالى : عبدي بقيت لك حسنة إن كنت تريد أن أدخلك الجنة انظر واطلب من الناس لعل واحدا يهب منك حسنة واحدة ، فيأتي العبد في الصفوف ويطلب من أبيه ، ثم من أمه ، ثم من أصحابه فلا يجيبه أحد وكل يقول له : أنا اليوم مفتقر إلى حسنة واحدة فيرجع إلى مكانه فيسأله الله تعالى ويقول : ماذا جئت به؟ فيقول : يا رب لم يعطني أحد حسنة واحدة من حسناته فيقول الله تعالى : يا عبدي ألم يكن لك صديق في فيذكر العبد ويقول فلان كان صديقا لي فيدله الله عليه فيأتيه فيكلمه


في حاجته فيقول : بلى لي عبادات كثيرة اقبلها مني فقد وهبتها منك ، فيجيء هذا العبد إلى موضعه ويخبر بذلك ربه فيقول الله تعالى : قد قبلتها منه ولم أنقص من حقه شيئا وقد غفرت لك وله. (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي فليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٢) منصوب في جواب التمني (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم المشتمل على بيان بطلان ما عليه أهل مكة من عبادة الأصنام (لَآيَةً) أي لعظة لمن أراد أن يعتبر وحجة لمن أراد أن يستبصر بها (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٠٣) أي وما أكثر هؤلاء الذين نتلو عليهم النبأ مؤمنين ، بل هم مصرون على الكفر والضلال (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ، ولكنه يمهلهم بحكم رحمته الواسعة ليؤمن بعض منهم أو من ذرياتهم (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٠٥) بتكذيبهم نوحا فمن كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل ، لأن الأخير جاء بما جاء به الأول من التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٠٦) الله حيث تعبدون غيره (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله تعالى (أَمِينٌ) (١٠٧) أي مشهور بالأمانة فيما بينكم فكيف تتهموني اليوم؟ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٠٨) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي وما أسألكم على هذا النصح أجرة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما ثوابي في دعائي لكم (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠٩).

وقرأ نافع وأبو عمرو ، وابن عامر وحفص بفتح الياء في «أجري» في المواضع الخمسة في هذه السورة. والباقون بالسكون. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١١٠) أي اتبعوا وصيتي ، وكرر الأمر بالتقوى ، لأن المعنى في الأزل ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله. وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذا منكم أجرة. فلا تكرار فيه لأن المعنى مختلف. (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (١١١) والواو للحال أي أنصدقك يا نوح لأجل قولك هذا؟ والحال أنه قد اتبعك فقراء الناس وضعفاؤهم من النسب قيل : هم من أهل الصناعات الخسيسة كالحجامة والحياكة.

وقرأ يعقوب و «أتباعك الأرذلون»! فهو مبتدأ وخبر والجملة حال والاتباع جمع تابع أو تبع كأشهاد وأبطال (قالَ) نوح : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١٢) وهذا جواب عما أشير إليه من قولهم : إنهم لم يؤمنوا عن نظر وإخلاص عمل وإنما آمنوا بالهوى والطمع في العزة والمال ، وكان زائدة أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن بواطنهم ولم أكلف العلم بأعمالهم ، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان فالاعتبار بالإيمان لا بالصنائع (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) أي ما محاسبة أعمالهم وبواطنهم إلا على ربي فإنه مطلع على السرائر (لَوْ تَشْعُرُونَ) (١١٣) أي لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٤) بأن لا أقبل الإيمان منهم للطمع في إيمانكم (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١١٥) أي ما أنا إلا مبعوث لإنذاركم بالبرهان الواضح ولزجر المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا من الأعزاء أو من الأراذل وقد فعلت وليس علي


استرضاء بعضكم بطرد الفقراء لأجل اتباع الأغنياء. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عن مقالتك (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١١٦) أي من المقتولين كما قتلنا من آمن بك من الغرباء.

وقال الكلبي ومقاتل : أي من المقتولين بالحجارة. وقال الضحاك : أي من المشتومين (قالَ) نوح عند حصول اليأس من فلاحهم شاكيا إلى الله تعالى : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) (١١٧) في الرسالة وقتلوا من آمن بي من الغرباء (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا ، وافتح بابا من أبواب عدلك على مستحقيه بأن تنزل العقوبة بهم ، وبابا من أبواب فضلك على مستحقيه (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٨) مما تعذب به الكافرين ، وكان المؤمنين ثمانين أربعين من الرجال وأربعين من النساء (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١١٩) أي حال كونهم في السفينة الموقرة بالناس والحيوان والطير وبما لا بد لهم منه (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) (١٢٠) أي أغرقنا بعد ركوب نوح والمؤمنين على السفينة والباقين على الأرض من قومه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الإنجاء والإهلاك (لَآيَةً) أي لعبرة لمن بعدهم ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٢١) أي ما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنين ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ، ولكنه يمهلهم لأنه رحيم ذو حكمة ، (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣) أي كذبت قوم هود هودا وسائر الرسل الذين ذكرهم هود ، فعاد اسم قبيلة هود سميت باسم أبيها الأعلى ، وكان من نسل سام بن نوح. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) ـ في النسب ـ نبيهم (هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤) الله ، فتفعلون ما تفعلون؟ (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٢٥) على الرسالة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٢٦) فيما أمرتكم به من الإيمان والتوبة (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي الدعاء إلى التوحيد (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢٧) ، وكان هود تاجرا جميل الصورة ، يشبه آدم وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (١٢٨) أي أتبنون بكل مكان مرتفع علامة تعبثون فيها بمن يمر بكم. وقيل : إنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) أي حيضانا تجمعون فيها ماء المطر ، فهي من نوع الصهاريج. وقيل : القصور (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (١٢٩) أي مؤملين أن تخلدوا في الدنيا لإنكاركم البعث فلعل للتجري وهو للتوبيخ ، وقيل : للتعليل ويؤيده قراءة عبد الله «كي تخلدون» وقيل : معناها التشبيه ويؤيده ما في مصحف أبيّ «كأنكم تخلدون» وقرئ «كأنكم خالدون». وقرئ بضم التاء مع تخفيف اللام وتشديدها (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (١٣٠) أي إذا أخذتم بالعقوبة على أحد بأن ضربتم أحدا بسوط أو قتلتم بالسيف فعلتم فعل الغاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ، ولا نظر في العاقبة. والحاصل أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو ، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل معصية (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك هذه الأفعال (وَأَطِيعُونِ) (١٣١) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) (١٣٢) ، أي واخشوا الذي أعطاكم ما لا خفاء فيه عليكم من أنواع النعم


الحاصلة لكم ، ثم بين هود عليه‌السلام ما أعطاهم الله تعالى فقال : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٣٤) فأنتم تنتفعون بذلك كله فلا تغفلوا عن تقييده بالشكر ، (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تقوموا بشكر هذه النعم (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥) في الدنيا والآخرة فإن كفران النعم مستتبع للعذاب. (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) (١٣٦) فإنا لن نرجع عما نحن فيه لأجل وعظك إيانا (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (١٣٧).

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام ، أي ما هذا الذي جئنا به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يسطرونه أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة آبائنا الأولين يدينون به ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة والبلاء والعافية ، ومن اعتقاد أن لا بعث ولا حساب ، ولا جزاء إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها من قديم الدهر. وقرأ الباقون بفتح الخاء وسكون اللام ، أي ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين ، وما خلقنا هذا إلا خلق الأمم الماضية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١٣٨) على ما نحن عليه من الأعمال كما تقول (فَكَذَّبُوهُ) في وعيده بالعذاب ، (فَأَهْلَكْناهُمْ) بريح باردة شديدة الصوت (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك (لَآيَةً) أي لعبرة لمن بعدهم ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي وما صار أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على ما يريده من انتقام المكذبين (الرَّحِيمُ) (١٤٠) أي المبالغ في الرحمة ، ولذلك يمهلهم بعدم إيمانهم لحكمة يعلمها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (١٤١) أي كذبت جماعة صالح صالحا. فثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح ، وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة وبينه وبين هود مائة سنة ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في نسب نبيهم (صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٤٢) الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ) (١٤٣) في جميع ما أرسلت به إليكم منه (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٤٤) أي اتبعوا ديني وأمري ، (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على ما جئتكم به (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٤٥) وليعلم كافة الناس أن من عمل لله لا ينبغي أن يطلب من غير الله ، وينبغي للعلماء أن يتأدبوا بآداب الأنبياء فلا يطلبوا من الناس شيئا في بث علومهم ، ولا ينتفعوا منهم بالتذكير لهم ، ومن انتفع من المستمعين من الدين فلا بركة فيما يأخذ منهم. (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) (١٤٦) أي أتظنون أنكم تتركون في الدنيا آمنين من العذاب ، وأنه لا دار للمجازاة أي لا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتقلبون في النعم التي في دياركم آمنين من الزوال والعذاب فلا تطمعوا في ذلك ، ثم فسر المكان بقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) (١٤٨) أي لطيف لين والطلع ثمر النخل في أول ما يطلع وبعده يسمى خلالا ، ثم بلحا ، ثم بسرا ، ثم رطبا ، ثم تمرا. (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (١٤٩).

وقرأ ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء أي ماهرين في العمل ويعملون بنشاط وطيب


قلب. وقرأ الباقون بغير ألف أي متكبرين لا للحاجة ، فالغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية ، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة. وأما الغالب على قوم هود فهو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والتجبر (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٥٠) في كل ما أمرتكم به (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (١٥١) أي المستكثرين من لذات الدنيا وشهواتها بل اكتفوا واقتصروا منها بقدر الكفاف ، (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢). وهذا بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح ، فإن حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (١٥٣) أي ممن يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب كما قال الفراء المسحر من له جوف ، (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فكيف تكون نبيا (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي بعلامة تدل على صدقك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٥٤) في دعواك أنك رسول إلينا! فقال لهم صالح : ما تريدون؟ قالوا : نريد ناقة عشراء من هذه الصخرة فتلد سقبا فأخذ صالح يتفكر. فقال له جبريل : صل ركعتين وسل ربك الناقة ففعل ، فخرجت الناقة ، وبركت بين أيديهم ونتجت سبقا مثلها في العظم. وعن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعا في ستين ذراعا ، (قالَ) لهم صالح : (هذِهِ ناقَةٌ) دالة على نبوتي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم (لَها شِرْبٌ) أي نصيب من الماء تشرب منه يوما (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥) أي ولكم نصيب من الماء تشربون منه يوما ولا تزاحموا على شربها (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها).

روي أن مصدعا ألجأها إلى مضيق ، فرماها بسهم ، فسقطت ، ثم ضربها قدار بالسيف في ساقيها. قال مقاتل وغيره : فخرج في أبدانها خراج مثل الحمص فكان في اليوم الأول أحمر ، ثم صار في الغد أصفر ، ثم صار في الثالث أسود ، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء وهلاكهم يوم الأحد ، انفقعت فيه تلك الخراجات ، وصاح عليهم جبريل صيحة فماتوا بالأمرين ، وكان ذلك ضحوة (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (١٥٧) أي فصاروا نادمين على قتلها ندم الخائفين من العذاب العاجل ، أو ندم التائبين عند معاينة العذاب فلم ينفعهم الندم (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) الموعود على عقرها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في أخذهم بالعذاب (لَآيَةً) أي لعبرة لمن بعدهم. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا القصة من قريش (مُؤْمِنِينَ) (١٥٨) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩) حيث لا يعالجهم بالعذاب (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٦٠) فمن كذب رسولا فقد كذب الكل ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في البلد لا في النسب نبيهم (لُوطٌ) فإن لوطا ابن أخي إبراهيم ، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل فلوط كان مجاورا لهم في قريتهم ، (أَلا تَتَّقُونَ) (١٦١) عبادة غير الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ) (١٦٢) على الرسالة (فَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُونِ) (١٦٣) أي اتبعوا أمري (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي الدعاء إلى الله تعالى (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٤) أي جامع الخلق ومربيهم ، (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) (١٦٥) أي أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كون النساء


أليق بالاستمتاع ، (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي وتتركون إناثا أباحها لكم ربكم هي أزواجكم لأجل استمتاعكم ، أو وتتركون فروجا أحل لكم ربكم حال كونها بعض أزواجكم ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (١٦٦) أي متجاوزون الحد في جميع المعاصي بإتيانكم هذه الفاحشة ، أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الحيوانات. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن تقبيح أمرنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (١٦٧) أي من جملة من أخرجناه من بلدنا سذوم. (قالَ) لوط : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (١٦٨) أي إني لعملكم الخبيث لمبغض من المبغضين غاية البغض فلا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد عنكم ، ثم توجه لوط إلى الله تعالى قائلا : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (١٦٩) أي من شؤم عملهم (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي بنتيه وامرأته المؤمنة ومن اتبعه في الدين (أَجْمَعِينَ) (١٧٠) مما عذبناهم به بإخراجهم من بينهم عند قرب حلول العذاب بهم (إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط المنافقة (فِي الْغابِرِينَ) (١٧١) أي إلا عجوزا مقدار كونها من الباقين في العذاب ، لأنها كانت راضية بفعل القوم وقد أصابها الحجر في الطريق (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٧٢) أي أهلكنا المتأخر عن اتباع لوط بقلب قراهم عليهم وجعل أعلاها سافلها ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على من كان منهم خارج القرى لسفر أو غيره (مَطَراً) غير معتاد حجارة من السماء فأهلكتهم ، (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٣) أي فبئس مطر جنس المنذرين مطر قوم لوط بالحجارة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما فعلنا بهم (لَآيَةً) أي دلالة على عزة الله وعظمته (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر من تلوث عليهم القصة (مُؤْمِنِينَ) (١٧٤) فإن أكثر الخلق لئام وكرامهم قليلون كما قال الشاعر :

فقلت لها أن الكرام قليل

 

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥) فلا يهتدي إلى عديم النظير الأذلاء ويهتدي إليه برحمته الفائضة من كانت همته عالية (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) (١٧٦) ، أي كذب أصحاب شجر ملتف بقرب مدين شعيبا ، وجملة المرسلين.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر في هذه السورة وفي «ص» خاصة : «ليكة» بلام واحدة وفتح التاء وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث واللام جزء الكلمة ، وهو اسم البلدة لأصحاب الحجر. وقال أبو عبيدة : إن ليكة اسم للقرية التي كانوا عليها والأيكة اسم للبلاد كلها (إِذْ قالَ لَهُمْ) نبيهم (شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٧٧) الله الذي تفضل عليكم بنعمه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك. (أَمِينٌ) (١٧٨) لا خيانة عندي (فَاتَّقُوا اللهَ) المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها (وَأَطِيعُونِ) (١٧٩) لما ثبت من نصحي لكم (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٠) أي المحسن إلى الخلائق كلهم ، فإني لا أرجو أحدا سواه. (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أتموه إذا كلتم للناس كما توفونه إذا أخذتم منهم (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) (١٨١) أي الناقصين لحقوق الناس. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (١٨٢) أي بالميزان العدل.


وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. والباقون بالضم (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوا شيئا من حقوق الناس في كيل ووزن أو غير ذلك (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (١٨٣) ولا تعملوا المعاصي في الأرض بقطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع والدعاء إلى غير عبادة الله ، فإنهم كانوا يفعلون ذلك. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (١٨٤) أي الخلائق الماضين الذين كانوا على خلقة عظيمة وطبيعة غليظة ، كقوم هود وقوم لوط. وقرأ العامة الجبلة على كسر الجيم والباء وتشديد اللام وأبو حصين والأعمش والحسن بضمها وتشديد اللام ، والسلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء. (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (١٨٥) أي المجوفين مثلنا لست بملك (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكل وتشرب كما نفعل ، فلا وجه لتخصيصك بالرسالة (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (١٨٦) فـ «إن» مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي وأنا نظنك لمن الكاذبين في دعواك أنك رسول من الله ثم إن شعيبا كان هددهم بالعذاب أن استمروا على التكذيب فقالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي فأسقط علينا قطعا من السحاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٨٧) في دعواك.

وقرأ حفص بفتح السين. والباقون وإنما طلبوا ذلك لتصميمهم على التكذيب واستبعادهم وقوعه فعند ذلك فوض شعيب عليه‌السلام أمرهم إلى الله تعالى فـ (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨٨) وبما تستحقون بسببه من العذاب. (فَكَذَّبُوهُ) أي أصروا على تكذيبه بالرسالة (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وفي إضافة العذاب إلى يوم دون الظلة إعلام بأن لهم يومئذ عذابا آخر غير عذاب السحاب كما روي أن الله تعالى فتح عليه بابا من أبواب جهنم وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا مع سكون الريح سبعة أيام بلياليها فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فخرجوا هرابا ، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة ، فنادى بعضهم بعضا فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي فصاروا رمادا ، (إِنَّهُ) أي ذلك العذاب (كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٨٩) في الشدة والهول.

قال قتادة : بعث الله شعيبا إلى أمتين أصحاب الأيكة ، وأهل مدين فأهلكت أصحاب الأيكة بالظلة وأهل مدين بصيحة جبريل عليه‌السلام ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما فعلنا بهم (لَآيَةً) أي دلالة واضحة على صدق الرسل ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر قومك (مُؤْمِنِينَ) (١٩٠) مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم معرفة بك قبل ذلك ، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة ، وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلا ، وأبعدهم عن كل ذي دنس؟! (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١) بالإمهال.

وهذا آخر القصص السبع التي ذكرها الله تعالى تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديدا للمكذبين له


وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول ، قد أتاهم من الله تعالى ، وما كان أكثرهم مؤمنين بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان ، والزواجر عن الكفر والطغيان وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسمع شيئا منها من أحد أصلا ، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك (وَإِنَّهُ) أي القرآن الذي من جملته هذه القصص (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) أي منزل من خالق المخلوقين فليس بشعر ولا أساطير الأولين ، ولا غير ذلك مما قالوه فيه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣).

قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص بتخفيف «الزاي» ، ورفع «الروح». والباقون بتشديد «الزاي» ونصب «الروح» ، وذكر الله تعالى دليل التنزيل بقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ) إلخ ، فالروح : هو جبريل عليه‌السلام سمي بالروح ، لأنه به نجاة الخلق في باب الدين ، فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة. وبالأمين ، لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، (عَلى قَلْبِكَ) أي جعل الله تعالى جبريل نازلا بالقرآن على قدر حفظك أي فهمك القرآن وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى. وهذا تنبيه على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أن الإخبار عن هذه القصص ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله تعالى (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) أي أنزل الله تعالى بالقرآن لتنذرهم بما فيه من العقوبات الهائلة ، وكان إنزاله بلغة عربية واضحة المعنى لئلا يبقى لهم عذر ما له منه مناص لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وقوله : (لِتَكُونَ) متعلق بنزل. وكذا قوله : (بِلِسانٍ) ويجوز أن يكون بدلا من به ، وأما جعله متعلقا بالمنذرين فيفيد أن غاية الإنزال كونه لله من جملة المنذرين باللغة العربية فقط. وهذا لا ينبغي فإن سبب كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة المنذرين مجرد إنزال القرآن عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إنزاله بخصوص اللسان العربي والذين أنذروا باللسان العربي خمسة فقط محمد وإسماعيل ، وهود ، وصالح ، وشعيب عليهم الصلاة والسلام (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (١٩٦) أي وإن معنى القرآن وصفته لفي الكتب المتقدمة ، فإن الله تعالى أخبر في كتب الأولين عن القرآن وإنزاله في آخر الزمان والله تعالى بين أصول معانيه في كتبهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٩٧) ، أي أغفل أهل مكة عن القرآن ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزل من رب العالمين ، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم ، ويعرفوا من أنزل عليه ، وكانوا خمسة : أسد ، وأسد ، وابن يامين ، وثعلبة ، وعبد الله بن سلام فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم.

قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن هذا لزمانه وإنا لنجد نعته في التوراة ، فكان ذلك آية على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


وقرأ ابن عامر «تكن» بالتأنيث ورفع «آية» على أنه اسمها ، ولهم خبرها وأن يعلمه بدل من اسمها ، أو على أنه فاعل لها ولهم حال «وأن يعلمه» بدل من الفاعل ، ولا يجوز أن يكون «آية» اسمها «وأن يعلمه» خبرها ، لأنه يلزم عليه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة. والباقون «يكن» بالتذكير ونصب آية على أنه خبرها «وأن يعلمه» اسمها (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩) أي ولو نزلنا القرآن كما هو على رجل أعجمي فقرأه على أهل مكة قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانوا مؤمنين به مع أن الأعجمي لا يتهم باكتسابه أصلا لفقد الفصاحة فيه ولا باختراعه لكونه ليس بلغته لفرط عنادهم ، وشدة شكيمتهم في المكابرة (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (٢٠٠) ، أي مثل ذلك الإدخال أدخلنا القرآن في قلوب كفار مكة ففهموا معانيه ، وعرفوا فصاحته من حيث النظم المعجز زمن حيث الإخبار عن الغيب وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتب المنزّلة قبله على البشارة بإنزاله وبعثة من أنزل عليه بأوصافه وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الإنكار (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢٠١) الملجئ للإيمان به ، فيؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٠٢) بإتيان العذاب (فَيَقُولُوا) تأسفا على ما فات من الإيمان (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) (٢٠٣) وهو استفهام طمع في المحال وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب ، وهم في الآخرة يعلمون أن لا ملجأ لهم لكنهم يذكرون ذلك استرواحا (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (٢٠٤) أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم ، فيستعجلون بعذابنا في الدنيا بقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك. (أَفَرَأَيْتَ) أي أخبرني أيها المخاطب (إِنْ مَتَّعْناهُمْ) في الدنيا بطول الأعمار وطيب المعاش (سِنِينَ) (٢٠٥) متطاولة (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) (٢٠٦) من العذاب ، (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) (٢٠٧) أي أيّ شيء أفادهم كونهم متمتعين ذلك التمتيع المديد من دفع العذاب.

وقرئ «يتمتعون» بسكون الميم (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى المهلكة (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢٠٨) أي رسل قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة (ذِكْرى) أي لأجل تذكيرهم العواقب ، وهو منصوب على أنه مفعول لأجله أو مفعول مطلق منصوب بـ «منذرون» لأن التذكرة في معنى الإنذار ، أو منصوب بفعل مقدر هو صفة لـ «منذرون» أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى. ويجوز أن يكون «ذكرى» مفعولا له علة لـ «أهلكنا». والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم عبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٠٩) فنهلك قوما غير ظالمين وقبل الإنذار (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) (٢١٠). وهذا رد لقول الكفار لم لا يجوز أن يكون هذا القرآن من إلقاء الجن والشياطين إلى محمد على لسانه كسائر ما ينزل على الكهنة من أخبار السماء. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما


يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) أي أن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي كيف لا : ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلا من فنون الشرور. قال بعضهم : وهذا إشارة إلى أنه ليس للشياطين استعداد تنزيل القرآن ولا قوة حمله ، وسمع فهمه ، لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمنين عليها ، وتقول : جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي فإذا لم يكن لهم استطاعة على حمل القرآن ، ولا قوة على سمعه كيف يمكن لهم تنزيله؟ وإن وجد فيهم السمع الذي هو الإدراك لأنهم حرموا الفهم المؤدي للاستجابة لما دعوا إليه (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي فلا تعبد مع الله إلها غيره (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) (٢١٣).

قال بعضهم : وهذا يشير إلى أن طلب غير الله من الدنيا والآخرة بتوجه القلب إليه أمارة عذاب الله وهو البعد من الله ، فمن يكون أبعد من الله يكون عذابه أشد فكل طالب شيء يكون قريبا إليه بعيدا عما سواه. فطالب الدنيا قريب من الدنيا ، بعيد عن الآخرة. وطالب الآخرة قريب من الآخرة بعيد عن الدنيا. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسنات الأبرار سيئات المقربين». فالأبرار أهل الجنة ، وحسناتهم طلب الجنة والمقربون أهل الله وحسناتهم طلب الله وحده بلا شريك له وهذا الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود غيره كما هو شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر ، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك ، فلهذا أفرده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة بقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) الأقرب منهم فالأقرب. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بني عبد المطلب يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا» ، ثم قال : «يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا حفصة بنت عمرو ، ويا فاطمة بنت محمد ، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا» (١). وروى محمد بن إسحاق عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال. لما نوزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية دعاني فقال : «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فاصنع لي صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع بني المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به». ففعلت ما أمرني ، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلا فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب. فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته ، فجئت له ، فلما وضعته تناول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : «كلوا باسم الله» ، فأكل القوم حتى شبعوا ، ثم قال : «اسق القوم». فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا فلما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال :

__________________

(١) رواه ابن حجر في فتح الباري (٧ : ٤١٦) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٤٧٨٩) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١٤ : ٣١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٠٠).


سحركم محمد صاحبكم! فتفرق القوم ، فقال : «يا علي ، إن هذا الرجل قد سبق إلى ما سمعت من القول» فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ، ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقدمته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ، ثم تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا بني عبد المطلب ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم جميعا عن ذلك الكلام ، فقلت : يا رسول الله أنا أكون وزيرك عليه قال : «علي» فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برقبتي ثم قال : «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا» (١). فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع.

وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام أن قريشا جاءته فأنذرهم ، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك. وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ، ويجعل الصخرة ذهبا. فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده أخبرهم بأن أعطي ما سألوه ولكن إن أراهم كفروا عوجلوا ، فاختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢١٥) أي لين جانبك لهم و «من» للتبيين ، لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو قرابة أو نسب (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢١٦) ولا تبرأ منهم وقل لهم ، قولا بالنصح ، لعلهم يرجعون إلى قبول الدعوة منك. والمعنى : فبعد إنذار عشيرتك فتواضع لمن آمن منهم ، وتبرأ من عمل من خالفك منهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧) أي فوّض أمرك إلى الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته.

وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» بالفاء على الإبدال من جواب الشرط. والباقون بالواو على العطف على أنذر (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) (٢١٨) من نوم أو غيره إلى الصلاة منفردا (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢١٩) أي ويرى تصرفك في الصلاة بالقيام والركوع والسجود ، والقعود مع المصلين جماعة إذ كنت إماما لهم. ويقال : ويراك منتقلا في أصلاب المؤمنين ، وأرحام المؤمنات ، من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة ، فجميع أصول سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا ونساء مؤمنون ، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى. فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله ، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠) فيسمع ما تقوله ، ويعلم ما تنويه وتعمله. (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) (٢٢١)؟ أي أهل أخبركم يا كفار مكة على من تنزل الشياطين؟ أي لمّا قال الكفار. لم لا يجوز أن يقال : إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة ،

__________________

(١) رواه النّسائي في كتاب الحج ، باب : إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام.


وبالشعر على الشعراء؟ فرق الله تعالى بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الكهنة والشعراء فقال : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (٢٢٢) أي تنزل الشياطين على كل من اتصف بالكذب الكثير والإثم الكبير ؛ وهو مسيلمة الكذاب ، وسطيح ، وطليحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ) ، وهذه الجملة إما حال من فاعل «تنزل» المستتر أي يصغي الشياطين سمعهم إلى الملائكة ليسترقوا شيئا ، ويلقون الشيء المسموع إلى الكهنة. وإما صفة لكل أفاك أثيم أي يصغي الكهنة سمعهم إلى الشياطين ، أو يلقون ما سمعوه منهم إلى عوام الخلق (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٢٣) فالشياطين يسمعون الكهنة ما لم يسمعوا من الملائكة ، كما جاء في الحديث : «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ، والكهنة يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم». (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢٢٤) أي الراوون الذين يروون هجاء المسلمين ، أي وشعراء الكفار يتكلمون بالكذب ؛ منهم عبد الله بن الزبعري ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة عمرو بن عبد الله ، وأمية بن أبي الصلت. وقالوا : نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا شعرا ، واجتمع إليهم سفهاء قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ويرون عنهم قولهم.

وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (٢٢٥)؟ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الشعراء يسيرون في طرق مختلفة سير الحائرين من طرق القيل والقال؟ فإنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس ، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، لأنهم لا يطلبون بشعرهم الصدق (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢٢٦) فإنهم يمدحون الجود ويحثون عليه ولا يفعلونه ، ويذمون البخل ويصرون عليه ، ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم ، ثم أنهم لا يفعلون الفواحش وذلك يدل على الضلالة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) فلم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى ، والحث على طاعته ، وفي الحكمة والموعظة والزهد في الدنيا ، والزجر عن الاغترار بزخارفها. (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي فلا يذكرون هجو أحد إلا من يهجوهم من الكفار وذلك رد على هجو الكفار لرسول الله وأصحابه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة لحسان : «اهج المشركين فإن جبريل معك» (١) وعن أنس رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :

اليوم نضربكم على تنزيله

 

خلوا نبي الكفار عن سبيله

ويذهب الخليل عن خليله

 

مضربا يزيل الهام عن مقيله

فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي حرم الله تقول شعرا! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٣٣٢٥١).


«خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» (١). وعن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»(٢). وعن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من الشعر لحكمة» (٣). وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر ، وكان عثمان يقول الشعر ، وكان علي أشعر من الثلاثة. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) أي سيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجوا رسول الله وأصحابه ، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب ، لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العذاب ، وهو أشر مرجع ، فالمنقلب : هو الانتقال إلى ضد ما هو. فيه والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها ، فصار كل مرجع منقلبا وليس كل منقلب مرجعا.

وقرئ «أيّ منفلت ينفلتون» ، أي وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات فإنهم يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى ، و «أي» منصوب بـ «ينقلبون» ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم ، لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها ، لأن الاستفهام معنى ، و «ما» معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب ، باب : ما جاء في الشعر ، وأحمد في (م ١ / ص ٢٦٩).

(٢) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٥).

(٣) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٠١) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ : ١٦).


سورة النمل

مكية ، وهي أربع وتسعون آية ، ألف ومائة وتسع وأربعون

كلمة ، أربعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(طس) أي هذا مسمى بطس (تِلْكَ) أي تلك السورة (آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، أي مظهر للحكم والأحكام وأحوال الآخرة.

وقرأ ابن أبي عبلة برفع «كتاب مبين». (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، هما حالان من آيات ، أي هادية إلى الله ومبشرة بالوصول إلى الله بهدايته للمصدقين بتلك الآيات أو بدلان منها ، أو خبران آخران لتلك كما قال تعالى : «ألا من طلبني وجدني من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان». (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يأتون بالصلوات الخمس بشروطها ووضعها في حقها. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطونها بشرائطها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٣) أي هؤلاء هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم ، لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) بأن خلقنا في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه بما فيها من المضار والآفات ، (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٤) أي ينهمكون فيها (أُوْلئِكَ) أي الموصوفون بعدم الإيمان بما في الآخرة وبالعمد في الأعمال (الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) وهو عمي القلوب وصممه وبكمه ، (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٥) أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب ، ولأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق من الله يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركهما وعدم الالتفات إليهما في طلب المولى ، فربحوا المولى. فلهذا لمّا وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبّله وقال هذا رأس صوفي. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) ، أي وإنك يا أشرف الخلق لتؤتى القرآن من عند ذات مصيب في أفعاله لا يفعل شيئا إلا على وفق علمه. عليم بكل شيء سواء كان ذلك العلم مؤديا إلى العمل أو لا. وقال بعضهم : أي إنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل ، والرسالات


من لفظه وحيا وإنك تلقى حقائق القرآن من عند الله تعالى ، وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك ، فالله تعالى علمك حقائق القرآن بأن جعلك بحكمته مستعدا لقبول فيض القرآن بلا واسطة. وهو أعلم حيث يجعل رسالته (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) أي زوجته بنت شعيب حيث تحيّر في الطريق عند مسيره من مدين إلى مصر (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) يعرف به الطريق (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ). وقرأ الكوفيون بتنوين شهاب ، فالقبس بدل منه أو صفة له ، أي بشعلة نار مأخوذة من أصلها. والباقون بالإضافة أي بشهاب من قبس (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧) أي لكي تدفئوا بها (فَلَمَّا جاءَها) أي تلك التي ظنها موسى نارا (نُودِيَ) من قبل الله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي بورك من في مكان النار ـ وهي البقعة المباركة ـ ومن حول مكانها ، ويدل عليه قراءة أبيّ «تباركت الأرض ومن حولها». وعنه أيضا «بوركت النار». وقيل : المراد بمن في النار هو موسى عليه‌السلام لقربه منها ، ومن حولها الملائكة ، أي نودي ببركة من النار أي بتطهيره مما يشغل قلبه من غير الله ، وتخليصه للنبوة والرسالة أي ناداه الله تعالى بأنا قدّسناك واخترناك للرسالة ، وهذه تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) وهو من كلام الله مع موسى نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه‌السلام وإعلاما بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين ، ولدفع ما قد يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري الجاري على العادة الخلقية من أن الله المتكلم به في مكان أو في جهة. ومن أن الكلام الذي يسمعه موسى في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ككلام الخلق ، وقد علم موسى عليه‌السلام أن النداء من الله لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق. (يا مُوسى إِنَّهُ) أي إن مكلمك (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) أي أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام ، كقلب العصا حية ، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة و «أنّا» خبر «إنّ» و «الله» بيان له و «العزيز الحكيم» صفتان «لله» ، ممهدتان لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه‌السلام من المعجزات (وَأَلْقِ عَصاكَ) عطف على «بورك» ، فكلاهما تفسير لـ «نودي» ، فألقاها فانقلبت حية كبيرة جدا تسعى ، فأبصرها متحركة بسرعة واضطرب ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي تضطرب في تحركها (كَأَنَّها) أي العصا (جَانٌ) أي حية صغيرة في سرعة الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) أي هرب موسى منها مدبرا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يلتفت إليها من خوفها لظنه أن ذلك لأمر أريد به ولذلك قال تعالى : (يا مُوسى لا تَخَفْ) منها (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (١٠) في حالة الإيحاء والإرسال ، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) أي لكن من ظلم ، ثم عمل حسنا بعد سوء ، فإني غفور رحيم وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه‌السلام من وكزه القبطي. وجعل الأخفش والفراء وأبو عبيدة «إلا» حرف عطف بمنزلة الواو ، وفي التشريك في اللفظ. والمعنى : وقرئ «ألا من ظلم»


بحرف التنبيه ، و «من» شرطية وجوابها «فإني غفور رحيم». (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في إبطك ـ وكان له عليه‌السلام مدرعة صوف لا كم لها ـ (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها إشراق (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي آفة (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) وقوله : (فِي تِسْعِ) متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير «تخرج» ، أي حال كون اليد مندرجة في جملة تسع آيات. وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف حال من فاعل أدخل أي حال كونك مرسلا بها إلى فرعون والظاهر أن قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بمحذوف حال من فاعل ألق وأدخل وإن قوله : (فِي تِسْعِ) متعلق بمحذوف حال من مفعولهما ، أي ألق وأدخل ، أي حال كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع ، فإن الآيات إحدى عشرة : العصا واليد والفلق ، والطوفان والجراد ، والقمل والضفادع ، والدم والطمسة ، والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ، وحال كونك مبعوثا إلى فرعون والقبط. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١٢) أي خارجين من ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) على يد موسى عليه‌السلام (مُبْصِرَةً) كل من ينظر إليها ويتأمل فيها ، هادية إلى الطريق الأقوم.

وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم ، والصاد أي مكانا يكثر فيه التبصر. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٣) أي هذا الذي أتى به موسى خيال لا حقيقة له ، واضح في أنه خيال (وَجَحَدُوا بِها) أي كذبوا بتلك الآيات بألسنتهم (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي وقد علمتها قلوبهم علما يقينا أنها حق. (ظُلْماً وَعُلُوًّا) حال أخرى من الواو في جحدوا ، أو علة للجحد ، أي ظالمين للآيات حيث سموها سحرا وحطوها في رتبتها الرفيعة ، ومترفعين عن الإيمان بها أو جحدوا بها للظلم للآيات وللتكبر عنها. وقرئ «عليا» ، و «عليا» بالضم والكسر كما قرئ «عتيا» (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤) من إغراقهم في البحر على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين. (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي أعطينا كل واحد منهما جزءا من العلم لائقا به من علم الحكم والسياسة ومختصا به كعلم داود صنعة لبوس ، وتسبيح الجبال ، والطير ، وعلم سليمان سائر نطق الطير والدواب. (وَقالا) شكرا لما أعطيناه من العلم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بما أعطانا من العلم (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥) ممن لم يؤت علما مثل علمنا. وفي هذا دليل على فضل العلم وشرف أهله ، وتحريض للعالم بأن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من العلم ، ويعتقد أنه قد فضل عليه كثير وإن فضل على كثير فلا يفتخر ولا يتكبر وإن يشكر الله تعالى في أنه ينفع بعلمه المسلمين ، (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي ملكه بأن قام مقامه فيه دون سائر أولاده ، وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وزيد له تسخير الريح والشياطين. وداود أشد تعبدا من سليمان. وروي أن سليمان أعطي هذا الملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، أما داود فقد عاش مائة سنة. (وَقالَ) سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله تعالى وللتنويه بها.


(يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) وهذه النون يقال لها : نون الواحد المطاع ، وكان سليمان عليه‌السلام ملكا مطاعا لا يتكبر ، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح ، فيصير ذلك التعظيم واجبا.

روي عن كعب الأبار رضي‌الله‌عنه أن سليمان عليه‌السلام أخبر عن منطق جملة من الطيور :

الورشانة : تقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب.

والفاختة : تقول : ليت ذا الخلق لم يخلق.

والطاوس : يقول : كما تدين تدان.

والهدهد : يقول : من لا يرحم لا يرحم.

والصرد : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ؛ وهو الذي دل آدم على مكان البيت ، ومن ثمّ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله.

والطيطوي : يقول : كل حي ميت وكل جديد بال.

والخطاف : يقول : قدموا خيرا تجدوه ؛ وهو الذي آنس الله آدم به بعد خروجه من الجنة فهي لا تفارق بني آدم أنسألهم.

والحمام : يقول : سبحان ربي الأعلى.

والغراب : يدعو على العشار فكان يقول : اللهم العن العشار.

والحدأة : تقول : كل شيء هالك إلا الله.

والقطاط : تقول : من سكت سلم.

والبغبغان : وهي الدرة تقول : ويل لمن الدنيا همه.

والقمري : يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن.

والباز : يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده.

والعقاب : يقول : في البعد عن الناس أنس.

والديك : يقول : ذكروا الله يا غافلين.

والنسر : يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي أعطينا شيئا كثيرا. وكان له عليه‌السلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منصته في في وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء عليهم‌السلام على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وحولهم الوحش ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء


والأرض : إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود (إِنَّ هذا) أي التعليم والإعطاء (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) أي الذي لا يخفى على أحد. وقصده عليه‌السلام بذلك القول : الشكر والحمد ، أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر عساكره (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) أي يمنعون من التقدم في السير حتى يجتمعوا ليكون مسيره عليه‌السلام مع جنوده على ترتيب.

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان سليمان عليه‌السلام إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل ، فيطبخ الطباخون ، ويخبز الخبازون. وهو بين السماء والأرض. واتخذ ميادين الدواب فتجري بين يديه والريح تهوي ، فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما وصل إليها قال سليمان : هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد ، فجاوزه سليمان ، فبكى البيت ، فأوحي إليه ما يبكيك؟ قال : يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يصلوا عندي ، والأصنام تعبد حولي فأوحى الله تعالى إليه : لا تبك فإني سوف أملأك وجوها سجدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا ، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي ، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني ، أفرض عليهم فريضة يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها ، والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان. ثم ساروا (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) وهو واد بالشام كثير النمل : على ما قاله مقاتل وقتادة ، وبالطائف : على ما قاله كعب ؛ وهو نمل صغار على المشهور. (قالَتْ نَمْلَةٌ) قولا مشتملا على حروف وأصوات ، وكانت عرجاء ، ذات جناحين ، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أم محال ؛ ويقال لها : منذرة وقيل : اسمها حرميا. وقيل : ظاخية. وقيل : عيجلوف (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) أي جحركم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٨) أي لا تبرزوا فيدوسنكم سليمان وجنوده في حال كونهم لا يشعرون بدوسهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير ، وكأنهم أرادوا النزول عند الوادي ، لأنه دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف دوسهم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي تعجبا من قول النملة بفصاحتها واهتدائها إلى تدبير مصالح بني نوعها ، وسرورا بما آتاه الله من سمعه كلامها ، وفهمه بمعناه وبشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أنواع المخلوقات. (وَقالَ) سليمان : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي


اجعلني أكف شكر نعمتك عندي عن أن ينقلب عني ، حتى أكون شاكرا لك أبدا أو وفقني لأن أؤدي شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ؛ هما داود وأم سليمان ، وهي في الأصل زوجة أوريا التي امتحن الله بها داود عليه‌السلام. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل كما قيل :

فما حسناته الا ذنوب

 

إذا كان المحب قليل حظ

(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين ـ كما قاله ابن عباس ـ لأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يهمّ بمعصية أثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي بحث أحوال الطير فلم ير الهدهد فيما بينها ، أي نزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء فطلبوه ، فلم يجدوه فطلب الهدهد ليدل على الماء ، لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده فينقر الأرض ، ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) اسمه عنبر ـ كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن ـ أي ما لي لا أراه لساتر ستره ، أو لسبب آخر ثم ظهر له أنه غائب فانتقل عن ذلك الكلام فقال : (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) (٢٠)؟ فتقدر «أم» بـ «بل» أو بالهمزة ، أو بهما.

روي أن سليمان عليه‌السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة ، وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل بها ليتغدى ويصلي ، فلم يجد الماء فتفقد الهدهد ؛ وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء ، فنزل إلى بستان بلقيس فإذا هو بهدهد آخر ، وكان اسم هدهد سليمان : يعفور؟ وهدهد اليمن : عفير. فقال عفير ليعفور : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال : ومن سليمان؟ قال : ملك الإنس والجن. والشياطين. والطير. والوحش. والرياح. قال يعفور : ومن ملك هذه البلاد. قال عفير : امرأة يقال لها : بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة ، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل ، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ، ولها اثنا عشر ألف قائد ، مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها فما رجع يعفور إلا بعد العصر ، فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموه فتفقد الهدهد ، فلم يره فدعا عريف الطير ـ وهو النسر ـ فسأله عن الهدهد فقال : أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته إلى مكان! فغضب سليمان عند ذلك وقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ) بسبب غيبته فيما لم آذن فيه (عَذاباً شَدِيداً) بنتف ريشه ، فهذا عذاب


الطير (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بالسكين ليعتبر به أبناء جنسه ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١) أي إلا أن يأتيني بحجة تبيّن عذره فلا أذبح ولا أعذب ، ثم دعا العقاب وهو أشد الطير طيرانا فقال له : علي بالهدهد الساعة ، فارتفع العقاب في الهواء ، فالتفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده ، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء ، فتركه العقاب وقال له : ويلك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك ، أو يذبحك ، فطارا متوجهين نحو سليمان ، فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له : ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد : أو ما استثنى نبي الله فقالوا : بلى إنه قال : أو ليأتيني بسلطان مبين فقال : نجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب : قد أتيتك به يا نبي الله. (فَمَكَثَ) أي الهدهد (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي زمانا غير طويل حتى جاءه.

وقرأ عاصم بفتح الكاف. والباقون بضمها. فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له : أن كنت لأعذبنك عذابا شديدا؟ فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي أبطأك عني؟ (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي علمت ما لم تعلم أيها الملك ، وبلغت إلى ما لم تبلغ ، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ).

وقرأ أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة من غير تنوين ، يراد به القبيلة والمدينة والأصل اسم للقبيلة ، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. والباقون بالجر والتنوين اسم للحي سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) أي بخبر حق عجيب. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يقال لها : بلقيس بكسر الباء وهي بنت شراحيل بن مالك بن الريان. وأمها فارعة الجنية ـ كما أخرج عن زهير بن محمد ـ وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، وورث الملك من أربعين أبا ، ولم يكن له ولد غيرها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن : إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد من الجن وهم على صور الظباء ، فيخلي عنهم ، فظهر له ملك الجن ، وشكره على ذلك واتخذه صديقا ، فخطب ابنته فزوجه إياها. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) أي سرير حسن كبير ، طوله ثمانون ذراعا ، وعرضه أربعون ذارعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مصنوع من الذهب والفضة ، مكلل بالجواهر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ، ودر وزمرد ، وعليه سبعة أبيات ، على كل بيت باب مغلق (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) أي لقيتهم مجوسا (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبدون الشمس


متجاوزين عبادة الله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الهدى ، (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤) بسبب ذلك (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) مفعول له للصد أو التزيين على حذف اللام ، أي فصدهم لأن لا يسجدوا له تعالى ، أو زين لهم أعمالهم ، لأن لا يسجدوا بتخفيف اللام. فالأحرف تنبيه واستفتاح ، و «يا» بعدها حرف تنبيه أيضا ، أو نداء. والمنادى محذوف تقديره : يا هؤلاء اسجدوا ، و «اسجدوا» فعل أمر ، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون «يا اسجدوا» ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يا» ، وهمزة الوصل خطأ لما سقطا لفظا ، ووصلوا الياء بسين «اسجدوا» فاتّحدت القراءتان لفظا وخطا ، واختلفا تقديرا ، وعلى هذه القراءة فالوقف على «يهتدون» تام ، ولو وقف على «يا» بمعنى : ألا يا هؤلاء ، ثم ابتدئ بـ «اسجدوا» جاز بخلاف قراءة الباقين بإدغام النون في «لا» ، فالوقف على «لا يهتدون» جائز.

وقرأ الأعمش «هلا» وهي حرف ، وعبد الله بقلب الهمزة هاء. وقرأ أبي «ألا يسجدون أي لم لا يسجدون لله كما قاله ابن عباس. وعن عبد الله «هلا تسجدون» بمعنى «ألا تسجدون» على الخطاب ، و «هلا» يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله تعالى ، أو من سليمان عليه‌السلام.

قال أهل التحقيق : قوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) يجب أن يكون بمعنى الأمر ، لأنه لو كان بمعنى المنع من السجود لم يكن معنى لوصفه تعالى باستحقاق السجود للاتصاف بكونه تعالى قادرا على إخراج الخبء عالما بكل شيء. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والجار المجرور متعلق بالخبء أي الذي يظهر المخفي فيهما من المطر والنبات ، ومتعلق بـ «يخرج» على أن فيه معنى «من» كما قاله الفراء (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢٥) من الأحوال فيجازيكم بها. وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فتأويل قراءة حفص في «ألا يسجدوا» أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ والخطاب على قراءة الكسائي ظاهر. والباقون بالغيبة لتقدم ضمائر الغيبة في قوله : (أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ) فهم وهي غير ظاهرة. وقرئ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ، ويعلم سركم وما تعلنون». (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦) أي فعرش الله عظيم بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض وما بنيهما. وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب ، ولما ذكر الهدهد قصة بلقيس لم يتغير سيدنا سليمان عليه‌السلام لذلك ، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم ، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله ، اغتاظ سيدنا سليمان وأخذته حمية الدين ، وجعل يبحث عن تحقيق. (قالَ) سليمان للهدهد : (سَنَنْظُرُ) أي سنتعرف في مقالتك بالتجربة (أَصَدَقْتَ) فيه (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧) وفي هذا دليل على أن خبر الواحد لا يثبت العلم ، وعلى أن الوالي يجب أن يقبل عذر من في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده ، (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) أي إلى من يعبدون الشمس (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح إلى مكان


قريب تتوارى فيه ليكون ما يقوله بسمع منك. (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) أي تعرف أي شيء يرجع بعضهم إلى بعض من القول ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض مأرب من اليمين على ثلاث مراحل من صنعاء ، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فألقى الكتاب على نحرها وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، فعند ذلك (قالَتْ) لأشراف قومها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ـ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاثمائة واثني عشر رجلا ـ (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٢٩) أي لأنه مكرم بختمه ، ولغرابة شأنه حيث وصل إليها على غير معتاد ، ولحسن ما فيه من كونه مشتملا على إثبات الصانع ، الحي المريد ، القادر الرحيم. وعلى النهي عن التكبر ، والأمر بالانقياد ، ولكونه من عند ملك كريم ؛ فقد عرفت أن المرسل أعظم ملكا منها. (إِنَّهُ) أي إن عنوان الكتاب (مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) أي إن مضمونه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠) (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) فـ «أن» مفسرة ، و «لا» ناهية ، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك.

وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) أي مؤمنين. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته ، (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣٢) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في الأجساد والآلات (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي هو موكول إليك ، (فَانْظُرِي) أي تأملي (ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣) ، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك ، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها ، بل مالت للصلح ، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) من القرى على منهاج الحراب (أَفْسَدُوها) بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك ، فإن ذلك عادتهم المستمرة. (إِنِّي مُرْسِلَةٌ) رسلا (بِهَدِيَّةٍ) عظيمة (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥).

روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري ، وحليهن الأساور والأطواق ، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع ، وبعثت العود والمسك والعنبر ، وحقا فيه درة عذراء ، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت


رجلا من أشراف قومها ـ المنذر بن عمر ـ وآخر ذا رأي وعقل ، وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية وقالت : إن كان نبيا ، ميز بين الغلمان والجواري وأخبركم بما في الحق قبل أن يفتحه ، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا من غير علاج أنس وجن ، ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي فانطلق الرسول بالهدايا ، فأقبل الهدهد إلى سليمان عليه‌السلام فأخبره بذلك ، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر مختلفة ألوانها حتى إن لدواب البحر أجنحة وأعرافا ونواصي ، فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير أن أقيموا على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ، ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لين الذهب والفضة بهتوا ، وتقاصرت إليهم أنفسهم ، ووضعوا ما معهم من الهدايا في ذلك الموضع فلما وقفوا بين يدي سليمان أقبل عليهم بوجه طلق وسألهم عن حالهم ، فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال : أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه فقال سليمان لهم : إن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة ، ثم أمر بالأرضة ، فأخذت شعرة في فيها ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجرة فأمر بالدودة البيضاء ، فأخذت خيطا بفيها ونفذت في الجزعة ، فجعل رزقها في الفواكه ، وأمر الغلمان والجواري بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ، ثم تغسل به وجهها والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها ، والغلام يصبه على ظهره ، فميز عليه‌السلام بين الغلمان والجواري ، ثم رد الهدية كما أخبر الله عنه بقوله : (فَلَمَّا جاءَ) أي رسول الملكة بلقيس وهو منذر (سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي قال سليمان عليه‌السلام مخاطبا للرسول والمرسل : لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تعاونوني بالمال ، لأن الله تعالى قد أعطاني منه ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والدين (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (٣٦) فالمصدر إما مضاف لفاعله أي تفرحون بما تهدونه افتخارا على أمثالكم واعتدادا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله وإما مضاف لمفعوله أي تفرحون بما يهدي إليكم حبا في كثرة أموالكم وحالي خلاف حالكم ، فلا أفرح بالدنيا من حاجتي. وقيل : بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون بأخذها إن ردت إليكم ثم قال للمنذر : (ارْجِعْ) أيها الرسول (إِلَيْهِمْ) أي إلى بلقيس وقومها بهديتهم وقيل : ـ الخطاب للهدهد ـ أي ارجع يا هدهد حاملا كتابا آخر (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي فو الله لنأتينهم بجموع لا طاقة لهم بمقاومتها.


وقرأ ابن مسعود «بهم» بضمير جمع الذكور (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي من سبأ (أَذِلَّةً) أي حال كونهم ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧) أي مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد وبإغلال أيمانهم إلى أعناقهم.

قال ابن عباس : لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض ، ثم غلقت عليه سبعة أبواب وجعلت عليها حراسا يحفظونه ، ثم تجهزت للمسير ، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف. فخرج سليمان يوما فجلس على سريره ، فسمع رهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت بهذا المكان ـ أي الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه‌السلام ـ فأقبل سليمان على جنوده (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) فأراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرته تعالى ، وعلى صدقه في نبوته ، وكان سليمان إذ ذلك في بيت المقدس ، وعرشها في سبأ بلدة باليمن وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه ، لأن العرش سرير المملكة (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣٨) أي مؤمنين ، فإنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها (قالَ عِفْرِيتٌ) أي قوي (مِنَ الْجِنِ) ـ كان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه. وكان مسخرا لسليمان واسمه : ذكوان. وقيل : صخر. وقيل : كوزن ـ (أَنَا آتِيكَ بِهِ) وهو اسم الفاعل ، أي أنا آت بعرشها (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلسك للقضاء وكان مجلس قضائه إلى انتصاف النهار (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي على الإتيان به (لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (٣٩) أي لقوي على حمله ، أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة.

قال ابن عباس وقتادة : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

قال ابن عباس : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن ، ودعا آصف ، فبعث الله الملائكة ، فحملوا السرير يجدون به تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان قيل : كان الدعاء الذي دعا به يا حي يا قيوم ـ كما روي ذلك عن عائشة قال بعضهم : أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر : إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه. قال له : عالم من بني إسرائيل أنت النبي بن النبي ، وليس أحد أوجه منك عند الله ، فإن دعوت الله كان العرش عندك فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت.


قال الرازي : وهذا القول أقرب والمخاطب به العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه‌السلام إظهار معجزة فغالبه أولا ، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرض ما لا يتهيأ للعفريت. قيل : خرّ سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان وإنما هذا أقرب ، لأن سليمان كان أعرف بالكتابة من غيره لأنه نبي وأن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان ، ولو افتقر إليه في ذلك لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في أعين الخلق ، ولأن ظاهر قوله : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي رأى سليمان العرش حاضرا لديه (قالَ) سليمان ـ شاكرا لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق : (هذا) أي إتيان العرش في هذه المدة القصيرة (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي من إحسانه إلي من غير استحقاق له من قبلي (لِيَبْلُوَنِي) أي ليختبرني (أَأَشْكُرُ) فأعترف بكون ذلك فضلا منه تعالى (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أثبت لنفسي تصرفا في ذلك أو أترك شكرا (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) فإن نفع الشكر عائد إلى الشاكر فإنه يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه وأنه يستحق المزيد ، وأنه مشتغل بالمنعم. أما المعرض عن الشكر فهو مشتغل باللذات الحسية (وَمَنْ كَفَرَ) أي ترك شكر النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره لا يضره تعالى كفرانه (كَرِيمٌ) (٤٠) أي لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر. (قالَ) سليمان : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي غيروا سريرها من هيئة ، فزيدوا فيه وانقضوا منه. وروي أنه جعل أعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأخضر أحمر ، وبالعكس ، فأراد سليمان عليه‌السلام اختبار عقلها (نَنْظُرْ) بالجزم على أنه جواب الأمر.

وقرئ بالرفع على الاستئناف أي نعلم (أَتَهْتَدِي) أي أتعرف أن ذلك العرش عرشها أو أتعرف الجواب اللائق بالمقام (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (٤١) أي لا يعرفون ذلك (فَلَمَّا جاءَتْ) أي بلقيس سليمان : (قِيلَ) لها من جهة سليمان (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك وأغلقت عليه الأبواب وجعلت عليه حراسا؟ (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي كأن عرشي هو هذا. وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل : نعم ، خوفا من أن تكذب ، ولم تقل : لا ، خوفا من التكذيب. فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ، ولم تنكر. ولو قيل لها : أهذا عرشك؟ لقالت : نعم ، لمعرفتها للعرش (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) أي وأعطينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من رسولنا المنذر من الآيات الدالة على ذلك (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢) من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس كأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ). وهذا من كلام الله تعالى أي ومنع بلقيس عن إظهار الإسلام عبادتها القديمة للشمس فـ «ما كانت تعبد» فاعل «صد»


أو أن «ما كان» مجرورا بـ «عن» مقدرة ، وفاعل «صد» راجع إلى «سليمان» ، أي وصرفها سليمان عن الذي كانت تعبده وهو الشمس. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣) تعليل لعبادة غير الله ، أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر ، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بينهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان ، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس فلا تعرف إلا عبادتها. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بفتح الهمزة على أن هذه الجملة مجرورة بحرف العلة ، أو بدل من «ما كان كانت تعبد» ، أي ومنعها عن إظهار دعواها الإسلام كونها من قوم كافرين أو وصرفها سليمان عن صيرورتها كافرة. (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي البلاط المتخذ من زجاج.

روي أن سيدنا سليمان أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة ويجعلوا سقفها زجاجا أبيض شفافا يضعوا فيها ماء وسمكا ، وضفدعا وغير ذلك من حيوانات الماء وصار الماء ، وما فيه من هذا الزجاج ، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح لذي تحته الماء ولا يمسه الماء ، ومن لم يكن عالما بالحال يظن هذا ماء مكشوفا ليس له سقف يمنع من الخوض فيه ، ووضع سيدنا سليمان عليه‌السلام سريره في صدر ذلك السطح ، فجلس عليه.

قال وهب ومحمد بن كعب : والسبب في ذلك أن الجن قالوا لسيدنا سليمان : إن في عقل بلقيس شيئا وإن رجليها كرجلي حمار ، وإنها شعراء الساقين. وغرضهم في ذلك تنفيره عن تزوجها لأنهم ظنوا أنه سيتزوجها ، وكرهوا ذلك لأن أمها كانت جنية ، فخافوا أن تفشي له أسرار الجن ، ولأنهم خافوا أن يأتي له منها أولاد فيسخّرون الجن ، فيدوم عليهم الاستخدام والذل ، فأراد سليمان عليه سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها فإذا فيها ما يدل على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها ، وأن ينظر إلى قدميها ببناء ذلك البلاط ، لأنه أراد أن ينكحها ليعلم أن ما قالت الجن في حقها صدق أو كذب. (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت ذلك الصرح (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء غمرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) على عادة من أراد خوض الماء لأجل أن تصل إلى سليمان.

قال وهب بن منبه فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق ، وتعجبت من كون كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فرفعت ثيابها عن ساقيها ، فرآهما فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما سليمة مما قالت الجن فيها ، إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها ، فلما علم الحال صرف بصره عنها (قالَ) عليه‌السلام حين رأى منها الدهشة والرعب : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) أي إن الذي ظننته ماء سقف مملس من زجاج تحته ماء فلا تخافي واعبري عليه. (قالَتْ) بعد أن دعاها سليمان إلى الإسلام وقد رأت حال العرش والصرح : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان. وقيل : بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللّجة (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) أي ودخلت في دين الإسلام مصاحبة له في


الدين ، مقتدية به (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤). قيل : لما أراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته ، فكانتا من يومئذ ، فلما تزوجها سليمان أحبها حبا كثيرا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها ، ورزق منها بولد اسمه داود وأقرها على ملكها وأمر الجن ، فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان ، فسبحان من لا يزول ملكه ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) (٤٥) ، أي فريق مؤمن ، وفريق كافر فالذي آمنوا ، لأنهم عرفوا صحة حجة صالح فيكونون خصماء لمن لم يقبلها. والاختصام في باب الدين حق وإبطال للتقليد. (قالَ) صالح للفرقة الكافرة : (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي لما توعد صالح للمكذبين بالعذاب فقالوا على وجه الاستهزاء : ائتنا بعذاب الله فعند ذلك قال صالح : يا قوم قد أمكنكم التوصل إلى رحمة الله تعالى ، فلما ذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكانوا لجهلهم يقولون : إن صدق إيعاد صالح بنزول العذاب تبنا حينئذ ، فحينئذ يدفع الله العذاب عنا وإلا فنحن على ما كنا عليه ، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي هلا تطلبون غفران الله قبل نزول العذاب بتوحيد الله وبالتوبة من الشرك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٦)؟ بقبوله التوبة ، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر ، وإن قبول التوبة لا يمكن عند نزول العذاب. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشاء منا بك وبمن في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد من القحط والاختلاف مذ اخترعتم دينكم. (قالَ) صالح : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي السبب الذي منه يجيء شدتكم ورخاؤكم قدره تعالى إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) بزينة الدنيا فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم.

وقال ابن عباس : أي أنتم تختبرون بالخير والشر. وقال محمد بن كعب : أي تعذبون (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) أي في الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي أشخاص. قال ابن عباس : أساميهم : رعمي ، ورعيم ، وهرمي ، وهريم ، وداب ، وصواب ، ورباب ، ومسطع ، وقدار بن سالف ـ عاقر الناقة ـ وأسماؤهم عن وهب قد نظمهم بعضهم في بيتين فقال :

عمير سبيط عاصم وقدار

 

رباب وغنم والهذيل ومسطع

 الا أن عدوان النفوس جوار

 

و سمعان رهط الماكرين بصالح

(يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) (٤٨) أي لا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح (قالُوا تَقاسَمُوا) ، أي قال بعضهم لبعض ـ في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه‌السلام ـ غب ما أنذرهم بالعذاب أحلفوا (بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٤٩).


وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بتاء فوقية بعد اللام وبالرفع للجمع ، و «لتقولن» بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ عاصم «مهلك» بفتح الميم ، وحفص بكسر اللام. والباقون بضم الميم مع فتح اللام فقط. والمعنى : أنهم توافقوا وحلفوا بالله : لندخلن على صالح ومن ـ آمن به وهم أربعة آلاف ليلا ـ بغتة ونقتلهم جميعا ، ثم لنقولن لولي دم صالح : ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه فلا ندري من قتلهم! وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم. أي لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر. (وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه الكيفية (وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠) قيل : إنهم خرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء صالح يصلي في مسجده قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله تعالى صخرة ، فطبقت فم الشعب عليهم فهلكوا ، وهلك الباقون بالصيحة. وقيل : جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة ، يرون الأحجار ولا يرون راميا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) بصالح (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١) أي أنا أهلكنا التسعة بالحجارة ، وأهلكنا قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه‌السلام. وقرأ الكوفيون «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة إما بدل من «عاقبة» على أنه فاعل «كان» ، و «كيف» حال ، أي فتفكر في أي وجه حدث تدميرنا إياهم. إما خبر لمبتدأ محذوف ، أي هي أي العاقبة تدميرنا إياهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) أي خالية ساقطة.

وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف (بِما ظَلَمُوا) أي ظلمهم بعبادتهم غير الله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التدمير العجيب (لَآيَةً) أي لعبرة عظيمة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥٢) أي يفهمون إشارات القرآن (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صالحا ومن معه من المؤمنين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣) أي المعاصي. وقتل الناقة وهم أربعة آلاف ، وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت ، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت ، ثم بنوا مدينة ـ يقال لها : حاضوراء ـ (وَلُوطاً) منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح ، أي وأرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ـ فـ «إذا» ظرف للإرسال لما فارق عمه إبراهيم عليه‌السلام ـ : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي الفعلة المتناهية في السماجة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٥٤) ، أي والحال أنكم تعلمون علما يقينا أنها قبيحة؟! (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي لأجل الشهوة فقط فهو كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف ولا قصد ولد (مِنْ دُونِ النِّساءِ)! أي حال كونكم متجاوزين ، النساء (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥) أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا وريثا وزوجته المؤمنة (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) سذوم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٥٦) أي يتنزهون عن الأقذار ـ قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) المنافقة (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٥٧) أي قدرنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب.


وقرأ شعبة بتخفيف الدال. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على كل من كان منهم خارج المدينة (مَطَراً) هو طين محرق (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) مطرهم (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هلاك الكفار (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أي اصطفاهم الله بالإسلام من السابقين واللاحقين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩). وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء التحتية أي أالله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم ما يشركون به تعالى من الأصنام ـ؟ والباقون بالتاء على الخطاب أي أالله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة؟

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأها قال : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» (١). (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي بل من خلقهما (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي وأنزل لأجل منفعتكم من السماء نوعا من الماء ـ هو المطر ـ (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي حسن يفرح به الناظر؟ (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي ما كان لم مقدرة أن تنبتوا شجر البساتين (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض شؤونه. وقرئ أإلها مع الله. أي أتعبدون إلها آخر من الله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠) أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور. وقيل : قوم يماثلون بالله غيره (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي بل من جعل الأرض مسكنا فيستقر عليها الإنسان والدواب ، (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي صيّر أوساطها أنهار جارية ينتفعون بها ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي العذب والمالح ، (حاجِزاً) أي برزخا معنويا مانعا الممازجة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في إبداع هذه البدائع؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) كمال قدرته تعالى وحكمته ، واستغنائه عن الشريك. (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) أي بل من يجيب الذي أحوجه مرض ، أو فقر ، أو نازلة إلى التضرع إلى الله تعالى ، (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ، أي يدفع ما يحزن الإنسان مما يطرأ عليه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ)! أي متوارثين سكناها ممن قبلكم فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في فعل ذلك؟ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢).

قرأ أبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالخطاب ، وعلى كل من القراءتين فـ «الذال» مفتوحة مشددة لإدغام التاء فيها ، و «ما» مزيدة ، و «القلة» كناية عن العدم ، أي أنكم ما تتعظون لا كثيرا ولا قليلا. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي بل من يهديكم إلى مقاصدكم في ظلمات الليالي فيهما ، أو مشتبهات الطرق فيهما؟ (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)! أي قدام المطر.

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٥٨٧١) ، وابن سعد في الطبقات (١ : ١ : ٧٩).


وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «الريح» بالإفراد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «نشرا» بضم النون والشين ، وابن عامر بضم النون وسكون الشين ، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين أي تجمع السحاب. وقرأ عاصم بالموحدة المضمومة وبسكون الشين أي طيبة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ أي ليس مع الله إله فعل ذلك (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣). أي تنزه الله عن وجود ما يشركونه بالله تعالى بعنوان كونه إلها. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي بل من يبتدئ الخلق من النطفة ، ثم يعيده بعد الموت بالبعث و «أم» في الجمل الخمس انتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام بجهة من الجهات (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)؟ أي بأسباب سماوية وأرضية كالمطر والحر والبرد والنبات ، والمعادن والحيوان (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ أي إله آخر موجود مع الله حق يجعل شريكا له في العبادة. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي قل يا أشرف الخلق للمشركين : هاتوا برهانكم عقليا أو نقليا يدل على أن معه إلها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤) في دعواكم أن مع الله آلهة شتى. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمشركين الذين سألوك عن وقت قيام الساعة : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). فـ «من» في محل نصب مفعول ، والغيب بدل منها ، و «الله» فاعل ، أي لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى ، وإن جعل «من» فاعلا لـ «يعلم» و «الغيب» مفعوله كان اسم الجلالة مبتدأ خبره محذوف والاستثناء منقطع ، أي لا يعلم الذي ثبت في السموات والأرض ـ وهم الملائكة والإنس الغائب ـ كوقت الساعة ونزول العذاب لكن الله يعلمه.

قال بعضهم : وللغيب خمس مراتب.

أحدها : غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء ، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين : الأول : ما غاب في الأرض الصورية وسمائها ، فالغائب في الأرض مثل غيبة شخص عنك ، أو غيبة أمر من الأمور فلك إمكان إحضار الشخص ، والاطلاع على ذلك الأمر. والغائب في السماء مثل علم النجوم والهيئة ، فلك إمكان تحصيله بالتعلم. والثاني : ما غاب في أرض المعنى وهي أرض النفس ، فإن فيها مخبآت من الأوصاف والأخلاق فلك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة ، والرياضة ، والذكر ، والفكر. وما غاب في سماء القلب فإن فيها مخبآت من العلوم والحكم والمعاني فلك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس في مقامات القلب.

وثانيها : غيب أهل الأرض في الأرض والسماء وليس للإنسان إمكان الوصول إليه بإرادة الله تعالى كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

وثالثها : غيب أهل السماء في السماء والأرض وليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعظيم الله تعالى مثل الأسماء فإن الله تعالى كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة ، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها.


ورابعها : سبيل غيب لا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا من ارتضى له الله تعالى كما قال تعالى : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وبهذا يستدل على فضيلة الرسل على الملائكة ، لأن الله تعالى اختصهم بإظهاره تعالى إياهم على غيبه دون الملائكة ، ولهذا أسجدهم لآدم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم فتجلى فيه».

وخامسها : غيب انفرد الله بعلمه وهو قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله تعالى كما قال تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥) أي متى ينشرون من القبور. وقرئ بكسر الهمزة. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ). وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بل أدرك» بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الدال على وزن «أكرم». والباقون بكسر اللام ووصل الهمزة وتشديد الدال وبعدها ألف ، وأصله «تدارك» وبه قرأ أبيّ.

قال ابن عباس : أي بل اجتمع علمهم على أن الآخرة لا تكون ، أي فلم يعتقدوها (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي من نفس الآخرة كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا ، (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) أي لا يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم والله تعالى وصف المشركين أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم وصفهم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم وصفهم بأنهم يخبطون في شك ، ثم وصفهم بأن قلوبهم عمي فهم كالبهائم لا يخطرون ببالهم حقا ولا باطلا ويستقر همهم على البطون والفروج. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) أي أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا رميما ترابا؟ (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل مجيء وعد محمد (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨)! أي ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها أيها الجاهلون ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦٩) أي كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث ، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر ، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي ، لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يا أكرم الرسل فيما مضى لإصرارهم على الكفر. (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠) أي ولا تكن في ضيق قلب من مكرهم في المستقبل.

وقرأ ابن كثير بكسر الضاد. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي العذاب الموعود (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٧١) في إخباركم بمجيء العذاب؟ (قُلْ) لهم يا سيد الرسل : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) فـ «عسى ولعل ، وسوف» بمنزلة الجزم في مواعيد الملوك ، أي لا بد أن يكون بعض الذي تستعجلونه حلوله لحقكم ، وهو عذاب يوم بدر واللام مزيدة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إنه متفضل عليهم بتأخير عقوبتهم على ما يفعلونه من المعاصي (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧٣) بتأخير العذاب لأنهم لا يعرفون حق النعمة فيه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ


صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم عليه تعالى. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع ، وحميد «تكن» بفتح التاء وضم الكاف ، (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) من الأفعال والأقوال (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) الذي تقرأ عليهم يا سيد الرسل (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يبين لليهود والنصارى (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) ـ كالتشبيه والتنزيه وشأن عزير والمسيح ـ (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَهُدىً) من الضلالة ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) ، وذلك لأن بعض الناس لما تأمل القرآن فوجد فيه من الدلائل العقلية على التوحيد ، والنبوة ، والحشر ، وبيان نعوت جلال الله تعالى. ووجد ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول ، ووجده مبرأ عن التناقض ، ووجد القوى البشرية عاجزة عن جمع كتاب على هذا الوجه علم أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزا من هذه الجهة ، وكان هدى ورحمة من هذه الجهات. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين اليهود والنصارى ، أي بين المصيب والمخطئ منهم (بِحُكْمِهِ) أي بالحق لأنه تعالى لا يحكم إلا بالعدل ، أو بحكمته كما يدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٧٨) أي هو القادر الذي لا يمنع فلا يرد حكمه ، العالم بالحكم فلا يكون إلا الحق. (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ثق بالله الذي هذه أوصافه فإنها توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩) أي الدين الظاهر ، فالمحق حقيق بنصرة الله تعالى ، ثم قطع الله تعالى طمع سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بني إسرائيل بتبيين أحوالهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء من الدلائل ، فإن قطع الطمع عنهم يقوي القلب على إظهار المخالفة وعلى إظهار الدين كما ينبغي فقال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٨٠) أي إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت لا سبيل إلى إسماعه ، وكالأصم الذي لا يسمع برفع الصوت ولا يفهم بالإشارة. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى ، وأعمى قلبه عن الإيمان.

وقرأ ابن كثير «ولا يسمع الصم» بالتحتية وفتحها وبفتح الميم ورفع «الصم». وقرأ حمزة «تهدي العمي» بالمضارع المفيد للخطاب وبنصب «العمي» (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع إلا من هو في علم الله أنهم يصدقون بالقرآن ، لأنهم منقادون للحق (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وإذا ثبت نزول العذاب على الكفار وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وهو يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) من جبل الصفا بمكة ـ وهي فصيل ناقة صالح عليه‌السلام ـ فإنه لما عقرت أمه هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ، ثم انطبق عليه الحجر فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي رضي‌الله‌عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا


يخرج كل يوم إلا ثلثها. وعن الحسن رضي‌الله‌عنه : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام وفي الحديث : «إن طولها ستون ذراعا بذراع آدم عليه‌السلام لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب». (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢).

قرأ الكوفيون بفتح أن بتقدير الباء ، كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود بـ «أن» بتصريح الباء أي تحدثهم بأن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها. وقرأ أبيّ «تنبئهم» ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة ، لأنها حكاية من الله تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف ، فعلى هذا فالوقف على تكلمهم تام وعليه أيضا يجوز أن يكون بمعنى تجرحهم مع إفادة معنى التكثير ويدل عليه قراءة ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن زرعة ، والجحدري «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام. والمراد بالجرح : الوسم بالعصا والخاتم.

روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه‌السلام فتنكت نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر ، ثم تقول لهم : أنت يا فلان من أهل الجنة ، وأنت يا فلان من أهل النار. (وَيَوْمَ نَحْشُرُ) للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٨٣) أي واذكر لهم وقت جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة ، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة ، (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف السؤال والجواب (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً)؟ أي قال الله تعالى موبخا لهم على التكذيب : أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادئ الرأي ، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقتها ، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤)؟ أي بل أيّ شيء كنتم تعملون في الكفر؟ والمعنى : لم يكن لكم عمل غير الكفر. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي نزل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب تكذيبهم بآيات الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (٨٥) بحجة واعتذار (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)؟ أي ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلما ليستريحوا فيه بالقرار والنوم والنهار مضيئا ليطلبوا فيه معايشهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في جعل الليل والنهار كما ذكر (لَآياتٍ) أي دلالات ظاهرة على التوحيد والبعث والنبوة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦) أما وجه دلالته على التوحيد ، فلأن التقلب من النور إلى الظلمة وعكسه لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية ، وأما وجه دلالته على الحشر ، فلأنه لما ثبت قدرة القادر على هذا التقليب ثبت قدرته على التقليب من الحياة إلى الموت مرة ، ومن الموت إلى الحياة مرة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأن هذا


التقليب لمنافع الخلق وأن في بعثة الأنبياء إلى الخلق منافع عظيمة فقد ثبت أن هذه الكلمة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، أي واذكر لهم وقت نفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية ، فإذا سمع الخلق شدة صوت ذلك النفخ بحيث لا تتحمله طبائعهم يفزعون عنده ويموت كل من كان حيا ذلك الوقت لم يسبق له موت أو كان ميتا ، لكنه حي في قبره كالأنبياء والشهداء. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أن لا يفزع.

قيل : هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش ، فإنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وقيل : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام. وقيل : الحور وخزنة النار وحملة العرش. وقيل : منهم موسى عليه‌السلام لأنه صعق مرة. وقال القشيري : والأنبياء داخلون في الشهداء لأن لهم الشهادة. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروا الموقف للسؤال والجواب ، والحساب ذليلين مطيعين.

وقرأ حفص وحمزة «أتوه» بصيغة الفعل الماضي وهو بقصر الهمزة وفتح التاء. والباقون بصيغة اسم الفاعل فهو بمد الهمزة وضم التاء. وقرئ «أتاه» باعتباره لفظ كل. (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وتبصر الجبال وقت النفخة تظنها ثابتة في أماكنها. والحال أنها تمرمر السحاب التي تسيّرها الرياح سيرا سريعا ، فسير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي صنع الله الذي أحسن خلقه ، وأتى به على الحكمة ذلك النفخ في الصور وما تفرغ منه من الأمور صنعا و «صنع» منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال ، إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) أي إنه تعالى عالم بما يعمله أهل السعادة والشقاوة من الخير والشر.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالفوقية على الخطاب (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء يوم القيامة بكلمة الشهادة فله من الجزاء ما هو خير منها ، باعتبار أن الثواب دائم ، وأنه من فعل الله ، وأنه حاصل من جهة الله تعالى ، فإن المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا جزاؤها المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النطر إلى وجه الله تعالى (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩).

وقرأ الكوفيون «فزع» بالتنوين فحينئذ كان «يومئذ» ظرفا لـ «آمنون» ، أو المحذوف هو صفة لـ «فزع» أي والذين جاءوا بالحسنات آمنون من فزع كائن ، يوم إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة ، وعلى هذا فالفزع على نوعين فزع من خوف العقاب ، وفزع شديد مفرط الشدة لخوف النار أما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد. وقرأ الباقون بإضافة «فزع» ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح الميم من «يومئذ» وهو فتحة بناء لإضافة «يوم» المبني.


والباقون بكسرها وهو كسرة إعراب. وهذا يقتضي الأمن جميع فزع ذلك اليوم. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالشرك بالله (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا في النار على وجوههم ، وتقول لهم خزنة جهنم وقت كبهم على وجوههم في النار : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)؟ أي ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لأهل مكة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) وهي مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما لا يسفك فيها دم إنسان ، ولا يصاد صيدها ، ولا يقطع حشيشها الرطب.

قرأ الجمهور «الذي» صفة لـ «رب».

وقرأ ابن عباس وابن مسعود «التي» صفة لـ «البلدة» (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) أي بأن أثبت على ملة الإسلام ، وبأن أكون من المنقادين لها. وهذا إشارة إلى أن المسلم الحقيقي من يستعمل الشريعة مثل استعمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي أمرت أن أقرأ عليكم القرآن بطريق تكرير الدعوة ، وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه ، (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اهتذى باتباعه إياي في العبادة والإسلام ، وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه راجعة إليه لا إلي ، (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) ، أي ومن ضل بمخالفتي فيما ذكر فقل في حقه : إنما أنا من المنذرين فلا علي شيء من وبال ضلاله. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة. وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي سيريكم الله تعالى في الدنيا آياته الباهرة ـ كخروج الدابة وسائر أشراط الساعة ـ (فَتَعْرِفُونَها) أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣).

وقرأ نافع وابن عامر ، وحفص بالتاء على الخطاب أي وما ربك بغافل عما تعلم أنت من الحسنات ، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله. والباقون بالياء على الغيبة أن وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم المسببة للعذاب.


سورة القصص

وتسمى أيضا سورة موسى ، مكية ، وقيل : إلا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ

الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فإنها نزلت بالجحفة ـ بين مكة والمدينة ، ثمان وثمانون

آية ، ألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، خمسة آلاف وثمانمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) أي إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيّن بفصاحته أنه من كلام الله ، وبيّن صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيّن خبر الأولين والآخرين وبيّن كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) ، أي نقرأ عليك بواسطة جبريل بعض خبر موسى وفرعون ملتبسا بالحق لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن ، فإنهم المنتفعون به. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تجبّر في مملكته أرض مصر ، (وَجَعَلَ أَهْلَها) أي أهل مملكته (شِيَعاً) أي أصنافا في استخدامه ، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل.

قال ابن عباس : إن بني إسرائيل لمّا كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) كثيرا صغارا. وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه‌السلام بشروا بمجيئه عليه‌السلام ، وفرعون كان قد سمع ذلك ، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة. وهذا الوجه أولى بالقبول. قال وهب : قتل القبط في طلب موسى عليه‌السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قوله : (يَسْتَضْعِفُ) حال من فاعل «علا» أو خبر ثان لأن «أو» بدل اشتمال من «علا». وقوله : (يُذَبِّحُ) بدل اشتمال من «يستضعف». (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) قيل : أي يستخدمهن كبارا (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) في كفره بدعائه إلى غير عبادة الله وقتل خلق كثير من أولاد الأنبياء (وَنُرِيدُ) بإرسال موسى (أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، أي أن نتفضل على من قهروا في أرض مصر ـ وهم بنو إسرائيل ـ بإنجائهم من بأس


فرعون. وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ) إلخ معطوف على قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) إلخ لأنهما وقعا تفسيرين لنبأ موسى وفرعون أو حال من «طائفة» بتقدير المبتدأ ، أي ونحن نريد (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة إلى الخير متقدمين في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين ، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) لملك فرعون وأرضه وما في يده ، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ننفذ أمرهم في أرض مصر والشام يتصرفون فيها ما يشاءون ، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) أي ونري ، رؤية بصرية ، فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من المستضعفين من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل.

وقرأ حمزة والكسائي «ويرى» بالياء المفتوحة وبفتح الراء مع الإمالة ورفع ما بعده. (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي ألهمنا أم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب أن أرضعي هذا الصبي ، (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي اشتد خوفك عليه من الذبح بأن يفطن بن جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي بحر النيل (وَلا تَخافِي) من هلاكه بالغرق ونحوه. (وَلا تَحْزَنِي) بسبب فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) من قريب لتكوني أنت المرتضعة له (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) إلى أهل مصر والشام.

قال ابن عباس : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى ـ قابلة وكانت مصافية لأم موسى ـ وقالت لها : لينفعني اليوم حبك إياي ، فجلست القابلة تعالجها ، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها فقالت : يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا ، فاحفظي ابنك ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحارس بالباب فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور ، فطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع ، فدخل ، فإذا التنور مسجور ، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقال : لم دخلت القابلة عليك؟! قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة ، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : أين الصبي؟ قالت : لا أدري! فسمعت بكاء في التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما ، فأخذته ، ثم إن أم موسى عليه‌السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا ، ثم تقذف التابوت في النيل ، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها : ما تصنعين به؟ فقالت : لي ابن أخبؤه فيه ، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك ، فلما جاءهم ، أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه ، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم ، فأخذ الله لسانه وبصره فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق ، فرد الله عليه ذلك وانطلقت أم موسى وألقته في


النيل ، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها ، فقالوا : أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها ، فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة ، فقال فرعون : ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب ، فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها ، فعالجته ، ففتحته ، فإذا هي بصبي صغير ، وإذا نور بين عينيه ، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون ، فأخرجوه من التابوت وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت في الحال ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقالت الغواة من قوم فرعون : أيها الملك ، إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك ، فهمّ فرعون بقتله ، فاستوهبته آسية من فرعون ، فوهبه لها ، فترك قتله ، وتبنته فقيل لآسية : سميه فقالت : سميته موشى بالشين المعجمة لأنا وجدناه في الماء والشجر فإن معنى مو ماء ومعنى شا شجر فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة وذلك قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي أخذت موسى جواري فرعون من بين الماء والشجر يوم الإثنين ، وذهبن به إلى امرأة فرعون (لِيَكُونَ) أي موسى (لَهُمْ عَدُوًّا) من بعد ما يجيء إليهم بالرسالة (وَحَزَناً) بذهاب ملكهم.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزي. والباقون بفتحهما. (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) فيما كانوا عليه من الكفر والظلم ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم. وقال الحسن : معنى «كانوا خاطئين» أي كانوا لا يشعرون أن موسى هو الذي يذهب بمكلهم. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وهي آسية ـ لفرعون حين أخرجته من التابوت وهمّ فرعون بقتله لقول الغواة : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) أي هذا الغلام قرة عين لي ولك يا فرعون.

قال ابن عباس : لما قالت آسية ذلك قال فرعون : يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن إسحاق : إن الله تعالى ألقى محبته عليه‌السلام في قلبه لأنه كان في وجهه ملاحة فكل من رآه أحبه ، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ، ولأنها لما فتحته رأته يمتص إصبعه ، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. (لا تَقْتُلُوهُ) خاطبته بلفظ الجمع تعظيما لأجل أن يعاونها فيما تريده (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فنصيب منه خيرا لو كان له أبوان معروفان (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، إذا لم يعرف له أبوان وكانت آسية لا تلد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩). وهذا ابتداء كلام من الله تعالى أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم في يده وبسببه. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل.


وقال ابن عباس : أي هم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه‌السلام. وقال آخرون : هذا من تمام كلام امرأة فرعون ، أي بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه وأنه ليس منا. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) ، أي وصار قلب يوحانذ صفرا من العقل لفرط الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون. وقيل : أي خاليا من الحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون تبناه ، (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي إنها كادت لتظهر بأمر موسى من فرط الدهشة أو من شدة الفرح بتبني امرأة فرعون. وقال ابن عباس : كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني بعد أن نسب إلى فرعون ، وقال أيضا في رواية عكرمة كادت تقول : وا ابناه من شدة حزنها عليه حين رأت الموج يرفع ويضع.

وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب أنه ابن فرعون (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي لولا حفظنا قلبها بإلهام الصبر لأبدت قصة موسى ، (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) أي من المصدقين بوعد الله تعالى برده إليها بأن يكون من المرسلين ، أو من الواثقين بحفظ الله تعالى لا بتبني امرأة فرعون وتعطفها (وَقالَتْ) أم موسى (لِأُخْتِهِ) الشقيقة مريم ـ وقال الضحاك : اسمها كلثمة. وقال السهيلي : اسمها كلثوم ـ : (قُصِّيهِ) أي فتشي خبره وانظري إلى أين وقع ، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي فأبصرت مريم ذلك الغلام كائنة من مكان بعيد اختفاء عن الناس (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١) بغرضها وبأنها أخت موسى. (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ) أي منعناه أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه.

قال الضحاك : كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها.

وروي أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا وهو يصبح ، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له وقربها منه هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ (فَقالَتْ) ، أي أخت موسى لآل فرعون ـ عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات ـ (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يضمنون رضاعه يقومون بجميع مصالحه لأجلكم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢) أي وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ، ولا يخونكم فيه.

قال السدي : لما قالت مريم ذلك أخذوها وقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت : ما أعرفه! وقالت : إنما أردت أنهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك. وقيل : قالوا لها : من هم؟ قالت أمي. قالوا : أو لأمك ابن؟ قالت : نعم هارون. قالوا : صدقت ، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها ، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريا. فقالوا : أقيمي عندنا ، فقالت : لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيا للتهمة ، فرضوا بذلك ، فرجعت به إلى بيتها.


قال الضحاك : لما قبل ثديها قال هامان : إنك لأمه! قالت : لا ، قال : فما حالك قبل ثديك من بين النسوة! قالت : أيها الملك ، إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي. قالوا : صدقت ، لم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر. (فَرَدَدْناهُ) أي موسى (إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تطيب نفسها بوصول موسى إليها وتربيتها له في بيتها ، (وَلا تَحْزَنَ) على موسى بفراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ) في رده إليها وجعله من المرسلين (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) ، أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق لا خلف فيه بمشاهدة بعضه ، وقياس بعضه عليه ، فهذا هو الغرض الديني وما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع ، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته ، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار ، فأتت به فرعون واستمر عنده يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل ، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي كمال قوته الجسمانية (وَاسْتَوى) أي تكامل عقله (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي أعطيناه علم الحكماء والعلماء ، (وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الذي أعطينا موسى من الحكم والعلم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤) أي الصالحين بالعلم والحكمة ، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل موسى مدينة منف في وقت اشتغال أهلها عند نصف النهار.

ومنف : بفتح الميم وسكون النون أصلها مآفة ، ومعناها بلغة القبط ثلاثون ، لأنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان نزلها مصر بن حام في ثلاثين رجلا فسميت مافت ، ثم عربت منف. قيل : إن موسى عليه‌السلام لما بلغ أشده وآتاه الله العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق ، وعاب دينهم ، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن خافوه ، وخافهم. وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به ، ويسمعون منه ، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا ، فدخلها يوما وقت كونهم قائلين (فَوَجَدَ فِيها) أي المدينة (رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يلازمان مقدمات القتل من الضرب والخنق (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن تابع موسى على دينه وهم بنو إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي ممن خالف موسى في دينه ـ وهم القبط ـ فالقبطي : الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه واسمه : فليثون أوفاتون : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على القبطي وأن يخلصه منه ، (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفعه بأطراف الأصابع. وقيل : بقبضها.

وقرأ ابن مسعود فلكزه موسى وقال بعضهم الوكز : في الصدر ، واللكز : في الظهر. (فَقَضى عَلَيْهِ) أي أنهى موسى حياة القبطي وخفي هذا على الناس فلم يعرف به أحد لما هم فيه من الغفلة فندم موسى عليه‌السلام عليه فدفنه في الرمل (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي هذا القتل من عمل الشيطان لأني لم أومر به أو هذا المقتول من جند الشيطان (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) أي


ظاهر العداوة والإضلال (قالَ) مناجيا مع الله تعالى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتل القبطي من غير أمر ، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به (فَاغْفِرْ لِي) أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون (فَغَفَرَ لَهُ) أي فستره عن الوصول إلى فرعون (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) أي المبالغ في ستر ذنوب عباده وفي رحمتهم (قالَ) موسى : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) أي أقسم بإنعامك علي بالقوة والمعرفة فلن أكون معينا لأحد من المشركين ، بل أكون معاونا للمسلمين أي إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين ، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الفراء : وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني ظهيرا للمجرمين (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فصار موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب بذلك القتل يترقب أي ينتظر نصرة الله إياه ، (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) أي فإذا الإسرائيلي الذي استعان بموسى على القبطي (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يطلب من موسى نصرته بصياح على قبطي آخر يريد أن يستخدم الإسرائيلي (قالَ لَهُ) أي للقبطي : (مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) في تسخير هذا الإسرائيلي (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي فلما أراد موسى أن يأخذ عدوه وعدو الإسرائيلي بسطوة لخلاصة من عدوهما ، لأن القبطي لم يكن على دينهما ، ولأن القبط أعداء بني إسرائيل (قالَ) أي القبطي ، وكان عرف القصة من الإسرائيلي أو كان توهم من زجر موسى للإسرائيلي أنه هو الذي قتل الرجل بالأمس : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) اليوم (كَما قَتَلْتَ نَفْساً) قبطيا (بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي ما تريد يا موسى إلا أن تفعل ما تريده في أرض مصر من ضرب وقتل ، من غير نظر في العواقب (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) أي المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وانتشر حديث هذه الواقعة في المدينة ، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله (وَجاءَ رَجُلٌ) هو مؤمن من آل فرعون اسمه : سمعان ، وكان ابن عم فرعون (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي من آخرها (يَسْعى) أي يسرع في مشيه (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) أي أولياء المقتول (يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلوك (فَاخْرُجْ) من هذه المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) أي المشفقين (فَخَرَجَ) موسى عليه‌السلام (مِنْها) أي المدينة (خائِفاً) على نفسه من آل فرعون (يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر لحوق الطالبين ويكثر الالتفات وينظر هل يلحقه أحد يطلبه (قالَ) عند ذلك (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١) أي خلصني منهم واحفظي من لحوقهم. وهذا يدل على أن قتله عليه‌السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبا (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي لما قصد الذهاب إلى مدين لأنها ليست تحت ملك فرعون ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، وهو منهم ولم يكن له علم بالطريق ، بل اعتمد على فضل الله تعالى (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) ، وهي من إضافة الصفة للموصوف


أي الطريق الوسط ، وكان لمدين ثلاث طرق ، فأخذ موسى الطريق الوسطي ، وأخذ الطلاب الآخريين.

وقال ابن إسحاق : خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي لما وصل إلى بئر مدين (وَجَدَ عَلَيْهِ) أي فوق شفيرها (أُمَّةً) أي جماعة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) مواشيهم وكانوا أربعين رجلا (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تحبسان غنمهما عن الماء من ضعفهما حتى يفرغ القوم.

وقال ابن إسحاق اسم الكبرى صفوراء والصغرى ليا. (قالَ) موسى لهما : (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما؟ (قالَتا لا نَسْقِي) أي لا نقدر أن نسقي غنمنا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ).

قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال ، أي حتى يرجعوا من سقيهم. والباقون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٣) لا يستطيع أن يسقي ، وليس له أحد يعينه غيرنا ، (فَسَقى لَهُما) أي فسقى موسى غنمهما لأجلهما. قيل : عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة لا يرفعها إلا عشرة رجال فنحاها بنفسه ، واستقى الماء من ذلك البئر (ثُمَّ تَوَلَّى) أي انصرف موسى (إِلَى الظِّلِ) أي ظل سمرة فجلس فيه ليستريح من حر الشمس ، وهو جائع لم يذق طعاما في سبعة أيام (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) أي رب إني بسبب ما أنزلت إلي خير الدين ، صرت فقيرا في الدنيا وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة ، فقال ذلك رضا بهذا البدل وفرحا به ، وشكرا له.

روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا ، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ـ وهي الكبرى عند الأكثرين ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) واسمها صفوراء (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مائلة عن الرجال رافعة كمها على وجهها (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) مواشينا.

روي أن موسى عليه‌السلام أجابها ، فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه‌السلام. (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء موسى شعيبا (وَقَصَ) موسى (عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي فراره من فرعون. (قالَ) شعيب له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥) من أهل مصر فإن فرعون لا سلطان له في أرضنا.

قال الضحاك : لما دخل على شعيب قال له : من أنت يا عبد الله؟ فقال : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب. وذكر له جميع أمره من لدن ولادته ، وأمر


القوابل والمراضع والقذف في اليم ، وقتل القبطي ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. فقال شعيب : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، أي لأنا لسنا في مملكة فرعون.

وروي أن موسى لما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع ، فقال شعيب : تناول يا فتى فقال موسى عليه‌السلام : أعوذ بالله. قال شعيب : ولم ذلك؟ قال : لأنا من أهل البيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف عوضا. فقال شعيب : عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف ، فجلس موسى فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله. (قالَتْ إِحْداهُما) ـ وهي التي دعته إلى أبيها ، وهي التي تزوجها موسى ـ (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) اتخذه أجيرا لرعي أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦).

روي أن شعيبا أخذته الغيرة فقال : وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت ما شاهدته منه عليه‌السلام من كيفية السقي ورفع الصخرة من فم البئر ، ومن غض بصره حال ذودهما الماشية ، وحال سقيه لهما ، وحال مشيه أمامها إلى أبيها. (قالَ) أي شعيب لموسى عند ذلك : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي الحاضرتين (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي مشروطا على أن تأجرني نفسك في رعي غنمي ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) من السنين في العمل (فَمِنْ عِنْدِكَ) أي فالتمام من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام أتم الأجلين ، ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي بل أساهلك فيها بقدر الإمكان ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) في حسن المعاملة وغيره ، وإنما قال شعيب : إن شاء الله ، للتبرك ولتفويض أمره إلى معونته تعالى ، لا لتعليق صالحه بمشيته تعالى. (قالَ) موسى : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الشرط ثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا ، (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي أيّ أحد الوقتين وفيتكه بأداء الخدمة فيه فلا إثم علي فكما لا إثم علي في قضاء الأكثر لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من الشرط الجاري بيننا (وَكِيلٌ) (٢٨) ، أي شاهد ، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وفي بعض الأخبار أن موسى لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغدو أراد الرعي ، قال له شعيب عليه‌السلام : اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق ، فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك ، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه ، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر ، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا ، ثم إن موسى عليه‌السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى ، فقاتلته حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى ، رأى العصا دامية والتنين مقتولا فارتاح لذلك ، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا آية ، وعاد إلى شعيب وكان ضريرا فمس الأغنام ، فإذا هي أحسن حالا مما


كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصة ، ففرح بذلك وعلم أن لموسى وعصاه شأنا ، فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال : إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء التي تسقي الغنم منه ، ففعل ، ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه ، (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أتمه (وَسارَ) نحو مصر لصلة رحمه ، وزيارة أمه وأخيه (بِأَهْلِهِ) أي بزوجته وابنه منها والخادم بإذن من شعيب عليه‌السلام ، (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أي رأى من جهة جبل الطور عن يسار الطريق نارا ولما عزم على السير.

قال لزوجته : اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي انزلوا هاهنا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً).

وقرأ حمزة «لأهله» في الوصل بضم الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي من عند النار بخبر الطريق ، وقد كان موسى تحيّر في الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) أي عود غليظ (مِنَ النَّارِ). وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها. والباقون بالكسر (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩) أي لكي تدفئوا بها.

روي أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة ، فرقت ماشيته وأصابهم مطر ، فوجدوا بردا شديدا ، فعند ذلك أبصرنا بعيدة ، فسار إليها يطلب من يد له على الطريق (فَلَمَّا أَتاها) أي النار التي أبصرها ، (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) فإنه حصل لموسى عليه‌السلام في تلك البقعة ابتداء الرسالة ، وتكليم الله تعالى إياه والجار والمجرور متعلق بـ «نودي» (مِنَ الشَّجَرَةِ) أي من جهة الشجرة ، وهي شجرة عناب أو شوك. وهذا بدل اشتمال من شاطئ (أَنْ يا مُوسى) فـ «أن» مفسرة (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) والعامة على كسر همزة إني على تضمين النداء معنى القول. وقرئ بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر تقديره أي يا موسى اعلم أني أنا الله ، (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) من يدك. وهذا معطوف على «أن يا موسى» مفسر أيضا لـ «نودي» ، فألقاها فصارت ثعبانا ، فتحركت رافعة رأسها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) أي شبيهة بالحية الصغيرة في سرعة حركتها مع غاية عظم جئتها ولم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعت حتى إن موسى سمع صرير أسنانها ، وقعقعة الشجر ، والصخر في جوفها (وَلَّى مُدْبِراً) هاربا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ، ولم يلتفت إليها قال الله : (يا مُوسى أَقْبِلْ) إليها (وَلا تَخَفْ) منها (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٣١) من شرها ، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت قال الله له : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي أدخل كفك اليمين في طوق قميصك وأخرجها (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها ضوء كضوء


الشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي عيب (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي أدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك ، فتعود إلى حالتها ، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك. وقيل : من أجل الخوف إذا أرهبت بها الناس.

وقال ابن عباس : إن الله تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الخوف عند معاينة الحية ، فمعنى من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك.

وقال مجاهد : وكل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي فالعصا واليد حجتان نيرتان ، كائنتان من الله تعالى ، واصلتان إلى فرعون وقومه ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢) أي خارجين عن عبودية الله ، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) ـ هو القبطي ـ (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٣٣) بمقابلتها ، فيفوت المقصود بقتلي (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أي أبين مني كلاما ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي معينا.

وقرأ نافع «ردا» بتنوين الدال وحذف الهمزة ، (يُصَدِّقُنِي) أي أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة فربما حصل المقصود من تصديق فرعون. والمراد بتصديق هارون تلخيصه بلسان فصيح وجوه الدلائل. وجوابه عن الشبهات ، ومجادلته الكفار.

وقرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة لـ «ردأ». ويروى عن أبي عمرو أيضا. والباقون بالجزم وهو المشهور عن أبي عمرو (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤) بالرسالة ، لأن لساني لا يطاوعني عند المحاجة بسبب العقدة التي حصلت بسبب الجمرة. (قالَ) الله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي سنقوي ظهرك بهارون ونعين أمرك به. (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي غلبة بالحجة في الحال ، وغلبة في المملكة في ثاني الحال. (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا). فالآية التي هي قلب العصاحية تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما‌السلام ، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة ، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء فصارت مانعة من وصولهم إليهما بالقتل وغيره. (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥) على فرعون وقومه بالبرهان : والدولة. وقوله : (بِآياتِنا) متعلق بـ «لا يصلون» أو بـ «الغالبون» (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) وهي العصا واليد ، ففي كل منهما آيات عديدة (بَيِّناتٍ) أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى من الله تعالى. (قالُوا ما هذا) أي الذي جئتنا به ، (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر ، أو سحر كذب هو من تلقاء نفسك ، لا إن الذي أظهرته معجزة صادرة من الله تعالى وإنما أنت تفتري على الله تعالى. (وَما سَمِعْنا بِهذا) أي الذي تدعو إليه من التوحيد والذي تدعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعا (فِي آبائِنَا


الْأَوَّلِينَ) (٣٦) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه‌السلام. (وَقالَ) لهم (مُوسى) ـ وقرأ ابن كثير بغير واو ـ : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده ، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان ، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء ، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل :

وليتك ترضى والأنام غضاب

 

فليتك تحلو والحياة مريرة

وبيني وبين العالمين

 

وليت الذي بيني وبينك عامر

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. (فَاجْعَلْ لِي) منه (صَرْحاً) أي قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي أنظر إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي موسى عليه‌السلام (مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله.

واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه ، وهي قوله : لا دليل على وجود إله غيري ، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه ، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله : ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره ، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض ، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه‌السلام فرعون بقوله : رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال : إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل : لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ، ونجر الخشب ، وسبك المسامير ، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين ، فأمر بنشابة ، فضرب نحو السماء ، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه‌السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه ، فقطعه ثلاث قطع : قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل ، وقطعة وقعت في البحر ، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي ملتبسين بغير استحقاق ، (وَظَنُّوا) أي فرعون وجموعه القبط (أَنَّهُمْ إِلَيْنا) أي إلى حكمنا (لا يُرْجَعُونَ) (٣٩) بالنشور.


وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم فهو من الرجوع. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم فهو من الرجع (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) عقب ما بلغوا أقصى الغايات في العتو ، وفي هذا استحقار لهم واستقلال لعددهم ، وإن كانوا كبيرا كثيرا وتعظيم لشأن الأخذ فشبههم الله تعالى بحصيات أخذهن آخذ في كفه ، فطرحهن في البحر وذلك قوله تعالى : (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فألقيناهم في البحر.

قيل : هو بحر يسمى أسافا من وراء مصر ـ حكاه ابن عساكر ـ (فَانْظُرْ) يا أشرف الخلق (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) أي كيف صار آخر أمر المشركين وبينه لقومك ليعتبروا به. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي رؤساء (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والمعاصي.

وقرأ أبو عمر ونافع وابن كثير «أيمة» ، بإبدال الهمزة الثانية ياء (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١) فلا يمكن التخلص من العقاب الذي سينزل بهم ، لأنهم بلغوا أقصى النهايات في باب المعاصي حتى صاروا قدوة للضلال (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي إبعادا من الرحمة ، ولا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفا عن سلف ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) أي من المطرودين عن الرحمة ومن الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) ، أي حال كون الكتاب أنوارا لقلوب الناس ، فإنه يستبصر به في باب الدين (وَهُدىً) إلى كل خير ، فإن الكتاب يستدل به والمتمسك به يفوز بمطلوبه من الثواب (وَرَحْمَةً) لأن الكتاب من نعم الله تعالى على من تعبد به فكل من عمل به ينال رحمة الله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) أي ليكونوا على حال يرجى منه التذكر.

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة». (وَما كُنْتَ) يا أفضل الخلق (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي في المكان في شق الغرب من جبل الطور ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه‌السلام الذي رأى فيه النار ، (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي حين أوحينا إلى موسى أمر الرسالة حيث أمرنا بالإتيان إلى فرعون وقومه ، (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) لموسى وما جرى عليه (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة ، (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فتغيرت الأحكام ، وخفيت عليهم الأخبار لا سيما على آخرهم ، فاقتضى الحال إظهار الأحكام الجديدة ، فأوحينا إليك ، فإخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور لها دلالة ظاهرة على نبوتك ، (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي وما كنت


يا سيد الرسل مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي تقرأ على أهل مدين آياتنا الناطقة بالقصة على طريق التعلم منهم. ويقال : وما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك القرآن على قومك أهل مكة ، تخبرهم قصة أهل مدين مع موسى ، ومع شعيب حتى تنقلها بطريق المشافهة ، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي لا عن مشاهدة للمخبر عنه ، وذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) إياك ، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت يا سيد الخلق بجانب جبل زبير حين نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة. ويقال : إذ نادينا أمتك. قال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رب أرنيهم. قال : إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال : بلى يا رب. فقال الله تعالى : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب آبائهم ، فأسمعه الله تعالى أصواتهم ، ثم قال : أجبتكم قبل أن تدعوني ، (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن أرسلنا بالقرآن لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس.

وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي لكن هي رحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي لكي تخوف بالقرآن من العقاب على المعصية قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى ، وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على القول بأن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) أي يتعظون بإنذارك (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) أي ولولا أنهم قائلون بلسان الحال إذا عوقبوا يوم القيامة بسبب اكتسابهم في كفرهم أنواع المعاصي ، لم لم ترسل إلينا رسولا مع الكتاب قبل هذا العذاب ، فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع كتابك ، ونصدق بكل ما أتى به رسولك؟ ما أرسلناك إليهم وإنما أرسلنا الرسول قطعا لمعاذيرهم بالكلية ، أي لكي لا يكون لهم حجة علينا ، (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي فلما جاء الرسول بالكتاب المعجز أهل مكة (قالُوا) ـ أي كفار مكة ـ تعنتا : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي هلا أعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزّل جملة واحدة ومن قلب العصا حية ، ومن اليد البيضاء وغير ذلك قال تعالى ردا عليهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي ألم يكفر كفار مكة من قبل القول بما أعطى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا القرآن ، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ، فلما طلبوا من سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزات سيدنا موسى عليه‌السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول ، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت (قالُوا) أي كفار مكة : (سِحْرانِ تَظاهَرا).

وقرأ الكوفيون بكسر السين وسكون الحاء والمعنى : أن ما أوتي محمد وما أتي موسى


سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر. وقرأ الباقون «ساحران» بصيغة اسم الفاعل ، أي محمد وموسى ساحران أعان كل منهما صاحبه على سحره. روي أن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوهم عنهم فقالوا : إنا نجده في التوراة بصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا : إن موسى كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال تعالى في حقهم : أولم يكفروا بما أوتي موسى (وَقالُوا) أي كفار مكة (إِنَّا بِكُلٍ) من التوراة والقرآن أو من محمد وموسى (كافِرُونَ) (٤٨) غير مصدقين (قُلْ) لهم تعجيزا لهم وتوبيخا : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح في هداية لخلق منهما ، (أَتَّبِعْهُ) أي فإن أتيتم به أتبعه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٩). أي في قولهم أن التوراة والقرآن سحران مختلفان (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما فاعلم أنهم ليس لهم مستند وإنما لهم محض هواهم الفاسد. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أضل منه لأنه أضل من كل ضال ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠) لأنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى ، والأعراض عن الآيات الهادية إلى الحق ، (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي أنزلنا القرآن منجما يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى تنبيه كفار مكة ، فإنهم كل يوم يطلعون على فائدة ، فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر أو جعلنا القرآن أنواعا من المعاني من قصص وعبر ونصائح ، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١) فيؤمنون بما في القرآن. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل مجيء القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) وهم مؤمنو أهل الكتاب (وَإِذا يُتْلى) ، أي القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ) أي القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) ، أي من قبل قراءة القرآن علينا (مُسْلِمِينَ) (٥٣) ، أي مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته (بِما صَبَرُوا) على طعن الكفار وأذاهم متى بينوا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ودخلوا في دينه.

قال مقاتل : هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران : أجر على الصفح ، وأجر على الإيمان. وقال السدي : إن اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون بالطاعة المعصية وبالعفو الأذى ، وبالامتناع من المعاصي فإن نفس الامتناع حسنة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٥٤). وقال سعيد بن جبير : وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له : يا نبي الله ، إن لنا أموالا فإن أذنت انصرفنا فجئنا بأموالنا ، فواسينا بها المسلمين ، فأذن لهم ، فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فنزلت هذه الآيات الثلاث (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي ما لا ينفع في دين ودنيا (أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي اللغو


(وَقالُوا) للاغين : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا ديننا ولكم دينكم ، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهو سلام إعراض وفراق ، لا سلام تحية فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا ، (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥). أي لا نطلب صحبتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم. (إِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦).

قال الزجاج : أجمع المسلمون على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند قرب موته : يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمدا وصدقوه ، تفلحوا ، وترشدوا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك! قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول : لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى. قال : يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكن أكره أن يقال جزع : عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب ، وهاشم ، وعبد مناف ، ثم مات اه. وهذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ، لأن الله هو الذي هداه بعد أن أيس منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما الأحاديث الدالة على عذابه ودخوله النار ، فهو إما لترك النطق بالشهادتين أو لغيره ، وذلك إن لم يعتد بما نطق به من الشهادة ، فالعذاب يكون لترك النطق بالشهادة وإن اعتد به فالعذاب يكون في مقابلة ترك فرض آخر ومما يدل على أنه آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد وصى قريشا عند موته باتباع رسول الله. وقال : والله لقد دانت له العرب والعجم فلا يسبقنكم إليه سائر العرب فيكونوا أسعد به منكم ، فعلى هذا قد حصل منه التصديق بقلبه. وعن عبد الله بن ثعلب العذري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا ، وأنه قال : ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك في الكتب ، وأنه قال عند قرب موته مخاطبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

 

و دعوتني وعلمت أنك صادق

من خير أديان البرية دينا

 

و دعوتني وعلمت أنك صادق

لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

 

لولا الملامة أو حذار مسبة

واعلم أنه لو ترك شخص النطق بالشهادتين بعد المطالبة لا لإباء عن الإسلام ولا لعناد له ، بل لخوف من ظالم أو من ملامة ، أو مسبة عند من يعظم ذلك ، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكون كافرا بينه وبين الله ، بل لو تكلم بالكفر والحالة هذه لا يضره.


وقال الحليمي : لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير كلمة لا إله إلا الله حتى لو قال : لا إله غير الله ولا إله ما عدا الله ، أو ما سوى الله ، أو ما من إله إلا الله ، أو لا إله إلا الرحمن ، أو لا رحمن إلا الله أو إلا البارئ فهو كقوله : لا إله الا الله اه. وكذا قال : محمد نبي الله أو مبعوثه أو نحو ذلك ، أو ما يؤدي إلى ذلك باللغات العجمية صح إسلامه وحكم بكونه مسلما وفي الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آدم ومن دون تحت لوائي وإن عبد المطلب يعطي نور الأنبياء وجمال الملوك»(١). وعن جعفر بن محمد الصادق قال : ويحشر عبد المطلب له نور الأنبياء وجمال الملوك ، ويحشر أبو طالب في زمرته ، أي إنما يعطى عبد المطلب نور الأنبياء ، لأنه كان على التوحيد ، ولأنه مستقل لا تابع ، وهو من أهل الفترة وإنما يعطى جمال الملوك ، لأنه كان سيد قريش في زمانه فهو في ذلك ملحق بالملوك الذين عدلوا وما ظلموا ، ومما يدل على أن أبا طالب مؤمن ماروي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث قال : قال العباس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترجو لأبي طالب خيرا؟ قال : «كل الخير أرجو من ربي» (٢) رجاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم محقق ولا يرجو كل الخير إلا لمؤمن. وماروي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب ، وأخ كان لي في الجاهلية»(٣). أورده المحب الطبري أي وهو الأخ من الرضاعة. وفي الحديث : «إني ادخرت شفاعتي جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا». اه. وما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أبا طالب أخرج من طمطام النار وغمراتها إلى ضحضاح ، منها وخفف عنه من عذابها وجعل أخف أهل النار عذابا ألبس نعلين من النار ، فما مست النار إلا تحت قدميه ، ولو كان كافرا لكان عذاب الكفر فوق عذاب الكبائر قطعا ، ولو وجد مؤمن من عاص أخف عذابا من أبي طالب لزم الخلف في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعله أخف أهل النار على الإطلاق فوجب أن يكون عذابه كعذاب عصاة المؤمنين في مقابلة كبيرة كذا في رسالة السيد رسول البر زنجي. (وَقالُوا) أي أهل مكة : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي إن نوحد الله معك يا محمد نطرد من مكة.

روي أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا ، أي أن يجتمعوا على

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٣٣).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ : ٣٧٨).

(٣) رواه الحاكم في المستدرك (٤ : ٣٠٦) ، والبغوي في شرح السنّة (١٤ : ٢٢٤) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ١٥١).


أي ألم نجعل مكانهم حرما ذا أمن (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي يحمل إليه من كل ناحية ألوان كل شيء من الثمرات.

وقرأ نافع بالتاء الفوقية. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا كان حالهم ما ذكر مع كونهم عبدة أصنام ، فكيف يخافون أن نسلط عليهم الكفار إن ضموا إلى حرمة!؟ البيت ، حرمة الإيمان فـ «رزقا» إما مصدر مؤكد لـ «يجبي» أو مفعول له ، أو حال من «ثمرات» بمعنى مرزوق. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) إنا جعلنا الحرم آمنا وإنا سقنا إليه الرزق من كل جهة (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في إدرار الرزق حتى طعنوا بالنعمة في زمن حياتها فأهلكناهم وخربنا ديارهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاكهم (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا في زمن قليل يسكنها المسافرون ومارو. الطريق (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) أي المالكين لها بعد هلاك أهلها ، (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي مهلك أهل القرى ، (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي في أعظمها (رَسُولاً). فعاد الله أن يبعث الرسل في المدن ، لأن أهل أفطن وغيرهم يتبعهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الدالة على الحق والداعية إليه بالترغيب والترهيب ، وذلك لقطع المعذرة (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩) أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أشرافهم رسولا يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا ، وبالكفر بآياتنا. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي وما أعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم ، فهو شيء عادته أن ينتفع به ويتزين به أيام حياتكم. وقرئ «فمتاعا الحياة» بنصب الكلمتين على المصدر ، وعلى الظرف أي يتمتعون متاعا في الحياة الدنيا. (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي فمنافع الآخر لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا ، فنصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فكيف قلتم تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية! (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)؟ أي أفمن وعدنا وعدا بالجنة فهو مدرك الموعود به من غير شك كمن أعطيناه المال والخدم في الدنيا ، ثم هو يوم القيامة نحضره للعذاب؟

قال محمد بن كعب : نزلت هذه الآية في حمزة وعلي ، وفي أبي جهل. وقال غيره : في حمزة أو عثمان بن عفان وفي أبي جهل. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) معطوف على يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦٢)؟ أي ويوم ينادي الله المشركين فيقول توبيخا لهم : أين الذين عبدتموهم من دوني ، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة ، تزعمون أنهم يشفعون لكم ، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم؟! (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي الذين ثبت عليهم مدلول


قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا).

قال أبو علي : «الذين أغوينا» خبر لاسم الإشارة ، و «أغويناهم» مستأنف. والمعنى : هؤلاء هم الذين أضللناهم فصاروا أتباعا آثروا الكفر على الإيمان ، فضلوا باختيارهم ضلالا مثل ضلالنا باختيارنا وكنا سببا في كفرهم فقبلوا منا وما أكرهناهم عليه (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومن عقائدهم وأعمالهم (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣) أي ما كانوا يطيعوننا ، وإنما كانوا يطيعون أهواءهم ، (وَقِيلَ) للكفار تبكيتا لهم : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولا انتفعوا بهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٦٤) أي أبصر المشركون العذاب لو أنهم يبصرون شيئا ، فإنهم لما خاطبهم الله تعالى بقوله : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) اشتد الخوف عليهم حتى يصيروا بحيث لا يبصرون شيئا. أو المعنى : لما قيل : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) دعوا الأصنام مرارا كثيرة حتى كان الأصنام يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين. أو المعنى : وعلم الكفار حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون.

قال الرازي : وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف ما قبله سئلوا أولا : عن إشراكهم. وثانيا : عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك (فَيَقُولُ) الله تعالى : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) إليكم بما دعوكم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سئلوا عن ذلك (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب النافع ، لأنهم يتساوون جميعا في العجز عن الجواب المنجي لفرط الدهشة ، فلا نطق ولا عقل. (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَمِلَ صالِحاً) أي خالصا فيما بينه وبين الله (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧) أي فليطمع في الفلاح والنجاة من العذاب (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أن يخلقه (وَيَخْتارُ) ما يشاء اختياره. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم الاختيار المؤثر عنهم ، وليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل.

قال العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقوم على أمر من أمور الدنيا إلا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي صلاة الاستخارة بالكيفية المشهورة ، وأهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم ، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض ، فلا يرضيهم ، إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده ، فيمضيه ، وروي أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة حين قال : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ويقصد بذلك الوليد بن المغيرة ، أو أبا مسعود الثقفي ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله تعالى : (وَرَبُّكَ) إلخ ، والمعنى : لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار


المرسل إليهم. (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨) أي تنزيها له تعالى عن أن يزاحم اختياره تعالى اختيار. والمقصود أن يعلم العبد أن الإعزاز والإذلال مفوّض إليه تعالى ليس لأحد في الخلق ، والاختيار شركة له تعالى (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما يُعْلِنُونَ) (٦٩) من الطعن في الرسول بألسنتهم (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المستحق للعبادة لا أحد يستحقها إلا الله. (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأن الثواب غير واجب عليه ، بل هو تعالى ، يعطيه فضلا وإحسانا منه تعالى ، فله الحمد في الدنيا والآخرة لأنه معطي النعم كلها ، فيحمده المؤمنون في الآخرة فرحا بفضله ، والتذاذا بحمده بقولهم : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، الحمد لله الذي صدقنا وعده (وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغير في الدنيا والآخرة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠) بالخروج من القبور. (قُلْ) يا أفضل الخلق لأهل مكة : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو تحريكها حول الأفق غير المرئي (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) يخرجكم من مشقة الظلام؟ (أَفَلا تَسْمَعُونَ) (٧١) هذا الكلام الحق سماع تفهم تطيعون من يفعل ذلك! (قُلْ) لهم : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، استراحة عن متاعب الأشغال؟ (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٧٢) ، هذه المنفعة الظاهرة ولا تنتظرون بقلوبكم ما أنتم عليه من الخطأ! (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي نعمته تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لأغراض ثلاثة (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في أحدهما وهو الليل ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في الآخر ، وهو النهار بأنواع المكاسب. ففي هذا مدح للسعي في طلب الرزق كما ورد في الحديث : «الكاسب حبيب الله وهو لا ينافي التوكل». (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) أي لكي تشكروا على المنفعتين معا. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي أذكر يوم ينادي الله المشركين يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٧٤)؟ أي أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصهم من الهلاك؟ (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي أخرجنا من كل أمة نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه في كل زمان ، فيدخل فيه الأحوال التي في أزمنة الفترات ، وفي الأزمنة التي حصلت بعد سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقُلْنا) لهم : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدينون به (فَعَلِمُوا) أي كل أمة يومئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي أن حقيقة الإلهية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥) أي زال عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا بالكذب (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى).

روى أبو إمامة الباهلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان قارون من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله تعالى» ـ قيل هو ابن عم موسى ـ وعن ابن عباس كان ابن خالته ، ثم قيل : إنه


كان يسمى المنور ولحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، إلا أنه نافق كما نافق السامري (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره ، كما قاله القفال ، وقال ابن عباس : تكبر عليهم اه ـ ، ثم حسد موسى على رسالته ، وهارون على إمامته في الذبح فكفر بعد ما آمن بهما بسبب كثرة ماله.

ويروى أن موسى عليه‌السلام لما قطع البحر جعل الحبورة والقربان لهارون فقال قارون : يا موسى لك الرسالة ، ولهارون الحبورة ـ وهي إمامة الذبح ـ ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه‌السلام : والله ما صنعت ذلك لهارون ، ولكن جعله الله له. فقال : لا والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون فأمر موسى عليه‌السلام بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصا ، فجاءوا بها ، فحزمها موسى ، فألقاها في قبة له ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون. فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى عليه‌السلام ولا يجالسه (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطينا قارون من الأموال المدخرة الذي أن مفاتيح صناديقه لتثقل الجماعة الكثيرة الأقوياء وأخرج الدينوري عن خيثمة قال : قرأت في الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون وقر ستين بغلا كل مفتاح منها على قدر إصبع ، لكل مفتاح منها كنز (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أي المؤمنون من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) بكثرة المال فالفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقا. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦) بزخارف الدنيا (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي اطلب ثواب الله تعالى بسبب المال بأن تصرفه إلى ما يؤديك إلى الجنة كصدقة وصلة رحم ، وإطعام جائع ، وكسوة عار ونفقة على محتاج (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تترك العمل في الدنيا للآخرة ، وخذ ما تحتاجه من الدنيا وأخرج الباقي كما في الحديث : «اغتنم خمسا : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك» (١). (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى عباد الله تعالى إحسانا كإحسان الله تعالى إليك فيما أنعم إليك ، فيدخل في الإحسان الإعانة بالمال والجاه ، وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧) أي أنه تعالى يعاقب المفسدين بسوء أفعالهم. (قالَ) قارون مجيبا لناصحه : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي أنما أعطيت هذا المال حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي ، وفضلت به على الناس

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ : ١٦٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٤٧).


بالمال والجاه ، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة ، واستحقاقي لذلك ، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه ـ.

وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه‌السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء ، فعلّم قارون ثلث العلم ، ويوشع ثلثه ، وكالب ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة ، والنحاس فيجعله ذهبا ، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أعلم قارون ما ادعاه ، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه ، وأغنى ، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨) ، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات ، (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه ، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج ، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان ـ بضم الهمزة والجيم ، وهو قطيفة حمراء ـ وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر ، ومعهم ألوان السلاح.

وقال ابن زيد : خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة (يا) للتنبيه (لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من هذه الأموال وهذه الزينة (إِنَّهُ) أي قارون (لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩). أي لذو بخت وافر من الدنيا. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا : (وَيْلَكُمْ) أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) من هذه النعم ، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ، ودائمة ، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة. (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله ، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة. (فَخَسَفْنا بِهِ) أي بقارون (وَبِدارِهِ الْأَرْضَ).

روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه‌السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وكذلك سائر الأشياء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه ، فوجده شيئا كثيرا ، فلم تسمح نفسه بذلك ، فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت سيدنا وكبيرنا ، فمرنا بما شئت. قال : نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل ، فدعوها ، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا ، فلما كان يوم عيد قام


موسى خطيبا فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا قال : إن بني إسرائيل يقولون : إنك فجرت بفلانة قال موسى : ادعوها فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق ، فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل عنه ، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له : قارون بالله والرحم ، وموسى عليه‌السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم ؛ إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. (فَما كانَ لَهُ) أي لقارون (مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره بدفع العذاب عنه (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى ، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب ، (يَقُولُونَ) متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي أعجب أنا ، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده ؛ وهو مكر منه تعالى ـ كما كان لقارون ـ ويقتر على من يشاء ؛ وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله ، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى : أعجب أنا ، والكاف للتعليل.

وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل ، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام. وقيل : «وي» اسم فعل ، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى ، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالإيمان والرحمة (لَخَسَفَ بِنا) كما خسف بقارون (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢). وقيل «وي» كلمة للزجر ، والكاف حرف خطاب ، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك.

واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا (وَلا فَساداً) أي


ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون ، (وَالْعاقِبَةُ) الحميدة ـ وهي الجنة ـ (لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة ، المقبولة ، الأصلية ، المعمولة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا ، وصفة ، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره ، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع ، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف ، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له ، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي ما يذم فاعلها شرعا (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة. فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل وقال له : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم». فقال جبريل : إن الله تعالى يقول :(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي مكة غالبا عليهم (قُلْ) يا أشرف الخلق للمشركين : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨٥) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك نفسه والمشركين ، (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك ، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٨٦) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادع الناس إلى دين ربك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧) بإعانتهم في الأمور ، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود ، لأن وجوده ليس ذاتيا (إِلَّا وَجْهَهُ) أي ذاته تعالى.

وقيل : معنى كونه هالكا : كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله :

من الخلق والباقون في حيز العدم

 

ثمانية حكم البقاء يعمها

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

 

هي العرش والكرسي ونار وجنة

(لَهُ الْحُكْمُ) النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ) أي إلى جزائه بالعدل عند البعث (تُرْجَعُونَ) (٨٨).


سورة العنكبوت

مكية ، تسع وستون آية ، وألف وتسعمائة واحدى وثمانون

كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) أي أظن الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق ، لا بل يمتحنون ليتميز الراسخ في الدين من غيره. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد ، وسلمة بن هشام. وكانوا يعذبون بمكة ، فكانت صدورهم تضيق بذلك. والمقصود : الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله ، لكن القلب ترجمان وهو اللسان وله مصدقات ، هي الأعضاء ولها مزكيات فإذا قال الإنسان باللسان : آمنت فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود ، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإسلام حصل له على دعواه شهود مصدقات ، فإذا بدل نفسه وماله في سبيل الله وزكى أعماله بترك ما سوى الله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله ، فحينئذ يحرر اسمه في جرائد المحبين ويقرر قسمه في أقسام المقربين (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي ابتلينا الماضين كسيدنا إبراهيم ألقى في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) أي فليظهرن الصادقين في قولهم آمنا من الكاذبين في ذلك ، فمن الناس من لا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء ، فهو من الكاذبين ، ومنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء ، فهذه صفة الصادقين ، ومنهم من لا يستمتع في العطاء بل يؤثر في حال الرخاء ، ويستريح إلى البلاء ، ويستعذب مقاساة العناء ، وهذا أجل الكبراء (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أي بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) أي بئس الذين يحكمونه حكمهم ذلك (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) ، أي من كان يطمع في ثواب الله فليعمل عملا صالحا ، فإن الوقت المضروب له لجاء لا شك في مجيئه (وَهُوَ السَّمِيعُ


الْعَلِيمُ) (٥) ، فيسمع ما قالوه ، ويعلم ما يعملونه ، فللعبد أمور ثلاثة من أصناف حسناته عمل قبله ، فهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم ، وعمل لسانه فهو يسمع ، وعمل أعضائه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد ، (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي ومن صبر على الشدة في محاربة الكفار وفي مخالفة النفس فإن منفعة صبره له لا لله تعالى. (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) فلا حاجة له إلى طاعتهم ، وإنما أمرهم بطاعة الله توجيها لهم للثواب بمقتضى رحمته (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧) ، أي بأحسن جزاء أعمالهم فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه ، وتكفر سيئاته به فلا يخلد في النار فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير الجنة ، وهو ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أن يكون هو رؤية الله تعالى. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما لأنهما سبب وجود الولد (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن أمراك أن تشرك بي ما ليس لك بإلهيته علم فلا تطعهما في الإشراك فقوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إشارة إلى أن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه ، وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه؟!

روي أن حمية بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما سمعت بإسلام ولدها سعد بن أبي وقاص الزهري ، وهو من السابقين إلى الإسلام قالت له : يا سعد بلغني إنك قد صبأت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد ، فأبى سعد وكان أحب أولادها إليها ولبثت هي ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ، ولا تأكل ، ولا تشرب حتى غشي عليها وقال لها : والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه‌السلام! فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت ، ثم جاء سعد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما كان من أمرها فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) الآية. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي عاقبتكم إلى ، وإن كان اليوم مجالستكم بالآباء والأولاد والأقارب. (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) فلا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون ، فتوافقون الحاضرين في الحال فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه فأجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) أي لنجعلهم في عداد المجردين الذين لا فساد لهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي في دين الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) مع ضعفها وانقطاعها (كَعَذابِ اللهِ) الأليم الدائم في الآخرة حتى كفر. نزلت هذه الآية في المنافقين ـ كعياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ فإنهم قالوا للمؤمنين : إيماننا كإيمانكم فإذا همّ الكفار بالضرب بالسياط جعلوا ذلك الأذى صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله في النار دائما


صارف للمؤمنين عن الكفر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) وهو فتح مكة وغنيمتها (لَيَقُولُنَ) أي عياش وأصحابه ، (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي في الإيمان وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأشركونا في الغنيمة ، لأننا على دينكم قال تعالى تكذيبا لهم في قولهم : أنا على دينكم. (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١٠) من الإخلاص في الإيمان والنفاق فيه ، ثم أسلم عياش وأصحابه بعد ذلك وحسن إسلامهم (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص ، فثبتوا على الإسلام عند البلاء (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) بترك الإيمان عند البلاء ، أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ وهو الوليد ابن المغيرة ، وأبو جهل وأصحابهما ـ (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ـ كعلي وسلمان وأصحابهما ـ : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي ديننا في عبادة الأوثان (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي ذنوبكم عنكم يوم القيامة.

وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر ، وهو لغة الحجاز وليس هذا أمرا في الحقيقة وردّ الله عليهم بقوله : (وَما هُمْ) أي الكفار (بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ) أي من ذنوب المؤمنين (مِنْ شَيْءٍ) يوم القيامة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢) في مقالتهم (وَلَيَحْمِلُنَ) أي الكفرة (أَثْقالَهُمْ) أي أوزار ما اقترفته أنفسهم كاملة ، (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأوزار الذين يضلونهم مع أوزارهم ، (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣) في قولهم ولنحمل خطاياكم فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ، ومن اعتقادهم أن لا حشر ، ويقال لهم : أما قلتم أن لا حشر؟ ويقال لهم : احملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون. ويقال لهم : لم افتريتم؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى التوحيد فلم يجيبوه.

قال ابن عباس : كما عمر نوح عليه‌السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي الماء الكثير المحيط بهم والمرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) أي والحال أنهم مصرون على كفرهم. (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي ومن ركب في السفينة معه عليه‌السلام ، من أولاده وأتباعه ـ وكانوا ثمانين ـ (وَجَعَلْناها) أي السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١٥) أي علامة دالة على قدرة الله تعالى وعلمه ، ووحدته ليتعظوا بها ؛ وذلك أن السفينة اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا بذلك لما اشتغل بها ، فلا تحصل لهم النجاة ، وأن الله أمر نوحا بأخذ قوم معه وأقواتهم ، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ، ولولا ذلك لما حصل لهم النجاة.

قال أبو السعود : عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي وأرسلناه حين تكامل عقله وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق (اعْبُدُوا اللهَ) وحده (وَاتَّقُوهُ) أن


تشركوا به شيئا فقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) إشارة إلى إثبات الإله الواحد. وقوله : (وَاتَّقُوهُ) إشارة إلى نفي عيره وأيضا فـ «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات فيدخل فيه الاعتراف بالله ، واتقوه إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ، فيدخل فيه الامتناع من الشرك (ذلِكُمْ) أي عبادة الله وتقواه (خَيْرٌ لَكُمْ) عقلا واعتبارا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٦) الدلائل والاعتبارات ، فإن ضد عبادة الله تعطيل ، وضد تقواه تشريك ، وكلاهما شر عقلا واعتبارا أما عقلا : فلأن الممكن لا بد له من مؤثر واجب الوجود ، ثم إن شريك الواجب إن لم يكن واجب الوجود فكيف يكون شريكا ، وإن كان كذلك لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويختلفان في الإلهية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين ، فيلزم التعطيل. وأما اعتبارا : فلأن الشرف إما أن يكون ملكا أو قريب ملك ، فالإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين ، فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك فلا يكون قربه إلا بعبادة ، فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتباره بوجود ملك فلا مرتبة له أصلا ، ثم من يكون سيده لا نظير له يكون أعلا رتبة ممن يكون لسيده شركاء خسيسة ، فإن من يقول : إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول : سيدي صنم منحوت. فثبت أن عبادة الله وتقواه خير للناس. (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أي أحجارا لا تستحق العبادة. (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة ، وتدعون أنها شفعاؤكم.

وقرئ «تخلقون» بتشديد اللام للتكثير في الخلق الذي بمعنى الكذب. وقرئ «تخلقون» بحذف إحدى التاءين من «تخلق» بمعنى : تكذب. وذكر سيدنا إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه ، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور أربعة :

إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه.

وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة.

وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره راجيا منه أمرا في المستقبل.

وإما لكونه خائفا منه.

(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق ، (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي فاطلبوا من الله تعالى كل الرزق (وَاعْبُدُوهُ) لكونه مستحقا للعبادة لذاته ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) لكونه سابق النعم بالخلق ومعطي النعم بالرزق (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) فيرجى الخير منه لا من غيره. (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فلا تضرونني بتكذيبكم ، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل ـ وهم شيث ، وإدريس ، ونوح عليهم‌السلام ـ فلم يضرهم تكذيبهم شيئا. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨) ، أي إلا ذكر


المسائل وإقامة البرهان عليه. (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظر هؤلاء القوم ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الظهور؟ (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) أي يخلقهم ، ولم يكونوا شيئا مذكورا ، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة ، فإن الإعادة ، مثل البدء (ثُمَّ يُعِيدُهُ)؟ أي الخلق كما بدأهم (إِنَّ ذلِكَ) أي الإعادة (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩) إذ لا يفتقر فعله تعالى إلى شيء أصلا (قُلْ) يا إبراهيم لقومك : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سيّروا فكركم في الأرض ، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) أي فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا ، (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ، فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله به ، (يُعَذِّبُ) بعد النشأة الآخرة (مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه وهم المنكرون لها ، (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أن يرحمه وهم المصدقون بها (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (٢١) ، أي فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات إليه تعالى إيابكم وعليه حسابكم ، وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) بممتنعين منه تعالى أي لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله.

وهذا خطاب لقوم فيهم النمروذ الذي حاول الصعود إلى السماء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعكم ، (وَلا نَصِيرٍ) (٢٢) أي مانع يمنعكم من عذاب الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته ، وصفاته ، وأفعاله (وَلِقائِهِ) أي بالبعث بعد الموت ، (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٣). وذلك لأن الله تعالى في كل شيء آية دالة على وحدانيته ، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله ، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله وأخرج نفسه عن محل رحمة الله ، وإذا جعل له آلهة لم يقر بالحاجة إلى طريق متعين فييأس من رحمة الله ، ولما أنكر الحشر وقال : لا عذاب عذبه الله تحقيقا للأمر عليه فعدم الرحمة يناسب الإشراك ، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) ، أي قال بعضهم لبعض : لا تجيبوا إبراهيم عن براهينه الدالة على التوحيد والنبوة والحشر ، واقتلوه بسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلا ، أو حرقوه بالنار ، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار ، وإما أن يموت بها إذا أصرّ على دينه ، فقذفوه في النار (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي بجعلها بردا.

روي أنه في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٤) أي في إنجاء الله تعالى إبراهيم من النار لعبرات لقوم يصدقون بقدرة الله ، فإن الله حفظ إبراهيم من حرها ، وجعلها خامدة في زمان يسير فلا تؤذيه ، ولكن أحرقت وثاقه ، وأنشأ في وسطها بستانا. (وَقالَ)


إبراهيم بعد إنجائه من النار (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ).

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي برفع «مودة» غير منونة ، وجر «بينكم» ، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودة» منونة ونصب «بينكم» ، وحمزة وحفص بنصب «مودة» غير منونة ، وجر «بينكم». ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة ، ونصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم ، والنصب مفعول له ، وخبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). والمعنى : إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا ، وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني ، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار ، وقال : إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا ، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال ، وبينكم وبين آبائكم صلة فورثتموهم ، وأخذتم مقالتهم ، ولزمتم ضلالتهم. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) فيقول العابد : ما هذا معبودي! ويقول المعبود : ما هؤلاء عبدتي! (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيقول المعبود لذاك : أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول العابد : لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون ، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى : (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥) يخلصونكم من تلك النار ، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم : صدقت يا إبراهيم ـ ولوط هو ابن أخيه هاران ـ (وَقالَ) إبراهيم : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه.

روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران ، ثم منها إلى الشام ، فنزل فلسطين ، ونزل لوط سذوم. وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٦) فيمنع أعدائي عن إيذائي ولا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. (وَوَهَبْنا لَهُ) بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة (إِسْحاقَ) من عجوز عاقر ، (وَيَعْقُوبَ) نافلة ، (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) أي ذرية إبراهيم (النُّبُوَّةَ) فكل الأنبياء بعده من ذريته ، (وَالْكِتابَ) ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده ، (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته (فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧). فإن الله بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا ، وبدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين ، وبدل ذلته وخموله بالجاه ، وكثرة المال حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب ، وكانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة ، فصار معروفا بشيخ المرسلين ،


وكان في الآخرة باقيا على ما ينبغي ، (وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا إلى قومه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي اللواطة ، (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بتلك الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٨) كلهم من الإنس والجن ، (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي أدبار الرجال ، (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي سبيل الولد بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ـ ويقال : وتقطعون على من مر بكم من الغرباء ـ (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)! أي وتعملون في مجلسكم الجامع لأصحابكم المنكر : كالجماع ، والضراط ، وحل الإزار ، والحذف بالبندق ، ومضغ العلك والفرقعة.

قيل : إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه ويلوطه ، ويغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) في قولك : بمجيء عذاب الله علينا إن لم نؤمن ، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء : ائتنا بعذاب الله. ثم لمّا كثر منه ذلك ولم يسكت عن فعلهم قالوا : أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين ـ وهم الذين ابتدعوا الفاحشة وأصروها ، واستعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي لما جاء جبريل ومن معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد والنافلة (قالُوا) لإبراهيم : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ـ أي قرية سذوم ـ (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) بإصرارهم على أنواع المعاصي. (قالَ) إبراهيم : (إِنَّ فِيها) أي في تلك القرى (لُوطاً) فكيف تهلكونها؟ (قالُوا) أي الرسل من الملائكة : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) أي من لوط وغيره (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) ابنتيه زاعورا ورينا (إِلَّا امْرَأَتَهُ) المنافقة واعلة (١) (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله ، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق الله فخاف عليهم من قومه ، (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته ، وعجز عن مدافعة قومه ، (وَقالُوا) للوط : (لا تَخَفْ) علينا (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا فإنا ملائكة ، (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) مما يصيبهم من العذاب. ونصب «أهلك» معطوف على محل الكاف (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٣) أي من الباقين في الهلاك ومن الرائحين الماضي ذكرهم ، (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) هي سذوم (رِجْزاً) أي عذابا مزعجا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣٤) أي بسبب فسقهم المستمر.

__________________

(١) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٢ : ١٣٣).


وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي القرية (آيَةً بَيِّنَةً) أي علامة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) وهي آثار ديارهم الخربة وظهور الماء الأسود على وجه الأرض ، وهي بين القدس والكرك ، (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبا. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي اعملوا لليوم الآخر وإنما قال شعيب بلفظ الرجاء ، لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٣٦) أي لا تعملوا المعاصي في الأرض. ويمكن أن يقال نصب «مفسدين» على المصدر كما يقال : قم قائما ، أي قياما (فَكَذَّبُوهُ) فيما أخبرهم به ، لأن شعيبا كأنه قال : الله واحدا فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فلا تقربوه. وهذه الأشياء فيها إخبارات. فالتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي التي ترجف الأرض والأفئدة إذ قيل : إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ورجفت قلوبهم منها ، (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧) أي فصاروا في مجمعهم ميتين لا يتحركون ، (وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا قوم هود وقوم صالح. (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة منازلهم الكائنة في الحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم عليها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي عبادتهم غير الله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن عبادة الله ، (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) أي عاقلين ، ألبّاء ، صحيحي النظر. (وَقارُونَ) أي وأهلكناه ـ وهو ابن عم موسى ـ (وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) ـ وزير فرعون ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ، أي بالحجج الظاهرات ، (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) عن الإيمان بالآيات ، وعن عبادة الله (وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣٩) أي فارين من عذاب الله ، (فَكُلًّا) أي كل واحد من المذكورين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) ، أي عاقبناه بسبب ذنبه ، (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي حجارة محمّاة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر ـ وهم قوم لوط وعاد ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) ؛ هو هواء متموج ، فإن الصوت سببه وصول الهواء المتموج إلى الصماخ ـ وهم قوم شعيب وصالح ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) أي غمرناه في التراب ـ وهو قارون ومن معه ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) بالماء ـ وهم قوم نوح وفرعون وقومه ـ فحصل العذاب بالعناصر الأربعة : النار والريح والتراب والماء. والإنسان مركب منها وبسببها بقاؤه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه وما به بقاؤه سببا لفنائه ، (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بالهلاك (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) ، بالإشراك ، أي وما كان الله يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته ، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق ، فبيت العنكبوت : يصير سبب


انزعاج العنكبوت ، فإنه إذا داوم في زاوية لا يخرج منها ، فإذا نسج على نفسه بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه ، ويمسحه بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت ، فكذلك العابد ينبغي أن يستحق الثواب بسبب العبادة أو لا يستحق العذاب به ، والكافر يستحق العذاب بسبب عبادته ، وأن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا ، فكذلك أعمالهم للأوثان. وهذا إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا فإن من عبد الله رياء فقد اتخذ وليا غير الله فمثله مثل العنكبوت تتخذ نسجها بيتا فلا يقيها من حر ولا برد ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١) شيئا من الأشياء لجزموا أن مثلهم كمثل العنكبوت وأن أضعف ما يعتمد به في الدين دينهم. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن الله يعلم الذين يعبدونهم من غير الله من شيء : صنم ، أو إنسي ، أو جني ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤٢) أي وهو قادر على إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة.

وقرأ عاصم وأبو عمرو «يدعون» بالتحتية. والباقون بالفوقية. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نبينها لهم تقريبا لما بعد من أفهامهم ، (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٣) أي وما يفهم صحتها وفائدتها إلا المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي متقنا مراعيا للمصالح (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلقهما (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤) أي لدلالة للمؤمنين على شؤونه تعالى ، واختص المؤمنون بالذكر ، لأنهم المنتفعون بتلك الآية (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ، ومحاسن الآداب ، ومكارم الأخلاق. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي دوام على إقامتها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، أي تنهى عن التعطيل والإشراك ، فالتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول : الله أكبر. فبقوله : الله ، ينفي التعطيل. وبقوله : أكبر ، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال : (بِسْمِ اللهِ) [الفاتحة : ١] ، نفى التعطيل ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١] ، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق ، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أثبت خلاف التعطيل ، وإذا قال : رب العالمين أثبت خلاف الإشراك ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] نفى التعطيل والإشراك ، وكذا إذا قال : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ) [الفاتحة : ٦] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد ، والمعطل لا مقصد له. وإذا قال : (الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب ، والمشرك يعبد الأصنام ، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة ، فإذا قال فيها : أشهد أن لا إله إلا الله فقد نفى الإشراك ، والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها سبب للانتهاء عنهما ، لأنها مناجاة الله


تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته وإعراض كلي عن معاصيه. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله إياكم بالمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالصلاة. وقيل : ذكركم الله بسائر أنواعه أفضل من الطاعات التي ليس فيها ذكر الله. وقيل : المراد بالذكر نفس الصلاة أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥) من الذكر ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة ، (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تخاصموا اليهود والنصارى إلا بالأحسن أي بعدم استخفاف آرائهم ، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال لأنهم جاءوا بكل حسن غير الاعتراف بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم آمنوا بإنزال بالكتب وإرسال الرسل ، وبالحشر ، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله وبالقول بثالث ثلاثة ، فتجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم. فاللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من التوراة والإنجيل.

روي أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية»(١) وفي رواية : «وقولوا : آمنا بالله وبكتبه وبرسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» (٢). (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له في الألوهية ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) أي مطيعون لا لغيره (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم الأنبياء (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن ، (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من أهل الكتاب ـ كعبد الله بن سلام وأصحابه ـ (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني ، وعلى كونه من عند الله تعالى (إِلَّا الْكافِرُونَ) (٤٧) ـ ككعب بن الأشرف وأصحابه ، وأبي جهل وأصحابه ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي وما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك ، ولا تكتب الكتاب بيدك. والأصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يحسن الخط والشعر ، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه ، (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود والنصارى ، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب. (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن ،

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ١٥١) ، والسيوطي في جمع الجوامع (١٠٣٠٧).

(٢) رواه ابن حبان في المجروحين (١ : ٣٣) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٣ : ١١٣٣).


فليس مما يشك فيه لكونه محفوظا من غير أن يلتقط من كتاب بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب ، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. والمعنى : إن المؤمنين يقرءون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيا منك ، وبعضهم من بعض وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩) أي المتجاوزون للحدود في الشر من اليهود والنصارى ، والمشركين. (وَقالُوا) أي الظالمون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي هلا أنزل على محمد آيات ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى عليهم‌السلام.

وقرأ نافع وأبو عمر ، وابن عامر ، وحفص «آيات» بالجمع. والباقون بالإفراد (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها ، وليس لي عليه تعالى حكم بشيء (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) الدال على نبوتك (يُتْلى عَلَيْهِمْ) في كل زمان ومكان ، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة ، وقد وصل إلى المشرق والمغرب ، وسمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر ، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الكتاب ، (لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق ، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق ، أو تصديق الكاذب ، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي وبهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بأني رسلوه.

روي أن كعب بن الأشرف وغيره ، قالوا : يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله. فنزلت هذه الآية. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور التي منها شأني وشأنكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) ، وهو ما سوى الله ، (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) على طريقة الاستهزاء بقولهم : متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) لوقت عذابهم (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وقت استعجالهم (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فإتيان العذاب بغتة حكمة ، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٣) بإتيانه ، ويظنون أنه لا يأتيهم أصلا. (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٥٤) ، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا ، والحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم ، (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم ، فنار جهنم تنزل من فوق


ولا تنطفئ بالدوس عليها بوضع القدم (وَيَقُولُ) ـ قرأ نافع والكوفيون بالياء ـ أي الله تعالى أو بعض ملائكته بأمره ، والباقون بالنون : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا. قال تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال.

وقرأ بفتح الياء ابن عامر والباقون بتسكينها ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٥٧) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ، فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فقال لهم : إن ما تكرهون لا بد من وقوعه ، فإن كل نفس ذائقة مشاق الموت ، والموت مفرق الأحباب ، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ، فيجازيكم عليه ، فلا تخافوا من بعد الوطن ، أو المعنى : إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار». وقرأ أبو بكر بالياء التحتية (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة.

وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة ، أي لنقيمنهم في علال من الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار ، وزروع ، ورياض ، وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. (خالِدِينَ فِيها) أي في الغرف (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٥٨) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة ، هذا الأجر (الَّذِينَ صَبَرُوا) على شدائد المهاجرة ، وعلى أمر الله والمرازي (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٥٩) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي وكثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها ، ولا تدخر شيئا لساعة أخرى.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية (اللهُ يَرْزُقُها) أي الدابة على ضعفها ، وهي لا تدخر (وَإِيَّاكُمْ) مع قوتكم ، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) فيسمع قولكم هذا ، ويعلم ضمائركم وحاجتكم ، ويسمع إذا طلبتم الرزق ، ويعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على هذا النظام (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لإصلاح الأقوات ، ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) إذ لا سبيل لهم إلى إنكار ذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦١) أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى في الخلق والتسخير. (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي الله يوسع المال ويقتر على من يشاء في أي وقت يوافق الحكمة ، فيفعل كلا من البسط والتضييق في وقته ومحله. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٢)


فيعلم مقادير الأرزاق ومقادير الحاجات ، ألا ترى أن الملوك يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم بكل شيء. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي كفار مكة (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) ، أي يبوستها؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه تعالى الموجد للممكنات بأسرها ، ثم إنهم يشركون به تعالى بعض مخلوقاته (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أن أظهر حجتك عليهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣) شيئا من الأشياء فلذلك لا يعلمون بمقتضى قولهم ، هذا فيشركون به تعالى أخس مخلوقاته ولا يعرفون فساد هذا التناقض ، (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي إن الدنيا سريعة الزوال ، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم ، فإنهم يجتمعون عليه ، ويفرحون به ساعة ، ثم يتفرقون عنه ، فالإعراض عن الحق لهو ، والإقبال على الباطل لعب. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي إن الحياة الثانية لهي الحياة الدائمة التي لا موت فيها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة لما آثروا عليها الدنيا (فَإِذا رَكِبُوا) أي كفار مكة (فِي الْفُلْكِ) في البحر ولقوا شدة (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) صورة حيث لا يدعون غير الله تعالى بالنجاة ، وألقوا الأصنام التي حملوها معهم في البحر وقالوا : يا رب ، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا الله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) من البحر (إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٦٥) أي عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدّنيا وأشركوا بالله الأوثان (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من عرض الدنيا (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي وليتلذذوا بمتاع الدنيا.

وقرأ ورش ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم بكسر اللام وهي إما لام العاقبة والمال ، وإما لام الأمر على سبيل التهديد. والباقون بالتسكين فهي لام الأمر (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦) فساد عملهم حين يرون العذاب (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧) ، أي ألم ينظر كفار مكة ولم يشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما مصونا من النهب. والحال أنه يختلس من حولهم قتلا وسبيا مع كون أهل مكة قليلين قارين في مكان ، غير ذي زرع أبعد ظهور الحق بالباطل خاصة من الأديان يصدقون! وبنعمة الله التي أعطاهموها يكفرون! والمعنى : إنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى ، وفي آمن ما حصلتهم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض ، لأن دعائكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير ، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله ، كيف تكفرون بها وقد قطعتم في حال الخوف إنه لا أمن من الأصنام حيث ألقيتموها في البحر كيف آمنتم بها في حال الأمن؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالما يستحق العقاب منه ، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك؟ ومن كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان


ظالما ، فكيف من كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب؟ فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ، ويكذب الله في تصديقه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكذب النبي في رسالة ربه ، ويكذب القرآن المنزّل من الله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨) أي ألا يستحقون الإقامة في جهنم ، وقد فعلوا افتراء على الله تعالى ، وتكذيبا بالحق الصريح أو يقال : ألم يعلموا أن في جهنم منزلا للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، أي والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا. ويقال : والذين نظروا في دلائلنا لنحصل فيهم العلم بنا (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩) أي لمعينهم في القول والفعل بالتوفيق والعصمة.

وهذا إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأن الله تعالى يقول : من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب ـ وهم الكفار ـ ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم الله تعالى ويقربهم ، ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه تعالى يعلم الأشياء منه تعالى ولا يعلمه من الأشياء فقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) إشارة إلى الأول. وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) إشارة إلى الثاني. وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) إشارة إلى الثالث.


سورة الروم

مكية ، ستون آية ، ثمانمائة وثماني عشرة كلمة ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي في أقرب أرض العرب منهم ـ وهي أطراف الشام ـ فالروم : اسم قبيلة وسميت باسم جدها ، وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، وسمي عيصو : لأنه كان مع يعقوب في بطن فعند خروجهما تزاحما ، وأراد كل أن يخرج قبل أخيه فقال عيصو ليعقوب : إن لم أخرج قبلك خرجت من جنب أمي فتأخر يعقوب شفقة لها ، فلذا كان أبا الأنبياء ، وعيصو أبا الجبارين. (وَهُمْ) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي من بعد مغلوبهم (سَيَغْلِبُونَ) (٣) فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وسبب نزول هذه الآية أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل الكتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم ، واستعمل عليهم رجلا يقال له : شهريار ، وجعل قيصر جيشا ، واستعمل عليهم رجلا يدعى : بخنس فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أقرب الشام إلى أرض العرب ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وفارس أميون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآية ، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى كفار مكة ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا ، فو الله لتظهرن الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله. فقال له : اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه ، فناحبه على عشر قلائص ، وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر به أبو بكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البضع ما بين الثلاث إلى التسع» (١). فزايده في الخطر ومادده في الأجل ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه في أحد بعد

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٣٣).


رجوعه إلى مكة ، ثم أقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي إلى الفرس ، وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين من مناحبتهم ، ومات كسرى وذلك يوم الحديبية ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ ، وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «تصدق به» ـ وكان ذلك قبل تحريم القمار ـ وهذه الآيات تدل على علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقت الغلبة ، لكن لم يأذن الله تعالى في إظهاره ، لأن الكفار كانوا معاندين ، فالمعاند يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في الكلام ، والوقت يمكن فيه الاختلاف.

وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى : أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له ، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر.

قال السدي : فرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق بـ «يفرح» (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٥) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه ، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا ، (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٦) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه ، (يَعْلَمُونَ) أي أكثرهم (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم ، ولا يعلمون باطنها ، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها ، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله ، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية ، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء ، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر : لخروجه منه ، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا ، ثم يخرج من المنفذ الآخر ، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا ، صلابا كالمصفاة ، فينزل منها الصافي إلى الكبد ، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق ، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة ، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز


عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ، ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول ، والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع ، ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان ، وهذه كفاية معرفة كون الله فاعلا مختارا ، قادرا عالما ، ومن يكون كذلك يكون واحدا ، وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده ، وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال ، فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه تعالى على هذا الوجه للفناء عبثا ، لأن من يفعل شيئا للعبث لو بالغ في إتقانه يضحك منه فإذا خلق الله الإنسان للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقها عبثا بغير حكمة بالغة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة الدالة على وجود صانعها ، ووحدته ، وقدرته ، وعلمه بأجل معين قدره الله تعالى لبقائها إلى أن تنتهي إليه ، وهو وقت قيام الساعة وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية. وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) إشارة إلى معاد الإنسان فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨) أي وإن كفار مكة لمنكرون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسيروا في أقطار الأرض فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا رسلهم كعاد وثمود ، (كانُوا) أي من قبلهم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في الجسم ، وأقدر منهم على التمتع بالحياة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي قلبوها للزراعة والغرس أكثر مما حرث أهل مكة (وَعَمَرُوها) بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي أكثر مما عمر أهل مكة كما وكيفا وزمانا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرات وبالمعجزات فكذبوهم ، فأهلكهم الله. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٩) بتكذيب الرسل (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى).

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان» ، و «السوأى» خبرها ، وهي جهنم ، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان» ، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى ، وهي اسم النار ـ كما تقدم ـ (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) بدل من «السوأى». وقيل : «كذبوا» إلخ تفسير لـ «أساءوا» (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشئهم من النطفة ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون


على الخطاب للمبالغة في الترهيب (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١٢) أي وقت رجعهم إليه تعالى يسكت المشركون متحيرين وييأسون من كل خير ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمونه ، (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (١٣) أي وكان عبدة الأصنام بآلهتهم متبرئين منهم يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ) بعد تمام الحساب (يَتَفَرَّقُونَ) (١٤) أي جميع الخلق فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) (١٥) أي فهم في جنة يسرّون بكل مسرة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم ، وفي آخر القوم أعرابي فقال : يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة»(١).

وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع ، بعث الله تعالى ريحا تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) بالبعث بعد الموت (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١٦) أي لا غيبة لهم عن العذاب ولا فتور له عنهم ، أما من يؤمن ويعمل السيئات فليس دائم الحضور في العذاب ، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض بل له منزلة بين المنزلتين ، (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (١٨) أي نزهوه تعالى عن صفات النقص ، وصفوه بصفات الكمال في هذه الأوقات ، واحمدوه ؛ وإنما خصّ بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح ، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى تحصيل مأكول ومشروب ، وملبوس ، ومركوب ، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار ، وآخره ، ووسطه فإن الله يطهره في أوله ـ وهو دنياه ـ وفي آخره ـ وهو عقباه ـ وفي وسطه ـ وهو حالة كونه في قبره ـ وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام معترضين بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة ، وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بيّن لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله ، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه ، ثم إن التنزيه المأمور به يشمل التنزيه بالقلب ، وهو الاعتقاد الجازم واللسان ـ وهو الذكر ـ الحسن ، وبالأركان ـ وهو العمل الصالح ـ فالإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه ، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله ، وأفعاله ، واللسان ، ترجمان الجنان ، والأركان ، برهان اللسان ، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان ، وهي مشتملة على الذكر باللسان ، والقصد بالجنان : وهو تنزيه في التحقيق ، فيجب حمل التسبيح على كل ما هو تنزيه ،

__________________

(١) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٤ : ٢٩١).


فيكون هذا أيضا أمرا بالصلاح. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان من نطفة والطير من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النطفة والبيضة من الحيوان.

وقال بعضهم : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، ويقال : يخرج اليقظان من النائم ، والنائم من اليقظان ، فإحياء الميت عنده تعالى كتنبيه النائم ، وإماتة الحي كتنويم المنتبه. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الإخراج (تُخْرَجُونَ) (١٩) من قبوركم.

وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على أنكم تبعثون (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) فإنا خلقنا من نطفة وهي من الغذاء ، وهو من النبات ، وهو من التراب. (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (٢٠) أي ثم بعد أطوار كثيرة فاجأتم وقت كونكم بشرا تتمتعون على وجه الأرض. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على البعث والجزاء : (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أي لأجلكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم (أَزْواجاً) أي إناثا (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتميلوا إليها ، وتطمئنوا بها ، (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي بين المرأة والزوج (مَوَدَّةً) أي محبة (وَرَحْمَةً) أي شفقة ويقال : مودة للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلقهم من تراب ، وخلق أزواجهم من جنسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) فيما خلق الله. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على أمر البعث : (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من حيث إن خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده ، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي لغاتكم العربية ، والفارسية ، وغير ذلك. والأصح أنه اختلاف كلامكم ، فإن الأخوين إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر (وَأَلْوانِكُمْ) ببياض الجلد وسواده ، وتوسطه. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلق السموات والأرض ، واختلاف الألسنة والألوان (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢).

وقرأ حفص وحده بكسر اللام ، أي لآيات عظيمة في أنفسها ، كثيرة في عددها للمتصفين بالعلم. والباقون بفتح اللام في ذلك دلالة على كمال وضوح الآيات على أحد من الخلق كافة. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على القدرة والعلم : (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فالنوم بالنهار مما تعدّه العرب نعمة من الله ، ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فيهما. وهذا إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الليل والنهار (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣) سماع تفهم حيث يستدلون بذلك على شؤونه تعالى. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ، أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته تعالى : إراءتكم للبرق (خَوْفاً) للمسافر من المطر أن يبل ثيابه (وَطَمَعاً) للمقيم في المطر أن يسقي حروثه ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. (فَيُحْيِي بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ) بالنبات


(بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المطر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٤) أي لدلالات على الفاعل المختار لمن له عقل ، وإن لم يتفكر تفكر تاما. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن آياته الدالة على القدرة استمرار السماء والأرض على ما هما عليه بإرادته تعالى له ، (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥) أي ثم إذا دعاكم الله على لسان إسرافيل بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال : أيها الموتى اخرجوا فاجأتم الخروج منها وقول : (مِنَ الْأَرْضِ) متعلق بـ «دعاكم». (وَلَهُ) خاصة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢٦) أي منقادون لفعله (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موتهم (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) بالقياس على قوانينكم من أن الإعادة للشيء أهون من ابتدائه ، وإلا فالأفعال كلها بالنسبة إلى قدرته تعالى متساوية في السهولة ، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه ، (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) ، أي وهو كامل القدرة على الممكنات ، شامل العلم بجميع الموجودات ، فيجري الأفعال على سنن الحكمة. (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي بيّن الله لكم يا معشر الكفار مثلا مأخوذا من أحوال أنفسكم (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال كائنون بالنوع الذي ملكت أيمانكم ، (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فأنتم وعبيدكم فيما رزقناكم مستوون في التصرف (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي تخافون أن تنفردوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر أي أنتم لا ترضون بأن يشارككم مماليككم ، وهم أمثالكم في البشرية فكيف تشركون به تعالى في المعبودية مخلوقة تعالى؟ (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التفصيل الواضح (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبينها بالدلائل القطعية والأمثلة والمحاكيات الإقناعية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٨) أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمور ، (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ، ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم الزائغة من غير علم ، وأثبتوا شركاء من غير دليل (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي لا يقدر أحد على هداية من خلق الله فيه الضلال ، (وَما لَهُمْ) أي لمن أضله الله تعالى (مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩) يخلصونهم من الضلال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي أقبل بكلك على الدين غير ملتفت يمينا وشمالا (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل ما عدا الدين (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزم دين الله ـ وهو التوحيد ـ فإن الله خلق الناس عليه في بطون أمهاتهم ، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم ، وسألهم ألست بربكم؟ فقالوا : بلى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا تبدلوا دين الله ـ كما قاله مجاهد وإبراهيم ـ وقيل : أي لا تغير للوحدانية حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون : الله. لكن الإيمان الفطري غير كاف. (ذلِكَ) أي لزوم دين الله (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الحق الذي لا عوج فيه (وَلكِنَ


أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٠) أن ذلك هو الدين الحق ، فيصدون عنه صدودا (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي أقيموا وجوهكم للدين مقبلين عليه ، (وَاتَّقُوهُ) من مخالفة أمره بل داوموا على العبادة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣١) ، أي ولا تشركوا بعد الإيمان وهاهنا وجه آخر وهو أن الله أثبت التوحيد الذي هو خروج عن الإشراك الظاهر بقوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) وأراد الله إخراج العبد عن الشرك الخفي بقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ، ولا تطلبوا إلا رضا الله ، ثم أبدل الله قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم.

وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بألف ، أي تركوا دينهم الذي أمروا به ، (وَكانُوا شِيَعاً) أي وصاروا فرقا فيما يعبدونه ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢) أي وإذا أصاب كفار مكة شدة دعوا ربهم برفع الشدة مقبلين إليه بالدعاء ، (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ) أي من الضر (رَحْمَةً) أي خلاصا (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي الكفار (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (٣٣) ويقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني ، (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) فاللام للعاقبة (فَتَمَتَّعُوا) يا أهل مكة : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣٤) عاقبة تمتعكم.

وقرئ بالياء على أن «تمتعوا» فعل ماض وقرئ وليتمتعوا (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) (٣٥) أي هل أنزلنا على أهل مكة كتابا ، فذلك الكتاب يدل على الأمر الذي بسببه يشركون فـ «أم» بمعنى الهمزة فقط عند الكوفيين ، وبمعنى بل والهمزة عند البصريين كما هو شأن «أم» المنقطعة. (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) من صحة وسعة (فَرِحُوا بِها) بطرا لا شكرا ، فإن قيل لك : الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ، وهاهنا ذمهم الله على الفرح بالرحمة ، فكيف ذلك؟ قلت : هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله ، وهو كما أن الملك لو حطّ عند أمير رغيفا على السماط ، أو أمر غلمانه بأن يحطوه عنده ، ففرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا فرح به ، ففرح الأمير بكون ذلك الرغيف من الملك ، وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي شدة ضيق (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشؤم معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦) أي ييأسون من رحمة الله غير صابرين بها.

وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ، ويضيقه لمن يشاء اختبارا هل يصبر أم يجزع؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التوسيع والتضييق (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٧) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من الصلة والصدقة وسائر


المبرات (وَالْمِسْكِينَ) سواء كان ذا قرابة أم لا. (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر من صدقة التطوع (ذلِكَ) أي المذكور من الصلة والعطية والإكرام (خَيْرٌ) أي ثواب في الآخرة ، (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يقصدون بمعروفهم جهة التقرب إليه تعالى لا جهة أخرى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨) أي الناجون من السخط (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ، أي وما أعطيتم من عطية خالية من العوض ليزيد في أموال الناس بأن تعطوا شيئا ، وتطلبوا ما هو أفضل منه فليس لكم فيه أجر ، وليس عليكم فيه إثم.

وقرأ نافع «لتربوا» بتاء الخطاب وسكون الواو ، أي لتصيروا ذوي زيادة. وقرأ ابن كثير «وما أتيتم» بقصر الهمزة ، أي وما جئتم به من إعطاء عطية. واختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب عوضها وقال : إنما أردت العوض ، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الموهوب له ، فله ذلك عند مالك رضي‌الله‌عنه وذلك كهبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الشخص لمن فوقه ولأميره. وقال أبو حنيفة : لا يكون له عوض إذا لم يشترط. وهذان القولان جاريان للشافعي رضي‌الله‌عنهم. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) أي وما أعطيتم من صدقة تطوع إلى المساكين تبتغون وجهه تعالى ، فأولئك هم الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب ، ويحفظ أموالهم في الدنيا وبالبركة لها (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما في بطون أمهاتكم ، ثم أخرجكم وفيكم الروح (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) إلى الموت (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء مدتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث بعد الموت ، (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي هل من آلهتكم يا أهل مكة من يقدر أن يفعل من ذلك شيئا؟ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠) أي لا تصفوه تعالى بالإشراك.

وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي تبين الفساد في البر والبحر كالجدب وكثرة الحرق ، والغرق ، وموت دواب البر والبحر ، وقلة اللؤلؤ بسبب كسب الناس المعاصي.

قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا ، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار ، وصار ماء البحر ملحا زعاقا (١) ، وقصد الحيوانات بعضها بعضا ، (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي بعض جزاء الذين عملوا ، فإن تمامه في الآخرة.

وقرأ قنبل «لنذيقهم» بالنون (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١) عما كانوا عليه (قُلْ) يا محمد لأهل مكة : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) كقوم ونوح وعاد وثمود ليشاهدوا

__________________

(١) الزعاق : بضم الزاي : الماء المرّ والكثير الملح الذي لا يطاق شربه [القاموس المحيط ، مادة : زعق.


آثارهم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (٤٢) ، وكان بعض الهلاك بغير الشرك كالفسق ومخالفة الأمر (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ). قال الزجاج : أي أقم صدرك واجعل وجهك اتباع دين الإسلام (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) متعلق بـ «يأتي» أو بـ «مرد» ، أي لا يقدر أحد على رده من الله تعالى ، ولا يرده الله تعالى لتعلق إرادته تعالى بمجيئه (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (٤٣) أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم يتفرقون : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي من كفر بالله فعليه عقوبة كفره وهو خلوده في النار (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٤٤) أي ومن عمل صالحا في الإيمان فيفرشون منازلهم في الجنة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) ، والجار والمجرور متعلق بـ «يمهدون» أو بـ «يصدعون» ، أي يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي الله كلا منهما بحسب أعمالهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥) أي يعاقبهم. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) لخلقه بالمطر وبصلاح الأهوية ، والأحوال ، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد ، فرياح الرحمة : هي الشمال ، والصبا ، والجنوب. وأما الدبور فهي ريح العذاب (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وهي المنافع التابعة للرياح (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفن بسوقها (بِأَمْرِهِ) أي بمشيئته في البحر (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بتجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٤٦) نعمة الله فيما ذكر (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا أكرم الرسل (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فكذبوهم ، (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي أهلكنا الذين كذبوهم ، (وَكانَ حَقًّا) أي واجبا (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) أي وكان الانتقام حقا ، فلم يكن ظلما ، ثم استأنف الله بقوله تعالى : (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذا بشارة لمن آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقال نصر المؤمنين : كان واجبا علينا وهذا تأكيدا لبشارة ، لأن كلمة «على» تفيد معنى اللزوم فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى ، والنصر : هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي فترفع سحابا ثقالا بالمطر (الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) أي فينشر الله السحاب كمال الانتشار متصلا بعضه ببعض تارة في جو السماء كيف يشاء ، سائرا ، وواقفا ، ومطبقا ، وغير مطبق (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي ويجعل الله السحاب قطعا تارة أخرى (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من خلال السحاب (فَإِذا أَصابَ) أي الله (بِهِ) أي بالودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي أراضيهم ، (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٨) أي يفرحون بمجيء الخصب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٤٩) ، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل الاستبشار لآيسين من المطر ، (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) من النبات والأشجار والثمار ، فالرحمة : هي المطر ، وأثرها هو النبات.


وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص «آثار» بالألف ، والباقون بغير ألف. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر إلى إحياء الله تعالى للأرض بإخراج النبات بعد يبوستها (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي يحيي الأرض (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي لقادر على إحيائهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠) أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٥١) ، أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفا ، فرأوا الزرع مصفرا بعد خضرته لصاروا من بعد صفرته يكفرون بنعمته تعالى السالفة ، (فَإِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم ، فإنهم موتى صم عمي. ومن كان كذلك لا يهتدي ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٥٢) أي إذا أعرضوا مدبرين عن الحق (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس شغلك هداية العميان إلى الحق.

وقرأ حمزة «تهدي» بتاء الخطاب الداخل في المضارع ، ونصب «العمي». (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما تسمع دعوتك إلا من يؤمن بكتابنا ، فإن إيمانهم يدعوهم إلى قبوله (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣) أي مطيعون (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي من أصل ضعيف هو النطفة ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) أي من بعد كونه جنينا وطفلا مولودا ، ورضيعا ، ومفطوما (قُوَّةً) أي حالة البلوغ والشباب ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) للكهولة (وَشَيْبَةً) ـ وهو بياض الشعر الأسود ـ أي فإن ذلك الضعف والقوة والشباب والشيبة ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٥٤) فالترديد في الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي توجد القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف الكافرون بالله (ما لَبِثُوا) في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) ، أي غير قدر ساعة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الصرف (كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٥٥) ، أي يصرفون من الحق إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) من الملائكة والإنس : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) في القبور (فِي كِتابِ اللهِ) أي بحسب ما علمه الله وقدره (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) من القبور (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم توعدون في الدنيا والذي أنكرتموه ، (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٥٦) أنه حق ولا تقرون بوقوعه فتستعجلون به استهزاء ، وتطلبون الآن تأخير الساعة ، فصار مصيركم إلى النار (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا).

وقرأ الكوفيون «لا ينفع» بالياء التحتية ، أي فيوم القيامة لا ينفع الذين أشركوا اعتذارهم في إنكارهم له (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧) ، أي لا يطلب منهم إزالة العتب من التوبة كما طلبت منهم في الدنيا لأنها لا تقبل منهم (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي وبالله لقد بينا لهم في هذا القرآن كل حال وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كأنها في غرابتها مثل (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا أشرف الخلق (بِآيَةٍ) من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) (٥٨) أي ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا كاذبون ويقال : ولئن


جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل. يقولون : أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مزورون (كَذلِكَ) ، أي مثل ذلك الطبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) أي لا يطلبون العلم ولا يقصدون الحق ، (فَاصْبِرْ) على ما تشاهد منهم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وقد وعدك بالنصرة وإظهار الدين (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠) ، أي لا يحملنك على الخفة وترك الصبر الذين لا يصدقون بالآيات.

وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر : إنه منقلب الرأي لا ثبات له ، والله أعلم بالصواب.


سورة لقمان

مكية ، أربع وثلاثون آية ، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة ، ألفان ومائة وعشرة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم) (١) قيل : قسم أقسم الله به (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٢) ، أي هذه السورة آيات القرآن ذي الحكمة (هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحالية من الآيات ، وبالرفع على قراءة حمزة خبران آخران لاسم الإشارة (لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) أي العاملين للحسنات. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتقنون جميع ما أمروا به فيها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) كلها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) ، أي وهم يصدقون بالبعث بعد الموت ، فالصلاة ترك التشبه بالسيد ، فالله تعالى تجب له العبادة ، ولا تجوز عليه العبادة والزكاة تشبه بالسيد ، فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد في أمور ، كما أن ترك التشبه لازم على العبد في أمور فلا يجلس العبد عند جلوس السيد ولا يتكئ عند اتكائه ، وعبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد ، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد ، وبهما تتم العبودية. (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) أي الناجون من كل مهروب والفائزون بكل مطلوب (وَمِنَ النَّاسِ) وهو النضر بن الحرث (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي أباطيل الحديث (لِيُضِلَ) بذلك (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي على دينه الحق الموصل إليه تعالى.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليستمر على ضلاله عن قراءة كتاب الله تعالى الهادي إليه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي يشتري بغير علم بحال ما يشتريه (وَيَتَّخِذَها هُزُواً). وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب عطفا على «يضل». والباقون بالرفع عطفا على «يشتري» ، والضمير البارز للسبيل وهو دين الإسلام أو للقرآن. (أُولئِكَ) أي من يشتري ذلك (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦) أي ذو إهانة لإهانتهم الحق ، (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ) أي المشتري (آياتُنا) أي التي هي آيات الكتاب الحكيم (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي أعرض عنها مبالغا في التكبر عن الإيمان بها ، (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه لم يسمع الآيات (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي مشبها حاله حالا من في أذنيه ثقل مانع من السماع ، (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) أي فأعلمه يا أشرف الخلق بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) (٨) أي نعيم جنات فـ «لهم» خبر إن ، و «جنات» مرفوع على الفاعلية. (خالِدِينَ فِيها) حال من «جنات النعيم» ، أو من ضمير


«لهم» ، (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم الله جنات النعيم وعدا وحق ذل حقا فهما مصدران مؤكدان الأول : لنفسه ، والثاني : لغيره ، لأن قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدل على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ، (الْحَكِيمُ) (٩) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي بغير دعائم (تَرَوْنَها).

فهذا إما راجع للسموات وهو استئناف جيء به للاستشهاد على خلقه تعالى لها ، غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك ، أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك وإما راجع للعمد وهو صفة له أي بغير عمد مرئية ، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت.

قال ابن عباس : هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض ، وهي سبعة عشر جبلا منها : قاف ، وأبو قبيس ، والجودي ، ولبنان ، وطور سينين ، وثبير ، وطور سيناء أخرجه ابن جرير (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي كراهة أن تميل الأرض بكم (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي فرق الله في الأرض من كل نوع من أنواع ذي روح ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) ، أي في الأرض بسبب ذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) أي من كل جنس حسن فتحت كل جنس نوعان لأن النبات إما شجر أو غير شجر ، فالشجر إما مثمر أو غير مثمر. (هذا) أي الأشياء المعدودة (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي) أي فأخبروني يا أهل مكة ، (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله مما تعبدونه فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟! (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) أي بل المشركون في خطأ بيّن وأنتم يا أهل مكة منهم (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) وهو توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة ، فمن تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع ، فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال : إنه حكيم لعدم علمه به أولا ، بل هو يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس والإنسان إذ علم أمرين أحدهما أهم من الآخر ، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة وأن الأهم كان مخالفا للعلم ، ولم يكن من الحكمة في شيء قيل : ولقمان هو ابن باعوراء من أولاد آزر ، ابن أخت أيوب عليه‌السلام ، وعاش حتى أدرك داود عليه‌السلام ، وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وروي أنه كان نائما في نصف النهار فنودي : يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم على فسمعا وطاعة فإني أعلم أن الله تعالى إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت وهو لا يراهم : يا لقمان هل لك في الحكمة؟ قال : فإن الحاكم يغشاه المظلوم من كل مكان إن عدل نجا وإن أخطأ الطريق


أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فـ «أن» مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول ، فإن شكر الله تعالى أهم الأشياء (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ، أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن منفعته مقصورة عليها ، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢) أي ومن كفر النعمة فالله غير محتاج إلى شكره حتى يتضرر بكفران الكافر ، وهو تعالى في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه. (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) ثاران. وقيل : أنعم. وقيل : مشكم. (وَهُوَ يَعِظُهُ) ويبدأ في الوعظ بالأهم (يا بُنَيَ) تصغير محبة.

وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير ، وكسرها الباقون. (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قيل : كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم ، ومن وقف على تشرك جعل بالله قسما (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) ، لأن الشرك وضع للنفس الشريف ، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) ، أي أمرناه بالبر بهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته أمه في بطنها تضعف ضعفا فوق ضعف ، كلما كبر الولد في بطنها كان أشد عليها (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه في تمام عامين ـ وهي مدة الرضاع عند الشافعي ، ومدة الرضاع عند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ـ (أَنِ اشْكُرْ لِي) بالطاعة لأني المنعم في الحقيقة (وَلِوالِدَيْكَ) بالتربية ، لأنهما سبب لوجودك.

قال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) أي إلى الرجوع فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله ، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) ، أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة ، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقيل : هو أبو بكر الصديق ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال : نعم هو صادق فآمنوا ، ثم حملهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام بإرشاد أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مرجعك أيها الإنسان ، ومرجع والديك ، ومرجع من أناب (فَأُنَبِّئُكُمْ) عند رجوعكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥) بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. (يا بُنَيَ) ، روى أن ابن لقمان قال : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال : يا بني (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي أن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تلك مثلا في الصغر كحبة الخردل.


وقرأ نافع مثقال بالرفع وكان تامة وضمير «إنها» للقصة ، أي إن الشأن أن يوجد وزن حبة الخردل ، (فَتَكُنْ) أي تلك الخصلة (فِي صَخْرَةٍ) تحت الأرضين وهي التي عليها الثور ، وهي لا في الأرض ولا في السماء (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ويحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يصل علمه إلى كل خفي (خَبِيرٌ) (١٦) بكنهه (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) بجميع حدودها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالإحسان ، (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي القبيح من القول والعمل ، (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الشدائد والمحن ، لا سيما بسبب الأمر والنهي (إِنَّ ذلِكَ) أي الصبر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧) أي من الأمور الواجبة المقطوعة ، فلم يرخص في تركه (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي لا تعرض وجهك من الناس تكبرا. ويقال : لا تحقر فقراء المسلمين (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي اختيالا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨) فالمختال من يكون به خيلاء ، وهو الذي يري الناس عظمة نفسه ، وهو التكبر والفخور ، من يكون مفتخرا بنفسه ، وهو الذي يرى عظمة نفسه وهو التكبر والفخور من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي توسط في المشي بين الدبيب والإسراع (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه ، وهذا إشارة إلى التوسط في الأقوال (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) أي إن أقبح أصوات الحيوانات صوت الحمير ، أوله صوت قوي وآخره صوت ضعيف. (أَلَمْ تَرَوْا) أي ألم تعلموا أيها المشركون (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي أن الله جعل لأجلكم ما في السموات من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والمطر ، وما في الأرض من الشجر والدواب منقادا للأمر فإن الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي وأتم عليكم نعمة محسوسة معقولة ، معروفة لكم ، وغير معروفة.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص «نعمة» بفتح العين وبالهاء آخره. والباقون بسكون العين وبتاء منونة آخره. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث ، وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله تعالى وفي صفاته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مستفاد من دليل (وَلا هُدىً) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠) أنزله الله تعالى بل بمجرد التقليد ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لمن يخاصم (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على نبيه من القرآن ، (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي قالوا : نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل من آبائنا ، وهو عباد الأصنام (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أي قال الله تعالى أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم فيما هم عليه من الشرك (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١) فهم يقتدون بهم (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) ، أي ومن يفوض إليه تعالى مجامع أموره ، ويقبل عليه تعالى بكليته وهو آت بأعماله جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي فقد تمسك بحبل لا انقطاع له ، وترقى بسببه إلى أعلا المقامات ، (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢) فيجازيه أحسن الجزاء ، (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن إذا كفر كافر (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في


الدنيا من الكفر والمعاصي بالعقاب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٣) فلا يخفي عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) أي زمانا قليلا مدة حياتهم ، (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤) ثم نردهم في الآخرة إلى عذاب شديد ، أي فإنهم لما كذبوا الرسل ، ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وهذا يصدقك في دعوى الواحدانية ، ويبين كذبهم في الإشراك (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ظهور صدقك وكذب مكذبيك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٥) ، أي ليس لهم علم يمنعك من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يستحق العبادة فيهما غيره تعالى (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦) ، أي الغني عن العالمين ، المستحق للحمد ، وإن لم يحمده أحد. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، أي ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار السبعة من بعد نفاذ البحر المحيط مدادا ، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب ، فإن العجائب بقوله تعالى : (كن) و «كن» كلمة ، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز كما يقول الشجاع لمن يبارزه : أنا موتك وكما يقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك ، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح : كلمة ، لأنه كان أمرا عجيبا لوجوده من غير أب ، ولذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه تعالى ، فالمخلوق هو الحرف والتركيب هو عجيب. أما الكلمات فهي من صفات الله تعالى ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي كامل القدرة فلا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) (٢٧) أي كامل العلم فلا يخرج عن علمه أمر (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلقكم وبعثكم إلا كخلق نفس واحدة بعثها في سهولة الحصول ، إذ لا يشغله تعالى شأن ، لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢٨) أي سميع لما يقولون كيف يبعثنا بصير بما يعملون (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا أيها الغافل (أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضمه إليه ، فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة لهما ، (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) في كل وقت من الخير والشر (خَبِيرٌ) (٢٩). فمن شاهد مثل ذلك الصنع لا يغفل عن كون صانعه محيطا بجلائل أعماله ودقائقه (ذلِكَ) أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع ، (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الثابت الوجود وألوهيته ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ، وبسبب بيان بطلان إلهية ما يعبدونه من غيره تعالى.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «يدعون» بالغيبة. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠) أي وبيان أنه تعالى هو العلي في صفاته ، الكبير في ذاته ، أكبر من كل ما يتصور ،


فلا يكون جسما في مكان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي بالريح التي هي بأمر الله ، وبإحسانه تعالى في تهيئة أسباب الجري (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ليريكم بإجراء السفينة بنعمته بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) عظيمة في ذاتها ، كثيرة في عددها (لِكُلِّ صَبَّارٍ) في الشدة (شَكُورٍ) (٣١) في الرخاء ، فالتكاليف أفعال وتروك ، فالتروك : صبر عن المألوف. والأفعال : شكر على المعروف (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي أحاط بهم (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) ، أي كالجبال في الارتفاع (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، أي مفردين له تعالى بالدعوة بأن ينجيهم ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ، أي مقيم على الطريق المستقيم الذي هو التوحيد ، ومنهم من يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي كثير الغدر ، ولا يكون الغدر إلا من قلة الصبر (كَفُورٍ) (٣٢) أي مبالغ في كفران نعم الله تعالى. (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي يا أهل مكة أطيعوا ربكم (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يقضي فيه والد عن ولده في دفع الآلام ، (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) في دفع الإهانة ، فـ «مولود» مبتدأ ، و «هو» مبتدأ ثان ، و «جاز»خبره. والجملة خبر«مولود».

وقرئ «لا يجزئ» بضم الياء ورفع الهمزة أي لا يغني. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب (حَقٌ) أي لا يمكن إخلافه أصلا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فإنها زائلة لوقوع اليوم الذي لا مجازاة بين الوالد وولده بالوعد الحق (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي بسبب حلم الله (الْغَرُورُ) (٣٣) أي الشيطان ، أو الدنيا فمن الناس من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويقول : إنك تحصل بها الآخرة ، أو تلتذ بها ، ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة ، أي كونوا من الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم وقت قيام القيامة (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) إلى محله في إبانه.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعصام بفتح النون وتشديد الزاي. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، تام أو ناقص (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما لا تدري في أي وقت تموت.

روي أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه‌السلام ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل : من هذا؟ قال ملك الموت. فقال : كأنه يريدني! فمر الريح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال الملك لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي مبالغ في العلم بكل شيء (خَبِيرٌ) (٣٤) أي عالم ببواطن الأشياء كما يعلم ظواهرها.


سورة السجدة

وتسمى سورة المضاجع ، مكية عند أكثرهم ، تسع وعشرون آية

ستمائة وثمانون كلمة ، ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) فـ «تنزيل» خبر عن «ألم» ، أي هذه السورة المسماة «ألم» منزل الكتاب و «لا ريب فيه» حال من «الكتاب» ، و «من رب» متعلق بـ «تنزيل». (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقول كفار مكة اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه! (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي بل القرآن هو الثابت من ربك نزل به جبريل عليك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣) أي لكي تخوف بالقرآن قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك راجيا أنت لاهتدائهم ، (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها أحد وآخرها جمعة ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي ثم استقام الله على ملكه وتصرف فيه تصرفا تاما ، والعرش موجود قبل السموات والأرض (ما لَكُمْ) يا أهل مكة (مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعكم ، (وَلا شَفِيعٍ) ينصركم من عذاب الله فعبادتكم لهذه الأصنام ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ، (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤) أي أتستمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) ، أي يدبر أمر الدنيا من السماء على عباده ، ويصعد إليه آثار الأمر وهي أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر ، فإن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون عليهم أي على غير الملائكة ، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة ، فهو مقدار ألف سنة.

قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل عليهم‌السلام. فأما جبريل : فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل : فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت : فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل : فهو ينزل بالأمر عليهم وقد قيل : إن العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل ، قال الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، وما دون السموات موضع التصريف (ذلِكَ) أي المدبر (عالِمُ الْغَيْبِ


وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما غاب عن العباد وما يكون وما علمه العباد ، وما كان فيدبر أمرهما. (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦) فهو قادر على الانتقام من الكفرة واسع الرحمة على البررة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن ، (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٧) أي بدأ آدم عليه‌السلام من أديم الأرض على فطرة عجيبة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي من نطفة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨) ، أي من ماء ضعيف مخلوط من ماء الرجل والمرأة ، (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي جعل الروح فيه ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) على مقتضى الحكمة وذلك لأن الإنسان يسمع أولا من الناس أمورا فيفهمها ، ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجربها ، ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قلبه ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) أي فتشكرون شكرا قليلا ، (وَقالُوا) أي أبو جهل وأصحابه : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي أإذا غبنا في الأرض بالدفن بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه ، (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أإنا يجدد خلقنا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (١٠) أي ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيا ، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب ، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ، أي قل يا أشرف الخلق : يقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكّل بكم بقبض أرواحكم. وذلك دليل على بقاء الأرواح ، فلا بد من الحياة بعد الموت لا كما تزعمون أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١) بالبعث للحساب والجزاء ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا) أي ولو ترى أيها المخاطب إذ المشركون خافضوا رؤوسهم عند ربهم من الحياء والخزي عند ظهور قبائحهم يقولون : ربنا أبصرنا قبح أعمالنا وكنا نراها في الدنيا حسنة ، وأبصرنا الحشر (وَسَمِعْنا) قول الرسول ، وإن مردنا إلى النار ، (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢) أي إنا آمنا في الحال ، أي لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبا (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي قال تعالى جوابا عن قولهم ذلك إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ، ولما لم أهدكم تبين إني ما شئت إيمانكم فلا أردكم إلى الدنيا. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. وهو المراد بقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) أي من كفارهم (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي لا رجع لكم إلى الدنيا فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم قطعا لرجائكم ، (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي العذاب الدائم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤) في الكفر (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي بتلك الآيات


(خَرُّوا سُجَّداً) أي انقادت أعضاؤهم للسجود ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، أي وتحرك ألسنتهم بتنزيهه تعالى عن الشرك (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥) ، عن الخرور والتسبيح والتحميد (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي تتنحى جنوبهم عن مواضع المنام.

قال أنس : نزلت هذه الآية فينا ، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن أنس أيضا قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهي صلاة الأوابين ؛ وهو قول ابن حازم ومحمد بن المنكدر ، وهو مروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما والمشهور أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي وجماعة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (١) (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من عدم قبول عبادته ومن سخطه تعالى وعذابه ، (وَطَمَعاً) في رحمته (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من المال (يُنْفِقُونَ) (١٦) في وجوه البر والحسنات ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) أي فلا تعلم نفس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما ذخر لهم ، (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي ما يحصل به الفرح والسرور (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) أي للجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة ، (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً)؟ أي أفبعد ظهور التباين بين المؤمن والكافر يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالكافر الذي ذكرت أحواله الشنيعة ، (لا يَسْتَوُونَ) (١٨) ، أي المؤمنون كعلي رضي‌الله‌عنه ، والكافرون كالوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذلك أنه كان بينهما تنازع يوم بدر فقال الوليد بن عبقة لعلي : اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال علي : اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى هذه الآية. (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) أي حالة كونها ثوابا معدا لهم كما يعد ما يحصل به الإكرام للضيف (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٩) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا. (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن دائرة الإيمان (فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) ، أي النار (أُعِيدُوا فِيها) بمقامع الحديد. (وَقِيلَ لَهُمْ) أي قالت الزبانية زيادة في غيظهم : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٠) أي الذي كنتم في الدنيا تكذبون بعذاب النار وقلتم : إنه لا يكون (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ، أي ولنصيبن كفار مكة من عذاب الدنيا بالقحط سبع سنين ، والقتل والأسر يوم بدر قبل عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢١) يتوبون عن الكفر ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانيا ، ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم. (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢) أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا

__________________

(١) رواه ابن ماجة في المقدّمة ، باب : في فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


منتقم منهم بالعذاب الأكبر. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، أي التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أي فلا تكن يا أشرف الخلق في شك من لقاء الكتاب الذي هو القرآن ، أي إنا آتينا موسى مثل ما أتيناك من الكتاب فلا تكن في شك من أنك لقيت نظيره ، (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب الذي آتيناه موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٣) كما جعلنا كتابك هاديا للأمة (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) إلى دين الله (بِأَمْرِنا) إياهم بذلك ، كما جعلنا من أمتك صحابة يهدون (لَمَّا صَبَرُوا) أي حين صبروا على مشاق الطاعات ومقاساة الشدائد في نصرة الدين.

وقرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي لصبرهم على ذلك. (وَكانُوا بِآياتِنا) ـ التي في تضاعيف الكتاب (يُوقِنُونَ) (٢٤) لإمعانهم فيها النظر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) أي يقضي (بَيْنَهُمْ) أي بين المبتدع والمتبع كما يفصل بين المؤمن والكافر ، أو يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم الكثيرة (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥) من أمور الدين. (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا وقد جوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على الله ، كما يدل عليه قراءة «نهد» بنون العظمة فيكون «كم أهلكنا» إلخ استئنافا مبينا لكيفية هدايته تعالى (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) مثل عاد وثمود ، وقوم ولوط. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي يمرون في أسفارهم إلى التجارة على ديارهم وبلادهم ، ويشاهدون آثار هلاكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في كثرة إهلاكنا الأمم الخالية العاتية (لَآياتٍ) عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها (أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٢٦) هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي التي أزيل نباتها بالمرة.

قال ابن عباس هي أرض اليمن والشام. وقال قوم : هي مصر (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي بذلك الماء من تلك الأرض (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ) أي من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) قدم الأنعام في الأكل لأن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ، ولأن الزرع غذاء الدواب ، وهو لا بد منه (أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧)؟ أي ألا ينظرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى ، وعلى فضله؟ (وَيَقُولُونَ) أي المشركون للمؤمنين بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاء : (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي النصر؟ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨)! وكان المسلمون يقولون : إن الله سيفتح لنا على المشركين وإن الله ينصرنا عليكم. (قُلْ) يا أشرف الخلق لبني خزيمة وبني كنانة (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) إذا جاءهم العذاب وقتلوا لأن إيمانهم حال القتل إيمان اضطرار ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢٩) أي يمهلون بتأخير العذاب عنهم ، ولما فتحت مكة هربت قوم من بني كنانة فلحقهم خالد بن الوليد ، فأظهروا الإسلام ، فلم يقبله منهم خالد وقتلهم ، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي عن بني خزيمة ولا تبال بتكذيبهم (وَانْتَظِرْ) هلاكهم يوم فتح مكة (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) هلاكك. ويقال : وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم. ويقال : وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء.


سورة الأحزاب

مدنية بالإجماع ، ثلاث وسبعون آية ، ألف ومائتان وثمانون

كلمة ، خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي المجاهرين بالكفر ، (وَالْمُنْفِقِينَ) المضمرين له. نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي. وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبيّ ، رأس المنافقين ، بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ـ ارفض ذكر آلهتنا اللات ، والعزى ، ومناة وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك ، فسق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال : «إني أعطيتهم الأمان» فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجهم من المدينة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١) أي مبالغا في العلم والحكمة ، فيعلم جميع الأشياء من المصالح والمفاسد ، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عن ما فيه مفسدة ، ولا يحكم إلا بما يقتضيه الحكمة البالغة ، (وَاتَّبِعْ) في كل ما تأتي وما تذر من أمور الدين (ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٢) فلا تهتم بشأنهم فإن الله تعالى كافيكه.

وقرأ أبو عمرو «بما يعملون» بالغيبة ، فالواو ضمير يعود على الكفرة والمنافقين (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض جميع أمورك إليه ، (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣) أي حافظا موكولا إليه كل الأمور. (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ؛ نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري ، كان رجلا لبيبا ، حافظا لما يسمع. فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين ، وكان هو يقول : لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين بوم بدر انهزم أبو معمر ، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال : انهزموا. فقال : ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى


في رجلك؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي كأمهاتكم في الحرام. نزلت هذه الآية في أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت وامرأته خولة. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) الذين تبنيتم (أَبْناءَكُمْ) أي كأبنائكم من النسب.

وقرأ عاصم «تظاهرون» بضم التاء وفتح الظاء مع المد وكسر الهاء ، وحمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مع المد والتخفيف وفتح الهاء ، وابن عامر كذلك ، إلا أنه يشدد الظاء. والباقون بفتح التاء والظاء والهاء المشددتين ولا ألف بعد الظاء.

روى الأئمة عن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد ، حتى نزل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، وكان زيد فيما روى عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشام بستة خيل من تهامة ، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد ، فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد ، فوهبته خديجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعتقه ، وتبناه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيّراه ، فإن اختاركما فهو لكما دون فداء». فاختار الرق مع رسول الله على حريته وقومه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه». وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم ، فرضي بذلك عمه وأبوه وانصرفا ، (ذلِكُمْ) أي دعاؤكم بقولكم : هذا ابني (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) فقط فهو قول لا حقيقة له ، ولا يخرج من قلب ولا يدخل في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) فإن العاقل ينبغي أن يكون قومه له ، إما عن عقل أو عن شرع ، فإذا قال : فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو عن شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا ، وكان الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به ، لأن أباه ظاهر مشهور. ومن قال : إن تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب لم يكن حسنا ، لأنها زوجة الابن يكون قد ترك قول الله الحق هي حلال لك وقد أخذ بقول خرج من الفم. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) أي سبيل الحق فدعوا أقوالكم وخذوا بقول تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي انسبوهم إليهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي الدعاء لآبائهم بالغ في العدل في حكم الله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي بنو عمكم ، أي فإن لم تعرفوا أبا شخص تنسبونه إليه وأردتم خطابه فقولوا له : يا أخي ، ويا ابن عمي. ويقال : فادعوهم باسم إخوانكم في الدين كأن تقولوا : عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الرحيم ، وعبد الرزاق (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) بالسهو أو سبق اللسان فقول القائل لغيره : يا ابني ، بطريق الشفقة أو يا أبي ، بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ ، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) فيه جناح (وَكانَ اللهُ غَفُوراً


رَحِيماً) (٥) يغفر الذنوب ويرحم المذنب فالمغفرة هو أن يستر القادر القبيح ، الصادر ممن تحت قدرته والرحمة هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض. (النَّبِيُّ أَوْلى) أي أشفق (بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في كل أمر من أمور الدين والدنيا ، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى : أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي منزلات منزلة الأمهات في استحقاق التعظيم ، وفي تحريم نكاحهن تحريما مؤبدا لا في غير ذلك سواء دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها أو لا ، وسواء مات عنهن أو طلقهن ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في التوارث بحق القرابة من الإرث بحق الإيمان ، وبحق الهجرة في القرآن وهو آية المواريث والوصية ، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي إلى أصدقائكم وصية من الثلث أي إن أوصيتم فغير الوارثين أولى ، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم (كانَ ذلِكَ) أي الميراث للقرابة والوصية للأجانب بالموادة (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (مَسْطُوراً) (٦) أي مكتوبا. (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق ، (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧) ، أي عهدا مؤكدا وهو الإخبار بأنهم مسؤلون عما فعلوا في الإرسال (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي ليسأل الرسل عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا لمن أرسلوا إليهم ، وليسأل الوافين عن وفائهم ، والمؤمنين عن إيمانهم (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨) أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين بالرسل عذابا أليما. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ، أي أحزاب وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة ، والنضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) وهي ريح الصبا (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة عليهم‌السلام ، وكانوا ألفا ولم يقاتلوا يومئذ ، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب ، (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من التجائكم إليه ورجائكم فضله (بَصِيراً) (٩) ، فنصركم على الأعداء عند الاستعداد.

وقرئ «بما يعملون» بالياء ، أي الأحزاب (إِذْ جاؤُكُمْ) أي الأحزاب (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من أعلى الوادي من جهة المشرق ، وهم بنو غطفان ، وأسد قائدهم عيينة بن حصن ، وعامر بن الطفيل في هوازن ، ومعهم اليهود من قريظة والنضير. (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وهم قريش وبنو كنانة ، وأهل تهامة ، وقائدهم أبو سفيان ، وكانوا عشرة آلاف.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي واذكروا حين مالت أبصار المنافقين عن موضعها عن طريقها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي بلغت قلوب المنافقين بأن انتفخت عند منتهى الحلقوم من الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠) أي ظن المخلصون أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل (هُنالِكَ) أي في ذلك الزمن الهائل والمكان الدحض (ابْتُلِيَ


الْمُؤْمِنُونَ) ، أي امتحنهم الله فتميز الصادق عن المنافق (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) (١١) ، أي حركوا تحريكا شديدا من الهول والفزع ، وكانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم منهم سيدهم حيي بن أخطب إلى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان : مرحبا وأهلا ، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان ، وقيس ، وغيلان ، فطلبوهم لحرب محمد ، فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقبالهم شرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي ، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، فلما فرغوا من حفرة أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا ، فنزلوا حول المدينة حتى نزلوا إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره والخندق بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء ، فرفعوا في الآطام ، فلما رأت قريش الخندق قالوا : هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها ، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل ، ومكثوا في ذلك الحصار أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف فبعث الله عليهم ريحا في ليلة شديدة البرد والظلمة ، فقلعت بيوتهم ، وقطعت أطنابهم ، وكفأت قدورهم ، وصارت تلقي الرجل على الأرض ، وأرسل الله الملائكة ، فزلزلتهم ولم تقاتل بل نفثت في قلوبهم الرعب ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح قام فقال : يا معشر قريش ليستعرف كل منكم جليسه ؛ واحذروا الجواسيس. ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام ، ولقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا ، فإني مرتحل. ووثب على جمله وشرع القوم يقولون الرحيل الرحيل والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة ولم تجاوز عسكرهم ورحلوا وتركوا ما استثقلوه من متاعهم وحين انجلى الأحزاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآن نغزوهم ولا يغزونا». (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي ضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من إعلاء الدين (إِلَّا غُرُوراً) (١٢) ، أي إلا وعد غرور أي قال معتب بن قشير وأصحابه : يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر والحال أننا لا نقدر أن نخرج للغائط خوفا ، وما هذا إلا وعد غرور. (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) هم أوس بن قيظي من رؤساء المنافقين وأتباعه.

وقال السدي : هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) هو اسم المدينة المطهرة (لا مُقامَ لَكُمْ) أي لا وجه لإقامتكم مع محمد (فَارْجِعُوا) عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي يستأذن النبي في الرجوع إلى المدينة فريق من


المنافقين أوس بن قيظي ، وأبو عرابة بن أوس من بني حارثة (يَقُولُونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لنا يا نبي الله بالرجوع إلى المدينة (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ، أي غير حصينة نخاف عليها سرق السراق (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي والحال أن البيوت ليس فيها خلل (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (١٣) أي ما يريدون بالاستئذان إلا فرار من القتل ، (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) (١٤) أي ولو دخل الأحزاب بيوتهم من جميع جوانبها ، ثم سألهم الداخلون أو غيرهم الرجعة إلى الكفر لجاءوها.

وقرأ نافع وابن كثير «لأتوها» بقصر الهمزة ، أي لفعلوها. والباقون بالمد ، أي لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم وما أخروا الردة إلا قدر ما يسع السؤال والجواب ، أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة نفوسهم به (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل غزوة الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي منهزمين من المشركين فإن بني حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثل ذلك (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (١٥) أي وكان ناقض عهد الله مسؤولا يوم القيامة عن نقضه (قُلْ) يا أشرف الخلق لبني حارثة : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) لأنه لا بد لكل إنسان من الموت في وقت معين سبق به قضاء الله تعالى وجرى عليه القلم (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٦) ، أي ولو فررتم من الموت في يومكم مثلا لما دمتم ولما متعتم بعد الفرار إلا تمتيعا قليلا (قُلْ) يا أكرم الرسل لبني حارثة : (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي من يمنعكم من مراد الله إن أراد بكم عذابا بالقتل أو أراد بكم نجاة من القتل (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧) أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير يدفع عنكم السوء إذا أتاكم (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) ، أي قد علم الله المانعين من الرجوع إلى الخندق والقائلين لأصحابهم المنافقين : قربوا أنفسكم إلينا أي وهم عند هذا القول خارجون من المعسكر ، متوجهون نحو المدينة ، وكان هؤلاء عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٨) أي وهم لا يأتون القتال إلا زمانا قليلا رياء وسمعة ، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بأبدانهم (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ، أي فإذا جاء خوف العدو رأيت المنافقين في الخندق يا أشرف الخلق ينظرون إليك ، تدور أعينهم في أحداقهم نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي غلبوكم بألسنة ذربة ، وآذوكم بكلامهم يقولون : نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو ، وقهرتم ، ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالأياب (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي حرصا على المال ، ويقال : إنهم قليلو الخير في الحالتين كثير والشر في الوقتين ، (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (لَمْ يُؤْمِنُوا) بقلوبهم وإن


أظهروا الإيمان لفظا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أظهر الله بطلان أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين (وَكانَ ذلِكَ) أي الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٩) أي هينا (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هؤلاء المنافقون لجبنهم يظنون قريشا وغطفان واليهود ، لم ينهزموا عند ذهابهم ، ففروا إلى داخل المدينة (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) (٢٠) أي وإن يأت الكفار بعد ما ذهبوا كرة ثانية تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب ، بعداء عن تلك الكفار ، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار. والحال أن هؤلاء المنافقين لو كانوا فيكم هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ووقع قتال آخر : ما قاتلوا معكم إلا قليلا رياء وخوفا من التعبير (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، أي خصلة حسنة حقها أن يقتدي بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين ، وعلى سبيل الاستحباب في أمور الدنيا (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يرجو ثواب الله واليوم الآخر خصوصا (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) باللسان والقلب (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي الكفار الكثيرة الأجناس (قالُوا هذا) أي المرئي (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا) الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء إلى قوله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم» وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر»(١). (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢) ، أي وما زادهم الوعد إلا إيمانا بوقوعه وتسليما عند وجوده ، ويقال : وما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وبمواعيده ، وتسليما لأوامره ومقاديره.

وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع ، ويعود للأحزاب ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرهم أن الأحزاب تأتيهم بعد تسع أو عشر (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي أتوا بالصدق في عهدهم من الثبات مع الرسول ، أي من الصحابة رجال نذورا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن زيد وعمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير ، وأنس بن النضر وغيرهم. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي نذره كحمزة ، ومصعب بن عمير ، وأنس بن النضر وغيرهم. وأخرج الترمذي عن معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «طلحة ممن قضى نحبه»(٢). وقدروي أن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوجب طلحة الجنة»(٣) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ١٦٥).

(٢) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (١٢٦).

(٣) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٤ : ١٢٢).


عائشة : «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» (١). (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قضاء نحبه لكونه موقنا ، كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك فإنهم مستمرون على نذورهم (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣) أي وما غيروا العهد تغييرا بالنقض (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي بصدق ما وعدهم بالقول والفعل في الدنيا والآخرة (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الذين كذبوا وأخلفوا بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية (إِنْ شاءَ) تعذيبهم فيمنعهم من الإيمان فماتوا على النفاق (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا قيل : الموت إن أراد ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لمن تاب حيث ستر ذنوبهم (رَحِيماً) (٢٤) حيث رزقهم الإيمان (وَرَدَّ اللهُ) أي صرف الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ وهم الأحزاب ـ (بِغَيْظِهِمْ) أي ملتبسين به (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي غير ظافرين يخير من دين ودنيا. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي رفع الله مؤنة القتال عن المؤمنين بالريح والملائكة ، (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على نصر المؤمنين فلم يحوجهم إلى قتال الكفار ، (عَزِيزاً) (٢٥) أي قادرا على إهلاك الكافرين وإذلالهم.

روى البخاري عن سلمان بن صرد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انجلى الأحزاب يقول : «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم» (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي عاونوا كفار مكة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وهم بنو قريظة والنضير كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب وأصحابهما ، (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي حصونهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال ، كانوا ستمائة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (٢٦) وهم النساء والذراري ، وكانوا سبعمائة (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) من الحدائق والمزارع (وَدِيارَهُمْ) ، أي منازلهم (وَأَمْوالَهُمْ) من النقد والماشية ، والسلاح ، والأثاث وغيرها ، (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي لم تقبضوها الآن ، وهي خيبر فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين ـ كما قاله السدي ومقاتل ـ أو هي أرض الروم ـ وفارس كما قاله الحسن ـ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧) ويملككم غيرها.

روي أن جبريل عليه‌السلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح وهو على فرسه الحيزوم ، والغبار على وجه الفرس ، والسرج فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا يا جبريل؟» فقال : من متابعة قريش. فجعل رسول الله يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح منذ

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الطلاق ، باب : ٣٥ ، والنسائي في كتاب الطلاق ، باب : التوقيت في الخيار ، وابن ماجة في كتاب الطلاق ، باب : الرجل يخيّر امرأته ، وأحمد في (م ٦ : ٢١٢).


أربعين ليلة ، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة ، فانهض إليهم فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال ، وألقيت الرعب في قلوبهم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا ينادي : إن من كان مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتنزلون على حكمي فأبوا فقال : أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به» فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» (١). فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار بنت الحرث من نساء بني النجار ، ثم خرج إلى سوق المدينة ـ الذي هو سوقها اليوم ـ فخندق فيه خندقا ، ثم بعث إليهم ، فأتى بهم إليه ، وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير ، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وكانوا ستمائة ، فأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم ، وطرحهم في ذلك الخندق ، فلما فرغ من قتلهم وانقضى شأنهم توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب وحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر وعمر. قالت عائشة : فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني في حجرتي. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) قال عكرمة كان تحته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية ثم صفية بنت حي الخيرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق. وروي أنهن سألنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت هذه الآية : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي التنعم فيها (وَزِينَتَها) أي زخارفها (فَتَعالَيْنَ) أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين (أُمَتِّعْكُنَ) أي أعطاكن المتعة (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨) ، أي أخرجكن من البيوت من غير ضرار بعد إعطاء المتعة (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي تردن طاعة الله وطاعة رسوله (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) ، أي الجنة (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) أي لمن عمل الصالحات منكن (أَجْراً عَظِيماً) (٢٩) وهو الكبير في الذات ، الحسن في الصفات ، الباقي في الأوقات.

وروي عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر ، فأستأذن ، فأذن له ، فدخل ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه قال عمر : فقلت : والله لأقولن شيئا أضحك به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ

__________________

(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة ، باب : ٣٢ ، وأحمد في (م ١ / ص ١٨٥).


عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : لا تسألن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده. فقلن : والله لا نسأل رسول الله أبدا شيئا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا ، ثم نزلت هذه الآية. فبدأ بعائشة فقال : «يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» (١). قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن ذلك ، (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) أي بكبيرة (مُبَيِّنَةٍ) أي ظاهرة القبح.

وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء التحتية ، أي بين الله قبحها (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ، أي يعذبن ضعفي غيرهن. وقرأ أبو عمرو «يضعف» بتشديد العين على البناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعف» بنون العظمة وتشديد العين على البناء للفاعل ونصب «العذاب». (وَكانَ ذلِكَ) أي التضعيف (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) لا يمنعه تعالى عن التضعيف كونهن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم ، (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من يطع الله ورسوله منكن (وَتَعْمَلْ صالِحاً) أي خالصا فيما بينها وبين ربها (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) ، أي نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها من النساء ، فمرة على الطاعة ، ومرة لطلبهن رضا رسول الله بالقناعة ، وحسن المعاشرة ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في «يعمل» ، و «يؤتها». (وَأَعْتَدْنا لَها) أي هيأنا لها (رِزْقاً كَرِيماً) (٣١) أي مرضيا في الجنة ، زيادة على أجرها المضاعف ، (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) أي اتصفتن بالتقوى ، لأن فيكن أمرا لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين ، وزوجات خير المرسلين ، كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس كأحد من الرجال ، (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي فلا ترفقن بالقول عند الرجال (فَيَطْمَعَ) في الخيانة (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي شهوة الزنا ، (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣٢) أي قولا حسنا مع كونه خشنا ، (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) أي امكثن في بيوتكن ، وليكن عليكن حسن الهيئة.

وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف فهو أمر من قر يقر من باب علم أو من قار يقار إذا اجتمع. وقرأ غيرهما بكسر القاف من وقر يقر وقارا. (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ولا تتزين بزينة الكفار في الثياب الرقاق الملونة. والمراد بالجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أي أتممن الصلوات الخمس. (وَآتِينَ الزَّكاةَ) أي أعطين زكاة أموالكن (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل ما تأتين وما تذرن (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ، أي عمل

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٤ : ١٩).


الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن ـ كما قاله ابن عباس ـ أو الذنب المدنس بعرضكم ، (أَهْلَ الْبَيْتِ) ، أي يا أهل بيت النبوة. وأخرج الترمذي حديثا أنه لما نزلت هذه الآية دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة ، وحسنا ، وحسينا ، وعليا ، وقال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي» (١). وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : نولت هذه الآية في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) أي يلبسكم خلع الكرامة ، فذهاب الرجس كناية عن زوال عين النجاسة ، والتطهير كناية عن تطهير المحل. (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أي اذكرن للناس بطريق العظة ما يتلى في بيوتكن من القرآن ، وكلمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ، (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) أي إن المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث ، (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي المصدّقين بما يجب تصديقه من الفريقين (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) ، أي المداومين على الطاعات ، (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في القول والعمل ، (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعات وعن المعاصي ، (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) أي المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم ، (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما وجب في مالهم ، (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) الصوم المفروض ، (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عن الحرام ، (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) بقلوبهم وألسنتهم ، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) بسبب ما عملوا من تلك الحسنات المذكورة (مَغْفِرَةً) للصغائر (وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥) على الطاعات. نزلت هذه الآية في قول أم سلمة ، ونسيبة بنت كعب الأحبار : يا رسول الله ما ترى الله يذكر النساء في شيء من الخير ، إنما ذكر الرجال ، ثم نزلت في زينب بنت جحش بنت عمة رسول الله ، وأميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله ، وكانت بيضاء جميلة ، وزيد أسود وقالت : أنا بنت عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي. وقيل : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها ، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد بعد ما طلق زينب بنت جحش ، فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، أي وما صح لكل مؤمن وكل مؤمنة إذا أراد رسول الله أمرا أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا ، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختياره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في أمر من الأمور كأن يعمل فيه برأيه (فَقَدْ ضَلَ) طريق الحق (ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) ، أي بين الانحراف عن سنن الصواب ، فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب وأخوها ، وجعلا الأمر بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنكحها زيدا ، وساق إليها رسول الله عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا ، وملحفة

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الحيض ، باب : ١٨ ، وأحمد في (م ٢ / ص ٣١٥).


وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر ، (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي واذكر وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه ، بالاعتاق وهو زيد بن حارثة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) زينب ، أي لا تطلقها وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصرها قائمة في درع وحمار بعد ما أنكحها إياه ، فوقعت في نفسه حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر. فقال : «سبحان الله مقلب القلوب» (١) وسمعت زينب بالتسبيحة ، فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أريد أن أفارق صاحبتي. فقال : ما لك أرابك منها شيء؟ فقال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا ، ولكنها تتعاظم علي بشرفها. فقال له : أمسك عليك زوجك أي لا تفارقها. (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها فلا تطلقها تعللا بتكبرها عليك بسبب النسب وعدم الكفاءة ، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي والحال أنك تخفي في نفسك ما أعلمك الله أنها ستصير من أزواجك بعد طلاق زيد ، (وَتَخْشَى النَّاسَ) وتستحي من تعيير الناس إياك بأن يقولوا : أخذ محمد زوجة ابنه (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ، أي والحال أن الله وحده أحق أن تستحي منه. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي فلما وطئها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها (زَوَّجْناكَها) أي جعلنا زينب زوجتك بلا واسطة عقد ، فدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها بغير إذن ولا تجديد عقد ، ولا تقرير صداق ، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا ، وأ ولم عليها بشاة ، وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه. وعن أنس قال : ما أولم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أحد من نسائه كما أولم على زينب. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ، أي لكيلا يكون على المؤمنين ضيق في تزوج نساء من تبنوهم إذا قضوا منهن حاجة بالدخول بهن ، ثم الطلاق وانقضاء العدة ، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة. والمعنى : زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتنبي حلال للمتبني ولو بعد الدخول بها ، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن التزوج من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن لقضاء شهوته بل لبيان الشريعة بفعله ، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) أي وكان مراد الله موجودا في الخارج لا محالة ، (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) ، أي ليس على النبي مأثم فيما رخص الله له من التزوج (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي سن الله ذلك سنة في الذين مضوا من قبل محمد ، فإن داود عليه‌السلام افتتن بامرأة أوريا ، وسليمان عليه‌السلام تزوج بلقيس ، ولقد كانت لداود عليه‌السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ، ولسليمان عليه‌السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فإن اليهود عابوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة النساء ، فرد الله عليهم بقوله : سنة الله ، أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل محمد. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨) أي وكان قضاء الله حكما مبتوتا ، والقضاء ما كان مقصودا في الأصل ، والقدر ما

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٢٦٥) ، والبغوي في شرح السنّة (٢ : ٣٢٢).


يكون تابعا له مثاله من كان يقصد مدينة ، فنزل بطريق تلك المدينة في قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول : لم جئت إلى هذه القرية؟ إني جئت إلى هذه القرية ، وإنما قصدت المدينة الفلانية ، وهذه وقعت في طريقي ، وإن كان قد جاءها ودخلها إذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء ، وما في العالم من الضرر بقدر. ثم وصف الله تعالى الذين خلوا بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ) في تبليغ الرسالة (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) أي الذين هم كانوا رسلا مثل محمد (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٣٩) ، أي كافيا للمخاوف ، فينبغي أن لا يخشى غيره ، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يكون حق الخشية منه تعالى. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ، فليس محمد أبا زيد (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) ، أي ولكن كان محمد رسولا لله والعامة على تخفيف «لكن» ، ونصب «رسول» على إضمار «كان».

وقرأ أبو عمرو وفي رواية بتشديدها على أن «رسول» اسمها ، والخبر محذوف ، أي ولكن رسول الله. هو وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع رسول على الابتداء وخبره مقدر ، أي هو ، أو بالعكس ، أو ولكن هو رسول الله. (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي وكان آخرهم الذين ختموا به. وقرأ عاصم بفتح التاء. والباقون بكسرها ، أي فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم ، بل أقوى ، فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والأب ليس كذلك ، ثم إن النبي الذي يكون بعده ، نبي إن ترك شيئا من النصيحة يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته ، وأهدى لهم إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠). ومن جملته الحكم الذي بيّنه لكم وكنتم منه في شك ، والحكمة في تزوجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزوجة من تبناه إكمال شرعه ، وذلك أن قول النبي يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة ، ألا ترى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحل أكل الضب ، ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله عندها مع أنه في بعض الملل لا يؤكل ، وكذلك الأرنب. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) بما هو أهله من التهليل ، والتحميد باللسان والقلب ، (ذِكْراً كَثِيراً) (٤١) يعمّ الأوقات والأحوال أي بالليل والنهار ، والبر والبحر ، والصحة والسقم ، في السر والعلانية عند المعصية والطاعة. (وَسَبِّحُوهُ) أي نزهوه عما لا يليق به. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢).

وهذا إشارة إلى المداومة وذلك ، لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط ، (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي فالله تعالى وملائكته يعتنون بما فيه خيركم وصلاح أمركم ، فالله يهديكم برحمته والملائكة يستغفرون لكم (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، أي يخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ، (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣) أي وكان


الله بكافة المؤمنين رحيما. (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ، أي ما يحيون به يوم لقاء الله عند الموت ، أو عند الخروج من القبور ، أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله تعالى ، تعظيما لهم. أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة ، أو تكرمة لهم. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٤٤) أي ثوابا حسنا في الجنة. وهذا ترغيب ببيان أن الأجر الذي هو المقصد الأقصى موجود بالفعل مهيّأ لهم. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من بعثت إليهم ، تشاهد أعمالهم. فالنبي بعث في الدنيا متحملا للشهادة ، ويكون في الآخرة مؤديا لما تحمله. (وَمُبَشِّراً) للمؤمنين بالجنة ، (وَنَذِيراً) (٤٥) للكافرين بالنار ، (وَداعِياً إِلَى اللهِ) أي إلى دينه ، (بِإِذْنِهِ). وهذا راجع إلى «داعيا». وذلك كما إذا قال شخص : من يطع الملك يسعد ، ومن يعصه يشقى ، فيكون مبشرا ونذيرا ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك ، وأما إذا قال : تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه فيحتاج في ذلك إلى إذنه. (وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦) يستضاء به في ظلمات الجهل ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤٧) على سائر الأمم المؤمنين في الزيادة على أجور أعمالهم قوله : (وَبَشِّرِ) عطف على مفهوم. والتقدير : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ، فاشهد وبشر. وقيل : لما نزل قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ١ ، ٢] قال المؤمنون : هنيئا لك يا رسول الله بالمغفرة ، فما لنا عند الله تعالى؟ فقال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، أبا سفيان وأصحابه. والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه ، أي لا تترك إبلاغ شيء مما أمرت ، (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي دع أذيتهم إياك إلى الله ، فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار ، أو لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار ، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في كل ما تأتي وما تذر فإنه تعالى يكفيكهم ، (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨) أي موكولا إليه الأمور في كل الأحوال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أو الكتابيات ، (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ). وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم ، أي من قبل أن تجامعوهن. (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) بالشهور أو الحيض (تَعْتَدُّونَها) أي تستوفون أنتم عددها ، (فَمَتِّعُوهُنَ) أي أعطوهن ما يتمتعن به وهو المتعة الواجبة للمفارقة في الحياة ، إذا كانت مدخولا بها ، أو غير مدخول بها ، وكانت مفوضة ولم يفرض لها شيء قبل الفراق ، (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٤٩) أي أخرجوهن من منازلكم من غير ضرار ولا منع حق. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي أعطيت مهورهن (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) ، أي مما فتح الله عليك مثل : صفية بنت حيي النضرية ، وريحانة القرظية ، وجويرية بنت الحرث الخزاعية (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) من بني عبد المطلب (وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) من بني عبد مناف بن زهرة (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، ذكر للنبي ما هو الأولى ، فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من


التي لم تؤت ، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل ، فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها ، ومن هاجرت من أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه من مكة إلى المدينة أشرف ممن لم تهاجر ، (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) وهي أم شريك بنت جابر العامرية ، وخولة بنت حكيم ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية ، وميمونة بنت الحرث (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) ، أي إن ملكته بعضها بأي عبارة كانت بلا مهر ، فتصير كالمستوفية مهرها ، (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي أن يتملك بضعها بلا مهر ، فإرادة النكاح جارية منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجرى القبول ، (خالِصَةً لَكَ) أي حال كون المرأة خصوصية لك ، أو هبة مرخصة لك فـ «خالصة» إما حال أو نعت مصدر مقدم. (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

قال الشافعي : والمعنى إن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك. وقرئ «خالصة» بالرفع على أنه مبتدأ محذوف ، أي تلك المرأة ، أو تلك الهبة رخصة لك وخصوصية لك ، لا تتجاوز المؤمنين حيث لا تحل المرأة لهم بغير مهر ولا تصح الهبة ، بل يجب مهر المثل (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) أي ما أوجبنا على المؤمنين في حق أزواجهم بأن لا يزيدوا على أربع نسوة ، ولا يتزوجوا إلّا بولي وشهود ومهر ، (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها ، كالكتابية وأن تستبرأ قبل الوطء ، (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي ضيق ، فـ «اللام» متعلق بأحللنا. والمعنى أحللنا أزواجك وما ملكت يمينك ، والموهبة لك لتكون في فسحة من الأمر ، فلا يبقى لك شغل قلب ، فينزل جبريل بالآيات على قلبك الفارغ ، وتبلغ رسالات ربك بجدك ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٠) ، فيغفر الذنوب مما يعسر التحرز عنه ، ويرحم العبيد بتوسعة الأمر في مواضع الضيق ، (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) أي تترك مضاجعتها ، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي وتضم إليك من تشاء مضاجعتها ، فالله أحل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوه المعاشرة بهن كيف يشاء ، ولا يجب عليه القسم ، فإن شاء أن يقسم قسم ، وإن شاء أن يترك القسم ترك. وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجأ منهن ، سودة ، وجويرة ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما يشاء كما شاء. وكانت مما آوى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فأرجأ خمسا ، وآوى أربعا.

وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «ترجى» بياء ساكنة. والباقون بهمزة مضمومة (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي إذا طلبت رد من كنت تركتها إلى فراشك ، فلا جناح عليك في شيء من ذلك (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) من تقريب وإرجاء ، وعزل وإيواء ، أي تفويض الأمر لي مشيئتك أقرب إلى طيب نفوسهن ، وإلى قلة


حزنهن ، وإلى رضاهن جميعا ، لأنه حكم كلهن فيه سواء ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك إن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن ، (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الرضا والسخط ، فاجتهدوا في إحسان الخواطر ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) (٥١) أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فإنه يعلم ضمائر القلوب ، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن ، فإنه حليم لا يعجل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد اختيارهن الله ورسوله ، ورضاهن بما يؤتيهن الرسول من الوصل والهجران ، والنقص والحرمان.

وقرأ أبو عمرو «لا تحل» بالفوقية ، أو لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات ، من بنات عمك ، وبنات عماتك ، وبنات خالك ، وبنات خالاتك. وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن ، (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ).

وهذا نهي عن شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة ، فينزل أحدهم عن زوجته ، ويأخذ زوجة صديقه ، ويعطيه زوجته.

روى الدار قطني عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي ، وأزيدك ، فأنزل الله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ). (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) فتحل لك ، وقد ملك مارية القبطية وولدت له إبراهيم ، ومات في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢) أي حافظا شاهدا فاحذروا مجاوزة حدوده ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، أي لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلّا حال كونكم مأذونا لكم بالدخول (إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) ، أي منتظرين نضجه. نزلت هذه الآية في قوم كانوا يدخلون في بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدوة وعشية ، فيجلسون وينتظرون وقت الطعام حتى يأكلوا ، ثم يتحدثون مع نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاغتمّ بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستحيا أن يأمرهم بالخروج ، وينهاهم عن الدخول ، فنهاهم الله عند ذلك بهذه الآيات. (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ) أي أكلتم الطعام (فَانْتَشِرُوا) ، أي فتفرقوا ولا تلبثوا ، (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي وغير مستأنسين لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له ، (إِنَّ ذلِكُمْ) أي الدخول والمكث لحديث (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله ، (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي من إخراجكم ، (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي لا يترك الأمر بخروجكم ، ولا يترك النهي عن الدخول بعير إذن ، (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم نساء النبي شيئا ينتفع به فاسألوهن من خلف ستر.

قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة رضي‌الله‌عنها ، فكره النبي ذلك ، فنزلت هذه الآية. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ) أي إن عدم الدخول بغير


إذن ، وعدم الاستئناس للحديث بعد الدخول بالإذن ، وسؤال المتاع من وراءه حجاب أطهر للخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء ، (وَقُلُوبِهِنَ) أي وأطهر للخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال ، أي فإن ذلك أنفى للريبة ، وأبعد للتهمة ، وأقوى في الحماية. (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، أي وما صحّ لكم أن تفعلوا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يكرهه ويتأذى به ، كالدخول عليه بغير إذنه ، والحديث مع أزواجه ، وما صحّ لكم أن تنكحوا أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا من بعد فراقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموت أو طلاق سواء ، أدخل بها أم لا. ونزلت هذه الآية في رجل من الصحابة قال في نفسه : إذا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكحت عائشة ، وندم هذا الرجل على ما حدّث به نفسه ، فمشى إلى مكة على رجليه ، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله ، وأعتق رقيقا فكفّر الله عنه. قيل : هذا الرجل هو طلحة بن عبيد الله. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣) أي إن إيذاء الرسول بنكاح زوجته أو غيره كان عند الله ذنبا عظيما (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٥٤) أي إن تظهروا شيئا مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم ، أو تعزموا على إيذائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو نكاح أزواجه بعده في قلوبكم فالله يجازيكم على ذلك. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) أي لا إثم على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدم الاحتجاب عن محارمهن. وهذا استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم.

روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب؟! فنزلت هذه الآية. (وَلا نِسائِهِنَ) أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن النساء المسلمات ، ويجب عليهن الاحتجاب عن النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة. (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من العبيد والإماء.

وقيل : من الإيماء خاصة. وقيل : من كان دون البلوغ من العبيد. (وَاتَّقِينَ اللهَ) في كل ما تأتين وما تذرن.

وقال الرازي : واتقين الله عند المماليك. وذلك دليل على أن التكشف لهم مشروط بالسلامة والعلم بعدم المحذور. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٥٥) فهو شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم ، فاتقوا شهادة الله ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) ، أي إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ ابن عباس وكذا أبو عمرو في رواية «وملائكته» بالرفع عطفا على محل «إن» ، واسمها عند الكوفيين ، ومبتدأ محذوف الخبر عند البصريين. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦). وهذا دليل على وجوب الصلاة والسلام عند الشافعي ، لأن الأمر للوجوب ، ولا


يجبان إلّا في الصلاة ، فيجبان في التشهد ، وهما قولنا فيه : سلام عليك أيها النبي. وقولنا : اللهم صلّ على محمد ، وإنما أمرنا الله بالصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه يكفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته تعالى لإظهار تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منا شفقة علينا ليثيبنا عليه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه تعالى ولا حاجة له إليه. (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم من رحمته (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها. (وَأَعَدَّ لَهُمْ) مع ذلك (عَذاباً مُهِيناً) (٥٧) يصيبهم في الآخرة خاصة وإذاية الله تكون بالكفر كإنكار وجوده تعالى ووصفه تعالى بما لا يليق به كقول اليهود : يد الله مغلولة ، وإن الله فقير ، وعزير ابن الله. وقول النصارى : ثالث ثلاثة ، والمسيح ابن الله ، وقول المشركين : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه ، وإذاية الرسول كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد ، وطعنهم في نكاح صفية ، وقولهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو شاعر ساحر كاهن مجنون. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بقول أو فعل (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية يستحقون بها الأذية (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) أي زورا (وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨) ، أي ذنبا ظاهرا موجبا للعقاب في الآخرة.

قيل : إن هذه الآية نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا ، ويسمونه ما لا خير فيه. وقيل : نزلت في أهل الإفك في شأن عائشة وصفوان. وقيل : في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، وكانوا لا يتعرضون إلّا للإماء ، ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر أيضا ، لأن زي الكل كان واحدا لأنهن ، يخرجن في درع وخمار ، فشكون ذلك إلى أزواجهن ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، ثم نهى الله تعالى الحرائر أن يتشبهن بالإماء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَ) أي يرخين على نحورهن وجيوبهن (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي ثيابهن التي يلتحفن بها ، (ذلِكَ) أي تغطي الأبدان (أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي أحق بأن يعرفن أنهن حرائر ، وأنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن ، لأن من تستر وجهها لا يطمع فيها أن تكشف عورتها ، (فَلا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن من جهة من يتعرض للإماء ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من التفريط (رَحِيماً) (٥٩) بعباده حيث يراعي مصالحهم (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عبد الله بن أبيّ وأصحابه عن المكر والخيانة ، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شهوة الزنا الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) بقولهم : غلب محمد وسيخرج من المدينة ، وسيؤخذ (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنأمرنك بإخراجهم من المدينة أو بقتالهم ، (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي لا يساكنون معك في المدينة وتخلو المدينة منهم بالإخراج أو بالموت (إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) أي إلّا زمانا يسيرا ، (مَلْعُونِينَ) أي مطرودين من باب الله ومن بابك ، وهو نصب على الشتم ، ويجوز عند الكسائي والفراء منصوبا بـ «أخذوا» الذي هو جواب الشرط ، وعلى الوقف ملعونين وقف كاف ، أي على غير هذا الإعراب (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي في أي مكان


وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١). وهذه الآية خبر بمعنى الأمر ، أي خذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف ، (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ، أي سن الله ذلك في الأمم الذين من قبلهم سنة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم‌السلام ، وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما وجدوا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢) ، أي هذه السنة ليست مثل الحكم الذي ينسخ ، فإن النسخ يكون في الأحكام ، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ ، (يَسْئَلُكَ النَّاسُ) أي كفار مكة واليهود (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيام القيامة ـ فإن المشركين يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء ، واليهود سألوا عنه امتحانا ـ (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا (وَما يُدْرِيكَ) أي أيّ شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا ، (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (٦٣) ، وهذا تخويف أي هي في علم الله فلا تستبطئوها ، فربما تقع عن زمان قريب (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) في الدنيا والآخرة ، (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (٦٤) أي نارا شديدة الاتقاد ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي حافظا يحفظهم من عذاب الله (وَلا نَصِيراً) (٦٥) ، يخلصهم منه ، (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وهو ظرف بـ «لا يجدون» (يَقُولُونَ) حال من ضمير «وجوههم». (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٦٦) (وَقالُوا) عطف على «يقولون» : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧) أي فصرفونا عن الدين.

وقرأ ابن عامر «ساداتنا» بألف بعد الدال ، وبالنصب بالكسرة الظاهرة ، أي إن الكافرين يقولون يوم تصرف أبدانهم في النار من جهة ، إلى جهة كلحم يشوى في النار ، أو يطبخ في القدور في الدنيا فلا تبتلي بهذا العذاب ، فيتحسرون ويندمون حيث لا تنفعهم الندامة والحسرة ، ثم يقولون : أطعنا السادة بدل طاعة الله تعالى ، وأطعنا الكبراء بدل طاعة الرسول ، وتركنا طاعة سادة السادات ، وأكبر الأكابر ، فبدلنا الخير بالشر ، ففاتنا خير الجنات ، وأعطينا شر النيران ، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون : (رَبَّنا آتِهِمْ) أي أعط الرؤساء (ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي مثلي العذاب الذي أعطيتناه ، (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٦٨) أي شديدا.

وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي لعنا عظيما. والباقون بالثاء المثلثة أي كثير العدد. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا) في إيذاء نبيكم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) بأنواع الأذية كنسبته إلى عيب في بدنه من أدرة أو برص ، وكإغراء مومسة على قذفه عليه‌السلام بنفسها بدفع مال عظيم إليها وكغير ذلك. (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أي أظهر الله براءته عليه‌السلام من قولهم.

روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى عليه‌السلام يغتسل وحده فقالوا : والله ما يمنع موسى أن


يغتسل معنا إلّا أنه آدر ، فذهب يوما يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه ، فجعل موسى يجري عقبه ويقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس فوقف الحجر فأخذ موسى ثوبه فاستتر به وضرب الحجر حتى ظهر فيه ستة جروح» (١) اه. (وَكانَ) موسى (عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩) ، أي معظما رفيع القدرة.

قال ابن عباس : كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقال الحسن : كان مجاب الدعوة. وقيل : كان محببا مقبولا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠) أي صوابا. والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب المائل عن العدل (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ).

قال ابن عباس : أي يتقبل حسناتكم ، وقال مقاتل : يزكي أعمالكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) باستقامتكم في القول والعمل ، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي (فَقَدْ فازَ) في الدارين (فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) أي نال جميع مراداته ، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ). والمراد بالأمانة : الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن من حملها أن لا يؤدينها فيلحقهن من العقاب أي فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن ، وإن عصيتن عوقبتن. قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا. وقلن ذلك خوفا وتعظيما لدين الله تعالى لا مخالفة لأمره ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت ، فحملها آدم فقال : بين أذني وعاتقي الله تعالى أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابا ، واجعل للسانك لحيين وغلافا فإذا خشيت فأغلق عليه واجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه على ما حرمت عليه. (إِنَّهُ) أي الإنسان (كانَ ظَلُوماً) أي متعبا لنفسه بحملها. وهذا الظلم ممدوح من الأنبياء (جَهُولاً) (٧٢) بعاقبته ، وإن النفس لا تطيق الدوام على حملها (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) فـ «اللام» للعاقبة متعلق بـ «حمل» ، أي حملها الإنسان وكان عاقبة حمله لها أن يعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ، (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي كان عاقبة حمله لها أن يقبل توبتهم ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للظلوم (رَحِيماً) (٧٣) على الجهول ، لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلّا الظلم العظيم الذي هو الشرك.

__________________

(١) رواه البغوي في شرح السنّة (٦ : ١٢) ، وابن كثير في التفسير (٦ : ٥٧٠) ، وكنز العمال (٣٩٣٣٩).


سورة سبأ

مكية ، أربع وخمسون آية ، ثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة ، ألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد ، والإعدام ، والإحياء ، والإماتة جميع ما وجد فيهما ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي له المنّة على أهل الجنة فيحمدونه ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١). فالحكيم هو الفاعل على وفق العلم فإن من يعلم أمرا ، ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له : حكيم. ومن يأت بأمر عجيب على سبيل الاتفاق من غير علم لا يقال له : حكيم. والخبير : هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ، فهو حكيم في الابتداء ، يخلق كما ينبغي ، وخبير بالانتهاء يعلم ما ذا يصدر من المخلوق ، وما لا يصدر ، ومصير كل أحد. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها. (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد ، والأبخرة ، والأدخنة. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢) ، أي الرحيم بإنزال الرزق وللحامدين عليه ، والغفور عند ما تعرج إليه الأرواح والأعمال ، وللمفرطين في الحمد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ أبو جهل وأصحابه ـ : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي الساعة (عالِمِ الْغَيْبِ).

قرأ نافع وابن عامر بالرفع على المدح فالوقف على «لتأتينكم» حينئذ كاف ، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالجر نعت لـ «ربي» ، أو بدل منه. وقرأ حمزة والكسائي «علام» ، بالجر والوقف حينئذ على «بلى» ، وهو كاف كالوقف على الغيب. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي لا يغيب عن الله وزن نملة حمراء صغيرة. وقرأ الكسائي بكسر الزاي (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فقوله : (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه تعالى بالأرواح ، لأنها في السماء وقوله : (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه تعالى بالأجساد ، لأن أجزاءها في الأرض ، وإذا علم الله الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) أي من مثقال ذرة (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) ، أي إلّا مكتوب في اللوح المحفوظ ، وجملة «ولا أصغر» إلى آخرها


من مبتدأ وخبر مؤكدة لنفي العزوب ، أما على قراءة الفتح في «أصغر» و «أكبر» فهو اسم «لا» ، والخبر إلّا في كتاب (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

وهذا علة لقوله تعالى : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ). (أُولئِكَ) الموصوفون بالصفات الجليلة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) فإن الرزق يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يتسبب فيه لا يأتي ، ثم إن المغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور كما في حديث البخاري : «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان والرزق الكريم جزاء العمل الصالح». (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالإبطال أي كذبوها (مُعاجِزِينَ) أي متأخرين.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم ، وبغير ألف بعد العين أي مريدين التعجيز ، أو ظانين أنهم يفوتون الله ، أو مثبطين عن الإيمان من أراده (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) ، أي من جنس سوء العذاب (أَلِيمٌ) (٥) أي شديد.

وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع صفة لـ «عذاب» والباقون بالجر صفة لـ «رجز». (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله ومن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وكعب وأضرابهما. (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (هُوَ الْحَقَ) بالنصب على أنه مفعول ثان ، (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦) الذي هو التوحيد. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أبو سفيان وأصحابه للسفلة : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) أي يحدثكم بعجب عجاب (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) أي إنكم تنشأون خلقا جديدا بعد أن تفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث تصير ترابا ، ويقصدون بذلك الرجل سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي أهو الرجل تعمد على الله كذبا ، إن كان يعتقد خلاف أخباره بأنهم يبعثون (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي إما فيه جنون إن كان لا يعتقد خلافه وهذا إما من تمام القائل أو لا أو من كلام السامع المجيب لذلك القائل. قال الله تعالى جوابا بالتردد مناديا عليهم بسوء حالهم : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨) ، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال ، ومن يسمي الهادي ضالا يكون أضل (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، أي أفعلوا ما فعلوا من المنكر فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم فذلك يدل على وحدانية الله وكمال قدرته ، وذلك دليل على الإعادة (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسفناها بقارون وأصحابه (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) ، أي قطعا (مِنَ السَّماءِ) كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستحقاقهم ذلك.

وقرأ حفص بفتح السين. والباقون بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف» ، «أو يسقط» بالياء في الثلاثة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المحيط بالناظر من جميع الجوانب (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩) ، أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب تدل على قدرة الله على إحياء الموتى ،


(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي أعطيناه لصحة توبته نوعا من الفضل على سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو ما ذكر بعد (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي رجّعي مع داود النوحة على الذنب ، (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطفا على فضلا بمعنى : وسخّرنا له الطير ، لأن إيتاءها إياه تسخيرها له وقيل : كان داود ينوح على ذنبه بترجيع وتحزن ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائدها ، والطير بأصواتها ، وقوله : (يا جِبالُ) إلخ بدل من «آتينا» بإضمار «قلنا» أو من «فضلا» بإضمار «قولنا». (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) أي جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده كيف يشاء من غير حماء بنار ولا ضرب بمطرقة. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي أمرناه بأن اعمل دروعا واسعات ، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي توسط في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها ، أو لا تصرف جميع أوقاتك إلى النسج بل مقدار ما يحصل به القوت ، وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة ، (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي لستم مخلوقين إلّا للعمل الصالح ، فأكثروا منه وقدروا في الكسب (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١) فمن يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخر له الريح عوضا عن الخيل التي عقرها الله تعالى.

وقرأ شعبة برفع «الريح» على الابتداء والخبر مجرور قبله ، لأن الريح كانت لسليمان كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد. (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك.

قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ويروح من إصطخر فيبيت ببابل. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي النحاس المذاب يعمل به ما يشاء كما يعمل بالطين ، وكان ذلك بأرض اليمن.

وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) بالسخرة من البنيان وغيرها (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بأمره تعالى ، (وَمَنْ يَزِغْ) أي يمل (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢) أي عذاب النار الوقود في الآخرة (يَعْمَلُونَ لَهُ) ، أي في أيّ وقت يشاء (ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج ، (وَتَماثِيلَ) أي صور من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. وقيل : هي صور الملائكة والأنبياء ، والعباد ، كانت تصور في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة ، ويعبدوا ربهم على مثالهم.

وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد على الكرسي بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي قصاع كالحياض الكبار. وقيل : كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل.

وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف. وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا. والباقون بالحذف وقفا ووصلا. (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها


لعظمها ، وكان يصعد عليها بالسلالم ، وكانت باليمن (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فـ «آل» منادى ، و «شكرا» مفعول به.

وروي أن سليمان عليه‌السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ، (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ) أي سليمان (الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ) أي آله (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) ـ وهي الأرضة ـ (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه (فَلَمَّا خَرَّ) أي وقع سليمان على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي علمت الجن علما بيّنا (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) ، أي أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كموت سليمان ، ما لبثوا في العذاب المهين وحينئذ يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، بل كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب.

وقال سليمان لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني. فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة ، فدعا الشياطين ، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض الله روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، وكان للمحراب كوي بين يديه وخلفه ، فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته ، وينظرون إلى سليمان عليه‌السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه ، فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخرّ ميتا ، فعلموا بموته حينئذ ، فشكروا ذلك للأرضة ، فأينما كانت يأتونها بالماء والطين وقالوا لها : لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما.

وحكي أن سليمان عليه‌السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه ، وكان عمره سبعا وستين سنة ، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان ملكه خمسين سنة ، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ، ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء ، وقال : اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان ، وقوّيتني على بناء هذا المسجد ، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلّا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلّا أمنته ، ولا سقيم إلّا شفيته ، ولا فقيرا إلّا أغنيته ، والخامسة : أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا أو ظلما يا رب العالمين. (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) أي علامة دالة على قدرتنا.

وقرأ حمزة وحفص بسكون السين ، وفتح الكاف ، والكسائي بكسرها. والباقون «مساكنهم» بلفظ الجمع ، أي عند مواضع سكناهم ـ وهي باليمن يقال لها : مأرب ، بينها وبين


صنعاء مسيرة ثلاثة أيام آية ـ دالة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء. (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات ، وكان سبأ ثلاث عشرة قرية ، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا ، فقال لهم الأنبياء : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) من الثمار ونحوها ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) بالتوحيد ليديم لكم النعمة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) ، أي بلدتكم بلدة طاهرة عن المؤذيات ، لا حية فيها ، ولا عقرب ، ولا وباء ، ولا وخم. وربكم الذي رزقكم الطيبات وطلب منكم الشكر ، رب غفور لفرطات ممن يشكره. (فَأَعْرَضُوا) عن الإيمان ولم يشكروا.

قال وهب : أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعم الله عليهم ، وأنذروهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة ، فقولوا لربكم : فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي سلّطنا عليهم سيل الوادي ـ والعرم : واد في اليمن يقال له ، وادي الشجر ، وكان فيه مسناة يحسبون الماء في الوادي ، وكان لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض ، فكانوا يسقون من الأعلى ، ثم من الثاني ، ثم من الثالث على قدر حاجاتهم ، فأخصبوا ، وكثرت أموالهم ـ فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأرة فنقبت الردم ، فهدم الله تلك المسناة وأهلكهم بذلك الماء ، وأهلك ما كان لهم من البساتين والبيوت وغير ذلك. (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي أذهبنا جنتيهم ، وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ثمر بشع.

وقرأ أبو عمرو «أكل» بغير تنوين ، أي ثمر أراك (وَأَثْلٍ) أي طرفاء ، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦) أي قليل ثمره كثير شوكه ، له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا ، ولا ينتفع بورقه في غسل اليد ، وهو سدر بري ، وهذان معطوفان على «أكل» لا على «خمط». وقرئ «وأثلا وشيئا» عطفا على «جنتين». (ذلِكَ) أي التبديل (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) ، أي وما نجازي هذا الجزاء إلّا المبالغ في الكفران.

وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنون العظمة. والباقون بالياء على البناء للمفعول «الكفور». وقرئ على البناء للفاعل ـ وهو الله تعالى ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالماء والشجر (قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين أهل سبأ ـ وهم باليمن ـ وبين أهل الأردن وفلسطين ـ وهم بالشام ـ قرى يرى بعضها من بعض لتقاربها ، يرى سواد القرية من القرية الأخرى. قيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير بين قراهم والشام سيرا مقدرا من قرية إلى قرية ، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار ، فلا يحتاجون في السفر إلى حمل زاد وماء وقلنا لهم : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨) وهو أمر بمعنى الخبر ، أي تسيرون في تلك القرى إن شئتم


ليالي ، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوّفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرها ، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان غير مجاهر بالقصد والعداوة.

قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ، ولا جائعين ، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه ، (فَقالُوا) على وجه الدعاء : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة ، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل ، ويتزودوا الأزواد ، ويتطاولوا فيها على الفقراء ، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة ، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة ، وتركوا شكر تلك النعم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) بمن بعدهم ، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ، ومعتبرين بعاقبتهم ، ويضربون مثلا فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ ـ والأيدي : بمعنى الأنفس أو الأولاد ـ (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم كل تفريق ، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة ، والأوس والخزرج بيثرب. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التمزيق والإهلاك (لَآياتٍ) أي لعبرات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات ، (شَكُورٍ) (١٩) على النعم (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم ، أو في أنه خير منهم ، فالمتبوع خير من التابع ، فإبليس امتنع من عبادة غير الله ، والمشركون يعبدون غير الله ، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد ، والمشركون كفروا بالإشراك.

وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه ، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس» ، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى : وجد ظنه صادقا ، ومع التخفيف بمعنى : قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) أي إلا فريقا هم المؤمنون ، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما ، (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح ، وكانوا يعبدون الجن ، ويظنون أنهم الملائكة : ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي


الْأَرْضِ) أي لا يملك آلهتهم وزن ذرة من نفع وضر في أمر من الأمور ، (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي وما لآلهتهم في السموات والأرض من شركة مع الله لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا ، (وَما لَهُ) تعالى (مِنْهُمْ) أي من آلهتهم (مِنْ ظَهِيرٍ) (٢٢) ، أي معين في تدبير أمرهما ، وفي خلق شيء بل الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد ، فهو الذي يجب أن يكون معبودا ، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تقع الشفاعة عنده تعالى في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن الله له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن له» مبنيا للمجهول (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، أي حتى إذا أزيل الفزع الذي عند الوحي أي حين انحدر عليهم جبريل فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات ، ثم يزيل الله عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم ، فحتى غاية متعلقة بقوله تعالى قل : (قالُوا) أي الملائكة السائلون من جبريل : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) يا جبريل؟ (قالُوا) أي جبريل ومن تبعه : (الْحَقَ) أي قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. وقرئ «الحق» بالرفع أي ما قاله الحق ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣) أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه (قُلْ) يا أشرف الخلق لكفار مكة : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات؟ (قُلِ اللهُ) أي فإن أجابوك وقالوا : الله ، فذلك ظاهر ، وإن لم يقولوا ذلك فقل : الله يرزق إذ لا جواب سواه. وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى ، ومنه تعالى فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضررا أو لم يدفع ، وسواء نفعكم بخير ، أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) أي وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق بالعبادة ، والذين يشركون به في العبادة الجماد الذي لا يوصف بالقدرة لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين ، واختلاف الجارين للإعلام بأن المهتدي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء والضال ، كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا. (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أي أذنبنا (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) في كفركم لأنا بريئون منكم. وهذا أبعد من الجدل ، وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ) أي يحكم (بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي بالعدل بأن يدخل المحقّين الجنة والمبطلين النار ، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي البليغ الفتح لما انغلق ، (الْعَلِيمُ) (٢٦) بما ينبغي أن يحكم به. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ) تعالى (شُرَكاءَ) ، لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله في استحقاق العبادة هل يخلقون أو يرزقون؟ (كَلَّا) أي حقا لم يخلقوا شيئا ، ولم يرزقوا بشيء أو لا تشركوا بالله شيئا ، (بَلْ هُوَ) أي الله الذي ألحقتم به شركاء (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) أي الله الموصوف بالغلبة القاهرة وبالحكمة الباهرة ، فأين شركاؤهم التي هي


أخس الأشياء؟ (وَما أَرْسَلْناكَ) يا أشرف الخلق (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي عامة لجميع الناس تكف الناس عن الكفر ، (بَشِيراً) بالجنة لمن آمن بالله ، (وَنَذِيراً) من النار لمن كفر به ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨) عموم رسالته وكونه بشيرا ، وكونه نذيرا لغفلتهم لا لخفاء ذلك ، (وَيَقُولُونَ) بطريق الاستهزاء : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا أن يجمع بيننا ثم يقضي بيننا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٩)؟ مخاطبين لرسول الله والمؤمنين به. (قُلْ) لهم يا أكرم الرسل : (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) أي وعد يوم (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً) إن طلبتم التأخير عنه (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠) أي إن طلبتم الاستعجال والإضافة في ميعاد يوم للتبيين.

وقرئ «ميعاد يوم» برفع الاسمين مع التنوين على البدل. وقرئ برفع «ميعاد» ، ونصب «يوم» مع التنوين فيهما أي أعني يوما ، وذلك يفيد التعظيم والتهويل. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أبو جهل بن هشام وأصحابه : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) الذي يقرؤه علينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولا بالذي قبل القرآن من التوراة والإنجيل ، والزبور ، وسائر الكتب الدالة على البعث. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى إذ المنكرون للبعث محبوسون في موقف المحاسبة ، راجعا بعضهم القول إلى بعض لرأيت أمرا عجيبا ، ثم فسر قوله تعالى : (يَرْجِعُ) إلخ بقوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي قهروا وهم السفلة ، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا عن الإيمان وهم القادة : (لَوْ لا أَنْتُمْ) مضلون إيانا وصادون إيانا عن الإيمان (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣١) باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) لرؤوسائهم (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣٢). أي بل أنتم الصادون بأنفسكم بسبب كونكم راسخين في الإجرام. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) إبطالا لإنكارهم الصد : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) قبل إتيان الرسل ، (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي أعدالا ، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفى كل من الفريقين الندامة عن الآخر مخافة التعبير. ويقال : أظهر القادة والسفلة الندامة على ترك الإيمان بالله (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين رأوه ، (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الأتباع والمتبوعين جميعا (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)؟ أي لا يجزون إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أغنياؤها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤) أي جاحدون. (وَقالُوا) للرسل : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) منكم بسبب لزومنا لديننا ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥) في الآخرة بديننا هذا ، كأنهم قالوا : حالنا عاجلا خير من حالكم ، ولا نعذب آجلا. قالوا ذلك إنكارا منهم للعذاب بالكلية ، أو اعتقادا لحسن حالهم أيضا ، قياسا على حالهم في الدنيا. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسط له (وَيَقْدِرُ) أي يقتر على من يشاء ، فسعة


الرزق لا تدل عن حال المحق ، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل ، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى ، وعلّم أولاده الخير ، وربّاهم على الصلاح (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) في الحسنات (بِما عَمِلُوا) من الصالحات ، (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي غرفات الجنة (آمِنُونَ) (٣٧) من جميع المكاره.

وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) أي يكذبونها (مُعاجِزِينَ) أي متأخرين عنها ، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا ، (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨) أي يخرجون منه ، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله ، (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة ، وفي الآخرة بالحسنات (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣٩) أي الواهبين للرزق ، وأفضل المعوضين. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي بني مليح والملائكة (جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) إهانة لهؤلاء الكفار ـ وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء ـ : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠) بأمركم؟ (قالُوا) أي الملائكة متبرئين منهم : (سُبْحانَكَ) أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا ، ومعبود كل خلق (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة (مِنْ دُونِهِمْ) أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا.

وقال الرازي : معنى «أنت ولينا من دونهم» ، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا ، (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين ، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين ، وكنا نحن كالقبلة لهم (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) ، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام ، وأما إذا قلنا : إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب ، أو على من في جميع الوجود ، (فَالْيَوْمَ) أي يوم الحشر (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي لا يقدر المعبودون ـ وهم الملائكة ـ على نفع العابدين ـ وهم الكفار ـ بالثواب ولا على دفع ضررهم ، (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وهذا معطوف على قوله تعالى : (يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) أي ونقول : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها) أي بالنار (تُكَذِّبُونَ) (٤٢) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتُنا) الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك (بَيِّناتٍ) ، أي واضحات (قالُوا ما هذا) أي التالي (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) من الآلهة (وَقالُوا ما هذا) أي القول بالوحدانية (إِلَّا إِفْكٌ) أي كلام مصروف عن وجهه ،


(مُفْتَرىً) بإسناده إلى الله تعالى ، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) من غير تأمل فيه (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ) أي خيال (مُبِينٌ) (٤٣) ، أي ظاهر سحريته.

قال الرازي : وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات ، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين ، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى : وقالوا للحق (وَما آتَيْناهُمْ) أي ما أعطينا كفار مكة (مِنْ كُتُبٍ) دالة على صحة الإشراك (يَدْرُسُونَها) أي يقرءونها (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٤٤) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الأمم المتقدمة (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر ، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥) أي تغييري عليهم بالتدمير ، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال : وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، وكتابه أكمل من سائر الكتب ، وأوضح ، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل ، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. (قُلْ) يا أكرم الرسل لكفار مكة : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) فقوله تعالى : (أَنْ تَقُومُوا) بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون ، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه ، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول : هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا ، وقد علمتم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا ، وأوزنهم حلما ، وأحدّهم ذهنا ، وأرضاهم رأيا ، وأصدقهم قولا ، وأزكاهم نفسا ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية ، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به ، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) نفي مستأنف ، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون ، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في ، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم ، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا» ، أي شيء بمحمد من آثار الجنون ، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا». (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة ، إن لم تؤمنوا به. (قُلْ) لهم يا أشرف الخلق : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ


أَجْرٍ) أي أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة (فَهُوَ لَكُمْ). والمراد نفي السؤال بالكلية أي لا أسألكم على إنذاركم أجرا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فلا أطلب شيئا إلا عنده تعالى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤٧) يعلم صدقي وخلوص نيتي. (قُلْ) لمن أنكر التوحيد والرسالة : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي يلقيه في قلوب المحقين فإن الأمر بيده تعالى أو يقذف بالحق على الباطل فهو إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٤٨) أي ما غاب في السموات والأرض عن خلقه و (قُلْ) لهؤلاء : (جاءَ الْحَقُ) أي ظهر الإسلام (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٤٩) ، أي يزهق الشرك بحيث لم يبق له إبداء ولا إعادة فـ «ما» نافية ، وهذا جعل مثلا في الهلاك بالمرة. (قُلْ) للكفار الذين قالوا لك يا محمد ، تركت دين آبائك فضللت : (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي ضلالي على نفسي كضلالكم ، وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المبين. (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠) يسمع قول كل من المهتدي والضال ، وفعله ، وإن بالغ في إخفائهما ، (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي ولو ترى حالهم وقت فزعهم بخسف البيداء لرأيت أمرا هائلا.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة في آخر الزمان ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم الأرض وماتوا. (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوت منهم أحد (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥١) أي من تحت أقدامهم وخسف بهم الأرض ، (وَقالُوا) عند ما خسف بهم الأرض : (آمَنَّا بِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) ، أي ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٢). أي بعد الموت فلا يكون الإيمان إلا في الدنيا وهم في الآخرة ، فالدنيا من الآخرة بعيد (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) أي بمحمد أو بالعذاب الذي أنذرهم إياه (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل نزول العذاب ، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٣) أي ويقولون ما لا يعلمون من وهمهم الفاسد ، وظنهم الخاطئ فإنهم قالوا في حق النبي ساحر شاعر كاهن ، وفي حق القرآن سحر شعر كهانة. ويقال : أي يسألون الرجعة إلى الدنيا بعد الموت. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من العود إلى الدنيا أو من لذات الدنيا ، (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) أي بأشباههم في الكفر (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم من الكفار فكل من جاءه الملك طلب التأخير ، ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل الإيمان منهم (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤) أي ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار.


سورة فاطر

وتسمى سورة الملائكة أيضا ، مكية ، خمس وأربعون آية

مائة وسبع وتسعون كلمة ، ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما من غير مثال سبق ، (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وبين أنبيائه ، والصالحين من عباده ، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة ، أو بينه تعالى وبين خلقه حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه ـ وهم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل وملك الموت والرعد والحفظة ـ (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد ، فمنهم من له جناحان يطير بهما ومن له ثلاثة أجنحة ، ومن له أربعة أجنحة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ) ، أي خلق الملائكة (ما يَشاءُ).

ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان منها يلفون بهما أجسادهم وجناحان منها للطيران يطيرون بهما فيما أمروا به من جهته تعالى ، وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الزيادة والنقصان (قَدِيرٌ) (١) (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي أيّ شيء يرسل الله للناس من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة ، وأمن وعلم ، وحكمة إلى غير ذلك ، فلا أحد يقدر على إمساكها (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) ، أي أيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) أي كامل القدرة في الإرسال والإمساك ، وكامل العلم في ذلك. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي إنعام الله عليكم بنعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) أي هل خالق مغاير له تعالى موجود.

وقرأ حمزة والكسائي بجر «غير» نعت لـ «خالق» على اللفظ (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر وغيره ، (وَالْأَرْضِ) بالنبات وغيره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو الخالق الرازق (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣) أي فمن أين تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟ فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت ، وبأي سبب تعبدون غيره تعالى ، فإنه لا يقدر على خلق ولا على رزق ولا على غيرهما. (وَإِنْ


يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي وإن استمروا على أن يكذبوك يا أشرف الخلق فيما بلغت إليهم من التوحيد والبعث ، والحساب والجزاء وغير ذلك بعد ما أقمت عليهم الحجة فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤) في الآخرة ، فيجازي المكذبين والصابرين. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي يا أهل مكة إن وعد الله بالبعث بعد الموت والجزاء ثابت من غير خلف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ، ويلهيكم التلهي بزخارفها عن الطاعة لله وعن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) بفتح الغين ، أي ولا يغرنكم سبب حلم الله وإمهاله المبالغ في الغرور ـ وهو الشيطان ـ بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا : اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا ، فتعاطي الذنوب بهذا التمني مثل تناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عظيم ، فإن عداوته عداوة قديمة لا تكاد تزول ، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم ، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم ، فإذا فعلتم فعلا فتنبهوا له ، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه في الضلال (لِيَكُونُوا) أي تلك الأتباع (مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) ، أي النار الموقدة (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا بفوات مطلوبهم ، وفي الآخرة بالسعير. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي ستر لذنوبهم في الدنيا (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) في الآخرة. (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أبعد كون حالي الفريقين ـ كما ذكر ـ يكون من زين الكفر له الشيطان ، ونفسه الأمارة ، وهواه القبيح فرآه صوابا فانهمك فيه كمن عرف الحق فاختار الإيمان أو العمل الصالح؟! نزلت هذه الآية في أبي جهل ومشركي مكة ، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أن يضله لاستحبابه الضلال ، وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لكثرة التحزن.

وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، والأشهب بضم التاء وكسر اللام مسند الضمير المخاطب «نفسك» مفعول به (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) من القبائح فيجازيهم عليه (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ).

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» بالتوحيد ، أي أوجدها من العدم فهبوبها دليل ظاهر على الفاعل المختار ، وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك ، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين ، وقد يتحرك إلى الشمال ، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب ، وقد لا ينشئ ، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبر ومؤثر مقدر ، (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي فتحركه وترفعه (فَسُقْناهُ) أي السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى مكان لا نبات فيه.

وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بماء السحاب (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها ، وأسند الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق والإحياء إلى المتكلم ،


لأن في الأول تعريفا بالفعل العجيب وهو الإرسال والإثارة ، وفي الثاني تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) ، أي إحياء الأموات في سهولة الحصول ، فإن الأرض الميتة لما قبلت الحياة ، اللائقة بها كذلك الأعضاء الميتة تقبل الحياة ، وكما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت ، وكما أنا نجمع القطع السحابية بالريح كذلك نجمع أجزاء الأعضاء المتفرقة بالروح. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يريد يد العزة فليطلبها من عند الله بطاعته ، لأنه لا عزة إلّا لله ، فإن المشركين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام ، ومن اعتز بالعبيد أذله الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الذي يطلب به العزة وهي كلمة : «لا إله إلّا الله» ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) والضمير المستكن عائد لـ «الكلم» فإن مدار قبول العمل هو التوحيد ، ويؤيده القراءة بنصب «العمل» أو عائد لـ «العمل» فإنه لا يقوى الإيمان بلا عمل ، فإذا رجع الضمير البارز للعمل كانت الضمير المستكن عائدا لـ «الكلم» كما تقدم أو لله تعالى. (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يكسبون أصناف المكرات السيئات لهم عذاب شديد ، (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠) أي صنع أولئك هو يفسد ويهلك.

قيل : هي مكرات قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة في إحدى ثلاث : حبسه ، وقتله ، وإخراجه من مكة.

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أهل الربا. وقال مقاتل : في أهل الشرك بالله. وقال الكلبي : المعنى يعملون السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وهو إشارة إلى بقاء العمل الصالح. وقوله : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) إشارة إلى فناء العمل السيئ. (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ، فكل أولاد آدم من تراب ومن نطفة ، لأن كلهم من نطفة ، والنطفة من غذاء ، والغذاء ينتهي إلى الماء والتراب (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) في وقته ونوعه وغير ذلك. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ، أي وما يمد في عمر أحد (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي عمر أحد (إِلَّا فِي كِتابٍ) ، أي لوح محفوظ.

وعن سعيد : يكتب عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب أسفل ذلك ، ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي إلى آخره. وقيل : إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع ، وتسعين إن عصى ، فأيهما بلغ فهو كتاب والله تعالى بيّن كمال قدرته بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وكمال علمه بقوله تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق وما في البطن بعده لا يعلم أحد حاله كيف ، والأم الحامل لا تعلم منه شيئا ، ونفوذ إرادته بقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فبين الله إنه هو القادر العالم ، المريد ، والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق واحد منها العبادة؟! (إِنَّ ذلِكَ) أي الخلق من تراب وكتابة الآجال (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١) لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث ، (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا


عَذْبٌ) أي لذيذ (فُراتٌ) أي يكسر العطش (سائِغٌ شَرابُهُ) أي يسهل انحداره إلى الخلق (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مر زعاق لا يستطيع شربه (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي سمكا شهي المطعم ، (وَتَسْتَخْرِجُونَ) من الملح خاصة (حِلْيَةً) ، أي زينة وهي اللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها). وقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته ، وهو دليل آخر على القدرة والوحدانية (وَتَرَى الْفُلْكَ) أي وترى السفن أيها الناس (فِيهِ) أي في كل منهما (مَواخِرَ) ، أي شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة وغيرها واللام متعلقة بمواخر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) ، أي ولتشكروا الله على نعمه ، (يُولِجُ اللَّيْلَ) أي يدخل زيادته (فِي النَّهارِ) فيكون النهار أطول من الليل بقدر نقصانه ، (وَيُولِجُ النَّهارَ) أي يدخل زيادته (فِي اللَّيْلِ) فيكون الليل أطول من النهار بقدر نقصانه ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم ، (كُلٌ) منهما (يَجْرِي) في فلكه (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة ، ومدة الجريان للشمس سنة ، وللقمر شهر. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي فعل هذه الأفعال هو الله الموجد لكم من العدم ، المربي بجميع النعم. (لَهُ الْمُلْكُ) كله ، وهو مالك كل شيء. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون (مِنْ دُونِهِ) تعالى ـ وهم الأصنام ـ (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣) أي لا يقدرون أن يفعلوا من ذلك قدر الشيء الذي تعلق به النواة مع القمع ، وقيل : القطمير هو القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة. وهذا استدلال على تفرده تعالى بالألوهية. (إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي المعبودات من غير الله (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ، لأنها جمادات (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل التقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي ما أجابوكم بجلب نفع ودفع ضرر لعجزهم عن الأفعال بالمرة ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي حين ينطقهم الله ينكرون عبادتكم إياهم بقولهم : ما كنتم إيانا تعبدون. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤) أي ولا يخبرك أيها السامع أحد مثلي ، لأني عالم بالأشياء وغيري لا يعلمها. (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) أي إلى مغفرته ورحمته ورزقه في الدنيا ، وإلى جنته في الآخرة. وهذا يوجب عبادته (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥) أي والله مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء يقضي في الدنيا حوائجكم ، وإن آمنتم به يقضي في الآخرة حوائجكم فهو المستوجب للحمد. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم يا أهل مكة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦) أي بقوم آخرين مستمرين على الطاعة ، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه ، (وَما ذلِكَ) أي الإذهاب بهم والإتيان بآخرين (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) أي بمتعسر (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل إنما تحمل كل منهما إثمها ، (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حمل بعض ذنوبها لم تجب تلك النفس المدعوة بحمل شيء من تلك الأوزار ، ويروى عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء الفوقية وكسر الميم


شيئا ، أي لا تحمل تلك النفس المدعوة شيئا من الوزر ، (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.

قال ابن عباس : يلقى الأب والأم الابن فيقولان له : يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا. فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إنما ينفع إنذارك يا أشرف الرسل بهذه الإنذارات الذين يخشون عذاب ربهم وهو غائب عنهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي راعوها كما ينبغي (وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهر من المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي فتطهره لنفسه إذ نفعه لها كما أن من تدنس بالأوزار لا يتدنس إلا على نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨) فالمتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا ، فهي تظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء ، كما إن الوازر إن لم تظهره تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة ، إذ المرجع إلى الله (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩) ، أي الكافر والمؤمن (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٢٠) أي ولا الباطل والحق ، (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢١) أي ولا الثواب والعقاب ، (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوي المؤمنون والكفار ، أو العلماء والجهلة ، (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن الله يفهم من يشاء ممن كان أهلا لفهم آياته تعالى. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢) أي وما أنت يا أشرف الخلق بمفهم من هو مثل الميت في القبور ، شبه الله الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) أي ما أنت إلّا رسول منذر وليس لك من الهدى شيء ، (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي إرسالا مصحوبا بالحق (بَشِيراً وَنَذِيراً) ، ويجوز أن يتعلق بالحق بما بعده ، أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق ، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤) أي ما من أمة إلّا مضى فيها نبي أو عالم ينذرهم ، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي وإن يكذبك أهل مكة فلا تبال بتكذيبهم ، لأنه قد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية رسلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم ، (وَبِالزُّبُرِ) أي بخبر الأولين كصحف إبراهيم ، (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥) أي الموضح لطريق الخير والشر كالتوراة والإنجيل والزبور ، (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالكتب والرسل بأنواع العذاب ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦) أي إنكاري بالعقوبة ، (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم أيها المخاطب (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ) ، أي بذلك الماء (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها ، (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) أي طرائق تخالف لون الجبل (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) ، فـ «مختلف» صفة لـ «جدد» أيضا و «ألوانها» فاعل.

وقال الرازي : الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها ، وحمر مختلف ألوانها ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص ، وقد يكون على لون التراب الأبيض ، وكذلك الأحمر ، (وَغَرابِيبُ) أي شديدة السواد (سُودٌ) (٢٧) وهو بدل من غرابيب (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ، أي ألوان ذلك البعض (كَذلِكَ) ، أي اختلافا كائنا


كاختلاف الثمار والجبال ، (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالخشية بقدر معرفته المخشي والعالم يعرف الله ، فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد. ومعنى الآية في قراءة من قرأ بنصب «العلماء» ، ورفع اسم الجلالة إنما يعظم الله العلماء. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨) فكونه تعالى عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام ، وكونه تعالى غفورا للتائب عن العصيان يوجب الرجاء البالغ. (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يداومون على قراءة القرآن ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) كيفما اتفق من غير قصد إليهما (يَرْجُونَ تِجارَةً) أي تحصيل ثواب الطاعة (لَنْ تَبُورَ) (٢٩) ، أي لن تهلك بالخسران أصلا. وقوله تعالى : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) حث على الإنفاق كيفما يتهيأ ، فإن تهيأ سرا فذاك وإلّا فعلانية ، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه : إنه مراء ، هو عين الرياء. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلق بـ «لن تبور» ، أي تنفق التجارة عند الله ليوفيهم الله أجور أعمالهم ما يرجونه (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل ، (إِنَّهُ غَفُورٌ) عند إعطاء الأجور ، (شَكُورٌ) (٣٠) عند إعطاء الزيادة (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) ، أي هو القرآن (هُوَ الْحَقُ) أي الصدق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أي مصدقا لما قبله من الكتب السماوية فيوافقه في العقائد وأصول الأحكام (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) ، أي عالم بالبواطن (بَصِيرٌ) (٣١) ، أي عالم بالظواهر فلا يكون الكتاب باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، أي ثم أعطينا القرآن أمتك الذين اخترناهم على سائر الأمم ، (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي راجع سيئاته (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي تساوت سيئاته وحسناته ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو الذي ترجحت حسناته (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتوفيق الله وهو متعلق بسابق (ذلِكَ) أي السبق بالخيرات ، (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢) من الله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) خبر لـ «جنات» ، أي هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن ، ومن دخلها لم يخرج منها.

وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون على سبيل التزين في الجنة (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) فـ «من» الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين. (وَلُؤْلُؤاً) قرأه عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور. والباقون بالجر عطفا على ذهب. (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي الجنة (حَرِيرٌ) (٣٣) وإكثار الزينة يدل على الغنى ، فلا يعجر عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة ، ويدل على الفراغ. (وَقالُوا) أي ويقول أهل الجنة في الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي كل حزن بحصول كل مطلوبه (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) للمذنبين (شَكُورٌ) (٣٤) للمطيعين (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا (مِنْ فَضْلِهِ) من غير أن يوجبه شيء من جهتنا (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب ، (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) أي فتورنا شيء عن التعب ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليه بموت ثان ، (فَيَمُوتُوا)


أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ، أي جهنم طرفة عين (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء ، (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٣٦). وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول ، و «كل» بالرفع. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي يصيحون في جهنم بقولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) منها (نَعْمَلْ صالِحاً) أي خالصا في الإيمان (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ ، وهو ستون سنة ـ كما قاله ابن عباس ـ أو أربعون سنة ـ كما قاله الحسن ـ (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي رسول من الله تعالى أو عقل ، أو شيب ، أو حمى ، أو موت الأقارب ، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد : أي رسول كان ، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى (فَذُوقُوا) ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله ، (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل ، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي عقوبة كفره ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) (٣٩) ، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار ، فإن العمر كرأس المال ، فمن اشترى به رضا الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ). وجملة قوله : (أَرُونِي) بدل اشتمال من «أرأيتم» ، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله ، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض ، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ).

وقرأ أبو عمرو وحمزة ، وابن كثير ، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع ، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) (٤٠) ، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة ، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا. (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما ، (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه


تعالى ، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم (غَفُوراً) (٤١) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب (وَأَقْسَمُوا) أي كفار مكة (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا ، وأشرفهم نسبا ، وأكرمهم خلقا (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤٢) ، أي تباعدا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا». (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) وهو معطوف على «نفورا» ، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار ، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم ، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأنه سنة من سنن الله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره ، فبهذا يتم تهديد المسيء. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي اقعدوا في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا) أي من قبلهم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم ، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم ، وشدة اقتدارهم ، وعملهم كان دون عملهم ، لأنهم لم يكذبوا محمدا ، ولا مثل محمد ، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى ، وما دفع عنهم شدة القوى (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله ، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بأفعالهم وأقوالهم (قَدِيراً) (٤٤) على إهلاكهم واستئصالهم (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من السيئات كما فعل بأولئك الأولين (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي على وجه الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) أي من ذوى روح تدب عليها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى ، فللعذاب أجل ، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم ، فإن الإنسان ظلوم جهول ، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم ، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥) ، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة ، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر ، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم ، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين ، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد ، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.


سورة يس

وتسمى أيضا : القلب ، والدافعة ، والقاضية ، والمعممة. مكية ، ثلاث

وثمانون آية ، سبعمائة وتسع وعشرون كلمة ، وثلاثة آلاف حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يس) (١) أي وهذه يس ، أو اقرأ يس ، (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) أي المتضمن للحكمة. اعلم أن العبادة قلبية ولسانية وجارحية ، وكل واحدة منها قسمان قسم علم معناه ، وقسم لم يعلم. أما القلبية : فمنها ما لم يعلم دليله عقلا ، وإنما وجب الإيمان به كالصراط الذي هو أرق من الشعرة ، وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر ، وكيفيات الجنة والنار ، لأن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ، ووقوعها مقطوع به بالسمع ، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم ، كمقادير النصب وعدد الركعات فالعبد. إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان به إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي للفائدة فقط ، وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من هاهنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال : انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها ، وإن لم يؤمن ، فكذلك العبادات اللسانية ، فمنها ما لا يفهم معناه فإذا تكلم به العبد علم أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي ، فإذا قال : يس ، حم ، الم ، طس ، علم الله أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل هو يتلفظ به إقامة لما أمر به (إِنَّكَ) يا أشرف الخلق (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) أي ثابت على شريعة شريفة ، فإن شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوم الشرائع ، وقوله : (عَلى صِراطٍ) خبر ثان لـ «إن». (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥).

وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة والكسائي بالنصب على الحال أو على المدح بإضمار أعني أي حال كون القرآن تنزيل المانع عن أشياء المطلق لأشياء ، أو المنتقم لمن لا يؤمن ، الرحيم لمن آمن. والباقون بالرفع أي هذا تكليم العزيز. وقرئ بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه تعالى قال : والقرآن الحكيم ، تنزيل العزيز الرحيم ، إنك لمن المرسلين ، (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ


آباؤُهُمْ) أي لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فـ «ما» نافية ، والجملة صفة لـ «قوما» ويصح كونها موصولة أي الذين أنذر آباؤهم الأقدمون ويصح كونها مصدرية فيكون نعتا لمصدر مؤكد ، أي لتنذر قوما إنذارا كائنا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب (فَهُمْ) أي القوم وآباؤهم الأقربون (غافِلُونَ) (٦) عن أمر الآخرة ، جاحدون بها ، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) ، أي لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثر أهل مكة أبي جهل وأصحابه ، (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) أي في علم الله وقتلوا يوم بدر على الكفر (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم ، له (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨) ، أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ، أي وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سدا عظيما ، ومن ورائهم كذلك (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) أي فغطينا بهذين السدين أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا ، وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء ، وهو تمثيل حالهم بحال من غلت أعناقهم ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فلا يبصرون الحق لمكان السد ، ولا ينقادون لك لمكان الغل. وقيل : نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزومين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر ، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرا ليرميه ، فلما أومأ إليه رجفت يداه إلى عنقه ، والتصق الحجر بيده إلى عنقه ، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى قال الوليد بن المغيرة ، أنا أرضخ رأسه فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر ، فأعمى الله بصره ، فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال : والله ما رأيته ولقد سمعت صوته! فقال الرجل الثالث : والله لأشدخن رأسه ، ثم أخذ الحجر وانطلق ، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه ، فقيل له : ما شأنك؟ قال : شأني عظيم رأيت الرجل ، فلما دنوت منه فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلا أعظم منه ، حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة وهو في الصلاة فها هم مغلولون من كل خير ، محرومون ، (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وجعلنا من أمامهم سترا حيث أرادوا أن يرجموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة وهو في الصلاة ، فلم يبصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خلفهم سدا حتى لا يبصروا أصحابه ، فغطينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤذوه.


وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص «سدا» بفتح السين. والباقون بالضم في الموضعين. (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي مستو عند بني مخزوم ، أبي جهل وأصحابه إنذارك بالقرآن إياهم وعدمه. وأما الإنذار بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو سبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته ، آجلا (لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) في علم الله (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي إنما ينفع إنذارك يا سيد الرسل من آمن بالقرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خاف عقابه ، وهو تعالى غائب عنه ، أي عمل صالحا ، فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية ، فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر ، فالخوف منه أتم أن يقطع عنه النعم المتواترة ، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) عظيمة (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) أي ثواب حسن في الجنة فالغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل الصالح ، (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي نبعثهم بعد مماتهم.

وعن الحسن : إنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان (وَنَكْتُبُ) في صحف الملائكة (ما قَدَّمُوا) أي ما أسلفوا من الأعمال ، صالحة كانت أو فاسدة (وَآثارَهُمْ) أي التي أبقوها من السنن الحسنة كالكتب المصنفة ، والقناطر المبنية والحبائس التي وقفوها من المساجد والرباطات ، ومن السنن السيئة كوظيفة وظفها بعض الظّلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم ، وآلات الملاهي ، وأدوات المناهي المعمولة الباقية (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢) أي كتبناه في أصل مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون ، وهو اللوح المحفوظ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي بين لأهل مكة صفة أهل أنطاكية كيف أهلكناهم ، (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (١٣) وهم رسل عيسى عليه‌السلام إلى أهلها ، فرسول رسول الله بإذن الله رسول الله ، وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي رسولين وهما : يوحنا وبولس. وقيل : سمعان وثومان (فَكَذَّبُوهُما) ، أي فأتياهم ، فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة ، (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون.

وقرأ شعبة بتخفيف الزاي (فَقالُوا) أي جميعا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (١٤) (قالُوا) أي أهل أنطاكية مخاطبين للثلاثة : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا يجوز رجحانكم علينا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي فما نزلتم من عند الله ، وما أنزل الله إليكم أحدا فكيف صرتم رسلا لله. أو يقال : إن الله ليس بمنزل شيئا في هذا العالم فإن تصرفه في العالم العلوي ، وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم ، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) (١٥) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعوى رسالته تعالى. (قالُوا) أي الرسل : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (١٦) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم مع تحذيرهم معارضة


علم الله تعالى (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧) أي وما علينا من جهة ربنا إلّا تبليغ رسالته تبليغا ظاهرا بلغة تعلمونها بالآيات الشاهدة بالصحة ، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. (قالُوا) للرسل لما ضاقت عليهم الحيل ، وعيت بهم العلل : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاء منا بكم بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالهم ، إن لم يؤمنوا ، فكانوا ينفرون عنه. وقيل : إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨) ، أي وليصيبنكم منا بسبب الرجم عذاب أليم ، أي نديم الرجم عليكم إلى الموت (قالُوا) أي الرسل : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي سبب شؤمكم معكم لا من قبلنا وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي إن وعظتم بما فيه سعادتكم تطيرتم ، وتوعدتم بالرجم والتعذيب (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩) أي ليس التذكير سببا للشؤم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان فلذلك أتاكم الشؤم. (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) وهو حبيب النجار ، وهو ينحت أصنامهم ، وهو ممن آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع وورقة بن نوفل وغيرهما. وقيل : إنه كان إسكافا وقيل : إنه كان قصارا (يَسْعى) أي يسرع في المشي حيث سمع بالرسل (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢٠) الذي أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) فإنهم لو كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١) أي عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق ، قالوا له : تبرأت منا ومن ديننا ، ودخلت في دين عدونا فقال لهم : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني اختراعا وهو مالكي ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) بعد الموت فكيف لا تعبدونه. والعابد على أقسام ثلاثة : عابد يعبد الله لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم ، وعابد يعبد الله للنعم الواصلة ، إليه وعابد يعبد الله خوفا. فجعل القائل نفسه من القسم الأول وهو الأعلى (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الذي خلقني (آلِهَةً) أي لا أعبد آلهة من غيره تعالى (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) أي إن يصبني الرحمن بعذاب لا تنفعني تلك الأصنام نفعا ولا تدفع عني ذلك العذاب (إِنِّي إِذاً) أي إذا اتخذت من دونه آلهة (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) أي خطأ ظاهر ، (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥). وهذا خطاب من حبيب للرسل ، وذلك لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين وقال : إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي بالإيمان عند الله تعالى. وقيل : الخطاب للكفرة خاطبهم بذلك إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل ففيه بيان للتوحيد وذلك لأنه لما قال : أعبد الذي فطرني ، ثم قال : آمنت بربكم فهم أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني ، وهو الذي بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول : الكافر وأنا آمنت بربي أيضا ، وعلى هذا فمعنى الآية آمنت بربكم فاسمعوا ما


قلته لكم وأطيعوني بالإيمان ، فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه ، ووطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره وألقي في بئر ـ وهي الرس ـ وهم أصحاب الرس. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي إنه قتل ثم قيل له بعد القتل : ادخل الجنة إكراما له بدخولها حينئذ كسائر الشهداء. (قالَ) بعد موته : (يا) حرف تنبيه (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (٢٦) (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي الذي غفر لي ربي وهو التوحيد ، أو بمغفرة ربي لي. ويقال : قيل : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) عقب قوله : (آمَنْتُ) إلخ قال في حياته كأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم : يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت بأي شيء غفر لي ربي (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧) ، فإن الإيمان والعمل الصالح يوجبان الغفران والإكرام. وحاصل هذه القصة أن عيسى عليه‌السلام بعث رسولين من الحوارين إلى أهل أنطاكية ، فلما قربا إلى المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له ـ وهو حبيب بن إسرائيل النجار ـ فسلما عليه فقال : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال : أمعكما آية؟ قالا : نعم ، نشفي المريض ، ونبرئ الأكمه والأبرص ، بإذن الله تعالى فقال : إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا : فانطلق بنا ننظر حاله ، فأتى بهما إلى منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ، فآمن من حبيب ، وفشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى ، وكان لهم ملك اسمه أنطيخا ، وكان من ملوك الروم ، فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما فقال لهما : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام. وفيم جئتما؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك. فقال لهما : قوما حتى أنظر في أمركما ، وأمر بحبسهما ، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، ثم بعث عيسى عليه‌السلام رأس الحوارين شمعون لينصرهما ، فدخل البلد متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوه خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه فقال يوما للملك : بلغني أنك حبست رجلين في السجن ، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال : لا ، فقد حال الغضب بيني وبين ذلك قال : إنا رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطّلع على ما عندهما ، فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ، وليس له شريك. فقال : صفاه وأوجزا. قالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال لهما شمعون : وما آيتكما قالا : ما يتمنى الملك. فدعا الملك بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فتعجب الملك فقال شمعون له : أيها الملك إن شئت أن تغلبهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك. قال الملك : لا يخفى عليك أنها لا تبصر ، ولا تسمع ، ولا تقدر ، ولا تعلم. فقال شمعون : فإذا ظهر الحق من جانبهم فآمن الملك وقوم وكفر آخرون ، وكانت الغلبة للمكذبين ،


وأجمعوا على قتل الرسل وقومهم ، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين ولما قتلوه غضب الله له فجعل لهم العقوبة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم ذلك الرجل الذي هو حبيب وهم أصحاب القرية الذين رجموه (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد قتله ، (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لإهلاكهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨) أي إنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار في الأزمنة الماضية ، بل نهلكهم بغير الملائكة إما بالحاصب أو بالصيحة ، أو بالخسف ، أو بالإغراق وإنما جعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار من قومك تعظيما لشأنك ، (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من جبريل ، أخذ جبريل الباب فصاح فيهم صيحة واحدة وذلك لحقارة أمرهم عندنا. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩) أي ميتون لا يتحركون. (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ، وهذا ما من كلام الملائكة ، أو من كلام المؤمنين ، أي يا شدة التحزن على العباد تعالى هذا وقتك فاحضري ، وهو وقت الاستهزاء بالرسل ، فالمستهزئون بالناصحين أحقاء بأن يتحزنوا ويتحزن عليهم المتحزنون. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ) أي بذلك الرسول (يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) وهذا سبب الندامة (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم أهل مكة الذي أنكروا رسالتك (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي الأمم الماضية ، (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣١) أي أنهم أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا يقال : إن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، والوجه الأول أشهر نقلا ، والثاني أظهر عقلا. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢).

وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لمّا» بتشديد الميم إلّا أي ما كلهم إلّا مجموعون عندنا ، محضرون للحساب. والجزاء ، والباقون بالتخفيف ، والمعنى عند الكوفيين كما تقدم ، وعند البصريين وإن كلهم لمجموعون عندنا محضرون للحساب (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ، أي وعلامة عظيمة لهم على قدرتنا على البعث ، وعلى وحدانيتنا الأرض الميتة أحييناها بأنواع النبات فيها ، فالذي أحيا الأرض إحياء كاملا ، منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا (وَأَخْرَجْنا مِنْها) أي الأرض (حَبًّا) أي جنس الحب ، كالحنطة والشعير والأرز ، (فَمِنْهُ) أي من ذلك الحب (يَأْكُلُونَ) (٣٣) فهو أكثر ما يعاش به (وَجَعَلْنا فِيها) ، أي الأرض (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي من أنواع النخل والعنب (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) (٣٤) ، أي فتحنا في الأرض بعضا من العيون (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر ، ما ذكر من الجنات ، أو من ثمر الله لأنه الذي خلقه.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) وهو ما يتخذ من ذلك الثمر


من العصير والدبس ونحوهما فـ «ما» موصولة عطف على ثمره ، ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من «عملته» ، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها.

وقيل : «ما» نافية ، ومحل الجملة نصب على الحالية. والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٣٥) أي أيتنعمون بهذه النعم فلا يشكرونها فيرجعون عن عبادة غير الله ، وفي ذلك استدلال على وحدته تعالى وتعديد للنعم ، فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها ، فهي نعمة ، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية ، فإنها تصير أنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة ، فإن قوتهم يصير في مكانهم ، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة ، لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى ، فيقول الله تعالى : كما فعلنا في موت الأرض ، كذلك نفعل في الأموات في الأرض ، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد منه في بقاءهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والأذن وغير ذلك ، ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل ، فكأنه تعالى قال : نحيي الموتى إحياء تاما ، كما أحيينا الأرض إحياء تاما. (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي تنزيها للذي خلق الأنواع كلها. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من نجم وشجر ومعدن (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من ذكر وأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وغيره تعالى ، لم يخلق شيئا وإنما ذكر الله تعالى كون الكل مخلوقا لينزه الله تعالى عن الشريك ، فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق والتوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بالاعتراف بأن لا إله إلّا الله ، فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون ، ومما لا تعلمون (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي وعلامة عظيمة لأهل مكة على قدرتنا على البعث الليل نزيل عنه النهار الذي هو كالساتر له ، (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) أي داخلون في الظلام ، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لحد معين ينتهي إليه دورها فتقف في مستقرها ، ولا تنتقل عنه ومستقرها هو مكان تحت العرش تسجد فيه كل ليلة عند غروبها ، فتستمر ساجدة فيه فيطول الليل ، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولا فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق ، بل يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من المغرب.

وقرئ «إلى مستقر لها». وعن ابن عباس لا مستقر لها أي لا سكون لها ولا وقوف ، فإنها جارية أبدا إلى يوم القيامة. وقرئ «لا مستقر لها» على أن «لا» بمعنى ليس. (ذلِكَ) أي جري الشمس (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٨) أي تدبيره وتسخيره إياها ، (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي جعلنا له منازل ثمانية وعشرين منزلة في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما ، (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩) أي حتى يصير في رأى العين كالعذق المقوس اليابس إذا حال عليه الحول ، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ


تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي فالشمس لم تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر ، وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار ، (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا الليل يطلع سلطان النهار فيذهب ضوءه ولكن يعاقبه (وَكُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) أي دائرة (يَسْبَحُونَ) (٤٠) ، أي يدورون ولفظ «كل» يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا ، وللشمس فلكان أحدهما : مركزه العالم ، وثانيهما : مركزه فوق مركز العالم ، وهو مثل بياض البيض بين صفرته والقيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة ، فإذا حصلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال : إنها في الأوج وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض ، وللقمر فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه ، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة ، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس ، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مفرق فيها ، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل المائل ، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير (وَآيَةٌ لَهُمْ) ، أي لأهل مكة على قدرتنا على البعث (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ).

وقرأ نافع وابن عامر «ذرياتهم» على الجمع ، أي أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم ، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) أي المملوء ، ومع ذلك نجاه الله من الغرق. وقال علي بن أبي طالب : حمل الله تعالى النطف في بطون النساء تشبيه بالفلك المشحون ، (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) أي مما يماثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) في البر من الإبل ونحوها وفي البحر من الزواريق ونحوها ، (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) مع ركوبهم في الفلك ونحوه ، (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ، أي فلا مغيث لهم من الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) (٤٣) ، أي ولا ينجون من الغرق بعد وقوعه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤) فالإنقاذ ينقسم إلى قسمين إما أن ينقذه الله لرحمة منه فيمن علم الله منه أنه يؤمن أو ينقذه للتمتيع باللذات زمانا إلى انقضاء أجله ، وليزداد إثما فيمن علم الله أنه لا يؤمن ، فالإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لأهل مكة بطريق الإنذار : (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي ما أمامكم من أمر الآخرة فإنهم مستقبلون لها ، (وَما خَلْفَكُمْ) من أمر الدنيا فإنهم تاركون لها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) أي راجين أن ترحموا فإن الله لا يجب عليه شيء أعرضوا حسب ما اعتادوه ، ويقال : اتقوا ما بين أيديكم من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما ، وما خلفكم من الموت الطالب لكم ، فإنكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه ، (وَما تَأْتِيهِمْ) أي كفار مكة (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها) ، أي تلك الآية (مُعْرِضِينَ) (٤٦) على وجه التكذيب والاستهزاء ، فلا تنفعهم الآيات ومن كذب بالبعض هان عليه


التكذيب بالكل وقوله تعالى : (مِنْ آيَةٍ) فـ «من» زائدة ، وقوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) تبعيضية وقوله : (إِلَّا كانُوا) إلخ جملة حالية (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) بطريق النصيحة. (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين ، فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) استهزاء بهم (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) على زعمكم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئته تعالى.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما كان بمكة زنادقة من قريش إذا أمروا بالتصدق على المسكين. قالوا : لا والله أيفقره تالله ونطعمه نحن وكانوا يسمعون من المؤمنين ، يعلقون أفعال الله بمشيئته يقولون : لو شاء الله لأغنى فلانا ، ولو شاء لأعز ، ولو شاء لكان كذا ، فاخرجوا هذا الجواب استهزاء بالمؤمنين ، وما كانوا يقولون بتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل : إن المؤمنين لما قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم إنه لله تعالى ، وهو ما جعلوه لله من حرثهم وأنعامهم قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه : لكنا ننظره تعالى لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم مما نرى من فقرهم ، فنحن أيضا لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه ، (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) بقيام الساعة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) فيما تعدونا به منه؟ قال الله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما ينتظر قومك إذ كذبوك إلّا النفخة الأولى الميتة (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٤٩) ، أي يتخاصمون في السوق.

قرأه حمزة بسكون الخاء وكسر الصاد ، والمعنى : يخصم بعضهم بعضا. والباقون بحركة الخاء وتشديد الصاد وأصله «يختصمون» فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة الصاد إلى الساكن قبلها نقلا كاملا ، وأبو عمرو ، وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخطأ أصلها. والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان ، لذلك فكسروا أولهما ، لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) في شيء من أمورهم إن كانوا فيما بين أهليهم ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠) إن كانوا خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتوا حيثما كانوا ، وقد صح من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة ، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» (١). (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي وينفخ في القرن النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون سنة ،

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب صلاة الخوف ، باب : التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب ، وسلم في كتاب الجهاد ، باب : ١٢٠ ، والترمذي في كتاب السير ، باب : ٣ ، النّسائي في كتاب النكاح ، باب : البناء في السفر ، والموطأ في كتاب الجهاد ، باب : ما


(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ) أي إلى مالك أمرهم (يَنْسِلُونَ) (٥١) أي مخرجون بسرعة بطريق الإجبار دون الاختيار. (قالُوا) أي الكفار بعد ما خرجوا من القبور : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا ، احضر فهذا أوانك (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا).

وقرئ «من أهبنا» ، وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما من بعثنا على أنها جار ومجرور متعلق بـ «ويل». وقرئ «من هبنا» بـ «من» الجارة والمصدر (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أي هذا البعث ما وعدنا به الرحمن ، (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥٢) أي صدقونا فيه.

وقيل : الوقف على هذا بجعله بدلا من مرقدنا ، وجعل ما وعد الرحمن خبر المبتدأ محذوف أي هو ما وعدنا الرحمن به في الدنيا من البعث ، وعلى ذلك التفسير فهذا إلخ من كلام الكافرين حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسل عليهم‌السلام فيجيبون به أنفسهم ، أو يجيب بعضهم بعضا وقيل : قالت لهم الحفظة تذكيرا لكفرهم : هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل في الدنيا وصدق المرسلون فيما أخبروكم به البعث بعد الموت ، (إِنْ كانَتْ) أي ما كانت نفخة البعث (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) حصلت من نفخ إسرافيل في الصور ، (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا) أي مجموع عندنا (مُحْضَرُونَ) (٥٣) للحساب ، (فَالْيَوْمَ) وهو يوم القيامة (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيئات أحد ، (وَلا تُجْزَوْنَ) في الآخرة (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤) أي إلّا بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا ، (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي أهل الجنة (الْيَوْمَ) وهو يوم القيامة ، (فِي شُغُلٍ) أي شأن يشغلهم عما سواه ، (فاكِهُونَ) (٥٥) أي متلذذون في النعمة ، كالتزاور وضيافة الله وافتضاض الأبكار ، وضرب الأوتار وسماعه (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد (عَلَى الْأَرائِكِ) أي السر والمزينة بالثياب والستور التي هي داخل الحجال ، (مُتَّكِؤُنَ) (٥٦) أي جالسون مع التمكن ، أو الميل على شق وفي هذا إشارة إلى الفراغ (لَهُمْ فِيها) أي الجنة (فاكِهَةٌ) كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه ، (وَلَهُمْ) فيها (ما يَدَّعُونَ) (٥٧) أي يشتهون.

وقال الزجاج : أي ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وعلى هذا فيكون الافتعال بمعنى الفعل ، ويعضده القراءة بسكون الدال (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) أي سلام عليهم أخص قولا من رب رحيم ، وعلى هذا فيكون حكاية لما سيقال لهم من جهته تعالى يومئذ كما في قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) فيكون الله تعالى أحسن من عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم

__________________

جاء في الخيل والمسابقة بينها ، والنفقة في الغزو ، وأحمد في (م ٣ / ص ١٠٢).


نور ، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» (١). (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) أي ويقال للمشركين : انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين حين يسار بهم إلى الجنة إذ لا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) أي ألم أوص إليكم (يا بَنِي آدَمَ) على لسان رسلي (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوه ، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠) أي ظاهر العداوة ، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء فانظر إما أن يكون ذلك موافقا لأمر الله أولا ، فإن لم يكن موافقا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به ، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان ، وإن دعتك نفسك إلى فعل ، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولا ، فإن لم يكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتبعته فقد عبدته ، ثم إن الشيطان يأمر أولا بمخالفة الله ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده ، ومن لم يطعه فيقول له : اعبد الله كي لا تهان وليرتفع شأنك عند الناس وينتفع بك إخوانك ، فإن أجاب إليه فقد عبده ، (وَأَنِ اعْبُدُونِي) ، أي أطيعوني موحدين بي (هذا) أي التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي طريق قريب آمن فاسلكوه وفي ضمن قوله تعالى : (هذا صِراطٌ) إشارة إلى أم الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها. (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي وبالله لقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا قبلكم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه ، فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢) ، أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم ، أو أفلم تكونوا تعلمون ما صنع الشيطان بهم.

وقرأ نافع وعاصم «جبلا» بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وأبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة. والباقون بضمهما واللام مخففة (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) أي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم‌السلام بمقابلة عبادة الشيطان ، وبهذا يخاطب الكفار بعد تمام التوبيخ عند أشرافهم على شفير جهنم ، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤) أي ادخلوا جهنم من فوق ، وقاسوا فنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) أي يعلمون من الشر ، ورأى أنهم حين يسمعون قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ينكرون كفركم فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فيختم الله على أفواههم وينطق الله

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣ : ٣٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٨٥٨) ، وابن سعد في الطبقات (١ : ١ : ١٣٥) ، والقرطبي في التفسير (١٥ : ٧٦).


غير لسانهم من الجوارح ، فيقرون بذنوبهم ولا يقدرون على الإنكار فكل عضو ينطق بما صدر منه فشهادتهم هو إقرارهم ، (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) ، أي ولو نشاء أن نطمس على أعينهم لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق ، (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (٦٦) ، أي فلو أرادوا سلوك الطريق الواضح المألوف لهم لا يقدرون عليه. والمراد أن قدرتنا إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد في الطريق لمصالحهم ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر فضلا وكرما ، فحقهم أن يشكروا عليها ولا يكفروا فهذا توبيخ ، لهم كمال توبيخ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ).

وقرأ شعبة «مكاناتهم» على الجمع ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧) ، أي ولو نشاء لحولنا صورهم وأبطلنا قواهم في منازلهم فلا يقدرون أن يبرحوا مكانهم بإقبال ولا إدبار ولا يرجعون إلى الحال الأول.

وعن ابن عباس : أي حولناهم قردة وخنازير. وقيل : أي حولناهم حجارة وعن قتادة لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم ، (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي ومن نطل عمره إطالة كثيرة نقلبه في خلق جسده وقواه الباطنية ، فكل منهما ينقلب حاله فيرجع من القوة إلى الضعف حتى صار كأنه طفل.

وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى ، وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة ، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على الطمس والمسخ ، وإن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.

وقرأ نافع وابن ذكوان «تعلقون» بالخطاب (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) ، أي وما علمنا محمدا الشعر وليس القرآن بشعر ، وهذا رد لما كانوا يقولون في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن محمدا شاعر وما يقوله شعر ، (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي وما كان الشعر يليق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يصلح له ، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى ، والشاعر يكون المعنى منه تبعا للفظ ، لأنه يقصد لفظا يصح به وزن الشعر أو قافيته ، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ ، ولو صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ ، وإنما قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي ما القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين ، (وَقُرْآنٌ) أي كتاب جامع للأحكام كلها (مُبِينٌ) (٦٩) أي ظاهر أنه ليس من كلام البشر (لِيُنْذِرَ) ، أي محمد كما يدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء على الخطاب أو القرآن ، (مَنْ كانَ حَيًّا) أي عاقلا منهما أو مؤمنا في علم الله تعالى وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠) ، أي ولتثبت كلمة العذاب على المصرين على


الكفر ، أو وليثبت المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الدينية على كفار مكة فإن في القرآن ذكر الدلائل التي ثبتت بها المطالب. (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يتفكروا ، ولم يعلموه علما يقينا (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لأجل انتفاعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي ما عملناه بقدرتنا وإرادتنا (أَنْعاماً) هي الإبل والبقر والغنم ، وهو مفعول خلقنا (لَها مالِكُونَ) (٧١) بتمليكنا إياهم لها بحيث يتصرفون فيها بوجوه التصرفات (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي صيرناها منقادة لهم بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي فبعض منها مركوبهم ، (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٧٢) ، أي وبعض منها يأكلون لحمه. (وَلَهُمْ فِيها) أي الأنعام (مَنافِعُ) غير المركوب والأكل كالجلود ، والأصواف ، والأوبار ، والنسل ، والحرث عليها والحمل ، (وَمَشارِبُ) من ألبانها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٧٣)؟ أي أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها فيعبدونه. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (٧٤) أي وعبد كفار مكة من غير الله أصناما راجين أن ينصروهم من عذاب الله تعالى (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) ، أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٧٥) أي والمشركون لآلهتهم بمنزلة الجند ، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد ويخدمونها ، ويغضبون لها في الدنيا ، أو المعنى وآلهتهم وهي الأصنام ، جند للعابدين محضرون معهم في النار ، فلا يدفع بعضهم عن بعض ، ويقال : والمشركون جند لآلهتهم يشيعونها عند مساقها إلى النار. (فَلا يَحْزُنْكَ) يا أشرف الخلق (قَوْلُهُمْ) ، أي تكذيبهم إياك.

وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي وهو لغة بني تميم. أما القراءة المشهورة التي هي بفتح الياء وضم الزاي فهي لغة قريش. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من النفاق أو من المكر بك أو من العقائد الفاسدة ، (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦) من الشرك أو من الكفر بك ، أو من الأفعال القبيحة أي إنا نجازيهم بجميع جناياتهم الخافية والبادية (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينا (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) قذرة خسيسة (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أي ناطق بالباطل (مُبِينٌ) (٧٧) أي مبين النطق في نفي البعث (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي أورد الإنسان في شأننا أمرا عجيبا وهو إنكاره قدرتنا على إحياء الموتى مع شهادة العقل والنقل في ذلك ، (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي وترك الإنسان ذكر بدء خلقه من المنى ، (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) أي بالية أشد البلاء بعيدة عن الحياة غاية البعد ، ونزلت هذه الآيات في العاصي بن وائل ؛ كما نقل عن مجاهد أو في أبي بن خلف ؛ كما قاله عكرمة والسدي ، أو في عبد الله بن أبي كما نقل عن ابن عباس أو أمية بن خلف ؛ كما حكاه ابن عساكر.

وروي أن جماعة من كفار قريش تكلموا فقال لهم أبي بن خلف : ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال : واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه ، فأخذ عظما باليا ،


فجعل يفتته بيده ، وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنك يا محمد تقول : إن إلهك يحيي هذه العظام فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم». (قُلْ) له يا أكرم الرسل : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي يحيي العظام من خلقها من العدم أول مرة من النطفة ، فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده ، وإن لم يبق شيئا مذكورا (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٩) أي فيعلم الله أجزاء الأشخاص المفتتنة في المشارق والمغارب والتي بعضها في أبدان السباع ، وبعضها في جدران الرباع سواء كانت أجزاء أصلية ، أو فضلية ، للآكل ، أو للمأكول فيعيد الله كلا من ذلك النمط السابق مع القوى التي كانت قبل ويجمعه وينفخ روحه ، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) والموصول بدل من الموصول الأول ، أي الذي خلق لأجل منفعتكم نارا من المرخ والعفار ، فالمرخ شجر سريع القدح ، والعفار بفتح العين شجر تقدح منه النار فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين ، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار ، فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى ؛ وهذا قول ابن عباس.

وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب (فَإِذا أَنْتُمْ) يا أهل مكة (مِنْهُ) أي من الشجر الأخضر (تُوقِدُونَ) (٨٠) فمن قدر على أحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة ، لها كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها. (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي أليس الذي أنشأ العظام أول مرة ، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما يقدر على أن يخلق مثل الأناسي في الصغر ، ثم أجاب الله نفسه بقوله : (بَلى) هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨١) ، أي وهو كامل القدرة وشامل العلم (إِنَّما أَمْرُهُ) أي شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) من الأشياء (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) ، أي أن يعلق بذلك الشيء قدرته تعالى (فَيَكُونُ) (٨٣) ، أي فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا.

وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على «يقول». (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزه عن الشريك والعجز من في قبضته مملكة كل شيء وخزائنه ، (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) (٨٣) بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم وقرأ زيد بن علي بالبناء للفاعل.


سورة الصافات

مكية ، مائة واثنان وثمانون آية ، ثمانمائة وستون

كلمة ، ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالصَّافَّاتِ) أي والملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة ، أو الصافات أقدامها في السماء لأداء العبادات ، أو الباسطات أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد (صَفًّا) (١) بديعا ، (فَالزَّاجِراتِ) أي الملائكة التي تزجر السحاب ، أي يأتون بها من موضع ، إلى موضع أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي بالإلهامات ، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء ، وعن استراق السمع (زَجْراً) (٢) بليغا. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) أي الملائكة التاليات الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام وغيرها من التسبيح والتقديس ، والتحميد ، والتمجيد. (إِنَّ إِلهَكُمْ) يا أهل مكة (لَواحِدٌ) (٤) بلا شريك ، إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة ، فكان غير حكيم. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مالكهما (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات ، (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) أي مشارق الشمس فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي القربى من أهل الأرض (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦).

قرأ أبو بكر عن عاصم بتنوين «زينة» ، ونصب «الكواكب» ، أي بتزييننا الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها ، وحمزة وحفص كذلك إلّا أنهما خفضا «الكواكب» بدل من «زينة».

والباقون بإضافة «زينة» إلى «الكواكب» ، أي بتزيين ضوء الكواكب السماء.

وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوين «زينة» ، ورفع «الكواكب» ، أي بزينة في الكواكب أو بتزيين الكواكب فالأول في قوة البدل والثاني في قوة المضاف للفاعل (وَحِفْظاً) عطف على زينة باعتبار المعنى ، أي إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) أي عال على الله عن طاعته برمي الشهب ، (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم


بفتح السين وتشديدها ، وتشديد الميم أي كيلا يتطلب الشياطين السماع إلى كلام أشرف الملائكة. والباقون بسكون السين ، (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨) أي من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها (دُحُوراً) أي للطرد (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩) أي دائم بالشهب في الدنيا إلى النفخة الأولى وبالنار في الآخرة ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) ، و «من» في محل رفع بدل من الواو في «لا يسمعون» أي لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الذي اختلس الكلمة من كلام الملائكة على وجه المسارقة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠) ، أي لحقه شهاب مضيء يحرقه ، أو يخبله أو يقتله (فَاسْتَفْتِهِمْ) ، أي سل يا أشرف الخلق هؤلاء المنكرين للبعث من مشركي مكة ، (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أصعب خلقا وأشق إيجادا ، (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي أم التي خلقناها من هذه الأشياء أصعب وهي السموات والأرض ، وما بينهما والمشارق والمغارب ، والشياطين الذي يصعدون الفلك والملائكة ، والكواكب والشهب الثواقب ، (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي كل إنسان (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١) أي لاصق لشدة اختلاط بعضه ببعض ، فإن الحيوان إنما يتولد من المني وهو يتولد من الغذاء ، ثم النبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (١٢) ، أي بل عجبت يا أشرف الرسل من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ومن تقريرك للبعث ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به ، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي.

وقرأ حمزة والكسائي «عجبت» بضم التاء وهو قراءة ابن عباس ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش. والمعنى : عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله وممن كثرت مخلوقاته وكملت قدرته ، ويسخروا ممن يجوز البعث. وقال بعض الائمة : معنى قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) بالضم بل جازيتهم على عجبهم ، أي إن هؤلاء المنكرين أقروا بأن الله تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد ، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر ، ومع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء القوم مصرّين على إنكار البعث والقيامة ، وهذا في موضع التعجب الشديد ، (وَإِذا ذُكِّرُوا) أي إذا وعظوا بشيء من المواعظ (لا يَذْكُرُونَ) (١٣) أي لا يتعظون ، ولا ينتفعون بذكر دلائل صحة البعث لغاية بلادتهم وقصور فكرهم ، (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي معجزة تدل على صدق القائل بالبعث كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤) يبالغون في السخرية. (وَقالُوا إِنْ هذا) أي ما هذا الذي يرونه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥) أي ظاهر سحريته أي إن الرسول أثبت جهة رسالته بالمعجزات ، ثم قال لما ثبت بهذه المعجزة : كوني رسولا من عند الله صادقا فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق ، ثم إن هؤلاء المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة باهرة حملوها على كونها سحرا واستهزءوا منها. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١٧).


وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو على أنها معطوفة على الضمير في «مبعوثون». والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، فالمعنى أو تبعث آباؤنا ويقال أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا ، أي أن القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون : من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ، وبلغوا هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يستسخرون ممن سلك هذا المذهب الحق. (قُلْ) لهم تبكيتا : (نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨) أي نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون حال كونهم وهم ذليلين حقيرين ، (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي لا تستبعدوا البعث ، لأنه إنما هي صيحة واحدة (فَإِذا هُمْ) أي الخلائق قائمون من مراقدهم أحياء (يَنْظُرُونَ) (١٩) أي يبصرون كما كانوا ، وينتظرون ما يفعل بهم (وَقالُوا) أي الكفار إذا قاموا من القبور : (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر ، فهذا أوان حضورك. (هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠) أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي يوم القضاء بينكم وبين المؤمنين (الَّذِي كُنْتُمْ) في الدنيا (بِهِ) أي بهذا اليوم (تُكَذِّبُونَ) (٢١). والوقف على «ويلنا» تام إن جعل هذا يوم الدين من كلام الملائكة جوابا لهم ، فالمعنى : هذا يوم جزاء الأعمام وإن جعل من كلام الكفار ، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم ، فالوقف التام على يوم الدين لأن هذا يوم الفصل إلى آخره من كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ. وقيل : هو من كلام بعضهم لبعض فيقول الله للملائكة : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي رؤساء الكفار من مقامهم إلى الموقف (وَأَزْواجَهُمْ) أي أحزابهم ونظراءهم من الكفرة. وقيل : قرناؤهم من الشياطين. وقيل : نساؤهم اللاتي على دينهم. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢) (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غيره من الأصنام ونحوها ، (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣) أي سوقوهم إلى طريق جهنم (وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم في الموقف أو على النار ، (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) عن عقائدهم وأعمالهم. وقيل : المراد سألتهم خزنة النار بنحو قولهم : ألم يأتكم رسل منكم بالبينات. قالوا : بلى.

وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام العلة ، أي قفوهم لأجل سؤال الله إياهم وتقول لهم خزنة جهنم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ـ كما قاله ابن عباس ـ وذلك لأن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر. فيقال لهم يوم القيامة : ما لكم غير متناصرين كما كنتم تزعمون في الدنيا ، (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦) أي منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم في دفع تلك المضار ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٧) أي يتخاصمون. يقول الأتباع : غررتمونا ، ويقول الرؤساء : لم قبلتم منا. (قالُوا) أي الاتباع للرؤساء (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) في الدنيا (عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨) أي عن القوة والقهر وتقصدوننا عن الغلبة حتى تحملونا على الضلال ، أو عن الحلف فإن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم. (قالُوا) أي الرؤساء للأتباع :


(بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢٩) أي لم نمنعكم من الإيمان بل لم تؤمنوا باختياركم ، (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قهر. والمعنى : فلا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم على متابعتنا (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) (٣٠) أي غالين في معصية الله تعالى (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) (٣١) أي فثبت وعيد ربنا إنا لذائقوا العذاب. والمعنى : إن الله تعالى لما أخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا ، ولما كان خبر الله أمرا ثابتا كان الوقوع في العذاب الأليم لازما ، ولما حق علينا وعيد ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب ، (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢) أي إنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فلا لوم علينا ، (فَإِنَّهُمْ) أي الأتباع والمتبوعين (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فِي الْعَذابِ) أي في وقوعهم في العذاب (مُشْتَرِكُونَ) (٣٣) كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية ، (إِنَّا كَذلِكَ) أي كما نفعل بعبدة الأوثان (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (٣٤) ، أي المشركين غير هؤلاء كالنصارى واليهود (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥) ، أي عبدة الأوثان كانوا إذا قيل لهم : قولوا لا إله إلّا الله ، يتعاظمون عن النطق بكلمة التوحيد وعلى من يدعوهم إليها ، (وَيَقُولُونَ) في تكذيب النبوة (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٦) أي أإنا لتاركوا عبادة آلهتنا لأجل قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي بل جاء محمد بالدين الحق ، لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الشريك (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧) أي وصدق محمد المرسلين في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشرك ، فإن التوحيد دين كل الأنبياء (إِنَّكُمْ) بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨).

وقرئ بنصب «العذاب» على تقدير النون. وقرئ «لذائقون العذاب» على الأصل (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٩) أي إلا بما كنتم تعملونه من السيئات ، وكأنه قيل : فكيف يليق بالرحيم الكريم المتنزه عن النفع والضر أن يعذب عباده ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : (وَما تُجْزَوْنَ) إلخ. والمعنى : أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ولا يكمل المقصود منهما إلّا بالترغيب في الثواب ، وبالترهيب بالعقاب ، وإذا وقع الإخبار عن ذلك وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب ، فلهذا السبب وقعوا في العذاب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠).

وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام ، أي المعصومين من الكفر. والباقون بالكسر أي المخلصين للطاعة. وهذا استثناء منقطع من ضمير «ذائقو». فالمعنى إنكم لذائقوا العذاب الأليم لكن عباد الله الموحدين المخلصين بالعبادة ليسوا كذلك ، ثم قال أبو السعود : ولا وجه لجعله استثناء من ضمير «تجزون» على معنى أن الكفرة لا يجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة اه. (أُولئِكَ) أي المخلصون (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٤١) ، أي معروف الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ، ولذة طعم ،


وحسن منظر. وقيل : معنى المعلوم إنهم يتيقنون دوام الرزق لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ، ومتى ينقطع. وقيل : معناه أن الرزق على قدر يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم ، (فَواكِهُ) وهو ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات ، لأنهم مستغنون عن القوت ، وهو بدل كل من رزق فالفواكه مساوية للرزق فتشمل الخبز واللحم ، لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا ، (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٤٢) عند الله تعالى لا يلحقهم هوان ، لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤٣) أي في جنات ليس فيها إلّا التنعيم ، (عَلى سُرُرٍ) مكللة بالدر والياقوت والزبرجد ، (مُتَقابِلِينَ) (٤٤) أي متواجهين في الزيارة لا يرى بعضهم قفا بعض ، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) أي بخمر أو بإناء فيه خمر ، فالكأس يطلق عليهما (مِنْ مَعِينٍ) (٤٥) أي من نهر جار على وجه الأرض خارج من العيون ، (بَيْضاءَ) مثل اللبن (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ) أي ليس في شربها صداع في الرأس ـ كما قاله ابن عباس والليث ـ ولا وجع البطن ـ كما قاله قتادة ـ ولا أثم ـ كما قاله الكلبي ـ ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧).

قرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي أي يسكرون. والباقون بفتح الزاي أي يذهب عقولهم. وعن سببية أي بسبب الخمر (وَعِنْدَهُمْ) في الجنة (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم (عِينٌ) (٤٨) أي كبار الأعين حسانها ، (كَأَنَّهُنَ) في الصفاء (بَيْضٌ) للنعام (مَكْنُونٌ) (٤٩) أي مصون عن القترة ، شبههن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة ، فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠). وهذا معطوف على «يطاف» ، أي يشربون ويتحادثون على الشراب فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم ، وعن المعارف. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة في تضاعف محاوراتهم وهو يهوذا : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (٥١) أي مصاحب في الدنيا يقال له : نطروس ـ وهما شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن وهو يهوذا ، والآخر كافر وهو نطروس ـ (يَقُولُ) لي يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) (٥٢) بالبعث ويقول تعجبا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (٥٣)! أي لمحاسبون ومجاوزون. وقرئ «المصدقين» بتشديد الصاد.

وقيل : كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فافتقر ، فاستجدى بعض إخوانه فقال : أين مالك؟ قال : تصدقت به ليعوضني الله تعالى في الآخرة خيرا منه. فقال : أإنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا ، فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. (قالَ) ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة لجلسائه : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) (٥٤) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؟


فذهب إلى بعض أطراف الجنة (فَاطَّلَعَ) عندها إلى النار (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥) أي فرأى ذلك الرجل قرينه في وسط النار. (قالَ) له موبخا : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦) أي إنه ، أي الشأن قاربت لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة.

وقرئ «لتغوين» ، أي لتضلني عن الدين ، (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٥٧) في النار مثلك ، ثم عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) (٥٨) أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدنيا ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٥٩). وهذا استفهام تلذذ فهو من سؤال بعضهم لبعض ، لأن الذي تتكامل سعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول : أيدوم هذا لي أيبقى هذا لي ، وإن كان على يقين من دوامه ، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون : (إِنَّ هذا) أي الذي نحن فيه (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠). والوقف هنا تام. وقيل : هو من قول الله تعالى تصديقا لقولهم. وقرئ «إن هذا» أي الذي ذكر لأهل الجنة لهو الرزق العظيم. قال الله تعالى ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١) أي لطلب مثل هذه السعادات المحكية يجب أن يعمل العاملون فليجتهد المجتهدون بالعلم والعبادة. (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٦٢) أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم ، أمر الله ورسوله أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر والمعنى أن الرزق المعلوم ضيافة أهل الجنة ، وأهل النار ضيافتهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه ضيافة. وهذا الكلام جيء به على سبيل السخرية بهم ، لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية. (إِنَّا جَعَلْناها) أي شجرة الزقوم (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) (٦٣) أي شبهة في قلوبهم حتى صارت سببا لتماديهم في الكفر ، فإنهم لما سمعوا أن شجرة الزقوم في النار قالوا : كيف يعقل أن تنبت الشجرة في النار مع أنها تحرق الشجر ولم يعلموا أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر ، لأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثل ذلك في هذه الشجرة؟ (إِنَّها) أي الزقوم (شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

وقرئ «نابتة في أصل الجحيم». (طَلْعُها) أي ثمرها (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) في القبح والهول ، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك في قوله تعالى حكاية لقول النساء : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) وذلك أن الناس اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة ، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة ، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال ، حسن التشبيه برءوس الشياطين في قبح النظر كأنه قيل : إن أقبح الأشياء في الخيال هو رؤوس الشياطين. وقيل : إن الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأعراف ، وهي من


أقبح الحيات ، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق ، دفرة ، مرة ، كريهة الرائحة تكون في تهامة ، (فَإِنَّهُمْ) أي الكفار (لَآكِلُونَ مِنْها) أي من الزقوم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦) لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها تكميلا لعذابهم (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي الزقوم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٦٧) ، أي لمخلوطا بماء متناه في الحرارة. والمعنى : إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من الماء الحار ، فحينئذ يخلط الزقوم بماء حميم فيقطع أمعاءهم ، نعوذ بالله من ذلك (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨) فإن الزقوم والحميم ضيافة تقدم إليهم قبل دخولها.

وقرئ «إن مصيرهم» أي منقلبهم. (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) (٦٩) أي إنهم وجدوهم ضالين في نفس الأمر (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠) أي فهم يتبعون آباءهم على دينهم اتباعا في سرعة من غير تدبر أي إنما استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين ، وترك اتباع الدليل ، (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) (٧١) من الأمم السالفة ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) (٧٢) أي أنبياء أولي عدد كثير ، وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما عليهم ، فلم يؤمنوا بهم. وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كفر قومه وتكذيبهم له ليكون له أسوة بمن تقدم من الرسل ليصبر كما صبروا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣). والمقصود من هذا الخطاب خطاب الكفار وإن كان في الظاهر خطابا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل وبكسرها ، أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى. وهذا استثناء من قوله تعالى : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) فإنها كانت أقبح العواقب ، فإنا أهلكناهم إلّا عاقبة عباد الله المخلصين ، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة لأنا لم نهلكهم ، أو استثناء من قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ). أي فإنهم لم يضلوا لأنهم لم يكذبوا رسلهم. (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) في أن ننجيه من الغرق أو في إيذاء قومه وقصدهم لقتله (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥) أي فو الله لنعم المجيبون نحن ، (وَنَجَّيْناهُ) أي نوحا (وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦) أي الحاصل بسبب الخوف من الغرق ، أو الحاصل من أذى قومه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٧٧) إلى يوم القيامة ، وكان له ثلاث بنين : سام ، وحام ، ويافث. فسام : أبو العرب ، وفارس ، والروم. وحام : أبو الحبش ، والبربر ، والسند ويافث : أبو الترك والتتار ويأجوج. ومأجوج (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٧٩) أي وتركنا على نوح في الباقين بعد من الأمم ، هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين أي يسلمون عليه تسليما ويدعون له بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا على الدوام ، أي أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين ، فيسلمون عليه بكليتهم (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠) أي إنا مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١). والمقصود من


هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته ، (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢) وهم كفار قومه أجمعين (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن تابعه في أصول الدين (لَإِبْراهِيمَ) (٨٣) وإن اختلفت فروع شرائعها ، وما كان بينهما إلّا نبيان : هود وصالح عليهم‌السلام ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤) ، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون : المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي ، فيكون سليما عن الشرك ، والغش ، والحقد ، والحسد.

وعن ابن عباس : أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف لـ «جاء» أو لـ «سليم» ، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) من معنى المتابعة. (ما ذا تَعْبُدُونَ) (٨٥) أي أيّ شيء تعبدونه (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٦)! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٧) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) (٨٨) ، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام ، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) أي سأسقم سقم الموت ، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب ، ثم يموت ـ كما قاله الضحاك ـ أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام ، وذلك تورية ليتركوه وقيل : إنه نظر إلى نجم طالع فقال : إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون ، (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٩٠) أي فارين مخافة العدوى وتركوه ، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم ، فكان ذلك مراده ، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها : هرمز (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إلى الأصنام في خفية ، (فَقالَ) استهزاء بها : (أَلا تَأْكُلُونَ) (٩١)؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) (٩٢) بجواب كلامي؟ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٩٣) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا ، (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) (٩٤) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة ، فسألوا عن المكسر ، فظنوا أنه إبراهيم عليه‌السلام ، فأتوا به يسرعون المشي.

وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء ، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. (قالَ) لهم إبراهيم ، أي بعد أن أتوا به عليه‌السلام وعاتبوه على كسر الأصنام : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥) بأيديكم من العيدان والحجارة! (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦)؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم ، وخلق معمولكم ، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (٩٧) أي في النار الشديدة الاتقاد.


قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه نارا ، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي شرا حرقا بالنار ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما ، أي أن إبراهيم عليه‌السلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. (وَقالَ) إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار ، (سَيَهْدِينِ) (٩٩) إلى ما فيه صلاح ديني ، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠٠) أي ولدا من المرسلين ، فاستجبنا له ، (فَبَشَّرْناهُ) على لسان الملائكة (بِغُلامٍ) ، أي بولد ذكر (حَلِيمٍ) (١٠١) ، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليه‌السلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي فوهبنا له فنشأ ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. (قالَ) إبراهيم لإسماعيل عليهما‌السلام (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة.

روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك.

وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء ، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم.

وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. (قالَ) أي ذلك الغلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما أمرت به ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) على قضاء الله وعلى الذبح (فَلَمَّا أَسْلَما) أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) أي أضجعه على جنبه ، وجواب «لما» محذوف ، أي نادته الملائكة من الجبل : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.

حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال : يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، واستحد شفرتك ، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي ، فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليه‌السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه ، فلم تؤثر شيئا فقال الابن : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة


تحول بينك وبين أمر الله ، ففعل ، ثم وضع السكين على قفاه ، فانقلبت ، فعند ذلك نودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فذلك قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) (١٠٤) فـ «أن» مفسرة ، (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد أتيت ما أمرت به في المنام وقد حصل المقصود من تلك الرؤيا (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥) أي كما جزيناهم إبراهيم وابنه بتفريج الكرب ، نجزي كل محسن بامتثال الأمر ، (إِنَّ هذا) أي الذبح (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١٠٦) أي لهو الجنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ، (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) أي وفدينا إسماعيل بكبش سمين اسمه جرير ، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى ، فقبله ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل.

وقال السدي : نودي إبراهيم ، فالتفت ، فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل ، فقام عند إبراهيم ، فأخذه. فذبحه ، ثم اعتنق ابنه ، وقال : يا بني اليوم وهبت لي.

وروي أنه لما ذبحه قال جبريل عليه‌السلام الله أكبر ، الله أكبر فقال الذبيح : لا إله إلّا الله والله أكبر فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي ذلك سنة ، والفادي في الحقيقة هو إبراهيم ، فالله هو المعطي له والآمر به (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) ، أي وتركنا على إبراهيم في الباقين من الأمم هذه الكلمة والمعنى : أثبت الله التسليم على إبراهيم وأدامه في الآخرين ، فيسلمون عليه أي يدعون له بثبوت هذه التحية (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١١٠) ، أي مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم نجزي المحسنين بالثناء الحسن ، (إِنَّهُ) أي إبراهيم ، (مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١١١) ، أي الراسخين في الإيمان (وَبَشَّرْناهُ) أي إبراهيم (بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٢) أي مقضيا بنبوته ، مقدرا كونه من الصالحين فالصلاح غاية للنبوة ، (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي أبقينا الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى قيام القيامة وأخرجنا جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة ، (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي (مُبِينٌ) (١١٣) أي ظاهر ظلمه. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١١٤) أي أنعمنا عليهما بمنافع الدنيا ، كالحياة ، والعقل ، والصحة : وبمنافع الدين كالعلم والطاعة ، وأعلى هذه الدرجات : النبوة ، (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) وهم بنو إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (١١٥) من الغرق الذي أغرق الله به فرعون وقومه ، ومن إيذاء فرعون ، (وَنَصَرْناهُمْ) على فرعون وقومه (فَكانُوا) بسبب ذلك (هُمُ الْغالِبِينَ) (١١٦) عليهم بظهور الحجة ، ثم بالرفعة ، (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) (١١٧) أي البليغ في البيان ـ وهو التوراة ـ فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا ، (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١٨) ، أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا ، ومددناهما بالتوفيق والعصمة ، (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) ، أي وتركنا عليهما في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم : سلام على موسى


وهارون ، أي دعاءهم لهما بثبوت هذه التحية ، (إِنَّا كَذلِكَ) أي مثل الجزاء الكامل (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢). وهذا تنبيه على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أعلى من كل الفضائل ، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل المرسلين بكونهم من المؤمنين ، (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣) ، وهو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى عليهم‌السلام ، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل.

قال ابن عباس : وهو ابن عم اليسع عليهما‌السلام. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤) عذاب الله (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) ، أي أتعبدون بعلا ـ وهو اسم صنم لأهل بك ـ قيل : كان من ذهب طوله عشرون ذراعا ، وله أربعة وجوه ، وكانوا عظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ، ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وببعلبك سميت مدينتهم. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (١٢٥) أي وتتركون عبادة أعظم المصورين (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (١٢٦).

قرأ حمزة والكسائي ، وحفص عن عاصم بالنصب على البدل. والباقون بالرفع على الاستئناف (فَكَذَّبُوهُ) أي إلياس (فَإِنَّهُمْ) بسبب تكذيبهم (لَمُحْضَرُونَ) (١٢٧) النار غدا ، (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٢٨) في التوحيد والعبادة. وهذا استثناء من الواو في فكذبوه ، (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠) ، أي وتركنا عليه في الآخرين دعاءهم له بثبوت التسليم.

قرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الهمزة ممدودة ، وكسر اللام على إضافة لفظ «آل» إلى لفظ «ياسين». والمراد به إلياس ابن ياسين كأن إلياس آل ياسين. والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام ، كما يقال : ميكال ، وميكائيل ، وميكالين ، فكذا هاهنا يقال : إلياس وإلياسين ـ كذا قال الزجاج ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٣) إلى قومه (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) ابنتيه زاعورا ورينا ، (أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥) أي إلّا امرأته المنافقة تخلفت مع المتخلفين بالهلاك ، (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦) أي أهلكنا من بقي بعد لوط وابنتيه ، (وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) أي على قريات قوم لوط ، سذوم ، وعمورا ، وصبورا ، ودادوما (مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ) ، فإن أهل مكة كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار ، فلهذا السبب عين الله تعالى هذين الوقتين ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨) أي أتشاهدون ذلك فليس فيكم عقول تعتبرون به وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ) أي هرب من قومه بغير إذن ربه ، (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١٤٠) أي إلى السفينة الموقرة ، (فَساهَمَ) أي قارع في السفينة ، (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (١٤١) أي فصار من المغلوبين بالقرعة (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) ـ يقال له : لخم ـ (وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٤٢) أي مستحق اللوم (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (١٤٣) أي كان يقول في بطن الحوت : لا


إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، أو كان قبل أن التقمه الحوت من المصلين (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) أي ذلك الحوت (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي أمرنا الحوت بلفظه بالمكان الخالي ، عما يغطيه من شجر أو نبت.

قال جعفر : بشاطئ دجلة. وقيل : بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.

روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس عليه‌السلام ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء ، فأسلموا (وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥) أي مريض صار بدنه كبدن الطفل حين يولد ، (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦) أي من قرع وخص الله القرع ، لأنه يجمع برد الظل ، ولين الملمس ، وكبر الورق ، وأن الذباب لا يقربه ، فإن جسد يونس حين ألقي على الأرض الواسعة لم يكن يتحمل الذباب.

قال مقاتل بن حبان : كان يونس عليه‌السلام يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تتردد إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيا حتى اشتد لحمه ونبت شعره ، (وَأَرْسَلْناهُ) إلى قوم بنينوى ، وهي قرية من أرض الموصل (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧).

قال ابن عباس : إن أو بمعنى الواو ، وقد قرئ بالواو. (فَآمَنُوا) بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا (فَمَتَّعْناهُمْ) بالحياة الدنيا (إِلى حِينٍ) (١٤٨) أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم ، أي إن أولئك القوم لما آمنوا ، أزال الله عنهم الخوف وأمنهم من العذاب ، (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سل بعض أجناس العرب ممن قالوا : الملائكة بنات الله كبني مليح ، وبني سلمة وجهينة وخزاعة ، (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) اللاتي هي أوضع الجنسين (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) (١٤٩)؟ الذين هم أرفعهما ، فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل ، (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠)؟ أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ) أي كذبهم (لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ) فعل وفاعل حيث قالوا : الملائكة بنات الله.

وقرئ «ولد الله» ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي الملائكة ولد الله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢) في مقالتهم ذلك كذبا بينا. (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣) بفتح الهمزة ، وهي استفهام إنكار وتقريع ، أي اختار الله الإناث على الذكور (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٤) بهذا الحكم الجائر ، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين إلى الله تعالى وأحسنهما إليهم ، فالأول استفهام إنكار عما استقر لهم ، والثاني استفهام تعجب من هذا الحكم ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥) أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتعظون به! (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) (١٥٦) أي بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ، (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي دل على صحة دعواكم ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٥٧) في دعواكم. (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ) تعالى (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) أي إن قوما من الزنادقة يقولون : الله تعالى وإبليس إخوان ، فالله


تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم. ويقولون : إبليس مع الله شريك ، فالله خالق الخير ، وإبليس خالق الشر ـ وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ـ (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) أي ولقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار ، ويعذبهم بها ولو كانوا شركاء لله في استحقاق العبادة لما عذبهم ، ثم نزّه الله نفسه عما قالوا من الكذب فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٥٩) أي عما يقولون من الكذب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠) أي لكن عباد الله المخلصين لله بالاعتقاد والعبادة ، فإنهم لا يكذبون على الله ، وينزهون الله تعالى عما يصفه به تعالى الكاذبون ، وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة مناسبة فهو عند الله مخلص ممن الشرك ، (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) ، أي فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم ، إلا أصحاب النار الذي سبق في علم الله كونهم من أهل النار ، فإنهم يصرون على الكفر بسوء اختيارهم. وهذا استثناء مفرغ.

وقرأ العامة «صال الجحيم» بكسر اللام ، لأنه منقوص حذفت منه لام كلمته لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن بضم اللام وسقوط الواو لالتقاء الساكنين ومن موحد اللفظ مجموع المعنى ، (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤) ، أنزل الله تعالى هذه الآية حكاية عن قول الملائكة وهي حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم ، أي وما منا ملك إلا له مكان معلوم في العبادة ـ قاله ابن مسعود وابن جبير – وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في السماء موضع قدم إلّا عليه ملك ساجد أو قائم» (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) أي المنزهون لله تعالى عما لا يليق به تعالى (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) أي إن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون : لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله ، ولما كذبنا كما كذبوا ، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الشاهد على كل الكتب وهو القرآن ، (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠) عاقبة هذا الكفر والتكذيب ، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (١٧١) ، أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم وهو (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١٧٢) بالحجة (وَإِنَّ جُنْدَنا) وهم أتباع المرسلين (لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) على أعدائهم في الدنيا والآخرة ، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد ، فإن أساس أمرهم النصرة ، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من المحنة ، والحكم للغالب.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وقرئ «على عبادنا» بتضمين «سبقت» معنى حقت. وقرئ «كلماتنا». (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٤) ، أي أعرض عن كفار مكة إلى مدة يسيرة تؤمر فيها بجهادهم ، (وَأَبْصِرْهُمْ) وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا ومن العذاب في الآخرة (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٥) ما يقع عليهم من الأمور ، (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (١٧٦).


روي أنه لما نزل (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قالوا على سبيل الاستهزاء : متى هذا الموعود ، فنزل : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧) أي فإذا نزل العذاب بقربهم فبئس صباح المنذرين صباحهم.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر ، خربت خبير إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ)» (١). والصباح : هو وقت نزول العذاب وإن وقع ليلا.

وقرئ «نزل» بتشديد الزاي وبالبناء للمفعول. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) (١٧٨) أي أعرض عنهم إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة. (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩) ، أي يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠). وهذه كلمات محتوية على أقصى الدرجات في معرفة إله العالم ، فلفظة سبحان تنزيهه عما لا يليق بصفات الإلهية والربوبية دالة على كمال الرحمة ، والحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة وهي دالة على أنه تعالى قادر على جميع الحوادث ومنزه عن الشريك والنظير في الإلهية (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١). وهذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم ، فيجب على كل من سواهم الاقتداء بهم ، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢) على نجاة الرسل وسلامة الحال بعد الموت ، فالله تعالى غني رحيم ، والغني الرحيم لا يعذب.

__________________

(١) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (١٦٨).


سورة ص

ويقال لها سورة داود ، مكية ، ست وثمانون آية ، سبعمائة

واثنتان وثلاثون كلمة ، ثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ص) قيل : إنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا : صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، صمد. وقيل : معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله تعالى ، (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) أي ذي الشرف ، أو ذي البيان ففيه قصص الأولين والآخرين ، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من رؤساء قريش (فِي عِزَّةٍ) أي استكبار وامتناع من متابعة الغير (وَشِقاقٍ) (٢) أي إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف.

وقرئ «في غرة» ، أي في غفلة عما يجب عليه التنبيه له من دواعي الإيمان. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قريش (مِنْ قَرْنٍ) أي أمة ماضية ، (فَنادَوْا) بالاستغاثة عند نزول عذاب لينجوا من ذلك ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) أي والحال أنه ليس الحين حين منجى وغوث ، (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي وعجب قريش من أن جاءهم رسول من جنسهم ، وأنكروه أشد الإنكار فقالوا : إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي؟! (وَقالَ الْكافِرُونَ) أي المتوغلون في الكفر : (هذا) أي محمد (ساحِرٌ) فيما يظهره من الخوارق ، (كَذَّابٌ) (٤) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال ، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد ، (إِنَّ هذا) أي القول بالوحدانية (لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) ، أي بليغ في التعجب.

روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا ، وشق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال ، فلا تمل كل الميل على قومك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماذا يسألونني؟ قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك» فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتم


إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟». قالوا نعم. فقال : «قولوا لا إله إلّا الله» (١). فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد إن هذا الشيء عجاب. وقرئ «عجاب» بالتشديد. (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي انطلق الرؤساء من قريش عتبة بن أبي معيط ، وأبو جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب ، (أَنِ امْشُوا).

وقرأ ابن أبي عبلة بحذف «أن» ، أي قال بعضهم لبعض : اذهبوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي اثبتوا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦) أي إن نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة محمد ليستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد ، أو إن الصبر على عبادة الآلهة شيء يراد أن لا ننفك عنه ، (ما سَمِعْنا بِهذا) أي التوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) ، أي في ملة عيسى عليه‌السلام ـ كما قاله ابن عباس ومحمد بن كعب ـ أو في ملة قريش ـ كما قاله مجاهد ـ أي ما سمعناه عن أسلافنا القول بالتوحيد ، (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٧) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا اختلاق من عند نفسه ، (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي أأنزل على محمد القرآن ، ونحن رؤساء الناس وأشرافهم ، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية؟! (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) أي إنكار كفار مكة للقرآن ليس عن علم بل هم في شك منه ، وسببه أنهم لم يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن ، وآمنوا به وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين ، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩)؟ أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك من النبوة والكتاب فيعطونهما من شاءوا بمقتضى آرائهم. والمعنى : أن النبوة منصب عظيم عطية من الله تعالى ، فالقادر على هبتها يجب أن يكون كامل القدرة عظيم الجود ، فلم تتوقف هبته لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا ، أو فقيرا ، ولم يختلف ذلك بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه ، فهو تعالى الغالب الذي لا يغلب ، وهو الوهاب ، فله أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ، (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)؟ أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتحكموا في التدابير الإلهية التي ينفرد بها رب العزة ، (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠) أي إن كان لهم ذلك الملك فليصعدوا في طرق السموات التي يتوصل بها إلى العرش حتى يدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارون ، (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) ، و «جند» خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للتحقير ، أو صفة له ، و «هنالك» ظرف لـ «مهزوم» و «مهزوم» ، وصفة ثانية لـ «جند» ، و «من الأحزاب» صفة ثالثة لـ «جند» ، أي هم جند ضعيفون من المتحزبين على رسول الله سيصيرون منهزمين في

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : القناعة ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٨٥) ، وفيه «أموالكم» بدل «أقوالكم».


الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات ، وذلك الموضع هو مكة ، وذلك الانهزام يوم فتح مكة فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية؟ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك يا أكرم الرسل (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) (١٢) ، كان ينصب الخشب في الهواء ، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع ، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا ويتركه في الهواء إلى أن يموت.

وقال مجاهد : كان يمد المعذب مستليقا بين أربعة أوتاد في الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. قال السدي : ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل : إن عساكره كانوا كثيرين ، وكانوا كثيري الأهبة ، عظيمي النعم. وكانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام ، فعرف بها. (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الأشجار المجتمعة من قوم شعيب عليه‌السلام ، (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) (١٣) أي الذين تحزبوا على أنبيائهم عليهم‌السلام ، (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ما كل حزب منهم إلّا كذب الرسل كما كذبك قومك ، (فَحَقَّ عِقابِ) (١٤) أي فوقع على كل منهم عقابي ، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان ، وقوم هود بالريح ، وفرعون مع قومه بالغرق ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي وما ينتظر كفار مكة إن كذبوك إلا نفخة ثانية ، (ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) أي من توقف.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الفاء. (وَقالُوا رَبَّنا) بطريق الاستهزاء عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي حظنا من العذاب الذي توعدنا به ، (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦) ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه النفخة الثانية. وقيل : إنهم قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله. فالمعنى : عجل لنا صحيفة أعمالنا قبل يوم الحساب لننظر ما فيها ولنعلمه. وقيل : لما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد الله تعالى المؤمنين بالجنة فقالوا ذلك على سبيل السخرية. فالمعنى : عجل لنا نصيبنا من الجنة التي تقول في الدنيا ، وذلك لأنهم كانوا في غاية الإنكار للقول بالنشر والحشر. ولما بلغوا في السفاهة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من أمثال هذه المقالات الباطلة ؛ والوقف هنا تام. (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة على أداء الطاعة وعلى الاحتراز عن المعاصي ، (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧) أي رجاع في أموره كلها إلى طاعتنا ، (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى ، (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) أي يقدسن الله تعالى بخلق الله تعالى فيها الكلام ، فكان داود يسبح عقب صلاته عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) ، أي وسخرنا الطير محشورة.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه


الطير ، فسبحت معه. واجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو الله.

وقرئ و «الطير محشورة» بالرفع على الابتداء والخبرية. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود رجاع إلى التسبيح ، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته ، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة ، (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) بالهيبة ، وكثرة الجنود.

عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله.

وعن عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه ، فقال داود : للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه ، فتأخر داود وقال : هو منام ، فأتاه الوحي بعد ذلك في اليقظة ، فأحضر المدعى عليه وأعلمه ان الله أمره بقتله. فقال : صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فقال الناس : إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه ، فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب ، فهذه الواقعة شدت ملكه. (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل ، (وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل ، (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) أي خبر خصمي داود ، (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) ، أي إذا أتوا البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه من أعلاه ، أي تصعدوا حائطه المرتفع ، (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ).

روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه‌السلام ، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم ، وتسوروا المحراب ، فلما دخلوا عليه وجدوا عند أقواما يمنعونه منهم ، فخافوا ، فوضعوا كذبا فقالوا : خصمان أي نحن فريقان إلى آخر القصة ، فعلم عليه‌السلام غرضهم فهمّ بأن ينتقم منهم (بَغى بَعْضُنا) أي تطاول (عَلى بَعْضٍ) جئناك لتقضي بيننا ، (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي بالأمر الذي يطابق الحق (وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) أي دلنا إلى وسط طريق الحق ، (إِنَّ هذا أَخِي) في الدين ، أو في الصحبة ، (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي أنثى من الضأن ، (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ، أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣) أي غلبني في الكلام ، بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.

وقرئ و «عازني» أي غالبني. (قالَ) داود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي والله لقد ظلمك أخوك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ) أي ليعتدي بعضهم (عَلى بَعْضٍ) ، فلم يراع حق الصحبة والشركة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم ، فإنهم يتحامون على الظلم (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ، أي وهم قليل ، و «ما» مزيدة للتعجب من قلتهم. (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) و «ما» كافة زائدة ، أي وظن داود


أنا فتناه بهذه الواقعة ، لأنها جارية مجرى الامتحان فتنبه عليه‌السلام لذلك ، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) مما همّ به من الانتقام منهم. وقيل : إن دخولهم على داود كان فتنة له إلّا أنه عليه‌السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله. وقيل : إن أوريا كان قد خطب المرأة ، فأجابوه ، ثم خطبها داود في حال غيبة أوريا في غزاته ، فزوجت نفسها منه عليه‌السلام لجلالته ، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب» ، أي غلبني في خطبة المرأة.

وقيل : كان أهل زمان داود عليه‌السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته ، وكان داود عليه‌السلام ما زاد على قوله لأوريا : انزل لي عن امرأتك ، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد ، فأحبها ومال قلبه إليها ، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه‌السلام ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سلمان ، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس ، غير مخل بالمروءة ، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة ، وأعطينها ، فعوتب داود بشيئين :

أحدهما : خطبته على خطبة أخيه المؤمن.

والثاني : إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه‌السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل : إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا ، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة ، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه‌السلام مما نسب إليه من الكبائر ، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه (وَخَرَّ راكِعاً) ، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار ، (وَأَنابَ) (٢٤) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة.

وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة ، أو لما لا بد منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه ، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع ، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له ـ يقال له : ايشا ـ على ملكه ، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه.

قال الحسن : وكان داود عليه‌السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ، ويصوم نصف الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله ، وقام الليل كله.

وقال ثابت : كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار ، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما استغفر منه ، (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) أي حسن مرجع في الجنة ، (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ


خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي نبيا ملكا على بني إسرائيل نافذ الحكم عليهم ، (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي بالعدل ، لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه ، ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق ، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ، ووقوع الهرج والمرج في الخلق ، وذلك يفضي إلى هلاك الملك. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا ، (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، وهو يوجب سوء العذاب ، لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية ، وهو يمنع الاشتغال في طلب السعادات الروحانية ، (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الإيمان بالله ، وعن طاعة الله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) أي بنسيانهم يوم الحساب ، أي بتركهم الإيمان بذلك اليوم وتركهم العمل لذلك اليوم ، (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي عبثا جزافا بلا أمر ولا نهي. وهذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا للأعمال ، لأنها حاصلة بين السماء والأرض ، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها. وهذه الآية تدل أيضا على الحشر والنشر والقيامة. وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم ، فإما أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا للانتفاع ولا للإضرار ، فهذا باطل ، لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين أو للإضرار ، فهذا باطل ، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم ، أو للانتفاع وذلك إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة فإن كان الانتفاع في حياة الدنيا فهو باطل ، لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة ، لا يليق بالحكمة ، فثبت القول بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيوية ، وذلك هو القول بالحشر والقيامة فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض ، وما بينهما باطلا وإذا لم بكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر ، لازما ، وكل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (ذلِكَ) أي خلق ما ذكر لا لأجل الأمر والنهي ، ولا لأجل الثواب والعقاب (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأمر البعث والجزاء (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧) أي فشدة العذاب للذين كفروا بالبعث بعد الموت بسبب النار المترتبة على ظنهم أن لا بعث ولا حساب ، وذلك نفي لحكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض وفي أمره تعالى ونهيه ، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث والجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا ، بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، ورد الآخرين إلى أسفل سافلين. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كعلي بن أبي طالب ، وحمزة بن المطلب ، وعبيدة بن الحرث


كأشقياء الكفرة كعتبة وشيبة ـ ابني ربيعة ـ والوليد بن عتبة ، وهم الذين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة ، وعبيدة فقتل على الوليد بن عتبة ، وقتل حمزة عتبة بن ربيعة ، وقتل عبيدة شيبة بن ربيعة. قيل : نزلت هذه الآية لما قال كفار مكة للمؤمنين ، إنا نعطي في الآخرة من الخير مثل ما تعطون وتقرير هذه الآية : إنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر ، والزمانة ، وأنواع البلاء ، ونرى الكفرة ، والفساق في الراحة والغبطة ، فلو لم يكن حشر ونشر ، ومعاد كان حال المطيع أدون من حال العاصي ، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أن إنكار الحشر والنشر ، يوجب إنكار حكمة الله تعالى (كِتابٌ) أي هذا قرآن (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفة لكتاب (مُبارَكٌ) ، أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر مبتدأ مضمر.

وقرئ «مباركا» على الحال اللازمة ، لأن البركة لا تفارقه ، (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي ليتفكروا في معانيها اللطيفة ، وفي أسرارها العجيبة ، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة ، فإن من يتدبر ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم ، (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) من المرأة التي أخذها من أوريا ، (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ) أي سليمان (أَوَّابٌ) (٣٠) أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة ، مقبل إلى طاعة الله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) ، أي بعد الظهر (الصَّافِناتُ) ، أي الخيل التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل (الْجِيادُ) (٣١) ، أي سراع الجري. وعن إبراهيم التيمي أنها عشرون ألف فرس. (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي إني ألزمت حب الخيل لأجل كتاب ربي وهو التوراة فإن معنى الخير هو المال الكثير. والمراد به هنا الخيل ، (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣٢) أي استترت الصافنات عن النظر (رُدُّوها) أي الصافنات (عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣) ، أي فردوها عليه ، فأخذ سليمان عليه‌السلام يمسح سوقها وأعناقها ، وذلك أن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم ، كما أنه كذلك في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن سليمان عليه‌السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل ، وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ، ثم إنه عليه‌السلام أمر بتسييرها حتى غابت عن بصره ، وهو معنى قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت إليه شرع يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو ، ولأنه أراد أن يظهر أنه يتضع حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه ، وأنه يضبط السياسة والملك ، ولأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً).

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل : إن شاء الله فطاف عليهن ، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت


بشق رجل ، فجيء به على كرسيه ، فوضع في حجره فو الذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». قال العلماء : والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي محنته.

وقيل : إن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين : إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك ، فأمر السحاب ، فحمله ، فكان يربيه في السحاب ، فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله.

وقيل : إنه أصابه مرض شديد فصار يجلس على كرسيه وهو مريض وفتنته هو مرضه ، ولشدة المرض ألقاه الله على كرسيه والعرب تقول في الضعيف : إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ولما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي ، فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم كيف يصعد عليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله ، فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا ، ومات بختنصر ، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، (ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) أي رجع إلى حال الصحة أو تاب من خطئه ، (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي ما صدر عني من الزلة ، وهو ترك الأفضل والأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصالحين هضما للنفس وإظهارا للذل والخشوع ، وطلبا للترقي في المقامات ، (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي غيري بحيث لا يقدر أحد على معارضته ليكون معجزة لي ، لأن المعجزة أن لا يقدر أحد على معارضتها فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥) بالملك والنبوة لمن شئت ، (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) إياها (رُخاءً) أي لينة في أثناء سيرها ، أما في أوله فهي عاصفة ، (حَيْثُ أَصابَ) (٣٦) إلى أي موضع قصده وأراده (وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ) يبنون له ما شاء من الأبنية وهو بدل من الشياطين ، (وَغَوَّاصٍ) (٣٧) في قعر البحر فيستخرجون اللؤلؤ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨) أي مسلسلين في أغلال الحديد ، وهم المردة من الشياطين الذين لا يبعثهم إلى عمل إلّا انقلبوا ، (هذا) أي الملك (عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) لكثرته. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت ، أي غير محاسب علي منك وإمساكك أي ليس عليك حرج فيما أعطيت ، وفيما أمسكت من الأمر الذي أعطيناكه. وقيل : المعنى هذا أي تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فخل سبيلهم من الغل ، أو احبس من شئت في الغل من غير أن تحاسب وتأثم بذلك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا) في الآخرة (لَزُلْفى) أي قربى عظيمة (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) ـ وهو الجنة ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) بن عيصن بن إسحاق عليه‌السلام ، (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) اسمه معيط (بِنُصْبٍ) أي بلاء (وَعَذابٍ) (٤١) ، أي وسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة.


روي أن إبليس سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله : نعم ، عبدي أيوب ، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ، ولا يلتفت إليه. فقال : يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله ، فكان الشيطان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ، ثم يحمد الله تعالى. فقال الشيطان : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء إليه وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية ، وأخبره به فلم يلتفت إليه. فقال : يا رب أيوب لا يبالي بولده فسلطني على جسده فأذن فيه ، فنفخ في جلد أيوب ، فحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه ، فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده ، فخرج إلى الصحراء ، وما كان يقرب منه أحد ، فجاء الشيطان إلى امرأته ليا بنت يعقوب عليه‌السلام ، وقال : إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها ، فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة ، وحين كان الألم على الجسد لم يذكر أيوب شيئا ، فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين ، فتضرع ، ومن الوساوس أن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت ، والآفات التي حصلت ومنها : أنه كان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع ، فشق ذلك عليه عليه‌السلام فتضرع إلى الله تعالى وقال : إني مسني الشيطان بنصب وعذاب فإنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أكثر ، فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه بقوله تعالى : (ارْكُضْ) أي اضرب (بِرِجْلِكَ) الأرض ، فضربها ، فنبعت عين فقيل له : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) أي ماء تغتسل به فيبرأ ظاهرك (وَشَرابٌ) (٤٢) ، أي وتشرب منه فيبرأ باطنك أي إن الله تعالى أظهر من تحت رجل أيوب عينا باردة طيبة ، فاغتسل وشرب منها ، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله كما قال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بإحيائهم بعد هلاكهم كما قاله الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل (رَحْمَةً مِنَّا) أي لأجل رحمة عظيمة عليه على سبيل الفضل منا ، لا على سبيل اللزوم (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣) ، أي ولتذكير أصحاب العقول بحاله عليه‌السلام ليصبروا على الشدائد كما صبروا ، ويلجئوا إلى الله تعالى كما لجأ ليظفروا كما ظفر ، (وَخُذْ بِيَدِكَ) يا أيوب (ضِغْثاً) أي قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة مختلطة الرطب باليابس (فَاضْرِبْ بِهِ) ، أي امرأتك رحمة بنت يوسف الصديق. لأنه قد حلف ليضربنها مائة ضربة ، لأنه لقيها إبليس في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب فقال : أداويه على أنه إذا برىء قالت : أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك ، فحلف ليضربنها وقال : ويحك ذلك الشيطان كذا حكاه ابن عباس. (وَلا تَحْنَثْ) أي لا تأثم في يمينك بترك ضربها ، ولقد شرع الله تعالى هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) ، فيما أصابه في النفس والأهل والمال ، وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك الصبر ، فإنه يسمى جزعا كتمني العافية ، وطلب الشفاء على


أنه عليه‌السلام قال ذلك خيفة الفتنة في الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه ، بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلي به. ويروى أنه عليه‌السلام قال في مناجاته إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ولم يهنني ما ملكت يميني ولم آكل إلّا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ، ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله تعالى عنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) أي مقبل إلى طاعة الله ، (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٤٥) أي أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين فقوله تعالى : (أُولِي الْأَيْدِي) إشارة إلى القوة العاملة ، فأشرف ما يصدر عنها طاعة لله. وقوله : (وَالْأَبْصارِ) إشارة إلى القوة العالمة ، فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله وما سوى هذين القسمين باطل.

وقرأ ابن كثير «عبدنا» على التوحيد (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦) ، أي إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة ، وهي استغراقهم في ذكر الدار الآخرة حتى نسوا الدنيا ، وقرأ نافع وهشام بإضافة خالصة ، أي إنا اختصصناهم بإخلاصهم ذكر الآخرة وتناسيهم عند ذكرها ذكر الدنيا ، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) أي لمن المختارين من أبناء جنسهم المستعلين عليهم في الخير ، (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) بن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ، ثم استنبئ وهو ابن عم إلياس واللام زائدة. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء (وَذَا الْكِفْلِ) وهو ابن عم يسع ، أو بشر بن أيوب (وَكُلٌ) أي كل المتقدمين من داود إلى هنا (مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨) أي وكلهم من المشهورين بالخيرية وهم أنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى ، (هذا) أي ما تقدم من ذكر محاسنهم (ذِكْرٌ) أي شرف لهم وثناء جميل في الدنيا ، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٩) أي مرجع في الآخرة (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠) منها ، فـ «جنات» عطف بيان و «مفتحة» حال منها ، وقرئتا مرفوعتين هي جنات عدن مفتحة ، (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي جالسين على السرر في الحجال ناعمين في الجنة ، (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) (٥١) ، أي يسألون في الجنة بألوان الفاكهة وألوان الشراب ، (وَعِنْدَهُمْ) في الجنة (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي جوار حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، (أَتْرابٌ) (٥٢) أي مستويات في السن والحسن ، (هذا) أي المذكور (ما تُوعَدُونَ) في الدنيا (لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥٣) أي لأجل وقوعه في يوم القيامة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة ، (إِنَّ هذا) أي ما ذكر من ألوان النعم (لَرِزْقُنا) أعطيناكموه (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤) ، أي فناء (هذا) أي الأمر هذا المذكور (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) أي للكافرين (لَشَرَّ مَآبٍ) (٥٥) أي مرجع في الآخرة (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) (٥٦) أي المفرش (هذا) أي عذاب جهنم ، (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٥٧) فالحميم ماء حار يحرقهم بحره والغساق ماء بارد منتن يحرقهم ببرده.


وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والوقف على «فليذوقوه» كاف إن جعل خبرا لهذا ، أو جعل هذا مفعولا لفعل محذوف يفسره «فليذوقوه» ويكون «حميم» خبر مبتدأ محذوف ، وإن جعل هذا حميم مبتدأ وخبر وما بينهما اعتراض ، فالوقف على غساق وهو كاف. (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) (٥٨) أي ومذوق آخر من مثل هذا المذوق أجناس.

وقرأ أبو عمرو و «أخر» بضم الهمزة ، أي ومذوقات أخر من مثل هذا المذوق في الشدة والفظاعة أنواع مختلفة و «آخر» مبتدأ و «أزواج» خبره قال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم إذا دخلوا النار ، (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي هذا جمع كثيف قد دخل معكم النار كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال فقال هؤلاء الرؤساء : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا اتسعت منازلهم في النار (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) (٥٩) ، أي داخلون فيها كما دخلنا فيها. (قالُوا) أي الأتباع عند سماعهم ما قيل في حقهم خطابا بالرؤساء : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي لا وسع الله عليكم في منازلكم في النار ، أي أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به ، (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي أنتم قدمتم الطغيان الذي هذا العذاب جزاؤه فاقتدينا بكم (فَبِئْسَ الْقَرارُ) (٦٠) أي بئس المسكن لنا ولكم جهنم. (قالُوا) أي الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) (٦١) ، أي يا ربنا من شرع لنا هذا الطغيان من الرؤساء فزده عذابا مضاعفا في النار.

قال ابن مسعود : والمراد بالضعف الحيات والأفاعي (وَقالُوا) أي الطاعون : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) من فقراء المؤمنين ، (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) (٦٢) أي يقول أبو جهل : ما لنا لا نرى في النار عمارا وبلالا ، وصهيبا وخبابا كنا نعدهم من السفلة (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا).

قرأه نافع بضم السين (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦٣). وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وعاصم وابن عامر «أتخذناهم» بقطع الهمزة على الاستفهام للتوبيخ والتعجب فيوقف على الأشرار وهو كاف والمعنى : الأجل إنا قد اتخذناهم سخريا في الدنيا ، فأخطأنا ، فلم يدخلوا النار ، فلذلك لا نراهم أم لأجل أنه زاغت عنهم أبصارنا ولم نعلم مكانهم وهم فيها.

وقرأ ابن كثير والأعمش ، وأبو عمرو ، وحمزة والكسائي «اتخذناهم» بوصل الهمزة فلا يوقف على الأشرار ، لأن اتخذناهم صفة أخرى لرجالا. والمعنى : ما لنا لا نرى في النار رجالا سخرناهم وحقرناهم في الدنيا بل مالت أبصارنا عنهم فلا نعدهم شيئا (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي حكيناه عنهم (لَحَقٌ) ، أي واجب وقوعه فلا بد وأن يتكلموا به (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤) ، أي وهو كلام أهل النار في النار بخصومة بعضهم مع بعض.

وقرئ «تخاصم» بالنصب على أنه بدل من ذلك. (قُلْ) يا أفضل الخلق لكفار مكة : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي مخوف بعذاب الله لمن عصى ، (وَما مِنْ إِلهٍ) موجود (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا


يقبل الشركة (الْقَهَّارُ) (٦٥) لخلقه ، (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالقهما ، (الْعَزِيزُ) أي الغالب فلا يغلب في أمر من الأمور ، (الْغَفَّارُ) (٦٦) لمن تاب (قُلْ هُوَ) ، أي ما أنبأتكم به (نَبَأٌ عَظِيمٌ) (٦٧) وارد من الله تعالى (أَنْتُمْ عَنْهُ) أي عن ذلك النبأ (مُعْرِضُونَ) (٦٨) ، أي تاركون له. وهذه الجملة صفة ثانية (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩) ، أي ما كان لي من علم بكلام الملائكة وقت اختصامهم في أمر آدم عليه‌السلام ، (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠) أي ما يوحى إلي حال الملائكة إلّا كوني نذيرا مبينا ، أي أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلّا بالوحي وإنما أوحى الله إلي هذه القصة لأنذركم بها ، ولتصير هذه القصة حاضة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد ، (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) أي آدم (مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي جمعت أجزاء بدنه وصورته بالصورة الإنسانية ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي أفضت عليه الروح ، وهي عرض صار البدن بوجودها حيا وهي جوهر يسري في البدن سريان الضوء في الفضاء ، وسريان النار في الفحم ، (فَقَعُوا لَهُ) أي اسقطوا له (ساجِدِينَ) (٧٢) تحية له وتكريما ، فخلقه إنسانا فسواه فجعل الروح فيه ، (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٧٣) أي فسجد الملائكة كلهم بطريق المعية لآدم بحيث لم يبق منهم أحد إلّا سجد له ، ولم يتأخر في ذلك السجود أحد منهم عن أحد ، (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي تعظم عن السجود لآدم ، (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤) أي وصار إبليس من الكافرين بإبائه عن أمر الله بعد أن كان مسلما عابدا فإنه عبد الله ثمانين ألف عام. (قالَ) الله له : (يا إِبْلِيسُ) أي يا خبيث (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي لما خلقته بقدرتي ، وإرادتي من غير توسط أب وأم ، (أَسْتَكْبَرْتَ) أي أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق ، (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٧٥) أي من المستحقين للتفوق؟ (قالَ) إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧٦) والنار أفضل من الطين ، لأن النار تأكل الطين فلذلك لم أسجد له. (قالَ) الله له : (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الخلقة التي كنت عليها فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض ، وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا ، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٧٧) أي مطرود من كل خير (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) أي سخطي (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٧٨) أي يوم الحساب. (قالَ) إبليس : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٧٩) من القبور ، أي إذا جعلتني رجيما فلا تمتني إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور للجزاء بعد فنائهم ، وأراد الخبيث بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم وأن لا يذوق الموت. (قالَ) الله : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى ، لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول. (قالَ) إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ) أي فاقسم بعزتك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٢) ، أي لأضلن ذرية آدم عن دينك بتزيين المعاصي لهم (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) أي المعصومين من الغواية ، أو المخلصين قلوبهم وأعمالهم لله. (قالَ) الله : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (٨٤).


قرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني ، أي فأنا الحق ، أو فالحق قسمي ولا أقول إلّا الحق. وقرأ الباقون بنصبهما أي فبالحق أي أقسم بالحق. وقرئ بجرهما على أن الثاني حكاية لفظ المقسم به على أن معنى الحق نقيض الباطل.

وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) ، ومن جنسك من الشياطين ، (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) في الغواية (مِنْهُمْ) أي من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ) (٨٥) تأكيدا للكاف و «ما» عطف عليه. (قُلْ) يا أشرف الرسل : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على هذه الدعوة (مِنْ أَجْرٍ) أي دنيوي (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦) أي الحاملين للمشقة في الشريعة على الناس ، أي إن هذا الذي أدعوكم إليه دين لا يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة ، بل هو دين يشهد العقل بصحته ، فإني أدعوكم أولا إلى الإقرار بوجود الله ، ثم أدعوكم ثانيا إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به تعالى ، ثم أدعوكم ثالثا إلى الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ، ثم أدعوكم رابعا إلى الإقرار بكونه تعالى منزها عن الشركاء ، ثم أدعوكم خامسا إلى الامتناع عن عبادة الأوثان ، ثم أدعوكم سادسا إلى تعظيم الملائكة والأنبياء ، ثم أدعوكم سابعا إلى الإقرار بالبعث والقيامة ، ثم أدعوكم ثامنا إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة.

فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى ، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية ، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعوا الخلق إليها ، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد. وهو المراد من قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٨٧) أي ما هذا القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين كافة ، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) أي إنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد ، وأبيتم قبول هذه البينات التي ذكرناها في القرآن فستعلمون بعد الموت أنكم كنتم مصيبين في إعراضكم عنه أو مخطئين.


سورة الزمر

ويقال لها سورة الغرف مكية ، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ

الْحَدِيثِ) والأخرى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية ، خمس

وسبعون آية ، ألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة ، أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١) ، أي هذه السورة تنزيل الكتاب من الله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي ملتبسا بكل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما ، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢) ، أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء.

وقرأ ابن أبي عبلة برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله ، (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المنفرد بصفات الألوهية (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، والموصول مبتدأ وهو عبارة عن المشركين وخبره محذوف ، والوقف على «زلفى» كاف ، كما قاله أبو عمرو. وقيل : تام أي والمشركون الذي عبدوا من غير الله أربابا ملائكة وعيسى وعزيرا ، والأصنام ، والشمس ، والقمر ، والنجوم يقولون : ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله في المنزلة ، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وقرئ «ما نعبدكم إلّا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا له آلهتهم ، (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يوفق للاهتداء إلى الحق (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في وصفهم لغير الله بأنهم آلهة مستحقة للعبادة (كَفَّارٌ) (٣) لاعتقادهم في غير الله بالإلهية ولكفرانهم نعمة المنعم ، وهو الله تعالى فإن العبادة نهاية التعظيم ، وهي لا تليق إلّا بمن يصدر عنه غاية الإنعام (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) من الملائكة والآدميين كما قالت اليهود والنصارى ، وبنو مليح (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إذ كل موجود سواه مخلوق له ، لكن اتخاذ الولد من خلقه باطل لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق ، ولأن كونه منه يستلزم حدوث الخالق ، وهو ممتنع عقلا ونقلا (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن اتخاذ الولد (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) ، أي إن كون الله إلها واجب الوجود لذاته يوجب


كونه واحدا في حقيقته وكونه واحدا في حقيقته يمنع من ثبوت الولد فثبت أن كونه واحدا يمنع من ثبوت الولد ، ثم إن كونه تعالى قهار يمنع من ثبوت الولد له فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت ويحتاج إلى من يقوم مقامه ، لأنه يكون مقهورا بالموت ، أما الذي يكون قاهرا لا يموت كان الولد في حقه محالا. وقوله : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، أي ملتبسة بالصواب مشتملة على الحكم والمصالح (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) ، أي يغشى كل واحد منهما الآخر ويزيد كل واحد منهما بقدر ما ينقص الآخر ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي جعلهما منقادين لأمره تعالى ، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجري في فلكه لمنتهى دورته ، (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٥) أي إن خلق هذه الإجرام العظيمة دليل على كمال القدرة فهو يوجب الخوف والرهبة إلّا أنه تعالى غفار ، فكونه تعالى غفارا دليل على كثرة رحمته فهي توجب الرجاء والرغبة ، (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقها وهي نفس آدم وحدها ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها) أي من تلك النفس ، (زَوْجَها) حواء خلقها من ضلع من أضلاعه القصرى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) أي أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار وأشعة الكواكب (مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي أفراد من الإبل ، اثنين ذكر وأنثى. ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ، أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف ، (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) البطن والرحم والمشيمة ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله المربي لكم ، بالخلق والرزق ، فهو المستحق لعبادتكم ، (لَهُ الْمُلْكُ) في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي لا معبود للخلق أجمعين إلّا الله ، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦) أي فكيف تصرفون عن عبادة الله تعالى مع وفور دواعيها إلى عبادة غيره تعالى من غير داع إليها ، (إِنْ تَكْفُرُوا) به تعالى (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، أي فاعلموا أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة ، أو ليدفع عن نفسه مضرة ، لأن الله تعالى غني عن إيمانكم وشرككم ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي وإن كان لا ينفعه تعالى إيمان ولا يضره كفر ، إلّا أنه لا يرضى بالكفر (وَإِنْ تَشْكُرُوا) بأن تقروا باللسان بحصول النعمة ، وتعتقدوا صدور النعمة من الله تعالى ، وتعملوا الصالحات بجوارحكم (يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يرضى الشكر لأجل منفعتكم ، لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به.

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بضم الهاء مختلسة.

وقرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف. وقرأ نافع في بعض الروايات وابن عامر والكسائي ، وابن ذكوان ، والدوري مضمومة الهاء مشبعة. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى ، فكل مأخوذ بذنبه. وهذا بيان


لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلا (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث بعد الموت. فأهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان وأن يعرف ما يضره وما ينفعه وأن يعرف أحواله بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي يجازيكم بأعمال الكفر والإيمان في الدنيا ثوابا وعقابا. وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(١). (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) ، أي الكافر كعتبة بن ربيعة وأبي جهل (ضُرٌّ) في جسمه ، أو ماله ، أو أهله ، أو ولده (دَعا رَبَّهُ) أي استجار به (مُنِيباً إِلَيْهِ) أي مقبلا إليه بالنداء في إزالة ذلك الضر ، ولم يؤمل فيه سواه ، (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي ترك دعاء ربه الذي يتضرع إليه من قبل إعطاء النعمة ، كأنه لم يفزع إليه ونسي أن لا إله سواه ، فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله تعالى كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي أعدالا في العبادة (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد لام العاقبة ، أي ليثبت على الضلال عن دين الإسلام والباقون بضمها أي ليضل غيره عنه. (قُلْ) للكافر : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أي عش في كفرك في هذه الدنيا بقية عمرك وهذا الأمر زجر عن الكفر وتعريف لقلة تمتعه في الدنيا. (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨) أي من المعذبين في النار على الدوام ، وفي هذا إقناط للكافر من النجاة (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ).

وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «أمن» بتخفيف الميم والهمزة «إما» للاستفهام التقريري ومقابله محذوف تقديره «أمن» هو قائم بما يجب عليه من الطاعة في ساعات الليل حالتي السراء والضراء ، كمن جعل لله أندادا ودعا عند مساس الضر فقط ، أو للنداء ، أي يا من هو قائم في ساعات الليل قل : كيت وكيت أنت من أهل الجنة. وقرأ الباقون بتشديد الميم فـ «أم» داخلة على «من» الموصولة وهي إما متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير ، أم من هو قائم بأداء وظائف العبادات. أو منفصلة تقدر بـ «بل» والهمزة ، أي بل أمن هو مطيع لله كالكافر المقول له تمتع بكفرك (ساجِداً وَقائِماً) حال من ضمير قانت.

وقرئ بالرفع على أنه خبر بعد خبر ، (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي يخاف عذاب الآخرة (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ، أي جنة ربه فينجو مما يخافه ، ويفوز بما يرجوه. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) توحيد الله وأمره ونهيه وهو أبو بكر وأصحابه ، (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ـ وهو أبو جهل وأصحابه ـ ويجوز أن يراد هذا سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون

__________________

(١) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٥).


والعاصون ، (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩) أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الصافية ، ولا يعرف التفاوت الحاصل بين العلماء والجهال إلّا أصحاب القلوب النيرة. وقيل لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء ، فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم ، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي قل لهم ربكم يقول : أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) ، والجار والمجرور إما صلة لأحسنوا والمعنى للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة في الآخرة ، وهي الجنة. وإما صلة لحسنة. والمعنى : الذين أحسنوا في هذه الدنيا أمن وصحة وكفاية (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) ، أي فإن لم يتمكنوا من صرف الهمم إلى الإحسان في بلادهم فقل لهم : فإن أرض الله واسعة فلتهاجروا من تلك البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالعبادات ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا طاعة إلى طاعتهم ، لأنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠) ، أي بغير نهاية بهنداز ونحوه. (قُلْ) يا أشرف الرسل لكفار قريش ـ حيث قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ، ألا أنتظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك ، يعبدون اللات والعزى ، فتأخذ بها ـ : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (١١) أي العبادة عن شوائب الشرك والرياء وغير ذلك ، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢) أي وأمرت بأن أكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها ، فإني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك ، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه ، وأكثرهم مداومة عليه ، والعبادة لها ركنان : عمل القلب ، وعمل الجوارح. فعمل القلب : هو الإخلاص ، وعمل الجوارح : هو الإسلام. وهذا فائدة إتيان الأمر مرتين ، ثم بيّن الله أن هذا الأمر للوجوب فقال : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣) ومعنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤) ، أي لا أعبد أحدا سوى الله. والأول إخبار بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة وإخلاص القلب له تعالى. وهذا إخبار بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن لا يعبد أحدا غير الله ، وإخبار بامتثاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمر على أبلغ وجه ، (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) أن تعبدوه (مِنْ دُونِهِ) تعالى. وفي هذا دلالة على شدة الغضب عليهم. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي حين يدخلون النار حيث أوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها ، (أَلا) أي تنبهوا لهذه الخسرة العظيمة ، (ذلِكَ) أي الأمر العظيم (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥) ، فلا خسران وراءه ، فكل خسران يصير في مقابلته كلا خسران ،


(لَهُمْ) أي لهؤلاء الخاسرين (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) أي قطع كبار (مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) ، أي فراش من النار. والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب ، وإنما سمي ما تحتهم بالظلل ، لأن التي تكون تحتهم تكون ظللا لآخرين تحتهم ، لأن النار دركات وأيضا إن الظلة التحتانية تشابه الفوقانية في الحرارة والإحراق (ذلِكَ) العذاب هو الذي (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) المؤمنين ليخلصوا في الطاعة ، (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦) أي يا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر ، (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي الشيطان (أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي أقبلوا إليه بالطاعات (لَهُمُ الْبُشْرى) بنوع من الخير عند قرب الموت ، وعند الوضع في القبر ، وعند الخروج منه ، وعند الوقوف في عرصة القيامة وعلى باب الجنة. وقوله تعالى : (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل الاشتمال. والمعنى : والذين تركوا عبادة الشيطان إلخ ، فإن عبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها ، (فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

وعن ابن عباس أن المراد من هذا الرجل يجلس مع القوم ، ويسمع الحديث في ذلك المجلس محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ، ويترك ما سواه.

وقرأ السوسي «عبادي» بياء مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف. والباقون بغير الياء. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) للصواب ولمحاسن الأمور (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٨) أي هم ذوو العقول السليمة عن منازعة الهوى ، (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١٩) أي أفمن ثبت عليه كلمة العذاب أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال بدعائك له إلى الإيمان فتنقذه من النار. وهذا تنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص على إيمان قوم ، وقد سبقت لهم من الله الشقاوة ، فنزلت هذه الآية.

قال ابن عباس : نزلت في حق أبي لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن أطاعوه (لَهُمْ غُرَفٌ) أي منازل في الجنة رفيعة (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي من فوق تلك المنازل منازل أرفع منها (مَبْنِيَّةٌ) أي قوية كبناء المنازل المبنية على الأرض في الأحكام بخلاف منازل الدنيا ، فالفوقاني فضيلته الارتفاع ونقصانه السخافة ، والتحتاني فضيلته القوة ونقصانه التسفل. أما منازل الجنة فهي مستجمعة للفضائل ، فهي مرتفعة قوية وقوله تعالى : (لكِنِ) إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى ، وليست للاستدراك (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تجري من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية الأنهار المختلفة من غير تفاوت بين العلو والسفل (وَعْدَ اللهِ) أي وعدهم الله بذلك وعدا ، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة أن الله (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠) أي وعده للمؤمنين. وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى لم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد ، وذلك يدل على أن جانب الوعد من جانب الوعيد. أما قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو كلام


عام يتناول الوعد والوعيد ، فثبت أن ترجيح الوعد حق خلافا للمعتزلة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ)؟ أي ألم تعلم أن الله أنزل من السماء مطرا إلى بعض المواضع ، ثم يقسمه فيدخله في مجاري في خلال الأرض كالعروق في الأجساد. ويقال : فيدخل ذلك المطر في خلال الأرض حال كونه مياها نابعة في الأرض ، (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) أي ينبت بالمطر (زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها ، وصفاته من طعوم وألوان خضرة ، وحمرة ، وصفرة ، وبياض وغير ذلك. (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يتم جفافه (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته.

وقرئ مصفارا (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي منكسرة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من الأفعال الخمسة (لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١) ، أي لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الصافية يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة الانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام ، فلا يغترون ببهجتها ، ويجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في عيون الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة ، (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)! أي أكل الناس سواء فمن جعله مستعدا للإسلام فهو على هداية من ربه فـ «من» شرطية وخبرها ما بعدها. وقيل : اسم موصول مبتدأ خبره محذوف والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى فهو على لطف إلهي فائض عليه كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته! (فَوَيْلٌ) ، أي عذاب وخسران (لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) ، أي من أجل ذكر الله ، فإذا سمعوه نفروا وازدادوا قسوة ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر ، فلما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] قال كل واحد من القوم فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب فهكذا أنزلت» (١). فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر.

وقرئ «عن ذكر الله» ، أي عن قبول ذكر الله (أُولئِكَ) أي الذين قست قلوبهم (فِي ضَلالٍ) أي بعد عن الحق (مُبِينٍ) (٢٢) ، أي ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل : نزلت هذه الآية في حمزة وعلي رضي‌الله‌عنهما ، وأبي لهب وولده. وقيل : في عمار بن ياسر ، وأبي جهل وأصحابه. (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنّة ، باب : ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الدنيا ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب : ما يستفتح به الصلاة من الدعاء ، وأحمد في (م ٢ / ص ٦١).


على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل ، ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا ، (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا ـ كما قاله ابن عباس ـ فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضا. والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله ، (مَثانِيَ) فإنه أكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين : آية الرحمة والعذاب ، وآية الوعد والوعيد ، وآية الأمر والنهي ، وآية القصص والأحكام وغير ذلك. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) فإن الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فههنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج عنه ، ولا متصل بالعالم ، ولا منفصل عنه مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود ، وإذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون الله تعالى فردا أحدا ، وثبت أن كل متحيز منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، و «عدي» و «تلين» بـ «إلى» ، لأن تقدير الكلام : تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله ، وهو لا يحسن بالإدراك ويقال : إنهم إذا سمعوا القرآن وذكر آيات العذاب أصابتهم خشية أو ذكر آيات الرحمة اطمأنت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وإنما قال الله إلى ذكر الله ، ولم يقل إلى ذكر رحمة الله ، لأن المحب المحق الذي في الدرجة العالية هو من أحب الله لا لشيء سواه ، وأما من أحب الله لأجل رحمته ، فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره (ذلِكَ) أي الكتاب الذي هو أحسن الحديث (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو الذي شرح صدره لقبول هذه الهداية ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي ومن جعل الله قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم ، منافيا لقبول هذه الهداية (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) ، يخلصه من ورطة الضلال.

وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في الوقف. (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٢٤)! والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة على جملة مقدر ، و «من» اسم موصول مبتدأ وخبره محذوف. وقيل : معطوف على «يتقي». وتقدير الكلام : أكل الناس سواء فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة يقي به وجهه العذاب الشديد يوم القيامة وتقول لهم خزنة النار : ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا ، كمن هو آمن من العذاب! قيل : يلقى الكافر في النار مغلوبة يداه إلى عنقه ، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار فيها وهي في عنقه فحرها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. قيل : نزلت هذه الآية في حق أبي جهل وأصحابه. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قومك من الأمم السالفة ، (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) المقدر لكل أمة منهم (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (٢٥) ، أي من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) ، أي فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أعظم من ذلك الذي وقع ، (لَوْ كانُوا


يَعْلَمُونَ) (٢٦) عذاب الآخرة ما كذبوا رسلهم ، ولكن لا علم لهم أصلا ، (وَلَقَدْ ضَرَبْنا) بيّنا (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي وجه يحتاج إليه الناظر في أمور دينه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٧) ، أي كي يتعظوا به (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي بريئا عن التناقض.

وقيل : أي غير مخالف لسائر الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد. وقال السدي : أي غير مخلوق. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) أي لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً) فـ «مثلا». مفعول ثان لـ «ضرب» و «رجلا» مفعوله الأول. (فِيهِ شُرَكاءُ) أي سادات (مُتَشاكِسُونَ) أي متخالفون ، سيئة أخلاقهم (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) ، أي ورجلا خالصا لسيد واحد.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالما» بالألف وكسر اللام. والباقون بفتح السين واللام بغير الألف.

وقرئ «سلما» بفتح السين وكسرها مع سكون اللام. وقرئ «ورجل سالم» بالرفع على الابتداء ، أي وهناك رجل سالم لرجل (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي صفة ، أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. والمعنى اضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا وقل : ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع ، فكل واحد منهم يدّعي أنه عبده ، فهم يتجاذبون في حوائجهم ، وهو متحيّر في أمره ، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون ، وإذا احتاج في مهم إليهم ، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم ، وفي رجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعينه على حاجاته ، فإن أطاعه عرف له وإن أخطأ صفح عن خطأه فأيّ هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا ، وأقل تعبا وهذا مثل ضربه الله الكافر الذي يعبد آلهة شتى ، والمؤمن الذي يعبد الله وحده. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي لما بطل القول بإثبات الشركاء وثبت أنه لا إله إلّا الله الواحد الأحد ثبت أن الحمد له لا لغيره ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩) أن الحمد له تعالى لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره ، ويقال : لا يعلمون أمثال القرآن (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ) أي كفار مكة (مَيِّتُونَ) (٣٠) أي إنك وإياهم ، وإن كنتم أحياء في أعداد الموتى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١) أي تتكلمون أنتم ورؤساء الكفار بالحجة. والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا ، فلا تبال يا أشرف الرسل بهذا ، فإنك ستموت وهم سيموتون أيضا ، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى ، والعادل الحق يحكم بينكم ، فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذ يتميز الحق من الباطل ، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) أي لا أحد أظلم ممن أثبتوا لله ولدا.


وشركاء. و «كذب» بتخفيف الذال ، (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي بالأمر الذي هو نفس الصدق وهو ما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لا إله إلّا الله والقرآن وغير ذلك. (إِذْ جاءَهُ) أي في أول مجيء ذلك الأمر من غير تدبر فيه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٣٢) ، أي لهؤلاء الذين افتروا على الله وسارعوا إلى تكذيب الصدق من أول الأمر ، (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بعين الحق (وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) ، أي المنعوتون بالتقوى ، والموصول عبارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي صدّق بنفس الصدق هو أبو بكر. وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب ، وجماعة من المفسرين. وقيل : المراد من الموصول كل من جاء بالصدق ، وهم الأنبياء والذي صدق به الأتباع ، ويؤيد هذا القول قراءة ابن مسعود رضي‌الله‌عنه ، والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به.

وقرئ «وصدق به» بتخفيف الدال ، أي صدق الرسول بذلك الصدق الذي هو بمعنى القرآن الناس ، ولم يكذبهم بأن أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف.

وقيل : صار الرسول صادقا بسبب الصدق الذي هو القرآن ، لأنه معجزة ، وهي تصديق من الله تعالى ، فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة.

وقرئ وصدق به على البناء للمفعول ، أي صدق الرسول بالقرآن ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم كل ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر ، وسائر أهوال القيامة ، إنما يقع قبل دخول الجنة ، (ذلِكَ) أي حصول ما يشاءونه (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٣٤) أي الذين أحسنوا أعمالهم (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أقبح أعمالهم دفعا لمضارهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥) أي بإحسانهم ، إعطاء لمنافعهم. والمراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم‌السلام فيما أتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم ـ وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان ـ ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب. وقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ) بمتعلق بقوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) ، باعتبار فحواه حيث كان إخبارا بما سيثبت لهم فيما سيأتي ، وهو في معنى الوعد كأنه قيل وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار ، ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ. (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قال السدي ـ ويقال : هو خالد بن الوليد مما يريدون به.

وقرأ حمزة والكسائي «عباده» ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام ، فإن قومهم قصدوهم بسوء لقوله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر : ٥] ودخول همزة الإنكار على كلمة النفي تفيد معنى إثبات الكفاية ، أي هو كاف عبده (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) تعالى ، وهم اللات والعزى ومناة أي إن قريشا يقولون لك : يا محمد لا تشتمها ولا تعبها فتخبلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.


وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها. لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إليها ، فهشم أنفها ، فنزلت هذه الآية (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه حتى غفل عن كفاية الله لعبده محمد وخوفه بما لا ينفع ولا يضر (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٦) ، أي مرشدا إلى دينه (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) لدينه (فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) عن دينه ، (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) أي غالب على أمره (ذِي انْتِقامٍ) (٣٧) من أعدائه لأوليائه. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي كفار مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلقهما لوضوح الدليل على تفرده تعالى بكونه خالقا لهما. (قُلْ) تبكيتا لهم : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)! أي إذا لم يكن خالق سوى الله تعالى وقد أقررتم بأن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى ، فأخبروني بأن ما تعبدون من غير الله وهي اللات والعزى ومناة ، (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) أي بلاء (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) ، أي رافعات بلائه تعالى عني ، (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) أي بنفع (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) ، أي مانعات نعمته عني حتى تأمروني بعبادتها وتخوفوني معرتها وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ) متعد لاثنين : أولهما : «ما تدعون». والثاني : الجملة الاستفهامية.

وقرأ أبو عمرو بتنوين «كاشفات» و «ممسكات» ونصب «ضره» و «رحمته». وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سألهم قالوا : لا ، أي لا تكشف ولا تمسك فنزل قوله تعالى : (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣٨). أي قل لهم : إذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية ، وكان الاعتماد عليه كافيا ، فثقتي في جميع أموري من إصابة الخير ، ودفع الشر بالله تعالى ، وبه تعالى يثق الواثقون لا على غيره أصلا ، لعلمهم بأن كل ما سواه تعالى تحت ملكوته تعالى. (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على حالتكم ، وهي الكفر والعناد.

وقرأ شعبة «مكاناتكم» بالجمع. وهو مروي عن عاصم أيضا (إِنِّي عامِلٌ) على حالتي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي يهلكه في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤٠) ، أي ومن ينزل عليه عذاب دائم هو عذاب النار ، و «من» موصولة مفعول «تعلمون» ، والأمر للتهديد أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة ، فاجتهدوا في أنواع كيدكم ، فإني عامل في تقرير ديني ، فسوف تعلمون أن الخزي في الدنيا بالجوع والسيف ، والعذاب الدائم في الآخرة يصيبني أو يصيبكم. (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) أي لنفع الناس ولاهتدائهم به ، (بِالْحَقِ) أي مقرونا بالحق ، وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله ، (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه فنفعه يعود إلى نفسه ، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن لم يعمل بما فيه فضير ضلاله يعود إلى نفسه ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٤١) أي إنك لست مأمورا بأن تجبرهم على الإيمان والهدى ، وما وظيفتك إلّا البلاغ ، فالهداية والضلال لا يحصلان إلّا من الله تعالى ، ومن عرف هذه الحقيقة فقد عرف سر الله في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت


عليه المصائب. (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي الله يقبض الأرواح من الأبدان حين موت أجسادها بخلق الموت ، وإزالة الحس بالكلية ، ويقبض الأرواح التي لم تمت حين تنام بإزالة الإدراك وخلق الغفلة في محل الإدراك ، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فلا يردها إلى البدن.

وقرأ حمزة والكسائي «قضى» على البناء للمفعول ورفع الموت ، (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي يزيل الحابس عن النائمة ، فتعود عند التيقظ كما كانت (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت النفخة الثانية في الممسوكة ، ووقت الموت في المرسلة ، فالجار والمجرور متعلق بكل من «يمسك» و «يرسل».

قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

وقال علي رضي‌الله‌عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فهي الرؤيا الكاذبة ، لأنها من إلقاء الشيطان. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما والإرسال في الآخر (لَآياتٍ) عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته ، (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢) في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان ، وقبضها عنها تارة بالكلية كما عند الموت ، وحبسها عن التصرف تارة أخرى كما عند النوم ، وإزالة حبسها عنه حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها ، (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي إن الكفار قالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين ، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله تعالى ، فأجاب الله تعالى بقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) تشفع لهم عنده تعالى (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) (٤٣) أي قل لهم أيشفعون في حال كونهم لا يملكون شيئا من الأشياء ، وفي حال كونهم لا يعقلونه؟ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا في تلك الشفاعة من هذه الأصنام ، أو من أولئك العلماء الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم ، فهذه الأصنام لا تملك شيئا ولا تعقله ، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها ولا يملك أحد من العلماء وغيرهم شيئا؟ ولا يقدر أحد على الشفاعة إلّا بإذن الله؟! فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله لأنه الذي يأذن في الشفاعة ، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له ملكها ، وما فيهما من المخلوقات ، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه تعالى ورضاه ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤٤) يوم القيامة فيفعل يومئذ ما يريد (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ


وَحْدَهُ) دون الآلهة (اشْمَأَزَّتْ) أي انقبضت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، أي بالبعث بعد الموت حتى يظهر أثر ذلك الانقباض في أديم الوجه ، (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي فرادى ، أو مع ذكر الله (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥) حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة الوجه. (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي يا عالم ما غاب عن العباد وما علموه ، (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ) من أمر الدين. وعن أبي سلمة قال : سألت عائشة رضي‌الله‌عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته بالليل؟ قالت : كان يقول : «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(١). (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لو أن لهؤلاء الكفار جميع ما في الدنيا من الأموال ومثله معه لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٤٧) ، أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي وظهر لهم سيئات كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٨) أي أحاط بهم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به ، (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) أي الكافر (ضُرٌّ) أي فقر ومرض ، (دَعانا) أي يفزعون إلينا ويعتقدون أن دفع ذلك لا يكون إلّا منّا ، (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي إذا أعطيناه مالا أو عافية في البدن تفضلا منا. (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي خير علمه الله مني ، فإن كانت النعمة سعة في المال قال : إنما حصل هذا بكسبي ، وإن كانت صحة قال : إنما حصلت هذه الصحة بسبب العلاج الفلاني. (بَلْ هِيَ) أي النعمة (فِتْنَةٌ) أي اختبار أيشكر أم يكفر ، ذلك لأن عند حصولها يجب الشكر وعند فواتها يجب التصبر ، ويختبر بها من أوتي النعمة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي هؤلاء القائلين هذا الكلام (لا يَعْلَمُونَ) (٤٩) أي هذا التخويل ، إنما كان لأجل اختبار أي إنا نتفضل على ذلك الإنسان وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق ، (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قد قال الذين من قبل قومك يا أفضل الخلق مثل هذه المقالة ـ وذلك مثل قارون وغيره ـ (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥٠) أي فما دفع عنهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ، ويجمعون منه شيئا من عذاب الله ، (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي بل أصابهم جزاء أعمالهم من العذاب ، (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعتو (مِنْ هؤُلاءِ) أي من مشركي قومك (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي عقوبات ما عملوا كما أصاب الأمم ، (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٥١) أي هم لا يعجزونني في الدنيا

__________________

(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٣٠٤٠) ، والعقيلي في الضعفاء (٤ : ٢٣١) ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (١ : ٤٥) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (١ : ١٩٢).


والآخرة. (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، أي أقالوا ذلك ولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ، وإن كان لا قوة له ويضيق الرزق لمن يشاء ، وإن كان قويا شديد الحيلة ، وليس ذلك لأجل الطبائع والأنجم لأن الساعة التي ولد فيها السلطان قد ولد فيها أنواع الناس ، وأنوع الحيوانات ، وأنواع النباتات ، وحدوث هذه الأشياء الكثيرة في الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة دليل على أن المؤثر فيه هو الله تعالى وحده دون الطوالع قال الشاعر :

فلا السعد يقضي به المشتري

 

ولا النحس يقضي علينا زحل

ولكنه حكم رب السما

 

وقاضي القضاة تعالى وجل

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي البسط والتضييق (لَآياتٍ) دالة على أن الحوادث كلها من الله تعالى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها. (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، أي أفرطوا في الجناية عليها بالمعاصي.

وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بسكون الياء وسقوطها في الوصل. والباقون بفتحها وكلهم يقفون بإثبات الياء إلا في بعض روايات أبي بكر عن عاصم ، فإنه يقف بغير ياء. (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من مغفرة الله وتفضله ، أي واقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال ، (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ، أي بالتوبة إذا صحت توبته ، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته. فالتوبة واجبة في كل واحد وخوف العقاب قائم. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣) لمن تاب من الكفر وآمن بالله.

قيل : إن هذه الآية نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣] فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئا خفنا عليه ، ومن لم يصب منها شيئا رجونا له. فأنزل الله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) ، أي أقبلوا إلى ربكم بالتوبة من الكفر ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي أطيعوا الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) إن لم تتوبوا ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (٥٤) أي لا تمنعون من عذاب الله ـ نزلت هذه الآية في وحشي وأصحابه ـ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن لقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً).


وقال الحسن معناه : والتزموا إطاعة الله واجتنبوا معصية الله فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ذكر القبيح ليتجنب عنه ، والأدون لئلا يرغب فيه. والأحسن ليتبع وليتقوّى به. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥٥) بمجيئه لتتأهبوا له ، (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) مفعول لأجله ، أي أنيبوا إلخ كراهة أن تقول نفس : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي يا ندامتا على تفريطي في حق الله وأمره وطاعته ، (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦) أي والحال إني كنت لمن المستهزئين بدين الله وأهله ، (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أي بيّن لي الإيمان (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧) أي من الموحدين (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي رجعة إلى دار الدنيا ، (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) في العقيدة والعمل. فيقول الله تعالى ردا على ذلك : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) أي وهي القرآن ، مرشدة لك (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ) أي تكبرت عن الإيمان بها (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩). فبيّن الله تعالى أن الحجة عليهم لله لا أن الحجة لهم على الله. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه تعالى كاتخاذه تعالى الولد. وكقولهم : إن الله تعالى حرم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام. وبأن وصفوا الأصنام بالآلهة. (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) سوادا مخالفا لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله ، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠)؟ أي منزل للمتكبرين عن الإيمان والطاعة. (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ).

وقرأ حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم «بمفازاتهم» بالجمع ، أي ينجي الله الذين بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه تعالى من منزل المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة ، فكما وقاهم الله في الدنيا من المخالفات حماهم في الآخرة من العقوبات ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي العذاب ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦١) على فائت ، لأنه لا يفوت لهم شيء أصلا.

وقيل : المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات ، ثم فسرت تلك النجاة بقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) إلخ (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة الكاسب لأسبابها ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) أي إن الأشياء كلها موكولة إليه تعالى ، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك ، فيتولى التصرف فيها كيفما يشاء (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي له تعالى مفاتيحها لا يتمكن من التصرف فيها غيره.

وقيل : سأل عثمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال : «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها : لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، سبحان الله ، وبحمده ، أستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده


الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير» (١). والمعنى أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد بيده وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصابه. وقال قتادة ومقاتل : له مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة. وقال الكلبي : له خزائن المطر والنبات. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي الناطقة بكونه تعالى خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا مقاليد السموات والأرض بأسرها ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٣) خسرانا لا خسار وراءه. (قُلْ) يا أشرف الخلق لأهل مكة ـ حيث قالوا له : أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ـ : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٦٤)؟! أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده تعالى أعبد غيره تعالى بأمركم. و «غير الله» منصوب بـ «أعبد» ، و «تأمروني» اعتراض. وقيل : «أن أعبد» معمول لـ «تأمروني» على إضمار «أن» المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها وجاز تقديم معمول صلة «أن» على الموصول بـ «أن» المحذوفة ، والأصل : أتأمروني بأن أعبد غير الله ويؤيد هذا القول قراءة «أعبد» بالنصب. وقرأ نافع «تأمروني» بنون واحدة مخففة مع فتح الياء ، وهي نون الرفع كسرت للمناسبة. وابن كثير بنون مشددة وفتح الياء وابن عامر بنونين ساكنة الياء والباقون بنون واحدة مشددة وسكون الياء. (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الرسل عليهم‌السلام : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥). وهذه قضية شرطية ، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ، ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا ، (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ). وهذا رد لما أمروه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من الإسلام ببعض آلهتهم كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلّا غير الله ، وكأنه تعالى قال : فلا تعبد إلّا الله. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦) لله على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلّا عبادة الإله القادر العليم الحكيم ، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله تعالى ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي وما عظموا الله حق تعظيمه ، أي تعظيما لائقا به تعالى بل أنزلوه عن قدره ومنزلته ، إذ زعموا أن له شركاء ، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى. والحال أن الأرض جميعا مقدورته تعالى يوم القيامة والسموات مطويات بقدرته تعالى ، أو ما عرفوا الله حق معرفته حيث وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة ، حيث قالوا : يد الله مغلولة. وقالوا : إن الله فقير يطلب منا القرض إلخ ، ومقصود هذه الآية إشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة ، وذلك يدل على قدرته التامة على الإيجاد والإعدام ، فإذا حاول تخريب الأرض يزيلها ، فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها ، وذلك يدل على كمال الاستغناء.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٥ : ٣٤٦).


وقرئ «قبضة» بالنصب على الظرف ، أي في ملكه تعالى وقدرته. وقرئ «مطويات» بالنصب على الحال و «السموات» معطوفة على الأرض. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧) أي إن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول في وصف عظمته ، تنزه عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية وأن يكون تعالى عاجزا ومحتاجا إلى شيء ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) نفخة الموت (فَصَعِقَ) أي مات (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ).

قال كعب الأحبار : هم اثنا عشر جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وملك الموت ، وحملة العرش ، وهم ثمانية. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي الصور بعد أربعين سنة نفخة (أُخْرى) ـ وهي نفخة البعث ـ تمطر السماء كنطف الرجال ، (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) من قبورهم (يَنْظُرُونَ) (٦٨) ، أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين ، و «ينظرون» حال من ضمير «قيام» وقرئ «قياما» بالنصب على الحال من ضمير «ينظرون» ، فهو حينئذ خبر المبتدأ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت لتحشر الناس فيها بعدل ربها ، (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي صحائف الأعمال وهي ديوان الحفظة في أيدي العمال ، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) ، أي الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الملائكة الحفظة ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين العباد (بِالْحَقِ) أي بالعدل ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ، أي وفيت كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملته من خير وشر ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠) ولا حاجة به تعالى إلى كتاب ولا إلى شاهد ومع ذلك تشهد الكتب والشهود إلزاما للحجة. (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ) بالعنف والدفع ، (زُمَراً) أي أفواجا متفرقة بعضها عقب بعض على حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة ، (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي جهنم (فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي طرقها لهم ولم تكن قبل ذلك مفتوحة ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ـ وهم الزبانية ـ تقريعا وتوبيخا : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم؟ وقرئ «نذر منكم»؟ (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) من القرآن وغيره ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، أي لقاء وقتكم هذا هو وقت دخولهم النار؟ (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧١) أي بلى قد أتونا وتلوا علينا وأنذرونا ، ولكن ثبتت علينا كلمة العذاب ، ومن وجبت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب؟ (قِيلَ ادْخُلُوا) أي ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا لهم : ادخلوا (أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي مقدرا خلودكم فيها ، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢) أي على الأنبياء جهنم ، أي أنهم دخلوا النار ، لأنهم تعظموا عن الإيمان بالرسل ولم يقبلوا قولهم ، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة ، ولأن بعضهم قالوا : لا ندخلها حتى يدخلها


أحبائي وأصدقائي ، ولأن بعضهم استغرقوا في مشاهدة مواقف الجلال والجمال ، وهي مانعة لهم عن الرغبة في الجنة وكلهم راكبون فتساق مراكبهم (زُمَراً) ، أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) ـ «الواو» للحال ـ أي وقد فتحت أبوابها قبل وصولهم إليها ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) على باب الجنان : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) من كل الآفات (طِبْتُمْ) ، أي صلحتم لسكناها ، لأنكم نظفتم من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا ، (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) وجواب «إذا» محذوف تقديره : اطمأنوا وسعدوا. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) في قوله تعالى : لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) ، أي أورثنا الله أرض الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي ينزل كل واحد في أي مكان أراده من جنته الواسعة ، فهو يتخير في منازل قسمه فلا يختار أحد مكان غيره مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها ، (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤) الجنة. وهذا من كلام الله تعالى (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين بالعرش ، أي كما أن دار ثواب المتقين هي الجنة ، فكذلك دار ثواب الملائكة هو جوانب العرش وأطرافه ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) فثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح ، وأعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي إن الملائكة على مراتب متفاوتة فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥) ، أي قال الملائكة : الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق ، وهم ما حمدوه تعالى لأجل ذلك القضاء بل حمدوه تعالى بصفته تعالى الواجبة له ، وهي كونه تعالى ربا للعالمين ، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم ، وإنما حمد الإنعام ويقال : إن هذا من بقية شرح ثواب المؤمنين فيقال : في التقرير كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد ، فكذلك حرفة الملائكة الاشتغال بالتحميد والتسبيح ، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة ، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتمجيده وتسبيحه ، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم. وقال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين البشر (بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي إنهم يقدمون التسبيح ، فالتسبيح عبارة عن إقرارهم بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال والتحميد عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفا بصفات الإكرام ، ثم إن الله تعالى لم يبين ذلك القائل. والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء ليس إلّا أن يقولوا الحمد لله رب العالمين.


سورة المؤمن

وتسمى صورة الطول وسورة غافر ، مكية ، خمس وثمانون آية ، ألف

ومائة وتسع وتسعون كلمة ، أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذه السورة المسماة بـ «حم» تنزيل الكتاب ، (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي الذي لا يوجد له مثل (الْعَلِيمِ) (٢) بوجوه المصالح والمفاسد ، (غافِرِ الذَّنْبِ) أي غافر للذنوب الكبار ، قبل التوبة ممن قال : لا إله إلّا الله ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) لمن تاب من الشرك (شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن مات على الشرك (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي الفضل على من آمن به بترك العقاب المستحق ، وذي الغنى على من لم يؤمن به (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) أي مرجع من آمن به ومن لم يؤمن به ، (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) بالجدال الباطل ، (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بها وهو أن يقال في حق القرآن : إنه سحر ، أو إنه شعر ، أو إنه قول الكهنة ، أو إنه أساطير الأولين ، أو إنما يعلمه بشر أو أشباه ذلك مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن جدالا في القرآن كفر». (١) وقال : «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر». (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤) أي لا ينبغي أن تغتر بأني أتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارات وطلب المعاش ، وإني سآخذهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) أي الأمم المتفرقة (مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي من بعد قوم نوح كقوم عاد وثمود ، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وعزمت كل أمة من هؤلاء المكذبين أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويهلكوه ، (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي خاصموا رسلهم بإيراد الشبهات (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ، أي ليزيلوا بإيراد تلك الشبهات الصدق (فَأَخَذْتُهُمْ) بسبب ذلك (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) ، أي عقابي إياهم أليس كان مهلكا مهيبا في السماع؟ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١٧٠).


النَّارِ) (٦) ، أي كما ثبت حكمه تعالى بالتعذيب على أولئك الأمم الكاذبة على رسلهم ، ثبت على الذين كفروا وتحزبوا عليك كونهم مستحقي أشد العقوبات التي هي عذاب النار. فقوله تعالى : (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) في محل رفع بدل من قوله تعالى : (كَلِمَةُ رَبِّكَ) أو في محل نصب بحذف لام التعليل ، أي لأنهم ملازمو النار أبدا.

وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» بالجمع. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهم في الدنيا أربعة ، وفي يوم القيامة ثمانية ، أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، (وَمَنْ حَوْلَهُ) وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

قال شهر بن حوشب : وحملة العرش يوم القيامة ثمانية : فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على علمك وحلمك. وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ا هـ. ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم.

روي في الحديث : «أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة» (١). (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). وهذا تنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حوله يشاهدونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح ، لأن الإقرار بوجود شيء حاضر معاين لا يوجب الثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح ، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به من غير أن يشاهدوه تعالى حاضرا هناك ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) شفقة على خلق الله ، وقد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله. ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة لخلق الله ، فالتسبيح مشعر بالتعظيم لله والدعاء للمؤمنين مشعر بالشفقة عليهم. وقيل : هذا الاستغفار في مقابلة قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠]. فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم ، وهو كالتنبيه لغيرهم على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له ، وعلى من آذى غيره أن يجبره بإيصال نفع إليه. (رَبَّنا) وهذا معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أي قائلين (رَبَّنا) إلخ. وهذا دليل على أن السنة في الدعاء أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى ، ثم يدعو عقبه فإن الملائكة لما زعموا على الدعاء للمؤمنين بدءوا

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (١ : ٨٧) ، والقرطبي في التفسير (٢ : ٢٠٩) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٤٤).


بالثناء فقالوا ربنا : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ، أي وسعت رحمتك وعلمك ، فكل موجود نال من رحمة الله نصيبا ، لأن وجود الممكن بإيجاده تعالى ، فذلك رحمة فلا موجود غير الله إلّا وقد وصل إليه نصيب من رحمة الله ، وعلمه تعالى محيط بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الكفر ، وإن أصروا على الفسق بأن تقسط العقاب عنهم ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) في الشريعة (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) أي ادفع عنهم عذاب النار (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إياها.

وقرئ «جنة عدن» (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) و «من» معطوف على مفعول «أدخل» ، أي وأدخل معهم في الجنة من آمن من هؤلاء الطوائف الثلاثة ليتضاعف ابتهاجهم.

قال سعيد بن جبير : يدخل المؤمن الجنة فيقول : أين أبي أين زوجتي أين ولدي؟ فيقال له : إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم فيقال : أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل في سروره ولذته.

وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام. وقرأ عيسى «وذريتهم» بالإفراد (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) ، أي القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة (الْحَكِيمُ) (٨) أي الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة ، (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي ادفع عنهم العقوبات عند موقف القيامة ، وعند الحساب والسؤال أو صنهم في الدنيا عن العقائد الفاسدة. والأعمال الفاسدة (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي ومن تدفع عنه العقوبات ، أو من تصنه في الدنيا عن المعاصي ، (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي عصمته وعظمته ، (وَذلِكَ) أي الرحمة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع ، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه عظمته. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠). أي إن الذين كفروا يناديهم خزنة جهنم لإنكار الله لكم في الدنيا حين تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر اتباعا لأنفسكم الأمارة بالسوء ، أو اقتداء بأخلائكم المضلين أكبر من إنكاركم أنفسكم الأمارة بالسوء الآن ، أو من إنكار بعضهم بعضا اليوم ، وذلك أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على تكذيب هذه الأشياء في الدنيا ، أو أن الأتباع يشتد مقتهم الآن للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء يشتد إنكارهم للأتباع الآن أيضا ، و «إذ» ظرف لـ «المقت» الأول. وقيل : يناديهم المتقون في الآخرة من مكان بعيد وهم في النار ، وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب. والمعنى : لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم الآن لما كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون. (قالُوا) أي الكفار : (رَبَّنا


أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي إماتتين ، مرة بقبض أرواحنا ، ومرة بعد ما سألنا منكر ونكير في القبور. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي إحياءتين ، مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور ، ومرة عند البعث. وهذا أنسب بحالهم فإن مقصودهم تعديد أوقات البلاء ، وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحيلة في القبر. والموتة الثانية ، والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات المحنة. فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء ، فلهذا السبب لم يذكروها ، (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي بشركنا وجحدونا بالبعث ، (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١١)؟ أي فهل إلى خروج من النار ورجوع إلى الدنيا لنصلح أعمالنا من سبيل ، أي طريق فأجاب الله تعالى لهم بقوله : (ذلِكُمْ) أي العذاب في النار والمقت (بِأَنَّهُ) أي بسبب أن الشأن (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي إذا عبد الله منفردا كفرتم بتوحيده ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي إن يجعل له شريك تصدقوا بالإشراك. ويقال : ذلكم ، أي عدم سبيل خروج لكم إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم بالإشراك به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢) فالله أعلى كل شيء وأكبر كل شيء بحسب القدرة والإلهية ، وذلك حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي ، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ، أي علامات وحدانيته وقدرته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي سبب رزق وهو المطر ، فالله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار الآيات وراعي مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فالآيات لحياة الأديان والأرزاق لحياة الأبدان ، وعند حصولهما يكمل الأنعام.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون (وَما يَتَذَكَّرُ) ، أي وما يتعظ بتلك الآيات الباهرة (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (١٣) ، أي إلا من يقبل على الله بالكلية ويعرض عن غير الله (فَادْعُوا اللهَ) ، أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون ، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك ومن الالتفات إلى غير الله ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤) إخلاص العبادة منكم ، (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي الله العظيم الصفات فهو تعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الجلال والكمال ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وهو أول وآخر لكل ما سواه ، وليس له أول وآخر ، وهو عالم بجميع الذوات والصفات ، والكليات والجزئيات ، وهو غني عن كل ما سواه ، وهو واحد يمتنع أن يحصل له ضد وند ، وشريك ونظير.

وقرئ «رفيع الدرجات» بالنصب على المدح. (ذُو الْعَرْشِ) أي مالكه ومدبره وخالقه ، وهذان خبران آخران لـ «هو». (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) أي ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد هو أمره تعالى ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء ، (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) ، والفاعل يعود إلى «من يشاء» وهو الملقى عليه.

وقرئ لتنذر على أن الفاعل هو الروح ، لأنها قد تؤنث وهذا الفعل ينصب مفعولين محذوفين ، أي لينذر من يختاره الله الناس العذاب يوم القيامة أو إن المفعول الثاني هو يوم التلاق


بدليل قراءة لينذر يوم التلاق على البناء للمفعول ، ورفع «يوم» وسمي يوم القيامة بيوم التلاق ، لأن الأرواح متلاقية للأجساد ، ولأن الخلائق يتلاقون فيه ، فيقف بعضهم على حال بعض ، ولأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، ولأن كل أحد يصل إلى جزاء عمله ويلتقي فيه العابدون والمعبودون ويلتقي فيه الظالم والمظلوم ، (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي خارجون عن بواطن القبور ، وظاهرون لا يسترهم شيء من جبل وغيره ، وليس عليهم ثياب ، وتظهر أعمالهم وتنكشف أسرارهم ، (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) فيعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا منهم بحسبه إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشر ، وينادي مناد : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيجيبه أهل المحشر : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦) ، أي الذي قهر الخلق بالموت ، فالمؤمنون يقولونه تلذذا بهذا الكلام حيث نالوا المنزلة الرفيعة ، والكفار يقولونه على وجه التحسر والندامة على ما فاتهم في الدنيا ، (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) برة أو فاجرة ، (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب ، أو زيادة عذاب ، أي يقال لهم : إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده (الْيَوْمَ تُجْزى) إلخ. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) ، إذ لا يشغله شأن عن شأن ، فيحاسب الخلائق قاطبة في أقرب زمان (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ، فـ «إذ» بدل من يوم الآزفة ، أي وأنذرهم يوم القرب من العذاب ، ومشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم من أماكنها ، فتلتصق بحلوقهم من شدة الخوف ، (كاظِمِينَ) أي مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم ، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويبينوا خوفهم ، (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب مشفق ، (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) أي ولا شفيع مقبول شفاعته ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي استراق النظر إلى ما لا يحل ، (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩) أي مضمرات القلوب ، (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) إذا علم المذنب أن الله لا يحكم إلّا بالحق في كل ما دق وجل ، كان خوف المذنب من الله في الغاية القصوى. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي والذين يعبدونهم من دون الله تعالى من الأوثان ، لا يصنعون شيئا من الشفاعة يوم القيامة ، ولا يأمرون بخير في الدنيا ، فإن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام ، فلذلك بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة بهذه الآية.

وقرأ نافع وهشام «تدعون» بتاء الخطاب (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٢٠) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ويبصر سجودهم لهم ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أغفلوا ولم يسافروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة لرسلهم (كانُوا هُمْ) أي الذين مضوا من الكفار (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار (قُوَّةً) ، أي قدرة على التصرفات.


وقرأ ابن عامر وحده «منكم» بكاف (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي قصورا للسكنى وحصونا للقتال ومصانع للمياه (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) ، أي أهلكهم الله بسبب تكذيبهم الرسل بضروب الهلاك (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٢١) ، أي لم يجدوا من يمنعهم من الله ومن يخلصهم من عذاب الله.

وقرأ ابن كثير بالياء في الوقف. (ذلِكَ) العذاب في الدنيا (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالأحكام الظاهرة ، وبالمعجزات الباهرة ، (فَكَفَرُوا) بذلك ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أخذا وبيلا ، (إِنَّهُ قَوِيٌ) بأخذه (شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢) لمن عاقبه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ، وهي معجزاته (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢٣) ، أي حجة مبينة (إِلى فِرْعَوْنَ) ـ ملك مصر ـ (وَهامانَ) ـ وزير فرعون ـ (وَقارُونَ) ـ ابن عم موسى ـ (فَقالُوا) لموسى فيما أظهره من المعجزات : هذا (ساحِرٌ) وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين : هذا (كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ، أي بتلك المعجزات الباهرة (مِنْ عِنْدِنا قالُوا) أي ـ فرعون وأتباعه ـ (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ، أي لا تقتلوا بناتهم للخدمة. وهذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه‌السلام ، لأن فرعون قد كف عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل ، لئلا ينشئوا على دين موسى ، فيقوى بهم ، زعما منه أن القتل يمنع الناس من الإيمان وظنا منهم أن موسى هو الذي حكم المنجمون والكهنة بزوال ملكهم على يده. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٢٥) ، أي بطلان. لأن الله تعالى شغلهم عن ذلك القتل بما أنزل إليهم من أنواع العذاب : كالضفادع ، والقمل ، والدم ، والطوفان إلى أن خرجوا من مصر ، فأغرقهم الله تعالى ، ولأن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) وغرض فرعون من هذا الكلام إخفاء خوفه لأن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى ، وقد كان فرعون استيقن أن موسى نبي وأن ما جاء به آيات باهرة ، وما هو بسحر ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك ، ويخاف من أنه لو حاول قتله لظهرت منه معجزات قاهرة تمنعه من قتله ، فيفتضح ، وكان من دهائه ووقاحته قال هذا تمويها لقومه : أنه إذا امتنع من قتله رعاية لقلوبهم ربما ظنوا أن موسى كان محقا ، وعجزوا عن جوابه ، فقتلوه إيهاما أنهم هم الكافّون له عن قتله ولولاهم لقتله وما كان الذي يكفه إلّا ما في نفسه من الفزع الهائل. (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الذي يزعم أنه أرسله إلي حتى يخلصه مني. وهذا على سبيل الاستهزاء في إظهار عدم المبالاة بدعائه ، (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) الذي أنتم عليه من عبادة فرعون والأصنام ، (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (٢٦) من قتل أبنائكم واستخدام نسائكم.


وقرأ نافع وأبو عمرو «وأن يظهر» بالواو الجامعة بين أمرين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أو يظهر» بفتح الياء والهاء ورفع «الفساد» فالقراءات السبعية أربعة : ثنتان مع «أو» وهما : نصب «الفساد» ورفعه. وثنتان مع «الواو». كذلك ، وقرئ «يظهر» بتشديد الظاء والهاء أي يتتابع (وَقالَ مُوسى) لقومه حين سمع ما يقوله اللعين من حديث قتله (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢٧) ، وموسى عليه‌السلام ولم يأت في دفع شر فرعون إلّا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله ، فصانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية ، والمسلم إذا قال عند القراءة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن ، فكذلك إذا قال المسلم : أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات ، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس. (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وكان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا ، أو غريبا موحدا ، أو اسمه حزقيل أو شمعان ، (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) من فرعون وملئه خوفا على نفسه مائة سنة ، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي أتقصدون قتل رجل لأجل أن يقول : ربي الله وحده من غير تأمل في أمره ، (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الظاهرات (مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)! أي وإن كان هذا الرجل كاذبا كان ضرر كذبه عائدا عليه فاتركوه ، (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) وقد كذبتموه ، (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) من العذاب في الدنيا. فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيا. والحاصل أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨). وهذا كلام ذو وجهين أي لو كان موسى مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى الأحكام ، ولما قواه بعلامات النبوة. وإن كان كذلك أهلكه الله فلا حاجة لكم إلى قتله. وهذا إشارة إلى علو شأن موسى على طريق الرمز ، وإلى التعريض لفرعون بأن الله لا يهديه منهاج النجاة ، لأنه مسرف في عزمه على قتل موسى ، كذاب في جرأته على ادّعاء الإلهية ، والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه ، بل يهدم أمره ، ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي عالين الناس في أرض مصر فلا يقاومكم أحد في هذا الوجه ، (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) ، أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتل موسى فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة ، ولا أسر عنكم غير ما أظهره. ولقد كذب فرعون حيث كان مضمرا للخوف الشديد ، ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحد أبدا (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩) أي ما أدعوكم بهذا الرأي إلّا إلى طريق الصواب والصلاح.


وقرئ بتشديد الشين للمبالغة (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) رادا لهذا الكلام على فرعون ، مخاطبا لقومه : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣٠) أي مثل أيام الأمم الماضية المتفرّقة فكل أمة كان لها يوم معين في البلاء ، (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوط لوط ، أي مثل جزاء دأبهم من الكفر ، وإيذاء الرسل. والحاصل أن حزقيل خوّفهم بهلاك معجل في الدنيا ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١) أي أن تدمير الله أولئك الأحزاب كان عدلا منه تعالى ، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء ، فتلك العلة قائمة هاهنا فوجب حصول الحكم هاهنا (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٣٢) ، أي يوم القيامة فإن أهل النار ينادون أهل الجنة ، وأهل الجنة ينادون أهل النار ، ويناديهم أصحاب الأعراف وينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون : يا ويلنا وينادى باللعنة عليهم وينادى بالسعادة والشقاوة : ألا إن فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.

وقرأ ابن عباس «يوم التناد» بتشديد الدال ، أي يوم فرار بعضهم من بعض (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، أي منصرفين عن الموقف ، لأنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هاربين ، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لكم مانع من عذاب الله. والجملة حال أخرى من «ضمير تولون» (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه ، (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣) أي مرشد ، (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) بن يعقوب عليهما‌السلام (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى ، فإن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة ، وفرعون أدرك يوسف بن يعقوب وكان عمره أربعمائة سنة وأربعين سنة.

وقيل : إن يوسف هذا هو يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب ، أرسله الله تعالى إلى القبط. فأقام فيهم عشرين سنة نبيا ـ وهذا من تمام وعظ حزقيل ـ (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الواضحة (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) يوسف من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) ، أي مات يوسف (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد موت يوسف (رَسُولاً) وهذا تكذيب لرسالة من هو بعده مضموما إلى تكذيب رسالته ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) (٣٤) أي مثل هذا الإضلال يضل الله من هو متغال في عصيانه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الانهماك في التقليد ، (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ، أي حجة (أَتاهُمْ) من الله (كَبُرَ مَقْتاً) أي عظم بغضا والوقف على «مرتاب» صالح ، وعلى «أتاهم» كاف. وهذا إذا جعل «الذين» بدلا من «من» فهو في محل نصب ، أو بدلا من مسرف فهو في محل رفع ، وعلى هذا فهذا من كلام الرجل المؤمن أيضا ، وإن جعل الذين مبتدأ خبره كبر كان الوقف على «مرتاب» تاما ، ولا يوقف على «أتاهم» لتأخر الخبر عنه ، وعلى هذا فهذا ابتداء كلام الله تعالى ، وفاعل «كبر» ضمير يعود


إلى «من» على الاحتمال الأول ، وإلى «الجدال» على الاحتمال الثاني ، أي كبر من ذكر أو كبر جدالهم بغير حجة ، بل بالبناء على التقليد أو بالبناء على الشكوك الخسيسة مقتا ، (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فمقت الله إظهار خزيهم وإحلال العذاب بهم ، ومقت المؤمنين لهم كراهتهم أشد الكراهة ، (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) عن الإيمان (جَبَّارٍ) (٣٥) عن قبول الحق.

قرأ ابن عامر وأبو عمرو ، وقتيبة عن الكسائي بتنوين «قلب». والباقون بغير تنوين على الإضافة ، ويشهد لهذه القراءة قراءة عبد الله «على قلب كل متكبر» (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) أي بناء عاليا (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (٣٦) ، أي أصعد الطرق (أَسْبابَ السَّماواتِ) ، أي طرقها الموصلة إليها (فَأَطَّلِعَ) أي أنظر (إِلى إِلهِ مُوسى).

وقرأ حفص عن عاصم «أطلع» بالنصب على أنه جواب الأمر ، أو منصوب على التوهم كما قاله أبو حيان ، لأن خبر «لعل» قد يجيء مقرونا بأن ، أو على أنه جواب الترجي. والباقون بالرفع عطفا على «أبلغ». والمقصود : أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع ، كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحسن ممتنعا ، فحينئذ لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) فيما يدعيه من الرسالة ، (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) فانهمك فيه انهماكا لا يكف عنه بحال (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمفعول أي صرف فرعون عن الحق. والباقون بالبناء للفاعل أي منع فرعون الناس عن الطريق الموصلة إلى الله. وقرئ «وصد» بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليه. وقرئ «وصد» بالرفع على أنه معطوف على «سوء عمله». وقرئ «وصدوا» أي هو وقومه. (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (٣٧) ، أي وما صنع فرعون في إبطال آيات موسى إلا في هلاك. (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) وهو حزقيل (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) فيما دعوتكم إليه ، (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣٨) أي أدلكم على سبيل يؤدي سالكه إلى الخير ، وفي هذا تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الضلال. (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) ، أي منفعة قليلة لسرعة زوالها ، فهي كمتاع البيت لا يبقى. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩) ، أي الثبات ، فلا تحول عنها (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) ، في الدنيا (فَلا يُجْزى) في الآخرة (إِلَّا مِثْلَها) أي إلا ما يقابلها في الاستحقاق ، فالكافر يعتقد في كفره كونه طاعة ، فكان عقابه في النار مؤبدا ، لأنه على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا بخلاف الفاسق ، فإن عقابه منقطع فإنه يعتقد في فسقه كونه خيانة ، فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ) الذين عملوا ذلك (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) فالآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة.


وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة «يدخلون» بالبناء للمفعول (يُرْزَقُونَ فِيها) أي الجنة (بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠) أي بلا هنداز في الكثرة والسعة. (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي أيّ شيء من المصالح في أني أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة شفقة عليكم واعترافا بحقكم ، (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (٤١) أي وأيّ شيء تدعونني ، إلى الكفر الذي يوجب الهلاك في النار! (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)! أي ولأشرك بالله ما ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله! (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (٤٢)؟! أي إلى الإيمان بإله العالم ، فإنه وإن كان قادرا على التعذيب لا يغالب ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ، (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حق أن الذي تدعونني إلى عبادته من الأوثان ليس له دعوة في الدنيا إلى نفسه ، لأنها جمادات ، والجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها أصلا وأن الله تعالى إذا قلبها حيوانا في الآخرة تتبرأ من عابديها ، (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) بالموت ، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة الأشياء الباطلة ، وأن يعرض عن عبادة الإله الذي لا بد وأن يكون مرجعنا إليه ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) في معصية الله كالإشراك وسفك الدماء (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٤٣) ، أي ملازموها ، (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصائح وقت الموت ووقت مشاهدة الأهوال في القيامة (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤) : قيل : لما قال ذلك المؤمن هذه الكلمات قصدوا قتله ، فهرب منهم إلى الجبل ، فطلبوه ولم يقدروا عليه ، لأنه قد عول في دفع مكرهم على الله ، (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي شدائد مكرهم. قيل : نجا مع موسى عليه‌السلام. وقيل : إنه لما فر منهم إلى الجبل أرسل فرعون ألفا ليقتلوه فأكلت السباع بعضهم ، ورجع بعضهم هاربا ، فقتل فرعون من رجع عقوبة على عدم قتله لذلك الرجل المؤمن. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) ، أي أحاط بفرعون وقومه شدة العذاب وهو القتل ، والغرق ، والنار كما قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) بإحراقهم بها ، (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، أي تعرض أرواحهم في البرزخ على النار من حين موتهم إلى قيامة الساعة ، ولا يوقف على «سوء العذاب» إن جعل «النار» بدلا منه ، وإن جعل خبر مبتدأ محذوف. فالوقف على «سوء العذاب» حسن ، وكذا إن قرئ «النار» منصوبا على الاختصاص ، أو نحوه ، وإن جعل «النار» مبتدأ وخبره ما بعده فالوقف على «العذاب» تام ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦).

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح الهمزة ، وكسر الخاء ، أي ويوم القيامة يقول الله لخزنة جهنم أدخلوا آل فرعون في أشد العذاب. والباقون بهمزة الوصل وضم الخاء ، والمعنى : ويوم القيامة يقال لهؤلاء الكفار : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم. (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) أي واذكر يا أشرف الخلق لقومك وقت تخاصم بعضهم بعضا في


النار ، (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) أي السفلة من الكفار (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، أي للقادة الذين تعظموا عن الإيمان : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي أتباعا في دينكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) (٤٧) ، أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا جزءا من العذاب. والمقصود من هذا الكلام : المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة للسفلة : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي نحن وأنتم واقعون في هذا العذاب ، فلو قدرت على إزالة العذاب عنكم لدفعته عن أنفسنا فـ «كل» مبتدأ و «فيها» خبره والجملة خبران.

وقرئ «كلا» بالنصب على التأكيد لاسم «إن» ، أي إن كلنا واقعون في النار ، ثم يقولون : (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨) أي يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم ، أو من العذاب فلا معقب لحكمه ، فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزية جهنم ، (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) من الضعفاء والمستكبرين إذا اشتدت عليهم النار ، وقل صبرهم (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ، أي للملائكة الموكلين بعذاب أهل النار ، (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) (٤٩) أي يخفف عنا شيئا من العذاب في وقت من الأوقات. (قالُوا) أي الخزنة : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ)؟ أي ألم تنتبهوا عن هذا ، ولم تكن تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء الكفر والمعاصي (قالُوا بَلى) أي أتونا بها فكذبناهم ، (قالُوا) أي الخزنة استهزاء بهم وإظهارا لخيبتهم : (فَادْعُوا) أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على الدعاء ولا نشفع إلا بالإذن في الشفاعة وإلا لمن كان مؤمنا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) ، أي ضياع. وهذا من كلام الله إخبارا لنبيه ، فالوقف على «ادعوا» تام أو من كلام الخزنة ـ كما قاله الرازي وأبو السعود ـ قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بانتقام الكفرة ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) أي يوم يقوم كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ، ونبي ، ومؤمن بالحجة والاعتذار ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) من الكفر.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «لا تنفع» بالتاء الفوقية. والباقون بالياء التحتية (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي الإهانة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢) وهو العقاب الشديد. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) أي التوراة والمعجزات ، (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (٥٣) ، أي وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤) أي لأجل الهداية من الضلالة ، ولأجل التذكرة لذوي العقول السليمة ، فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين ، بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة ، (فَاصْبِرْ) يا أكرم الرسل على أذى اليهود والنصارى والمشركين ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، فالله ناصرك ومنجز وعده في حقك ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي تب من ترك الأولى ، والأفضل في بعض الأحايين ، فإنه


تعالى كافيك في نصرة دينك ، وإظهاره على الدين كله ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥) ، أي ودم على التسبيح ملتبسا بحمده تعالى. والمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله باللسان ، وبأن لا يغفل القلب عنه ، (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ، وجملة «إن في صدورهم» إلخ خبر لـ «إن» ، وجملة «ما هم» إلخ صفة لـ «كبر» ، أي إن الذين يجحدون بآيات الله بغير برهان أتاهم في ذلك من الله تعالى ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق ما هم ببالغي كبره ، أي الذين يناصبون الجدال معك بغير حجة إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدورهم ، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت تصرفك ، لأن النبوة تحتها كل رئاسة وملك ، وهم لا يرضون أن يكونوا في خدمتك وإنما هم يريدون أن تكون تحت يدهم ولا يصلون إلى هذا المراد ، بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فالتجئ إليه تعالى من كيد من يجادلك ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْبَصِيرُ) (٥٦) بأعمالهم ، (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ، أي فالذي قدر على ابتداء خلق السموات والأرض مع عظمها ، قادر على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) أي أن هذا البرهان مع قوته صار بحيث لا يعرفه من ينكرون الحشر والنشر ، فظهر أن هؤلاء يجادلون في آيات الله بغير حجة ، بل بمجرد الحسد والكبر ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يستوي الجاهل المقلد المستدل ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي ولا يستوي الآتي بالأعمال الصالحة ، والآتي بالأعمال الفاسدة. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) أي أن المجادلين وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنهم ما يتعظون اتعاظا قليلا من أمثال القرآن ، فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة ، وفي الحسد والكبر أنه محض الطاعة.

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تتذكرون» على الخطاب. والباقون بالغيبة. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي لا شك في مجيئها بإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الذين ينكرون البعث ، (لا يُؤْمِنُونَ) (٥٩) بمجيء الساعة ، (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم وأغفر لكم ، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) أي أذلاء.

ويقال : إن الدعاء هو السؤال ، أي ادعوني أقبل إليكم ، فالدعاء اعتراف بالعبودية والذلة فكأنه قيل : إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية ، وكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه ، واجتهاده وأقاربه وأصدقائه ، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان ، أما قلبه فهو معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا ما دعا الله في


الحقيقة في وقت. أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله ، فإنه تحصل الاستجابة وانقطاع القلب بالكلية ، عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت ، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى.

وقرأ ابن كثير وشعبة «سيدخلون» على صيغة المبني للمفعول. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) باردا مظلما (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي لتستريحوا فيه بالنوم وبالعبادة (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا. وهذا إعلام بوجود الإله القادر ، فإن الاشتغال بالدعاء لا بدّ وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة ، وبأن من أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كافة باختلاف الليل والنهار ، وما يحتويان عليه من المنافع (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٦١). إما لكونه حريصا على الدنيا محبا للمال والجاه ، فإذا فاته وقع في كفران هذه النعم العظيمة ، أو لأنها لما دامت واستمرت نسيها الإنسان ، أو لاعتقاده أن هذه النعم ليست من الله تعالى ، بأن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الدوران لذواتها. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ، أي ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم ، (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وهذه أخبار أربعة عن اسم الإشارة.

وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص ، فيكون لا إله إلا هو استئنافا (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢) أي فمن أي وجه تصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره ، ولم تعدلوا عن هذه الدلائل؟ ومن أين تكذبون على الله بجعلكم له شركاء؟ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦٣) ، أي مثل الصرف البعيد عن مناهج العقلاء يصرف الذين كانوا ينكرون آيات الله تعالى. (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي منزلا في حال الحياة وبعد الممات ، (وَالسَّماءَ بِناءً) أي مثل القبة المضروبة على الأرض من غير عماد (وَصَوَّرَكُمْ) أي أحدث صورتكم على غير نظام واحد ، (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ولم يخلق الله تعالى حيوانا أحسن صورة من الإنسان ، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ لا كرزق الدواب ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم الذي نعت بالنعوت الجليلة هو الله المحسن إليكم ، (فَتَبارَكَ اللهُ) أي ثبت الله مع كثرة الخيرات (رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦٤) أي مالكهم (هُوَ الْحَيُ) ، أي المنفرد بالحياة الذاتية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ، (فَادْعُوهُ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة من الشرك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥).

قال الفراء : هو خبره وفيه إضمار الأمر أي فادعوه واحمدوه. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما من قال : لا إله إلا الله فليقل بعدها الحمد لله رب العالمين ، أي ولما كان تعالى موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين. (قُلْ) لأهل مكة يا أكرم الرسل ـ حين قالوا لك : ارجع إلى دين آبائك ـ : (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ


اللهِ) أي الذين تعبدون من الأوثان (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ) أي الدلائل (مِنْ رَبِّي) ، وهي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٦) أي أن أنقاد له وأخلص توحيدي له ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) فكل إنسان مخلوق من مني وهو مخلوق من الدم ، وهو يتولد من الأغذية ، وهي منتهية إلى النباتية ، والنبات إنما يكون من التراب والماء ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي دم عبيط (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً ثُمَ) يبقيكم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، أي كمالكم في القوة والعقل ، (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً).

وقرأ نافع وأبو عمرو ، وهشام ، وحفص بضم الشين. والباقون بكسرها وقرئ «شيخا» ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) ، أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد ، أو قبله أو قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا يفعل ذلك لتعيشوا ، (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) وهو وقت الموت (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) ، أي ولكي تعقلوا ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل ، فإن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما من دلائل الآفاق ، وهي : الليل ، والنهار ، والأرض والسماء. أو من دلائل الأنفس وهي : التصوير وحسن الصورة ، ورزق الطيبات. أو من عمر الإنسان وهو على ثلاث مراتب : كونه طفلا وهو في التزايد شيئا فشيئا وبلوغه كمال النشوء وظهوره في النقص. (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى يدل على الإله القادر كذلك الانتقال من الحياة إلى الموت ، وبالعكس يدل على الإله القادر. (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي أراد أيّ أمر كان ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨) فعبّر الله عن نفاذ قدرته في الكائنات من غير معارض بما إذا قال : كن فيكون. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي انظر إلى هؤلاء المجادلين في آياته تعالى ، الواضحة ، الموجبة للإيمان بها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٦٩) أي كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي بالقرآن ، (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) ، والوقف هنا تام أو كاف ـ كما قاله أبو عمرو ـ و «إذ» بمعنى إذا ، وهو ظرف ليعلمون ، والسلاسل عطف على الأغلال. والمعنى فسوف يعلمون وقت أن يكون الإغلال والسلاسل في أعناقهم (يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ) ، أي وهم يجرون بتلك السلاسل في الماء المسخن بنار جهنم.

وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب «السلاسل» على أنه مفعول مقدم لـ «يسحبون» بفتح الياء. وقرئ «والسلاسل» بالجر على إضمار الباء كما يدل عليه القراءة به. (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) أي يحرقون ، (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) بعد أن يعذبوا بأنواع العذاب : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ) أي مع الله (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي بل لم نكن نعبد من قبل هذه الإعادة شيئا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ، ولا يسمع. وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة أو يقال : بل لم نكن نعبد


من قبل هذا الوقت شيئا من دون الله. وهذا إنكار لعبادة الصنم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٧٤) عن طريق الجنة (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٧٥) ، أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية ، وعبادة الأصنام ، وبكثرة المال والأتباع والصحة ، (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي السبعة المقسومة لكم (خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦) عن الحق ، جهنم. (فَاصْبِرْ) على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالنصرة لك ، وبإنزال العذاب على أعدائك (حَقٌ) أي كائن بلا شك ، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي فإن نرك بعض الذي نعد أولئك الكفار من أنواع العذاب ، فذلك هو المطلوب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل إنزال العذاب عليهم ، (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧٧) يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام ، ويجوز أن يكون هذا جوابا للشرطين. فالمعنى : أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فيها فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي أنت يا أشرف الرسل كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ، ولم نذكر حال الباقين ، وليس فيهم أحد أعطاه الله معجزات إلا وقد جادله قومه فيها ، وكذبوه فيها ، وجرى عليهم من الهم مثل ما جرى عليك وصبروا ، وكان قومهم يقترحون عليهم إظهار المعجزة الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت ، ثم إن كان الصلاح في إظهارها أظهرناها وإلا لم نظهرها ، ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة ، (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي جاءكم الله بنزول العذاب على الأمم الماضية ، (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي نفذ حكم الله بالعدل ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) ، أي وهلك في وقت مجيء العذاب من يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت ، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) أي الإبل ـ كما قاله الزجاج ـ (لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي الإبل (وَمِنْها) أي من لحوم الإبل ، (تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، (وَعَلَيْها) أي الإبل بالهودج في البر ، (وَعَلَى الْفُلْكِ) أي السفن في البحر (تُحْمَلُونَ) (٨٠) وتسافرون ، (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١) أي ليس في شيء من هذه الدلائل ما يمكن إنكاره ، لأنها كلها ظاهرة باهرة ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أقعدوا ، فلم يسيروا في أقطار الأرض؟ (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية المتكبرين؟ (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) أي من أهل مكة في العدد ـ يعرف في الأخبار ـ (وَأَشَدَّ قُوَّةً) بالبدن (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) قد بقيت بعدهم بحصون عظيمة مثل الأهرام الموجودة بمصر (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) ، أي فلم ينفعهم الذي كانوا


يكسبونه أو فأي شيء نفعهم مكسو بهم ، (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). أي علم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة ، أو علمهم بأمور الدنيا وهو علمهم بالطبائع والصنائع يقال أي استهزاء الكفار بالبينات ، وبما جاء الرسل به من علم الوحي ، إذ لم يأخذوه بالقبول ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣) ، أي دار بالكافرين جزاء استهزائهم بالرسل ، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي شدة عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) أي بالأصنام التي كنا مشركين بها مع الله تعالى لأنا علمنا أنها لا تدفع عنا شيئا من عذاب الله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ، أي فلم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا لعدم قبوله حينئذ (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سنّ الله ذلك المذكور من التعذيب عند التكذيب ، ومن رد الإيمان عند معاينة العذاب أي إن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم ، ويجوز أن يكون سنة منصوبا على التحذير ، أي احذروا سيرة الله في المكذبين التي قد مضت على عباده ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ) أي في تلك المواضع (الْكافِرُونَ) (٨٥) بالله تعالى.


سورة السجدة

وتسمى سورة فصلت ، وسورة حم السجدة ، وسورة المصابيح. مكية ، أربع وخمسون

آية ، سبعمائة وتسعة وتسعون كلمة ، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم) (١) أي هذا حم (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي جعلت آيات الكتاب تفاصيل في معادن مختلفة فبعضها : في ذات الله وصفاته ، وفي عجائب أفعاله. وبعضها : في أحوال التكاليف. وبعضها : في الوعد والوعيد ، ودرجات أهل الجنة ، ودركات أهل النار. وبعضها : في المواعظ والنصائح. وبعضها : في تهذيب الأخلاق. وبعضها : في قصص الأولين. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الاختصاص والمدح ، أو على الحالية من «كتاب» ، أو من «آياته». (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) أي كائنا لقوم عرب فـ «اللام» متعلقة بمحذوف صفة ثانية لـ «قرآنا» (بَشِيراً) للمطيعين بالثواب (وَنَذِيراً) للمجرمين بالعقاب.

وقرأ زيد بن علي برفع الاسمين (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبر هذا الكتاب مع كونهم بلغتهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٤) سماع طاعة ولا يلتفتون إليه ، فكون الكتاب نازلا من عند الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع ، وأجل المطالب ، وكونه قرآنا عربيا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان ، وكونه بشيرا ونذيرا يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات وإعراضهم عنه يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله ، ولا ضال إلا من من أضله الله. (وَقالُوا) أي كفار مكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن ـ : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ، أي ستر غليظ يمنعنا عن مواصلتنا إياك (فَاعْمَلْ) ، أي استمر على دينك وهو التوحيد ، (إِنَّنا عامِلُونَ) (٥) أي مستمرون على ديننا وهو الإشراك (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) ، أي قل يا أشرف الخلق : إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلّا بمجرد أن الله تعالى أوحى إلي دونكم ، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم ، فإن شرفكم الله قبلتموه ، وإن خذلكم رددتموه. وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ، وذلك الوحي يرجع


إلى أمرين : العلم والعمل. فالعلم رئيسه معرفة أن الله واحد ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وإذا كان الحق ذلك التوحيد وجب علينا أن نعترف به. وهو المراد من قوله تعالى : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي استقيموا في أفعالكم متوجهين إلى الإله الواحد ، ثم أمر الله تعالى بوظيفة العمل ورئيسه الاستغفار ، فلهذا السبب قال : (وَاسْتَغْفِرُوهُ) لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل المأتي به ، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧) فالله تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة : الشرك ، والامتناع من الزكاة ، وإنكار القيامة. فإن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله ، وأفضل أبوابه الإقرار بكون الله واحدا ، وإذا كان التوحيد أعظم الطاعات كان الشرك أخسها ، لأنه ضد التوحيد ، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال ، لأنه ضد الشفقة على خلق الله. ونقل عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله : أي لا يقولون لا إله إلّا الله فإنها زكاة الأنفس. والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم : لا إله إلا الله. وقال الحسن وقتادة : أي لا يعتقدون إعطاء الزكاة واجبا. وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨) أي غير مقطوع. قيل : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملونه. ويقال يكتب ثواب أعمالهم بعد الهرم أو الموت إلى يوم القيامة غير منقوض. وقيل : لا يمنون بذلك الأجر. (قُلْ) يا أشرف الخلق : (أَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة (لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي لتكفرون بالعظيم الشأن الذي حكم بأن الأرض ستوجد في مقدار يومين ، (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً). أي نظراء والحال أنه لا يمكن له نظير واحد ، أي أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية! (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) أي ذلك العظيم الشأن الذي علمت من صفته أنه خالق جميع الموجودات فكيف أثبتم له أنداد من الخشب والحجر؟! (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وهو عطف على «خلق الأرض» ، أي وخلق في الأرض جبالا ثوابت (مِنْ فَوْقِها) ، أي كائنة من فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه وليتفكر أن الجبال أثقال ، على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك ، وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلّا الله تعالى ، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، (وَبارَكَ فِيها) أي الأرض بشق الأنهار ، وخلق الأشجار والثمار ، وأصناف الحيوانات ، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات ، (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي بأن يوجد لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. وقرئ «وقسم فيها أقواتها». (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي مع اليومين الأولين الذين خلق فيهما الأرض (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠).


قرئ «سواء» بالحركات الثلاثة : النصب : على مصدر مؤكد لمضمر ، هو صفة لأربعة : أي استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص. والجر : على الوصف ، أي مساويات غير مختلفة في المقادير. والرفع : على تقدير هي سواء ، ولمن قرأه بالرفع أن يقف على أربعة أيام. وقوله تعالى : (لِلسَّائِلِينَ) إما متعلق بـ «سواء» أي مستويات لمن سأل الرزق ، ولمن لم يسأل ، أو متعلق بقدر ـ كما قاله الزجاج ـ أي وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام ، لأجل الطالبين للأقوات المحتاجين إليها ، أو متعلق بمحذوف والتقدير : هذا الحصر بيان للسائلين عن مدة خلق الأرض ، وما فيها. في كم يوم خلقت الأرض وما فيها (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، أي ثم قصد إلى خلق السماء ، أي ثم دعاه داعي الحكمة إلى خالق السماء بعد خلق الأرض ، وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك ، (وَهِيَ دُخانٌ) أي أمر ظلماني ، أو دخان مرتفع من الماء. (فَقالَ لَها) ـ أي للسماء ـ (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) إلى الوجود والحصول أي كوننا على وجه معين ، وفي وقت مقدر لكل منكما. وهذا عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا ، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي طائعتين أو كارهتين ، أي شئتما ذلك أو أبيتما. (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) أي أتينا أمرك منقادين لا على الكره. وهذا تمثيل لكمال تأثرهما بالذات العلية عن القدرة الربانية.

وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا قالتا آتينا». بالمد في الفعلين ، أي وافقا على مرادي منكما. قالتا : توافقنا على ذلك أو أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما. قالتا : أعطينا الطاعة. ويقال : إن الله تعالى قال للسماء والأرض بعد ما فرغ منهما : أعطيا ما فيكما أو جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. أي قال لهما : افعلا ما أمرتكما طوعا وإلّا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه ، (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) ، أي أتم السماء حال كونها سبع سموات في يومين. ذكر أهل الأثر أن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين. وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وأن الذي خلق أولا هو الدخان الذي هو أصل السماء ، ثم بعده الأرض ، غير مدحوة ، ثم خلقت السماء مبسوطة متفاصلة طباقا بعضها فوق بعض ، ثم دحيت الأرض ، وخلق ما فيها من الأرزاق وغيرها. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها).

قال مقاتل : أمر في كل سماء بما أراد. وقال قتادة والسدي : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال عطاء عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهم : خلق في كل سماء ما فيها من البحار وجبال البرد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ويقال : ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص ، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ، ومنهم سجود لا يرفعون ، وذلك الأمر مختص بأهل السماء. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ـ وهي


النبرات التي خلقها في السموات وخصّ كل واحد بضوء معين ، وطبيعة معينة ، وسر معين ، لا يعلمها إلّا الله تعالى ـ (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع.

وقيل : إن «حفظا» مفعول له على المعنى كأنه قيل : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا ، فبعض النجوم زينة السماء لا يتحرك وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وبعضها رجوم للشياطين. (ذلِكَ) أي هذه التفاصيل (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢) لأنها لا تمكن إلّا بقدرة كاملة وعلم محيط ، (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن قبول هذه الحجة القاهرة وأصروا على التقليد ، (فَقُلْ) لهم : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) أي خوفتكم عذابا هائلا ، كأنه نار معها رعد شديد (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١٣).

وقرأ ابن الزبير ، والنخعي ، والسلمي ، وابن محيصن : «صعقة» مثل صعقة عاد وثمود ، وهي المرة من صيحة العذاب.

روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ، ثم أتانا ببيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة ، وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي ، فأتاه ، فقال : يا محمد أنت خيرا أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم تشتم آلهتنا وتضللنا ، فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا اللواء ، فكنت رئيسنا وإن كنت أردت الباه زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله ساكت ، فلما فرغ عتبة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إلى قوله تعالى : (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)» فأمسك عتبة على فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا : لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ، فغضب عتبة ، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر ، ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب ، وإنما خص هاتين القبيلتين ، لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم ، (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) حال من صاعقة عاد ، أو ظرف منها منصوب بها ، لأنها بمعنى عذاب ، فالمعنى صعقة عاد وثمود وقت مجيء رسلهم إليهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي أتوهم من جميع جوانبهم ، وأتوهم بجميع وجوه الحيل ، فلم يروا منهم إلّا الأعراض ، أي جاءتهم الرسل من قبلهم ، ومن بعدهم ، أي جاءهم هود وصالح داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ، فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فـ «أن» مفسرة بمعنى أي ، أو مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا أي بأن الحديث قولهم لهم لا تعبدوا إلّا الله ، «أو» مصدرية ، والجملة بعدها صلتها وصلت بالنهي ، كما توصل بالأمر ، أي جاءوهم بكونهم نهوهم


عن الشرك ، ويجوز «أن» تكون أن نافية على هذا الوجه أي جاءوهم بأمرهم بالتوحيد ونفي الشرك. (قالُوا) أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح : (لَوْ شاءَ رَبُّنا) أي إرسال الرسل إلى البشر ، (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي لأرسلهم بطريق الإنزال (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤) أي فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فأنتم لستم برسل ، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم ، وقوله تعالى (بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) حكاية لكلامهم على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي فأما قوم هود فتعظموا في الأرض على أهلها بغير استحقاق للتعظيم. (وَقالُوا) لهود لما هددهم بالعذاب : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ أي نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا ذلك لأن أطولهم كما قال ابن عباس كان مائة ذراع ، وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي قدرة يقدر على إهلاكهم (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (١٥) أي إنهم كانوا يعرفون أن الآيات المنزلة على الرسل حق ، ولكنهم أنكروها كما ينكر المودع الوديعة ، (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي باردا شديدا ، يحرق ببرده كما تحرق النار بحرها ، أو ريحا يصوت في هبوبه.

وعن ابن عباس : أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي والمراد. أنه مع قلته أهلك الكل وذلك دليل على كمال قدرته تعالى (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي مشؤومات. روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء. قال ابن عباس : وما عذب قوم إلّا في يوم الأربعاء.

وقرأ نافع ابن كثير وأبو عمرو «نحسات» بسكون الحاء. والباقون بكسرها (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بسبب أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل إليهم. وقرئ «لتذيقهم» بالتاء على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أي أشد إهانة مما كان لهم في الدنيا (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦) بدفع العذاب عنهم ، (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ، أي وأما قوم صالح فبيّنا لهم طريق الخير والشر ، فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.

وقرأ الجمهور برفع «ثمود» ممنوعا من الصرف. وقرئ بالنصب بفعل يفسره ما بعده ، وقرأه الأعمش وابن وثاب منونا في الحالين والرفع أفصح لوقوع ثمود بعد حرف الابتداء. وقرئ «ثمود» بضم الثاء ، (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي داهية العذاب الذي يهينهم بشدته ، (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧) من اختيار الضلالة ، وهي شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة ، (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) من الفريقين (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨) الأعمال التي أتى بها قوم عاد وثمود ، (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) ، أي واذكر يا أشرف الخلق لقريش المعاندين لك حال الكفار في القيامة يوم يجمع بكره الكفار الأولون والآخرون إلى موقف الحساب والتعبير عنه بالنار الإعلام


بأنها آخر حشرهم ، أو لأن حسابهم يكون على شفيرها ويحشر بالبناء للمفعول وأعداء بالرفع على قراءة الجمهور.

وقرأ نافع «نحشر» بنون العظمة وضم الشين ونصب أعداء. وقرئ «ويحشر» بالبناء للفاعل ونصب أعداء. وقرئ بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٩) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي حتى إذا حضروا موقف الحساب ، (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠) في الدنيا من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وقال ابن عباس : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج. (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) أي لأعضائهم أو لفروجهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) وكنا نحابس عنكم بالجدال. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أول من يتكلم من الآدمي فخده وكفه». اه. وذلك لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر إنما تحصل بالفخذ (قالُوا) أي الجلود : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) ، أي أنطقنا الله الذي أنطق كل ناطق ، وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح ، وما كتمناها ، فإن القادر على إنشائكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال ما كنتم في الدنيا وعلى إعادتكم بعد الموت أحياء قادر على إنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة فكيف يستبعد منه إنطاق الأعضاء؟ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢) ، أي وما كنتم تستترون بنحو الحيطان في الدنيا عند الإقدام على الأفعال القبيحة مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك ، لأنكم غير عالمين بشهادتهم عليكم ، ولأنكم منكرون للبعث والجزاء ، ولكن استتاركم لأجل أنكم ظننتم أن الله لا يعلم الأعمال التي أقدمتم عليها من القبائح المخيفة فلا يظهرها في الآخرة ، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم ؛ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ، فاسم الإشارة مبتدأ «وظنكم» خبر ، والموصول نعت أو بدل و «أرداكم» حال ، أي ذلكم الظن المذكور ظنكم الذي ظننتم بربكم مهلكا إياكم ، ويجوز أن يكون ظنكم والموصول وجملة «أرداكم» إخبارا (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) ، أي فصرتم بسبب ذلك الظن المردي من الهالكين بالعقوبة.

قال أهل التحقيق : الظن قسمان : حسن ، وفاسد.

فالظن الحسن : أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى : «أنا عند ظن عبدي».

والظن الفاسد : أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة :الظن نوعان : ظن منج ، وظن مرد. فالمنجي : هو المحكي بقوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] والمردي هو المحكي بقوله تعالى : (ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ). (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ، أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لأجل فرج ينتظرونه لم


يجدوا ذلك الفرج وتكون النار محل إقامة أبدية لهم ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤) أي وإن طلبوا الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه لم يعطوه ولم يجابوا إليه.

وقرئ و «إن يستعتبوا» بصيغة المفعول ، «فما هم من المعتبين» بصيغة اسم الفاعل ، أي وإن يطلبوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ، إذ لا سبيل لهم إلى ذلك ، (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي بعثنا لهم شركاء من الشياطين يلازمونهم ، (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي فزينوا لهم أمر الآخرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جنة ، ولا نار ، وأمر الدنيا بأنها قديمة باقية لا تفنى ، ولا صانع إلّا الطبائع والأفلاك. ويقال : فزينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة ، وما تبقى من أعمالهم الخسيسة ، وهو ما يزعمون أنهم يعملونه. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥) أي وثبت عليهم كلمة العذاب حال كونهم كائنين في جملة أم من المتقدمين من الجن والإنس ، لأنهم كانوا هالكين بالعقوبة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفار مكة أبو جهل وأصحابه عند قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) لأنه مقلب القلوب ، وكل من استمع له صبا إليه ، (وَالْغَوْا فِيهِ) أي تشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة ، والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارئ ، (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) أي لكي تغلبوا محمدا على قراءته فيسكت ، فهددهم الله بالعذاب الشديد بقوله : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالحرمان وفنون الهوان ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) في الآخرة (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧) أي سيئات أعمالهم بحسب تفاوت السيئات في الإثم ، ولا يجازيهم على محاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقري الأضياف ، لأنها محبطة بالكفر ، وفي هذا تهديد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ ، ويخلط عليه القراءة ، وتعريض بمن لا يكون عند كلام الله خاضعا خاشعا. (ذلِكَ) أي جزاء أقبح أعمالهم (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) أي جزاء معد لهم (النَّارُ) عطف بيان (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي لهم في دركات النار دار معينة ، وهي دار العذاب المخلد لهم ، (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٢٨) و «جزاء» منصوب بـ «جزاء» ، فإن المصدر ينصب بمثله أي بسبب ما كانوا يلغون في قراءة آياتنا وإنما سمي اللغو جحودا ، لأنهم علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به. فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم متقلبون في عذاب النار : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) عن الحق (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي الشياطين ورؤساء الإنس. وقال علي بن أبي طالب : أي من إبليس وقابيل ، لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل.

وقرأ ابن كثير والسوسي ، وابن عامر ، وشعبة بسكون الراء من «أرنا» ، أي أعطناهما ، واختلس الدوري كسر الراء ، وشدد ابن كثير النون من الذين (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) ، أي ندوسهما ليكونا وقاية بيننا وبين النار ، فتخف عنا حرارتها نوع خفة ، (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) أي ليكونا ممن هو أذل منا مكانا ، وأشد منا عذابا كما جعلانا في الدنيا تحت أمرهما ، (إِنَ


الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) قولا مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية ، (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي ثبتوا على الأعمال الصالحة ، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت في القبر وعند البعث بالبشرى : (أَلَّا تَخافُوا) و «أن» مفسرة ، أو مخففة من الثقيلة ، و «لا» ناهية ، أي بأنه لا تخافوا على ما أمامكم ، أو مصدرية و «لا» إما ناهية ، أو نافية. وقرئ «لا تخافوا» على أنه حال من الملائكة ، أي يقولون : لا تخافوا (وَلا تَحْزَنُوا) على ما تركتم من خلفكم ، فالله تعالى أخبر أن الملائكة يخبرون في أول الأمر بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا فإن المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا ، ولهذا قال الشاعر :

فلا زال ما نهواه أقرب من غد

 

و لا زال ما نخشاه أبعد من أمس

وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ، ثم بعد الفراغ من ذلك الإخبار ، يبشرون بحصول المنافع ، لأن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة. وذلك قوله تعالى : (وَأَبْشِرُوا) أي املئوا صدوركم سرورا ، (بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠) في الدنيا على ألسنة الرسل ، (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي نحن أقرباء الأقرباء إليكم فنوقظكم من المنام ، ونحملكم على الصلاة والصيام ، ونبعدكم عن الآثام في الحياة الدنيا ، وندفع عنكم المضرات ، ونجلب لكم المسرات في الآخرة بالشفاعة حيث يتعادى الكفرة وقرناؤهم ، (وَلَكُمْ فِيها) أي الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ ، لأنكم منعتموها في الدنيا من الشهوات ، (وَلَكُمْ فِيها) أي الآخرة (ما تَدَّعُونَ) (٣١) أي تطلبون ، (نُزُلاً) حال من «ما تدعون» ، أي حال كون هذا رزقا مهيأ كما يهيأ للضيف مستقرا لكم (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢).

قال العارفون : هذه الآية تدل على أن هذه الأشياء جارية مجرى المهيأ للضيف ، والكريم جل وعلا إذا أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها ، وتلك الخلع ليست إلا السعادات الحاصلة عند رؤيته تعالى ، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي لا أحد أحسن من جهة القول ممن دعا إلى الطاعة الله (وَعَمِلَ صالِحاً) ، أي والحال أنه قد عمل صالحا في نفسه ، وللدعوة إلى الله مراتب :

الأولى : دعوة الأنبياء بالمعجزات وبالحجج وبالسيف.

والثانية : دعوة العلماء إلى الله تعالى بالبراهين ، فهم نواب الأنبياء في العلم ، أما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة.

الثالثة : دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف.

الرابعة : دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم دعاة إلى طاعة الله تعالى. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) أي ابتهاجا بأنه منهم فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة :


الأولى : الإقرار باللسان ، وهو الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية.

والثانية : الأعمال الصالحة بالجوارح.

والثالثة : الاعتقاد الحق بالقلب وهاتان داخلتان في قوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً).

والرابعة : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله تعالى والموصوف بهذه الخصال الأربعة أفضل الناس وهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ ابن أبي عبلة «إني» بنون واحدة. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي لا تستوي الدعوة إلى دين الحق والصبر على جهالة الكفار ، ولا قولهم : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، ولا تسمعوا لهذا القرآن. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع جهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق ، (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤). و «إذا» التي هي للمفاجأة ظرف مكان لمعنى التشبيه والموصول مبتدأ ، والجملة بعد خبره ، و «إذا» معمولة لمعنى التشبيه ، والظرف يتقدم على عامله المعنوي أي فالذي بينك وبينه عداوة مشبه في المحبة للصديق في الدين ، القريب في النسب الذي لم تسبق منه عداوة إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ، والمعنى : فإذا قابلت أفعال أعدائك القبيحة بالأفعال الحسنة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة ، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة. قيل : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وصار وليا مصافيا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يعطى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلّا الذين شأنهم الصبر على تحمل المكاره ، وتجرع الشدائد ، (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥) أي وما يوفق على هذه الفعلة ـ أي التي هي دفع السيئة بالحسنة ـ إلّا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة أو من الخلق الحسن. (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك ما أمرت به ، بأن صرفك صارف عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستجر بالله من شره يدفعه عنك ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦) لقولك وأفعالك. (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجود الله وقدرته (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كل منها مخلوق له تعالى ، مسخر لأمره تعالى ، (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما عبدان مخلوقان مثلكم (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أي الأربعة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧) أي إن كنتم تريدون بعبادة الشمس والقمر عبادة الله فلا تعبدوهما فإن عبادة الله في ترك عبادتهما فإن الذين يعبدونهما يقولون : نحن أذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى ، ولكنا عبيد للشمس والقمر وهما عبدان لله. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر ، فدعهم وشأنهم فإن لله عبادا يعبدونه من الملائكة ، أي والله لا يعدم عابدا له أبدا بل يكون من خلقه من يعبده على


الدوام. (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨) أي لا يملّون عن عبادة الله تعالى ولا يفترون وموضع السجود عند قوله تعالى : (إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). وهو قول ابن مسعود والحسن حكاه الرافعي عن أبي حنيفة ، وأحمد لذكر السجود قبيله ، وعند قوله تعالى : (لا يَسْأَمُونَ) وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ، وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة ، لأن الكلام إنما يتم عنده ، وعند الشافعي عند قوله تعالى : (إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لكن قال الشربيني والصحيح عند الشافعي عند قوله تعالى : (لا يَسْأَمُونَ) ، (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته. (أَنَّكَ) أيها الإنسان (تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي منكسرة ميتة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) أي انفتحت ، ثم تصدعت عن النبات.

وقرئ «ربأت» أي ارتفعت ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن القادر على احياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) أي أنه تعالى قادر على الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والحياة والقدرة والعقل إلى تلك الأجزاء المتفرقة ، (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يميلون عن الحق في أدلتنا (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) في وقت من الأوقات. وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء. (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي الذين يميلون عن الاستقامة في آياتنا بالطعن والتأويل الباطل ، فيلقون في النار خير أم الذين يؤمنون بآيتنا فيأتون آمنين من العذاب يوم القيامة؟ (اعْمَلُوا) يا أهل مكة (ما شِئْتُمْ) من الأعمال المؤدية إلى الإلقاء في النار والإتيان آمنا ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) فيجازيكم بحسب أعمالكم ـ وفي ذلك تهديد ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) لهم في الآخرة نار جهنم أو يجازون بكفرهم ، (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١) أي غالب عديم النظير ، لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه ، ولأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا تكذبه الكتب المتقدمة عليه كالتوراة والإنجيل والزبور ، وسائر الكتب. ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه ، (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) في أمره (حَمِيدٍ) (٤٢) في أفعاله (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة ، (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمحقين ، (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣) للمبطلين ، ففوض هذا الأمر إلى الله تعالى ، واشتغل بما أمرت به ـ وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي هذا الذكر (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا) أي كفار مكة : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي لولا بيّنت آياته بلسان نفهمه؟ (أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي. والمعنى : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ، ويصح لهم أن يقولوا : قلوبنا في أكنة تدعونا إليه ، أي من هذا الكلام. وفي آذاننا وقر منه لا نفهمه ، ولا نحيط


بمعناه ، ولما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها ، وفي آذانكم وقر منها. وقرئ «أعجمي» على الأخيار بأن القرآن أعجمي ، والمتكلم والمخاطب عربي ، ويجوز أن يراد : هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب. (قُلْ هُوَ) أي القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) ، لأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات ، (وَشِفاءٌ) لأنه إذا أمكنهم الاهتداء فقد حصل لهم الهدى ، فذلك الهدى شفاء لهم من مرض الكفر والجهل ، (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) ، أي والذين لا يؤمنون هو حال كونه كائنا في آذانهم صمم فـ «وقر» خبر للضمير المقدر ، والجملة خبر الموصول ، وفي آذانهم متعلق بمحذوف ، وقع حالا من «وقر» ، (وَهُوَ) أي القرآن (عَلَيْهِمْ عَمًى).

قرأ الجمهور على صيغة المصدر. وقرأ ابن عباس «عم» على صيغة النعت. (أُولئِكَ) الموصوفون بالصمم عن الحق والعمى عن الآيات الظاهرة (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) ، أي هم مثل البهيمة التي لا تفهم إلا نداء. وقيل : هم كمن ينادون من مكان بعيد لم يسمعوا ، وإن سمعوا لم يفهموا. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم ، وهم أصحابك ، ورده آخرون ، وهم الذين يقولون : قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي لولا عدة سبقت بتأخير العذاب في حق أمتك المكذبة إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، أي بين المكذبين والمصدقين بالعذاب الواقع بالمكذبين في الدنيا ، (وَإِنَّهُمْ) أي كفار قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) ، أي من كتابك (مُرِيبٍ) (٤٥) ، أي موقع في شك ظاهر فلا ينبغي أن يستعظم استيحاشك من قولهم : قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ، أي خفف يا أكرم الرسل على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم ، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦) وهو يوصل إلى كل أحد ما يليق بعلمه من الجزاء في يوم القيامة ، (إِلَيْهِ) أي إلى ربك (يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلّا الله ، وكما أن هذا العلم ليس إلّا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله تعالى ، ثم ذكر الله تعالى من أمثلة هذا الباب مثالين بقوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي أوعيتها ، (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) حملها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي إلا ملابسا بعلمه المحيط ، أما أصحاب الكشف فهو من إلهام الله تعالى ، وأما أصحاب علم الرمل وعلم التعبير فلا يمكنهم الجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف ، وما نافية ، ومن في ثمرات ، وفي أنثى زائدة للاستغراق.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «من ثمرات» بالجمع. والباقون «من ثمرة» بالإفراد. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي يوم ينادي الله المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) بحسب اعتقادكم؟


(قالُوا) أي يقولون متبرئين من إثبات الشريك لله تعالى : (آذَنَّاكَ) أي أخبرناك وأسمعناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧) أي ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا ، ولا يبصرونها في ساعة التوبيخ ، وظهر لهم عدم نفعها حالتئذ (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) ، أي أيقنوا أنه ليس لهم مهرب من النار (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) ، أي من طلب السعة في أسباب المعيشة ، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩) أي أصابته ضيقة فهو مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله ، ومن رحمته حتى تظهر آثاره في الأحوال الظاهرة. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي الإنسان (رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي من بعد شدة أصابته ، (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) ، أي هذه الخيرات إنما حصلت لي بسبب استحقاقي لما حصل عندي من الفضائل وأعمال القربة من الله ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي أن الإنسان يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة ، فإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول : وما أظن الساعة تقوم. (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ) أي في الآخرة (لَلْحُسْنى) أي للحالة الحسنى من الكرامة وقوله : (إِنَّ لِي) إلخ جواب القسم لسبقه الشرط ، (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي فلنظهرن لهم أن الأمر على عكس ما تصوروه ، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠) أي شديد (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله (وَنَأى بِجانِبِهِ) ، أي تباعد عن الشكر بكليته تعظما ، (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي أصابه فقر (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١) ، أي أقبل على دوام الدعاء ، وأخذ في التضرع (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢) أي قل لهم يا أشرف الخلق : أخبروني إن كان هذا القرآن من الله ، ثم كفرتم به من أضل منكم ، فإن حالكم في معاداة شديدة مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه ، وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي سنرى أهل مكة علامات وحدانيتنا وقدرتنا في أطراف الأرض من خراب مساكن الأمم الماضية ، كعاد وثمود ، وسنريهم ذلك في أنفسهم من الأمراض والمصائب وغير ذلك. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الله ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) و «بربك» فاعل ، والباء مزيدة ، و «أنه» بدل منه ، أي أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، ولم يغنهم أخباره للأمم الماضية (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إن أهل مكة في شك عظيم من البعث والقيامة ، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) أي إن الله عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.


سورة الشورى

وتسمى سورة حم عسق ، وسورة حم سق ، مكية ثلاث وخمسون آية ، ثمانمائة

وست وثمانون كلمة ، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) عسق) (٢) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق» ، وهما خبران لمبتدأ محذوف. (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) أي مثل ما في السورة من المعاني أوحى الله القادر على ما لا نهاية له ، العالم بجميع المعلومات الغني عن جميع الحاجات إليك في سائر السور وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. وقرأ ابن كثير «يوحي» بالبناء للمفعول. ويروى أيضا عن أبي عمرو على أن «كذلك» مبتدأ و «يوحي» خبره المسند إلى ضمير عائد عليه واسم الجلالة مرفوع بما دل عليه «يوحي» ، أي الموحي الله. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان «نوحي» بنون العظمة ، فاسم الجلالة مبتدأ ، وعلى هاتين القراءتين فالوقف على من قبلك كاف بخلاف قراءة الجمهور فلا يوقف عليه ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل من كان موجودا في السموات فهو عبد الله ، فوجب أن يكون الله منزها عن الكون في المكان والجهة ، والعرش والكرسي ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٤) أي هو المتعالي عن مشابهة الممكنات ، ومناسبة المحدثات ، العظيم بالقدرة وكمال الإلهية فهو تعالى أعلى كل شيء وأعظم كل شيء ، (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أي يتشققن من هيبة الله تعالى وعظمته ، ويبتدئ التشقق من جهتهن الفوقانية.

قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بنون ساكنة بعد الياء ، وابن كثير وابن عامر وحمزة ، وحفص عن عاصم «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بالتاء المفتوحة بعد الياء ، ونافع والكسائي «يكاد يتفطرن» بالتاء ، ومن قرأ «تكاد» بالتاء الفوقية يجوز الوجهين في ينفطرن ، ومن قرأ «يكاد» بالياء التحتية لا يقرأ «يتفطرن» إلا بالتاء الفوقية. (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي والملائكة ينزهون الله تعالى عمّا لا ينبغي ملتبسين بوصفه تعالى بكونه مفيضا لكل الخيرات ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يطلبون تجاوز الذنوب عن المؤمنين وتأخير العقوبة عن


الكافرين والفاسقين طمعا في إيمانهم وتوبتهم ، ويطلبون الرزق لهم وحيث لم يذكر الله تعالى عن الملائكة استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرأون عن كل الذنوب (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥) فإن الله تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ، ويزيدهم على ما طلبوه رحمة كاملة ، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي أربابا يعبدونهم من الأصنام (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي رقيب على أعمالهم فيجازيهم عليها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦) ، أي ما أنت يا أشرف الرسل بموكول إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان إنما أنت منذر فقط ، (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم ، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لأهل أم القرى ، ولمن حولها من سائر الناس ، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي يوم القيامة فيجتمع فيه أهل السموات مع أهل الأرض (لا رَيْبَ فِيهِ) والوقف هنا كاف (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧) أي بعد جمعهم في الموقف ، فـ «فريق» مبتدأ خبره الظرف بعده. وقرئ بالنصب على الحالية وتنذر يوم جمعهم متفرقين في داري الثواب والعقاب. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ) في الدنيا (أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد وهو إما الإسلام أو الكفر ، ولكن الله جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا ، وهو معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي يدخل الله في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ، ويدخل في عذابه من يشاء أن يدخله فيه ، (وَالظَّالِمُونَ) أي الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) أي قريب ينفعهم ، (وَلا نَصِيرٍ) (٨) أي مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى ، (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها ، هيهات (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) أي إن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الولي بحق لا ولي سواه ، لأنه يحيي الموتى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٩) فهو حقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم ، (فَحُكْمُهُ) راجع (إِلَى اللهِ) وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي ذلكم الحاكم بينكم هو الله مالكي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في دفع كيد الأعداء ، وفي طلب كل خير ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠) أي وإليه تعالى أرجع في كل المهمات لا إلى أحد سواه (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالرفع خبر خامس لـ «ذلكم» ، أو مبتدأ خبره ما بعده. وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير ، أو وصف لاسم الجلالة المجرور بـ «إلى». (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم من الناس (أَزْواجاً) أي نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي وجعل للأنعام من جنسها أصنافا ، ذكرا وأنثى (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ، أي يكثركم بسبب هذا الجعل ، لأن الناس والأنعام يتوالدون به (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، أي ليس كذاته تعالى ذوات ، وليس كصفاته تعالى صفات ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) للمسموعات والمرئيات ، (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى مفاتيح الرزق من السموات والأرض ، وهي الأمطار والنباتات (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ


وَيَقْدِرُ) أي يوسعه لمن يشاء ويقتر ، (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢) فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) ، أي اختار الله لكم يا أمة محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا ، وإبراهيم وموسى وعيسى ، فهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة ، و «أن» تفسيرية بمعنى أي ، أو مصدرية في محل نصب بدل من الموصول ، أو في محل جر بدل من «الدين» ، أو في محل رفع خبر مبتدأ مضمر تقديره هو أن أقيموا دين الإسلام ، (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي لا تختلفوا في أصل الدين الذي لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد والصلاة ، والصيام والحج ، والتقرب إلى الله بصالح العمل ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وتحريم الكفر ، والقتل والزنا والإذاية للخلق ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدنا آت ، وما يعود بخرم المروعات ، فهذا كله لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق عليهم ما تدعوهم إليه من إقامة دين الله تعالى ، (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي الله يقرب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء وهو من ولد في الإسلام ويميت عليه (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) أي ويرشد إليه من يميل إليه من أهل الكفر ، (وَما تَفَرَّقُوا) أي المشركون في الدين الذي دعوا إليه ، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيقته (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا منهم ، وطلبا للرئاسة ، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، أي ولولا عدة ثبتت في الأزل من ربك بتأخير عذاب هذه الأمة إلى وقت معلوم ـ وهو يوم القيامة ـ لأوقع القضاء بينهم من هلاكهم بالاستئصال في الدنيا ، (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤) أي وإن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين أعطوا كتابهم ، الذي هو التوراة والإنجيل من بعد المختلفين في الحق لفي الشك من كتابهم موقع في قلق النفس ، لا يؤمنون به حق الإيمان ، (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي فلأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين ، فادع الناس كافة إلى الاتفاق على الملّة الإسلامية ، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله تعالى ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة ، (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل يا أكرم الرسل : آمنت بما أنزل الله على الأنبياء من كتاب صح أن الله أنزله ، وهو الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأن المتفرقين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض ، (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرت بأن أعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي ، وأسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله تعالى ، (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥) أي إن إله الكل واحد وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، لا خصومة بيننا وبينكم في الدين ، لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمخاصمة مجال ، ولا للمخالفة محل سوى العناد ، وبعده لا جدال ، فإن الله يجمع


بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله ، لأن مرجع الكل إليه تعالى فيظهر هناك حالنا وحالكم ، (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين ودخلوا فيه حجتهم باطلة عند ربهم ، وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا : ألستم تقولون : إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، فنبوة موسى وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد ليست متفقا عليها فحينئذ وجب الأخذ باليهودية ، فبيّن الله تعالى أن هذه الحجة فاسدة ، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه‌السلام ، لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله عليه‌السلام ، وقد ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على صدق صاحبها وجب الاعتراف بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان لا يدل على صدقه وجب أن لا يقروا بنبوة موسى عليه‌السلام ، والإقرار بنبوة موسى مع الإنكار بنبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزات باطل ، لأنه متناقض (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لمكابرتهم الحق بعد ظهوره ، (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (١٦) في الآخرة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي القرآن وسائر الكتب المنزلة قبلك (بِالْحَقِ) ، أي بالصدق (وَالْمِيزانَ) ، أي الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١٧) أي أيّ شيء يجعلك عالما بأن الساعة التي يخبر بمجيئها الكتاب شيء قريب ، فوجب على العاقل أن يجتهد في النظر ويترك طريقة أهل التقليد ، ولمّا كان الرسول يهددهم بنزول القيامة قالوا على سبيل السخرية : متى تقوم القيامة ، وليتها قامت ، فيظهر لنا أن الحق ما نحن عليه ، أو ما عليه محمد وأصحابه ، فدفع الله ذلك فقال : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال إنكار واستهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون من قيامها وأهوالها لعلمهم أن التوبة تمتنع عندها ، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي الكائنة بلا شك (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨) أي إن الّذين يدخلهم الشك في وقوع الساعة فيجادلون فيها لفي ضلال بعيد عن الصواب ، لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل ، فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى ، وهذا محال. فكان إنكار القيامة ضلالا بعيدا ، (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أي كثير الإحسان بهم بالحياة والعقل ودفع أكثر البليات عنهم ، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ، وتأخير العذاب عمن يستحقون العذاب ، (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) كيفما يشاء (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي القادر على ما يشاء ، (الْعَزِيزُ) (١٩) أي الذي لا يغالب فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده ، (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة ، نزد له ثوابه بالتضعيف إلى ما نشاء ، ونزد له في تسهيل سبيل الطاعات ، ونعطه من الدنيا ما كتبناه له ، (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) أي ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا نعطه بعض ما يطلبه حسب ما قسمنا له ، وما له


في الآخرة ثواب ، لأنه عمل للدنيا ، (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي : الكفار مكة شياطينهم الذين زينوا لهم ما لم يأمر الله تعالى من الشرك ، وإنكار البعث ، والعمل للدنيا؟! فإنها على ضد دين الله ، (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الكافر والمؤمنين في الدنيا ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي الذين اختاروا ما لم يأذن به الله (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢١).

وقرأ بعضهم «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل ، أي ولولا الوعد بأن الفصل بينهم يكون يوم القيامة ، وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا ، (تَرَى الظَّالِمِينَ) يوم القيامة (مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي خائفين خوفا شديدا من جزاء ما عملوا في الدنيا من السيئات ، (وَهُوَ) جزاؤه (واقِعٌ بِهِمْ) يوم القيامة فلا ينفعهم الحذر ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي مستقرون في أطيب بقاع الجنات ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل عند ربهم ، فإن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة ، (ذلِكَ) أي جزاء الإيمان والعمل الصالح (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢٢) ، أي فإن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق ، (ذلِكَ) أي الفضل الكبير (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ) في الدنيا (عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

قرأ نافع وابن عامر ، وعاصم بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين والباقون بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل يا أشرف الخلق لأهل مكة : لا أسألكم أجرا قط على التبليغ ببشارة ونذارة ، ولكن أسألكم المودة متمكنة في أهل القرابة ، وحب آل محمد واجب. قال الشافعي رضي‌الله‌عنه :

واهتف بساكن خيفها والناهض

 

يا راكبا قف بالمحصب من منى

فيضا كما نظم

 

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فليشهد الثقلان أني رافضي

 

إن كان رفضا حب آل محمد

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يكتب أي حسنة كانت ـ كالمودة للقربى ـ نزد له في تلك الحسنة تضعيف ثوابها. وقرئ «يزد» بالياء أي يزد الله. وقرئ «حسنى». (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣) أي أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي التفضل عليهم بزيادة أنواع كثيرة على ذلك الثواب. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بل يقولون : اختلق محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ، وتلاوة القرآن ، فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال الله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ، أي لو كان القرآن افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك ، وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ، ولم تنطق بحرف من حروفه ، وحيث تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله ، ومن عادة الله ابطال الباطل


وتقرير الحق بوحيه فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤) فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات ، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ).

وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي : يا هذا ، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، فتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة ، فقال : يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب : الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء ، بدل كل ضحك ضحكته ، (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) ، فتارة يعفو عن الذنوب بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة ، (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٢٥) من خير وشر ، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على المخاطبة. والباقون بالياء على المغايبة. (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يجيب الله دعاءهم (وَيَزِيدُهُمْ) على ما طلبوه بالدعاء (مِنْ فَضْلِهِ). وقال عطاء عن ابن عباس والمعنى : ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه. (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢٦) بدل ما للمؤمنين من الثواب ، والفضل المزيد. (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي ولو سوى الله الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض ، ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم ، وتعطّلت المصالح.

وقال ابن عباس : ولو وسع الله المال على عباده لطلبوا منزلة بعد منزلة ، ودابة بعد دابة ، ومركبا بعد مركب ، وملبسا بعد ملبس ، (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) أي بتقدير (ما يَشاءُ) أن ينزله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧) أي إنه عالم بأحوال الناس وبعواقب أمورهم ، فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي المطر الذي يغيثهم من الجدب (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي من بعد يأسهم من نزوله. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ينزل» بتشديد الزاي. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسر نون «قنطوا». (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي منافع الغيث وما يحصل به من الخصب ، (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٨) أي وهو الّذي يتولى عباده بإحسانه ، المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة ، (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) ، و «ما» معطوف على «السموات» ، أي وخلق ما نشر الله فيهما من حي. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩) أي وهو تعالى على جمع العقلاء للمحاسبة في أي وقت يشاء قدير ، (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي فهي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها ، فـ «ما» متضمنة لمعنى الشرط ، ولذلك جاءت الفاء في جوابها. وقرأ نافع وابن عامر «بما كسبت» بغير فاء ، فـ «ما» بمعنى الذي ، و «بما كسبت» خبره. والمعنى : والّذي


أصابكم من الأحوال المكروهة وقع بما كسبت أيديكم ، (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) من الذنوب فإن الذنوب قسمان : قسم يعجل العقوبة عليه في الدنيا بالمصائب ، وقسم يعفو عنه وهو أكثر. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بفائتين ما قضي عليكم من المصائب ، وإن هربتم من أقطارها كل مهرب ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يحميكم منها (وَلا نَصِيرٍ) (٣١) يدفعها عنكم ، (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) أي السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٣٢) أي كالجبال.

وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا ، وابن كثير وهشام بها وقفا. والباقون بحذفها للتخفيف. (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التي تجري بها السفن. وقرأ نافع وحده «الرياح» على الجمع. (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي يصرن ثوابت على ظهر البحر ، أي غير جاريات ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣) فإن كان المؤمن في البلاء كان من الصابرين ، وإن كان في النعماء كان من الشاكرين ، فلا يكون من الغافلين عن دلائل معرفة الله ألبتة ، (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا). والمعنى : أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح فتقف الجواري على متن البحر ، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق بمعصيتهم (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (٣٤) أي إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. وقرأ الأخفش «ويعفو» بالواو. وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو ، (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥).

وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف. والباقون بالنصب عطف على علة مقدرة تقديره : لينتقم منهم وليعلم إلخ. وقرئ بالجزم عطفا على «يعف» فيكون المعنى : وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ، وإنجاء قوم ، وتحذير قوم ، وعلى هذا فلا يوقف على كثير بخلاف القراءتين الأوليين ، فالوقف عليه تام ، فمعنى الآية : وليعلم الّذين ينازعون في آياتنا على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلّا الله ، (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فما أعطيتم مما تتنافسون فيه من أثاث فهو ما تتمتعون به مدة حياتكم (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ) ما عندكم (وَأَبْقى) زمانا (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣٦).

وعن علي رضي الله : أنه تصدّق أبو بكر رضي‌الله‌عنه بماله كله ، فلامه جمع من المسلمين فنزلت هذه الآية. (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) كالغيبة والنميمة ، (وَالْفَواحِشَ) كالقتل والزنا والسرقة.

وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد والموصول معطوف على الذين آمنوا ، وكذا ما بعده ، (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (٣٧). «وإذا» منصوبة بـ «يغفرون» ، و «يغفرون» خبر لـ «هم» ، والجملة بأسرها عطف على «يجتنبون» ، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية. (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أجابوا لربهم بالتوحيد والطاعة (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدوا


الصلوات الخمس بشروطها وهيئاتها (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ، أي إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيما بينهم فيه ، ثم عملوا به ولا يعجلون في أمورهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ، أي أعطيناهم من المال (يُنْفِقُونَ) (٣٨) أي في سبيل الخير (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي المظلمة (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) ، أي ينصفون بالقصاص لا بالمكابرة ، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي جزاء جناية مثل تلك الجناية (فَمَنْ عَفا) عن المسيء إليه ، (وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بترك المكافأة (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠) أي البادئين بالسيئة ، والمتعدين في الانتقام.

واعلم أن العفو على قسمين :

أحدهما : أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ولرجوعه عن جنايته ، فآيات العفو محمولة على هذا القسم.

وثانيهما : أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غضبه ، فآية الانتقام محمولة على هذا. (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) أي سعى في نصر نفسه بطاقته وانتصف بالقصاص (بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي بعد ظلم الظالم إياه. وقرئ «بعد ما ظلم». (فَأُولئِكَ) أي المنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤١) أي من مأثم وعقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم ، (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي المأثم (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي يبدءون بالظلم أو يجاوزون في الانتقام ، (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يتكبرون في الأرض بلا حق ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢) بسبب ظلمهم وتطاولهم ، (وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى بأن لا يقتص ، (وَغَفَرَ) لمن ظلمه وفوض أمره إلى الله تعالى ، (إِنَّ ذلِكَ) ، أي الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣) أي من مطلوبات الله تعالى في الأمور. قيل : نزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) إلى قوله تعالى : (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) في شأن أبي بكر الصدّيق وعمرو بن غزية الأنصاري في تنازع بينهما ، فشتم الأنصاري أبا بكر الصديق ، فأنزل الله تعالى في شأنهما هذه الآيات. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي من أضله الله تعالى عن هذه الأشياء فليس له من هاد يهديه من بعد إضلال الله إياه ، (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) أي المشركين يوم القيامة (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين يرونه (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤) ، أي هل إلى رجوع إلى الدنيا من حيلة ، (وَتَراهُمْ) في ذلك اليوم (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي النار والخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) ، أي حال كونهم حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل ، (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ، ضعيف كما ينظر المقتول إلى السيف. (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) على سبيل التعبير للكافرين : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باستغراقها في العذاب (وَأَهْلِيهِمْ) بمفارقتهم لهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لـ «قال» ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ، أي يقولون يوم القيامة ـ إذا رأوهم على تلك


الصفة ـ : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) (٤٥) ، أي دائم ـ وهذا من كلام الله تصديقا للمؤمنين ، أو من تمام كلامهم ـ (وَما كانَ لَهُمْ) أي المشركين (مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) برفع العذاب عنهم (مِنْ دُونِ اللهِ) حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن دينه (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦) أي دين (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) إذ دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) وقوله : (مِنَ اللهِ) إما صلة للأمر أي لا يرده الله بعد ما حكم به وإما صلة ليأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده ، (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) ينفع في التخلص من العذاب (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم ، (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧) أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الأعمال ، لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم ، (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، أي فإن لم يقبل هؤلاء هذا الأمر فإنا لم نرسلك لتقهرهم على امتثال ما أرسلناك به ، (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) لما أرسلناك به وقد فعلت ، (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ، (فَرِحَ بِها) وأعجب بها غير شاكر لها ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي بلاء من مرض وفقر وخوف (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما عملوه من المعاصي (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٨) أي فيظهر منه الكفر ونسيان النعمة ، وذكر البلية من غير تأمل لسببها (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيتصرف فيهما وما فيهما كيفما يشاء ويقسم النعمة والبلية حسبما يريده ، (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كيف يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) من الأولاد (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩) منهم ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) أي يخلطهم ذكرانا وإناثا ، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي بلا ولد ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بما خلق (قَدِيرٌ) (٥٠) على ما يشاء أن يخلقه (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) ، أي وما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلّا على أحد ثلاثة أوجه : إما أن الله يلهمه في قلبه لا بواسطة شخص آخر ولا بسمع عين كلام الله كما في أم موسى ، وكما في رؤية إبراهيم عليه‌السلام في المنام بذبح ولده. وإما أن الله يوصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه يسمع عين كلام الله من غير رؤية ذاته تعالى ، كما وقع لموسى عليه‌السلام. وإما أن الله يوصل إليه الوحي بواسطة شخص آخر وهو جبريل. وهذا هو الّذي يجري بينه وبين الأنبياء في أكثر الأوقات من الكلام.

روي أن اليهود قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت هذه الآية. وقرأ نافع برفع «يرسل» بإضمار المبتدأ أي ، أو هو يرسل ، أو بالعطف على ما يتعلق به من وراء إذ التقدير ، أو بسمع من وراء حجاب و «وحيا» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل ، والتقدير : إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسل رسول ، وكذلك «فيوحي»


فسكنت ياؤه ، وأما على قراءة الجمهور بنصب «يرسل» و «يوحي» فهو معطوف على المضمر الذي يتعلق به «من وراء حجاب» ، هذا الفعل المقدر على «وحيا» ، والمعنى : إلا بوحي أو إسماع للكلام من وراء حجاب أو إرسال رسول. ويقال : التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي إليه وحيا ، أو يسمع إسماعا من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) (٥١) يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام. وثانيا بإسماع الكلام. وثالثا : بتوسيط الملائكة الكرام. (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإيحاء (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي حال كون الروح وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك ، لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن وسمي القرآن روحا ، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل والكفر. (ما كُنْتَ تَدْرِي) قبل الوحي (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي أي شيء هو القرآن والإيمان بتفصيل ما في القرآن من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول ، (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي الروح الذي أوحينا إليك (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) هدايته (مِنْ عِبادِنا) ، وهو الذي يصرف اختياره إلى جهة الاهتداء به ، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) بذلك النور من تشاء هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) ، أي دين حق. وقرئ «التهدي» بالبناء للمفعول أي ليهديك الله. وقرئ «لتدعو». (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي فالذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض ، (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) أي أمور الخلائق في الآخرة فلا حاكم سواه ، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.


سورة الزخرف

مكية ، تسع وثمانون آية ، ثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) أي والكتاب المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة ، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة. (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي إنا صيّرنا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلغة العرب ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) أي لكي تفهموه وتعرفوا حق النعمة في ذلك ، (وَإِنَّهُ) أي الكتاب (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي مثبت في أصل الكتب السماوية ، وهو اللوح المحفوظ ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر همزة «أم الكتاب». (لَدَيْنا) أي محفوظ عندنا من التغيير (لَعَلِيٌ) أي رفيع الشأن (حَكِيمٌ) (٤) أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) أي أنترككم فنبعد عنكم المواعظ إبعادا ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥) ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع بكسر الهمزة على أنها شرطية لقصد تجهيل المخاطب ، والباقون بالفتح على التعليل أي إنا لا نترك هذا الإنذار بسبب كونكم منهمكين في الإسراف ، وهذا الكلام يحتمل الرحمة والمبالغة في التغليظ ، فالمعنى على الأول : إنا لا نترككم مع سوء اختياركم ، بل نذكركم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق ، وعلى الثاني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون؟ كلا ، بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح.

قال قتادة : لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة ، (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍ) قبلك يا أكرم الرسل (فِي الْأَوَّلِينَ) (٦) أي في الأمم الماضية (وَما يَأْتِيهِمْ) أي والحال أنه ما يأتي الأولين (يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٧) أي أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب ، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب لأن المصيبة إذا عمّت خفت ، (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنّا أهلكنا أشد قوة من أهل مكة الذين يستهزئون بك ، (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨) أي سبق في القرآن مرارا ذكر صفة الأولين في


الإهلاك ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي كفار مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٩) فهم مقرون بأن خالقهن وما فيهن هو الله ذو العزة في سلطانه ، والعلم في تدبيره ، ومع هذا الإقرار يعبدون معه تعالى غيره وينكرون قدرته على البعث. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا ثابتة ولو شاء لجعلها متحركة ، فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية.

وقرأ الكوفيون مهدا والباقون مهادا وهذا الموصول ابتداء الكلام من الله تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته أي هو الذي إلخ.

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها) أي الأرض (سُبُلاً) تسلكونها في أسفاركم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠) أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ، ولتهتدوا بالتفكير فيها إلى التوحيد والدين الحق (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم ، لا كما أنزل على قوم نوح حتى أغرقهم (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي فأحيينا بذلك الماء مكانا خاليا من النبات. (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١) أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من قبوركم أحياء فهذا الدليل كما يدل على قدرته تعالى وحكمته ، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة. (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) أي أصناف المخلوقات (كُلَّها) وقيل كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت ، واليمين واليسار ، والقدّام والخلف ، والماضي والمستقبل ، والذوات والصفات ، والصيف والشتاء ، والربيع والخريف ، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) أي الإبل (ما تَرْكَبُونَ) (١٢) أي ما تركبونه (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أي لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ) أي ركبتم (عَلَيْهِ) بأن تعرفوا أن الله تعالى خلق البحر ، والرياح ، والسفن ، والإبل ، وتعرفوا أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى ، وتشتغلوا بالشكر للنعم التي لا نهاية لها ، (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣) أي ليس لنا من القوة أن نضبط هذه الدابة والفلك ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤) أي راجعون من الدنيا إلى دار البقاء كما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال : «الحمد لله على كل حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى قوله تعالى : (لَمُنْقَلِبُونَ)»

وروي أن الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما رأى رجلا ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا ، فقال له : ما بهذا أمرت. أمرت أن تقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، ثم تقول : سبحان الذي سخر لنا هذا.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثا ، ثم يقول : «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» ثم قال : «اللهم إني أسألك في سفري البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر وأطوعنا بعد الأرض اللهم ، أنت الصاحب في السفر ، والخليفة على


الأهل ، اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا». وكان إذا رجع إلى أهله يقول : «آئبون تائبون لربنا حامدون» (١). (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي أثبتوا أي بنو مليح له تعالى ولدا هو عبد من عباده (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥) أي لمبالغ في الكفر ظاهر الكفر (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (١٦) أي بل اتخذ من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما ، (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (١٧) أي وإذا أخبر أحد بني مليح بالبنت التي جعلها للرحمن شبها صار وجهه أسود من أحزان ما أخبر به ، والحال أنه مغموم. أفيرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟

وقرئ «مسود» و «مسواد» واسم «ظل» إما ضمير يعود إلى أحد وجملة وجهه مسود من المبتدأ والخبر ، خبرها وإما وجهه فسمود خبر مبتدأ مقدر أي هو مسود فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨) أي أو جعلوا من عاداتها أن تربى في الزينة من الذهب والفضة ولدا لله ، فالتي تتربى في الزينة تكون ناقصة الذات إذ لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت في تكميل نفسها إلى الزينة ، والحال أنها إذا احتاجت إلى المخاصمة عجزت عن إقامة الحجة لضعف لسانها ، وقلة عقلها ، وبلادة طبعها ، وهي النساء ، فكيف يليق أن يكن بنات الله تعالى؟ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضم الياء وفتح النون والباقون بفتح الياء وسكون النون.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي حكموا بأن الملائكة أكرم العباد على الله أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا ، فالقول بأن الملائكة إناث كفر. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» أي وحكموا بأن الملائكة الذين يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار إناث فكيف عرفوا كونهم إناثا؟

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم ، فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم. وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزتين مفتوحة ومضمومة وسكون الشين ، وأدخل قالون بينهما ألفا أي أأحضروا خلقهم. أي حين خلقهم (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) في ديوان أعمالهم وهي قولهم : «إن لله جزءا وان له بنات وإنها الملائكة. (وَيُسْئَلُونَ) (١٩) عنها يوم القيامة ، (وَقالُوا) أي بنو مليح (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء الله عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم فما فعلناه من عبادتنا إياهم حق مرضي عنده تعالى ، (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي القول

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب : ما يقول الرجل إذا سافر ، وأحمد في (م ١ / ص ١١٥).


(مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢٠) أي ما هم إلا يكذبون في ذلك القول ، وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، وأن الله قد شاء منا عبادتنا إياهم بمشيئة الارتضاء (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (٢١) أي هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يتمسكوا به ، (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢) أي لم يأتوا بحجة عقلية ، أو نقلية ، بل اعترفوا بتقليد آبائهم الجهلة ، وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على حالة عظيمة تقصد ، وإنا مهتدون على أعمالهم (وَكَذلِكَ) أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد. (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي ما أرسلنا نبيا مخوفا من قبلك إلى أهل قرية إلا قال من يحبون الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق قولا مثل قول قومك : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة تستحق أن تقصد ، (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) أي أعمالهم (مُقْتَدُونَ) (٢٣) قل : يا أشرف الرسل لقومك ، قال أبو السعود صيغة الأمر أمر ماض متعلق بالنذير السابق ، حكاه الله لنبيه على تقدير «فقلنا له قل» لا أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدل على ذلك أنه قرأ ابن عامر وحفص «قال» بصيغة الماضي أي قال كل نذير لأممهم : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أوضح في الدلالة من دين آبائكم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٢٤) أي قال : إنّا كل أمة لنذيرها ثابتون على دين آبائنا وان جئتنا بما هو أصوب ، فإنّا بما أرسلت به منكرون وإن كان ما جئتنا به أوضح مما كنا عليه. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالاستئصال (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٢٥) بالرسل من الأمم الماضية فلا تكترث بتكذيب قومك ، (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) آزر (وَقَوْمِهِ) المكبين على التقليد (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي أنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني ، وبراء مصدر ، نعت به مبالغة وقرأ الزعفراني ، وابن المنادي بضم الباء ، وقرأ الأعمش إني بريء بنون واحدة وبصيغة اسم الفاعل. (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢٧) أي يثبتني على الهداية ، والسين للتأكيد ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، فقوله عليه‌السلام : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) جار مجرى لا إله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جار مجرى إلّا الله ، فكان مجموع قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) جاريا مجرى قوله : لا إله إلّا الله ، وعلى هذا لا يوقف على قوله : (مِمَّا تَعْبُدُونَ) وقرئ «كلمة» و «في عقبه» بسكون اللام وسكون القاف.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم ، (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) أي بل متعت منهم أهل مكة ، (وَآباءَهُمْ) بطول العمر وسعة الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) (٢٩) أي ظاهر الرسالة يوضحها بما معه من الآيات والمعجزات فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولذا قال تعالى : (وَلَمَّا


جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي خيال (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) (٣٠) فكفروا بالقرآن واستحقروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من إحدى القريتين مكة ، والطائف (عَظِيمٍ) (٣١) في المال والجاه فالذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي نبوة ربك لمن شاءوا (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الرزق (دَرَجاتٍ) أي متفاوتة (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة ، والضعف ، والعلم ، والجهل ، والحذاقة ، والبلاهة ، والشهرة ، والخمول فلو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا ، وحينئذ يفضى ذلك إلى فساد نظام الدنيا ، وخراب العالم ، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا في أحوال الدنيا مع دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض العباد بمنصب النبوة ، فكما فضلنا بعضهم كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا ، (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) من النبوة وسعادة الدارين (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢) من الأموال ، فالعظيم من حاز النبوة لا من حاز الأموال الكثيرة (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) (٣٤) أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر ـ إذا رأوا أهل الكفر في سعة من الرزق لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه ـ لأعطينا الكافرين أكثر الأسباب المفيدة للتنعم ولجعلنا سقف بيوتهم من فضة ، ومصاعد من فضة يرتقون عليها ، وأبواب بيوتهم من فضة ، وسررا من فضة ينامون عليها (وَزُخْرُفاً) أي زينة من كل شيء في كل شيء ، وهو معطوف على «سقفنا» ، ويجوز أن يكون معطوفا على محل فضة ، أي جعلنا بعض هذه الأشياء فضة ، وبعضها ذهبا.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «سقفنا» بفتح السين وسكون القاف ، والباقون بضمهما ، وقرئ معاريج (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة «لما» بتشديد الميم ، فهو بمعنى إلا و «إن» نافية كما في قراءة أبي وما ذلك أي وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا ، والباقون بالتخفيف فـ «ما» زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة ، واللام فارقة أي وأنه كل ذلك متاع الحياة.

وقرئ بكسر اللام وهي تعليل و «ما» موصولة قد حذف عائدها أي للّذي هو متاع الحياة (وَالْآخِرَةُ) أي ما فيها من فنون النعم (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥) أي عن الكفر والمعاصي ، فإن العظيم هو العظيم في الآخرة ولا في الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) بضم الشين أي ومن يعرض عن القرآن وقرئ «يعش» بفتح الشين أي يعم ، وبالكسر أي يميل وقرئ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، والمعنى ومن يعرف أن القرآن حق وهو يتجاهل (نُقَيِّضْ لَهُ) أي نضم إليه (شَيْطاناً فَهُوَ) أي الشيطان (لَهُ قَرِينٌ) (٣٦) في الدنيا وفي النار.


روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار وقرئ «يقيض» بالياء ، والفاعل يعود إلى الرحمن ومن قرأ «يعشو» فحقه أن يرفع «يقيض» (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي وأن الشياطين ليصرفون قرناءهم عن سبيل الحق ، (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧) أي والحال أن الكفار المعرضين عن القرآن يعتقدون أنهم على هدى (حَتَّى إِذا جاءَنا) أي جاءنا كل واحد من العاشين مع قرينه الشيطان يوم القيامة في سلسلة واحدة وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، «جاءانا» على صيغة التثنية أي جاءنا العاشي والشيطان. (قالَ) أي العاشي مخاطبا لشيطانه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي ليت حصل بيني وبينك في الدنيا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨) أنت فكثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا فظهر أن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) كلام فاسد ، (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) وفاعل ينفع أما «أنكم» ومدخولها و «إذ ظلمتم» أما بدل من اليوم والمعنى «ولن ينفعكم اليوم» إذ تبين الآن عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالإشراك بالله كونكم مشتركين في العذاب ، بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٨] ، وأما مضمر يعود إلى التمني و «إذ ظلمتم» تعليل لنفي النفع وكذلك «أنكم» بفتح الهمزة ويؤيد هذا الاحتمال قراءة ابن عامر في رواية إنكم بكسر الهمزة ، والمعنى ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم لمباعدتهم لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي لأن حقكم أن تشركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٠) أي أفأنت وحدك من غير إرادتنا تسمع الصم الحق وتهدي من تمرنوا في الضلال إلى الهدى أي انهم بلغوا في النفرة عن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمين فإن صممهم وعماهم كانا بسبب كونهم في كفر بيّن (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (٤١) أي فإن قبضناك قبل نزول النقمة بهم فإنّا منتقمون منهم بعد موتك في الدنيا والآخرة ، (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٢) أي أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فلا يعوقنا عائق لأنّا قادرون على عذابهم قبل موتك وبعده ، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه ، وقرئ أوحي بالبناء للفاعل وهو الله تعالى. (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٣) لا يميل عنه إلا ضال في الدين ، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وأن الّذي أوحي إليك لموجب شرفا عظيما لك ، ولقريش حيث يقال : إن هذا الكتاب أنزله الله تعالى على رجل متهم ، (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٤٤) هل أديتم شكر أنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ


الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) أي واسأل مؤمني أهل التوراة والإنجيل هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم بأمرنا فإنهم يخبرونك عن كتب الرسل فإذا سألتهم فكأنك سألت الأنبياء فما جاءت الرسل إلّا بالتوحيد فلم يسألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان موقنا بذلك ، وإذا كان التوحيد متفقا عليه بين الرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ، وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي قومه (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٦) إليكم فقالوا له : ائت بآية (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (٤٧) أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها ، (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي إلّا وهي أعظم من الآية التي كانت قبلها في زعم الناظر (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بأنواع العذاب كالدم ، والقمل ، والضفادع ، والبرد الكبار ملتهبا بالنار ، وموت الأبكار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤٨) أي لكي يرجعوا عن كفرهم إلى الإيمان (وَقالُوا) لموسى لما رأوا العذاب (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي العالم الماهر ـ يوقرونه عليه‌السلام بذلك القول لاستعظامهم على السحر ـ (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ليكشف عنّا العذاب (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بالّذي عهد لك وكان عهده لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) (٤٩) أي لمؤمنون بك وبما جئت به ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) بدعوته عليه‌السلام (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٥٠) عهدهم في كل مرة من مرات العذاب أي فكانوا يتوبون في كل واحدة من العذاب فإذا انكشف عنهم نقضوا العهد بالإيمان ، (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) أي فيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أربعين فرسخا في أربعين فرسخا؟ قال : مجاهد هي الاسكندرية ، (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) التي فصلت من النيل ومعظمها أربعة أنهر نهر : الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي من تحت قصري (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١) ذلك ، فقد احتج فرعون على فضيلة نفسه بكثرة أمواله وقوة جاهه (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي بل أنا خير من موسى الذي هو فقير ضعيف الحال لأنه يتعاطى أموره بنفسه ، (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٥٢) أي يظهر حجته التي تدل على صدقة فيما يدعي (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهل ألقي على موسى من عند مرسله مقاليد الملك إن كان صادقا في دعواه لأن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا رئيسا ألبسوه سوارا من ذهب وطوقا من ذهب ، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة. وقرأ حفص أسورة ، والباقون أساورة ، وقرئ ألقى عليه اسورة وأساورة على البناء للفاعل ، وهو الله تعالى (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣) أي أو هلا جاء الملائكة ماشين مع موسى فيدلون على صحة نبوته (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي فطلب فرعون من قومه الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به ، (فَأَطاعُوهُ) فيه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤) حيث سارعوا إلى طاعة ذلك الجاهل الفاسق ، (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي فلما أغضبوا نبيّنا موسى ، ومالوا إلى إرادة عقابنا بالإفراط في العصيان عاقبناهم ،


(فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٥) في البحر ، (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي متقدمين ليتعظ بهم كفار أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام والباقون بفتحهما ، (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦) أي عظة لمن بقي بعدهم ، وقصة عجيبة لهم ، (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أي لما جعل عيسى مشابها للأصنام في كونه معبودا (إِذا قَوْمُكَ) قريش (مِنْهُ) أي من ذلك المثل (يَصِدُّونَ) (٥٧) أي يضحكون وترتفع أصواتهم فرحا بما سمعوا من ابن الزبعري لظنهم أن محمدا صار مغلوبا بهذا الجدال.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال عبد الله بن الزبعري : هذا خاصة لنا ولآلهتنا ، أو لجميع الأمم؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله : خصمتك ورب الكعبة ، أليس النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية. وعبد الله هذا صحابي مشهور ، وهذه القصة كانت قبل إسلامه ، وقرأ نافع وابن عامر ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب ، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل : إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة.

فقولهم : أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح ، قالوا : إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا : يجب عبادة هذه الأصنام ، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أعبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج ، فإن قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق ، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة ، (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٦٠) أي ولو


نشاء لجعلنا من رجالكم ملائكة مستقرين في الأرض بطريق التوليد من غير واسطة نساء يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى بلا فحل ، فهذا أمر سهل علينا مع أنه أعجب من حال عيسى الذي تستغربونه ، فإنه بواسطة أمّ ، وشأن الأم الولادة ، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وأن عيسى لشرط من أشراط الساعة ، والمعنى : وأن نزول عيسى من السماء علامة على قرب الساعة.

وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح العين واللام أي علامة ، وقرئ «للعلم» ، وقرأ أبي «لذكر» وفي الحديث : أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق ، وبيده حربة وبها يقتل الدجال ، فيأتى بيت المقدس والناس صلاة الصبح ، فيتأخر الإمام ، فيقدمه عيسى عليه‌السلام ويصلّي خلفه على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يقتل الخنازير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيع ، والكنائس ، ويقتل النصارى إلا من آمن به (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي فلا تشكن في وقوع الساعة (وَاتَّبِعُونِ) أي واتبعوا هداي أو رسولي (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي الّذي أدعوكم إليه (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) أي موصل إلى الحق (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن اتباعي (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٢) أي أنه قد بانت عداوته لكم لأجل أنه هو الّذي أخرج أباكم من الجنة ، ونزع عنه لباس النور ، (وَلَمَّا جاءَ عِيسى) إلى بني إسرائيل (بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات وبالشرائع الواضحات (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بأصول الدين لأعلمكم إياها (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، وهي فرع الدين ، فإن قوم موسى قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكليف ، واتفقوا على أشياء ، فجاء عيسى ليبين لهم الحق في المسائل الخلافية. أما اختلافهم في الأشياء التي لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها (فَاتَّقُوا اللهَ) في الإعراض عن دينه (وَأَطِيعُونِ) (٦٣) فيما أبلغه إليكم من التكاليف. (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بالشرائع واعتقدوا وحدانيته تعالى أي التوحيد والتعبد بالشرائع (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٤) لا يضل سالكه ، (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف الطوائف في عيسى بعد رفعه إلى السماء اختلافا ناشئا منهم ، فقال اليعقوبية : هو الله. وقال النسطورية : هو ابن الله. وقال الملكانية : هو شريك الله. وقال المرقوسية : هو ثالث ثلاثة. وقال اليهود : هو ابن زنا. (فَوَيْلٌ) أي شدة عذاب (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء المختلفين الذين وضعوا القول في غير موضعه (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٦٥) هو يوم القيامة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٦٦) فـ «إن تأتيهم» بدل من الساعة أي ما ينتظر الناس إلا إتيان الساعة فجأة غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا. (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) أي المتحابون في الدنيا بعضهم عدو لبعض يوم إذ تأتيهم الساعة إلّا الموحّدين الذين يتحاب بعضهم بعضا على التقوى فإن مودتهم لا تصير عداوة ، فإن الذين حصلت بينهم محبة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا ولذاتها فهذه المطالب لا


تبقى في القيامة ، بل تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة في القيامة وإن كان حصول المحبة في الدنيا لأجل الاشتراك في محبة الله وفي طاعته كانت هذه المحبة باقية في القيامة ، بل كأنها تصير أصفى ما كانت في الدنيا ، ويقول الله لهم : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) (٦٩) أي مخلصين لنا بالعبادة ، وقد روي في هذا الحديث : أن المنادي ينادي يوم القيامة : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيرفع الخلائق رؤوسهم ، فيقولون : نحن عباد الله ، ثم ينادي الثانية : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) ، فينكس الكفار رؤوسهم ، ويبقى الموحدون رافعين رؤوسهم ، ثم ينادي الثالثة : (الَّذِينَ آمَنُوا) وكانوا يتقون ، فينكس أهل الكبائر رؤوسهم ، ويبقى أهل التقوى رافعين رؤوسهم قد زال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم الله لأنه أكرم الأكرمين والموصول صفة للمنادى ، أو نصب للمدح ، وعلى هذا لا يوقف على «تحزنون». أما إن جعل مبتدأ أو خبره مضمر فالوقف على «تحزنون» تام والتقدير يقال لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (٧٠) أي تكرمون بالتحف إكراما على سبيل المبالغة (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في قصاع من ذهب وكيزان من ذهب ، (وَفِيها) أي الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من الأشياء المعقولة ، والمسموعة ، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) من الأشياء المبصرة جزاء ما لا تحملوه من منع أعينهم من نظر ما لا يجوز شرعا.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات العائد على الموصول ، والباقون بحذفه وقرئ و «تلذه» بالهاء.

(وَأَنْتُمْ فِيها) أي الجنة (خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧٢) أي أعطيتموها جزاء على عملكم الصالح في الدنيا (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٣) فلا تنفد أبدا. (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٧٤) خبر «إن» و «في عذاب» متعلقة به (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي لا ينقص العذاب عنهم (وَهُمْ فِيهِ) أي العذاب (مُبْلِسُونَ) (٧٥) أي آيسون من النجاة. وقرأ عبد الله «وهم فيها» أي في جهنم وهذه جملة حالية ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) بعذابهم ، (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) لا ، قبال أنفسهم للعذاب الخالد بقصدهم عدم الانفكاك عن الكفر ما بقوا في الدنيا ، فـ «الظالمين» خبر كان ، وقرأ عبد الله وأبو زيد «الظالمون» على أنه خبر لـ «هم» والجملة خبر كان ، (وَنادَوْا) خازن النار (يا مالِكُ). قرأ ابن مسعود «يا مال» بحذف الكاف ، وهذا دليل على أنهم بلغوا في الضعف إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، والمعنى : سل ربك أن يميتنا لنستريح من العذاب ، وهذا تمن للموت لشدة عذابهم. (قالَ) أي مالك بعد أربعين سنة كما قاله عبد الله بن عمر ، وقيل : الضمير يعود


إلى الله (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره. قال الله تعالى مقررا لجواب مالك ومبينا لسبب مكثهم (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أي بالدين الحق في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٨) أي ينفرون عنه ويبغضونه (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (٧٩) أي أأتقن مشركو مكة أمرا في كيدهم برسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّا متقنون كيدنا حقيقة ، وكانوا يتشاورون في أموره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة. (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل يحسبون أنّا لا نسمع ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال وما تكلموا فيما بينهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٨٠) أي بلى نسمعهما ونطلع عليهما ، والحال أن رسلنا وهم الحفظة الذين يلازمونهم أينما كانوا يكتبون عليهم كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) لذلك الولد ، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته ، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته ، بل الدليل القاطع قائم على عدمه ، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم : إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام ، والباقون بفتحهما (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٨٢) من أن له ولدا (فَذَرْهُمْ) أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي (فَذَرْهُمْ) أي يفعلوا في أباطيلهم ، (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٨٣) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب ، وهو يوم القيامة ، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي وهو الّذي هو معبود في السماء ، ومعبود في الأرض ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٨٤) فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له ، (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته ، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن ، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء ، فامتنع كونه ولدا له تعالى ، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥). وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد ، وقرئ «تحشرون» بالتاء.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.


روي أن النضر بن الحرث ونفرا معه قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نعبد الملائكة ، فهم أحق بالشفاعة من محمد ، فأنزل الله هذه الآية ، ويقال : إن كل معبود من دون الله لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد أنه لا إله إلّا الله وهم الملائكة وعيسى وعزيرا فإن لهم شفاعة عند الله ، وهم يعلمون أن الله خلقهم وأنهم عباده ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي الكفار الذين ادعوا الشريك لله (مَنْ خَلَقَهُمْ) أي العابدين والمعبودين معا (لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) أي فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى ، ولم يكذبون على الله؟ حيث قالوا : إن الله أمرنا بعبادة الأصنام (وَقِيلِهِ) قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله ، أو عطف على «سرهم» ، أو على محل الساعة ، وقرأ عاصم ، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم ، وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة» ، أو مبتدأ وخبره ما بعده (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) (٨٨) بك وبرسولك قال تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم بغير التبليغ ، وبالدعاء عليهم بالعذاب ، (وَقُلْ سَلامٌ) أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني ، وسلامتي منكم ، فهذا تباعد منهم ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) ما يفعل بهم.

وقرأ نافع ، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد ، والتقريع ، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة ، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.


سورة الدخان

مكية ، تسع وخمسون آية ، ثلاثمائة وست وأربعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وأن يكون المراد به اللوح المحفوظ ، وأن يكون المراد به القرآن ، وهذا يدل على غاية تعظيم القرآن. (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) قال الأكثرون : إنها ليلة القدر. وقال عكرمة ، وطائفة آخرون : إنها ليلة البراءة ، وهي ليلة النصف من شعبان ، ونقل محمد بن جرير الطبري عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لثنتي عشرة مضت منه ، والإنجيل لثمان عشرة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان ، والليلة المباركة هي ليلة القدر ، وقد قيل : إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة مباركة ، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف ، وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبريل ، وكذلك الزلازل ، والصواعق ، والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ، (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) أي مخوفين بالقرآن (فِيها) أي ليلة مباركة (يُفْرَقُ) أي يظهر للملائكة الموكلين بالتصرف في العالم (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) أي مبرم لا يحصل فيه تغيير ولا نقص ، بل لا بد من وقوعه في تلك السنة ، وقال الرازي : معنى الحكيم ذو حكمة ، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر ، والرزق ، والأجل ، والسعادة ، والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة.

وقرئ «يفرق» بالتشديد ، وقرئ «يفرق» على البناء للفاعل ، ونصب «كل» والفارق هو الله تعالى ، وقرأ زيد بن علي «نفرق» بالنون (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) حال من فاعل «أنزلنا» أو من مفعوله. أي في حال كون القرآن أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل ، أو من أمر حكيم ، أو مفعول له


وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد ، والمعنى : إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا». (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦) ، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها ، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم ، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم ، (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه ، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله : «السميع العليم» ، أو خبر آخر ، أو استئناف على إضمار مبتدأ (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٧) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨) بالرفع بدل ، أو بيان ، أو النعت لـ «ربّ» السموات».

وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي اسحق ، وأبو حيوة ، والحسن بالجر على البدل ، أو البيان ، أو النعت لـ «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح ، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك (يَلْعَبُونَ) (٩) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة ، (فَارْتَقِبْ) أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠) وهو ما أصابهم من شدة الجوع ، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض ، فالمراد بالدخان هنا ـ ما قاله ابن عباس في بعض الروايات ، وابن مسعود ، ومقاتل ، ومجاهد واختاره الفراء ، والزجاج ـ هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم ، فقال : «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» (١) فارتفع المطر ، وأجدبت الأرض ، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام ، والكلاب ، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع.

ونقل عن علي ، وابن عباس ، وابن عمرو ، وأبي هريرة ، وزيد بن علي ، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٤٧٠) ، وابن حجر في فتح الباري (٢ : ٤٩٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ : ٧١) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١ : ٩٦).


كالزكام ، وأما الكافر فيصير كالسكران فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقدت فيه النار ، وقال عبد الرحمن الأعرج أن المراد بالدخان هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء (يَغْشَى النَّاسَ) أي يشملهم وهو محل جر صفة لدخان. (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١) فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) ، فالعذاب هو : القحط الشديد ، وإن قلنا التقدير : يقولون ربنا اكشف عنّا العذاب ، فالعذاب : هو الدخان المهلك الذي يدخل في أسماع الكفرة حتى يصير رأسهم كالرأس الحنيذ (١). (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (١٢) بمحمد وبالقرآن ، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) أي كيف يتعظون بهذه الحالة ، والحال أنهم قد شاهدوا ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة وهي أعظم موجبات الاتعاظ ، ثم لم يلتفتوا إليه ، وقالوا : إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من جبر ـ غلام عامر بن الحضري ، وهو قين نصراني ، أو غلام لحويطب بن عبد العزى قد أسلم ـ وقالوا : إن الجن يلقون على محمد هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي ، وما مثلهم إلّا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) أي إنا نكشف العذاب عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا ، بدعاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمعنى : أنهم لا يفون بعهدهم وانهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى ، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) و «يوم» منصوب بما دل عليه «منتقمون» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيها قبلها أي يوم نأخذ بشدة أخذا قويا بإيصال الآلام المتتابعة ننتقم «إنا منتقمون» وهو يوم بدر كما قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبو العالية.

وروي عكرمة عن ابن عباس هو يوم القيامة ، وقرأ الحسن البصري ، وأبو جعفر المدني نبطش بضم النون فإن الله أمر الملائكة بأن يعاقبهم العقوبة العظمى (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي ولقد عاملنا قوم فرعون قبل هؤلاء العرب معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) (١٧) على ربه ، وهو موسى عليه‌السلام إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أي بأن الحديث أرسلوا بني إسرائيل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ) (١٨) أي قد ائتمنني الله تعالى على وحيه ورسالته وصدقني بالمعجزات القاهرة (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي وبأن الشأن لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٩) أي آتيكم

__________________

(١) الحنيذ : الشاة يحنذها حنذا أي شواها وجعل فوقها حجارة محمّاة لتنضجها فهي حنيذ. [القاموس المحيط ، مادة : حنذ].


من جهة الله تعالى بحجة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل ، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) أي وإني اعتصمت بربي وربكم من أن تقتلون. قيل : لما قال موسى : «وأن لا تعلوا على الله» توعدوه بالقتل (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فخلوا سبيلي لا لي ولا علي (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) أي أنهم كفروا ولم يؤمنوا ، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء مشركون اكتسبوا الهلاك على أنفسهم فافعل بهم يا رب ما يليق بهم.

وقرأ ابن أبي اسحق ، وعيسى ، والحسن بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء دعا مجرى القول عند الكوفيين (فـ) قال ربه : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي سر ليلا ببني إسرائيل قرأ نافع ، وابن كثير بالوصل ، والباقون بالقطع. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣) أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم ويصير ذلك سببا لهلاكهم ، (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي اجعل البحر طرقا واسعة حتى يدخله القبط فيغرقوا كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٢٤) في البحر. وقرئ بفتح الهمزة أي لأنهم وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ) بفتح النون فأغرقهم الله وتركوا أمورا كثيرة من بساتين ومياه ظاهرة في البساتين ، وحروث ، ومنازل محسنة ، ومجالس مزينة ، وأمور يتمتعون بها كالملابس ، والمراكب (كانُوا فِيها) أي في هذه الأشياء (فَكِهِينَ) (٢٧) بالألف أي طيبين الأنفس معجبين.

وقرأ الحسن ، وأبو رجاء «فكهين» بدون الألف أي مستهزئين بنعمة الله تعالى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك السلب سلبنا هذه الأشياء منهم (وَأَوْرَثْناها) أي تلك الأشياء (قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) أي جعلناها من بعدهم ميراثا لبني إسرائيل (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) روى أنس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه». وروي في الأخبار أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه ، ومحل عبادته ، ومصعد عمله ، ومهبط رزقه أي ولم تبك السماء والأرض على فرعون وقومه لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا ، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ، ولا عمل صالح (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير ، (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من العذاب الشديد الصادر من فرعون ، وهو قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.

وقرئ «من عذاب المهين» أي وهو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين ، وقرأ ابن عباس «من فرعون» بمعنى الاستفهام والمعنى : هل تعرفونه من هو في عتوة وشيطنته؟ (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين ، أو يقال : إنه متكبرا مسرفا


فإنه مع حقارته ادعى الإلهية فقوله : «من المسرفين» حال من الضمير في عاليا ، أو خبر ثان لكان. (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) أي ولقد اخترنا بني إسرائيل على العالمين جميعا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم لكثرة الأنبياء فيهم ، ويقال : «ولقد اخترناهم على عالمي زمانهم» مع علمنا بأنهم قد يزيغون في بعض الأوقات ، ويصدر عنهم الفرطات (١) في بعض الأحوال (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣) أي وأعطينا بني إسرائيل ما فيه نعمة ظاهرة من الآيات التي لم يظهر الله مثلها أحد سواهم مثل فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن ، والسلوى وغيرها ، فإنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو بالنعمة أيضا اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق. (إِنَّ هؤُلاءِ) أي إن كفار قريش (لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما نهاية الأمر إلّا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥) أي بمحيون بعد الموت (فَأْتُوا بِآبائِنا) أي فعجلوا لنا ـ أيها القائلون بأننا نبعث بعد الموت أحياء ـ من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك حتى يصير دليلا عندنا على صدق دعواكم في البعث (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق. قال تعالى مقتصرا على الوعيد : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قوم «تبع» كمدين ، وأصحاب الأيكة ، والرس ، وثمود ، وعاد وسمي تبعا لكثرة تبعه واسمه أسعد بن ملكيكرب وكنيته أبو كرب ، وهو نبي كما قاله ابن عباس ، أو رجل صالح كما قالته عائشة ، وكان قومه كافرين وأراد خراب المدينة فلما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد انصرف عنها وقال شعرا أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعوه إليه وكان من اليوم الذي مات فيه «تبع» إلى اليوم الّذي بعث فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه :

رسول من الله باري النسم

 

شهدت على أحمد أنه

لكنت وزيراً له وابن عم

 

فلو مد عمري إلى عمره

(أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧) فـ «أهلكناهم» مستأنف لبيان عاقبة أمرهم و «إنهم» تعليل لإهلاكهم أي إن أولئك الكفار أهلكوا بسبب إجرامهم مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء ، أفلا يخافون من هلاكهم وهم شركاء لأولئك في الإجرام؟! (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (٣٨) أي لاهين ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثا لأن الله تعالى خلق نوع الإنسان ثم كلّفهم بالإيمان والطاعة ، فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من العاصي فيتعلق فضله

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦ : ١٥٤) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢ : ٣٨) ، وابن الجوزي في الموضوعات (٣ : ٢٥٤).


تعالى للمطيع ، ويتعلق عدله ، وعقابه للعاصي. فلا بد من البعث لتجزى كل نفس بما كسبت. وقرأ عمرو بن عبيد و «ما بينهن» وقرأ الجمهور «بينهما» باعتبار النوعين (ما خَلَقْناهُما) وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسبب الحق الّذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٣٩) انا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق عليهم (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٠) أي أن يوم تمييز المحق من المبطل وقت موعد الناس أجمعين. وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على إنه اسم و «يوم» خبرها أي إن ميعادهم جزاؤهم البر والفاجر في يوم فصل الله بين عباده (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي لا ينفع قريب عن قريب شيئا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤١) أي يمنعون من العذاب (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي إلا المؤمنين فإنهم يمنعون من العذاب أو فإنهم يؤذون لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وتشفع لهم الملائكة والأنبياء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢) أي أن الله هو الغالب بتعذيب الكافرين الرحيم بالمؤمنين (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) أي الكثير الآثام وهو الكافر (كَالْمُهْلِ) وهو دردى الزيت ، وعكر القطران ، ومذاب النحاس ، وسائر الفلزات (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦). وقرأ حفص وابن كثير «يغلي» بالياء التحتية فهو حال من طعام ، أو الزقوم ، والباقون بالتاء الفوقية فهو خبر ثالث لأن أي «تغلي» الشجرة في البطون غليانا كغلي الماء الشديد الحرارة. يقول الله للزبانية : (خُذُوهُ) أي الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) أي جروه بعنف وقوده (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٤٧) أي إلى وسط النار العظيمة. وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، بضم التاء ، (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (٤٨) أي صبوا على رأسه عذابا شديدا يشبه الماء الحار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد ، فقد شبه العذاب ، ثم خيّل له بالصب ، ويقال له على سبيل الاستهزاء : (ذُقْ) يا أبا جهل (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩). وقرأ الكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى العلة أي لأنك ، أو على تقدير مضاف أي «ذق» عذابا إنك أنت المتعزز في قومك المتكرم عليهم. روي ان أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين جبليها أي مكة أعز ولا أكرم مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا (إِنَّ هذا) العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠) أي تشكون في الدنيا. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٥١) أي مكان مأمون من الزوال والآفات ، وقرأ نافع ، وابن عامر «مقام» بضم الميم أي موضع الإقامة (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٢) أي أنهار الخمر ، والماء ، واللبن ، والعسل (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) والسندس ما رق من الحرير ، والإستبرق ما ثخن منه (مُتَقابِلِينَ) (٥٣) في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض (كَذلِكَ) أي أتيناهم مثل ذلك ، أو هكذا مقام المؤمنين في الجنة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤) أي قرناهم في الجنة بجوار بيض حسان الوجوه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز وعهن أبي قرصافة سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور


العين» (١) ، وعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنس المساجد مهور الحور العين» يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي يأمرون الخدم في الجنة بإحضار ما يشتهونه ويتناولون فيها بألوان كل فاكهة (آمِنِينَ) (٥٥) من التخم والأمراض (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي لا يذوقون في الجنة الموت إلّا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة التي في الدنيا بعد حياتهم فيها ، أو يقال : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٦) أي وقى الله المتقين في أول الأمر من عذاب الجحيم ، ورفع الله العذاب عن عصاة المؤمنين بعد دخولهم النار ، وقرئ «ووقاهم» بتشديد القاف (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي تفضل ربك بذلك الثواب تفضلا ، وقرئ «فضل» بالرفع أي ذلك فضل (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧) فإن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥٨) أي لكي يتعظوا به (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) أي فانتظر هلاكهم إنهم منتظرون هلاكك.

__________________

(١) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٧ : ٧١).


سورة الجاثية

مكية ، سبع وثلاثون آية ، أربعمائة وثمان وثمانون

كلمة ، ألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم) (١) أي هذه السورة مسماة بحم (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢) أي تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه الحكيم في أمره وقضائه (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها ، ولأن الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والبحار موجودة في السموات والأرض وهي دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار. (وَفِي خَلْقِكُمْ) من نطفة ، ثم من علقة متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق (وَما يَبُثُ) أي وفيما ينشره (مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) فإن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ، وكذا انتقاله من حال إلى حال آخر. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وفي تعاقبهما وتفاوتهما طولا وقصرا (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أي وفيما أنزله من السحاب من مطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبوستها (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي وفي تقليبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥).

وقرأ حمزة والكسائي «آيات لقوم» في الموضعين بالنصب بالكسرة معطوف على «آيات» الأول الذي هو اسم «إن» والباقون بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف المقدم ، وقرئ «آية» بالتوحيد ، وقرأ حمزة والكسائي و «تصريف الريح» بالتوحيد. وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل ، الأولى : للمؤمنين ، الثانية : يوقنون ، الثالثة : يعقلون. وسبب هذا الترتيب أنه قيل : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ، بل أنتم من طلاب اليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفا فقال : إن المصنفين إذا نظروا في السموات والأرض ، وإنه لا بد لهما من صانع ، آمنوا. وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيمانا فأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا. (تِلْكَ) أي الآيات


المذكورة (آياتُ اللهِ) أي حججه الدالة على وحدانيته (نَتْلُوها) أي نقصها (عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وهذا من أعظم الدلائل على الترغيب في تقرير المباحث العقلية (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦) أي إن من لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعدها يجوز أن ينتفع به.

وقرأ ابن عامر ، وشعبة ، والكسائي بتاء الخطاب مناسبة لقوله تعالى : و «في خلقكم» (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) أي كذاب (أَثِيمٍ) (٧) أي مبالغ في اقتراف الآثام وهو النضر بن الحرث (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) أي القرآن (تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي يقيم على كفره إقامة بقوة (مُسْتَكْبِراً) عن الإيمان بآيات الله معجبا بما عنده ـ كان النضر يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ـ (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي حال كونه مثل غير السامع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨) على إصراره ، واستكباره ، (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي أنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من آياتنا بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما سمعه فقط. (أُولئِكَ) أي كل أفاك أثيم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩) أي ذو إهانة (مِنْ وَرائِهِمْ) أي قدامهم بعد الموت (جَهَنَّمُ) فإنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم جهنم لأنهم مقبلون على الدنيا معرضون عما أعد لهم (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي ولا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا ، ولا أصنامهم التي عبدوها (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠) إلى أقصى الغايات في كونه ضررا. (هذا) أي القرآن (هُدىً) أي في غاية الكمال في الهداية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١).

وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع أي لهم عذاب أليم من تجرع ماء صديد ، والباقون بالجر أي لهم عذاب شديد الإيلام. (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بإذنه وأنتم راكبوها فجريان السفن على وجه البحر لا يحصل إلّا بسبب ثلاثة أشياء ، أحدها : الرياح التي توافق المراد ، وثانيها : الماء ، وثالثها : خشبة طافية لا تغوص في الماء ، وهذه الثلاثة لا يقدر عليها أحد من البشر فلا بد من موجود قادر عليها وهو الله تعالى ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). إما بسبب التجارة ، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، أو باستخراج اللحم الطري (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) أي ولكي تشكروا نعمته تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) أي وسخر الله لكم الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ، والشجر ، والدواب ، والجبال ، والبحار كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده ، فإنه تعالى موجدها بقدرته وحكمته ، ثم مسخرها لخلقه.

وقرأ سلمة بن محارب «منه» على أنه فاعل «سخر» أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه ، وقرئ «منه» على أنه مفعول له. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) كثيرة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) في بدائع صنع الله تعالى فإنهم يطلعون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها


ويوفقون لشكرها (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) اغفروا للكفار (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يرجون ثواب الله ، ولا يخافون عقابه ، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية كما قاله ابن عباس ، وهذا محمول على ترك المنازعة في المحقرات وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية ، والأفعال الموحشة ، وقال المهدوي ، والنحاس ، ومقاتل : شتم رجل من كفار قريش عمر بن الخطاب بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فأمره [رسول] الله بالعفو والتجاوز ، وأنزل هذه الآية (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي لكي يجازي الله يوم القيامة قوما يعملون الخير ، وقيل ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم والمعنى : لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون ، وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي وليجزي الجزاء قوما (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥) فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان ، أو شرا ، (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي التوراة ، (وَالْحُكْمَ) أي معرفة أحكام الله تعالى وفصل الحكومات بين الناس ، (وَالنُّبُوَّةَ) حيث كثر الله فيهم الأنبياء (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فإنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ، ثم أنزل عليهم المن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما ، (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي أدلة على أمور الدنيا وعلى أمور الدين (فَمَا اخْتَلَفُوا) في الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ، ومجيء العلم لهم كان ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي حسدا منهم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧) من أمر الدين بالجزاء (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨) أي ثم اخترناك على طريقة واضحة من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ، وأديانهم المبنية على الأهواء. قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك ، وأسن فانزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي أنك لو ملت إلى أديانهم الباطلة صرت مستحقا للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أن الكافرين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فلأولى لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩) أي والله ناصر المهتدين (هذا) أي القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) فإن ما فيه من معالم الدين بمنزلة البصائر في القلوب (وَهُدىً) من ورطة الضلالة (وَرَحْمَةٌ) عظيمة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠) أي يطلبون اليقين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أظن هؤلاء المكتسبون للسيئات أن


نصيرهم في الحكم والاعتبار وهم على مساوئ الأحوال أمثال المؤمنين وهم في محاسن الأعمال (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ).

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بنصب «سواء» فهو حال من الضمير المستتر في كالذين و «محياهم ومماتهم» مرتفعان على الفاعلية ، والمعنى : أحسب الكفار أن نجعل المؤمنين كائنين مثلهم حال كون الكل مستويا محياهم ومماتهم. كلا ، لا يستوون في شيء منهما فإن هؤلاء في شرف الإيمان والطاعة في المحيا ، وفي رضوان الله تعالى في الممات ، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي في المحيا ، وفي العذاب الخالد في الممات. وقرئ «محياهم ومماتهم» بالنصب على انهما ظرفان أي حال كون كل الفريقين مستويين في محياهم ومماتهم ، وقيل : إنهما بدلان من الضمير المنصوب في «نجعلهم» فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وقرأ الباقون برفع «سواء» على أنه خبر و «محياهم» مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب هو بدل من المفعول الثاني وهو الكاف. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١) قال الكلبي : إن عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر عليا ، وحمزة ، وعبيدة بن الحرث ، فقتلوا أولئك وقالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وأنزل الله هذه الآية (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي لأجل إظهار الحق (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢) بنقص ثواب ، أو بزيادة عقاب ، والمعنى : أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلّا إذا حصل البعث والقيامة ، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين ، وقوله : «لتجزي» معطوف على «بالحق» لأن معنى الباء هنا للتعليل أو معطوف على علة محذوفة ، والتقدير خلقها بالحق ليدل بها على قدرته ولتجزى إلخ ، وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة أي وصار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها آخرون ، ولا وقف على قوله تعالى : «بالحق». وعند أبي حاتم فالوقف عليه تام بجعل لام «لتجزي» لام قسم (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي أنظرت يا أشرف الخلق فرأيت من ترك متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى فكان يعبد الهوى فذلك من العجب ، وقرئ «آلهته هواه» لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها. روي عن أبي رجاء العطاردي انه أدرك الجاهلية ، وهو ثقة ـ مات سنة خمس ومائة وعمره مائة وعشرون سنة ـ قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا حشوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) وهذا إما حال من الفاعل أي عالما بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح أو من المفعول والمعنى وأضله وهو عالم بالحق (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) فلا يقبل المواعظ ولا يتفكر في النذر (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي غطاء مانعا عن الاعتبار.


وقرأ حمزة ، والكسائي «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين ، والأعمش ، وابن مصرف بكسر الغين ، والباقون «غشاوة» بكسر الغين ، وابن مسعود ، والأعمش أيضا بفتحها وعبد الله بضمها ، (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي من بعد إضلال الله إياه وهذه الجملة مفعول ثان لـ «رأيت» (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) أي ألا تلاحظون فلا تذكرون ، وقرئ «تتذكرون» بالتاءين على الأصل ، (وَقالُوا) من غاية ضلالهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يصيبنا الموت والحياة في الدنيا ، وليس وراء ذلك حياة (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي إلا مرور الزمان ، والمعنى : أن تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله والقيامة (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) أي ما لهم باقتصار الحياة على ما في الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر مستند إلى نقل ، أو عقل صحيح ما هم الأقوم أمرهم الظن والتقليد (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على قدرتنا (بَيِّناتٍ) أي مبيّنات لما يخالف معتقدهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) في أنّا نبعث بعد الموت «وحجتهم» بالنصب خبر «كان» وإلا قالوا اسمها ، فالمعنى : ما كان متمسكا لهم على إنكار البعث شيء من الأشياء إلّا هذا القول الباطل ، وهو قولهم : لو صح ذلك البعث ، فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.

وقرئ برفع «حجتهم» على أنه اسم «كان» فالمعنى : ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلّا هذا القول الباطل. (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) ابتداء (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر ، (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) أحياء بعد الموت (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) للجزاء (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في جمعكم ، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم القائلون ما ذكر (لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) دلالة حدوث الإنسان وغيره على وجود الإله الحكيم ، وإن الله تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله التصرف فيهما كما أراد وله القدرة على جميع الممكنات فيلزم كونه تعالى قادرا على الإحياء في المرة الثانية ، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (٢٧) أي ولله ملك يوم قيام الساعة يومئذ يظهر غبن المبطلين لأن الحياة والعقل ، والصحة كلها رأس المال ، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح ، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلّا الحرمان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران (وَتَرى) أيها المخاطب (كُلَّ أُمَّةٍ) أي كل أهل دين (جاثِيَةً) أي مجتمعين لا يخالطهم غيرهم ، وهو حال.


وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع فالوقف هنا حسن ، كالوقف على «كتابها». (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى قراءة صحائف أعمالها والعامة على رفع كل على الابتداء ، وقرأ يعقوب ككل بالنصب على البدل من كل الأولى وتدعى حال أو صفة وعلى هذا فلا وقف على «جاثية» ، ويقال لهم حالة الدعاء : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨) من خير أو شر (هذا كِتابُنا) أي كتاب الملائكة الذي أمرناهم بكتبه (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) خبر ثان أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ونقصان. (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) أي إنا كنا فيما قبل نأمر الملائكة بإثبات أعمالكم في الكتابة وورد في الحديث : «أن الملك إذا صعد بالعمل يؤمر بالمقابلة على ما في اللوح»(١) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ) في ذلك اليوم (رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته (ذلِكَ) أي الإدخال في رحمته (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٣٠) أي الظاهر لخلوص الجنة من الأكدار (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم بطريق التوبيخ : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ألم تأتكم رسلي في الدنيا فلم تكن آياتي تقرأ عليكم ، (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بتلك الآيات (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١) أي مذنبين بإصرار الكفر (وَإِذا قِيلَ) لكم أي وكنتم إذا قيل لكم أيها الكفار من أي قائل كان (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثواب والعقاب (حَقٌ) أي واقع بلا شك ، وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد بفتح الهمزة على اجراء القول مجرى الظن ، (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) وقرأ حمزة بالنصب عطف على «وعد الله» أي وإن الساعة آتية لا شك في وقوعها ، والباقون بالرفع على الابتداء والمعنى : وقيل «والساعة لا ريب فيها». قال الأخفش : والرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبران لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الأول بتمامه. (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي أي شيء هي إنكارا لها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي ما نقول في أمر الساعة كما قلتم إلّا بالظن لإمكانه (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢) بقيام الساعة والقوم كانوا في أمر البعث فرقتين : فرقة جازمة بنفيه. وهم المذكورون في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وفرقة كانت تشك وتتحير فيه لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته ، وهم المذكورون في هذه الآية (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي ظهر لهم في الآخرة سيئات أعمالهم في الدنيا فتصورت لهم بصورة هائلة فيعرفوا مقدار جزائها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٣) أي أحاط بهم عقوبة استهزائهم بالرسل (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي قيل لهم اليوم نترككم في العذاب كما تركتم الإقرار بهذا اليوم والعدة للقائه (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي ومستقركم نار جهنم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٤) أي وما لكم أحد يخلصكم منها

__________________

(١) رواه البخاري في (٩ : ٧٣) ، وابن حجر في فتح الباري (١٣ : ٧٩) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٤٤٧) ، وابن أبي شيبة في المصنف (١٤ : ١٢٨).


(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ذلكم العذاب العظيم بسبب استهزائكم بآيات الله وغروركم بما في الحياة الدنيا وحسبناكم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار.

وقرأ حمزة ، والكسائي بفتح الياء وضم الراء والباقون بضم الياء وفتح الراء ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥) أي ولا يطلب منهم أن يرضوا بهم التوبة لفوات أوانه (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦) أي فاحمدوا الله الذي هو خالق كل العالمين من الأجسام ، والأرواح ، والذوات ، والصفات. فإن هذه الربوبية توجب الحمد على كل أحد من المخلوقين ، وقرأ العامة «رب» في الثلاثة بالجر ، وقرئ بالرفع على المدح بإضمار هو (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا إشارة إلى أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد ، وإشارة إلى وجوب كون الحامدين أن يعرفوا أنه تعالى أكبر من حمد الحامدين وأن عطاياه أجل من شكر الشاكرين ، وأن الكبرياء له تعالى لا لغيره تعالى ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧) أي هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.


سورة الأحقاف

مكية ، إلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الآية وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا

الْإِنْسانَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أربع وثلاثون آية

ستمائة وأربع وأربعون كلمة ، ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي القوي بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ) (٢) أي المتقن للأمور (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلّا لأجل الفضل والرحمة والإحسان (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وإلا لأجل مسمى أي إلا لوقت معين لإفناء الدنيا ، فإن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا ، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل فيقع الجزاء في الدار الآخرة ولو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) أي خوفوا به مما في يوم القيامة (مُعْرِضُونَ) (٣) فلا يؤمنون به ولا يستعدون له (قُلْ) توبيخا لهم : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أخبروني ما تعبدون من الأوثان. وقرئ «أرأيتكم» (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبروني أي شيء خلقه الأوثان مما في الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) فـ «أم» بمعنى الهمزة أي ألهم شركة مع الله تعالى (فِي السَّماواتِ) أي في خلقها ، أو ملكها (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي بكتاب دال على صحة دينكم كائن من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي أو بمنقولة عن الأنبياء من علم سوى ما جاء في الكتب ، وقرأ علي ، وابن عباس ، وزيد بن علي ، وعكرمة «أثرة» دون ألف ، وقرأ الكسائي «أثرة» بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء ، وقتادة ، والسلمي بفتح فسكون أي أو ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) في دعواكم ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لا امرأ أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يعبد الأصنام ، وهي إذا دعيت لا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعده إلى يوم القيامة ، وإنما جعل غاية لأنه قيل : إن الله تعالى يحييها يوم القيامة وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة ، (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (٥) أي والأصنام عن دعاء من يعبدهم لا يسمعون (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي وإذا قامت القيامة ، وحشر الناس كانت


هذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين ، (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦) أي وكانت الأصنام مكذبين بكونهم معبودين يقولون : إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) أي وإذا يتلى على كفار أهل مكة القرآن واضحا قالوا من غير تأمل في شأن القرآن حين جاءهم هذا المتلو خيال ظاهر بطلانه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل يقولون افترى محمد القرآن من عند نفسه. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي قل لهم يا أشرف الخلق : إن اختلقت القرآن من تلقاء نفسي كما تقولون فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة حينئذ ، وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معالجته إياي بالعقوبة ، فكيف أجترئ على هذه الفرية وأعرض نفسي للعقوبة (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي أعلم بما تتكلمون فيه من التكذيب بالقرآن وتسميته سحرا تارة وفرية تارة أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والإنكار ، أو كفى بالقرآن شهيدا بيني وبينكم وقد شهد بصدقي وبعجزكم عن معارضة شيء منه ، (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن رجع عن الكفر (الرَّحِيمُ) (٨) بعباده فلم يعالجكم بالعقوبة مع عظم ما ارتكبتوه من الذنوب (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي قل يا أكرم الرسل لهم لست أول الرسل فلا ينبغي أن تنكروا أخباري بأني رسول الله إليكم مع أن صفتي كصفة من سبق من الرسل ، ولا أن تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهي لكم عن عبادة الأصنام ، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.

وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن عبلة «بدعا» بفتح الدال ، وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بفتح الباء وكسر الدال (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما أدرى ما يفعل بي أأموت ، أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء ، أم يخسف بكم ، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم كالمكذبين قبلكم (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي وهو جواب عن اقتراحهم الأخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع الا ما أوحاه الله إليّ اه. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ما يفعل مبنيا للفاعل أي الله تعالى ، وقرئ ما يوحي على البناء للفاعل (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩) أي أنهم كانوا يطالبونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات العجيبة وبالأخبار عن الغيوب فقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) عقاب الله تعالى حسب ما يوحى إلي من الإنذار وليس القادر على الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بالغيوب إلّا الله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ


وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل يا أشرف الخلق لليهود أخبروني يا معشر اليهود إن كان القرآن من عند الله ، وكفرتم به. وشهد شاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام على صفة القرآن من كونه من عند الله وكونه معجزا للخلق عن معارضته فآمن هذا الشاهد بالقرآن ، وتكبرتم يا معشر اليهود عن الإيمان به ألستم كنتم ظالمين أنفسكم؟ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) روي أنس أنه لما سمع عبد الله بن سلام بمجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر ، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلّا نبي ، ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له ، وإذا سبق ماء المرأة نزع لها» (١) فقال : أشهد أنك لرسول الله حقا ، ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل عبد الله فيكم» فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، فقال : «أرأيتم ان أسلم عبد الله» (٢) فقالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أإن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وانتقصوه ، فقال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله ، قال سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) على مثله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بنو عامر ، وغطفان ، وأسد ، وأشجع (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لأجل إسلام من أسلم وهم جهينة ، ومزينة ، وأسلم ، وغفار (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم زعما منهم أن الرئاسة الدينية ما ينال بأسباب دنيوية : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه أولئك الأراذل ، فإن أكثرهم فقراء وموال ورعاة (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (١١) أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن وظهر عنادهم فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ولم يكتفوا بنفي خيريته ، (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي قالوا ذلك والحال أنه كان كتاب موسى من قبل القرآن أي كيف يصح كون القرآن إفكا قديما وقد رجعوا إلى حكم كتاب موسى. وقرئ «ومن قبله كتاب

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٥ : ١٦٧) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (٢ : ٥٣١) ، وابن حجر في فتح الباري (٧ : ٢٥٠) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٢١١) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١١٤.

(٢) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣ : ١٤).


موسى» أي وآتينا من قبل محمد التوراة (إِماماً) أي قدوة يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه ، (وَرَحْمَةً) من الله تعالى لمن آمن به وعمل بما فيه. (وَهذا) أي القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى في أن محمدا رسول الله (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من «كتاب». وقيل : مفعول لـ «مصدق» على حذف مضاف ، أي مصدق ذا لسان عربي ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لينذر ذلك الكتاب مشركي مكة. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء لخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢) أي المؤمنين بأن لهم الجنة ، و «هو» في محل نصب معطوف على محل «لينذر» ، لأنه مفعول له ، أو في محل رفع معطوف على «مصدق» ، أو «كتاب» ، ولا يوقف على «ظلموا» ، أما إذا جعل مبتدأ وخبره للمحسنين فالوقف على «ظلموا» كاف. (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) وحده (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على أداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣) ، من فوات محبوب ، أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة في أمور الدين فهم يوم القيامة آمنون من الأهوال ، وزائل عنهم خوف العقاب ، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول عن العبد ألبتة ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤) في الدنيا ، (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً). وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا» ، وهي قراءة ابن عباس أي أمرناه بأن يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة ، والباقون «حسنا» بضم فسكون ، أي أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا ، وهو ضد القبح فعلا ذا حسن. وقرئ بضم الحاء والسين. وقرأ عيسى والسلمي بفتحهما ، نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ، وفي أبيه وأمه ، وهما أبو بكر الصديق وأم رومان. وقالت عائشة. نزلت في خلال بن قلال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) في بطنها (كُرْهاً) أي على مشقة (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي في مشقة.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر ، وابن ذكوان بضم الكاف. والباقون بالفتح (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا ، فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن مدة إتمام الرضاع أربعة وعشرون شهرا ، ولما كان الرضاع يليه الفصال ، لأنه يتم به سمي فصالا (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ). وقرئ «إذا استوى وبلغ أشده». (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً). والأصح أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه عثمان بن عامر وأمه أم الخير سلمى بنت صخر. وذلك أن أبا بكر صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ، والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بالنبوة ، واختصه بالرسالة ، فآمن به أبو بكر الصدّيق وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ثم أسلم أبواه وأسلم ابنه عبد الرحمن ، ثم ابنه محمد كلهم أدركوا النبي ، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم ، إلّا أبو بكر ووالده أبو قحافة ، وأمه سلمى بنت صخر ، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا به و (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ، أي ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، وهي نعمة


الدين. قال الذين قالوا : إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق أن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلّا له ، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ).

قال ابن عباس : فأجاب الله دعاء أبي بكر ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يترك شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه ، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح راسخا في ذريتي.

قال ابن عباس : لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما يشغلني عن ذكرك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥) الذين أخلصوا لك أنفسهم ، (أُولئِكَ) أي أهل هذا القول (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من الطاعات ، فالمباح حسن لا يثاب عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ). وقرأ الأخوان وحفص الفعلين بفتح النون. والباقون بياء مضمومة ببنائهما للمفعول ، ورفع «أحسن». وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بياء مفتوحة فيهما ، والفاعل الله تعالى. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي كائنين في جملتهم (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦) أي وعدهم الله وعدا صادقا في الدنيا على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) عند دعوتهما له إلى الإيمان : (أُفٍّ لَكُما) أي قذرا لكما. وقرئ «أف» بفتح الفاء وكسرها بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين لكن القراءات السبعية ثلاثة : كسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها من غير تنوين وهو صوت إذا صوت الإنسان به علم أنه متضجر كما إذا قال : أوه ، علم أنه متوجع واللام في لكما لبيان المؤفف له معناه هذا التأفيف لأجلكما خاصة دون غير كما (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أن أبعث من القبر.

وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية. وقرأ بعضهم بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين ، والياء ففتح الأولى تحريا للتخفيف. وقرئ «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث منهم أحد ، (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي ووالداه يدعوان الله أو يستغيثان بالله من كفره وإنكاره للبعث قائلين له : (وَيْلَكَ) وهو دعاء بالهلاك. والمراد به التحريض على الإيمان (آمِنْ) أي صدق بالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث بعد الموت (حَقٌ) أي كائن. وقرئ «أن» بفتح الهمزة ، أي آمن بأن وعد الله حق (فَيَقُولُ) مكذبا لهما (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) ، أي ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلّا أكاذيب الأولين التي كتبوها في كتبهم من غير أن يكون لها حقيقة ، (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبتت عليهم كلمة العذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) أي مع أمم قد مضت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي من كفارهم ، (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (١٨) أي قد ضيّعوا أعمارهم في الضلال.

قال ابن عباس والسدي : نزل قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ) إلخ في عبد الله ابن أبي. وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فأبى وقال : أف لكما إلخ ، ثم أسلم وحسن إسلامه وصار من أفاضل المسلمين فالّذين قالوا : والمراد بقوله تعالى : والّذي قال لوالديه : أف كل عاق لوالديه فأجر لربه قالوا : إن الوعيد في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَ


عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الآية مختص بهم فاسم الإشارة عائد إلى القائلين هذه المقالات الباطلة أما من قال المراد بنزول الآية سيدنا عبد الرحمن ابن سيّدنا أبي بكر فيقولون : إن اسم الإشارة عائد إلى القرون التي قبله ، فالمراد أجداده والوعيد عليهم كان له جدان ماتا في الجاهلية جدعان ، وعثمان ابنا عمرو ، (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل واحد من الفريقين درجات من الإيمان ، والطاعة ، والكفر ، والمعصية قال ابن زيد : درج أهل الجنة يذهب علوا ودرج أهل النار ينزل هبوطا ، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام ، وعاصم بالياء التحتية أي وجازاهم الله بذلك ليوفيهم أجزية أعمالهم ، والباقون بالنون أي ونجازيهم «لنوفيهم» جزاء أعمالهم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٩) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين قدر الله جزاءهم على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ) قرأ ابن كثير بهمزة ومدة ، وابن عامر بهمزتين بلا مد ، وهشام بهمزتين ومد بينهما ، والباقون بهمزة محققة (طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي قد أخذتم ما قدر لكم من الراحات في الدنيا ، وتمتعتم بالّلذات ، واتبعتم الشهوات ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم في الدنيا شيء منها في الآخرة (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي بالعذاب الشديد.

وقرئ «عذاب الهوان» (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠) أي بسبب استكباركم بغير استحقاق لذلك ، أو بسبب خروجكم عن طاعة الله تعالى فالترفع ذنب القلب ، والفسق ذنب الجوارح (وَاذْكُرْ) يا أكرم الرسل لكفار مكة (أَخا عادٍ) هود بن عبد الله بن رباح (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) بدل اشتمال أي وقت حذرهم عقاب الله إن لم يؤمنوا (بِالْأَحْقافِ) أي نازلين على رمال مشرفة على البحر في أرض الشحر من بلاد اليمن ، وقال ابن عباس : هو واد بين عمان ومهرة. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده ، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وهذا تفسير للإنذار وإنما كان هذا إنذار لأن النهي عن الشيء تخويف من مضرته أي صورة إنذار هود أن قال : لا تعبدون إلخ فـ «أن» مخففة من الثقيلة وباء التصوير مقدرة معها ولا ناهية. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١) أي هائل بسبب شرككم (قالُوا أَجِئْتَنا) يا هود (لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من معالجة العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٢) في وعدك بنزول العذاب بنا (قالَ) لهم هود (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي لا علم لي بوقت عذابكم إنما علم وقت إتيان العذاب عند الله تعالى ، (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من التحذير عن العذاب ، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إلي ، وأما الإتيان بالعذاب فليس بمقدوري ، بل هو من مقدورات الله تعالى وقرأ أبو عمرو بسكون الباء (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٣) حيث تصرون على طلب العذاب فإن لم يظهر لكم كوني صادقا لم يظهر لكم كوني كاذبا ، فالإقدام على طلب العذاب جهل عظيم ، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي رأوا ما


يوعدون به (عارِضاً) أي سحابا يعرض في أفق السماء ، وهو بدل من الضمير العائد على ما في «بما تعدنا». (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي سائر إلى أوديتهم استبشروا و (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي هذا المرئي سحاب يأتينا بالمطر. قال هود : ليس الأمر كذلك ، (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء من الناس ، والحيوان ، والنبات بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم.

وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هادئة طيبة ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض ، وروي أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض ، فدخلوا بيوتهم ، وغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأحال الله عليهم الرمال ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفتها الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر ، (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فصاروا بعد الهلاك لا ترى إلّا آثار مساكنهم ، وقرأ حمزة ، وعاصم يرى بضم الياء التحتية ورفع «مساكنهم» ، والباقون «لا ترى» بفتح تاء الخطاب ، ونصب «مساكنهم» أي لا ترى أنت أيها المخاطب ، وقرأ الجحدري ، والأعمش ، وابن أبي اسحق ، والسلمي ، وأبو رجاء بضم التاء الفوقية ورفع «مساكنهم». (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الهائل (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) وهذا تخويف لكفار مكة ، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد قررنا عادا في أمر عظيم لم نقرركم يا أهل مكة فيه من قوة الأبدان ، وطول الأعمار ، وكثرة الأموال ، ومع ذلك ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل ، وأبصارا فما استعملوها في تأمل العبر وأفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى ، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فما دفع عنهم هذه القوى شيئا من عذاب الله تعالى (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي لأجل أنهم كانوا ينكرون دلائل الله تعالى ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه بطريق الاستهزاء ، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود ، وعاد أرض سذوم ، وسبأ ، ومدين ، والأيكة ، وقوم لوط ، وفرعون ، وأصحاب الرس (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كررناها لهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧) أي لكي يرجعوا عن الكفر والمعاصي (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي فهلا خلصهم من العذاب الأصنام التي اتخذوها آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى ، (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي بل غابوا عنهم فنصرة آلهتهم لهم أمر ممتنع ، (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨) وذلك أي امتناع نصرهم أثر كذبهم الذي هو اتخاذهم الأصنام آلهة وأثر افترائهم الكذب على الله تعالى إثبات


الشركاء له تعالى ، وقرأ ابن عباس «أفكهم» بفتح الهمزة وسكون الفاء ، وقرأ عكرمة ، والصباح «أفكهم» على صيغة الماضي أي ، وذلك الاتخاذ الذي هو ضياع آلهتهم عنهم ثمرته صرفهم عن الحق ، وقرأ أبو عياض ، وعكرمة أيضا «أفكهم» بتشديد الفاء ، وابن الزبير ، وابن عباس أيضا «آفكهم» بمد الهمزة أي جعلهم آفكين ، وقرأ ابن عباس أيضا «آفكهم» على صيغة اسم الفاعل بمعنى صارفهم (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة كائنة من جن نصيبين في الجزيرة ، وهي بين الشام والعراق (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن عند تلاوته (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لنسمعه.

روي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ، ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلّا لنبأ حدث ، فنهض سبعة من نفر من أشراف جن نصيبين منهم : زوبعة ، فسافروا حتى بلغوا تهامة ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم في جوف الليل يصلي ، فاستمعوا لقراءته وذلك عند رجوعه من الطائف وذلك في السنة الحادية عشرة من النبوة ، (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من تلاوة القرآن ، وقرأ أبو مجلز ، وأبو حبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل أي أتم الرسول قراءته ، (وَلَّوْا) أي رجعوا (إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩). روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم. (قالُوا) عند رجوعهم إلى قومهم (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) أي قرآنا يقرأ (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). روي عن عطاء ، والحسن : إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا ، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من كتب الأنبياء (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) أي موصل إلى المقصود وهي الأعمال الصالحة (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كتابه ، (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يغفر الله بعض ذنوبكم ، وهو حق الله تعالى ، وحق الحربيين ، فهو يغفر بمجرد إسلام الظالم ولا يتوقف على الاستحلال من المظلوم الحربي ، أما مظالم العباد غير الحربيين فلا تغفر إلّا برضا أصحابها وهذه الآية تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس. قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس ، والجن قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١) أي ويمنعكم الله من عذاب أليم معد للكفرة. قال ابن عباس : فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن ، فرجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم ، (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) محمدا أو من يبلغ عنه (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) له تعالى (فِي الْأَرْضِ) بهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها ، أو دخل في أعماقها ، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (أَوْلِياءُ) أي أنصار يدفعون عنه العذاب بالاستشفاع له ، أو الافتداء به (أُولئِكَ) أي من لا يجيبون داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٢) أي ظاهر ، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن ،


(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يتفكر كفار مكة ولم يعلموا علما جازما (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ابتداء من غير مثال (وَلَمْ يَعْيَ) أي لم يتعب (بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) وإنما جاز إدخال الباء على خبر «أن» لأنه في تأويل خبر «ليس» فكأنه قيل أليس الله بقادر؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى : (بَلى) هو قادر على إحياء الموتى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣) فإن تعلّق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكنا في نفسه لما وقع أولا ، والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، فوجب كونه تعالى قادرا على إعادة الروح إلى الجسد ، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم : (أَلَيْسَ هذا) أي العذاب (بِالْحَقِ) أي بالعدل. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إنه الحق أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقيقة عذاب النار كما في الدنيا ، وأنّى لهم ذلك. (قالَ) الله لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤) أي بسبب كفركم في الدنيا (فَاصْبِرْ) أي إذا كان عاقبة أمر الكفار ما ذكر ، فاصبر على أذى قومك (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي كما صبر أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تقريرها ، وصبروا على تحمل مشاق معاداة الطاعنين فيها ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وقد ذكرهم الله على التعيين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وفي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لكفار مكة بالعذاب فإنه نازل بهم لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي وعند نزول العذاب بهم في الآخرة يستقرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار ، لطول مدة العذاب ولهول ما عاينوه من شدة العذاب ، والمعنى : أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة يسيرة من النهار ، أو كأنه لم يكن (بلغ) أي هذا الّذي وعظمتم به كفاية في الموعظة ، أو هذا القرآن كفاية فيها.

وقرأ زيد بن علي ، والحسن ، وعيسى «بلاغا» نصبا إما على المصدر أي بلّغ أيها الرسول بلاغا ، كما يؤيده قراءة أبي مجلز بلغ أمرا وإما على النعت «لساعة» ، وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه وصف «لنهار» على حذف مضاف أي ذي بلاغ أي أجل ، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) أي فلا يهلك بالعذاب إلّا الخارجون عن الاتعاظ به ، والعمل بموجبه ، وقرأ ابن محيصن «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما ، وقرأ زيد بن ثابت «يهلك» بضم الياء وكسر اللام ، والفاعل الله وبنصب «الفاسقين» و «نهلك» بنون العظمة ، ونصب «القوم» ووصفه ، قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صفحة ، ثم تغسل وتسقى منها وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله ، ورب السموات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية ، أو ضحاها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) الآية والله أعلم.


سورة القتال

وتسمى سورة محمد وسورة الّذين كفروا ، مكية ، تسع وثلاثون آية ، خمسمائة

وتسع وثلاثون كلمة ، ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا عن الإسلام ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل كالمطعمين الجيش يوم بدر منهم : أبو جهل ، والحرث ابنا هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، ومنبه وغيرهم (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) أي أبطل الله أعمالهم فلم يبق لهم عمل بر لأنها لم تكن لله ، ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فيما بينهم وبين ربهم (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي الحق النازل من ربهم ، (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢) أي حالهم ونياتهم ، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة ، ثم يتنبه ، ويندم ، ويقف بين يدي ربه معترفا بذنبه مستحقرا لنفسه ، فصار الذنب شرطا للندم ، والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ذلك إضلال الأعمال ، وتكفير السيئات ، وإصلاح البال كائن بسبب أن الكفار اتبعوا الشيطان ، وبسبب أن المؤمنين اتبعوا أمر الله ، وقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) أما متعلق بـ «اتبعوا» الأخير أي من فضل ربهم أو من هدايته ، أو متعلق بالأمرين جميعا أي اتبع هؤلاء الحق من حكم ربهم.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣) أي مثل هذا البيان يبين الله للناس أحوالهم العجيبة بإحباط الأعمال للكفر ، ويغفر الذنوب بالإيمان والفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة ، وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الباطل ، والآخر يكون فيه اتباع الحق كإطعام الطعام ، وقد يختلفان في الظاهر والباطن كمن يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر ، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان ، وقد علم سبب ثبوت الحكم ، وهو اتباع الحق والباطل فكل أمر اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه ،


وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه ، فصار هذا عاما في الأمثال (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فإذا لقيتم الكفار في المحاربة يوم بدر ، فاضربوا أعناقهم أي فاقتلوهم بأي طريق أمكنكم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي حتى إذا أضعفتموهم بالجراح فاستوثقوا الأسر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون منا عليهم بإرسالهم من غير فداء بعد أسرهم وشد وثاقهم ، وإما تفدون فداء بمال ، أو أسرى مسلمين (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي حتى تضع أهل الحرب آلات الحرب أي حتى تنقرض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزبا من أحزاب الإسلام (ذلِكَ) أي ذلك المذكور واجب (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لانتقم من الكفار من غير قتالكم ببعض أسباب الهلكة كالخسف ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل يكلفهم بالقتال ليحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر ، ويختبركم بالكفار لتجاهدوهم لاستحقاق العظيم ، وليختبرهم بكم ليعالجهم ببعض العذاب على أيديكم كي يرتدع بعضهم عن الكفر ، (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) ، قرأ أبو عمرو ، وحفص «قتلوا» مبينا للمجهول أي والذين استشهدوا في طاعة الله يوم بدر فلن يضيع الله أعمالهم أي لا تخافوا القتل ، فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر ما لا يمنع المقاتل من القتال ، بل يحثه عليه ، وقرأ الباقون قاتلوا أي جاهدوا لإعلاء دين الله سواء قتلوا أو لم يقتلوا ، (سَيَهْدِيهِمْ) في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٥) أي حالهم في الدنيا والآخرة بأن يقبل الله أعمالهم ويرضي خصماءهم يوم القيامة ، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) أي إذا دخلوها يقال لهم : تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم ، وقال ابن عباس : أي طيبها لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي إن تنصروا دين الله وحزب الله (يَنْصُرْكُمْ) على أعدائكم ، (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧) أي يثبتكم في مواضع الحرب وعلى محجة الإسلام (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي فألزمهم الله هلاكا وعثارهم واجب لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها على النصرة ، (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) أي أبطل نفقاتهم يوم بدر (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي ذلك الهلاك وإبطال الأعمال بسبب أنهم كرهوا القرآن لما فيه من بيان التوحيد وبيان أمر الآخرة (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩) أي فأبطل حسناتهم فلو عملوها مع الإيمان لأثبتوا عليها (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسافروا في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلك الله ما يختص بهم من أنفسهم ، وأهليهم ، وأموالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠) أي ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة ، فأهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم ، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثبوت هلاك أمة محمد كالأمم السالفة بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين على


أعدائهم. وقرئ «ولي الذين» إلخ (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) أي وأن الكافرين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فالأنهار يتبعها الأشجار ، والأشجار يتبعها الثمار ، والماء سبب حياة العالم والمؤمنون ينظرون إليه وينتفعون به ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) فلا يهمهم إلا أكل الملاذ ولا يستدلون بالمأكولات على خالقها ولا يعلمون عاقبة أمرهم كالأنعام ، فإنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢) فيتقلبون في النار ويتضررون بها (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) أي وكم من أهل قرية كذبوا رسلهم أهلكناهم وهم أشد قوة من أهل قريتك الّذين كانوا سببا لخروجك من بينهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣) من إهلاكنا كذلك نفعل بأهل مكة فاصبر كما صبر رسل أولئك (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤) أي أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة من مالك أمره وهو القرآن وسائر الحجج العقلية كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا واتبعوا أهواءهم الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) و «مثل» مبتدأ وخبره «فيها أنهار» ، وهو عين المبتدأ لأن اشتمال الجنة على أنهار من كذا وكذا صفة لها ، وقيل : والخبر مقدر والتقدير : وفيما نقص عليكم مثل الجنة ، وعلى هذا فالوقف على «المتقون» كاف والجملة بعده مفسرة لمثل (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر ريحه وطعمه حتى في البطون ، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة والباقون بمدها ، (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم ، فلو أراد تغيره من أصل خلقته لشهوة اشتهوها تغير ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) بأسرهم فليس فيها كراهة الطعم لهم وهي لمجرد الالتذاذ فقط (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من شمع وغيره.

روي عن كعب الأحبار أنه قال : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر ، نهر خمرهم ، ونهر سيحان وجيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر ، (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولأهل الجنة في الجنة زوجان من كل الثمرات ، (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ولهم فيها رفع تكليف عنهم فيأكلون ، ويشربون من غير حساب ، ولا عقاب ، ورفع قبيح ، ومكروه فلا يحتاجون إلى غائط ، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات بخلاف الدنيا ، فإن للأكل توابع ولوازم لا بد منها (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أمن هو خالد في هذه الجنة حسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي حارا (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥) أي مباعرهم لحدة تكون في ذلك الماء من فرط الحرارة ، وقوله تعالى : (عَلى بَيِّنَةٍ) في مقابلة (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِ) في مقابلة (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) و (الْجَنَّةِ) في مقابلة النار والثمار في الجنة في مقابلة الزقوم في


النار والماء الحميم في مقابلة الأنهار وقطع الأمعاء في مقابلة المغفرة لأن المغفرة التي في الجنة على أحد الوجوه هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة ، والأمراض كأنه تعالى قال للمؤمن : أكل وشرب لا يجتمع في جوفهم ، فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء الحاجة ، وللكافر ماء حميم. ففي أول ما يصل إلى جوفهم يقطع مصارينهم ويشتهون خروجه من جوفهم فخرجت المصارين من أدبارهم ، ثم الوجه في توحيد الضمير العائد إلى «من» وجمعه أن يقال المسند إلى «من» إذا كان متصلا فرعاية اللفظ أولى لأنه مسموع ، وإذا كان مع انفصال فرعاية المعنى أولى لأنه لا يسمع ، بل يبقى في ذهن السامع فالحمل في الانفصال على المعنى ، وهو جمع الضمير أولى ، وحمل الاتصال على اللفظ ، وهو إفراد الضمير أولى. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) أي ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إلى خطبتك يوم الجمعة فإذا خرجوا من المسجد قالوا للعلماء من الصحابة منهم ابن مسعود ، وابن عباس استهزاء بما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي شيء قال محمد على المنبر الساعة الماضية القريبة منّا لا نعمل بقوله لأنه قول ساقط لا يعتد به ، وقرأ البزي بخلاف عنه بقصر الهمزة (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦) أي أولئك التاركون اتباع الحق هم الذين أمات الله قلوبهم فلم تفهم فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) أي والذين اهتدوا بالإيمان زادهم الله تعالى على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ، وخلق الله فيهم كمال التقوى فلا يخافون معها لومة لائم ويتنزه العارفون عما يشتغل أسرارهم عن الحق ويتبتلون إليه ، (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨) و «أن» تأتيهم بدل اشتمال من «الساعة» و «أني» خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر والمعنى : أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية ، ولا بالإخبار بإتيان الساعة ، وعظائم الأهوال فيها فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة فجأة إذ قد جاءت علاماتها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا مجالة فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة ، أي لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الايمان حينئذ.

وقرئ «إن تأتيهم» على أن «إن» شرط مستأنف جزاؤه فإني لهم إلخ والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة لأنه قد ظهرت أماراتها كرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانشقاق القمر ونحوهما فكيف لهم اتعاظهم إذا جاءتهم ، (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة. ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على العلم بالوحدانية والعمل بموجبه ، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو ترك الأفضل أو ضرب اليهودي زيد بن السمين ، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث حالات : حال مع الله ، وحال مع نفسه ، وحال مع غيره ، والمعنى : فوحد الله ، واطلب العصمة من الله لنفسك ، واطلب الغفران من الله للمؤمنين والمؤمنات ، ومعنى


طلب الغفران طلب عدم الافتضاح ، ولذلك قد يكون بالعصمة من القبيح كما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يكون بالستر على القبيح بعد وجوده كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩) أي يعلم أحوالكم في الدنيا ومواطن إقامتكم في الآخرة إما في الجنة أو في النار (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إذ تأخر عنهم التكليف خوفا من أن لا يؤهلوا للعبادة (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلا نزلت سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق ، (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي لم تنسخ (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي وذكر فيها الأمر بالقتال فإنه أشق تكليف ، وقرئ و «ذكر فيها القتال» على بناء الفعل للفاعل وهو الله تعالى ، وعلى نصب «القتال» ، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي تشخص أبصارهم نحوك عند ذكرك للقتال شخوصا مثل شخوص من أصابته غشية الموت من كراهية قتالهم مع العدو ، (فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠) أي قاربهم ما يهلكهم ، أو فالهلاك لهم وهذا تهديد لهم من عذاب الله تعالى ، أو يقال فالموت أولى لهم ، فإن الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة الله ورسوله (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة مخلصة وقول حسن خير لهم ، وقيل : هذا حكاية لقولهم ويدل عليه قراءة أبيّ «يقولون طاعة وقول معروف» أي يقول المنافقون أمرنا طاعة وكلام حسن لمحمد عليه الصلاة والسلام (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي فإذا جد الأمر خالفوا موعدهم وتأخروا عنه (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١) أي فلو صدقوا الله تعالى في إيمانهم واتباعهم الرسول لكان الصدق خيرا لهم ، أو فلو صدقوا الله في ذلك القول ، وأطاعوا الله ورسوله لكان الصدق خيرا لهم ، وقيل : إن جملة «فلو صدقوا الله» إلخ جواب إذا مثل قولك : إذا حضرني طعام ، فلو جئتني لأطعمتك. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) أي إن كنتم تتركون القتال وتعرضون عنه وتقولون : إن في القتال إفسادا وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلّا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء هو عادة العرب ، وهذه الآية إشارة إلى فساد قولهم : كيف نقاتل والقتال إفساد ، العرب من ذوي أرحامنا ، فقال تعالى : إن أعرضتم عن القتال فلا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض ، فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنبهونه ، والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم ، فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله به وهذا القتال مع الكفار طاعة ، وقيل : إن توليتم من الولاية ، والمعنى : فلعلكم يا معشر المنافقين تتمنون إن صرتم أمراء على الناس وصاروا بأمركم أفسدتم في الأرض بالقتل والمعاصي ، وقطعتم الأرحام بإظهار الكفر ويؤكد هذا القول قراءة من قرأ «وليتم» على البناء للمفعول أي وإن جعلتم ولاة ظلمتم بأخذ الرشا ، ونحوه ، وقراءة علي رضي‌الله‌عنه «توليتم» والمعنى ان تولاكم والمعنى : إن تولاكم ولاة ظلمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم.

وقرئ تقطعوا بحذف إحدى التاءين من التقطع فانتصاب أرحامكم ، حينئذ على نزع الجار


أي في أرحامكم وقرئ و «تقطعوا» من القطع (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم الله عن الخير (فَأَصَمَّهُمْ) فلا يسمعون الكرم المستبين (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) فلا يتبعون الصراط المستقيم ، فمن حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم صم وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفسادا وقطعا للرحم ، وهم كانوا يتعاطونه عند النهي فتركوا اتباع النبي الّذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) أي فلا يتدبرون القرآن لكونهم مبعدين منه ، ومن كل خير أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون فلا تدخل معانيه في قلوبهم (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي أن الذين رجعوا إلى الكفر من بعد ما ظهرت لهم الدلائل وسمعها ، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الشيطان زيّن لهم الرجوع إلى دينهم ، وسهل لهم اقتراف الكبائر.

وقرئ «سول» مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان زيّن لهم (وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥) أي ومد الشيطان لهم في الآمال فيقول لهم : إن في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر أعماركم ، وقيل : أمهلهم الله تعالى ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ، وقرأ أبو عمرو «وأملى لهم» على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في أعمارهم ، والباقون على البناء للفاعل ، والفاعل إما الشيطان ، فإن الله قدر على لسانه ويده ذلك التزيين ، أو الله تعالى كما تقدم. وقرئ «وأملى لهم» على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم ، وأنا أنظرهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي ذلك الارتداد بسبب أن المنافقين قالوا سرا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) كالقعود عن الجهاد ، والموافقة في الخروج معكم عن الديار إن خرجتم منها ، ولا نطيعكم في إظهار الكفر قبل قتالكم ، وإخراجكم من دياركم ، وهذا عبارة عما حكى عنهم بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر : ١١] وهم بنو قريظة والنضير الذين كان المنافقون يوادونهم ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦) ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص بكسر الهمزة أي إخفاءهم لما يقولونه ، والباقون بفتحها أي جميع أسرارهم ، (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢٧) أي فكيف يصنعون إذا قبضتهم الملائكة في حال أنهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، فإنهم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل ، وقرأ الأعمش «توفاهم» على أنه ماض أو مضارع حذف إحدى تاءيه (ذلِكَ) أي الضرب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر والمعاصي (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) من الإيمان والطاعة أي تضرب وجوههم لأنهم أقبلوا على سخط الله كإنكار الرسول


وإدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله كالإقرار بالرسول وبدين الإسلام وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره». (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨) أي فأبطل الله حسناتهم يقال : نزلت الآيات من قوله تعالى : (الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) إلى هاهنا في شأن المنافقين الذين رجعوا من المدينة إلى مكة مرتدين عن دينهم ، ويقال نزلت في شأن الحكم بن أبي العاص المنافق وأصحابه الذين شاوروا فيما بينهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخطب يوم الجمعة في أمر الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إن ولينا أمر هذه الأمة نفعل كذا وكذا ولا يستمعون إلى خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قالوا بعد ذلك لعبد الله بن مسعود : ماذا قال محمد الآن على المنبر استهزاء منهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩) أي أحسب المنافقون أنه لن يعلم الله أسرارهم أم حسبوا أنه لن يظهر الله أحقادهم على المؤمنين لرسوله ، وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة فـ «أم» استفهامية والمعنى : أن ذلك الإظهار ما لا يكاد يدخل تحت الشك ، (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو أردنا لعرفناكهم تعريفا معه المعرفة فتعرفهم بعلامتهم القبيحة ، وعن أنس رضي‌الله‌عنه قال : ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق ، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول فيفهمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يفهمه غيره ، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى في إظهار أمرهم وفي المنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم ، (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) فيجازيكم بحسب قصدكم ، وهذا وعد للمؤمنين ، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافقين ، فكان للمنافق قول بلا عمل ، وللمؤمن عمل ولا يقول به ، وكان المؤمن يعمل الصالحات ويتكلم في السيئات مستغفرا ، وكان المنافق يتكلم في الصالحات ويعمل السيء والله تعالى يسمع الأقوال الفارغة من المنافقين ويعلم الأعمال الصالحة منكم ولا يضيع ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد والتكاليف الشاقة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) أي حتى نعلم المقدمين على الجهاد (وَالصَّابِرِينَ) على مشاق الجهاد أي الذين لا يولون الأدبار (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١) أي ونظهر أخباركم من حسن أعمالكم وقبحها.

وقرأ شعبة في الأفعال الثلاثة بالياء التحتية مسندا لضمير راجع إلى الله ، وقرئ ونبلو بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الكتاب قريظة والنضير أو من كفار قريش (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا عن دين الله وصرفوا الناس عن طاعة الله (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي خالفوه وعادوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) وهو نعت محمد في التوراة وما ظهر على يديه من المعجزات ، وما نزل عليه من الآيات (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تنزه الله تعالى عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق ، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢) أي مكايدهم في القتال وفي إبطال دين الله


تعالى فيكون النصر للمؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد والقرآن (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم من الفرائض والصدقة ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمركم من الجهاد والسنة (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣) بالكفر ، والنفاق ، والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والمن ، والأذى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤) أي إن الله لا يغفر الشرك ويغفر غيره إن شاء (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا بالقتال مع العدو ولا تدعوا الكفار إلى الصلح وأنتم الأعلون أي الغالبون وهذه جملة حالية فتدعوا إما معطوف على المجزوم ، أو جواب النهي منصوب بإضمار أن ، وقرأ حمزة ، وشعبة «السلم» بكسر السين ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) وهذا إرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه وذلك لأن الله تعالى لما قال : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) كان ذلك سبب الافتخار ، فقال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي ليس ذلك العلو على الكفار من أنفسكم ، بل من الله تعالى وأيضا لما كان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم وشوكة الكفار وكثرتهم قال تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) وما كان الأمر بما يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي والله ناصركم فلا يبقى لكم شك في أن الغلبة لكم ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) أي ولن يضيعها والمعنى : أن الله ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا أي فكأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك النصر فيعطيكم أجوركم بالتمام. (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أن الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة ومشغلة عن طاعة الله تعالى (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم وثواب كل أعمالكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦) أي ولا يطلب منكم إخراج أموالكم كلها بحيث يخل الإخراج بمعاشكم ، بل يطلب منكم إنفاق القليل من الأموال في طاعته تعالى ليرجع ثوابه إليكم (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧) أي لو طلب الله جميع أموالكم وألح عليكم في الطلب لما تعطونها ، وأخرج الله أو الطلب أو البخل أحقادكم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا فكيف لا تبخلون بالكثير ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.

وقرئ «ونخرج» بنون العظمة ، وقرئ «ويخرج» بالياء والتاء وفاعله «أضغانكم» أي ويخرج بسبب البخل الضغائن فيفضي إلى قتال الطالبين ، وهم النبي وأصحابه (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي أنتم الذين تطلبون لتنفقوا في طاعة الله من الزكاة ونفقة الغزو وغيرهما (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي فمنكم ناس يبخلون ، ومنكم من يجود ، (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالإنفاق في طاعة الله (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي فإنما يمسك الثواب عن نفسه فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب ، وبثمن الدواء فلا يبخل إلا على نفسه ، (وَاللهُ الْغَنِيُ) فلا يحتاج إلى مالكم ، (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فلا تقولون : نحن أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك ، لأنهم لولا القتال لقتلهم الكفار ، ولولا دفع حاجة الفقراء لقصدوهم بسوء وكيف


لا يكونون فقراء وهم يوم القيامة موقوفون مسؤولون؟! (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يخلق الله قوما آخرين بدلكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله الرجال من الفرس» (١). وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هي أحب إلي من الدنيا». والله أعلم.

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٥٨) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ : ٥٠١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٧).


سورة الفتح

مدنية ، تسع وعشرون آية ، خمسمائة وستون كلمة ، ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا

وسبب نزول هذه السورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة السادسة خرج بألف وأربعمائة من أصحابه قاصدين مكة للاعتمار فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة ، وساق صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين بدنة هديا للحرم ، وساق القوم سبعمائة ، فلما وصلوا الحديبية ـ وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة ـ منعه المشركون من دخول مكة ، وصالحوه على أن يأتي في العام القابل ويدخلها ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، فتحلل هو وأصحابه هناك بالحلق ، وذبح ما ساقوه من الهدى ثم رجعوا يخالطهم الحزن ، فأراد الله إذهاب الحزن عنهم فأنزل الله تعالى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة ، وهو سائر ليلا في رجوعه ، وهو بكراع الغميم (وهو واد أمام عسفان بين مكة والمدينة) فبشر بفتح مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه عند انصرافه من الحديبية وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» (١). فلما تلاها قال المسلمون : هنيئا مريئا لك يا رسول الله لقد بيّن الله لك ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى عليه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح : ٥].

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) أي ظاهر الأمر فارقا بين الحق والباطل ، أي إن الله فتح مكة عنوة وصلحا ، وفتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان ، فإن أسفل مكة فتحها خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحا ، ودخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهته رضي‌الله‌عنه فصار الحكم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي لكي يغفر الله لك ما سلف من ترك الأفضل قبل الوحي وما يكون بعد الوحي إلى الموت ، (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الدين ، وضمّ الملك إلى النبوة بإخلاء مكة عن معانديك ، وباستجابة دعائك في طلب الفتح ، وبقبول شفاعتك في الذنوب في

__________________

(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٥٨) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ : ٥٠١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٧).


الآخرة ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) في تبليغ الرسالة ، وإقامة علامات الرياسة ، فلا يبقى من يقدر على الإكراه على الكفر (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) أي نفيسا قليل النظير ، وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه ، فإن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وسببا لتطهير العباد من العصيان ، وبالفتح يحصل الحج ، ثم بالحج يحصل الغفران.

وقال الشعبي : المراد من هذا الفتح صلح الحديبية. لقد أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة غيرها ، حيث بويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبلغ الهدى محله ، وأطعموه نخل خيبر ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلح الحديبية أعظم الفتوح». (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أي الله وحده هو الذي أنزل الطمأنينة في يوم الحديبية وغيره في قلوب الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بسبب ذكرهم الله تعالى تحقيقا للنصر ، (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي ليزدادوا إيمانا بشرائع الدين مع ايمانهم بالله ورسوله ، وليزدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول ، فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله ، وأن الله واحد ، والحشر كائن ، وآمنوا بأن كل ما يأمر الله به واجب ، وبأن كل ما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق ، وهو الّذي قد قال لهم : «لا بد من أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت». (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة أو الأسباب ، كالصاعقة والزلازل. فكان تعالى قادرا على إهلاك عدوه بجنوده ، ولكن لم يفعل ذلك بل أنزل على المؤمنين ثبات قلوبهم ويقينها مع الله ورسوله ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بجميع الأمور (حَكِيماً) (٤) في تدبيره تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لا يخرجون منها (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ، أي يغطيها ولا يظهرها (وَكانَ ذلِكَ) أي المذكور من الإدخال والتفكير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٥). والظرف حال من فوزا أي كائنا في علم الله تعالى ، فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول حين سمع بكرامة الله للمؤمنين فقال : يا رسول الله ، والله ما نحن إلّا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ فأنزل الله تعالى قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) ، أي ظن الأمر السوء فإنهم ظنوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين خرجوا إلى الحديبية لا يرجعون إلى المدينة وأن المشركين يستأصلونهم ، والتعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين كأن الله تعالى يقول : بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الله جنات في الآخرة ويعذب الكافرين والمنافقين بأيديكم في الدنيا يكون تعذيبهم بإيصال الله الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبتسليط النبي وأصحابه عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم دائرة الفساد ، فيحيط بهم حيث لا خروج لهم منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهذا إشارة إلى أن الّذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب ، فإن من كان به بلاء قد يكون مصابا على وجه


الامتحان ليصير مثابا ، وقد يكون مصابا على وجه التعذيب (وَلَعَنَهُمْ) أي طردهم من كل خير فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب والشتم ، أو الضرب ولا يقتضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه ، ولا إلى طرده من بابه ، وقد يفضي غضبه إلى ذلك لكون الغضب شديدا ، (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (جَهَنَّمَ وَساءَتْ) أي جهنم (مَصِيراً) (٦) أي مرجعا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي شديدا بنقمة الكافرين والمنافقين ، (حَكِيماً) (٧) بكرامة المؤمنين المخلصين بإيمانهم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأن دينه هو الحق ، وأحق أن يتبع ، (وَمُبَشِّراً) لمن يوافقك في تلك الشهادة (وَنَذِيراً) (٨) لمن يخالفك فيها (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لأن كون النبي مرسلا من الله يستلزم أن يؤمن المكلّف بالله وبالمرسل (وَتُعَزِّرُوهُ) أي تنصروه بتقوية دينه ورسوله. وقرئ شاذا «تعززوه» بزاءين مع الفوقانية. وقرئ بضم التاء وسكون العين وبفتح التاء ، وضم الزاي وكسرها ، وهاتان مع الراء. (وَتُوَقِّرُوهُ) أي تعظموه ، لأن الله يعظمكم بالبشارة. وقرئ بسكون الواو. (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩) أي تنزهوه عن السوء في الدوام مخافة عقابه الشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الأربعة. والباقون بالتاء على الخطاب ، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى لتكون على وتيرة واحدة ، ويصح رجوعها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحينئذ إن معنى يسبحونه ينزهونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ، وبنحو ذلك ، ويصح أن يكون أمرهم بالتنزيه في أوقات يذكرون فيها الفحشاء والمنكر ، (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي إن الذين بايعوا نبي الله على أن لا يفروا من قتال قريش تحت الشجرة السمرة في الحديبية ، وهم مقدار ألف وخمسمائة رجل كأنهم يبايعون الله. والمعنى : إن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما ، لأن من بايع النبي على أن لا يفر من موضع القتال إلى أن يقتل ، أو أن يفتح الله لهم وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرا لكن إنما يقصد بها حقيقة رضا الرحمن فإن المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه. وهذا يسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة ، لقد رضي الله عن المؤمنين إذ (يُبايِعُونَكَ) الآية. وقرئ «إنما يبايعون لله» ، أي لأجله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة الله ، عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله وهو ما صنعوا من البيعة أو نصرة الله تعالى إياهم أعلى من نصرتهم إياه. ويقال : حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على أيدي المتبايعين لحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ، فإن كل واحد من المتبايعين مدّ يده إلى صاحبه في البيع والشراء ، وبينهما ثالث متوسط يضع يده على يديهما فيحفظ يديهما إلى أن يتم العقد ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض عهده فإنما يعود ضرر نقضه على نفسه ، لأنه فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر ، أو يقال : من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائدا إليك ، لأن البيعة مع الله ولا عائد إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلّا إليه. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠) أي ومن


وفي بعهده بالله بالصدق فسوف يعطيه جنة ، فلم ينقض منهم أحد حتى ماتوا على بيعة الرضوان إلّا رجل منهم يقال له : جد بن قيس ـ وكان منافقا ـ اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ولم يدخل في بيعتهم ، فأماته الله على نفاقه. وقرأ حفص بضم هاء «عليه» وتفخيمه. والباقون بالكسر والترقيق. وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون. (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) من غزوة الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ) أي من بني غفار ، وأسلم ، وأشجع ، وديل ، وقوم من مزينة وجهينة فإنهم امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لظنهم أنه يهزم ، فإنهم قالوا : أهل مكة يقاتلون في باب المدينة فكيف يذهب إلى قوم قد غزو في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه في أحد ، وكيف يكون حالهم إذا دخل عدوهم بلادهم وأحاطوا بهم؟! فأوحى الله إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم سيقولون : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي النساء والذراري عن الخروج معك إلى الحديبية. وعن إجابتك في هذه المرة فإنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بمصالحهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال ، وعن التفريط في العيال (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله ، يا رسول الله بتأخرنا عنك إلى غزوة الحديبية ، فكذبهم الله تعالى في الاعتذار والاستغفار بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ) لهم يا أكرم الخلق عند اعتذارهم : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي فمن يمنعكم من قضاء الله على شيء من النفع إن أراد بكم ما يضركم من هلاك الأهل والمال حتى تتخلفوا عن الخروج إلى الحديبية لحفظهما.

وقرأ حمزة والكسائي بضم الضاد والباقون بفتحها. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي ومن يمنعكم من مشيئة الله على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأيّ حاجة إلى التخلف عن الخروج لأجل حفظهما (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١) ، أي ليس الأمر كما تقولون فإنكم أظهرتم أنكم تعتقدون أنهم بالتخلف مسيئون حتى استغفرتم بل كان الله عالما بأن ما في قلوبكم ليس حاجة في ذلك الاستغفار ، لأنكم تعتقدون أنكم بالتخلف محسنون ، وليس تخلفكم لخوف ضياع المال والأهل ، (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بل ظننتم أن لا يرجع من الحديبية إلى المدينة أبدا محمد وأصحابه ـ لأن المشركين تستأصلهم بالمرة ـ فخشيتم إن خرجتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم ، فلأجل ذلك تخلفتم لما في قلوبكم من عظمة المشركين ، وحقارة المؤمنين حتى حملكم ذلك على أنكم قلتم ما هم في قريش إلّا أكلة رأس ، (وَزُيِّنَ ذلِكَ) أي الظن (فِي قُلُوبِكُمْ) فمن ذلك تخلفتم وقلتم ما لا ينبغي.

وقرئ «زين» للفاعل وإسناده إلى الله تعالى ، أو إلى الشيطان ، أي فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به ، (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) كظن أن لا ينصر الله نبيه ، وظن أن الرسول كاذب في قوله ، وأن الله يخلف وعده وأن محمدا غير رسول ، (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢) ، أي هلكى عند الله تعالى بهذا الظن (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (١٣) أي ومن لم يصدق بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا لهم نارا شديدة في التوقد ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما يتصرف في الكل كيفما يشاء ، ومن عظم ملكه يكون أجره في غاية العظم وعذابه في غاية


الألم ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له من المبايعين بيعة الرضوان وغيرهم ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه من الظانين ظن السوء وغيرهم ، وفي هذا حسم لأطماعهم الفارغة في استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤) أي مبالغ في المغفرة والرحمة لمن يشاء من المؤمنين (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) أي سيقول المتأخرون عن غزوة الحديبية عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتغتنموها : (ذَرُونا) أي اتركونا (نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر ، وقد أوضح الله كذبهم بهذا حيث يقولون من تلقاء أنفسهم دعونا نشهد معكم في قتال أهل خيبر ، فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بذلك يوم أخذ الغنيمة (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ).

وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» بفتح الكاف وكسر اللام ، أي يريدون أن يغيروا وعد الله الّذي وعده لأهل الحديبية ، فإن الله وعد أهل الحديبية فتح خيبر ، وأن غنيمتها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر ، ولم يغب عنها منهم غير جابر بن عبد الله ، فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر ، فالله تعالى جعل غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث رجعوا من الحديبية على صلح من غير قتال ، ولم يصيبوا من الغنائم شيئا. وقيل : والمعنى يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الفتح : ٦] وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة ، فيكونون من الذين رضي‌الله‌عنهم فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم ، فيلزم تبديل كلام الله (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم إقناطا لهم : (لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تتبعونا في الخروج إلى خيبر (كَذلِكُمْ) أي مثل هذا القول الصادر منّي (قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مرجعنا إليكم ، أي حكم الله عند انصرافنا من الحديبية بأن لا تتبعونا ، وبأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم منها نصيب (فَسَيَقُولُونَ) للمؤمنين عند سماع هذا النهي ليس ذلك النهي حكم الله (بَلْ تَحْسُدُونَنا) على أن نشارككم في الغنائم فقلتم : إن الله حكم بتخصيص أهل الحديبية بغنائم خيبر وبمنعنا منها (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥) أي لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا ، ولا يفهمون من قولك : لا تخرجوا إلى خيبر إلّا ظاهر النهي ، ولم يفهموا من حكمه فحملوه على مرادهم وعللوه بالحسد ، فإن حب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل. (قُلْ) يا أشرف الرسل ـ (لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي أهل غلظ الأكباد : ديل ، وأشجع ، وقوم من مزينة وجهينة ـ : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي إلى قتال قوم أصحاب سلاح من آلة الحديد وقوة شديدة في القتال ـ وهم بنو حنيفة ـ هم تابعو مسيلمة الكذاب وغزاهم أبو بكر. وقال رافع بن خديج : كنّا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم أو هم هوازن وثقيف ، غزاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا المخلفين عام الحديبية إلى الحرب ، فامتنعوا فقال : ستدعون إلى حرب قوم مسلحين محاربين فهم أكثر بأسا من يكون على خلاف ذلك ، (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي إن أحد الأمرين يقع إما المقاتلة أبدا ، أو سلام لا غير.


وقرئ «أو يسلموا» بالنصب بإضمار «أن» على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا. (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي توافقوا الداعي على القتال (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي يعطكم الله الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي وإن تعرضوا عن إجابة الدعوة إلى قتال المرتدين كمسيلمة أو المشركين كهوازن كما أعرضتم عن غزوة الحديبية من قبل هذا الوقت بناء على الظن الفاسد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦) لتضاعف جرمكم ، ثم جاء أهل الزمانة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله قد أوعد الله بعذاب أليم لمن يتخلف عن الغزو ، فكيف لنا ونحن لا نقدر على الخروج إلى الغزو؟! فأنزل الله فيهم قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على من في عضوه أو قوته خلّل مأثم في التخلف عن الغزو ، وكذا فقير لا يمكن من استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد ، وإنما قدّم الأعمى على الأعرج ، لأن عذره مستمر لا يمكن الانتفاع به في حراسة وغيرها ولا يعود بصيرا أما الأعرج فإنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقد يقدر على القتال بالرمي وغيره ، وقدّم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من المريض لإمكان زوال المرض عن قرب ، فالعذر في محل الآلة أتم من الآفة في القوة. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي من المعذورين وغيرهم (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فطاعة الله تعالى في طاعة رسوله وكلامه تعالى يسمع من رسوله ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن الطاعة بقلبه (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧). وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» ، و «نعذبه» بالنون فيهما. والباقون بالياء التحتية ، (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، وحمله على جمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغ أشرافهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء معتمرا ولم يجيء محاربا ، فعقروا جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا قتله. فمنعهم الأحابيش ، فخلوا سبيله ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته ، فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحتسبته قريش عندها ، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبرح حتى نناجز القوم». أي نقاتلهم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن يقاتلوا قريشا ، ولا يفروا ، ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شماله في يمينه فقال : «هذه بيعة عثمان» وقد علم بنور النبوة أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتم اليوم خير أهل الأرض» (١) وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا ،

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه ٣ : ٢٥٧ ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب : ١٦٧ ، وأحمد في (م ٤ / ص ٣٣١) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٥ : ٢١٥) ، والبيهقي في دلائل النبوة (٤ : ١٠٦) ، ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٥٣ ، وابن الجارود في المنتقى ٥٠٥ ، ـ


وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين ، وكانوا عشرة دخلوا مكة بإذنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَعَلِمَ). الله (ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص عند مبايعتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض. وهذا معطوف على يبايعونك ، لأن رضاه تعالى عنهم كان عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم لا عند المبايعة فقط ، (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) وهذا معطوف على «رضي» أي فأنزل عليهم سكون النفس بالربط على قلوبهم ، وقد جعل الله تعالى طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله تعالى الجنة ، وبيّن أن تلك الطاعة وجدت من أهل بيعة الرضوان ، وأشار إلى طاعة الله بقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وإلى طاعة الرسول بقوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وأشار إلى الموعود به ـ وهو إدخال الجنة ـ بقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة ، (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) أي وجزاهم على الطاعة فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة ، فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بقيته ، وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع.

وقال السدي : هو فتح مكة. وقرئ و «آتاهم» بالمد ، أي أعطاهم. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) من خيبر ـ وهي أرض ذات عقار وأموال ـ (يَأْخُذُونَها).

وقرأ الأعمش وطلحة ونافع بالتاء على طريق الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا غنيا عن إعانتكم إياه (حَكِيماً) (١٩) حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه ، فإنه تعالى يذل من يشاء بعزته ، ويعز من يشاء بحكمته (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر فيما يأتي إلى يوم القيامة ، (تَأْخُذُونَها) والخطاب لأهل الحديبية ، (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنائم خيبر فليست كل الثواب بل الجزاء قدامكم ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي كف الله أيدي بني أسد وغطفان ، وهم حلفاء أهل خيبر عنكم حيث جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها ، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، فنكصوا.

وقال قتادة : كف أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية ، أما كف أيدي أهل مكة بالحديبية فمذكور بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) إلخ. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وهذا معطوف على مفهوم «فعجل لكم هذه» فـ «اللام» يدل على النفع كما أن «على» يدل على الضر ، أي فجعل الله هذه الغنائم وفتح خيبر لتنفعكم ، ولتكون أمارة يعرف المؤمنون بها صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم ،

__________________

ـ وعبد الرزاق في المصنف ٩٧٢٠ ، والألباني في إرواء الغليل (١ : ٥٨) ، وابن حجر في فتح الباري (٤ : ١٠) ، والبغوي في شرح السنة (١ : ١٧٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٧٧) ، والطبري في التفسير (٢٦ : ٦٣) ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٣٣٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٤ : ١٧٦).


وفتح مكة أي لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في أخباره عن الغيوب ، فيكمل اعتقادكم أي عجل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح ، وهو عزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرة للمؤمنين ، لأنكم كنتم ثمانية آلاف ، وإن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا ، وكف أيدي الناس عنكم وعن عيالكم ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين ، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم ، (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠) أي طريق التوكل عليه تعالى والثقة بفضله تعالى في كل ما تأتون وما تذرون ، (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها). وقوله : (وَأُخْرى) إما مبتدأ «ولم تقدروا» صفته ، وقد أحاط الله خبره أي وغنيمة أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، وإما معطوف على مغانم كثيرة ، فكأنه تعالى قال : وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها ، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين قد حفظها الله لهم لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن وهي غنائم فارس والروم ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١) ، لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أي ولو اجتمع بنو أسد وغطفان مع أهل خيبر كما زعموا ، وقاتلوكم لانهزموا ولا ينصرون بل إنما الغلبة واقعة للمسلمين ، فليس أمرهم أمرا اتفاقيا بل هو أمر إلهي محتوم ، (ثُمَ) بعد انهزامهم (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) ينفع باللطف (وَلا نَصِيراً) (٢٢) يدفع بالعنف ، بل الهلاك لا حق بهم بعد الانهزام ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم حين خرجوا على الأنبياء ، (وَلَنْ تَجِدَ) أيها السامع (لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣) أي إن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أحبائه من الأنبياء. ولكن لا يغير عادته (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أي أيدي كفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي في داخل الحرم وهو الحديبية غير أن كان فيها رمى بالحجارة بين الفريقين (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي أن غلبكم عليهم ، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ، ثم عاد.

وروى الترمذي وثابت عن أنس بن مالك : أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم ليقتلوه ، فأخذهم سلمان ، فاستحياهم ، فنزلت هذه الآية. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٢٤) وقرأ أبو عمرو بالياء التحتية أي بما يعمل الكفار. والباقون بالتاء الفوقية أي بما تعلمون أنتم فإن الله يرى فيما تعملون من المصلحة. وإن كنتم لا ترون ذلك (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن وصولكم إلى البيت الحرام عام الحديبية ، (وَالْهَدْيَ) أي وصدوا الهدي الذي ساقه النبي وأصحابه. وقرأ أبو عمرو وفي رواية بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف ، أي وعن نحر الهدي. وقرئ بالرفع بفعل مقدر مبني للمجهول ، أي وصد الهدى.

وروي عن أبي عمر وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) فقوله :


(أَنْ يَبْلُغَ) إما في محل رفع على أنه نائب الفاعل ، أي ممنوعا بلوغ الهدي محل نحره المعتاد ـ وهو منى ـ وإما في محل جر على إسقاط الجار أي ممنوعا من أن يبلغ منحره ، فإن الكفار لم يتركوا المسلمين أن يبلغوا الهدي محله الذي يعتاده الناس بذبحه فيه ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقوله : (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل من «رجال» و «نساء» وجواب «لولا» محذوف أي لولا إهلاك أناس مؤمنين في مكة ـ كالوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، وأبي جندل ـ غير معروفين لكم فأصابه إثم إياكم من جهتهم من غير أن تعلموا أنهم مؤمنون مانع ، لما كف الله أيديكم عن كفار مكة ، ولسلطكم عليهم بالقتل عام الحديبية فإنكم إن قتلتم المؤمنين لزمتكم الكفارة ، وهو دليل الإثم بتقصيركم في عدم تمييز المسلم من الكافر ولزمكم تعيير الكفار لكم بأنكم فعلتم بإخوانكم ما فعلتم بأعدائكم (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي هم الذين كفروا ، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم ، ولو لا مؤمنون مختلطون بهم لعجل الله بهم ، ولكن كف الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين بزيادة الخير والطاعة لله تعالى والمشركين بدخولهم في دين الإسلام ، أي ليخرج المؤمنون من مكة ويهاجروا إلى المدينة ، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة ، لأنهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم لأجل اختلاطهم بهم رغبوا في مثل هذا الدين ، (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) أي لو تميز المؤمنون عن الكفرة وخرجوا من عندهم لعذبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم ، وبسبي ذراريهم. (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) فـ «إذ» ظرف لـ «عذبنا» أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم التكبر ، تكبر الملة الجاهلية وهو منعهم رسول الله وأصحابه عن البيت الّذي الناس فيه سواء. وقالوا : إن المسلمين قتلوا أبناءنا وإخواننا ، ثم دخلوا علينا على إهانتهم إيانا ، واللات والعزى لا يدخلون مكة ، فهذا تكبر الجاهلية التي دخلت في قلوبهم ، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وهذا عطف على «جعل» والمراد : تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين ، وسوء صنيع الكفرة.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص بن الأحنف على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، وعلى وضع الحرب عشر سنين.

وقال البراء : صالحوهم على ثلاثة أشياء على أن من أتاهم من المشركين إلى المدينة مسلما ردوهم إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين إلى مكة لم يردوه إلى المدينة ، وعلى أن يدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة من عام قابل ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، وعلى أن يدخلها بسلاح. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي‌الله‌عنه «اكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم». فقالوا : ما نعرف هذا! اكتب باسمك اللهم. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة». فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما


صددناك عن البيت ، وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ما يريدون». فهمّ المؤمنون أن يبطشوا بهم ، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلّا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر ، وأبوا أن لا يكتبوا محمدا رسول الله ، وبسم الله ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فلمّا سكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكن المؤمنون ، فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» (١). فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات لما حصل لهم من الغم. فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس من عدم امتثال أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج ، ففعل ذلك ، فلما رأوا ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاموا ، فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي ألهم الله المؤمنين كلمة الشهادة وهي : «لا إله إلّا الله» حتى لا يلتفتوا إلى ما سوى الله تعالى ، (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي كانوا أحق بكلمة التوحيد في علم الله تعالى ، (وَأَهْلَها) أي وكانوا متصفين بكلمة التقوى في الدنيا ، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه ، (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦) فيسوق كل شيء إلى مستحقه ، (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أي لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة صدقا ، ولم يجعلها أضغاث أحلام. وقوله : (بِالْحَقِ) إما صفة لمصدر محذوف أي صدقا ، ملتبسا بالحكمة البالغة وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه ، أو حال من «الرؤيا» ، أي ملتبسة بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية : والله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) تعالى (آمِنِينَ) من العدو ، فلا تخافون عدوكم من أن يخرجكم في المستقبل (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ). فقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَ) إشارة إلى أداء الحج ، و (مُحَلِّقِينَ) إشارة إلى تمام الحج (لا تَخافُونَ) من العدو فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام ، لأن الإنسان إذا خرج عن الإحرام بالحلق لا يحرم عليه القتال ، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم ، أي رأى عام الحديبية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة في عامهم ، فلمّا خرجوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدّهم الكفار

__________________

(١) رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان ، والشجري في الأمالي (١ : ٢٠٥) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٢٠٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٣٩) ، وابن ماجة في السنن (١٣٣٣) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوي (٢ : ٤٨) ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٣٤٢) ، والقرطبي في التفسير (١٦ : ٢٩٣) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١ : ٣٤١) ، والعقيلي في الضعفاء (١ : ١٧٦) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢ : ١٠٦) ، والعجلوني في كشف الخفا (٢ : ٣٧٨) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٣٥٧ ، والفتني في تذكرة الموضوعات ٤٨ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٥ ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (٢ : ١٧) ، وابن الجوزي في الموضوعات (٢ : ١٠٩) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات ٨٧٦.


بالحديبية ورجعوا ، وشق عليهم ذلك قال عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن نفيل ، ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ، ولا قصّرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) أي فعلم الله ما لم تعلموا في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجددة ، فإن دخولكم في سنتكم سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧) أي فجعل الله من قبل ذلك الدخول في مكة ، أو جعل الله في المنع عن الوصول إلى مكة ، أو جعل الله لأجل صالح الحديبية فتحا سريعا ـ وهو فتح خيبر ـ فيقويكم به فإنه كان سببا لإسلام ناس كثيرة تقوى بهم المسلمون فتكون تلك الكثرة سببا لهيبة الكفار ، ولمنعهم من قتال المسلمين حين رجعوا إلى مكة في العام القابل ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بالقرآن (وَدِينِ الْحَقِ) أي وبدين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلي الله أو رسوله الدين الحق على كل الأديان بنسخ بعض الأحكام وبإظهار بطلان الباطل ، وبتسليط المسلمين على أهل الباطل (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) على نبوة رسوله بإظهار المعجزات. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) فـ «محمد» خبر مبتدأ محذوف ، أي هو ، أي الرسول المرسل بذلك محمد ، و «رسول الله» عطف بيان ، أو هو مبتدأ و «رسول الله» نعت له مفيد للمدح والموصول بعده عطف عليه ، وخبره «أشداء» ، و «رحماء» ، و «تراهم» ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على رسول الله بل على «بينهم» بخلاف الإعراب الأول ، فالوقف على «رسول الله» حسن كما إذا جعل خبرا لـ «محمد». (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ، أي الذين قاموا معه يدعون الكفار إلى دين الله (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي هم يظهرون الصلابة لمن خالف دينهم ، والرأفة لمن وافقهم في الدين ، فإنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس ثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، ولا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه.

وقرئ «أشداء» و «رحماء» بالنصب على المدح ، أو على الحال ، فالخبر حينئذ قوله تعالى : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي تشاهدهم أيها السامع حال كونهم راكعين ساجدين في الصلاة (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي يطلبون من الله ثوابا ورضا لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار ، وسجودهم ، وعن ركوع المرائين وسجودهم. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة سهرهم كائنة في وجوههم كائنة من أثر كثرة السجود بالليل فـ «في وجوههم» خبر و «من أثر» حال. وقرئ «سيمياؤهم» بالياء بعد الميم وبالمد. وقرئ من «آثار السجود» بمد الهمزة والثاء. وقرئ من «إثر السجود» بكسر الهمزة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (١). أي وهذا محقق لمن يعقل ويفرق بين الساهر في الشرب واللعب ، والساهر في الذكر واستفادة العلم ، (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) فـ «ذلك» مبتدأ و «مثلهم» خبره ، و «في التوراة» حال من «مثلهم» والعامل معنى الإشارة ، والوقف هنا تام ، أي ذلك المذكور من أنهم أشداء على الكفار إلخ صفتهم

__________________

(١) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ٣٦.


في التوراة (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ) و «مثلهم» مبتدأ ، وخبره «كزرع» ، فهذان مثلان كما ذهب إليه ابن عباس أي وصفتهم الكائنة في الإنجيل كزرع ، (أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) ، أي مثل زرع أخرج فراخه ، فقوى الفراخ بكثافتها الزرع ، (فَاسْتَغْلَظَ) أي فصار الزرع غليظا بعد ما كان دقيقا ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي فاستقام الزرع على قصبه ، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ). وهذا مثل صربه الله تعالى لأصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل أنهم قلّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس.

قيل : مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وقال بعضهم : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أبو بكر الصديق ، فإنه أول من آمن به. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) : عمر بن الخطاب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : عثمان بن عفان. (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : علي بن أبي طالب. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) : بقية المبشرين بالجنة : طلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وأبو عبيدة ، وعبد الرحمن. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ). سلمان وبلال وصهيب وأصحابهم. (كَزَرْعٍ) : محمد. (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : أبابكر. (فَآزَرَهُ) : عمر (فَاسْتَغْلَظَ) عثمان بالإسلام (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) : علي بن أبي طالب أي استقام الإسلام بسيفه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي المؤمنين (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي بقول عمر لأهل مكة بعد ما أسلم : لا يعبد الله سرا بعد اليوم.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبيّ ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». ويقال : نزلت الآية من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) إلى هاهنا في مدحة أهل بيعة الرضوان ، وبعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخلصين لله وقوله تعالى : (لِيَغِيظَ) تعليل لمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع ، كأنه قيل : إنما قوّاهم الله تعالى وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار ، أو تعليل لوعد الله الذين آمنوا إلخ ، لأن الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا ، وبما أعد لهم في الآخرة غاظهم ذلك أشد غيظ ، أو تعليل محذوف دلّ عليه قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) إلخ أي جعلهم الله تعالى بهذه الصفات الجليلة ليغيظ بهم الكفار. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) وضمير «منهم» راجع للصحابة فـ «من» لبيان الجنس ، كلهم بتلك النعوت الجليلة أو للكفار فـ «من» للتبعيض.


سورة الحجرات

مدنية ، هي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وقرأ العامة بضم التاء وفتح القاف ، وتشديد الدال المكسورة ، أي لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما في الرأي عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر لفظ الله تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه عند الله في منزلة عظيمة توجب إجلاله. وقرأ ابن عباس والضحاك «لا تقدموا» بالفتح في الأحرف الثلاثة. وقرئ «لا تقدموا» بضم التاء وكسر الدال ، أي لا تقدموا على شيء من أمور الدين بغير إذن الله ورسوله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) (١) بأفعالكم. نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلوا رجلين من بني سليم في صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بغير أمره ، فنهاهم الله تعالى وقال : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تجرؤوا على إتيان أمر من غير إذن من له الإذن (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الحكم المنهي عنه إن الله سميع لمقالة الرجلين ، عليم بما اقترفا ، وكان قولهم : لو كان هكذا لكان كذا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، يرفع صوته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم وفد بني تميم ، فنهاه الله عن ذلك فقال : يا أيها الذين آمنوا (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ، فإن رفع الصوت دليل قلّة الاحتشام وترك الاحترام ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ، أي لا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم بل اجعلوا كلمته عليا ، ولا تكثروا الكلام عنده ، وقلّلوا غاية التقليل ، فلا تخاطبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تخاطبون غيره ، (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أي خشية حبوط أعمالكم. فقوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا) إلخ نهي عن زيادة صوتهم على صوت الرسول وقوله تعالى ولا تجهروا ألخ نهى عن مساواة صوتهم لصوته (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢) بحبوط الأعمال (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي يخفضونها عنده مراعاة للأدب ، (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي الذين امتحن الله قلوبهم ليعلم منها التقوى ، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم ، وخوفه منه أقوى ، فالاختبار بالمحن والتكاليف الشاقة سبب


لظهور التقوى ، ويقال : أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتوحيد ، وصفاها من المعصية ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

قيل : لما جرى الكلام بين أبي بكر وعمر في تأمير القعقاع بن معبد ، أو الأقرع بن حابس على وفد بني تميم نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية ، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) الآية ، ولما دخل أعراب بني تميم المسجد ونادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين ، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نام للقائلة نزل : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآيتين.

وقال ابن عباس : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى قوم من بني عنبر ، جماعة من خزاعة ، وأمر عليهم عينة بن حصن الفزاري ، فسار إليهم ، فلما بلغهم أنه خرج إليهم ، فروا ، وتركوا عيالهم وأموالهم فسبى ذراريهم ، وجاء بهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءوا ليفادوا ذراريهم ، فدخلوا المدينة عند القيلولة ، فنادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد اخرج إلينا ، وكان نائما ، حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فقالوا : يا محمد ، فادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه‌السلام فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم». فقالوا : نعم. فقال شبرمة : أنا لا أحكم وعمي عمرو شاهد ـ وهو الأعور ابن بسامة ـ فرضوا به. فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد رضيت» ففادى نصفهم ، وأعتق نصفهم ، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) أي إن الذين يدعونك من خلف حجرات ، نسائك كلهم لا يعقلون ، إذ لو كان لهم عقل ، لما تحاسروا على سوء الأدب ، فكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة ، ومناداتها من خارج الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خارجها ، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له ، فنادى كل واحد على حجرة (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ولو ثبت صبرهم ، وانتظارهم إلى الصلاة حتى تخرج إليهم ، لكان الصبر حسنا لهم وخيرا من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة ، ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة ، ولو راعوا حسن الأدب ، وتعظيم الرسول لزادهم في الفضل ، فأطلق ذراريهم ونساءهم كلهم بلا فداء ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) لهؤلاء إن تابوا وأصلحوا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه ، بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق ليجيء بصدقاتهم ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمعوا به تلقوه تعظيما لأمر رسول


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب الرسول ، فأراد هو أن يغزوهم ، فنهاه الله عن ذلك فقال : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر فتفحصوا. وقرئ فتثبتوا ، أي قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به من صدقه أو كذبه (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي حذر أن تصيبوا قوما بالقتل والسبي ملتبسين بجهالة حالهم ، (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦) أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما نسب إليهم نادمين على ما فعلتم في حقهم في إصابتهم بالقتل وغيره. (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) هو مرشد لكم فارجعوا إليه ، واعتمدوا على قوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) ، أي لو يتبعكم رسول الله في كثير من الحوادث لوقعتم في شدة وهلاك ، وقد يوافق الناس ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران ، الآية : ١٥٩] (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي بيّنه وقربه إليكم ، وأدخله في قلوبكم ، (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بالبرهان اليقيني بحيث لا تفارقونه ، ولا يخرج من قلوبكم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ). وهذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل فإنه يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فالكفر هو التكذيب بالجنان ، والفسوق هو كذب اللسان ـ كما قاله ابن عباس ـ فقد قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) فسمى من كذب فاسقا ، والعصيان هو ترك الأمر ، (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم الله وينتهون عما ينهاهم ، (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) مفعول من أجله منصوب بـ حبّب ، و «كره» أو بـ الراشدون» (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في خزائن رحمته من الخير ، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد ، (حَكِيمٌ) (٨) ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة ، (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما).

قيل : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابه ، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ وكان من الخزرج ، فبال الحمار ، فسد ابن أبي أنفه وقال : إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك ، وذلك قبل أن يسلم بالظاهر. فقال ابن رواحة : وكان من الأوس لبول حماره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا من مسك ، فكان بين قومهما وهما الأوس والخزرج ضرب بالأيدي والنعال والسيف.

وعن قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، وطلب الآخر منه أن يحاكمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا ، وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف.

وعن سفيان عن السدي قال : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال ، فنزلت هذه الآية ، أي وإن تقاتل فرقتان من المؤمنين فأصلحوا بينهما بالنصح


والدعاء إلى حكم الله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) أي ظلمت (عَلَى الْأُخْرى) بأن أبت الإجابة إلى حكم كتاب الله تعالى (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي تظلم (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع تلك الطائفة التي لم تقبل النصيحة إلى الصلح ، وهو مأمور به (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) ، أي فإن رجعت إلى الصلح حذرا من قتالكم فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما ، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر ، (وَأَقْسِطُوا) أي واعدلوا في كل أمر ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) أي العادلين في كل ما يأتون ، وما يذرون فيفضي إلى أشرف درجة وأرفع منزلة ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وإن لم تكن الفتنة عامة ، وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال ، بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف ، فاسعوا في الإصلاح.

وقيل المراد بالأخوين : الأوس والخزرج. وقرئ بين «إخوتكم وأخواتكم». (وَاتَّقُوا اللهَ) بالصون عن التشاجر ، فإن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن من يأمن جاره بوائقه». (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) على تقواكم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) أي رجال منكم (مِنْ قَوْمٍ) آخرين منكم.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، حيث ذكر رجلا من الأنصار بسوء ذكر أم رجل كانت في الجاهلية.

وقال الضحاك : نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل : عمار وخبيب ، وابن فهيرة ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم ، ومعنى الآية : لا تحتقروا إخوانكم ولا تستصغروهم (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهي ، أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين ، (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ).

روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عيرن أم سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قالت لها بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يهودية بنت يهودي فنهاهنّ الله عن ذلك وقال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي ولا تسخر نساء من المؤمنات من نساء منهن (عَسى أَنْ يَكُنَ) أي المسخور منهن (خَيْراً مِنْهُنَ) أي من الساخرات عند

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٢ / ص ٢٢٤) ، والهيثمي في موارد الظمآن ٢٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٢٦٨) ، وابن حجر في فتح الباري (١ : ٥٤) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٢ : ٧٨).


الله وأفضل نصيبا ، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي ولا يعب بعضكم بإشارة أو نحوها ، فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. ويقال : هذا إتمام للزجر ، ويصير التقدير : بئس الفسوق بعد الإيمان ، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب السخر واللمز والتنابز بعد ما سميتم مؤمنين. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١) أي ومن يجعل ذلك عادة ، ولم يتركه ، ولم يتب عما مضى فهو ظالم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) فيجب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي نوع ، فإن من الظن ما يجب اتباعه ، كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات ، وظن الخير من الله تعالى ، ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلّا خيرا» ، وظن الخير في المؤمن ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ظنوا بالمؤمن خيرا» ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات ، وظن السوء بالمؤمن ، ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي ذنب يستحق العقوبة (وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. والمعنى : ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس ، (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً).

وقرأ نافع بتشديد الياء وهو حال من «اللحم» ، أو من «الأخ» ، فالاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا ، ولا يحل أكله إلّا للمضطر بقدر الحاجة ، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب ، ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر. أما الفاسق فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ، فمن نقص مسلما أم ثلم عرضه فهو كآكل لحمه ، حيا ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتا ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. (فَكَرِهْتُمُوهُ)؟ أي الأكل ، فالاستفهام في قوله تعالى : (أَيُحِبُ) للإنكار ، فكأنه تعالى قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا. وقرئ «كرهتموه» بغير فاء أي جبلتم على كراهته ، (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك ما أمرتم باجتنابه ، وبالندم على ما صدر عنكم من قبل ، (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢) ذكر الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة ، فكأنه تعالى قال : لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم ، بناء على الظن ، ثم إذا سئلتم عن المظنونات فلا تقولوا : نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ، ثم إن علمتم منها شيئا من غير تجسس فلا تقولوه ، ولا تفشوه عنهم ، ففي الأول نهي عن التكلم بما لم يعلم ، ثم نهي عن طلب علم عيب الناس ، ثم نهي عن ذكر ما علم منه.

روي أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب منه لهما طعاما فقال له : «انطلق إلى أسامة بن زيد واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده». فأتاه فقال ما عندي شيء ،


فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئا ، فلما رجع قالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» (١) فقالا : ما تناولنا لحما في يومنا هذا! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتبتما سلمان وأسامة» فنزلت هذه الآية ، ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي من آدم وحواء ، ومن أب وأم ، فالكل سواء في ذلك ، فلا وجه للتفاخر بالنسب ، (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) وطبقات النسل التي عليها العرب سبعة : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة ، والعشيرة. وكل واحد يدخل فيما قبله ، فالعشائر تحت الفصائل ، وهي تحت الأفخاذ ، وهي تحت البطون ، وهي تحت العمائر ، وهي تحت القبائل ، وهي تحت الشعوب. فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وعبد مناف فخذ ، هاشم فصيلة ، والعباس عشيرة. (لِتَعارَفُوا) أي ليعرف بعضكم بعضا بأصل الإنسان فلا ينتسب أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل ، ولا لتدعوا التفاوت في الأنساب ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» (٢). وعن ابن عباس قال : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.

قال الرازي : سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي رضي‌الله‌عنه ، غير أنه كان فاسقا ، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ، ومال الناس إلى التبرك به ، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد ، فاتبعه خلق ، فلقيه الشريف سكران ، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه ، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ. وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر ، يا كافر بن كافر ، أنا ابن رسول الله أذل ، وتجل ، وأذم وتكرم ، وأهان وتعان ، فهمّ الناس بضربه. فقال الشيخ : لا ، هذا محتمل منه لجده ، وضربه معدود بحده ، ولكن يا أيها الشريف بيّضت باطني وسوّدت باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي ، فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي ، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي ، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا ما يعمل مع أبيك. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأنسابكم وبأعمالكم. (خَبِيرٌ) (١٣) ببواطن أحوالكم ، لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى.

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦ : ٣٣١).

(٢) رواه العجلوني في كشف الخفاء (١ : ٣٧٣) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧ : ٢٥٦٥).


قال الزهري : نزلت هذه الآية في أبي هند خاصة. قال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزوّج بناتنا موالينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال ابن عباس : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض : الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان : أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السموات. فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم ، وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية زاجرا لهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء. فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى. (قالَتِ الْأَعْرابُ) أي أهل البادية : (آمَنَّا) نزلت هذه الآية في بني أسد أصابتهم سنة شديدة قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان أطمعنا ، وأكرمنا يا رسول الله فإنّا صدقناك بجميع ما جئت به. فأنزل الله هذه الآية : (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لم تصدق قلوبكم ، لأنكم لو آمنتم لم تمنوا عليّ فلا تقولوا آمنا. (وَلكِنْ) أسلمتم أي أظهرتم الانقياد واستسلمتم من السيف والسبي بل (قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة ، وهذا قد حصل ، أما الإيمان وهو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب لم يحصل لكم وإلّا لما مننتم علي ما ذكرتم ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي ولم يدخل حب الإيمان في قلوبكم إلى هذا الوقت فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلّا بموافقة القلب (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص وترك النفاق في السر كما أطعتموهما في العلانية (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ) أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا من النقص.

وقرأ الدوري عن أبي عمر «ولا يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء التحتية وأبدلها السوسي ألفا. وقرأ الباقون بغير همزة ولا ألف. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لكم ما قد سلف ان تبتم (رَحِيمٌ) (١٤) بما أتيتم به من الطاعة بالتفضل عليكم ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في إيمانهم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله على تكثر أنواعها من العبادات البدنية المحصنة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا ، كالحج والجهاد (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) ، أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم.

روي أنه لما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون ، فنزل لتكذيبهم قوله


تعالى : (قُلْ) لهؤلاء الأعراب مبكتا لهم : (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرون الله بدينكم بقولكم : آمنا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيعلم ما في قلوب أهلهما ، ا «لواو» للحال (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦) فلا يخفى عليه شيء ، فالدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله ، فلا يقبل منكم ذلك (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدون إسلامهم من غير قتال منة عليك ، وهي النعمة ، التي لا يطلب معطيها ثوابا من أنعم إليه. (قُلْ) في جواب قولهم هذا : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا الإسلام الذي عندكم منة علي ، فالله تعالى كذبهم في قولهم : آمنا ولم يصدقهم في الإسلام فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي بسبب أن هداكم للإيمان حيث بينكم الطريق المستقيم ودعاكم إليه ، فإن إرسال الرسول بالآيات البينات هداية. وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم» ، أي في زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧) في قولكم : آمنا فالله هو المان عليكم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه أعمال قلوبكم الخفية (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) من ظاهر إسلامكم. وقرأ ابن كثير بالياء التحتية على الغيبة نظرا لقوله تعالى : (يَمُنُّونَ) والباقون بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله تعالى : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ).


سورة ق

مكية ، خمس وأربعون آية ، ثلاثمائة وخمس وتسعون

كلمة ، ألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ق). قال ابن عباس : هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه ، وهو قسم أقسم الله به.

قال الرازي : المنقول عن ابن عباس أن «ق» اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) أي العظيم ، لأن القرآن عظيم الفائدة ، أو لأنه كلام الله تعالى ، أو كثير الكرم ، لأن كل من طلب مقصوده من القرآن وجده ، فإنه مغنى كل من لاذ به ، أو ذي الشرف ، فإن من علم معانيه وعمل بما فيه شرف عند الله تعالى وعند الناس. (بَلْ عَجِبُوا) وهذا إضراب عن جواب القسم المحذوف ، أي ما آمن كفار مكة بمحمد والقرآن بل جعلوا كلا منهما عرضة للتعجب ، مع كونهما أقرب شيء إلى التلقي بالقبول ، وإنما عجبوا من ذلك لكون محمد من جنسهم لا من جنس الملائكة ، ولكون القرآن أخبر بالبعث بعد الموت وذلك قوله تعالى. (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢) أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم يخوفهم بالنار بعد البعث فقال كفار مكة منهم أبي ، وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج هذا أي كون المنذر منا ، وكون المنذر به هو البعث بعد الموت أمر يتعجب منه ، (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي أحين نموت ونصير ترابا رميما نبعث (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) أي ذلك الخبر برجوعنا إلى ما كنا عليه بعد موتنا رجع بعيد من الأوهام والإمكان. وقرأ نافع وحفص ، وحمزة والكسائي بكسر ميم «متنا». والباقون بالضم قال الله تعالى ردا لاستبعادهم (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم فلا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في الأرض ، أي إن الله تعالى عالم بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعيد ، وكما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤) أي حافظ لأجزائهم وأعمالهم بحيث لا ننسى شيئا منها ، أي فالعلم


عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين جاءهم منذر هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير تأمل وتفكر.

وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت ، أي وقت مجيء المنذر إياهم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) ، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون : إنه ساحر ، وأخرى شاعر ، وأخرى كاهن وأخرى مجنون.

قال الرازي : نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه ، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم ، (كَيْفَ بَنَيْناها) أي رفعناها بغير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) أي والحال ليس لها فتوق.

وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة ، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج ، وللإنسان مسام ، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق ، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أوتادا لها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا : الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول : الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات ، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور ، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة ، وأشياء ثابتة ، كالأنف والأذن ، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان ، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس ، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه ، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان ، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما ، أي هي تبصرة


وذكر ، أي عبرة وعظة (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي نافعا كثير الخير (فَأَنْبَتْنا بِهِ) أي بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي أشجارا كثيرة يقطف ثمارها والأصول باقية. (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٩) أي حب زرع يحصد كل عام (وَالنَّخْلَ) وهو جنس مختلط من الزرع والشجر ، لأن الثمر فاكهة وقوت بخلاف غيره فإن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه ، وأكثر الزرع قوت ، وأيضا إن من النباتات ما يبقى أصلها سنين ولا يحتاج إلى عمل عامل وما لا يبقى أصلها ويحتاج كل سنة إلى عمل عامل وما يبقى أصلها يحتاج كل سنة إلى عمل عامل. (باسِقاتٍ) أي طوالا أو حوامل. وهي حال مقدرة.

وقرئ «باصقات» بالصاد لأجل القاف (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠) أي لتلك النخل كفرى مجتمعة بعضها فوق بعض ، (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي لنرزقهم. وهذا علة لـ «أنبتنا» ، والحكمة في تعليل الإنبات بالرزق بعد تعليل الإنبات الأول بالتبصرة والتذكير إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بالنباتات من حيث الاستبصار والتذكر أقدم من تمتعه بها من حيث الرزق والحكمة في إطلاق العباد في الرزق ، وفي تقييدهم بكونهم منيبين في التبصرة والتذكير ، لأن الرزق حصل لكل أحد ، والتذكرة لا تكون إلّا لكل منيب فهو يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام ، ثم التبصرة بالخلق هو الاستدلال بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء والتذكرة بالبقاء بالرزق بعد الإعادة هو الاستدلال بأن البقاء في الدنيا يكون بالرزق وبأن القادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة وأن يبقيه فيها ، (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا جدبة لا نماء فيها أصلا (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) أي مثل خروج النبات من الأرض بالماء خروجهم من القبور يوم القيامة بالمطر الذي كمني الرجال ، ومثل تلك الحياة في النبات بالإخراج حياتهم بالبعث من القبور على ما كانوا عليه في الدنيا ، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) وهو بئر دون اليمامة ، وهم قوم شعيب. وقيل : هم قوم عيسى الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى. وقيل : هم أصحاب الأخدود (وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ). وإنما نص عليه لأنه ليس في قادة قومه كافر غيره ، لأنه استخف قومه فأطاعوه ، فجعل الاعتبار له خاصة (وَإِخْوانُ لُوطٍ) (١٣) وإنما قال هاهنا ذلك ، لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم معارف لوط (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ، أي الغيظة وهم قوم شعيب غير أهل مدين (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو كان معتمدا بقومه ، (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي فالمذكورون كانوا منكرين للحشر ، وكل واحد منهم كذب جميع الرسل ، (فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤) أي فثبت وعيدي من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم. (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي قصدنا إيجاد الإنسان وسائر الحيوان وإيجاد السموات والأرض ، فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) ، أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على اختراع الخلق من العدم ، بل هم في شك في إعادة الخلق إلى الحياة بعد


الموت لما فيه من مخالفة العادة ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما يخطر بباله ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم ، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله ، وبنفوذ قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه ؛ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) فـ «إذ» منصوب بأقرب ، أي فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط له في وقت أخذ الملكين الحافظين منه قوله وفعله ، فلهما عن اليمين مقاعد وعن الشمال مقاعد. وفي هذا إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى. ويقال : وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالملتقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت ، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور إلى يوم النشور ، والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الثبور إلى يوم النشر من القبور ، أي فهذان الملكان ينزلان إلى الإنسان وعنده ملكان كاتبان لأعماله ، قاعدن عن يمينه وشماله فوقت تلقيهما إياهما يسألانهما عن أيّ النوعين كان هذا الإنسان ، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسرورا ، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزونا. (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يرمي الإنسان المكلف به من فيه من خير أو شر ، (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) أي إلّا لديه ملك يحفظ قوله ويكتبه ، وملك يهيئ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر ، فكل من كاتب الحسنات وكاتب السيئات يقال له : رقيب عتيد.

وقرئ «ما يلفظ» على البناء للمفعول. (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي جاءت شدة الموت الذاهبة بالعقل بالموت ، كأن شدة الموت. تحضر الموت كما قرئ «وجاءت سكرة الحق بالموت» ، أو يقال : المراد من الحق هو الدين. فالمعنى وأظهرت سكرة الموت الدين إذ ما من أحد في تلك الحالة إلّا وهو يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلّا ممن سبق منه ذلك (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) أي ذلك الموت ما كنت تفر منه أيها السامع ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هي نفخة البعث فقوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) إشارة إلى الإماتة. وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إشارة إلى الإحياء والإعادة. (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) أي ذلك الزمان يوم وقوع الوعيد ، وهو العذاب الموعود ، (وَجاءَتْ) في ذلك اليوم (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) أي ملك يسوق البر إلى الجنة والفاجر إلى النار ، (وَشَهِيدٌ) (٢١) أي كاتب فإنه يشهد عليها بعملها ويقال ؛ (لَقَدْ كُنْتَ) أيها الشخص في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي اليوم فما من أحد إلّا وله غفلة ما عن الآخرة.

وقرئ «كنت» بكسر التاء باعتبار تأنيث النفس (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي أزلنا عنك غفلتك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) ، أي نافذ ، وكان من قبل كليلا.

وقرئ بكسر الكاف في المواضع الثلاثة. (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣) أي قال الشيطان الذي زيّن له العصيان : هذا العصيان هو الذي عندي معد لجهنم أو قال الملك الذي يكتب


أعماله : هذا الكتاب مكتوب عندي مهيأ للعرض. قال تعالى خطابا للسائق والشهيق : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ).

وقرأ الحسن «ألقين» بنون التوكيد خطاب لواحد من خزنة النار. (عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) (٢٥) أي ألقيا في جهنم كل كافر بالله معاند لآياته ، مانع الناس من اتباع رسول الله ومن الإنفاق على من عنده ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء ، شاك في اليوم الآخر فلا يظن أن الساعة قائمة ، فكل كافر هو موصوف بهذه الصفات. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (٢٦) وقوله تعالى : (الَّذِي) مبتدأ يشبه الشرط في العموم ، ولذا دخلت الفاء في خبره ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل ويكون «فألقياه» تأكيدا لـ «ألقيا» الأول. (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي إن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان متبرئا منه : ربنا ما أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧) ، أي عن الحق.

وقال ابن عباس : لما يقول الكافر : يا رب ، إن الملك زاد علي في الكتابة ، فكتب على ما لم أقل وما لم أفعل ، وعجلني بالكتابة حتى نسيت. قال الملك الذي يكتب عليه سيئاته : ربنا ما زدت عليه وما كتبت إلّا ما قال وعمل وما أعجلته بالكتابة ، ولكن كان في ضلال طويل لا يرجع عنه إلى الحق. (قالَ) تعالى خطابا للكافرين وقرنائهم : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي في موقف الحساب والجزاء (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٢٨) أي بالتهديد في دار الكسب في كتبي ، وعلى ألسنة رسلي حيث قلت لكم : إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي ما يغير الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم في هذا الموقف (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) ، أي وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) ـ وقرئ «يقول» بالياء ـ : (هَلِ امْتَلَأْتِ) أي قد امتلأت كما وعدتك ، وهو استفهام تقرير والمراد الإخبار عنه امتلاء جهنم (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠) ، أي قد امتلأت فليس في مكان رجل واحد لم يمتلئ ، فهو استفهام إنكار أي لما خاطب الله جهنم بصورة الاستفهام أيضا ومرادها الإقرار بامتلائها ، أو استفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى الأمر أي زدني يا رب ، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١) أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي قربا حقيقيا بحيث يشاهدونها من الموقف أو قربت تقريب حصول ، لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة. (هذا) أي الجنة (ما تُوعَدُونَ) في الدنيا.

وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة. (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي مقبل إلى الله. و «هذا» بدل كل من «المتقين». (حَفِيظٍ) (٣٢) أي حافظ لأمر الله في الخلوات ، (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) حال من المفعول ، أي غائبا عن الخاشي ، و «من» بدل من «كل» أو خبر مبتدأ مضمر ، أي هم من خشي إلخ ، والخشية من عظمة المخشي والخوف من ضعف الخاشي. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣٣) أي


بريء من الشرك يقول الله تعالى لهم : (ادْخُلُوها) أي الجنة (بِسَلامٍ) أي بسلامة من عذاب الله تعالى أو بسلام على من فيها ، فلا تتركوا حسن عادتكم (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) (٣٤) ، أي ذلك الزمان يوم خلود أهل الجنة في الجنة ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) من فنون المطالب (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥) هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات.

وقيل : إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ). (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) أي من قومك (بَطْشاً) أي قوة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي خرقوا فيها وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذر الموت ، (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦) أي هل لهم مخلص من أمر الله تعالى ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إهلاكهم (لَذِكْرى) أي لعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع سليم ، يتفكر في الأمور كما ينبغي بذكائه ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) إلى ما يتلى عليه من الوحي الدال على ما جرى عليهم ، (وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧) أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه ، فكأنه غائب (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف المخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها : يوم الأحد ، وآخرها : يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨) ، أي وما أصابنا من تعب. قيل : هذه الآية نزلت في اليهود حيث قالوا : خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها : الأحد ، وآخرها : الجمعة ، ثم استراح يوم السبت ، واستلقى على العرش. فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من حديث التعب بالاستلقاء.

قال الرازي : والأقرب والظاهر أن المراد بهذه الآية الرد على المشرك في إنكار البعث والاستدلال بخلق السموات والأرض ، وما بينهما في إثبات البعث ، وعلى هذا فالمعنى فاصبر على ما يقولون : هذا شيء عجيب أي هذا الذي يقول محمد نبعث بعد الموت شيء عجيب (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠) أي نزه الله تعالى عن الشرك ، وعن العجز الممكن الذي هو البعث ، وذكّرهم بعظمة الله تعالى في وقت اجتماعهم ، وهو قبل الطلوع ، وقبل الغروب وأول الليل أي عقب سجودك نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ولا تسأم من تكذيبهم إياك وامتناعهم من استماع وعظك. ويقال : صل حامدا لربك الصلوات الخمس والنوافل بعد المكتوبات وشغل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمران : عبادة الله وهداية الخلق ، فإذا هداهم ولم يهتدوا. قيل له : أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الله ، واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له.

وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «إدبار» بكسر الهمزة والباقون بالفتح. (وَاسْتَمِعْ) لما يوحى إليك من أحوال القيامة (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء


قيل يقف المنادي إسرافيل أو جبريل على صخرة بيت المقدس.

قال الشهاب : والأصح أن المنادي جبريل والنافخ إسرافيل. فيقول المنادي : أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمر كن أن تجتمعن لفصل القضاء (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) أي بالبعث فـ «يوم» بدل من «يوم» الأول. و «بالحق» إما حال من «الواو» ، أي يسمع الخلق كلهم نفخة البعث ملتبسين باليقين أو حال من الصيحة ، أي يسمعون النفخة الثانية ملتبسة بالخروج من القبور ، (ذلِكَ) أي يوم النداء وسماع صيحة النفخ (يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٤٢) من القبور (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد ، (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (٤٣) أي الرجوع في الآخرة للجزاء (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) أي مسرعين في خروجهم من الأرض والتشقق يكون عند الخروج منها فـ «سراعا» ، حال من الضمير في «عنهم» ، و «يوم» بدل من «يوم» الأول. أو ظرف للمصير ، أو ظرف للخروج.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر «تشقق» بتشديد الشين. والباقون بالتخفيف. وقرئ «تشقق» على البناء للمفعول. وقرئ «تنشق». (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤٤) أي ذلك الإخراج بتشقيق الأرض إحياء وجمع هين علينا للحساب والجزاء فكيف ينكره منكر؟ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة بثبوت البعث ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط أن تقسرهم على الإيمان وإنما أنت مذكر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥).

وقرأ «ورش» بإثبات الياء بعد الدال بالوصل. وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ) إشارة إلى أن سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل مأمور بالتذكير وقوله تعالى : (بِالْقُرْآنِ) إشارة إلى أنه أنزل عليه القرآن. وقوله تعالى : (وَعِيدِ) إشارة إلى اليوم الآخر ، وضمير المتكلم في قوله تعالى : (وَعِيدِ) يدل على الوحدانية ، أي إنما يقبل عظتك من يخاف عذابي في الآخرة.


سورة الذاريات

مكية ، ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة ، ألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) أي والرياح التي تذر ، والتراب وغيره ، وتهب في منازل القوم. (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) أي فالسحب الحاملة للمطر. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣) ، أي فالسفن الجارية في البحر جريا ذا يسر. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. وهذا التفسير هو ما روي عن علي رضي‌الله‌عنه.

وقال الرازي : والأقرب أن هذه الأمور الأربعة صفات أربع للرياح.

فالذاريات : هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا.

والحاملات : هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه ، التي إذا سحت جرت السيول العظيمة ، وهي أوقار أثقل من جبال.

والجاريات : هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها الماء.

والمقسمات : هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٥) أي إن وعدكم بالبعث والحساب لوعد صادق ، (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الحساب والجزاء (لَواقِعٌ) (٦) ، أي لحاصل ، فالحساب يستوفى والعقاب يوفى ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) أي ذات الحسن أو ذات الزينة ، أو ذات الطرائق ، وهي مسير الكواكب ومسلك النظار. (إِنَّكُمْ) يا معشر قريش (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (٨) ، أي منعكس وظنكم غير مجازين في اعتقادكم ، فإنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل ، فكأنه تعالى قال لنبيه : إنك صادق ولست معاندا بل هم جازمون بأنك صادق ، وإنما يظهرون الجزم بأمر لشدة عنادهم ، فانعكس الأمر عليهم (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (٩) قيل : هذا مدح للمؤمنين أي يصرف عن القول ، المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى القول المستوي.

وقيل إن هذا ذم ، أي يصرف عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن والحشر من قد صرف عن الهدى ، وهو الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ومنبه


ونبيه (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) أي لعن الكذابون الذين لا يجزمون بأمورهم أصحاب القول المختلف. وهذا دعاء عليهم.

وقرئ «قتل الخراصين» بالبناء للفاعل ، أي قتل الله المقدرين ما لا صحة له ، (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في جهالة بأمر الآخرة (ساهُونَ) (١١) أي غافلون عما أمروا به ، (يَسْئَلُونَ) أي بنو مخزوم بطريق الاستعجال استهزاء ، (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢)؟ أي متى يكون يوم الجزاء الذي نعذب فيه؟ قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) أي يكون ذلك يوم هم يعرضون على النار ويحرقون بها ، ويجوز أن يكون «يوم هم» خبرا لمبتدأ محذوف ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ويؤيده أنه قرئ بالرفع ، أي هو يوم هم إلخ. وتقول لهم الزبانية : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي حرقكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤) بالقول بطريق الاستهزاء ، أو بالفعل وهو الإصرار على العناد وإظهار الفساد. وقوله تعالى هذه الآية داخل تحت القول المضمر ، وهو إما مبتدأ أو بدل من فتنتكم ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٥) جارية في خلال الجنات (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي قابلين لما أعطاهم ربهم راضين من الجنات والعيون ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي قبل إعطاء الله الجنات لهم (مُحْسِنِينَ) (١٦) في الدنيا بالقول والفعل (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١٧) فـ «ما» زائدة. وهذا تفسير للإحسان ، أي كانوا ينامون في جزء قليل من الليل. وقيل : «ما» مصدرية و «يهجعون» بدل اشتمال من الواو ، أي كان هجوعهم من الليل قليلا ، أو فاعل لـ «قليلا» ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقيل : «ما» نافية ، و «قليلا» خبر «كان» وعلى هذا فالوقف عليه صالح كالوقف على يهجعون. والمعنى : كان عددهم قليلا لا ينامون من الليل (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١٨) أي هم مع قلة نومهم وكثرة صلاتهم يداومون على الاستغفار في الأسحار ، ويعدون أنفسهم مذنبين لوفور علمهم بالله تعالى. (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩) أي هم لا يجمعون الأموال إلّا ويجعلونها ظرفا للحق ، فيرون في أموالهم حقا للذي يسأل العطاء من الناس وللمتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنيا ، فلا يعطيه شيئا ، فهو الّذي لا يسأل ولا يعطى ، أي هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم أن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين ، (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠) ، أي وفي جهة السفل دلائل واضحة للموقنين على شؤونه تعالى ، فإن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال ، ويرى في كل شيء آيات دالة على قدرته تعالى ووحدانيته ، أما الغافل فلا يتنبّه إلّا بأمور كثيرة فيكون الكل له كآية واحدة ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي وفي أنفسكم آيات دالة لكم على وحدانية الله تعالى وقدرته ، إذ ليس في العالم شيء إلّا وفي الأنفس له نظير ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) أي ألا تنظرون الأرض وما فيها ، والأنفس وما فيها ، فلا تبصرون بعين البصيرة ، (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢) أي رزقكم ووعدكم بالجنة والنار مكتوبة مقدرة في السماء. ويقال : هذا الخطاب مع الكفار فكأنه تعالى قال : وفي الأرض آيات للموقنين كافية ، وأما أنتم


أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات تكفرون بها لحب الرئاسة ، وحطام الدنيا ، وفي السماء الأرزاق ، فلو تأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق ، فإنه واصل إليكم بكل طريق ، ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل من السماء ، فأسباب الرزق من المطر والرياح ، والحر والبرد ، وغير ذلك مما هيّأ الله تعالى به لمنافع العباد هي من جهة العلو ، (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) ، أي إن ما ذكر من أمر الرزق والوعد بالثواب ، والعقاب لحق مثل نطقكم ، فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن تشكوا في حقيقة ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي وشعبة «مثل» بالرفع. والباقون بالنصب لإضافته إلى مبني وهو «أنكم» ، و «ما» مزيدة. (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤) أي ألم يأتك حديث ضيف إبراهيم الذي أكرمهم بخدمته لهم ، وبالعجل.

قال عثمان بن محصن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل أخرجه أبو نعيم. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي إبراهيم ظرف للحديث أو لما في الضيف من معنى الفعل ، أو للمكرمين إن فسر بذلك المذكور. (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم سلاما أو نبلغك سلاما ، (قالَ) أي إبراهيم : (سَلامٌ) أي سلام عليكم أو جوابه سلام أو أمري سلام ، بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم ، لأني لا أعرفكم ، أو قولكم سلام يدل على السلامة. وقرئا مرفوعين. وقرأ حمزة والكسائي «سلما» بكسر السين وسكون اللام بالنصب. (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٢٥) قال ابراهيم ذلك في نفسه ـ كما قاله ابن عباس ـ والمعنى : هؤلاء قوم غرباء لا أعرفهم وإنما أنكرهم إبراهيم عليه‌السلام ، لأنهم ليسوا ممن عرف من الناس (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إبراهيم إلى أهله في سرعة على خفية من ضيفه (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (٢٦) ، أي فذبح فتى من أولاد البقر ، فحنذه ، فجاء به إلى أضيافه (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه عندهم ليأكلوا ، فلم يأكلوا. (قالَ) أي إبراهيم : (أَلا تَأْكُلُونَ) (٢٧) من الطعام! (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأضمر في نفسه خيفة منهم لظن أنهم لصوص ، فلما عرفوا خوف إبراهيم (قالُوا لا تَخَفْ) منا يا إبراهيم إنا رسل ربك. قيل : مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه ، فعرفهم ، وأمن منهم ، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨) أي بولد عليم في صغره حليم وهو : إسحاق أو إسماعيل كما قاله مجاهد ، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي أقبلت سارة على أهلها صائحة ، لأنها كانت في خدمتهم ، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت ، وأعرضت عنهم (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي لطمته من الحياء ، كما جرت عادة النساء عند الاستحياء ، أو التعجب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩). أي قالت سارة : أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي قالت الملائكة ، حكم ربك في الأزل مثل ذلك القول الذي أخبرناك به يا سارة فلا تعجبين منه ، فـ «كذلك» منصوب بـ «يقال»


الثانية على المصدر. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠) فيكون قوله حقا وفعله متقنا ، إذ الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه مع قصد ذلك. (قالَ) أي إبراهيم : (فَما خَطْبُكُمْ) أي فما أمركم العظيم الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فلعظمتكم لا ترسلون إلّا في عظيم ، (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١) أتى إبراهيم عليه‌السلام بما هو آداب المضيف حيث يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج : ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم ، لأن سكوته يوهم استثقالهم (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٣٢) أي كافرين من قوم لوط ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣) أي لننزل عليهم من السماء حجارة من طين ، مطبوخ كالآخر بعد ما قلبنا قراهم.

قال السدي ومقاتل : كانوا ستمائة ألف ، فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض ، فاقتلع قراهم ، وكانت أربعة ، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ، ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها ، ثم أرسل عليهم الحجارة ، فتتبعت الحجارة مسافريهم وشذاذهم ، أي المنفردين عن الجماعة (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤) أي مكتوبا على كل واحد من الحجارة اسم واحد من المجاوزين الحد في الفجور ، وذلك إنما يعلمه الله تعالى ، (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥) بلوط ، لإهلاك الكافرين فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك ، فببركة المحسن ينجو المسيء. (فَما وَجَدْنا فِيها) أي في تلك القرى (غَيْرَ بَيْتٍ) واحد (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦).

قال مجاهد : كان الناجون لوطا وابنته. وقال قتادة : كانوا أهل بيته. وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) ، أي وتركنا في قريات قوم لوط علامة للمنتفع بها قيل : هي حجارة منضودة في ديارهم ، وهي بين الشام والحجاز. وقيل : هي ماء أسود منتن خرج من أرضهم. وقيل : هي نفس القرى الخربة (وَفِي مُوسى) وهذا إما معطوف على «فيها» ، والمعنى وتركنا في قصة موسى آية ، أو يقال : وجعلنا في قصة قوم لوط عبرة للخائفين حلول العذاب فلا يقتدون بفعلهم ، وجعلنا في قصة موسى آية ، وإما معطوف على قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) وتقديره وفي موسى حديث وهذا مناسب إذ جمع الله كثيرا بين ذكر إبراهيم وذكر موسى عليهما‌السلام ، (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) أي ببرهان قاطع حاج به فرعون ، أو بمعجزة فارقة بين سحر الساحر وأمر المرسلين كاليد والعصا ، (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي فأعرض فرعون عن الإيمان به مع جنوده ، أو فتقوى فرعون بأقوى جنده ، وهو هامان ، فإنه كان وزيره. (وَقالَ) في شأن موسى : هذا (ساحِرٌ) تأتيه الجن بسحره باختياره ، (أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩) تقصده الجن من غير اختياره ، كأن فرعون نسب الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنها حصلت باختيار موسى أو بغيره ، (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) أخذ غضب وقهر ، (فَنَبَذْناهُمْ فِي


الْيَمِ) أي فأغرقناهم في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠) ، أي والحال أن فرعون آت بما يلام عليه من الطغيان ، (وَفِي عادٍ) أي وفي قوم هود حديث ، (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١) أي المهلك وقاطع النسل وهو الدبور ، (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) أي ما تترك هذه الريح شيئا مرت عليه مقصودا وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم إلّا جعلته مثل التراب ، أو مثل الشيء الهالك (وَفِي ثَمُودَ) ، أي وفي قوم صالح حديث (إِذْ قِيلَ لَهُمْ). وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف والباقون بكسرها : (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) (٤٣) أي عيشوا وانتفعوا بالزرع والأبنية ، وبلبن الناقة إلى أواخر آجالكم (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي فجاوزوا الحد في الاستكبار عن الامتثال بأمر الله تعالى ، فقتلوا ناقته ، وأرادوا قتل نبيه صالح عليه‌السلام (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي النار التي فيها الصوت الشديد التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم.

وقرأ الكسائي «الصعقة» بإسكان العين بعد الصاد بدون ألف بينهما وهي المرة من الصيحة المهلكة ، (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٤٤) أي وهم يعاينون النار التي تنزل من السماء فيها رعد شديد ، ولا يقدرون على دفعها. ويقال : أتاهم العذاب بعد إنذارهم بمجيئه بثلاثة أيام وهم ينتظرون مجيئه ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي فعجزوا عن فرار من العذاب (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥) أي ممتنعين من العذاب بأبدانهم وبغيرهم ، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفا على ، وفي ثمود على معنى ، وفي قوم نوح عبرة لكم من قبل ثمود وعاد وغيرهم ، ويقويه قراءة عبد الله ، وفي قوم نوح. والباقون بالنصب على تقدير : وأهلكنا قوم نوح من قبل ، لأن ما تقدم دل على الهلاك. وقرأ أبو السماك وابن مقسم وأبو عمرو في رواية الأصمعي بالرفع على الابتداء وخبر المبتدأ إما مقدر ، أي أهلكناهم أو ما بعده وهو قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦) أي خارجين عن الحدود في الكفر والمعاصي ، (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة ، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧) أي لقادرون ويحتمل أن يقال : إن هذا إشارة إلى المقصود الآخر وهو البعث للموتى من القبور ، كأنه تعالى يقول : بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق مثلها. وقيل : إنا لموسعون الرزق على الخلق (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) ، أي بسطناها على الماء ليستقروا عليها ، (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨) أي فنعم الفارشون نحن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي وخلقنا من كل جنس نوعين من الجوهر متضادين كالذكر والأنثى ، أو متشاكلين ، فإن كل شيء له نظير ، كالعرش والكرسي ، واللوح والقلم. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩) أي لكي تتعظوا فيما خلقه الله فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا كثرة فيه فتعبدونه ، وأنه لا يعجز عن حشر الأجساد والأرواح ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له وأن هذه المذكورة شؤونه ، فاهربوا إليه بالطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه ، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من الله تعالى (نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) ، ففي الرسالة أمور ثلاثة : المرسل ، والرسول ، والمرسل إليه. فقوله


تعالى : (لَكُمْ) إشارة إلى المرسل إليهم. وقوله تعالى : (مِنْهُ) إشارة إلى المرسل. وقوله تعالى : (نَذِيرٌ) بيان للرسول وقوله تعالى : (مُبِينٌ) إشارة إلى ما تعرف به الرسالة ، لأن كل حادث له سبب ، فلا بد للرسول من علامة يعرف بها وهي البرهان أو المعجزة ، (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بل وحدوا الله ، فإن التوحيد بين التعليل والتشريك ، فالمعطل يقول : لا إله أصلا والمشرك يقول : في الوجود آلهة. تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أثبت وجود الله. وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين. ولهذا قال الله تعالى مرتين : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١) أي لا أقول شيئا إلّا بدليل ظاهر ، فالرسول نذير من الله في المقامين عند الأمر بالطاعة ، وعند النهي عن الشرك ، وذلك ليعلم أن العمل لا ينفع إلّا مع الإيمان ، وأنه لا يفوز عند الله إلّا الجامع بينهما ، (كَذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ، وقد فسر هذا الإبهام بما بعده ، أي الشأن مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا ، أو مجنونا ، (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢) أي ما أتى الأمم الأولين رسول من رسل الله ، إلّا وقد قالوا في حقه هو ساحر أو مجنون (أَتَواصَوْا بِهِ). وهذا الاستفهام للتعجيب والتوبيخ والإنكار ، أي أتواصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه ، كأن بعضهم قال لبعض : لا تقولوا إلّا هذا القول ، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم توافقوا عليه ، أي ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣) أي لم يكن ذلك عن التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل استغنوا بالأموال ، فنسوا الله وجاوزوا الحد في العصيان ، فكذبوا رسلهم ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض يا أشرف الخلق عن جدالهم بعد ما كررت عليهم الدعوة ، فأبوا إلّا العناد (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤) أي لا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير منكم وانما هم الملومون بالإعراض والعناد ، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) ، أي ولا تدع العظة فإنها تزيد المؤمنين قوة في يقينهم (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) أي إلّا ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها كما قاله ابن عباس ، أي فإن الكافرين يقرون للعبودية ، وهو إظهار التذلل بالخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق ، واستحقاق العبادة دون غيره ، فالخلق كلهم عابدون بهذا الاعتبار ، أو إلّا لآمرهم بالعبادة كما نقل عن علي بن أبي طالب وهي التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما ، واللام لام الحكمة ، والسبب شرعا.

وقال مجاهد : «إلّا ليعرفوني» أي لأنه تعالى لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال عن ربه : «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» (١). اه وعبر بالعبادة عن المعرفة لأنها وسيلة إلى المعرفة أي أن الله خلق الخلق

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ١٢٦ ، وعلي القاري في الأسرار ـ


مستعدين لمعرفته مع كونها مطلوبة منهم ، (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم والعبيد على قسمين : قسم منهم يكون للعظمة كمماليك الملوك ، فالملك يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ، والطراف بعد التلاد وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق ولإصلاحها ، فليتفكروا في أنفسهم في كونهم مخلوقين للعبادة ، هل هم من نوع أن يطلب منهم تحصيل رزق ، أو هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت ، كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا من هذا القسم بل هم عبيد من القسم الأول ، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم لأمر الله ، (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) أي الثابت الذي لا يتزلزل ، فلا يطلب الرزق لغناه عبد من عباده فإنه يرزقهم ولا يطلب منهم أن يعينوه على الأرزاق ، لأنه تعالى قوي وقرئ أني أنا الرزاق. وقرأ ابن محيصن «هو الرازق» ، كما قرأ «وفي السماء رازقكم». وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش المتين بالجر ، (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) بفتح الذال ، أي إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد وثمود ، وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين من كفار مكة نصيبا وافرا من العذاب ، مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة ، (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل في المجيء بالعذاب ، فلا يأتي الأجل ما لم يفرغ الرزق ، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠) أي فالشدة من العذاب لكفار مكة من أجل يومهم الذي يوعدون العذاب فيه ، وهو يوم بدر كما هو الأوفق لما ، تقدم أو يوم القيامة ، وهو الأنسب بما في أول السورة الآتية.

__________________

ـ المرفوعة ٢٧٣ ، والفتني في تذكرة الموضوعات ١١. وفيه «فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا».


سورة الطور

مكية ، تسع وأربعون آية ، ثمانمائة واثنتا عشرة كلمة ، ألف وخمسمائة حرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالطُّورِ) (١) أي طور سينين ، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، واسمه زبير أقسم الله به ، (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) أي كتاب مكتوب في كاغد مبسوط ، غير مطوي ، وغير مختوم عليه ـ وهو القرآن ـ يقرؤه المؤمنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ ، أو هو التوراة المكتوبة في الألواح التي أنزلت على موسى ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) وهو إما الكعبة أو بيت معمور بالناس الطائفين به ، العاكفين ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة ، أو الضراح ، وهو في السماء بحيال الكعبة ، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبدا ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) فوق كل شيء وهو السماء. وقيل : العرش ، فإنه سقف الجنة ، (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) أي الممتلئ وهو بحر فوق السماء السابعة تحت عرش الرحمن ، يسمى بحر الحيوان ، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. ويقال : هو بحر حار يصير نارا.

روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) أي لنازل بشدة على مستحقه يوم القيامة ، (ما لَهُ) أي العذاب (مِنْ دافِعٍ) (٨) عنه (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) أي يوم تخرج السماء عن مكانها وتدور بأهلها دورانا كدوران الرحا وتموج الخلائق بعضهم في بعض من الهول فيوم معمول لواقع ، أو لدافع ، أي ليس له دافع يوم تمور السماء (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) ، أي تزول الجبال عن وجه الأرض ، وتطير في الهواء ، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ، ثم تصير كالصوف المندوف ، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (١٢) ، أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع ، فشدة عذاب إذا للمكذبين للرسل الذين هم يلهون في أباطيل ، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله. (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣)


و «يوم» إما ظرف لقول مقدر بعده ، أي يوم يدفعون إليها دفعا عنيفا يقال لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤) في الدنيا. وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا أقفيتهم ويقولون لهم توبيخا : (هذِهِ النَّارُ) إلخ. وإما بدل من يومئذ والمعنى : فويل يوم يقع العذاب للمكذبين وهو يوم يدعون أي المكذبون إلى النار والعامة على فتح الدال وتشديد العين مضمومة.

وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء ، وزيد بن علي بسكون الدال وفتح العين فيكون دعا حالا من الواو ، أي يوم ينادون مدعوين بأن يقال لهم : هلموا إلى نار جهنم فادخلوها وتقول لهم الخزنة : هذه النار ، (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥)؟ أي فهذا العذاب الذي ترونه سحر كما كنتم تقولون في الدنيا للأنبياء هم سحرة أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر ، أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل؟ فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق. (اصْلَوْها) أي ادخلوا النار وقاسوا شدائدها ، (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي فافعلوا ما شئتم من الصبر على عذاب النار وعدمه ، (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي صبركم عليه وتركه سواء عليكم في عدم النفع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦) ، فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع بحسب الوعد كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع ، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (١٧) دائم (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ، أي متلذذين بما أعطاهم ربهم.

وقرأ الحسن وغيره «فكهين» بغير ألف ، أي معجبين وقرئ «فاكهون» على أنه خبر إن أي ذوو فاكهة كثيرة بسبب إعطاء ربهم إياهم تلك ، (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١٨) عطف على ما آتاهم أي إنهم ناعمون بأمرين بما آتاهم ربهم ، وبأنه وقّاهم ، أو عطف على «في جنات». فالمعنى إن المتقين أدخلهم ربهم جنات ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم فيقول الله لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب ، وبلا داء في تناولهما وبلا خوف نفاد وبلا إثم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩) فلا من عليكم في هذا اليوم وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة لأن هذا إنجاز الوعد ، (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) حال من الضمير المستكن في خبر إن أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين على نمارق على سرر موصولة بعضها إلى بعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠) أي بنساء بيض عظام الأعين. فقوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ) عطف على خبر «إن» وهو إشارة إلى أن المزوج هو الله تعالى يتولى الطرفين يزوّج عبيده بإمائه ، ومن يكون كذلك لا يفعل إلّا ما فيه راحة العبيد والإماء فهو إشارة إلى أن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمن لا بملك النكاح ، وإنما عدي بالباء إشارة إلى أن المنفعة في التزويج هنا للرجال فقط وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم ، وأيضا إن في التزويج معنى الإلصاق ، وفي الباء كذلك ، فكأن المعنى جعلناهم ملصقين بحور من غير عقد منهم.


وقرئ «بحور عين» على إضافة الموصوف إلى صفته. وقرئ «بعيس عين». (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم ذرياتهم» بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه وبقطع الهمزة. والباقون «واتبعتهم» بإسناد الفعل إلى الذرية ، وبهمزة وصل. قرأ نافع «ذريتهم» بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. وقرأ ابن كثير والكوفيون بالإفراد فيهما وأبو عمرو بالجمع فيهما مع النصب بالكسرة ، وابن عامر بالجمع فيهما والرفع في الأولى والنصب بالكسرة في الثانية ، والذرية هنا محمولة على الآباء والأبناء معا ، أي إن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا بسبب الإيمان كما هو منقول عن ابن عباس وغيره ، والله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده الصغار ، ومن ارتد من المسلمين لا يحكم بكفر ولده ، كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه» ثم تلا هذه الآية. فالآباء داخلون في اسم الذرية ، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن كان معها أخذ علم أو عمل كانت أجدر ، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء مع من أحب» (١). (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصنا شيئا من درجة الأعلى لأجل إلحاق الأدنى به وهذا لإزالة وهم المتوهم أن ثواب الأعلى يوزع على من دونه. وقرأ ابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام. والباقون بفتحها. وقرأ ابن هرمز «آلتناهم» بمد الهمزة. وقرئ «لتناهم» بكسر اللام و «لتناهم» بالفتح (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١) أي كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله فإن عمل صالحا فك نفسه ، وإلا أهلكها فالعمل بمنزلة الدين الثابت حيث إن العبد مطالب بذكر العمل خيرا أو شرا ويقال : كل امرئ بما كسب دائم فإن أحسن ففي الجنة مؤبدا ، وإن أساء ففي النار مخلدا ، (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢٢) أي زدناهم على ما كان لهم وقتا بعد وقت بأنواع الفواكه ، وأنواع اللحمان مما يشتهون فكل واحد من أهل الجنة يعطى في الجنة ما يشتهي وإن لم يطلبه (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطون في الجنة خمرا هم وجلساؤهم بكمال الاشتياق ، أو بتجاذب بعضهم إناء الخمر من بعض في شربها تجاذب ملاعبة لا تجاذب مخاصمة ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه ، (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣) أي لا كلمة لغو ولا إثم بسبب شربها ، أي بسبب زوال العقل ونهوض الغضب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالبناء على الفتح في الاسمين. والباقون بالرفع. (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٥١٢٧) ، ومسلم (٢٠٣٤) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٢ : ٥٩).


بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ) وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور ، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال : (غِلْمانٌ لَهُمْ) لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا ، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، (كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وشدة صفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤) مخزون مصون من الحر والبرد ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الزيارة (يَتَساءَلُونَ) (٢٥) ، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا ، وعن نعيم الجنة (قالُوا) أي قال كل منهم : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي قبل دخول الجنة (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦) ، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى : (فِي أَهْلِنا) متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا ، أو بيان لـ «قبل» ، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة ودخول الجنة ، (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (٢٧) أي عذاب النار.

وقال ثعلب السموم : شدة الحر ، أو شدة البرد في النهار (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا ، (الرَّحِيمُ) (٢٨) بعباده المؤمنين.

وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل ، (فَذَكِّرْ) أي عظ يا أشرف الخلق (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بالنبوة ورجاحة العقل ، (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك : أنت كاهن تخبر بما في الغد ، ومجنون. (أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون أي كفار مكة هو (شاعِرٌ) يتقول الكلام من تلقاء نفسه (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت ، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه ، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا : نتربص موته فإن أباه مات شابا ، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وجملة «نتربص» نعت لـ «شاعر». (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار : (تَرَبَّصُوا) أي انتظروا موتي ـ وهذا أمر تهديد ـ (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) أي فإني أتربص هلاككم ، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير ، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي ، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول : هو كاهن مجنون شاعر ، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور ، والمجنون مختل فكره ، والشاعر ذو كلام موزون متسق ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون : أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم». (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي بل يقولون :


كذب محمد في القرآن من عند نفسه وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون ، (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) بالقرآن استكبارا (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي فليجيئوا بكلام مثل القرآن في البلاغة ، وصحة المعاني ، والإخبار بالمغيبات من تلقاء أنفسهم ، فإنهم مثل محمد في البشرية والعربية ، (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) فيما قالوا فإن صدقهم في ذلك يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثله ، ففيهم الشعراء البلغاء ، والكهنة الأذكياء ، ومن يرتجل القصائد ، ويقص القصص. (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ)؟! أي أوجدوا من غير خالق ، فلذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد ، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول.

وقال ابن كيسان : أم خلقوا لغير شيء من عبادة وجزاء ، فخلقوا عبثا ، وتركوا سدى فلا إعادة. وقيل : أي من غير أب وأم ، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يقيم الله عليهم حجة ، أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟! (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) لأنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله ولا يعبدون الله ، وهم لا يقولون ذلك ، فإذا أقروا أن تمّ خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة ومن الإقرار بأنه قادر على البعث! (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) فـ «أم» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، أي ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأن الله واحد ، فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا : الله وهم غير موقنين بما قالوا ، وإلّا لما أعرضوا عن عبادته ، أي لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) ، و «أم» استفهام إنكاري أي أعندهم خزائن رحمة الله حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أم عندهم خزائن علم الله بالغيب حتى يختاروا للنبوة من شاءوا ، أم هم الغالبون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا ، أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا أن محمد ليس برسول ، وأن كلامه ليس بمرسل ، أي أنتم لستم بخزنة الله ، ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها ، ولا أنتم اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) أي إذا ادعوا الاستماع من الملائكة فليأت مدعي الاستماع بحجة واضحة تصدق دعواه ، (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩) أي أتزعمون أن لله تعالى البنات ولكم البنون خاصة لتكونوا أقوى منه تعالى ، فتكذبوا رسوله وتردوا قوله من غير حجة ، فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم! (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أجر الدنيا من مال ، أو غيره على تبليغ الرسالة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٠) أي فهم لذلك الأجر من التزام غرامه محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك! (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) أي هل عندهم علم ما غاب عنهم فهم يكتبون ما غاب عنهم حتى يمكنهم منازعة محمد ، أي هل صاروا في درجة محمد حتى استغنوا عنه وأعرضوا (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ


كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٤٢)! والمعنى : أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا ، فتثقلهم عن الاتباع ، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك ، فيعرضون عنك أم ليس لهم شيئا من هذين الأمرين بل يريدون العذاب بغتة من حيث لا يشعرون ، فالذين كفروا معذبون. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم من عذاب الله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣) أي عن الذي يشركون من الولد ومن مثل الآلهة ، لأنهم كانوا يقولون : البنات لله ، وكانوا يقولون : هو تعالى مثل ما يعبدونه ، (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤) أي لو عذبنا كفار مكة بنزول قطع من السماء عليهم لم ينتهوا عن طغيانهم ، ولم يرجعوا عن عنادهم ولقالوا في هذا النازل إغاظة لمحمد : هذا سحاب تراكب بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه قطعة نازلة للعذاب ، (فَذَرْهُمْ) أي إذا تبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فاتركهم على شر أحوالهم ، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥) أي يهلكون بالقتل يوم بدر.

وقرئ «يلقوا». وقرأ ابن عامر وعاصم «يصعقون» بضم الياء مبنيا للمفعول ، وباقي السبعة بفتحها مبينا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي يوم لا يدفع عنهم مكرهم ـ في مناصبتهم يوم بدر ـ شيئا من الهلاك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦) أي ولا يمنعون من القتل والأسر النازلين بهم في ذلك اليوم ، (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي إن لهؤلاء الظلمة بعبادتهم الأوثان (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي قبل ما لاقوه من القتل يوم بدر ، وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين. وقرئ دون ذلك قريبا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧) أن العذاب يلاقوه. (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمنظر منا وفي حفظنا ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨) من موضعك أي حين تعزم على القيام وقد ورد في الخبر : «إن من قال سبحان الله من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللغط واللغو في ذلك المجلس». (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) أي وقت الصبح حين يذهب ضياؤها بضوء الشمس.


سورة النجم

مكية ، اثنتان وستون آية ، ثلاثمائة وستون كلمة ، ألف وأربعمائة وخمسة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) أي والقرآن إذا نزل. وهذا استدلال بمعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدالة على صدقه ، أو والنجوم التي هي ثابتة للاهتداء إذا سقطت إلى أسفل ، وفائدة تقييد القسم بالنجم بوقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء لا يهتدي به الساري ، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال ، (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) أي ما عدل سيدكم يا معشر قريش عن الطريق المستقيم ، أو ما جن مصاحبكم محمد ، (وَما غَوى) (٢) أي وما أعتقد باطلا قط بل هو رشيد مرشد ، دال على الله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) أي ولم يتكلم بالقرآن عن هوى نفسه ، وعن رأيه أصلا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) أي ما القرآن إلّا وحي من الله يوحى أي يجدد إيحاؤه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتا بعد وقت. ويقال في معنى هذه الآية : ما جن محمد وما مسه الجن ، فليس بكاهن ، وليس بينه وبين الغواية تعلق ، فليس بشاعر ، وما قوله إلّا وحي ، وليس بقول كاهن ولا شاعر ، (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) أي علم النبي الوحي ملك شديد القوة بالبدن ، وهو جبريل عليه‌السلام.

روي أنه جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا محمد ما بعثت إلى نبي قط أحب إلي منك ، ألا أعلمك أسماء الله عزوجل هن أحب أسمائه أن يدعى بهن قل : يا نور السموات والأرض ، يا جبار السموات والأرض ، يا عماد السموات والأرض ، يا بديع السموات والأرض ، يا قيام السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا صريخ المستصرخين ، يا غياث المستغيثين ، يا منتهى العابدين ، ويا أرحم الراحمين ، فيزول بك كل حاجة». (ذُو مِرَّةٍ) أي قوة في العقل ، (فَاسْتَوى) (٦) و «الفاء» للسببية أي فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها ، فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحراء فخرّ مغشيا عليه دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي وذلك أن رسول الله أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها ، فإن التشكل بشكله الذي فطر عليه يتسبب من شدة قوته وقدرته على الخوارق ، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) أي والحال أن جبريل في الجانب الشرقي فسد المشرق لعظمته.


وقال الرازي : والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين ، (ثُمَّ دَنا) أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها ، وقرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتَدَلَّى) (٨) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقال : دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض ، فإن التدلي هو التعلق من الهواء ، (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين ، بل أقرب من ذلك بنصف قوس ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠) ، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول ، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه. (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل ، ومن الله تعالى ليلة المعراج ، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له ، ولم يقل : إنه جني أو شيطان ، ويحتمل أن يقال : لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة ، وليس على هيئة ، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء ، والهواء لا يرى ، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جائزة عند من له قلب ، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره.

وقرأ هشام «ما كذب» بالتشديد ، أي إن ما رآه محمد بعينه صدقه بقلبه ، أي ما قال فؤاده لما رآه بصره لم أعرفك ، و «ما» مفعول به موصولة ، والعائد محذوف ، وكذا قيل في قراءة التخفيف. وقيل فيه على إسقاط الخافض أي فيما رآه (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (١٢) أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما قد رأى وقرأ الأخوان «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم ، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح.

قال مقاتل : وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها ، وهي شجرة طوبى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) ، و «إذ» ظرف لـ «رآه» ، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب ، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور ، أو من أنوار الله تعالى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها ، وظهرت الأنوار ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره ، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى ، أو ما


محمد عن الأنوار وما طلب شيئا غيرها ، بل اشتغل بمطالعتها مع أن في ذلك العالم من العجائب ما يحير الناظر ، (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) أي والله لقد رأى من عجائب الملك والملكوت ما لا تحيط به العبارة (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) أي ومناة المتأخرة الذليلة ، أي الوضيعة المقدار. وذلك لأن اللات كان وثنا على صورة آدمي وهو لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة والعزى صورتها صورة شجرة سمرة لغطفان ، ومناة صورتها صورة صخرة كانت لخزاعة ولهذيل بقديد. فالآدمي أشرف من النبات ، وهو أشرف من الجماد وهو متأخر ، فالمناة في أخريات المراتب. والمعنى : لما ذكر الله تعالى عظمة آياته في ملكوته وهي أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته ، ويهلك المدائن بقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته. قال : أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها شركاء الله مع ما تقدم ويقال : أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى الأخرى ، ومناة الثالثة في الدنيا تنفعكم في الآخرة. (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) أي كيف جعلتم لله تعالى بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون ، والله كامل العظمة ، فكيف جعلتموه ناقصا ونسبتم إلى أنفسكم الكامل ، فنسبتكم البنات إلى الله تعالى قسمة جائزة على طريقتكم حيث نسبتم إلى أنفسكم الأعظم من الثقلين ، وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى ، وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم وإلا نقص للحقير ، فإذا أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي هي لكم ، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي ما هذه الأصنام المذكورات إلّا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم فإنكم قلتم : إنها آلهة وليست بآلهة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما أنزل الله بهذه الأسماء من حجة فوضع الاسم لا يجوز إلّا بدليل نقلي أو عقلي ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ما يتبع الكافرون في تسمية الأصنام آلهة إلا توهم أن ما هم عليه حق ، وإلّا ما دونه مما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) أي البيان بالكتاب المنزل والمرسل أن الأصنام ليست بآلهة ، وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٢٤) أي الإنسان ما اشتهاه من شفاعة الأصنام وغيرها أو هل له أن يعبد بالاشتهاء فيعبد ما لا يستحق العبادة! (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) أي إن اختار الإنسان معبودا على ما اشتهاه فيعاقبه على فعله في الدنيا وإلّا فيعاقبه في الآخرة (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦) أي وكثير من الملائكة مع علو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة فيمن يشاء ويرضى ، وهو العابد الشاكر ، لا المعاند الكافر ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فكيف تقبل شفاعة الجمادات ، (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بأحوال يوم القيامة (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٢٧) ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما بين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلّا بالإذن قالوا : نحن لا نعبد


الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد الغائب ، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم. الشأن فقال تعالى ردا عليهم : كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الإناث حيث قلتم : الملائكة بنات الله. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) وهذه الجملة حال من فاعل «ليسمون» ، أي ليسمون الملائكة بالبنات والحال أنه لا علم لهم بما كانوا يقولون أصلا. وقرئ «بها» أي بالتسمية ، أو بالملائكة. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في أن الملائكة إناث ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) أي لا ينفع شيئا من العلم بحقيقة الشيء والظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين ، ومدح من حاله لا يعلم ، فالظن فيه معتبر ، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب ، وأما في الاعتقاديات فلا يغني الظن شيئا من الحق ، فإن المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير ، ففي الحق ينبغي أن يكون جازما ، والظان لا يكون جازما ، ويحتمل أن المراد من الحق هو الله تعالى. والمعنى : وأن الظن لا يفيد شيئا من الله تعالى ، فإن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) أي اترك مجادلة من أعرض عن القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكور لأمور الآخرة قاصرا نظره إلى الدنيا. وهذه الآية غير منسوخة ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة ، والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بالجواب عنها بالمجادلة ، ثم لما لم ينفع أمر بالإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبرهان ، أي وأمر بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقاتلة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي ذلك الظن غاية ما يبلغون به من الإدراك المتظلم للظن الفاسد ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) أي إن الله أعلم بمن لم يرجع إلى الهدى أصلا ، وبمن يقبل الاهتداء في بعض الأحوال ، وقد علم الله أنه لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال ، فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا والوقف هنا تام عند أبي حاتم (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) أي بعقاب ما عملوا من الضلال (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي اهتدوا (بِالْحُسْنَى) (٣١) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ) متعلق بقوله : (ضَلَ) و (اهْتَدى)» كأنه تعالى قال : هو يعلم بمن ضلّ واهتدى ليجزيهما ، أو متعلق بقوله تعالى فأعرض ، أي أعرض عنهم ليقع الجزاء (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ). وهذا الموصول بدل من الموصول الثاني ، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» (وَالْفَواحِشَ).

قيل : الكبائر : ما وعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا ، والفواحش : ما أوجب الله عليه حدا في الدنيا (إِلَّا اللَّمَمَ) وهو ما يقصده المؤمن ولا يحققه ، أو ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال ، (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، وهذا تنبيه على أن إخراج اللحم عن


حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب ، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء ، ثم يصير دما ، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد (اتَّقى) (٣٢) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك ، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز ، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم ، فإن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء. قيل : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا : فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال : أخشى عذاب الله. فقال له : لا تخف وأعطني كذا ، وأنا أتحمل عنك العذاب ، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر ، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره ، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه ، أو أخيه أو عمه ، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر ، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ) أي عمله من خير وشر (سَوْفَ يُرى) (٤٠) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) أي المرجع بعد الموت ، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور ، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما ، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق ، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء ، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن ، أو خاص وهو


النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي هذا تسلية لقلبه كأنه تعالى قال : لا تحزن فإن المنتهى إلى الله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣) فكل ما يعمله الإنسان بخلقه حتى الضحك والبكاء.

قيل : إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء ، والقرد يضحك ولا يبكي ، والإبل تبكي ولا تضحك ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٤٤) أي خلق الموت والحياة فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) أي تهراق في رحم الأنثى ، (وَأَنَّ عَلَيْهِ) تعالى (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) أي نفخ الروح كما قال تعالى هنالك : (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي نفخ الروح بعد خلق النطفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) أي أغنى الناس بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، (وَأَقْنى) (٤٨) أي وأعطاه الأموال بالكسب بعد كبره ، فكل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء ، وكل ما زاد عليه فهو إقناء (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩) وهي نجم مضيء وتسمى الشعرى العبور وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية ، وكانت خزاعة تعبدها وتعتقد تأثيرها في العالم ، وهي المرادة في هذه الآية دون الشعرى الشامية المسماة بالشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع. وهذا إشارة إلى فساد قول قوم ، فإن بعض الناس قال : إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر ، وبعضهم قال : إن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم ، فردهم الله تعالى بقوله هو تعالى محرك النجوم ورب معبودهم الشعرى العبور ، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) وهي قوم هود. وسميت أولى لتقدمها في الزمان على عاد الثانية ، التي هي ثمود ، قوم صالح.

وقرأ نافع وأبو عمرو بإسقاط نون التنوين لالتقاء الساكنين ، وبنقل حركة همزة أولى إلى اللام. وقرأ قالون كذلك لكن بقلب الواو همزة ساكنة. وقرأ الباقون بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة ، (وَثَمُودَ) عطف على عاد. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدال في الوصل وبسكون الدال في الوقف. والباقون بالتنوين في الوصل وبالوقف على الألف (فَما أَبْقى) (٥١) أي فما أبقى من عاد وثمود أحدا ، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي أهلكهم من قبل الفريقين (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) من الفريقين حيث يبتدئون بالكفر ويتجاوزون في المعاصي فإنهم كانوا يؤذون نوحا عليه‌السلام ، ويضربونه حتى يغشى عليه ، وينفرون الناس عنه ، ويحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، والبادئ أظلم و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل عمل بها» (١) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٣) أي أسقط قريات لوط ، وسدوم ، وصادوم ، وعمورا ، وصوائم إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبريل عليه‌السلام بأمره

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (٣ : ١٠٩).


جبريل بذلك. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) أي فكساها الله تعالى أمرا عظيما من فنون العذاب ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) أي تتشكك في أي أنعم ربك أيها الإنسان أي لما عد الله تعالى من أنواع النعم وهو الخلق من النطفة ، ونفخ الروح فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافرين أهلكهم ، قال : فبأي آلاء ربك تتمارى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل ، (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) أي هذا النبي رسول كالرسل قبله يرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم ، والله تعالى لما بيّن الوحدانية بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أشار إلى اثبات رسالة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) إلخ ، ثم أشار إلى القيامة بقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) أي قربت الساعة التي يزداد كل يوم قربها ، فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب ، (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨) أي ليس للساعة نفس قادرة على إظهار وقتها إلّا الله تعالى ، (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩) أي أتعجبون إنكارا من هذا القرآن أو من حديث حشر الأجساد بعد الفساد ، (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء من القرآن ، أو أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قريب ، (وَلا تَبْكُونَ) (٦٠) مما في القرآن من الزجر والتخويف وكان حالقكم أن تبكوا منه ، (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) أي معرضون أو مستكبرون ، (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢) أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزل القرآن ، واعبدوه ولا تعبدوا غيره ، لأن عبادة غيره تعالى ليست بعبادة.


سورة القمر

وتسمى سورة اقتربت ، مكية ، خمس وخمسون آية ، ثلاثمائة

واثنتان وأربعون كلمة ، ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنا قيام الساعة بخروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) نصفين من علامات قرب الساعة.

روى أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي عظيمة (يُعْرِضُوا) عن الإيمان بها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) أي هذا سحر دائم يأتي به محمد على مر الزمان ، أو قوي لا يمكن إزالته. وقيل : أي مار يزول ولا يبقى. وقيل : أي شديد المرارة فلا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ المر. وقرئ «وإن يروا» على البناء للمفعول ، (وَكَذَّبُوا) بالآية بكونها دالة على صدق الرسول ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي فقالوا : إنه سحر القمر أو سحر أعيننا ، (وَكُلُّ أَمْرٍ) من الخير والشر (مُسْتَقِرٌّ) (٣) فكل عامل يرى في الآخرة أثر عمله. وقرئ «مستقر» بالجر صفة لـ «أمر» فـ «كل» عطف على الساعة ، أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر ، (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) أي وبالله لقد جاءهم في القرآن كائنا من أخبار الأمم الماضية المهلكين ما فيه ازدجار. وقرئ «مزجر» بقلب تاء الافتعال زايا وإدغامها فيه. وقرأ زيد بن علي «مزجر» بصيغة اسم الفاعل ذو زجر. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي لا خلل فيها بدل من «ما». وقرئ بالنصب حالا منها (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥) و «ما» إما نافية. والمعنى : إن الرسل لم يبعثوا ليلجأوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وإما استفهامية ، والمعنى : إنك يا أشرف الرسل أتيت بما عليك من الدعوة وإظهار الآية عليها ، فكذبوك ، فأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم إنذارك فهذه حكمة بالغة ، فأيّ شيء من الأمور النافعة غير هذا تحصله فلم يبق عليك شيء آخر ، (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي لا تناظرهم بالكلام ـ وهذه الآية غير منسوخة ـ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) و «يوم» منصوب بـ «يخرجون» ، و «خشعا» حال من فاعل «يخرجون» ، وكذا جملة «كأنهم» إلخ وقرأ


ابن كثير «نكر» بسكون الكاف. والباقون بالضم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «خاشعا» بفتح الخاء ، وبألف بعدها والباقون بضم الخاء وفتح الشين مشددة. وقرئ «خاشعة» بالتأنيث على الأصل وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء ، والخبر والجملة حال ، والمعنى : يخرج الناس من القبور حال كونهم مثل جراد منتشر في كثرتهم واجتماع بعضهم على بعض يوم يدعو إسرافيل أو جبريل إلى شيء فظيع تنكره النفوس ، وهو هول القيامة أذلة أبصارهم من شدة الهول ، (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين إليه مادي أعناقهم إليه (يَقُولُ الْكافِرُونَ) في ذلك اليوم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨) أي صعب شديد ، ثم شرع في ذكر بعض الأنباء الموجبة للازدجار فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل أهل مكة ، (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩) عطف على «قالوا» ، أي قالوا لنوح : هو مجنون وزجروه عن مقالته بأنواع الأذية ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) أي بأني غلبني قومي بالقوة فانتقم لي منهم ، والعامة على فتح همزة «أني». وقرأ الأعمش وابن أبي إسحاق بالكسر ، أي فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني بحكم البشرية ، وقد أمرتني بالدعاء عليهم ، فأهلكهم (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) ، أي بمطر منصب من السماء على الأرض أربعين يوما. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء لكثرة الأبواب ، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي جعلنا الأرض كلها ، كأنها عيون منفجرة ، (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢) أي فارماء الأرض بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء على حال قد قدّرها الله تعالى كما شاء. وقرئ «الماءان» بالتثنية وتحقيق الهمزة «والماوان» بقلب الهمزة واوا ، أي ماء السماء وماء الأرض. (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) أي وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير ، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تسير السفينة محفوظة بحفظنا ، (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤) أي حملناه جزاء لنوح على صبره على كفرانهم ، لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة على أمته. وقرئ «جزاء» بكسر الجيم ، أي مجازاة ، وقرئ «كفر» بالبناء على الفاعل ، أي أغرقنا الكفار جزاء لهم ، (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة آية يعتبر بها من يقف على خبرها ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) أي فهل من معتبر يعتبر بما صنع الله بقوم نوح موجود فيترك المعصية ويختار الطاعة ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) الذي عذبتهم به ، (وَنُذُرِ) (١٦) أي وكيف كان عاقبة إنذاري؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك ، بأن نزلناه على لغتهم للاتعاظ ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) أي فهل من طالب علم فيعان عليه؟ (كَذَّبَتْ عادٌ) هودا فاسمعوا ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٨) أي إنذاراتي لهم ، (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي باردة وهو ريح الدبور (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (١٩) ، أي إلى نفاذ المراد ، وهو من يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب شمس الأربعاء آخره ، ومستمر ، وصف ليوم مضاف إلى «نحس» بسكون الحاء. وقرئ بتنوين «يوم» وكسر حاء «نحس» ، ومن جعل نحسا اسم معنى أو مصدرا كان مستمر وصفا لنحس أي مستمر النحوسة. (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ


أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) أي تقلع قوم هود من أماكنهم فيلقون أمواتا وهم جثث عظام طوال كأنهم نخل قطعت رؤوسه منقلع عن مغارسه ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) أي انظر كيف كان عذابي عليهم وكيف كان حال إنذاراتي ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هيأناه للتذكر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) أي فهل من متعظ يتعظ بما صنع بقوم هود فيترك المعصية؟ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) قوم صالح (بِالنُّذُرِ) (٢٣) أي بالإنذارات ، (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢٤) أي فقالوا : أنتبع آدميا مثلنا واحدا من آحادنا لا من أشرافنا في دينه وأمره إنا وقتئذ لفي خطأ بيّن وتعب ، (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي أألقي الوحي على صالح وهل خصّ بالنبوة منفردا من بيننا وفينا من هو أكثر مالا وأحسن حالا ، (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) في قوله ، (أَشِرٌ) (٢٥) أي متكبر مرح ، (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦).

وقرأ ابن عامر وحمزة بتاء الخطاب وهو حكاية عن قول صالح عليه‌السلام لقومه ، أي ستعلمون وقت نزول العذاب بكم في الدنيا عن قريب من شديد الكذب المتكبر. والباقون بياء الغيبة وهو حكاية لقوله تعالى لصالح عليه‌السلام وعدا له ووعيدا لقومه أي سيعلمون عن قريب وهو وقت نزول العذاب بهم في الدنيا من الذي حمله كذبه وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه؟ وقرئ «الأشر» أي الأبلغ في الشرار فقال الله لصالح : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي إنا مخرجو الناقة من الجبل المنبسط على الأرض حسب ما سألوا (فِتْنَةً لَهُمْ) مفعول لأجله ، أي امتحانا لهم ليتميز حال من يثاب ممن يعذب فإخراج الناقة من الصخرة كان معجزة لصالح ، لأنها تصديق له وبعده يتميز المصدق عن المكذب وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ، (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظرهم بالعذاب وتبصر ما يصنعون ، (وَاصْطَبِرْ) (٢٧) على أذيتهم ، أي فإن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ، (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي أخبرهم بأن ماء بئرهم مقسوم بين قوم صالح والناقة فيوم لهم ويوم لها (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (٢٨) أي كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته ، فبقوا على ذلك مدة ، ثم سئموا من ضيق الماء والمرعى عليهم ، وعلى مواشيهم فأجمعوا على قتلها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف ، ويلقب بالأجهر بعد ما رماها مصدع بن دهر بسهم ، (فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢٩) أي تناول قدار السيف فقتل الناقة به موافقة لهم ، (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٠) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) صيحة جبريل بالعذاب بعد ثلاثة أيام من قتلهم الناقة ، لأنه كان في يوم الثلاثاء ، ونزول العذاب بالصيحة بهم كان يوم السبت ، (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١) بكسر الظاء ، أي فصاروا كالشيء اليابس من الحطب والشوك لمن يعمل الحظيرة في إهلاكهم. وقرئ بفتح الظاء أي فصاروا كالشيء الذي داسته الغنم في الحظيرة ، وهي زريبة الغنم تتخذ من دقاق الشجر وضعيف النبات تقيها عن الحر أو البرد ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هوّنا القرآن للعظة والحفظ والقراءة.


قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا ، أي بغير نظر إلّا القرآن. وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ولم يكونوا يقرءون التوراة إلّا نظرا غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢) أي فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (٣٣) أي بالأمور المخوفة لهم على لسانه (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ، أي عذابا بحجارة من سجيل ، عليها علامة كل واحد ، فالملائكة حركوا الريح ، فالريح رمت الحجارة عليهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي إلّا لوطا وابنتيه زاعورا ورينا. (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٣٤) أي في آخر الليل. وقيل عند السدس الأخير من الليل (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) مفعول له ، أي كان ذلك الإنجاء فضلا منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا منا (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥) ، أي كما أنعمنا على من آمن بالله تعالى وأطاعه بالإنجاء ننعم عليهم يوم الحساب. وقيل : أي مثل ذلك الإنجاء ننجي من آمن بالله من عذاب الدنيا ، ولا نهلكه بالهلاك العام ، وعلى هذا فهو وعد لأمة محمد المؤمنين (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي ولقد خوفهم لوط عذابنا الأكبر يوم القيامة لئلا يكون مقصرا في التبليغ ، (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٣٦) أي شكوا في الإنذارات وكذبوا لوطا ، (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا من لوط المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة التي في صورة شبان مرد للفاحشة ، (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أي أذهبنا صورة أعينهم بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء.

روي أنهم لما دخلوا داره عليه‌السلام عنوة صفقهم جبريل عليه‌السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه‌السلام. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٧) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة : ذوقوا عذابي الذي هو طمس العين وثمرة إنذاري.

وقال القرطبي : والمراد من هذا الأمر خبر ، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه‌السلام ، (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٣٨) أي ولقد أتاهم وقت الصبح أول جزء منه عذاب دائم ، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم ، فكان ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم ، أي فقلع جبريل بلادهم فرفعها ، ثم قلبها وأمطر الله عليها حجارة من النار ، وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان.

وقرئ «بكرة» غير منون على أن المراد بها أول نهار مخصوص ، (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٩) أي فقلنا لهم : ذوقوا عذابي وفائدة تخويفي وهي فنون هذا العذاب ، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي هوّنا القرآن للحفظ والكتابة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠)؟ أي فهل متعظ يتعظ بما صنع بقوم لوط فيترك المعصية؟ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (٤١) أي ولقد جاء فرعون وهامان وقارون الإنذار على لسان موسى وهارون ، (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) السمعية والعقلية ، (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢) أي أخذ غالب غير عاجز (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي الذين يصرون على الكفر منكم أهل مكة خير في


القوة فلا تهلكون أم الذين أصروا عليه من أولئكم المذكورين ، قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون ، وآله وهم من يؤول إليهم خيره وشره؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣)! أي هل حصل لكم براءة من غوائل الكفر والمعاصي في الكتب السماوية تأمنون العذاب بسببها فلذلك تصرون على ما أنتم عليه؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤)؟ أي بل أيقولون : نحن كثير منتقمون على من خالفنا ، قويون على من عادانا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي يهزم جمعهم بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه ، (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥).

قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول لما نزلت : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ويقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر». فعرفت تأويلها اه. وقرئ «سيهزم الجمع» بالبناء للفاعل ، أي سيهزم الله تعالى الجمع (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي ليس ما وقع لهم في بدر تمام عقوبتهم ، بل السلعة موعد أصل عذابهم ، وهذا من مقدماته (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦) ، والساعة أشد من أنواع عذاب الدنيا وآلم وأدوم ، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) من الأولين والآخرين (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤٧) في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (٤٨) أي يوم يجرون على وجوههم إلى النار يقال لهم : قاسوا حر جهنم وألمها ، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) ، أي إنا خلقنا كل شيء ملتبسا بقدر معين ، والمعنى : أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى ، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠) أي وما أمرنا في كل شيء أردنا إيجاده إلّا كلمة واحدة وهي : كن كطرف البصر في السرعة. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥١) أي متعظ يتعظ بما صنع بهم فيترك المعصية؟ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) أي وكل شيء فعله الأشياع في الشرك بالله من المعاصي والجفاء بالأنبياء مكتوب عليهم في ديوان الحفظة ، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال (مُسْتَطَرٌ) (٥٣) أي مكتوب بتفاصيله في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من الكفر والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) أي رياض واسعة عظيمة الشأن ، (وَنَهَرٍ) (٥٤) أي عند أنهار.

وقرئ «نهر» بضم النون والهاء (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في مكان مرضي ، أو في مجلس لا كذب فيه. وقرئ «مقاعد». (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) أي مقربين عند من له ملك عظيم قادر لا يعجزه شيء ولا شيء إلّا وهو تحت ملكوته ، والقربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد قدرة كان المتقرب منه أشد التذاذا. والمراد من القرب : قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان.


سورة الرحمن

وتسمى عروس القرآن مكية ، سبع وسبعون آية ، ثلاثمائة

وإحدى وخمسون كلمة ، ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) أي علم الإنسان القرآن ، فإن الله بعث جبريل بالقرآن إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث محمدا إلى أمته. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (٣) أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة. (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) أي النطق. فيمتاز الإنسان به عن غيره من سائر الحيوانات وألهمه الله أسماء كل شيء وكل دابة تكون على وجه الأرض. (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) أي الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر في بروجها بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول ، وتعلم السنون والأوقات. (وَالنَّجْمُ) وهو كل نبت لا يقوم على الساق. (وَالشَّجَرُ) وهو ما يقوم على الساق (يَسْجُدانِ) (٦) أي يخضعان الله تعالى ، ويخرجان من الأرض ، ويثبتان عليها بإذن الله تعالى فشبه الثبات في المكان بالسجود ، لأن الساجد يثبت. (وَالسَّماءَ رَفَعَها) فوق كل شيء (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) ، أي وضع آلة الوزن في الأرض وبين العدل (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٨) ، أي لئلا تتجاوزوا الإنصاف في الوزن وفي إعطاء المستحقين حقوقهم.

وقرئ «لا تطغوا» بدون «أن» على إرادة القول ، (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩) أي ولا تنقصوا الموزون ، فالطغيان في الوزن أخذ الزائد والإخسار إعطاء الناقص والقسط المتوسط بين الطرفين ، (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) (١٠) أي بسطها على الماء لمنافع الإنس والجن (فِيها) أي الأرض ، (فاكِهَةٌ) أي أنواع كثيرة مما تطيب به النفس (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) ، وهي أوعية الثمر ، وهي جمع «كم» بكسر الكاف ، أو هي كل ما يغطى من ليف وسعف وكفرى ، فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه ، وهي جمع «كم» بضم الكاف ، (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) (١٢).

قرأ ابن عامر بنصب الثلاثة بخلق مضمرا ، أي وخلق الحبوب كالحنطة والأرز ذا الأوراق


وخلق الريحان المعروف الذي بزره ينفع في الأدوية ، أو المشمومات. وقرأ حمزة والكسائي برفع «الحب» و «ذو» عطفا على فاكهة وجر «الريحان» عطفا على العصف ، أي وفيها الحب ذو الساق وذو الأوراق. وقرأ الباقون برفع الثلاثة عطفا على فاكهة ، أي وفيها الحب ذو الأوراق الخارجة من جوانب الساق ، كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها وفيها مشمومات ، أو ريحان معروف ، ويجوز أن يراد عند رفع الريحان ، ونصبه حذف المضاف وإقامة المضاف ، إليه مقامه ، والمعنى : وذو السنبلة والثمر أو وخلق ذا الرزق وهو الثمر. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما أيها الجن والإنس تنكران أنها ليست من الله أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها ، ويسن لسامع القارئ لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعا بأن يقول ، ولا بشيء من نعمك ، ربنا نكذب فلك الحمد ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقر الجن على ذلك الجواب. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين منتن يابس له صوت ، (كَالْفَخَّارِ) (١٤) أي كالخزف المشوي بالنار المجوف كالإناء في أن كل منهما يسمع له صوت إذا نقر ليعلم هل فيه عيب أو لا؟ (وَخَلَقَ الْجَانَ) أي الجن نفسه (مِنْ مارِجٍ) أي من لهب صاف (مِنْ نارٍ) (١٥) لا دخان لها وهو بيان لـ «مارج» ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦) أيها الجن والإنس أبما أفاض عليكما في حالات شتى لخلقتكما حتى صيّركما خلاصة الكائنات أم بغيره؟ (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) أي الذي فعل ما ذكر رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقرأ ابن أبي عبلة «رب» بالجر بدلا ، أو بيانا لـ «ربكما». (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨) أي أبما في ذلك من الفوائد العظيمة التي لا تحصى ، كاعتدال الهواء ، واختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه أم بغير ذلك ، (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسل الرحمن البحر الملح والبحر العذب ، (يَلْتَقِيانِ) (١٩) أي يتماسان ولا يمتزجان ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز من قدرة الله تعالى ، (لا يَبْغِيانِ) (٢٠) أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده الله تعالى ولا يغير واحد منهما طعم صاحبه. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢١) فهلا اعتبرتم بأنواع الموجودات (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) ، فاللؤلؤ الدر ، والمرجان الخرز الأحمر.

وقيل : اللؤلؤ كبار الدر ، والمرجان شغاره. قيل : إن اللؤلؤ يتولد في ملتقى الملح والعذب ، ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب. وقيل : هما يخرجان من الملح في الموضع الذي يقع فيه العذب : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٣) أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحر ، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها ، (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢٤). وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين ، أي وله تعالى السفن الرافعات الشراع في البحر كالجبال. والباقون بالفتح أي المرفوعات القلع. وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الشين. وقرأ يعقوب «الجواري» بإثبات الياء في الوقف. وقرأ عبد الله والحسن «الجوار»


برفع الراء ولا تثبت الياء في الرسم ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥) أي أبتلك النعم من خلق مواد السفن وأسباب لا يقدر على خلقها غيره تعالى أم بغيرها. (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أي على الأرض من الحيوانات والمركبات ، (فانٍ) (٢٦) أي هالك لا محالة (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أيها السامع ، أي ذاته عزوجل (ذُو الْجَلالِ) أي العظمة التي لا يسعها عقل (وَالْإِكْرامِ) (٢٧) ، أي الفضل التام فالجلال مرتب على فناء غير الله تعالى والإكرام مرتب على بقائه تعالى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظوا بيا ذا الجلال والإكرام». أي الزموا في الدعاء ذلك.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل وهو يصلي ويقول : يا ذا الجلال والإكرام فقال : «قد استجيب لك» ، والعامة على «ذو» بالواو صفة لوجه. وقرأ أبي وعبد الله «ذي» بالياء صفة لـ «رب» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨) أي أبتلك النعم من دفع البلاء ، وإبقاء ما هو مخلوق إلى وقت فنائه أم بغيرها (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه في دينه فكل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه ويسأله كل أحد عن عاقبة أمره ، وعما فيه صلاحه وفساده فكل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ، فالوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة. والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) أي كل وقت من الأوقات هو تعالى في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع من يشاء ، ويضع من يشاء كما هو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال : يحتمل أن يكون هو عائدا إلى يوم و «كل يوم» ظرف ليسأله ، أي يقع سؤالهم كل يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠) مع مشاهدتكم لإحسانه تعالى ، أبتلك النعم أم بغيرها ، (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١)؟ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم أيها الجن والإنس ، أي سندبر لكم أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إليكم بعد تدبيرنا لأمر الدنيا بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والإعطاء.

وقرأ حمزة والكسائي «سيفرغ» بالياء على الغيبة. وقرئ بالبناء للمفعول. وقرئ «سنفرغ إليكم» وترسم «أيه» بغير ألف. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالألف في الوقف. والباقون بتسكين الهاء. وقرأ ابن عامر برفع الهاء في الوصل والباقون بالفتح ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٢) أبتلك النعم من التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب أم بغيرها. (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي يا جماعة الجن والإنس إن قدرتم أن تخرجوا من أطراف السموات والأرض ، وأن تهربوا من قضائي وملكي ، فاخرجوا منها ، وخلّصوا أنفسكم من عقابي (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣) أي ما تنفذون إلّا ومعكم سلطان الله ، أي فلا مهرب لكم ولا مخرج عن ملك الله تعالى ، وأينما توليتم فثمّ ملك الله وأينما أتاكم حكم الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٤) أبتلك النعم من دفع البلاء وتأخير العذاب عن العصاة أم بغيرها ، (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) أي لهب خالص لا دخان فيه (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) أي دخان لا لهب معه يسوقانكما إلى المحشر.


قرأ ابن كثير بكسر شين «شواظ». وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد ، وأبو عمرو بجر «نحاس» عطفا على «نار» ، ولا بد في هذه القراءة من كسر الشين أو إمالة «نار» ، وعلى هذا فالشواظ مركب من نار ومن دخان.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهم : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.

وقرئ «نحاس» بكسر النون. وقرئ «نرسل» بنون العظمة ، ونصب «شواظا» و «نحاسا». وقرئ نحس بضمتين جمع نحاس (فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) أي فلا ينتصر أحدكما بالآخر ولا أنتما بغيركما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦) أبتلك النعم من بيان عاقبة الكفر والمعاصي أم بغيرها ، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) ، أي فإذا انصدعت السماء وخربت يوم القيامة فصارت حمراء كالأديم المغربي ، وهو ما فيه حمرة مع السواد يكون الأمر عسيرا في غاية العسر ، أو يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٨) مع عظم شأنها ، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) أي فالمذنب يوم إذ تنشق السماء وذلك أول ما يخرجون من القبور ، ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني ، لأنهم يعرفون بسيماهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٠) أبتلك النعم من الأخبار بما يزجر عن الشر أم بغيرها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي بسواد وجوههم وزرقة أعينهم ، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٤١) أي يجمع نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم فيطرحون في النار ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٢) أي تجحدون والوقف هنا تام ، (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (٤٣). وهذه إشارة إلى قربها أي جهنم التي يكذب بها المشركون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤) أي يترددون بين النار وماء حار قد انتهى حره ، فيحرقون بها ، فيستغيثون منها ، فيسعى بهم إلى الحميم ، ويظهر لهم شيء مانع هو صديدهم المغلي ، فيظنونه ماء ، فيسقون منه ويصب فوق رؤوسهم ، فإذا استغاثوا منه يسعى بهم إلى النار وهكذا ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥) مما أشرنا إليه من أول السورة ، فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب. (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) أي ولمن خاف المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه ، وهو مقام عبادته ، والمقام الذي اطلع الله على عباده ، فانتهى عن المعصية جنتان ، جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي ، لأن التكليف لهذين النوعين. وقيل : هي جنة جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٧) أبتلك النعم أم بغيرها (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) أي صاحبتا أغصان ، فإن الجنات ذوات أشجار ، والأشجار ذوات أغصان ، والأغصان ذوات أزهار ، وأثمار وهي لتنزه الناظر وتنكير أفنان للتعجب ، أي على الأفنان أوراق عجيبة ، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ ، فالجنة ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها تحتها ، (فَبِأَيِ


آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٩) أبتلك النعم من وصف الجنة أم بغيرها ، (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) (٥٠) أي في كل واحدة منهما عين جارية كيف يشاء صاحبها في الأعالي والأسافل ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥١) أبتلك النعم التي ذكرها أم بغيرها؟ (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢) أي في كل واحدة من الجنتين نوعان من الفواكه معروف وغريب ، أو رطب ويابس وكلاهما حلو يستلذ به (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٣) أي بتلك النعم أم بغيرها ، (مُتَّكِئِينَ) حال من فاعل «خاف» الذي هو عامل للحال ، أو كان عامله وصاحبه ما تدل عليه «فاكهة» ، أي يتفكه المتفكون حال كونهم جالسين جلوس المتمكن المتربع ، (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها) أي التي تلي الأرض (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي ديباج ثخين ، وكذا ظهائرها بخلاف أهل الدنيا فلا يجعلون البطائن كالظواهر ، لأن غرضهم إظهار الزينة ، والبطائن لا تظهر. أما في الآخرة فالأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظواهر. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (٥٤) أي ثمر الجنتين قريب يناله القاعد والقائم في وقت واحد ومكان واحد ، فإن العجائب كلها من خواص الجنة ، فكان أشجارها دائرة عليهم سائرة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في جنات الدنيا ، فإن الإنسان فيها متحرك ومطلوبه ساكن ، والولي قد تصير الدنيا له أنموذجا من الجنة ، فإنه يكون ساكنا في بيته ويأتيه الرزق متحركا إليه دائرا حواليه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥) أبقدرته على ثني الأغصان وتقريب الثمار أم بغيرها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن ، وللجنة اعتبارات ثلاثة ، فلاتصال أشجارها وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة واحدة ولاشتمالها على النوعين ما في الدنيا ، وما ليس فيها وما يعرف وما لا يعرف ، وما يقدر على وصفه ، وما لا يقدر ، ولذات جسمانية ، ولذات روحانية ، كأنها جنتان ولسعتها ، وكثرة أماكنها ، وأشجارها وأنهارها ، كأنها جنات كثيرة ، فالضمير هنا عائد إلى الجنتين (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٥٦) ، أي لم يجامع الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، وإنما هن مخلوقات في الجنة ، فإن أكثر نساء أهل الدنيا مطموثات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٧) أي بأي نوع من أنواع هذا الإحسان تنكران (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (٥٨) أي مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة وبالمرجان بمعنى صغار الدر في بياض البشرة وصفائها ، فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره. قيل : إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٩) أي بما جعله مثالا لوصفهن أم بغيره ، (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠)؟ أي ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضا. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦١) أبشيء من هذه النعم الجليلة أم بغيرها (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين (فَبِأَيِ


آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٣) ، أبشيء مما تفضل به عليكم من الجنات أم بغيره. (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) أي سودا ، وإن من شدة الخضرة من الري ، وهذه صفة لجنتان. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٥) أبشيء من تلك النعم الجليلة أم بغيرها (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) (٦٦) أي فوارتان أي ماؤهما متحرك إلى جهة فوق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٧) أبتلك النعم أم بغيرها (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨) وأفردهما بالذكر مع دخولهما في الفاكهة بيانا لفضلهما ، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء ، والرمان فاكهة ودواء ، فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة ، كما قاله الشافعي وأكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٩) أبتلك النعم أم بغيرها؟ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠) أي في الجنتين نساء في باطنهن خير وفي ظاهرهن حسن.

روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : «خيّرات الأخلاق حسان الوجوه». (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧١) أبنعمة الحور أم بغيرها ، (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) أي محبوسات على أزواجهن (فِي الْخِيامِ) (٧٢) ، أي في خيام الدر المجوف ، وهي فرسخ في فرسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٣) أبهذه النعم أم بغيرها؟ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٧٤) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٥) أبهذه النعم أم بغيرها؟ (مُتَّكِئِينَ) حال مما دل عليه «لم يطمثهن» إلخ فأزواجهم لم يطمثن حال كونهم متكئين (عَلى رَفْرَفٍ) أي رياض أو بسط ، (خُضْرٍ) فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأبيض والأسود والأحمر ، فالأبيض : يفرق البصر والأسود : يجمع البصر كالأحمر ، فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر أكثر ذكره الله تعالى ، (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) (٧٦) فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها ، كأنها ليست من عمل الإنس ، لأن العبقري منسوب إلى عبقر وهو موضع من مواضع الجن ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٧) أبشيء من هذه النعم أم بغيرها؟ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) أي تعالى اسمه الجليل وارتفع عما لا يليق بشأنه.

قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو. والباقون «ذي» بالياء صفة لرب. وهذا إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى وأكمل اللذات ذكر الله تعالى.


سورة الواقعة

مكية ، سبع وتسعون آية ، ثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة ، ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) أي إذا قامت القيامة يعترف بها كل أحد ويبطل عناد المعاندين ولا يتمكن أحد من من إن كارها والعامل في «إذا» «ليس لوقعتها كاذبة» فاللام بمعنى في ، أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها ، أو بمعنى عندي أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذب في نفيها ، وإنما سميت القيامة واقعة لشدة صوتها يسمع القريب والبعيد ، (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣) أي هي خافضة للكافرين في دركات النار والعذاب ، ورافعة للمؤمنين في درجات الجنة والنعيم.

وقرئ «خافضة رافعة» بالنصب على الحال من «الواقعة» ، (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤) ، أي إذا زلزلت الأرض زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ، و «إذا» متعلقة بـ «خافضة» رافعة أو بدل من «إذا وقعت». (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥) أي فتتت الجبال فتا ، (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٦) أي فصارت الجبال غبارا منتشرا ، (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٧) أي وصرتم في ذلك اليوم أيها الخلائق ثلاثة أصناف ، اثنان في الجنة وواحد في النار ، ثم بينهم الله تعالى بقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨) أي فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم ، أيّ شيء هم في حالهم ، فهم في غاية حسن الحال في الكرامة والسرور (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩) أي وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيّ شيء هم في حالهم ، فهم في غاية سوء الحال وهم في الهوان والعذاب ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠) أي والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم ، فهم يسبقون الخلق إلى الجنة من غير حساب ، فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى ، (أُولئِكَ) أي السابقون (الْمُقَرَّبُونَ) (١١) إلى الله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١٢) في أعلى عليين ، فلهم قرب عند الله كما يكون الجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر ، فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة ، بخلاف قرب الملائكة الذين هم للأشغال ، فهو قرب الخواص عند الملك ، فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة ، ولا يزالون خائفين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر


ولا يرتفع عنهم التكليف ، (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤) أي هم أي السابقون إلى الإيمان بالأنبياء عيانا ، المجتمعون عليهم جماعة كثيرة من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهم‌السلام وقليل من هذه الأمة ، أي إن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به ، وهذا لا ينافي كون أمة محمد ثلثي أهل الجنة (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) أي موصولة بالذهب والفضة ، منسوجة بالدر والياقوت ويقال : أرضها من الذهب الممدود وقوائمها من الجواهر النفيسة (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي السرر ، (مُتَقابِلِينَ) (١٦) فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وهذا وصف لهم بحسن العشرة والآداب ، وتهذيب الأخلاق. ويقال : السابقون هم الذين أجسامهم أرواح نورانية وجميع جهاتهم وجه ، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي يدور حولهم للخدمة (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١٧) أي مبقون أبدا على شكل الولدان ، لا يكبرون ولا يلتحون (بِأَكْوابٍ) ، أي بكيزان وهي أوان مستديرة الأفواه بلا عري ولا خراطيم ، (وَأَبارِيقَ) وهي : أوان لها عري وخراطيم (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (١٨) أي إناء خمر طاهرة تجري من عيون (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا يصيبهم صداع بسبب شربها ، (وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي ، أي لا ينفذ شرابهم.

والباقون بفتحها أي «لا يكسرون» ، أي لا ينزف عقولهم (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٢٠) ، أي مما يختارونه ويأخذون أفضله ،(وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١). وقرئ «ولحوم طير». وعن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدهما : يا ولي ، الله رعيت في مروج تحت العرش ، وشربت من عيون التنسيم فكل مني ، فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد ، فإذا شبع تجمع عظام الطير فطار يرعى في الجنة حيث شاء». فقال عمر : يا نبي الله ، إنها لناعمة. قال : «آكلها أنعم منها» (١). (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) أي نساء شديدات بياض أجسادهن وشديدات سواد العيون مع سعتها.

وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطف على «جنات النعيم» كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ، ولحم طير ، ومصاحبة حور. والباقون بالرفع عطفا على «ولدان» فلأهل الجنة حور مقصورات معظمات ، ولهن جوار وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة. وقرئ «وحورا عينا» بالنصب ، أي ويعطون حورا عينا ، (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (٢٣) أي المصون الذي لم تقع عليه الشمس

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٢٣٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٥٦) ، والقرطبي في التفسير (١٧ : ٢٠٤) ، وابن مبارك في الزهد ٥٢٥ ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٤٩٨) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٤٩٨) وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (٢ : ١٨٨).


والهواء. وهذا إشارة إلى غاية صفائهن (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم (لا يَسْمَعُونَ فِيها) ، أي الجنة (لَغْواً) أي شيئا لا ينفع ، (وَلا تَأْثِيماً) (٢٥) أي شيئا منسوبا إلى الإثم كالشتم ، (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) أي لكن يقولون ويسمعون قولا سلاما سلاما ، أي يسلم بعضهم على بعض وتسلم الملائكة عليهم ، ويرسل الرب السلام إليهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية. (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ) أي يتنعمون في شجر نبق (مَخْضُودٍ) (٢٨) أي غير ذي شوك ، وموقر من الحمل حتى لا يبين ساقه ، والله تعالى جعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر ـ كما في الحديث ـ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) أي وفي موز متراكب أوراقه وثمره لا يرى له ساق من كثرة ثمره الذي أحلى من العسل ، وليس ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلا والجوز ونحوهما ، بل كله مأكول ومشروب ومشموم منظور إليه.

واعلم أن الأشجار يجمعها نوعان أوراق صغار ، وأوراق كبار ، فالسدر في غاية الصغر وشجر الموز في غاية الكبر ، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها ، كما ذكر الله النخل والرمان عند ذكر الثمار ، لأن بينهما غاية الخلاف فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها ، وكذلك النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة ، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار ، فإن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما ، كما يقال : فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملك ما بينهما ، وكما يقال فلان أرضى الصغير والكبير ، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد. (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) أي منبسط لا تزيله الشمس أبدا ، كظل ما بين الفجر وطلوع الشمس ، (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) (٣١) أي مصبوب من ساق العرش سائل يجري على الأرض في غير أخدود ، ومثل الله حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن ، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إعلاما بالتفاوت بين الحالين (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) (٣٢) بحسب الأنواع والأجناس (لا مَقْطُوعَةٍ) في وقت من الأوقات ، (وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣) عن متناوليها بوجه من الوجوه. وقرئ و «فاكهة» بالرفع أي وهناك فاكهة إلخ. (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤) على الأسرّة كما قاله علي ، أو نساء مرفوعات على الأرائك ومرفوعات بالفضل والجمال ، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٣٦).

روى النحاس أن أم سلمة سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) فقال : هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا ، عمشا ، رمصا ، جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء. وعن المسيب بن شريك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن


وجدوهن أبكارا». فلما سمعت عائشة رضي‌الله‌عنها ذلك قالت : وا وجعاه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هناك وجع». (عُرُباً) أي حسناء محسنة لكلامها متحببات إلى أزواجهن (أَتْراباً) (٣٧) أي مستويات في السن على مقدار ثلاث وثلاثين سنة (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) (٣٨) أي على سنهم. وفي هذا الإشارة إلى الاتفاق ، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشباب يعيره ، والجار والمجرور متعلق بـ «أترابا» كقولك : هذا ترب لهذا أي مساو له في السن (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠) أي هم أي أصحاب اليمين كثيرون من أوائل الأمم قبل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أواخر الأمم ، وهي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ) ، أي في ريح متعفن يتحرك من جانب إلى جانب ، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه العفوية ويقتل الإنسان (وَحَمِيمٍ) (٤٢) أي ماء حار إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فالهواء والماء أنفع الأشياء في الدنيا ، فهواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أحر ، وكيف حالهم مع أحر الأشياء؟ (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) أي من دخان جهنم أسود ، (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٤٤) أي لا بارد يطلب الظل لبرده ، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وحفظ عن القاذورات ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي قبل سوء العذاب في الدنيا (مُتْرَفِينَ) (٤٥) ، أي منعمين بأنواع النعم ولم يشكروها (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (٤٦) أي كانوا في الدنيا يديمون على الذنب العظيم الذي هو الشرك ، (وَكانُوا يَقُولُونَ) إذا كانوا في الدنيا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا) أي صرنا (تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨). وهذه الآيات الثلاثة إشارة إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) يدل على ذمهم بإنكار الرسل وعلى تكبرهم بغناهم ، وهم كانوا يقولون : أبشرا منا واحدا نتبعه. وقوله تعالى : (يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد. وقوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) إلخ إشارة إلى إنكار الحشر.

وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو. والباقون بفتحها أي أإنا أو آباؤنا مبعثون أي أتبعث آباؤنا الأولون الذي قد فنيت عظامهم. (قُلْ) يا أشرف الخلق لمنكري البعث : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠) أي إنهم يساقون بعد البعث إلى عرصة الحساب ، ويجمعون في وقت يوم معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن سبيل الله وهو التوحيد ، (الْمُكَذِّبُونَ) (٥١) أي المنكرون الحشر (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) (٥٢) أي لآكلون شجرا هو الزقوم ، (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٥٣) أي كل واحد منكم يملأ بطنه من تلك الشجر ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) أي عقب ذلك الأكل بلا ريث (مِنَ الْحَمِيمِ) (٥٤) أي الماء الحار ، (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (٥٥) أي لا يكون شربكم منه شربا معتادا بل يكون مثل شرب الإبل العطاش. (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦) أي ليس المذكور كل العذاب ، بل هذا أول ما يلقونه من العذاب وهو جزء منه ، وإذا كان هذا ما يعدّ لهم


أول قدومهم فما ظنك بما لهم بعد استقرارهم في النار ، (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧) بالبعث (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩)؟ أي هل تشكون في أن الله خلقكم أولا أم لا؟ فإن لم تشكوا في ذلك فهلا تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا ، فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء معلومة عنده ، فأخبروني أيّ شيء هو تصبون في أرحام النساء من المني إن كنتم تشكون وتقولون : الخلق لا يكون إلّا من مني وبعد الموت لا مني ، أفهذا المني أنتم تخلقونه ، أم الله فإن كنتم تعترفون بقدرة الله وإرادته وعلمه ، فذلك يلزمكم القول بجواز البعث وصحته ، (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي وقتنا موت كل أحد بوقت معين. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال أي سوّينا بينكم بالموت فتموتون كلكم ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ، ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق ، أي وما نحن عاجزون عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) أي إنا قادرون على أن نخلقكم في صور لا تعلمونها في جنسكم ، ويقال : أن نجعل أرواحكم يوم القيامة فيما لا تصدقون وهي النار. وقال بعضهم : أنجعل أرواحكم في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الزرازير كما أخرجه ابن أبي حاتم. (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي الخلق الأول في بطون الأمهات وهو من نطفة ثم من علقة ، ثم من مضغة ، (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢) أي فهلا تتعظون بأن من قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الأخرى حتما.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة ، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال في «تذكرون». والباقون بالتشديد. وقرئ «تذكرون» من الثلاثي. وفي الخبر : «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور». (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦٣) أي أخبروني يا أهل مكة ما تبذرون من الحبوب (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤) ، أي أأنتم تنبتونه! بل نحن المنبتون لا أنتم ، (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لجعلنا الزرع متكسرا يابسا بعد خضرته ، وقبل ظهور الحب ، أي إن قلتم : نحن نلقي البذر في الأرض وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا ، قال تعالى : ولو سلم لكم هذا الباطل فما تقولون في سلامة الزرع عن الآفات فيفسد قبل اشتداد الحب فهل تدفعون الآفات عنه ، أو هذا الزرع بنفسه يدفعها عن نفسه كما تقولون إنه بنفسه ينبت؟ (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (٦٥) أي فصرتم تعجبون من يبسه بعد خضرته. وقرئ «فظلتم» بكسر الظاء و «فظلتم» على الأصل بكسر اللام. وقرئ «تفكهون» أي تتندمون على ما أنفقتم عليه قائلين : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (٦٦) أي إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع ، أو إنا لمكرهون بالغرامة. وقرأ شعبة أإنا على الاستفهام (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧) أي ممنوعون منفعة زروعنا ، (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي


تَشْرَبُونَ) (٦٨) عذبا فراتا ، (أَأَنْتُمْ) يا أهل مكة (أَنْزَلْتُمُوهُ) عليكم (مِنَ الْمُزْنِ) أي السحاب الثقيل بالماء ، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٦٩) أي بل نحن المنزلون عليكم لا أنتم (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ) أي ذلك الماء (أُجاجاً) ، أي حارا أو مرا من شدة الملوحة ، (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التامة ، فإن النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ، وذلك لأن الإنسان إذا كان في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل شيئا مخافة العطش. (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١) أي تقدحونها عن كل عود غير العناب وهو الشجر الأحمر ، (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي الشجرة التي تصلح لإيقاد النار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢) أي بل نحن المنشئون لها بقدرتنا لا أنتم؟ (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) لنار جهنم فيجب على العاقل إذا رأى النار الموقدة أن يخشى عذاب الله أو تذكرة لصحة البعث ، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت ، (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) أي منفعة للذين ينزلون القوى وهي القفر البعيدة من العمران ، وهم الذين أوقدوا النار ، لأنهم أحوج إلى النار في الليل لتهرب السباع ويهتدي الضال ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) ولا تقل لغير الله تعالى انه إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة ، أي إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله ، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم ، ونسميها آلهة والله هو الذي خلقها ، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة فقال تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم. (فَلا أُقْسِمُ) قيل : «لا» مزيدة مؤكدة. وقيل : الأصل فلانا أقسم ، فحذف المبتدأ ، وأشبعت فتحة لام الابتداء ، ويعضده قراءة من قرأ «فلأقسم» بلام التأكيد. وقيل : إن «لا» نافية ، رد لكلام يخالف المقسم عليه ، والتقدير : والله لا صحة لقول الكفار أقسم (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) أي بمواضعها في السماء في منازلها.

وقرأ حمزة والكسائي «بموقع النجوم» بسكون الواو ، أي بموضع سقوطها عند غروبها (وَإِنَّهُ) أي إن القسم بها (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) ، أي لو تعلمون عظمة القسم لعظمتم هذا القسم ، لكنكم ما عظمتونا ، لأنكم لا تعلمون ولا وقف هنا ، لأن القسم وقع على ما بعده ، (إِنَّهُ) أي إن الكلام الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) أي كثير النفع لاشتماله على إصلاح المعاش والمعاد ، (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) أي في كتاب محفوظ عن الباطل ، وهو المصحف ، الذي في أيدينا ، (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) أي لا يمس ذلك الكتاب إلّا المطهرون من الأحداث ، أي يحرم عليهم مسّه بدون الطهارة. وهذه الجملة صفة ثانية لـ «كتاب» ، فالخبر بمعنى النهي ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود «ما يمسه» بـ «ما» النافية. وروى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم ، وهو من أهل الظاهر لا يمس القرآن إلّا طاهر.


وقال ابن عمر. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمس القرآن إلّا وأنت طاهر» (١) (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠) صفة ثالثة لـ «قرآن» أي منزل من الله تعالى ، وفي ذلك رد على قول من قال : إن القرآن شعر ، أو سحر ، أو كهانة ، وفي هذا رد على الذين يقولون : إن القرآن في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون ـ وهم الملائكة ـ ورد على الروافض الذي يقولون : إن جبريل أنزل على علي فنزل على محمد. فقال تعالى : هو من الله ليس باختيار الملك. وقرئ «تنزيلا» بالنصب حال من قرآن ،(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١) أي أفبهذا القرآن أنتم يا أهل مكة متهاونون به. ويقال : أفبهذا الكلام الذي تتحدثون به أنتم تلينونه لأصحابكم من شأن محمد والبعث ، والحساب ، والجنة ، والنار تعلمونهم خلافه ، (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢) أي تجعلون معاشكم تكذيب محمد ، لأنكم تخافون إن صدقتموه ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر أن يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل. وقرئ «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» ، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به ، (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٨٤) أي فلم لا تكذبون الرسل إذا بلغت الروح الحلقوم ، والحال أنكم وقت النزع تشاهدون الأمور وتعلمونها. وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) أي ونحن أقرب إلى الميت من أهله الحاضرين عنده بعلمنا وقدرتنا ، ولكن لا تدركون ذلك لجهلكم بشئوننا ، (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٨٧) ، أي فلم لا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغها الحلقوم إن كنتم غير مجزيين وغير محاسبين إن كنتم صادقين في اعتقادكم أي إنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم كما كنتم في الدنيا التي ليست دار جزاء ، (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ) أي فأما إن كان المجزى من المقربين السابقين فله راحة. وقرأ بعضهم بضم الراء ، أي فله حياة دائمة ، أو رحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم (وَرَيْحانٌ) ، أي رزق عظيم أو زهرة فقد قيل : إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلّا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩) أي بستان ذات تنعم ليس فيها غيره ، (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) أي إن مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين ، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فكأن الله تعالى

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٣ : ٤٨٥) ، والطبراني في المعجم الكبير (٣ : ٢٣٠) ، والدار قطني في السنن (١ : ١٢٣) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (١ : ٢٧٦) ، والزيلعي في نصب الراية (١ : ١٩٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٨٢٩) ، والألباني في إرواء الغليل (١ : ١٥٩).


قال : هؤلاء الذين هم أهل الجنة وإن كانوا دون الأولين ، لكن لا تنقطع بينك يا أشرف الخلق وبينهم المكالمة والتسليم ، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك ، والغائب إلى أهله وولده ، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك ، وإن كنت أعلى مرتبة منهم (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (٩٣) ، أي وأما إن كان المجزى من المنكرين للبعث الضالين عن سبيل الله ، فله ضيافة من ماء حار يشربه بعد أكل الزقوم (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤) أي وإدخال في النار واحتراق بها ، (إِنَّ هذا) أي ما ذكر في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) أي نهاية اليقين ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) لم بين الله تعالى الحق وامتنع الكفار قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا هو حق فإن امتنعوا ، فسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك.


سورة الحديد

مدنية أو مكية ، تسع وعشرون آية ، خمسمائة وأربع

وأربعون كلمة ، ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أبعد الخلق ذات الله تعالى من أن يكون محلا للإمكان وصفاته من أن تكون متغيرة ، وأفعاله من أن تكون موقوفة على مادة ومثال ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) أي وهو القادر الغالب الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف فيهما وفيما فيهما من الموجودات (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) أي هو قادر على خلق الحياة والموت ، ومنفرد بإيجادهما لا يمنعه تعالى عنهما مانع ، ولا يرده عنهما راد. (هُوَ الْأَوَّلُ) أي ليس قبله شيء ، (وَالْآخِرُ) أي ليس بعده شيء فهو الباقي بعد فناء سائر الموجودات ، (وَالظَّاهِرُ) بحسب الدلائل ، (وَالْباطِنُ) أي المحتجب عن الأبصار. وعن الحواس وعن إدراك حقيقة ذاته في الدنيا والآخرة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) لا يعزب عن علمه شيء من المظاهر ، والخفي ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا تعلما للعباد في التأني للأمور (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، أي تصرف في ملكة تصرفا تاما (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من المياه والكنوز والأموات ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات والمياه والمعادن والأموات ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والملائكة والمصائب والحر والبرد ، (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الحفظة والأعمال (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم ، فهو كونه تعالى عالما بظواهرنا وبواطننا لا بالمكان والجهة.

قال المحققون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله. وقال المتوسطون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه. وقال الظاهريون : ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) فيجازيكم به (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٥) أي جميع الأمور في الآخرة حيث لا مالك سواه. وقرأ الأخوان وابن عامر بفتح التاء وكسر الجيم (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ، فيزيد النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ، فيزيد الليل (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦) أي بمكنونات القلوب من


نياتهم. (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا خطاب مع من عرف الله ، فالمقصود من هذا الأمر معرفة صفات الله ، أما معرفة وجود الصانع فحاصلة للكل ، (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي من الأموال التي في أيديكم التي جعلكم الله بمنزلة الوكلاء فيها ، تحفظونها لمن يأتون بعدكم فلا ينبغي لكم البخل بها ، فالصواب أن تصرفوها في الوجوه التي تنفعكم في المعاد ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) أموالهم في طاعة الله (لَهُمْ) بسبب ذلك ، (أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧) لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره ، (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) أيّ أي شيء يحصل لكم غير مؤمنين بالله ، والحال أن الرسول يدعوكم للإيمان به ، والحال أن الله قد نصب الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسول في العقول فقد تطابقت دلائل النقل والعقل ، وسميت الدلائل المستلزمة وجوب القبول ميثاقا ، لأنها أوكد من الحلف (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨) ، أي إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل ، فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية ، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. وقرأ أبو عمرو «أخذ ميثاقكم» بالبناء للمفعول ، وبرفع ميثاقكم ، أي مكن عقولكم من النظر في الأدلة ، (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام (آياتٍ بَيِّناتٍ) وهي القرآن ، (لِيُخْرِجَكُمْ) أي الله أو العبد بتلك الآيات ، (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان ، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الأدلة العقلية ، (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وأيّ شيء يحصل لكم يا معشر المؤمنين في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة ، والحال أنه لا يبقى لكم شيء منها ، بل يبقى كله لله تعالى ، فإنكم ستموتون فتورثون ، أي وذلك لأن المال لا بد من خروجه عن اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في طاعة الله ، فإن خرج عن اليد بغير الإنفاق في طاعة الله استعقبه اللعن والعقاب ، وإن خرج عنها بالإنفاق في مرضاة الله استعقبه المدح والثواب ، (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوي منكم يا معشر المؤمنين عند الله في الفضل من أنفق من قبل فتح مكة ، وقاتل أعداء الله ، ومن أنفق وقاتل من بعد فتح مكة وقوة الإسلام. وقرئ «قبل الفتح» بغير «من» ، (أُولئِكَ) أي المنعوتون بذينك النعتين الجميلين (أَعْظَمُ دَرَجَةً) ، وأرفع منزلة عند الله (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه ، فإنه من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا ، أشرف به على الهلاك. قال عمر : كنت قاعدا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال؟ فقال : «أنفق ماله علي قبل الفتح» قال : فإن الله عزوجل يقول : اقرأ عليه‌السلام وقل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال : أبو بكر أأسخط على ربي! إني عن ربي راض. (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ


الْحُسْنى) أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى ـ وهي الجنة ـ مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر «وكل» بالرفع على الابتداء ، أي وكل وعده الله الحسنى ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠) فيوصل الثواب إليكم بحسب استحقاقكم له (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي من ذا لذي ينفق ماله في طاعته تعالى بالصدق من قلبه رجاء أن يعوضه.

وقال بعض العلماء : لا يكون القرض حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة :

الأول : أن يكون القرض من الحلال.

والثاني : أن يكون من أكرم ما تملكه دون أن تنفق الرديء.

والثالث : أن تصدق بما تملكه وأنت تحتاج إليه بأن ترجو الحياة.

والرابع : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج.

والخامس : أن تكتم الصدقة ما أمكنك.

والسادس : أن لا تتبعها منا ولا أذى.

والسابع : أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي.

والثامن : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر.

والتاسع : أن يكون المعطى من أحب أموالك إليك.

والعاشر : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل ترى نفسك تحت دين الفقير ، وترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله منك. (يُضاعَفُ لَهُمْ) أي فيعطيه الله أجره أضعافا. وقرأ عاصم بالألف والنصب ، ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والرفع ، وابن كثير بالتشديد في العين والرفع ، وابن عامر بالنصب. فالرفع على العطف على «يقرض» أو على الاستئناف على تقدير مبتدأ ، أي فهو يضاعفه ، والنصب على جواب الاستفهام بالفاء. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١) أي وللقرض ثواب حسن في نفسه ، حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، وإن لم يضعّف فكيف وقد ضعّف أضعافا كثيرة إلى أكثر من سبعمائة نزلت هذه الآية في أبي دحداح ، (يَوْمَ) ظرف لقوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ) أو للاستقرار العالم في وله أجر ، أي استقر له أجر يوم (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، وهذا النور هو ما يكون سببا للنجاة وإنما قال تعالى : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم ، فإذا مروا على الصراط يسعى معهم نور الإيمان والأعمال المقبولة أمامهم ، ونور الإنفاق في جهة أيمانهم ، لأن الإنفاق يكون بالإيمان ومراتب الأنوار مختلفة على قدر الأعمال ، فمنهم من يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهاميه ينطفئ مرة ويتقد أخرى ، وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما. وقرأ


سهل بن شعيب وأبو حيوة وبأيمانهم بكسر الهمزة أي وبسبب أيمانهم حصل سعي ذلك النور ، (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي تقول لهم الملائكة على الصراط : بشارتكم العظيمة في هذا الوقت دخولكم جنات ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وهو حال من ضمير المخاطب المقدر ، (ذلِكَ) أي ما تقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلّدة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) الذي لا غاية وراءه. وقرئ «ذلك الفوز العظيم» بإسقاط كلمة هو. (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لما رأوهم يسرع بهم إلى الجنة و «يوم» بدل من «يوم ترى» ، أو أن العامل فيه «ذلك هو الفوز العظيم». (انْظُرُونا) أي انظروا إلينا أي ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، والنور أمامهم فيستضيئون. به وقرأ حمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وكسر الظاء أي انتظرونا لنلحق بكم ، (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي نستضيء بنوركم. (قِيلَ) أي قال لهم المؤمنون قول تنديم وتوبيخ : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور فاطلبوا نورا هناك. وقيل : ارجعوا إلى دار الدنيا ، فالتمسوا هذه الأنوار هنالك. وقال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين (ارْجِعُوا) إلخ منع المنافقين عن الاستضاءة لا أمر لهم بالرجوع أي تنحّوا عنا ، فلا سبيل لكم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة ، فيرجعون في طلب النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) أي بني بين الفريقين (بِسُورٍ) الباء زائدة ، أي حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة أو حجاب ، كما في سورة الأعراف ، كما قاله مجاهد. وقال : من قال : ارجعوا إلى دار الدنيا. والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا ، (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي لذلك السور باب في باطن ذلك السور الجنة التي فيها المؤمنون ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (١٣) أي وخارج السور من جهته النار ، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور ، والكافرون يبقون في العذاب ، (يُنادُونَهُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا على الغزوات والعبادات؟ (قالُوا بَلى) ، أي يقول المؤمنون : بلى ، قد كنتم معنا في الظاهر ، (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي أهلكتموها بكفر السر ، واستعملتموها في المعاصي والشهوات ، (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي أخرتم أنفسكم عن التوبة من النفاق ، وانتظرتم موت رسول الله وحوادث السوء على المؤمنين ، (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في نبوة محمد ، وفي البعث ، وفي وعيد الله ، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي الأباطيل وهي ما كانوا يتمنون من نزول الحوادث بالمؤمنين ، ومن انتكاس أمر الإسلام (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي حتى جاءكم وعد الله بالموت على غير التوبة من النفاق ، أي حتى أماتكم الله وألقاكم في النار (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (١٤) ، بفتح الغين ، أي الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. وقرأ سماك بن حرب بضم الغين ، والمعنى : وغركم عن طاعة الله سلامتكم من أباطيل الدنيا مع الاغترار بأمتعة الدنيا (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فاليوم لا يقبل منكم يا معشر المنافقين فداء ولا من الذين أظهروا الكفر. وقرأ ابن عامر «تؤخذ» بالتأنيث.


(مَأْواكُمُ النَّارُ) أي منزلكم النار ، (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي موضعكم الذي تصلون إليه (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥) ، أي بئس المرجع هذه النار. (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ)؟ قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم بتخفيف الزاي ، والمعنى : ألم يجيء وقت أن تخشع قلوب المؤمنين لذكرهم الله ، ولما نزل من القرآن ، وينقادوا لأوامره ونواهيه انقيادا تاما. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بتشديد الزاي ، أي ولما نزّله الله من القرآن. وعن أبي عمرو «نزل» مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن البصري «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون. وقرأ الحسن «ألما يأن» ، وعن الأعمش قال : إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية ، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) ، أي هذا إما معطوف على «تخشع» ، فـ «لا» نافية ، أي وألم يأن وقت أن لا يكونوا كاليهود والنصارى من قبل ما نزل إليكم ، والمراد نهي المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب ، بعد أن وبخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، وإما جزم «بلا» الناهية ، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات ، (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم. وقيل : أي طالت أعمارهم في الغفلة. وقيل : طال عليهم الزمان بطول الأمل.

وقال ابن عباس : أي مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. وروي عن ابن كثير الأمد بتشديد الدال ، أي الوقت الأطول فزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) للمواعظ بسبب الطول (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١٦) ، أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين من أجل فرط قسوتهم. وهذا إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر ، (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي أن الله يلين القلوب بالخشوع ـ الناشئ عن الذكر وتلاوة القرآن ـ بعد قساوتها كما يحيي الله الأرض بالغيث بعد يبوستها ، كذلك يحيي الله الموتى من القبور بالمطر ، و (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على قدرتنا على إحياء الموتى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) أي لكي تكمل عقولكم فتصدقوا بالبعث بعد الموت ، (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ). وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر بتخفيف الصاد من التصديق ، أي إن الذين آمنوا من الرجال والنساء وتصدقوا صدقة واجبة ، أو تطوعا عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة يضاعف لهم إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بتشديد الصاد من التصدق. وقرأ أبي «إن المتصدقين والمتصدقات» ، والمعنى : إن الذين أعطوا الصدقة من الرجال والنساء وعملوا الصالحات إلخ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة وهو تقديم الحسنات. وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف لهم» بتشديد العين ، والجار والمجرور نائب الفاعل. (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨) أي


ثواب حسن في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) وهم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ، ولم يكذبوهم ساعة قط مثل آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون ، وأما في أمة محمد فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام ، أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب. ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته ـ كما قاله الضحاك ومقاتل ـ ويقال : الصدّيق هو الذي يحمل الأمر على الأشق ، ولا ينزل إلى الرخص ، ولا يميل إلى التأويلات ، (وَالشُّهَداءُ) وهذا إما معطوف على ما قبله ويجوز الوقف هنا ، وهم عدول الآخرة الذين تقبل شهادتهم.

وقال الضحاك : هم التسعة الذين سميناهم رضي‌الله‌عنهم. وقال مقاتل ومحمد بن جرير : هم الذين استشهدوا في سبيل الله. وقال الفراء والزجاج هم الأنبياء. فـ «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» مبتدأ ثالث ، و «الصديقون» خبر «هم» ، وهو مع خبره خبر للثاني ، وهو مع خبره خبر للأول ، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء بعلو الرتبة ورفعة المحل. وإما مبتدأ وخبره إما (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وإما (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وعلى هذا فالوقف على الصدّيقون تام. والأظهر أن جملة لهم أجرهم من مبتدأ وخبر محلها رفع على أنه خبر ثان للموصول والضمير الأول للموصول والأخيران للصدّيقين والشهداء. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال ، أي للذين آمنوا مثل أجر الصدّيقين والشهداء ونورهم ، المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف ، وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعاف ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد ، ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفة القبيحة ، (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩) بحيث لا يفارقونها أبدا ، ولما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين ذكر ما يدل على حقارة الدنيا ، وكمال حال الآخرة (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جدا ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة ، (وَلَهْوٌ) وهو فعل الشبان ، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن ، لأن العاقل يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا ، (وَزِينَةٌ) وهو دأب النسوان ، لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص ، (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض بالنسب ، أو بالقوة ، أو بالقدرة ، أو بالعساكر وكلها ذاهبة ، (وَتَكاثُرٌ) أي مبالغة في الكثرة (فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). فالحياة الدنيا غير مذمومة وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان ، ومتابعة الهوى لا إلى طاعة الله تعالى ، والمعنى : اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة ، (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي أعجب الزراع النبات الحاصل بالمطر وسمي الزارع كافرا ، لأنه يغطي


البذر بتراب الأرض ، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف النبات (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد ما رأيته ناضرا ، وقرئ «مصفارا» ، (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ثم يصير النبات متكسرا ، (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لمن كانت حياته بهذه الصفة (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأوليائه ، وأهل طاعته والرضوان أعظم درجات الثواب ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢٠) لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة.

قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا إلى سائر ما كلفتم به ، فإن المسارعة إلى ذلك تؤدي إلى مغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، أي لو جعلت السموات السبع والأرضون السبع وألزق بعضها ببعض ، لكان عرض الجنة في عرض جميعها ، (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت الجنة للمؤمنين من جميع الأمم ، (ذلِكَ) الموعود به من المغفرة والجنة ، (فَضْلُ اللهِ) أي عطاؤه ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إيتاءه إياه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١). وهذا تنبيه على عظم حال الجنة (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) هي قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، وغلاء الأثمار ، وتتابع الجوع (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) وهي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود على الأنفس ، (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي مكتوب في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي أن نخلق هذه المصائب والأنفس والأرض ، (إِنَّ ذلِكَ) أي إن إثبات كل ذلك مع كثرته في الكتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) ، وإن كان عسيرا على العباد (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا حزنا زائدا على ما في أصل الجبلة على ما فاتكم من نعم الدنيا ، (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي بما أعطاكم الله تعالى منها ، فإن من علم أن الكل مقدر لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت. وقرأ أبو عمرو «أتاكم» بقصر الهمزة ، أي بما جاءكم من الله. وقرئ «بما أوتيتم» ، والمراد : نفي الحزن المانع عن التسليم لأمر الله تعالى ، ونفي الفرح الموجب للبطر والاختيال ، (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء حق الله تعالى (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ). وذلك نتيجة فرحهم عند إصابة النعم والموصول صفة لكل مختال فخور. وقيل : مستأنف لا تعلق بما قبله وهو مبتدأ خبره محذوف ، وهو بيان لصفة اليهود ، والمعنى. الذين يبخلون ببيان صفة النبي التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم ، ويأمرون الناس بالبخل به لهم تهديد شديد ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه فلا يعود عليه ضرر ببخل البخيل ، حميد في ذلك الإعطاء مستحق حيث فتح أبواب نعمته.

وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني» بحذف لفظ هو. (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي الأنبياء إلى الأمم (بِالْبَيِّناتِ) أي الدلائل القاهرة والمعجزات الظاهرة ، (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي أنزلنا إليهم الكتاب وهو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية ، لأن به يتميز الحق من


الباطل ، والحجة من الشبهة ، (وَالْمِيزانَ) هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية ، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص ، (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية ، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي لأمتعتهم مثل السكاكين ، والفاس ، والمبرد وغير ذلك ، وما من صنعة إلا والحديد آلتها ، (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف ، والرماح ، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ، حال كونه تعالى غائبا عنهم ، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه ، (عَزِيزٌ) (٢٥) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فما جاء بعدهما أحد بالنبوة ، إلّا وكان من أولادهما ، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم ، وهو من ذرية نوح ، فإنه الأب الثاني لجميع البشر ، (فَمِنْهُمْ) أي الذرية (مُهْتَدٍ) إلى الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦) ، أي خارجون عن الطريق المستقيم (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم (بِرُسُلِنا) أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه‌السلام ، (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا ، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على دينه (رَأْفَةً) أي لينا (وَرَحْمَةً) ، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة ، (وَرَهْبانِيَّةً). وقرئ بضم الراء (ابْتَدَعُوها) ، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي.

وروى ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا ابن مسعود ، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق : فرقة آمنت بعيسى عليه‌السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي» (١). (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية ، (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها ، لأنهم أتوها

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠ : ٢١٢) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٥) وفيه : «يا ابن مسعود ، هل علمت ... اثنين وسبعين».


لطلب الدنيا والرياء والسمعة (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد (مِنْهُمْ) أي الرهبان (أَجْرَهُمْ) وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى ابن مريم ، وهم أربعة وعشرون رجلا في أهل اليمن ، جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ، ودخلوا في دينه أي لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق من الرهبان إلا قليل ، انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته ، وصاحب دير من ديره ، فآمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقوه ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) ي من الرهبان (فاسِقُونَ) (٢٧) أي تاركون تلك الطريقة ظاهرا وباطنا ، وهم الذين خالفوا دين عيسى ، فقال الله تعالى في حق قوم عيسى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى وبالرسل المتقدمة ، (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم عنه (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه الصلاة والسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) ، أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم أولا : بعيسى عليه‌السلام ، وثانيا : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق ، وإن كان منسوخا ببركة الإسلام (وَيَجْعَلْ لَكُمْ) يوم القيامة (نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) على الصراط وبين الناس (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما أسلفتم من الكفر والمعاصي ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٨) أي مبالغ في المغفرة والرحمة ، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، لأنه قادر مختار يفعل بحسب الاختيار ، و «لا» زائدة كما يدل عليه قراءة «ليعلم» و «لكي يعلم» ، و «لأن يعلم». وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) عطف على (أَلَّا يَقْدِرُونَ) ، والمعنى : إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل في تصرف الله تعالى يعطيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا. والمقصود من هذه الآية أن يزيل الله عن قلوب بني إسرائيل اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، وغير حاصلة إلّا في قومهم وقيل : إن لفظة «لا» غير زائدة والضمير في قوله تعالى : (أَلَّا يَقْدِرُونَ) عائد إلى الرسول وأصحابه : وقوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) ألخ عطف على «أن لا يعلم». والمعنى : أنا فعلنا ذلك لئلا يعتقد أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو سعادة الدارين ، وليعتقدوا أن الفضل في ملكه تعالى على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك ، كناية عن علمهم بقدرتهم عليه ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) فإن العظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيما.


سورة المجادلة

مدنية ، ثنتان وعشرون آية ، أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة ، ألف وسبعمائة

واثنان وسبعون حرفا ، هذه السورة أول النصف الثاني من القرآن باعتبار عدد

السور ، فهي الثامنة والخمسون منها ، وأول العشر الأخير من القرآن باعتبار

عدد أجزائه ، وليس فيها. آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما قال لها : «حرمت عليه» قالت : والله ما ذكر طلاقا بأن أنزل الله حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها ، (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) بأن قالت رافعة رأسها إلى السماء : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، وقالت : إن لي صبية صغارا ، (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي مراجعتكما في الكلام ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) أي يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه.

روي عن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري ، رآها زوجها وهي ساجدة في الصلاة ، وكانت حسنة الجسم ، فنظر إلى عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما سلمت من الصلاة طلب وقاعها ، فأبت ، فغضب عليها ، وكان به لمم ، أي توقان إلى النساء. وقيل : مس من الجن ، فأراد أن يأتيها على حال لا تؤتى عليها النساء ، فأبت عليه ، فغضب وقال : إن خرجت من البيت قبل أن أفعل بك ، فأنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما كبر سني وكثر ولدي ، جعلني كأمه وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا! فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه». فقالت : أشكوا إلى الله فاقتي ووجدي ، وكلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، فأنزل على لسان نبيك فرجي ، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى


زوجها وقال : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان : فهل من رخصة؟ فقال : «نعم». وقرأ عليه الأربع آيات وقال له : «هل تستطيع العتق؟» فقال : لا ، والله. فقال : «هل تستطيع الصوم؟» فقال : لا والله ، لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت. فقال له : «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» (١) فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكينا ، (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم ، كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ليست نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة ، فهو كذب بحت.

قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب «يظهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظاهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ أبو العالية وعاصم وحسين يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء وفي قراءة أبيّ «يتظاهرون». وقرأ عاصم في رواية المفضل «أمهاتهم» بالرفع. وقرئ «بأمهاتهم». وجملة «ما هن أمهاتهم» خبر المبتدأ الذي هو الموصول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم في الحرمة إلا اللائي ولدنهم ، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات ، وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَإِنَّهُمْ) أي المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) عند الشرع وعند العقل والطبع ، (وَزُوراً) أي كذبا ، والظهار حرام اتفاقا ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢) إما من غير التوبة لمن شاء ، أو بعد التوبة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر ، (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قال الشافعي ـ وإما باستباحة الوطء والملامسة ، والنظر إليها بالشهوة ـ كما قاله أبو حنيفة وإما بالعزم على جماعها ـ كما قاله مالك ـ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فالواجب إعتاق رقبة مؤمنة فلا تجزئ كافرة عند الشافعي.

وقال أبو حنيفة : تجزئ أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو كافرة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي أن يستمتع كل من المظاهر المظاهر منها بشيء من جهات الاستمتاعات ، فلا يباشر المظاهر امرأته ، ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر ، فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله وأمسك عنها حتى

__________________

(١) رواه الترمذي في السنن ٧٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤ : ٢٢٧) ، والشافعي في المسند ١٠٥ ، ومالك في الموطّأ ٢٩٧ ، والطبراني في المعجم الكبير (٧ : ٤٧) ، وعبد الرزاق في المصنّف (٧٤٥٩) ، وابن عبد البر في التمهيد (٧ : ١٦١) ، والبغوي في شرح السنة (٦ : ٢٨٢) ، والطبراني في التفسير (٢٨ : ٣٤) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ١٨٠).


يكفر كفارة واحدة ، (ذلِكُمْ) أي التغليظ في الكفارة (تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به عن إتيان ذلك المنكر كي تتركوه ولا تعاودوه ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣) أي من التكفير وتركه ، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي رقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي فعليه صيام شهرين (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بجميع ضروب المسيس من لمس بيد وغيرها ، (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي الصيام (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين مدمن طعام بلده الذي يقتات منه حنطة ، أو شعير ، أو أرزا ، أو تمرا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعتبر مد حدث بعده. وقال أبو حنيفة : لكل مسكين نصف صاع من بر ، أو دقيق ، أو سويق ، أو صاع واحد من تمر ، أو شعير ، ولا يجزئه دون ذلك. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي ذلك البيان للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق ، (وَتِلْكَ) أي هذه الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ) التي لا يجوز مجاوزتها ، (وَلِلْكافِرِينَ) أي لمن جحد هذه الأحكام وكذب بها ، (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) ، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط عنه ، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها ، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ، وأجبره على التكفير ، وإن كان الإجبار بالضرب ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأن ترك التكفير إضرارا بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقها (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، أي يعاودونهما ، وذلك بالمحاربة مع أولياء الله ، أو بالصد عن دين الله وتكذيبه ، (كُبِتُوا) أي أذلوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي كما أخزى كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم الصلاة والسلام ، (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) ، أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات في شأن من خالف الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم من إهلاكهم ، (وَلِلْكافِرِينَ) بتلك الآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) (٥) أي يذهب بعزهم وكبرهم. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي مجتمعين في حال واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) تخجيلا لهم وتشهيرا لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد ، (أَحْصاهُ اللهُ) أي أحاط الله بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية ، والزمان والمكان. (وَنَسُوهُ) أي والحال أنهم قد نسوا أعمالهم ، لأنهم تهاونوا بها حيث فعلوها ، ولم يبالوا بها لجراءتهم على المعاصي ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)؟ أي ألم تعلم علما يقينيا أنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجود سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهم! (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي ما يوجد من متناجين ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا متناجين خمسة إلا الله سادسهم ، (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض.

قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية ، كانوا يوما


يتحدثون فقال أحدهم : هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني : يعلم البعض دون البعض. وقال الثالث : إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. وفي مصحف عبد الله : «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم ، إذا أخذوا في التناجي» ، أي فالله تعالى عالم بكلامهم وضميرهم ، وسرهم وعلنهم ، فكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم.

قرأ ابن عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار «يتناجون». وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع إما معطوف على محل «نجوى» ، أو هو مبتدأ لعطفه على مبتدأ وهو أدنى ، وجملة «إلا هو معهم» خبره. وقرئ «ولا أكبر» بالباء المنقوطة من تحت. (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يحاسب على ذلك ويجازى على قدر الاستحقاق. وقرأ بعضهم «ينبئهم» بسكون النون. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧). وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات ، (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تنظر يا أشرف الخلق (إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) أي بما هو إثم في نفسه كالكذب ، (وَالْعُدْوانِ) للمؤمنين (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي مخالفته نزلت في اليهود ، كانوا ينتاجون فيما بينهم ، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يحزنهم ، فلما أكثروا وذلك شكا المؤمنون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة وحده «ينتجون» ، أي ويخص اليهود المنافقين بمناجاتهم. وقرئ «والعدوان» بكسر العين. وقرئ «ومعصيات الرسول» ، (وَإِذا جاؤُكَ) يا أشرف الخلق (حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي أنهم كانوا يجيئون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقولون في تحيتهم إياك : السام عليك يا محمد وهم يوهمون أنهم يقولون : السلام عليك فيرد النبي عليهم : وعليكم. والسام بلغتهم : الموت والله تعالى يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٤١] و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) [الأنفال : ٦٤] (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي ويقولون : فيما بينهم إذا خرجوا من عند رسول الله أن محمدا لو كان رسولا ، فلم لا يعذبنا الله بما نقول لنبيه على هذا الاستخفاف. وقيل : إنهم قالوا : إن محمدا يرد علينا ويقول : وعليكم السام ، فلو كان نبيا كما يزعم لكان دعاؤه علينا مستجابا ولمتنا ، وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب يعلمون أن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب فأنزل الله فيهم ، (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨) جهنم أي إن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة فإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب في الدنيا ، فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ) وهو ما يقبح ، (وَالْعُدْوانِ) وهو ما يؤدي إلى ظلم الغير ،


(وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) وهو ما يكون خلافا عليه. وقرئ «فلا تنتجوا» وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين ، (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) وهو الذي يضاد العدوان ، (وَالتَّقْوى) وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩) ، أي اتقوا الله في أن تتناجوا دون المؤمنين الذي تجمعون بقهر إليه تعالى يوم القيامة ، أي إلى مكان المحاسبة والمجازاة (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي إنما النجوى السابقة ـ وهي نجوى المنافقين ـ مع اليهود ممتدة من الشيطان ، أي إن الشيطان يأمرهم بأن يقدموا عل تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين ، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا : ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا ، وهزموا ، يقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له. وقرأ نافع «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي ، فحينئذ ففاعله ضمير يعود على «الشيطان» ، أي ليحزن الشيطان المؤمنين بتوهمهم أن النجوى في نكبة أصابتهم ، (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي وليس مناجاة المنافقين بضارة المؤمنين شيئا من الضرر إلا بمشيئة الله ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠) ، فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) أي إذا قيل لكم : ليتوسع بعضكم عن بعض فتوسعوا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) في كل ما تريدون التوسع فيه من المكان ، والرزق ، والصدر ، والقبر ، والجنة. وهذه الآية تدل على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. والمراد : من هذا التوسيع إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند «تفاسحوا». وقرأ عاصم «في المجالس» بصيغة الجمع ، لأن لكل جالس موضع جلوس على حدة. والباقون «في المجلس» بالتوحيد على أن المراد به الجنس. وقرئ «في المجالس» يفتح اللام. قيل : نزلت هذه الآية في نفر من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان النبي جالسا في صفة صفية يوم الجمعة ، فلم يجدوا مكانا يجلسون فيه ، فقاموا على رأس المجلس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن لم يكن من أهل بدر : «يا فلان قم ، ويا فلان قم مكانك ليجلس فيه من كان من أهل بدر». وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهية لمن أقامه من المجلس ، فأنزل الله فيهم هذه الآية يوم الجمعة.

وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ضايقه بعضهم ، وجرى بينه وبينهم كلام وذكر للرسول محبة القرب منه ، ليسمع منه وأن فلانا لم يفسح له ، فأمر القوم بأن يوسعوا ، ولا يقوم أحد لأحد ، فنزلت هذه الآية.


مسألة : إذا أمر إنسان أن يبكر الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، أما إذا أرسل سجادة لتفرش له في المسجد حتى يحضر هو ، فيجلس عليها فذلك حرام لما فيه من تحجير المسجد بلا فائدة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا قيل : ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقوموا إلى الموضع الذي تؤمرون به. وقرئ «انشزوا» بكسر الشين وبضمها ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع الله المؤمنين منكم أيها المأمورون بالتفسح والعالمين منه خاصة درجات بامتثال أوامره تعالى ، وأوامر رسوله والموصول الثاني معطوف على الموصول الأول إما من عطف الخاص على العام ، أو من عطف الصفات و «درجات» مفعول ثان كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات.

وقال ابن عباس : تم الكلام عند قوله تعالى : (مِنْكُمْ) وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر ، أي ويخص الذين أوتوا العلم بدرجات أو يرفعهم إلى درجات.

قال ابن مسعود : مدح الله العلماء في هذه الآية ، والمعنى أن الله تعالى يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذ فعلوا بما أمروا به. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١) وهذا تهديد لمن لم يمتثل الأمر. وقرئ «يعملون» بالياء التحتية. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي إذا أردتم مناجاة الرسول في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصدقوا قبل النجاة ، وفائدة هذا التقديم تعظيم مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره ، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة على المناجاة ، وتمييز محب الآخرة عن محب الدنيا بتلك الصدقة ، فإن المال محك الدواعي. وقال أبو مسلم : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي ، وهذا التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا منسوخا. وقيل : نزلت هذه الآية في أهل الميسرة فإن منهم من كانوا يكثرون المناجاة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الفقراء حتى تأذى بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفقراء ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصدقة قبل أن يتناجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرهم على الفقراء بكل كلمة (ذلِكَ) أي التصدق (خَيْرٌ لَكُمْ) في دينكم من الإمساك (وَأَطْهَرُ) لذنوبكم ولقلوبكم من حب المال ، لأن الصدقة طهرة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به يا أهل الفقر ، فتكلموا مع رسول الله بما شئتم بغير التصدق ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) أي فطن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه ، (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أخفتم تقديم الصدقات لما يخوفكم الشيطان به من الفقر وبخلتم يا أهل الميسرة ، (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به من إعطاء الصدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن أرخص


لكم في أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات ، أي إذا كنتم راجعين إلى الله تعالى وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وأطعتم الله ورسوله في سائر الأوامر ، فقد كفاكم هذا التكليف ، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣) ظاهرا وباطنا ، فهو محيط بأعمالكم ونياتكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي ليس المنافقون منكم أيها المسلمون في السر ، ولا من اليهود في العلانية ، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك ، (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي ويقولون : والله إنا لمسلمون ، أو إنا لا يشتمون الله ورسوله ولا يكيدون المسلمين. يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرته إذ قال : يدخل عليكم اليوم رجل ينظر بعيني شيطان ، فدخل رجل عيناه زرقاوان ، وهو عبد الله بن نبتل ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تسبني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل ، فانطلق وجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فأنزل الله هذه الآية قيل : نزلت في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه بولايتهم مع اليهود ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤) أنهم كاذبون في حلفهم فيمينهم يمين غموس لا عذر لهم فيها (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي للمنافقين بسبب ذلك (عَذاباً شَدِيداً) أي متفاقما لا طاقة لهم به في القبر ، (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥) في نفاقهم فيما مضى من الزمان المتطاول ، فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي حلفهم الكاذبة (جُنَّةً) أي سترة عن دمائهم وأموالهم. وقرأ الحسن «إيمانهم» بكسر الهمزة أي اتخذوا إظهار إيمانهم لأهل الإسلام وقاية عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين ، وسترة عن أن يقتلهم المسلمون ، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام وذلك قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي صرفوا الناس في السر عن دين الله (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٦) ، أي يهانون به في الآخرة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا من الدفع ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملاقوها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٧) أي لا يخرجون منها أبدا.

روي أن واحدا منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزلت هذه الآية. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) قيل : هو ظرف لقوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي بين يدي الله ما كنا كافرين ولا منافقين ، (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا (وَيَحْسَبُونَ) في الآخرة (أَنَّهُمْ) بتلك الأيمان الفاجرة (عَلى شَيْءٍ) من جلب منفعة ، أو دفع مضرة ، كما كانوا عليه في الدنيا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٨) ، عند الله في حلفهم أي أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، فكأن هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدا ، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب على أمور المنافقين الشيطان ، (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فلا


يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، (أُولئِكَ) أي المنافقون (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي جنده ، (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩) ، أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢٠) ، أي إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين أولئك في جملة الكفار الخلص أو مع الأسفلين في النار وهم المنافقون. (كَتَبَ اللهُ) أي أثبت الله في اللوح المحفوظ وقال : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) محمد عليه الصلاة والسلام بالحجة والسيف على فارس والروم واليهود والمنافقين ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر أنبيائه ، (عَزِيزٌ) (٢١) بنقمة أعدائه لا يغلب عليه في مراده.

قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. قال عبد الله بن أبي سلول لهم : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم ، فيكون لكم فتح فارس والروم كلا والله أنهم أكثر جمعا وعدة!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة رجل من أهل اليمن الذي كتب كتابا إلى أهل مكة بسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أخبر أهل مكة بمسير النبي إليهم لما أراد فتح مكة وكان هو بدريا. قال الله تعالى : (لا تَجِدُ) يا أشرف الخلق (قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يناصحون من خالف الله ورسوله في الدين بإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم ، ولا منع فيما عدا ذلك ، لأن الأمة أجمعت على جواز مخالفتهم ومعاملتهم. والمعنى : لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله ، فإن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه ، (وَلَوْ كانُوا) أي من خالف الله ورسوله (آباءَهُمْ) أي آباء المتحابين (أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي جماعتهم من قوم شتى.

قال سعيد : نزلت هذه الآية في شأن أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر. وعن عمر بن الخطاب قال : لو كان أبو عبيد حيا لاستخلفته.

روى نطيس عن ابن عباس وروى غيره عن جماعة أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة ، فإن عبيدة بن جراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم بدر ، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وأبا بكر دعا ابنه للبراز يوم بدر ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقعود ، وقال : متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟ وروي أنه صك أباه أبا قحافة صكة أسقطت أسنانه حين سمعه يسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومصعب بن عمير قتل أخاه أبا عزيز عبيد بن عمير يوم أحد ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري قتل أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير وعليا وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم ، عتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة وقد أخبر الله تعالى : إن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ولدينه ، (أُولئِكَ) أي الذين لا يوادون الكفار (كَتَبَ) أي أثبت


الله (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، وشرح الله صدورهم بالإلطاف. وروي المفضل عن عاصم كتب على البناء للمفعول (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي قواهم بنور القلب من عند الله تعالى. وقيل : بنصر من الله على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحا ، لأن بها يحيا أمرهم كما قاله ابن عباس والحسن ، وقال السدي. الضمير في قوله : (مِنْهُ) عائد إلى الإيمان. والمعنى : أعانهم بروح من الإيمان وسمى روحا لحياة القلوب به (وَيُدْخِلُهُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ونعمة الرضوان هي أعظم النعم وأجل المراتب ، (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنده (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) ، أي الفائزون بسعادة الدارين الناجون من العذاب والسخط.


سورة الحشر

وتسمى سورة النضير ، مدنية ، أربع وعشرون آية ، سبعمائة

وخمس وأربعون كلمة ، ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا : هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر ، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة وحالفوا أبا سفيان وأصحابه أربعين رجلا عند الكعبة على قتاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة ، ثم صبحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتائب ، وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : «اخرجوا من المدينة». فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك ، ثم تنادوا بالحرب ، فبعث إليهم خفية عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقالوا : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ، ولننصرنكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم ، فحصنوا الأزقة ، فحاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، وللنبي ما بقي ، فجعلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم بنو النضير من اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) أي مساكنهم بالمدينة (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي عند أول إخراج الجمع من مكان إلى مكان وهم أول من أخرجوا من جزيرة العرب إلى الشام لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، (ما ظَنَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم بهذا الذل لعزتهم وقوتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله ، أي كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها


تمنعهم من رسول الله و «حصونهم» إما مبتدأ و «مانعتهم» خبر مقدم ، والجملة خبر «أن» وإما فاعل لمانعتهم وهي خبر «أن». (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فأتى أمر الله اليهود باذلا لهم من حيث لم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة. وقرئ «فآتاهم الله» بمد الهمزة ، أي فأعطاهم الله الهلاك. وقيل : الضمير للمؤمنين ، أي فآتاهم نصر الله من حيث لم يرجوا وهو إخراج بني النضير من قرية يقال لها : زهرة إلى الشام وكان بين زهرة والمدينة ميلان (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي أثبت في قلوبهم الخوف من محمد وأصحابه ، وكانوا قبل ذلك لا يخافون (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمون بعض بيوتهم بأيديهم من داخل الحصون ليسدوا بالخشب والحجارة أفواه الأزقة ، ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين ، ولينقلوا معهم بعض آلاتها مما يقبل النقل ويهدم المؤمنون بعض بيوت بني النضير من خارج توسيعا لمجال القتال ، ونكاية لهم ، ومنعا لتحصنهم بها. وقرأ أبو عمرو وحده «يخرجون» بفتح الخاء وتشديد الراء ، وقال : الأخراب ترك الموضع خرابا ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. (يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) أي فاتعظوا بحالهم ولا تعتمدوا على شيء غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على حصونهم ، وعلى قوتهم وعلى المنافقين فليس للزاهد أن يعتمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام ، وليس للعالم أن يعتمد علمه. انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار فلا ينبغي لأحد أن يعتمد إلا على فضل الله ورحمته ، (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي ولولا أن قضى الله على بني النضير الخروج عن أوطانهم على الوجه الفظيع (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي كما فعل بإخوانهم بني قريظة من اليهود ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) (٣) وهذا استئناف غير متعلق بجواب لولا أي ولهم على كل حال سواء أجلوا أم لا عذاب النار في الآخرة ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ذلك المذكور من العذابين بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله في الدين ، (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤) أي ومن يخالف الله يعاقبه الله في الدنيا والآخرة ، فإن الله شديد العقاب.

وقرئ «ومن يشاقق الله» كما في الأنفال. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل ببني النضير وقد تحصنوا بحصونهم أمر أصحابه بقطع نخيلهم وإحراقها. قال بنو النضير : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ، فكان في أنفس المؤمنين شيء من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعه ، فأنزل الله تعالى قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي أيّ شيء قطعتم أيها المسلمون من نخلة (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) كما كانت (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فذاك القطع والترك بإباحة الله تعالى ليعز المؤمنين ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٥) أي إنما جوز الله ذلك القطع ليسر المؤمنين ويزداد غيظ الكفار اليهود ويتضاعف تلهفهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم


في أعز أموالهم. وقرئ «قوما» على أصلها. وقرئ أيضا «قائما» على أصوله ذهابا إلى لفظ ما ، (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي ما رده الله لرسوله من يهود بني النضير ، فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة دونكم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ، أي لأنكم ما أجريتهم إلى تحصيل ذلك خيلا ولا ركابا (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من أعدائهم ، وقد سلط الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هؤلاء اليهود من غير أن تقاسوا أيها المسلمون شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) فيفعل ما يشاء ، نزلت هذه الآية في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، وإنما كانوا في زهرة على ميلين من المدينة ، فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله ، وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا ، فخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأموال ، ثم روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسّمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة ، وأعطى سعيد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق. ومعنى الآية : أن الصحابة طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بينهما ، وهو أن الغنيمة ما اتبعتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم الخيل والركاب والفيء ما ليس في تحصيله تعب ، فكان الأمر فيه مفوضا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعه حيث يشاء ، (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) كقريظة والنضير ، وفدك وخيبر ، وعرينة ، وينبع والصفراء ، (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

قيل : يصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة والمساجد ، ويصرف سهم رسول الله وفاته وهو أربعة أسهم إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار ، وبناء القناطر يقدم الأهم فالأهم أو إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور ، لأنهم قائمون مقام رسول الله في رباط الثغور ، (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل أن لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء.

وقرأ هشام «تكون» بالتأنيث على خلاف عنه «دولة» بالرفع ، أي كيلا يقع دور في يد الأغنياء. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بفتح الدال فقيل : الضم والفتح بمعنى. وقيل : «الدولة» بالفتح من الملك بضم الميم ، و «الدولة» بضم من الملك بكسر الميم ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فإنه واجب الطاعة ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وهذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من الله تعالى ، وإن كانت الآية خاصة في الفيء ، فجميع أوامره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه داخلة فيها (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) فيعاقب من يخالف أمره ونهيه (لِلْفُقَراءِ) بدل من لذي القربى ، و «ما» عطف عليه كأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء ، (الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) حيث إن كفار مكة أحوجوهم إلى


الخروج منها وكانوا مائة رجل ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي فخرجوا منها طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأنفسهم وأموالهم ، فإن خروجهم من بين الكفار مهاجرين إلى المدينة نصرة ، (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) في دينهم ، لأنهم هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين.

وعن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وأقسم لكم من الغنائم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم وأقسم الغنيمة بين الفقراء المهاجرين خاصة دونكم» (١). فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ولا نشاركهم في الغنيمة فأثنى الله عليهم فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي والذين هيئوا لدار الهجرة والإيمان وتمكنوا فيهما أشد تمكن من قبل مجيء المهاجرين إليهم ، (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمحبتهم الإيمان ، (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم (حاجَةً) أي حزازة وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره دونهم ، (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ، أي ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش ، ولو كان فيهم فقر وحاجة إلى ما يقدمون به غيرهم ، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم.

روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته نوّمي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى حرص نفسه على المال حتى يخالفها في حب المال وبغض الإنفاق ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) أي الظافرون بما أرادوا.

قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وقرئ «يوق» بالتشديد ، وشح بكسر الشين (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هجرة المهاجرين ومن بعد قوة إيمان الأنصار ، (يَقُولُونَ) أي يدعون لهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَلِإِخْوانِنَا) في الدين (الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهو جميع من تقدمهم من المسلمين لا خصوص المهاجرين والأنصار ، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا.

وقرئ «غمرا». (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أيا كانوا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠) فينبغي للمؤمن أن يذكر السابقين بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) وهم عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد فإنهم كانوا من الأنصار ، ولكنهم نافقوا في دينهم (يَقُولُونَ)

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير وفيه : «إن شئتم قسمت للمهاجرين».


في السر (لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ وهم اليهود من بني قريظة والنضير ، فهم مشتركون في الكفر وفي عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم ، (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في شأنكم (أَحَداً) يمنعنا من الخروج معكم (أَبَداً) ، أي وإن طال الزمان. وقيل : لا نعين عليكم أحدا من أهل المدينة ، (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من أي مقاتل كان (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) على عدوكم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١١) في تلك المقالات الثلاثة المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي اليهود من المدينة (لا يَخْرُجُونَ) أي المنافقون (مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ، وكان الأمر كذلك ، وفي هذا دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن حيث أخبر عما سيقع فوقع الأمر كما أخبر ، (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١٢) ، أي ولئن خرج المنافقون لقصد نصر اليهود لينهز من المنافقون ، ثم يهلكهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي أن خوف المنافقين واليهود في السر من المؤمنين أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه للمؤمنين ، وكانوا يظهرون لهم خوفا شديدا من الله ، والمعنى : أنهم لا يقدرون على مقابلتكم ، لأنكم أشد مرهوبية في صدورهم ، وهم يظهرون خوفهم من الله ، (ذلِكَ) أي كون خوفهم من المخلوق أشد من خوفهم من الخالق ، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣) أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون عظمة الله فيخشوه حق خشيته ، (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) ، أي لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلتكم مجتمعين في موطن إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب ، أو إلا إذا كان بينكم وبينهم حائط ، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن نصرة الله معكم.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» بكسر الجيم وفتح الدال بالإمالة في جدار كما هو قراءة أبي عمرو وبالصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو كما هو قراءة ابن كثير والباقون «جدر» بضم الجيم والدال ، (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي قتالهم فيما بينهم شديد إذا قاتلوا قومهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تحسبهم في صورتهم مجتمعين على المحبة ، متفقين على أمر واحد. والحال أن قلوبهم مختلفة ، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة وشديدة ، (ذلِكَ) أي تشتت قلوبهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤) أن تشتيت قلوبهم مما يوهن قواهم إذ لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في العقائد والمقاصد ، (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي صفة بني قريظة في نقض العهد كصفة الذين من قبلهم بسنتين ، وهم بنو النضير ذاقوا عقوبة أمرهم من نقض العهد ، (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٥) (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) ، أي ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال وخذلانهم كمثل الأبيض مع برصيصا العابد ، فالأبيض هو صاحب الأنبياء والأولياء ، وهو الذي تصدّى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه


على وجه الوحي ، فدفعه جبريل إلى أقصى أرض الهند ، (إِذْ قالَ) أي الشيطان الذي يقال له : الأبيض (لِلْإِنْسانِ) ـ أي العابد الذي يقال له برصيصا ـ (اكْفُرْ) بالله (فَلَمَّا كَفَرَ) بالله خذله و (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) ، أي ليس بيني وبينك محبة أصلا. وقرئ «أنا بريء منك».

روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال : كان راهب يقال له : برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة ، لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين ، فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك أمره ، فانطلق فتزيا بزي الرهبان ، وحلق وسط رأسه ، وأتى صومعة برصيصا ، فناداه ، فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة ، ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة ، فأقبل الأبيض يصلي في أصل صومعة برصيصا فلم يلتفت إليه برصيصا ، أربعين يوما ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض في العبادة قال له : ما حاجتك؟ قال : حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك ، فأذن له ، فارتفع إليه في صومعته ، فأقام حولا يتعبد ، فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك ، فلما حال الحول ، قال الأبيض لبرصيصا : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه ، يشفي الله تعالى بها المريض ، ويعافي بها المبتلى والمجنون. قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة وإني أخاف أن يشغلني الناس عن عبادة ربي ، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه الدعوات ، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : والله قد أهلكت الرجل ، فانطلق الأبيض ، فتعرض لرجل فجننه ، ثم جاءه في صورة رجل مطبب فقال لأهله : إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا : نعم ، فقال : إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه ، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب ، فانطلقوا به إليه ، فسألوه الدعاء ، فدعا له ، فذهب عنه الشيطان ، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا ، فيدعو لهم ، فيعافون ، ثم تعرض الأبيض لبنت ملك من ملوك بني إسرائيل وكان لها ثلاثة أخوة ، وكان ملك بني إسرائيل عمهم حينئذ ، ثم جاء الأبيض إليهم في صورة رجل مطبب فقال : أفأعالجها؟ قالوا : نعم ، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تتركونها عنده إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتأخذونها منه صحيحة قالوا : ومن هو؟ قال : هو برصيصا فانطلقوا إليه ، فسألوه ذلك ، فأبى ، فبنوا صومعة ألصقوها بصومعة برصيصا ووضعوا تلك البنت في صومعتها وقالوا : يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك ، ثم انصرفوا ، فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين تلك البنت وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ، فجاءها الشيطان ، فخنقها ، فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا ، فجاءه الشيطان وقال : ويحك ، واقعها ، فلم تجد مثلها ، وستتوب بعد ذلك ، فلم يزل الشيطان به حتى واقعها ، فلم يزل على ذلك حتى حملت البنت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب ، فقتلها ، فدفنها ليلا جانب


الجبل ، فجاء الشيطان وقتئذ ، فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها الذين يتعهدونها ، فلما لم يجدوها قالوا : يا برصيصا ، ما فعلت أختنا؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا ، فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك ، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وأنه دفنها في موضع كذا وكذا ، فقال في نفسه : هذا حلم من عمل الشيطان ، فتابع عليه ثلاث ليال ، فلم يكترث ، ففعل الشيطان بأوسطهم مثل ذلك فقال مثل قول أكبرهم ، ولم يخبر بذلك الحلم أحدا ، ففعل بأصغرهم مثل ذلك فقال : لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط : أنا والله رأيت مثل ذلك! وقال الأكبر : أنا والله رأيت مثله ، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له : ما فعلت بأختنا؟ فقال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا : والله لا نتهمك ، واستحيوا منه ، وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم ، إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف إزارها خارج من التراب ، فانطلقوا ، فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم ، فذهبوا إلى برصيصا ومعهم غلمانهم بالفوس والمساحي ، فهدموا صومعة برصيصا ، وأنزلوه منها ، وكتفوه ، ثم أتوا به إلى الملك فأقر على نفسه ، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، فاستجيب لك ، فلم يزل الأبيض يعيره قال برصيصا له : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه من العذاب ، وأخرجك من مكانك. قال : وما هي؟ قال تسجد لي. قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك ، قد صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك. (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١٦). وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «إني» بفتح الياء. (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي الشيطان والراهب (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) و «عاقبتهما» بالنصب خبر «كان» مقدم. وقرئ شاذا بالرفع. وقرأ ابن مسعود «خالدان فيها» على أنه خبر «أن» و «في النار» لغو. (وَذلِكَ) أي الخلود في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧) أي المشركين. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وما تذرون ، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) برة أو فاجرة (ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، أي ما تريد أن تحصله ليوم القيامة فتفعله ، (وَاتَّقُوا اللهَ) بأداء الواجبات وترك المعاصي ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) من الخير والشر ، فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى منه تعالى ، ومسمع ، فاستحيوا منه تعالى ، (وَلا تَكُونُوا) يا معشر المؤمنين (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي نسوا حق الله كالمنافقين واليهود ، فإن المنافقين تركوا طاعة الله في السر ، واليهود تركوا طاعة الله في السر والعلانية ، (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي فجعلهم الله ناسين حق أنفسهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ما ينفعهم عنده تعالى ، (أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩) أي الكاملون في الفسوق ، أي الخروج عن دائرة الطاعة ، (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ) الذين نسوا الله تعالى (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ)


الذين اتقوا الله تعالى ، لا في الدنيا ولا في الآخرة بوجه من الوجوه ـ واحتج بهذه الآية أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) بكل مطلوب ، الناجون عن كل مكروه. (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لو جعلنا في الجبل على قساوته عقلا كما جعلنا العقل فيكم ، ثم أنزلنا عليه هذا القرآن المنطوي على فنون القوارع لخشع وتشقق خشية من الله وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن وأنتم أيها المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نبينها لهم في القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) ، أي لكي يتأملوا مواعظ القرآن فإنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأيتها ذليلة متشققة من خشية الله. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي عالم ما غاب عن العباد ، وما شاهدوه.

وقال ابن عباس : عالم السر والعلانية. وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا. وقيل : عالم ما غاب عن الوجود وهو المعدوم وعالم الموجود ، (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢٢) أي هو العاطف على العباد ، البر والفاجر بالرزق لهم ، المنعم ـ على المؤمنين خاصة ـ بالمغفرة ودخول الجنة. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو وحده ، (الْمَلِكُ) أي المتصرف بالأمر في جميع خلقه ، (الْقُدُّوسُ) أي البليغ في النزاهة في الذات ، والصفات ، والأفعال ، والأحكام ، والأسماء.

قال الحسن : أي الذي كثرت بركاته. (السَّلامُ) أي الذي لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل ، (الْمُؤْمِنُ) أي واهب الأمن ، (الْمُهَيْمِنُ) أي الحافظ لكل شيء ، (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يوجد له نظير ، أو الغالب (الْجَبَّارُ) أي الملك العظيم ـ كما قاله ابن عباس ـ أو مصلح أحوال العباد ، أو الذي يقهرهم على ما أراد ، (الْمُتَكَبِّرُ) بربوبيته ـ كما قاله ابن عباس ـ أو المتعظم عن كل سوء ـ كما قاله قتادة ـ أو الذي تعظم عن ظلم العباد (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢٣) ، أي تنزيها له تعالى عما يشركون به. (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي المقدر لما يوجده ، فيرجع إلى تعلق الإرادة التنجيزي القديم ، (الْبارِئُ) أي المبرز للأعيان من العدم إلى الوجود ، فيرجع لتأثير القدرة الحادث في خصوص الأعيان ، (الْمُصَوِّرُ) أي مصور الأشياء على هيئات مختلفة مما يريد تعالى ، فالتصوير آخر ، والتقدير أولا ، والبرء بينهما.

وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بفتح الواو وبالنصب مفعول لـ «البارئ». (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي له تعالى الأسماء الدالة على معاني الصفات الحسنة ، (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينطق ما فيهما بتنزهه تعالى عن جميع النقائص تنزها ظاهرا ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤) الجامع للكمالات كافة ، فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.


سورة الممتحنة

وتسمى سورة براءة والمبعثرة ، والفاضحة ، مدنية ، ثلاث عشرة آية ،

ثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة ، ألف وخمسمائة وعشرة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) في الدين (وَعَدُوَّكُمْ) في القتل ، وهم كفار مكة (أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أي توصلون المودة بينكم وبينهم. روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يغزوكم ، فخذوا حذركم ، ثم أرسله مع سار مولاة أبي عمرو بن صيفي ، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها بردا ، واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة ، فخرجت سائرة ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث عليا ، وعمارا ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مرثد وقال : انطلقوا حتى تألوا روضة خاخ ـ موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا ـ فإن فيها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها ، واتركوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة ، وسألوا عن ذلك فأنكرت وحلفت ما معها كتاب ، فسل على سيفه وقال : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فخلوا سبيلها ، فجاءوا بالكتاب إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستحضر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا وقال له : «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال : نعم ، قال «ما حملك على هذا؟» (١) قال : إن لي بمكة أهلا ومالا ، فأردت أن أتقرب منهم ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، وأن الله ناصرك عليهم ، فصدقه ، وقبل عذره فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر» فقال لهم : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٢)

__________________

(١) رواه النسائي في السنن (٨ : ٢٤٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ : ٧٩) ، وعبد الرزاق في المصنف (١٧٩٣٢) ، وابن حجر في المطالب العالية (٢٢٠٦) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٥ : ٣٨٧) ، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (١ : ١٠٧).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦ : ١٨٦) ، ومسلم في فضائل الصحابة ١٦٢ ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢٠٣) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين (٧ : ١٣٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٠١٩٣).


ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم فنزلت هذه الآية.

وروي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر وأسلمت وحسن إسلامها ، (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الدين الحق. وقرئ «لما جاءكم» أي كفروا لأجل ما جاءكم من الرسول والقرآن ، أي جعلوا ما هو سبب الإيمان سببا للكفر (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة إلى المدينة ، (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) وهذا تعليل للإخراج أن يخرجوكم لإيمانكم بالله (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) من مكة إلى المدينة (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) وهذا مرتبط بلا تتخذوا ، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أي بالنصيحة. وهذه الجملة بدل من «تلقون إليهم» بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرا وجهرا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي والحال إني أعلم منكم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم ، فأي فائدة لكم في إسرار النصيحة وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي؟ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١) أي ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار فقد أخطأ طريق الصواب ، هذا كله معاتبة لحاطب ، وهذا يدل على فضله وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب كما قال القائل من الوافر :

ويبقى الود ما بقي العتاب

 

إذا ذهب العتاد فليس ود

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يغلب عليكم أهل مكة يظهروا ما في قلوبهم من غاية العداوة ، (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالشتم والطعن (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، أي وتمنوا كفركم بعد إيمانكم ، فحينئذ لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم ، (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) الذين تتقربون إلى المشركين لأجلهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) والظرف إن علق بـ «يفصل» فالوقف على «أولادكم» وقف بيان ، أو وقف تام عند أبي حاتم ، والوقف على «بينكم» وإن علق بـ «تنفعكم» فالوقف على «يوم القيامة» وهو وقف صالح. وقرأ ابن عامر «يفصل» بضم وفتح الفاء وتشديد الصاد مع فتحها ، ونائب الفاعل ظرف مبني على الفتح وحمزة والكسائي كذلك ، إلا أنهما يكسران الصاد ، أي يفرق الله بينكم وبين أقاربكم وأولادكم ، فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار ، وعاصم بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الياء وسكون الفاء ، وفتح الصاد.

وروي أن ابن كثير قرأ أيضا بالبناء للمفعول كعاصم. وقرئ «نفصل» و «نفصل» بالنون (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣) فيجازيكم عليه ، ولم يقل تعالى خبير مع أنه أبلغ في العلم ، لأن البصير أظهر من خبير في العلم ، لأنه تعالى يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر ، (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة حسنة (فِي إِبْراهِيمَ) ، أي في جميع أحواله من قول وفعل (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه المؤمنين.


وقرأ عاصم «أسوة» بضم الهمزة في الموضعين. والباقون بكسرها ، (إِذْ قالُوا) بدل اشتمال من «إبراهيم والذين معه» ، (لِقَوْمِهِمْ) أي لقرابتهم الكفار ، مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إنا متبرئون من قرابتكم إيانا ومن معبودكم من الأوثان (كَفَرْنا بِكُمْ) أي أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم ، (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ) أي ظهر بيننا وبينكم العداوة ، وهي المباينة في الأفعال ، (وَالْبَغْضاءُ) وهي المباينة بالقلوب (أَبَداً) أي على الدوام ، (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، وتتركوا الشرك ، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية ، والبغضاء محبة ، أمر الله تعالى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء ، (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك ، لأنه لما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياها ، لأنه ظن أنه أسلم ، فلما مات على الكفر تبرأ منه وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء ، (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهذا حال من فاعل «لأستغفرن» ، أي لأستغفرن لك والحال أني لا أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أشركت به ، أي وما علي إلا بذل الوسع في الاستغفار فوعده الاستغفار ، رجاء الإسلام.

وقال ابن عباس : كان من دعاء إبراهيم وأصحابه : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي في جميع أمورنا (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا بالتوبة عن المعصية وأقبلنا إلى طاعتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٤) إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك ، (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي مفتونين بهم.

قال ابن عباس : لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق. وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك ، (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥) أي أنت الذي تغلب في ملكك الحكيم في صنعك ، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) يا أمة محمد (فِيهِمْ) أي في إبراهيم والذين معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

قال ابن عباس : كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله ، وهذا هو الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه ، (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة وقوله : (لِمَنْ) إلخ بدل من «لكم» بدل بعض من كل ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عن الائتساء بهم ويمل إلى مودة الكفار ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن سائر خلقه ، (الْحَمِيدُ) (٦) أي المحمود في فعاله.

قال مقاتل : لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم ، وجميع أقاربهم ، فأنزل الله تعالى قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من كفار مكة (مَوَدَّةً) أي صلة بمخالطتهم مع أهل الإسلام ، (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي مبالغ في القدرة فيقدر على تسهيل أسباب المودة ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧) بهم إذا تابوا وأسلموا ، ورجعوا إلى حضرة الله


تعالى ، فتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام فتح مكة أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان ، واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت هي قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصّر وراودها على النصرانية ، فأبت ، وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي ، فخطبها عليه ، وساق عنه إليها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يقرع أنفه. والمراد بقوله تعالى : (الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) نفر من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم : أبو سفيان بن حرب ، وأبو سفيان بن الحرث ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام. (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ، أي لأجل دينكم (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي تصلوهم وهو بدل من «الذين لم يقاتلوكم» (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تفضوا إليهم بالصلة وغيرها ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨) أي أهل البر والتواصل عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، فإن أمها فتيلة بنت عبد العزى ، وهي مشركة قدمت عليها بهدايا ، فلم تقبلها ، ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت هذه الآية فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخلها وتكرمها وتحسن إليها. وقيل : نزلت في خزاعة ـ قوم هلال بن عويمر ـ وخزيمة ، وبني مدلج ، فإنهم صالحوا النبي قبل عام الحديبية على أن لا يقاتلوه ، ولا يخرجوه من مكة ولا يعينوا أحدا على إخراجه. وقيل : نزلت في قوم من بني هاشم أخرجوا يوم بدر كرها ، وهذه الآية تدل على جواز الإحسان بين المشركين والمسلمين وإن كانت المناصرة منقطعة ، (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي لأجل دينكم ، (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) وهم عتاة أهل مكة ، (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي عاونوا عليه من سائر أهل مكة ، (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي أن تناصروهم. هذا بدل اشتمال من «الذين قاتلوكم» (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي ومن يحبهم ويناصرهم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩) لأنفسهم بإقبالها للعذاب لوضعهم المحبة في موضع العداوة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) أي المقرات بالله (مُهاجِراتٍ) من مكة من بين الكفار ، (فَامْتَحِنُوهُنَ) أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم بالتحليف ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول للممتحنة : «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله ، ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله». (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد الله بعلمه (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، أي فإن ظننتموهن بعد الامتحان مؤمنات بالعلائم فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين ، (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) أي ليست المؤمنات حلا لأزواجهن الكفار ، وهذا بيان لزوال النكاح الأول ، (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي وليس الكفار حلا للمؤمنات. وهذا بيان لامتناع النكاح الجديد (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور ، فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها ، وقد فوتها المهاجرة فلا يجمع على الرجل خسارتان : الزوجية والمالية. وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من


جاءكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم ، وكتبوا بذلك العهد كتابا وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية ، مسلمة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي فقال : يا محمد ، اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف ، فنزلت هذه الآية لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء ، فاستحلفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق ، ثم تزوجها عمر رضي‌الله‌عنه وأخرج الطبراني عن عبد الله أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

وعن الزهري : كانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها : عمارة والوليد ، فحبسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد أخويها. وأخرج بن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب أنها نزلت في أمية بنت بشر امرأة أبي حسان ابن الدحداحة. وعن مقاتل : أنها نزلت في سعيدة امرأة صيفي بن الواهب. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا معشر المؤمنين (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) بعد الاستبراء (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي إذا التزمتم مهورهن ، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم ، إذا تزوجهن إذ المهر أجر البضع.

قال ابن عباس : أيما امرأة أسلمت وزوجها كافر فقد انقطع ما بينها وبين زوجها من عصمة ولا عدة عليها من زوجها الكافر وجاز لها أن تتزوج إذا استبرأت ، (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تأخذوا بعقود الكافرات غير أهل الكتاب.

قال ابن عباس : أيما امرأة كفرت بالله فقد انقطع ما بينها وبين زوجها المؤمن من العصمة. وقرئ في السبعة «تمسكوا» بضم التاء وسكون الميم وبفتح الميم وتشديد السين. وقرئ «تمسكوا» بفتح التاء والميم وتشديد السين ، (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي اطلبوا أيها المؤمنون من أهل مكة ما اتفقتم على أزواجكم من مهورهن إن دخلن في دينهم ، (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليطلبوا منكم ما أنفقوا على أزواجهم من المهور إن دخلن في دينكم (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠).

روي أنه لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن انفلت منكم أحد من أزواجكم ، ورجع إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فغنمتم من العدو ، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار من الغنيمة قبل الخمس مثل ما أنفقوا عليهن من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ، ولا تعطوه زوجها الكافر ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١) ، وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة : أخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية ، وأم كلثوم


بنت جرول ـ وهما تحت عمر بن الخطاب ـ وأم الحكم بنت أبي سفيان ، كانت تحت عباد بن شداد العمري ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان من بني مخزوم ، وعبدة بنت عبد العزى ، كانت تحت عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هاشم بن العاص ، فأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهر نسائهم من الغنيمة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) أي نساء أهل مكة بعد فتح مكة (يُبايِعْنَكَ) أي قاصدات المشارطة (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الإشراك ، (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ).

وقرئ «ولا يقتلن» بتشديد التاء ، (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ، كانت المرأة تلتقط المولود من الزنا فتقول لزوجها : هو ولدي منك كني عن هذا بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها ، ومخرجه بين رجليها ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي فيما تأمرهن به من معروف ، وهو ما عرف حسنه من جهة الشرع. وهذا تنبيه على نفي جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق ، وذلك كترك النوح وجز الشعر ، ونتفه ، وحلق الرأس ، وخمش الوجه ، وشق الجيوب ، وتمزيق الثياب ، وأن لا يخلون مع رجل غير محرم وأن لا يسافرن مع غير ذي محرم ، (فَبايِعْهُنَ) أي فشارطهن على ذلك ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) فيما سلف منهن في الجاهلية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) ، أي مبالغ في المغفرة والرحمة.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح مكة جلس على الصفا ، ومعه عمر أسفل منه ، فجعل يبايع النساء ، وكانت جملتهن إذ ذاك أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة ، ولم يصافح في البيعة امرأة ، وإنما بايعهن وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء ، فغمسن يده فيه فغمس أيديهن فيه وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة ، متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت : لقد عبدنا الأصنام وأنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ، ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تسرقن». قالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر ، فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة» قالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فلما قال : «ولا تزنين» ، فقالت : أو تزني الحرة؟ فلما قال : «ولا تقتلن أولادكن». قالت : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قال : «ولا تأتين ببهتان» (١) إلخ قالت : والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٣٦٥) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٦ : ٣٨) ، وابن كثير في ـ


بالرشد ومكارم الأخلاق ولما قال : «ولا تعصينني في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تحبوا اليهود فإنهم قوم غضب الله عليهم.

روي أن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم من إصابة ثمارهم ، فنهوا عن ذلك بهذه الآية ، (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي قد حرموا من ثواب الآخرة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣) أي كما حرم من ذلك الذين ماتوا منهم.

وقال أبو إسحاق : يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.

__________________

ـ التفسير (٨ : ١٢٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢١٠) والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٧٣.


سورة الصف

مدنية ، أربع عشرة آية ، مائتان وإحدى وعشرون كلمة ، تسعمائة وستة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات السنية جميع ما في السموات والأرض ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي يغلب على غيره ، (الْحَكِيمُ) (١) أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢).

روي أن المسلمين قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فلما نزل الجهاد كرهوه ، فنزلت هذه الآية ، أي لم تعدون ما لا توفون. وقيل : إنها نزلت فيمن يتمدح كاذبا حيث كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وهذا أي لم تتكلمون بما لا تعملون. (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣).

قال الزجاج : أي كبر قولكم ما لا تفعلون بغضا عند الله ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) ، أي في طاعته تعالى (صَفًّا) في القتال.

قرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء. وقرئ «يقتلون» ، أي يصفون وصفا حال من فاعل «يقاتلون» ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤) أي مشبهين ببنيان ألصق بعضه على بعض حتى صار شيئا واحدا ، (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل ، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا بأمره ، (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أي بالمخالفة فيما أمرتكم به ، (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ، وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والمسارعة إلى الطاعة ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي لما مالوا عن الحق وكذبوا موسى زاد الله زيغ قلوبهم حتى صرفها عن قبول الحق.

وقال مقاتل : أي لما عدلوا عن الحق بأبدانهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء ما عملوا ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) ، أي لا يهدي من سبق في علمه تعالى أنه خارج عن منهاج الحق


مصر على الغواية ، (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) ، أي مصدقا لما قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) ، ومن كتب الله ومن أنبيائه جميعا (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).

قرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وشعبة بفتح الياء على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين. والباقون بالسكون وهو حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين ، وهما الياء والسين كما قاله المبرد وأبو علي ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦) أي فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالمعجزات الظاهرة قالوا : هذا المأتي به سحر بيّن وقرأ حمزة والكسائي «ساحر» بفتح السين مع الألف ، ويقال : فلما جاءهم أحمد بالتي تبين أن الذي أتى به عند الله قالوا : هذا الآتي بالبينات ساحر بين ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي أيّ الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله من نسبة الولد إليه ووصف أنبيائه بالسحرة ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٧) أي لا يوفقهم الله للطاعة عقوبة لهم ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريدون رد رسالة الرسول ليبطلوا دين الله بقولهم : إن الرسول ساحر ، وليبطلوا كتاب الله بقولهم : إنه سحر ، (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) بالإضافة وتركها ، أي والله مبلغ نوره إلى غايته بنشره في الآفاق ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٨) أي ولو كره المشركون واليهود والنصارى إتمام النور.

وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف : يا معشر اليهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، واتصل الوحي بعدها (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ). وقرئ «نبيه» أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْهُدى) أي بالقرآن ، (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعليه على جميع الأديان المخالفة له (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩) إعلاءه عليها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (١٠) وهي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى.

وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم. قال مقاتل : نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون ، وذلك أنه قال لرسول الله : لو أذنت لي فطلقت خولة ، وترهبت ، واختصيت ، وحرمت اللحم ، ولا أنام الليل أبدا ، ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الإسلام ، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ومن سنتي أنام ، وأقوم ، وأفطر ، وأصوم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١). فقال

__________________

(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٢٨٦) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١١٨.


عثمان : والله لوددت يا رسول الله أن أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها ، فنزلت : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال تعالى : تؤمنون أي تدومون على الإيمان ، (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعته (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي بنفقة أموالكم وبخروج أنفسكم. والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة : جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن اللذات والشهوات ، وجهاد فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يدع الطمع منهم ، ويشفق عليهم ، ويرحمهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا ، وهو أن يتخذها زادا لمعاده ، فيكون الجهاد على خمسة أوجه. وقرئ «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا». وقرئ «تؤمنوا وتجاهدوا» على إضمار لام الأمر (ذلِكُمْ) أي الذي أمرتم به من الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) من أن تتبعوا أهواءكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١) ، أي إن كنتم تنتفعون بما علمتم فهو خير لكم ، (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). وهذا جواب قوله : (تُؤْمِنُونَ) إلخ لما فيه من معنى الأمر وهو بمنزلة الثمن الذين يدفعه المشتري ، وقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) إلخ بمنزلة المبيع الذي يأخذه المشتري من البائع في مقابلة الثمن المدفوع له ، (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهي قصبة الجنان والمساكن الطيبة ، قصر من لؤلؤة في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا في كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ، فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله. (ذلِكَ) أي الجزاء الذي هو المغفرة وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢) ، أي الذي لا فوز وراءه (وَأُخْرى) وهو إما مرفوع أي ولكم تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل ، أو منصوب بفعل مضمر إما من نوع الاشتغال أي وتحبون خصلة أخرى في الدنيا مع ثواب الآخرة ، أو من نوع معطوف على الجوابين ، أي ويعطكم نعمة أخرى ، أو مخفوض عطفا على تجارة ، (تُحِبُّونَها) أي تشتهون أن تكون لكم (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بمحمد على كفار قريش ، (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل وهو فتح مكة. وقرئ «نصرا من الله وفتحا قريبا». وقوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) إلخ مفسر لأخرى وهو ربح للتجارة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣) عطف على «تؤمنون» ، لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر المؤمنين يا رسول الله بذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أنصارا» منونا و «لله» جارا ومجرورا. والباقون «أنصار الله» مضافا للجلالة. وقرأ ابن مسعود «كونوا أنتم أنصار الله». (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والتشبيه باعتبار المعنى ، أي كونوا أنصار دين الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى : من أنصاري إلى الله؟ أي من أعواني مع الله على أعدائه ، أو المعنى : قل لهم كونوا أنصار دين الله كما قال عيسى لأصفيائه وهم أول من


آمن به وكانوا اثني عشر رجلا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى ابن مريم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) وهم الذين أضلهم بولس ، أي لما رفع عيسى إلى السماء تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالت كان عيسى الله فارتفع. وفرقة قالت : كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالت : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه. فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة ، فذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي فأعنا الذين لم يخالفوا دين عيسى على الذين خالفوه ، (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤) أي فصاروا غالبين على أهل الأديان بالحجة.


سورة الجمعة

مدنية ، إحدى عشرة آية ، مائة وثمانون كلمة ، سبعمائة وثمانية وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ) أي يذكر الله بالتنزيه (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ما في جهة العلو والسفل من الخلق ، (الْمَلِكِ) فكلهم تحت تصرفه وفي قبضة قدرته ، (الْقُدُّوسِ) أي المنزه عما يخطر ببال أوليائه ـ كما نقل عن الغزالي ـ وقيل : أي المبارك أو الطاهر بلا ولد ولا شريك ، (الْعَزِيزِ) أي الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به (الْحَكِيمِ) (١) أي الذي يضع الأشياء مواضعها وقد قرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي هو الذي أرسل إلى العرب رسولا من جملتهم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو من جنسهم.

قال ابن عباس : المراد بالأميين الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) التي تبين رسالته ، وتظهر نبوته مع كونه أميا مثلهم ، لم يعتد منه قراءة ، ولا تعلم ، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي ، وتكون حاله مشابهة لحال أمته الذين بعث فيهم ، (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأقوال والأفعال ، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي آيات القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ) أي وجه التمسك بها.

وقيل : الكتاب : هو الآيات نصا ، والحكمة : ما أودع فيها من المعاني. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) أي والحال أنهم كانوا من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن لفي ضلال ظاهر ، لأنهم كانوا عبدة الأصنام. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) «وآخرين» معطوف على الأميين ، ولما يلحقوا الآخرين ، أي وبعثه إلى غير العرب من أي طائفة كانت ، لم يلحقوا بالعرب الأول وهم كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المنصوب في «ويعلمهم» أي ويعلم آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم وهم كل من يعلم شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر الزمان ، فرسول الله معلمهم بالقوة ، أي في المعنى والحكم لأنه أصل الخير والفضل ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الفقر إليه ، وجعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته ، (ذلِكَ) أي تفضيل رسول الله على غيره وإلحاق أبناء العجم الذين آمنوا وشاهدوا الرسول بقريش في درجة الفضل ، (فَضْلُ اللهِ) وهو ما لم يكن مستحقا


(يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وهم رسول الله والأميون والآخرون (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤) على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة ، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ، أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة ، ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار يحمل كتبا كبارا في عدم انتفاعه بها.

وقال أهل المعاني : هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ، ولم يعمل به ، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بئس صفة القوم الذين كذبوا بالتوراة حين تركوا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) لأنفسهم بتكذيب الأنبياء. (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي الذين تهودوا وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أي إن قلتم أنكم أحباء لله من دون محمد وأصحابه فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البلية إلى دار الكرامة التي أعدها الله لأحبابه. وقوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) جواب الشرط ، والعامة بضم الواو. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها. وقرأ ابن السميقع أيضا بفتحها للتخفيف ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦) في زعمكم فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها وطريقها الموت ، (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ويأبون التمني للموت بسبب ما عملوا من الكفر وتحريف الآيات الموجب لدخول النار ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) أي بظلم الظالمين من تحريف الآيات وعنادهم لها ، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي إن الموت الذي تخافون من أن تتمنوه بلسانكم بسبب ما قدمتموه تحريف الآيات وغيره ملاقيكم ألبتة ، والفاء في فإنه لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. وقرأ زيد بن علي أنه بدون فاء ، وفي قراءة ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» من غير «فإنه» ، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فالله تعالى عالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته ، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة ، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي إذا نودي لوقت الصلاة من يوم الجمعة ، فاذهبوا إلى الخطبة والصلاة ، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اتركوا المعاملة ، (ذلِكُمْ) أي الذهاب إلى ذكر الله وترك المعاملة (خَيْرٌ لَكُمْ) في الآخرة من التكسب في ذلك الوقت ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩) أي إن كنتم أهل العلم فأنتم ترون ذلك خيرا (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي إذا أديت الصلاة فاخرجوا من المسجد إن شئتم لإقامة مصالحكم ، واطلبوا الرزق إن شئتم ، فهذه رخصة بعد النهي بقوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ).

وعن عراك بن مالك : أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد قال :


أللهم أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ، (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) على كل حال بالقلب واللسان.

قال مجاهد : لا يكون من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا. وعن عمر رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أتيتم السوق فقولوا : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة». (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠) أي كي تفوزوا بخير الدارين ، أي لما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته ، فجمعت الجماعات له ، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة ، وهي ما أنعم الله تعالى به عليهم من نعمة الوجود والعقل وغير ذلك مما لا يحصى ، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع ، (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) وهو الطبل ، أي وإذا سمعوا صوتا يدل على قدوم التجارة (انْفَضُّوا إِلَيْها) أي تفرقوا إلى التجارة. وقرئ «إليهما» (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على المنبر تخطب.

قال مقاتل : إن دحية بن خليفة الكلبي قبل أن يسلم أقبل بتجارة من الشام ، وكان معه من أنواع التجارة ، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق ، وكان ذلك في يوم الجمعة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر يخطب ، فخرج الناس إليه وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا أو أقل ، كثمانية أو أكثر كأربعين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة» (١). ونزلت هذه الآية وكان من الذين معه أبو بكر وعمر.

قال قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات. وقال مقاتل بن حبان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين فلما خرج الناس لقدوم دحية بتجارة وظنوا أنه ليس في ترك الخطبة شيء من الإثم أنزل الله تعالى هذه الآية فقدّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخطبة وأخر الصلاة. (قُلْ) يا أشرف الخلق للمؤمنين زجرا عن العود لمثل ذلك الفعل : (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي ما عند الله من ثواب الثبات مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١) أي أفضل المعطلين فمنه اطلبوا الرزق.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٢٢١).


سورة المنافقون

مدنية ، إحدى عشرة آية ، مائة وثمانون كلمة ، سبعمائة وستة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أي إذا حضر مجلسك منافقو أهل المدينة عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس ، وكانوا بني عم (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وقولهم : «نشهد» نفي للنفاق عن أنفسهم.

روى زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسولا إلى عبد الله بن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوه ، فصدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني ، فأصابني همّ لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي ، فأنزل الله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) إلى قوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) إلى قوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : إن الله قد صدقك. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا. وهذه جملة معترضة بين قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وبين قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ) إلخ لإماطة توهم توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) من إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون ، فإن ضمير قلوبهم على غير تلك الشهادة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الكاذبة (جُنَّةً) أي سترة عما خافوا على أنفسهم من القتل.

وقرأ الحسن بكسر همزة «إيمانهم» (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقد منعوا الضعفة عن اتباع رسول الله في السر وعن الإنفاق في سبيل الله ،

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا (ذلِكَ) أي سوء أعمالهم ، (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) في الظاهر وشابهوا المسلمين في نطق كلمة الشهادة وفي الأفعال ، (ثُمَّ كَفَرُوا) أي ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن حمير. وبقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات


(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق. وقرئ على البناء للفاعل. وقرئ «فطبع الله» أي تركهم الله في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣) شيئا ، فلا يميزون صوابا من خطأ ولا حقا من باطل ، (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها ، ولصباحة وجوههم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق ، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم. وقرئ «يسمع» على البناء للمفعول (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ، أي مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير ، (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي واقعة عليهم والوقف هنا تام فقوله : (عَلَيْهِمْ) مفعول ثان.

قال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة ، أو نشدت ضالة مثلا ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب ، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم ، (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم الكاملون في العداوة ، (فَاحْذَرْهُمْ) أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإن أعدى الأعادي العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ، (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم الله ، فإن أصل المعنى أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر يهلكه ، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند فإذا قاتلهم أهلكهم ، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الكفر والضلال؟ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) إلى رسول الله وتوبوا من الكفر والنفاق ، (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حركوها إعراضا وإباء.

روي أنه لما نزل القرآن في فضيحة المنافقين أتاهم عشائرهم من المؤمنين ، وقالوا لهم : ويلكم افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم ، فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك ، فنزلت هذه الآية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عن الاعتذار ، (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥) عن استغفار الرسول لهم ، (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي استغفارك لهم وعدمه سواء ، والسبعة بهمزة قطع مفتوحة من غير مد ووصلها قوم على حذف حرف الاستفهام ، لأن أم المعادلة تدل عليه. وقرئ شاذا «أاستغفرت» بهمزة ثم ألف ، (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخهم في الكفر (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦) أي الذين سبق ذكرهم ، وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون ، (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) والقائل عبد الله بن أبي لأصحابه المؤمنين الأنصار في غزوة تبوك : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وهم فقراء المهاجرين ، (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي لأجل أن يتفرقوا عنه. وقرئ «حتى ينفضوا» بضم الياء وسكون النون ، أي لأجل أن تفنى أزوادهم ، (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٧) أن الله يرزقهم وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، (يَقُولُونَ) في تبوك : (لَئِنْ رَجَعْنا) من غزوة بني المصطلق (إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

قال المفسرون : اختلف أجير عمر وهو جهجاه بن سعيد مع أجير عبد الله بن أبي ، وهو


سنان الجهني في بعض الغزوات ، فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه ، واشتد عليه لسانه ، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال : أما والله لئن رجعنا من غزوتنا هذه إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وأراد عبد الله بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله والمؤمنين ، ثم أقبل على قومه فقال : لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فنزلت هذه الآية ، وسبب غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن بني المصطلق ـ وهم حي من هذيل ـ يجتمعون لحربه ، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المر يسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فوقع القتال ، فهزم الله بني المصطلق وكان سبيهم سبعمائة ، فلما أخذ النبي جويرية من السبي لنفسه أعتقها وتزوجها فقال المسلمون : صار بنو المصطلق أصهار رسول الله فأطلقوا ما بأيديهم من السبي إكراما لرسول الله ، ولهذا قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : وما أعظم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية ولقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق اه. وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي القوة (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزة الله قهره لأعدائه ، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨) أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه ، ولو علموه ما قالوا مقالتهم.

روي أن عبد الله بن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا وقال : لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربن عنقك ، فلما رأى منه الجد قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنه : «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا». (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا يشغلكم الاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي ومن ألهاه ماله وولده عن طاعة الله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩) أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني ، (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي بعض ما أعطيناكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي مقدمات الموت (فَيَقُولَ) عند تيقنه بحلول الموت : (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلا أمهلتني إلى أمد قصير بقدر ما استدرك فيه ما فاتني (فَأَصَّدَّقَ) من مالي بتشديد الصاد والدال. وقرأ أبي «فأتصدق» على الأصل. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) أي أكن من الحاجين.

عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل إلا سأل الله الرجعة عند الموت. وقرأ أبو عمرو «وأكون» بالنصب عطفا على لفظ جواب التمني. والباقون «وأكن» بالجزم عطفا على محله. وقرئ «وأكون» بالرفع «وأنا أكون». (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) أي عن الموت (إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١) فمجاز لكم عليه. وقرأ شعبة بالياء التحتية.


سورة التغابن

مدنية. أو مكية ، ثماني عشرة آية ، مائتان وإحدى وأربعون كلمة ، ألف وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه تعالى جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا ، (لَهُ الْمُلْكُ) فهو متصرف في ملكه ، (وَلَهُ الْحَمْدُ) على أهل السموات والأرض ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الدنيا والآخرة (قَدِيرٌ) (١) ، لأن نسبة الكل إلى قدرته تعالى سواء ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) ، أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، أي وبعض منكم مختار للإيمان كاسب له.

وقال عطاء والزجاج : أي فمنكم جاحد بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية ، ومنكم مصدق بأنه تعالى خلقه ، والمعنى : أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فانظروا النظر الصحيح ، وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين فما فعلتم ذلك بل تفرقتم فرقا ، فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) من الكفر والإيمان فيجازيكم على ذلك ، (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة (وَصَوَّرَكُمْ) في الأرحام (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فمن نظر في قد الإنسان ومناسبته بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة ، وقد وجد فيه القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) أي المرجع (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية ، (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤) أي بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفرة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلكم ، كقوم نوح ومن بعدهم (فَذاقُوا) من غير مهلة (وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي شدة أمرهم في الدنيا ، (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ) أي العذاب في الدنيا والآخرة (بِأَنَّهُ) أي الشأن (كانَتْ) أي القصة (تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرات ، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا) بالرسل ، (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان ، (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي أظهر الله


تعالى غناه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم ولم يلجئهم إلى ذلك (وَاللهُ غَنِيٌ) عن عبادتهم من الأزل (حَمِيدٌ) (٦) ، أي مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده أحد (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي أنهم لن يبعثوا بعد موتهم أبدا ، (قُلْ) يا أشرف الخلق لهم : (بَلى) تبعثون (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتحاسبن ولتجزون على أعمالكم ، (وَذلِكَ) أي البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧) لثبوت قدرته التامة فلا يصرفه صارف ، (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي إذا كان الأمر كذلك ، فآمنوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ، فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات ، وذلك لئلا ينزل بك ما نزل بالكفار الماضية من العقوبة ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٨) فمجاز لكم عليه (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي لأجل ما في يوم القيامة من الحساب والجزاء. وسمي بالجمع لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض ، و «يوم» ظرف لـ «لتنبؤن». وقرئ «نجمعكم» بنون العظمة (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان ، وفي الحديث «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكر ، أو ما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة». (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) مع ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة وغير ذلك. (وَيَعْمَلْ صالِحاً) إلى أن يموت في إيمانه (يُكَفِّرْ) ، أي الله (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ) أي تكفير السيئات وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) الذي لا فوز وراءه.

وقرأ نافع وابن عامر «نكفر عنه» و «ندخله» بالنون فيهما. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بوحدانية الله وبقدرته (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠) النار (ما أَصابَ) أحدا (مِنْ مُصِيبَةٍ) دينية أو دنيوية في بدن وأهل ومال ، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بتقديره وإرادته و «من مصيبة» فاعل بزيادة من قيل : وسبب نزول هذه الآية أن الكتاب قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بأن يرى المصيبة من الله (يَهْدِ قَلْبَهُ) عند المصيبة للتسليم لأمر الله فيسترجع.

وقرئ «يهد قلبه» على البناء للمفعول ورفع «قلبه». وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ «يهدأ» بالهمزة على وزن يقطع ويخضع ، أي يسكن فيسلم لقضاء الله تعالى ويصبر على المصيبة ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١) فيعلم اطمئنان القلب عند المصيبة ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي هونوا المصائب على أنفسكم ، واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه ، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٢) أي فإن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ الظاهر ، وقد فعل ذلك. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الله المستحق للمعبودية لا مستحقا للمعبودية يصح أن يوجد إلا هو وجملة «لا إله إلا


هو» خبر لاسم الجلالة ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣) في كل باب لأنه لا مقصود إلا هو ، فإن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤).

قال عطاء بن يسار : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، فأراد أن يغزو ، فبكوا إليه ، ورققوه وقالوا له : إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام في البلد وترك الغزو ، وسئل ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن هذه الآية فقال : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا لهم : صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم ، فأطاعوهم ، وتركوا الهجرة ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم وإن لحقوا بهم في دار الهجرة لم ينفقوا عليهم ولم يصيبوهم بخير ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم (وَتَصْفَحُوا) بترك التثريب والتعيير (وَتَغْفِرُوا) بإخفائها بعد ما هاجروا من مكة إلى المدينة فإن الله يعاملكم بمثل ما عملتم ، وهذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإسلام فإنهم من الكفار ، أما أزواجهم وأولادهم المؤمنون فلا يكونون عدوا لهم (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي بلاء وشغل عن الآخرة إذ منعوكم عن الهجرة والجهاد فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى ، (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا في تقوى الله غاية طاقتكم. وهذا مثل قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] فإنه لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعونه فوق الطاقة ، (وَاسْمَعُوا) مواعظه (وَأَطِيعُوا) أوامره ، (وَأَنْفِقُوا) مما رزقكم في الوجوه التي أمركم (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) ، أي وأتوا خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦) أي من يكفه الله بخل نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر به مطمئنا إليه حتى ترتفع عن قلبه الأخطار ، فأولئك هم الفائزون بكل مرام (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي إن تنفقوا في طاعة الله تعالى من حلال بطيب نفس متقربين إليه يجزكم بالضعف إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرئ «يضعفه» بتشديد العين. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما فرط منكم من بعض الذنوب ببركة الإنفاق (وَاللهُ شَكُورٌ) يشكر اليسير ويجزي الجزيل من صدقاتكم ، (حَلِيمٌ) (١٧) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته ، أو يمتنع من التصدق (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) لا يخفى عليه شيء من الخشية والمن (الْعَزِيزُ) ، أي الذي لا يعجزه شيء ، (الْحَكِيمُ) (١٨) أي الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، فالعزيز يدل على القدرة ، والحكيم يدل على الحكمة.


سورة الطلاق

مدنية ، ثنتا عشرة آية ، مائتان وتسع وأربعون كلمة ، ألف ومائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي إذا أردتم تطليق النساء فطلقوهن مستقبلات لزمان ـ عدتهن وهو الطهر ـ (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي احفظوا القروء للعدة لتعرفوا زمان الرجعة ، والنفقة ، والسكنى ، وحل النكاح لأخت المطلقة ونحو ذلك من الفوائد (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في الإضرار بهن (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن (وَلا يَخْرُجْنَ) ولو بإذن منكم لأن في العدة حقا لله تعالى فلا يسقط بتراضيهما ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي إلا في حال كونهن آتيات بزنا ظاهر ، أو مشهود عليه بأربعة شهود فيخرجن لإقامة الحد عليهن ، ثم يرددن إلى منزلهن كما قاله ابن مسعود ، أو إلا في حال أن يبذون على الأزواج أو على أهلهم فيحل لهم حينئذ إخراجهن لسوء خلقهن كما قاله ابن عباس ويؤيده قراءة إلا أن يفحش عليكم.

وقال ابن عمر : الفاحشة : خروجهن قبل انقضاء العدة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بفتح الياء التحتية. والباقون بكسرها (وَتِلْكَ) أي الأحكام (حُدُودُ اللهِ) وهي الموانع عن المجاوزة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي من يتجاوز الحدود فقد ضر نفسه لأنه وضعها في غير موضعها (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) أي فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك التعدي أمرا يقتضي الرجعة بأن يبدل الله ببغض المرأة محبة ، وبالإعراض عنها إقبالا إليها ، فإن العدة إذا لم تكن مضبوطة أو انتقلت المرأة من منزل زوجها أشكل أمر الرجعة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي قاربن انقضاء أجل العدة فأنتم بالخيار (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إن شئتم فراجعوهن بحسن معاشرة وإنفاق لائق (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي وإن شئتم فاتركوهن من غير مراجعة بإيفاء بالحق واتقاء الضرار ، وهو أن يراجعها في آخر العدة ، ثم يطلقها تطويلا للعدة وتعذيبا لها ، (وَأَشْهِدُوا) يا أيها الأزواج (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند التطليق وعند الرجعة قطعا للنزاع ، فهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة وهو عند الشافعي واجب في


الرجعة مندوب إليه في الفرقة ، (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي أدوا الشهادة التي تحملتموها عند الحكام يا أيها الشهود لوجه الله تعالى (ذلِكُمْ) أي الإشهاد وإقامة الشهادة (يُوعَظُ بِهِ) أي يؤمر به ، (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، يقال : نزلت الآيات من أول السورة إلى هاهنا في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طلق حفصة ، وفي ستة نفر من أصحابه طلقوا نساءهم غير طواهر ، فنهاهم الله عن ذلك ، لأنه لغير السنة ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي يصبر على المصيبة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢) من الشدة.

وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فقال : «مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة». نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له يسمى سالما ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال : «اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ففعل ذلك، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه سالم ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله تعالى : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من وجه لا يخطر بباله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يثق بالله فيما ناله فهو كافيه في جميع أموره ، (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

وقرأ حفص بالإضافة أي منفذ أمره. والباقون بالتنوين ونصب أمره أي يبلغ مراده في جميع خلقه. وقرئ برفع أمره أي نافذ تدبيره. وقرأ المفضل «بالغا» أمره على أن قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ) خبران و «بالغا» حال من اسم الجلالة (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ) من الشدة والرخاء (قَدْراً) (٣) أي أجلا ينتهي إليه.

وروي أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) لكبرهم ، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إن أشكل عليكم حملهن في العدة ، أو إن جهلتم بمقدار عدتهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فقام رجل فقال : يا رسول الله فما عدة الصغير التي لم تحض فنزل ، (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) لصغرهن هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست ، وهذه معطوفة على «واللائي يئسن» عطف المفردات فقام رجل آخر وقال : وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي والحبالى منتهى عدتهن وأجل انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن لخبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتزوج فإباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر دليل على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال ، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن فلا تنقضي العدة بوضع بعض حملهن. وقرئ أحمالهن ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في شأن أحكامه (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤) أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح.

وقال عطاء : يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة (ذلِكَ) أي الذي ذكر من الأحكام (أَمْرُ


اللهِ) ، أي فرائضه (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي بينه لكم في القرآن ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعته ويعمل بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥) في الآخرة بالمضاعفة ، (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا المعتدات مسكنا من بعض مكان سكناكم على قدر طاقتكم ووجدكم بضم الواو باتفاق القراء السبعة. وقرئ بفتح الواو وكسرها. (وَلا تُضآرُّوهُنَ) في السكنى والنفقة (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) بهما حتى تلجئوهن إلى الخروج من المسكن أو إلى تفتدي الرجعية نفسها منكم ، (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي وإن كن المطلقات حبالى ، (فَأَنْفِقُوا) أيها الأزواج (عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فيخرجن من العدة. وهذا بيان حكم المطلقة البائنة ، أما الحوامل المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن ، وأما الرجعية فإنها تستحق النفقة ، وإن لم تكن حاملا ومذهب مالك والشافعي أنه ليس للمبتوتة إلا السكنى ، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله : «لا سكنى لك ولا نفقة» ،وأما عند الحنفية فلكل مطلقة حق النفقة والسكنى لأن عمر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في شأن المطلقة : «لها النفقة والسكنى» ، ولأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين المبتوتة وغيرها ، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به ، ونحن معشر الشافعية نقول : إن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل ، فأثبت لها النفقة ليعلم أن غيرها بطريق الأولى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهن بعد انقضاء علقة النكاح ، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على ذلك الإرضاع ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه للرجل استئجار امرأته للرضاع إذا كان الولد منها ما لم تبن ، ويجوز عند الشافعي مطلقا وفي هذه الآية دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والتربية على الزوجات ، وفيها دليل على أن اللبن ملك لها (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي تشاوروا بتراضي الأب والأم ، ولا يكن من الأب مماكسة ، ولا من الأم معاسرة ، ولا من الرجل تقصير في حق المرأة ونفقتها ولا من المرأة في حق الولد ورضاعه ، (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) كأن أبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضع الولد مجانا (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦) ، أي فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعا غير أمه (لِيُنْفِقْ) على المرضعات المطلقات وعلى خلافها ، (ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي ذو غني على قدر غناه (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، أي ومن ضيق عليه معيشته فلينفق على الزوجة والولد الصغير على قدر ما أعطاه الله من المال وإن قل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي إلا بقدر ما أعطاها من الرزق جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) أي بعد ضيق سعة وبعد شدة رخاء عاجلا أو آجلا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي وكم من أهل قرية أبوا عن قبول أمر


ربهم وعن إجابة أمر رسله ، (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي فحاسبناهم في الآخرة على أعمالها بالمناقشة في كل نقير وقطمير ، (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٨) أي وعذبناهم عذابا عظيما وهو عذاب نار جهنم ، (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي فذاقوا عقوبة كفرهم ، (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩) أي وكان عاقبة عتوها هلاكا بعذاب الدنيا وعذاب النار ، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً شَدِيداً) لونا بعد لون (فَاتَّقُوا اللهَ) عن أن تكفروا به وبرسوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول من الناس ، (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً) والوقف على «ذكرا» تام إن نصب «رسولا» بالإغراء أي عليكم رسولا ، أو بفعل مقدر ، أي وأرسل رسولا فحينئذ فالذكر هو القرآن والرسول هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا وقف على «ذكرا» إن جعل «رسولا» بدلا منه فحينئذ فالذكر الرسول هو جبريل عليه‌السلام ، سمي بالذكر لأنه مذكور في السموات أو في الأمم ، أو لشرفه ، ويؤيده قراءة رسول بالرفع ، أي هو رسول (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) أي القرآن (مُبَيِّناتٍ).

وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء ، لأن الآيات تبين الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام. والباقون بالفتح لأن الله تعالى أوضح الآيات وبين أنها من عنده ، (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقوله تعالى : (لِيُخْرِجَ) إما متعلق بأنزل والضمير فيه راجع إلى اسم الجلالة ، أو بـ «يتلو» فالضمير فيه راجع للرسول ، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه (يُدْخِلْهُ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١).

قال الزجاج : أي قد رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل : قدر رزقه الله طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة ، وجملة «قد أحسن الله» إلخ حال ثانية من مفعول «يدخله». (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) بعضها فوق بعض مثل القبة ، (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي في العدد لكنها منبسطة ، والعامة بنصب مثلهن عطفا على سبع سموات. وقرأ عاصم في رواية برفعه على الابتداء وخبره من الأرض.

روى البخاري وغيره أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» (١). (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي ينفذ تصرفه فيهن ، ويجري قضاؤه بينهن.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٤٤٦) ، والقرطبي في التفسير (٨ : ١٧٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ : ٢٢٤).


قال عطاء : أي يتنزل الوحي إلى الخلق في كل أرض ، وفي كل سماء ، وقال مقاتل : يتنزل الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى ، وقال مجاهد : يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض ، وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلا. وقرئ «ينزل الأمر بينهن» ، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية ، لا يعجزه شيء عما أراده وقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا) متعلق بـ «خلق» أو بـ «يتنزل» ، وقرئ «ليعلموا» بالياء (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الكليات والجزئيات (عِلْماً) (١٢) لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ، ولا في السماء ، فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


سورة التحريم

وتسمى سورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مدينة ، ثنتا عشرة آية ، مائتان وتسع وأربعون كلمة ، ألف وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أي لم تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله تعالى لك من ملك اليمين أو من العسل.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا بمارية في يوم حفصة وعلمت بذلك عائشة فقال لها : «اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقين فطلق حفصة ، واعتزل نساءه ، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية.

وروي أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله طلقك ، فنزل جبريل عليه‌السلام وقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وهذا قول الحسن ومجاهد ، وقتادة ، والشعبي ، ومسروق ، ورواية ثابت عن أنس ورواية البزار من حديث ابن عباس ، ورواية الطبراني من حديث هريرة ، ورواية الضياء من حديث عمرو الذي في الصحيحين أن الذي حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه هو شرب العسل ، فقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة ، فحرم العسل على نفسه فنزلت هذه الآية (تَبْتَغِي) أي تطلب بتحريم مارية أو العسل ، (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) عائشة وحفصة (وَاللهُ غَفُورٌ) قد غفر لك هذه الزلة (رَحِيمٌ) (١) قد رحمك في تلك اليمين. وقد نقل جماعة من المفسرين : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلف أن لا يطأ جاريته ، فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين ، وأيضا أن أبا حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء ، فإذا حرم شخص طعاما فقد حلف على أكله أو أمة ، فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها ، إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وإن نوى عددا كأن نوى ثنتين أو ثلاثا ، فكما نوى ، وإن قال : كل حلال علي حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يمينا ، ولكن سببا في الكفارة في النساء فقط وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده ، (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي أوجب الله عليكم كفارة ككفارة أيمانكم أو قد بيّن الله


لكم تحليل أيمانكم بالكفارة ، فإذا كفر الحالف صار كمن لم يحلف. وقرئ كفارة أيمانكم ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم وناصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم (الْحَكِيمُ) (٢) أي المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا ما تقتضيه الحكمة ، (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) أي واذكر إذ أخبر النبي حفصة في السر بكلام استكتمها ذلك.

قال ابن عباس : لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين ، تحريم مارية على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أبي بكر وأبيها عمر ، (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ).

قرأ الجمهور بتشديد الراء ، أي فلما أخبرت حفصة بسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك ، وأطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة بين النبي لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبي بكر وعمر وعاتبها على ذلك خوفا من أن ينشر في الناس ، فربما أثار حسد بعض المنافقين. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «ويلك ألم أقل لك اكتمي علي!» قالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خصّ الله تعالى بها أبي. وقرأ الكسائي بالتخفيف أي جازى على ذلك البعض بأن طلق حفصة مجازاة على بعض ما فعلت ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي وسكت عن بعض من تحريم مارية القبطية على نفسه ، ولم يلم حفصة على ذكر ذلك حياء وحسن عشرة ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي فلما أخبر النبي حفصة بما قالت لعائشة (قالَتْ) أي حفصة : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي من أخبرك بأني أفشيت السر لعائشة ، وقد ظننت أن عائشة هي التي أخبرته. (قالَ) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣) بقولك لعائشة وبقولي لك. (إِنْ تَتُوبا) يا حفصة ويا عائشة من إيذائكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَى اللهِ) تاب الله عليكما (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، إذ قد مالت قلوبهما عن الحق وأحبت ما كرهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو اجتنابه جاريته. وقرئ «فقد زاغت». (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي وإن تتعاونا أنتما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء لم يضره ذلك التعاون منكما ، فإن الله ناصره ، وجبريل رئيس الكروبيين وأبو بكر وعمر ، كما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس وبه قال عكرمة ومقاتل ، (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد نصر من ذكر (ظَهِيرٌ) (٤) أي أعوان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله : (جِبْرِيلُ) عطف على محل اسم «إن» قبل دخولها وكذا «وصالح المؤمنين» ، فـ «مولاه» خبر عن الكل فيقدر بعد كل واحد منهما ، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله تعالى : (مَوْلاهُ) ويكون «جبريل» مبتدأ وما بعده عطف عليه ، و «ظهير» خبرا لجميع. وقرأ الكوفيون «تظاهرا» بتخفيف الظاء وإسقاط إحدى التاءين. والباقون بتشديدها. وقرئ على الأصل أي بالتاءين ، وقرئ «تظهرا». (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ). وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال. والباقون وهم أهل الكوفة بسكونها.


وقال ابن عرفة : و «عسى» هنا للتخويف لا للوجوب ، وجملة «عسى» واسمها وخبرها جواب الشرط أي إن طلقكن فعسى ربه أن يبدله (مُسْلِماتٍ) أي مقرات بالألسن ، (مُؤْمِناتٍ) أي مصدقات بالقلوب بتوحيد الله تعالى ، (قانِتاتٍ) أي مطيعات لله ولأزواجهن.

وقيل : قائمات بالليل للصلاة (تائِباتٍ) من الذنوب ، (عابِداتٍ) أي كثيرات العبادات متذللات لأمر الرسول عليه‌السلام ، (سائِحاتٍ) أي صائمات كما قاله ابن عباس ، أو مهاجرات كما قاله الحسن. وقرئ «سيحات». (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥) فالثيب : تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا ، وأسرع حبلا غالبا ، والبكر : تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة غالبا ، وسميت الثيب ثيبا ، لأنها ثابت أي رجعت إلى بيت أبويها ، وسميت العذراء بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) أي علموا أنفسكم ونساءكم وأولادكم الخير ، وأدبوهم بأن تأمروهم بالخير وتنهوهم عن الشر تقوهم بذلك نارا ، وقرئ «وأهلوكم» عطفا على «واو قوا» فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل ، أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم نارا ، (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي حطبها الكفار وحجارة الكبريت. وقرئ «وقودها» بضم الواو (عَلَيْها) ، أي النار (مَلائِكَةٌ) تسعة عشر وهم الزبانية ، (غِلاظٌ) أي غلاظ القلوب لا يرحمون ، إذا استرحموا خلقوا من الغضب وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب ، (شِدادٌ) أي شداد الخلق ، أقوياء على الأفعال الشديدة ، (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) بدل اشتمال من الله ، أي لا يعصون أمره ، أو منصوب على نزع الخافض. أي فيما أمرهم به من عذاب أهل النار ، (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) أي يؤدون ما يؤمرون به من غير توان ويقولون للكفار عند ادخالهم النار : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) إذ الاعتذار هو التوبة ، وهي غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار ، (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) ، أي جزاء أعمالكم ، أي إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي بالغة في النصح بأن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة ، لا يعودون إليها ، وقرأ شعبة بضم النون وهو مصدر ، أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا ، أو توبوا لينصح أنفسكم. والباقون بفتحها فهو صفة مشبهة ، (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة (وَيُدْخِلَكُمْ) في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ظرف «ليدخلكم» ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي صاحبوه في وصف الإيمان ، والموصول إما معطوف على النبي وإما مبتدأ خبره جملة قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) عند المشي على الصراط ، (وَبِأَيْمانِهِمْ) أي ويسعى عنن إيمانهم عند الحساب ، لأنهم يؤتون التاب بإيمانهم وفيه نور (يَقُولُونَ) أي المنافقين خائفين من أن يطفأ نورهم (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي أبق لنا نورنا (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨). وقيل : الذين يمرون على الصراط حبوا وزحفا هم


الذين يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا). (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف والسنان (وَالْمُنْفِقِينَ) بالحجة واللسان ، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي واشدد على كلا الفريقين فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٩) مصيرهم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفار ، (امْرَأَتَ نُوحٍ) والهة (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) والعة (١) (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) بالكفر ، كما قاله عكرمة والضحاك. وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط. وعن ابن عباس كانت امرأة نوح تقول للناس : إنه مجنون ، وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه ، (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فلم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا من عذاب الله شيئا ، وذلك تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة ، (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠) أي وتقول لهما خزنة النار : ادخلا النار مع الداخلين في النار (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) أي جعل الله حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان ، واسمها آسية بنت مزاحم آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه ، وتلقف العصا ، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان ، فإنه أوتدها بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس ، وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت : رب نجني من فرعون ، فرقى بروحها إلى الجنة ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ، (إِذْ قالَتْ) ـ ظرف لـ «مثلا» ـ : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) أي رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك ، (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من نفسه الخبيثة ، (وَعَمَلِهِ) السيئ ، وهو شركه أو جماعه ، كما قاله ابن عباس ، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١) أي من القبط التابعين له في الظلم ، (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من الفواحش فإنها قذفت بالزنا (فَنَفَخْنا فِيهِ) أي في فرجها ، كما قاله البقاعي. وقرئ فيها أي في مريم. وقال الرازي : وقوله تعالى فيه أي في عيسى ومن قرأ فيها في نفس عيسى ، (مِنْ رُوحِنا) أي من روح خلقناه بلا توسط أصلا. والمعنى : أوصلنا إلى فرجها الريح الخارج من نفس جبريل لما نفخ في جيب قميصها ، فوصل إليه ، فحملت بعيسى ، (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) أي بالصحف المنزلة على إدريس وغيره. قال مقاتل : أي بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن بكلمة ربها بالإفراد وقرئ «بكلمة الله». (وَكُتُبِهِ) ، وقرأ أبو عمرو وحفص بصيغة الجمع أي بالكتب الأربعة ، والباقون و «كتابه» بالإفراد أي وبكتابه المنزل عليه وهو الإنجيل ، وقوله تعالى : (وَصَدَّقَتْ) بالتخفيف والتشديد على أن مريم جعلت الكلمات والكتب صادقة بمعنى وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) أي من القوم المطيعين لله في الشدة والرخاء.

__________________

(١) راجع مراح لبيد ، النووي (ج ١ / ص ٥٠٦).


وقال عطاء : من المصلين ، وهم رهطها ، لأنهم أهل بيت صالحين ، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى ، وضرب هذه الأمثال مشتمل على فوائد : منها : التنبيه على الثواب العظيم والعذاب الأليم. ومنها : العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح. ومنها : أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه. ومنها : العلم بأن إحصان المرأة مفيد غاية الإفادة. ومنها : التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب.


سورة الملك

وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر. وعن ابن عباس

أنه كان يسميها المجادلة ، لأنها تجادل عن قارئها في القبر ، وتدعى في التوراة المانعة ،

مكية ، ثلاثون آية ، ثلاثمائة وخمس وثلاثون كلمة ، ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي تنزه الذي في قدرته سائر الكائنات عن أن يكون جسما أو في مكان غير ذلك من صفات الحوادث ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) (١) يتصرف فيه حسب ما تقتضيه مشيئته يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع ، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) فالموت صفة وجودية مضادة للحياة. والمراد به الموت الطارئ ، وبالحياة ما قبله وما بعده. وروى الكلبي عن ابن ابن عباس : أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ، ودون البغل ، لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي اهـ.

وهذا كلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير. (لِيَبْلُوَكُمْ) وهو متعلق بخلق ، أي خلق موتكم وحياتكم ليعاملكم معاملة من يختبركم ، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أخلص عملا وأصوبه كما قاله الفضيل ابن عياض اهـ.

وقال قتادة : أي أيكم أحسن عقلا ، أي أتمكم عقلا ، وأشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا.

وقال الحسن : أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركا لها. وقال السدي : أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد خوفا وحذرا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ، (الْغَفُورُ) (٢) لمن تاب من أهل الإساءة (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي مطابقة بعضها فوق بعض ، والسماء الدنيا محيطة بالأرض إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب ، والثانية محيطة بالسماء الدنيا ، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل ، (ما تَرى) أيها المخاطب (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) للسموات ولغيرها (مِنْ تَفاوُتٍ) ، أي من عدم تناسب.


قرأ حمزة والكسائي «من تفوت» بتشديد الواو ، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي رد بصرك إلى السماء (هَلْ تَرى) فيها (مِنْ فُطُورٍ) (٣) ، أي شقوق وعيوب ، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي ارجع البصر إلى السماء رجعة بعد رجعة وإن كثرت (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) ، أي بعيدا من إصابة ما التمسه من العيب ، (وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) أي كليل لكثرة المراجعة ، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي القربي من الناس (بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج ، (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي جعلنا الكواكب رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب ، إذا أرادوا استراق السمع ، (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) في الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ، (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من الشياطين وغيرهم ، (عَذابُ جَهَنَّمَ).

وقرئ بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير ، كما أن «للذين» عطف على «لهم» ، فهو عطف المفرد على المفرد وعلى هذا ، فالوقف على «السعير» جائز. وإن قرئ عذاب جهنم بالرفع كما هو قراءة الجمهور فالوقف على «السعير» تام ، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) جهنم (إِذا أُلْقُوا) أي الكفار (فِيها سَمِعُوا لَها) أي لجهنم (شَهِيقاً) أي صوتا كصوت الحمار ، (وَهِيَ تَفُورُ) (٧) أي والحال أن جهنم تغلي بهم غليان المرجل بما فيه ، (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تقرب جهنم تتفرق من شدة الغضب على الكفار.

وقرئ شاذا «تتميز» على الأصل ، (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي جماعة من الكفرة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) بطريق التوبيخ والتقريع ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨) يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا؟ (قالُوا) اعترافا منهم بعدل الله وإقرارا بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) ذلك النذير في كونه نذيرا من جهة الله تعالى (وَقُلْنا) في حق ما تلاه من الآيات : (ما نَزَّلَ اللهُ) على أحد (مِنْ شَيْءٍ) أي من كتاب ، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٩) أي ما أنتم أيها النذر ـ في ادعاء أنه تعالى نزّل عليكم آيات ـ إلا في ضلال كبير أي بعيد عن الصواب ، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار. والمعنى : ما أنتم أيها الكفار إلا في ضلال كبير في الدنيا ، وهو الشرك بالله ، وفي هلاك عظيم في العذاب. (وَقالُوا) للخزنة : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١٠) أي لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل من كان متفكرا لما كنا اليوم مع أهل الوقود في النار ، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي أقروا بتكذيبهم الرسل وبكفرهم بآيات الله ، (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١) وهو منصوب إما على المفعول به أي ألزمهم الله سحقا ، أي بعدا من رحمته أو على المصدر والتقدير : سحقهم الله سحقا أي باعدهم الله من رحمته مباعدة. وقرأ الكسائي بضم الحاء (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي حال كونهم في الخلوة حيث لا يراهم الناس ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١٢) في الجنة (وَأَسِرُّوا) أيها الناس (قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٣) ، أي عليم بالقلوب وأحوالها ، فاحذروا من المعاصي سرا


كما تحترزون عنها جهرا ، فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى.

قال ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله ، فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد ، فأنزل الله هذه الآية (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد جميع الأشياء ، فمن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) ، أي والحال أنه تعالى الفاعل للأشياء اللطيفة ، العالم ببواطن الأمور (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ، أي لينة يسهل عليكم السلوك فيها ، (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي فاسلكوا في جوانبها ، (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي كلوا مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض ، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) أي المرجع بعد البعث ، فبالغوا في شكر نعمه ، (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) فـ «أن يخسف» بدل اشتمال من «من» ، أي أتأمنون يا أهل مكة من قد أقررتم بأنه في السماء ، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء ، وهو متعال عن المكان أن يغور بكم الأرض بعد ما جعلها لكم لينة ، (فَإِذا هِيَ) أي الأرض (تَمُورُ) (١٦) أي تضطرب وتتقلب ، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أي بل أأمنتم أيها المكذبون من تزعمون أنه في السماء ، وهو منزه عن المكان (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا فيها حجارة ، (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (١٧) أي فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة ، (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١٨) أي إنكاري وتغييري عليكم أليس وجدوا العذاب حقا ، (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أغفلوا ولم ينظروا (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها (وَيَقْبِضْنَ) أي يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجو عند البسط والقبض (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي الواسع رحمته كل شيء ، وهذه الجملة مستأنفة ، فالوقف على يقبضن تام كالوقف هنا (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩) فيكون الله رائيا لنفسه ولجميع الموجودات ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أي بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم فـ «أم» بمعنى بل و «من» اسم استفهام مبتدأ خبره اسم الإشارة. وقرأ طلحة بتخفيف الميم هنا وتشديده ، ثم والمعنى : أهذا الذي هو جند لكم أم الذي يرزقكم ، (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (٢٠) أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان ، فهو يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم ، أعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بمالهم وجندهم. وثانيهما : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات وقد أبطل الله عليهم الأول بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) الآية. ورد عليهم الثاني بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي بل من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم بل لو كان الرزق موجودا سهل التناول ، فوضع الآكل لقمة في فيه ، فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد لعجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوا تلك اللقمة ، (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١) أي بل تمادوا في أباء عن الحق


وشراد عن الإيمان ، ثم ضرب الله مثلا للمشرك والموحد فقال : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢) ، أي أفمن يمشي في مكان غير مستو فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصد ، أم من يمشي معتدلا على طريق مستو لا عوج فيه ولا انحراف سالما من العثور والخرور؟ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي أوجدكم إيجادا بديعا ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا به الآيات القرآنية ، (وَالْأَبْصارَ) لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية ، (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا بها فيما تسمعونه من الآيات التنزيلية ، وفيما تشاهدونه من الآيات التكوينية ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢٣) لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل إلى غير طلب مرضاته ، فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) ، أي خلقكم وكثركم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤) في الآخرة للجزاء ، (وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة من فرط عنادهم ، (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي الحشر الموعود (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) أي إن كنتم صادقين بما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته ، (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت مجيئه (عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه غيره ، (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٦) أنذركم وقوع الموعود ، فإن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع ، فالعلم الأول كاف في الإنذار ، العلم الثاني ليس إلا الله ، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي العذاب بعد الحشر (زُلْفَةً) أي ذا قرب (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اسودت وجوههم ، وعلتها الكآبة ، وصارت كوجه من يقاد إلى القتل ، (وَقِيلَ) أي قال لهم الخزنة توبيخا : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧) أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاء ، أو هذا الذي كنتم تدعون أنه باطل لا يأتيكم.

وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ، ويعقوب ، وأبو زيد ، وأبو بكر ، وابن أبي عبلة ، ونافع في راوية الأصمعي بسكون الدال من الدعاء وهي مؤيدة للقول بأن تدعون مثقلة من الدعاء في قراءة العامة. وقيل : من الدعوى. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) ، أي إن أماتني الله (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا ، فأيّ راحة لكم في ذلك ، وأي منفعة لكم فيه.

يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك حين خوّفهم النبي بعذاب الله ، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٨) أي من الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم ، فإذا علمتم أن لا مجير لكم منه سواء متنا أو بقينا فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث ، (قُلْ هُوَ) أي الذي أدعوكم إلى عبادته (الرَّحْمنُ) أي معطي النعم كلها (آمَنَّا بِهِ) ولم نكفر به كما كفرتم ، (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لا على غيره كما فعلتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وهو لا يقبل دعاءكم ، لأنكم أهل الكفر ، (فَسَتَعْلَمُونَ) عند معاينة العذاب في الآخرة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٩) أي ظاهر ، أنحن أم أنتم.


وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بالياء التحتانية. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض بالكلية أو بحيث لا تناله الدلاء ، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠) أي ظاهر ، سهل المأخذ تراه العيون فلا بدلهم ، وأن يقولوا : لا يأتينا به إلا الله فقل لهم حينئذ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وكان ماؤهم من بئر زمزم ، وبئر ميمون. ويستحب أن يقول القارئ عقب (مَعِينٍ) : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث.


سورة القلم

وتسمى سورة ن ، مكية ، اثنتان وخمسون آية ، ثلاثمائة

كلمة ، ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(ن) أقسم الله بالنون ، وهي السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها ، واسمها : ليواش ، وهي في الماء تحت الأرض السفلى وتحتها الثور ، واسمه : يهموت وتحته الصخرة ، وتحتها الثرى ، ولا يعلم ما تحته إلا الله تعالى وهذا مروي عن ابن عباس. وقيل : إنه تعالى أقسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه‌السلام في بطنه ، وقيل : إنه تعالى أقسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه. والقول الثاني : وهو مروي أيضا عن ابن عباس أن النون هو الدواة ، وعلى هذا أقسم الله تعالى بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة.

عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» (١). (وَالْقَلَمِ) أقسم الله بالقلم وهو قلم من نور ، طوله كما بين السماء والأرض ، (وَما يَسْطُرُونَ) (١) أي وما كتب الملائكة في صحفهم يكتبون فيها المقادير التي تنفع في العالم ، ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ ، (ما أَنْتَ) يا أكرم الخلق (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢) أي أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرئاسة العامة.

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته ، فلم تجده ، فإذا به وجهه متغير فقالت له : ما لك؟ فذكر نزول جبريل عليه‌السلام وأنه قال له : اقرأ باسم ربك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ ، ثم توضأت ، ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد» فلما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لخديجة ذهبت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمدا ، فأرسلته ، فأتاه فقال : هل أمرك جبريل أن تدعو إلى الله أحد فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ، ثم مات

__________________

(١) رواه ابن كثير في التفسير (٥ : ٤٤٨) ، والحاكم في المستدرك (٢ : ٤٥٤) ، وابن حبيب في مسند الربيع (٣ : ١٠) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٧ : ٣١٨).


قبل دعاء الرسول ، فلما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفار قريش إلى الله قالوا : إنه لمجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، (وَإِنَّ لَكَ) يا أكرم الخلق على ما تحملت من أثقال الرسالة ومن ألوان الشدائد من جهة قومك (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣) أي غير مقطوع ، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) كانت نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة عن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، وقال أنس : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي في شيء فعلته : لم فعلت؟ ولا في شيء لم أفعله : هلا فعلت. (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) (٥) أي فستعلم يا محمد ويعلم المشركون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل ، أو فسترى يا محمد ويرون في الدنيا أنك تصير معظما في القلوب وأنهم يصيرون ذليلين ، (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) والباء إما زائدة أي أيكم الذي فتن بالجنون ، أو بمعنى في أي الفريقين المجنون ، أفي فرقة الإسلام ، أم في فرقة الكفار ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم». وقيل : إن المفتون مصدر جاء على مفعول والتقدير : بأيكم الفتون؟ أي الجنون. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) ، أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) أي وهو أعلم بالعقلاء وهو المهتدون إلى سبيله ، الفائزون بكل مطلوب ، الناجون عن كل محذور ، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) وهم رؤساء أهل مكة الذين دعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دين آبائهم ، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) أي تمنوا إن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك وإن يتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك ، و «لو» مصدرية ، أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي كثير الحلف في الحق والباطل ، (مَهِينٍ) (١٠) أي ضعيف في دين الله ، حقير في التدبير والتمييز ، (هَمَّازٍ) أي عياب طعان ، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (١١) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم ، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال ، أو مناع للناس من الدخول في دين الإسلام (مُعْتَدٍ) أي ظلوم (أَثِيمٍ) (١٢) ، أي مبالغ في الإثم ، (عُتُلٍ) أي شديد الخصومة أو واسع البطن (بَعْدَ ذلِكَ) ، أي مع تلك المثالب (زَنِيمٍ) (١٣) ، أي دعي ملصق بالقوم وليس منهم ، والظرف متعلق «بزنيم»

قيل : هو الوليد ادعاه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من ولادته ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب ، ولما نزلت هذه الآية قال لأمه : إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها ، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك. فقالت له : إن أباك أي المغيرة عنين ، فخفت على المال ، فمكنت الراعي من نفسي ، وكان للوليد عشرة من البنين ، وكان يقول لهم ولأقاربه : لئن تبع دين محمد أحد منكم لا أنفعه بشيء أبدا ، فمنعهم من الإسلام ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وألفا ، ولا يعطي المسكين درهما واحدا. وهذه الآية عند أكثر المفسرين نزلت في


الوليد بن المغيرة ، وعند ابن عباس في أبي جهل ، وعند مجاهد في الأسود بن عبد يغوث ، وعند السدي في الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة. (أَنْ كانَ) أي لأجل أن كان هذا الموصوف ، (ذا مالٍ وَبَنِينَ) (١٤) ، وهذا إما متعلق بما قبله أي (لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) الآية ، لكثرة ماله وأولاده أو بما دل عليه ما بعده ، أي إنه كفر بآياتنا ، لأن كان ذا مال وبنين وفي قراءة سبعية «أأ» بهمزتين مفتوحتين أي ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه أو ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ، وكان مال الوليد بن المغيرة نحو تسعة آلاف مثقال من فضة وبنوه عشرة ، (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٥) ، أي هي أحاديث الأولين في كذبهم ، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦) أي سنجعل له في الآخرة علامة على أنفه ، يعرف بها أهل القيامة أنه كان في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق. كما قاله قتادة.

قال ابن عباس : أي سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال ، (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي أهل مكة بالقحط بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بعد يوم بدر سبع سنين (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي أهل البساتين كانت بصروان.

روي أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه وقالوا : عيالنا كثير والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا ، فأحرق الله جنتهم ، وكانوا بعد عيسى ابن مريم بزمن يسير ، (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١٧) أي حين حلفوا بالله ليقطعن ثمر نخليهم في وقت الصباح ، (وَلا يَسْتَثْنُونَ) (١٨) أي لا يقولون : إن شاء الله أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم ، (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) (١٩) ، أي فطرقها في الليل طارق من عذاب الله.

قال الكلبي : أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون ، (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) أي فصارت البساتين بالاحتراق شبيهة بالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شيء ، أو صارت كالليل في اسودادها ، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) (٢٢) أي فنادى بعضهم بعضا عند طلوع الفجر ، أي اذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب ، فاصرموها إن كنتم قاصدين للصرم ولا تخبروا المساكين ، (فَانْطَلَقُوا) إلى البساتين (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) (٢٣) ، أي والحال أنهم يتسارون فيما بينهم كلاما خفيا (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) (٢٤) ، و «أن» مفسرة أي لا تدخلوا مسكينا في البساتين. وقرأ ابن مسعود بطرح «أن» على إضمار القول. والمعنى : «يتخافتون» يقولون : لا تمكنوا المسكين من الدخول في البساتين حتى يدخل (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) (٢٥) أي وصاروا قاصدين إلى بساتينهم قادرين على صرامها ، ومنع منفعتها على المساكين في ظنهم ، أو أرادوا أن يحرموا المساكين وهم


ظنوا أنهم قد أخطئوا الطريق فقالوا : إنا لضالون طريق بستاننا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا : لسنا ضالين بل نحن محرومون منفعة جنتنا بشؤم عزمنا على البخل ، ومنع الفقراء ، ويحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا : إنا لضالون في الاعتقاد حيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها ، وحيث كنا عازمين على منع الفقراء بل الأمر انقلب علينا فصرنا محرومين ، (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أفضلهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨) أي هلا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم حيث عزمتم على منع الزكاة؟ (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) عن أن يجري في ملكه ما لا يشاؤه ، (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٩) بالإقسام على جذ الجنة في الصباح ومنع المساكين وترك الاستثناء. (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (٣٠) أي يلوم بعضهم بعضا يقول واحد منهم : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر : أنت الذي خوفتنا بالفقر ويقول الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال. (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٣١) أي يا هلاكنا هذا وقت منادمتك لنا إنا كنا متجاوزين حد الله بمنعنا المساكين ، (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي أن يعطينا خيرا من جنتنا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالذنوب.

وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) أي طالبون منه الخير ، راجون عفوه وروي أنهم قالوا : إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا ، فتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء ، فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها ، فإن الله أمر جبريل عليه‌السلام أن يقتلع تلك الجنة المحترقة ، فيجعلها بزعر من أرض الشام ، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها.

وقال ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : إن القوم أخلصوا ، وعرف الله منهم الصدق ، فأبدلهم الله جنة يقال لها : الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا واحدا كم كبره. وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم ، (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة في صروان عذاب الدنيا لمن منع حق الله من ماله ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) لمن لا يتوب (أَكْبَرُ) من عذاب الله في الدنيا ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣) أنه أكبر لاحترزوا عما يؤديهم إليه ، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في الآخرة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٣٤) ، أي جنات ليس لهم فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشويه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فأقصى أمركم أن تساوونا فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٥) أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين أي مساوين لهم في العطاء ، (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) أي أيّ شيء يحصل لكم يا أهل مكة ، وأيّ حال يدعوكم إلى هذا الحكم هل هو صادر عن اختلال فكر أو اعوجاج


رأي ، (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) (٣٨) أي بل ألكم كتاب نازل من السماء فيه تقرأون أن لكم في ذلك الكتاب ما تشتهون في الآخرة. وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة ، وهو منصوب بـ «تدرسون» إلا أن في اسمها زيادة لام التأكيد ، (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أي أم لكم عهود مؤكدة بالأيمان ، (بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والجار والمجرور إما متعلق ببالغة ، أي أيمان تبلغ ذلك اليوم ، وإما بالمقدر أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، ويكون معنى بالغة مؤكدة. وقرأ زيد بن علي والحسن «بالغة» بالنصب على الحال من «أيمان» ، أو من الضمير في الظرف ، (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (٣٩) وهذا جواب القسم ، لأن المعنى أقسمنا لكم أيمانا موثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم في الآخرة ، وهو أن تسووا بين المسلمين والكافرين ، (سَلْهُمْ) يا أشرف الرسل : (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم الخارج عن العقول (زَعِيمٌ) (٤٠) أي قائم (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي أو هل لهم ناس يساعدونهم على صحة ذلك القول (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي بمن يشاركونهم في ذلك القول ويكفلونه لهم بصحته ، (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤١) في دعواهم ويقال : المعنى : أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب ، فليأتوا بآلهتهم إن كانوا صادقون أن لهم ما قالوا ، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي يوم يشتد الأمر.

قال أبو سعيد الضرير : أي يوم يكشف عن أصل الأمر أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها بحيث تصير عيانا. وقرئ «تكشف» بالتاء الفوقية على البناء للفاعل ، أو المفعول والفعل للحال ، أو للساعة أي يوم تشتد الحال ، أو الساعة عن أمر. وقرئ «تكشف» بالتاء المضمومة وكسر الشين ، أي يوم تدخل الحال في الكشف عن أمر كانوا في عمى منه في الدنيا. وقرئ «نكشف» بالنون (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) توبيخا على تركهم إياه في الدنيا بعد ما قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢) السجود ، تبقى أصلابهم فقارة واحدة مثل حصون الحديد ، (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من واو «يدعون» ، (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تلحقهم ذلة شديدة بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم ، (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي إلى الصلوات بالأذان والإقامة في الدنيا دعوة تكليف ، (وَهُمْ سالِمُونَ) (٤٣) أي أصحاء قادرون على الصلاة فلا يجيبون الداعي ، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي خل يا أشرف الخلق بيني وبينهم فإني أكفيك أمرهم ، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي سننزلهم إلى العذاب درجة فدرجة ، (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤) أي كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار ، (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم ليزدادوا إثما (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥) أي إن ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه ، قوي لا يدفعه شيء ولا يطلع عليه أحد (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أم تلتمس من أهل مكة أجرا دنيويا على الإيمان ، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) أي فهم لأجل ذلك مكلفون حملا ثقيلا من غرامة مالية يعطونكها ، فيعرضون عنك (أَمْ عِنْدَهُمُ


الْغَيْبُ) أي أم عندهم علم ما غاب عنهم ، كأنه حضر في عقولهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) على الله ، أي يحكمون عليه بما شاءوا (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ، (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي ولا يكن حالك يا أشرف الخلق كحال يونس عليه‌السلام من الضجر والمغاضبة فتبتلي ببلائه ، (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨) إذ نادى في بطن الحوت بقوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وهو مملوء غما ـ كما قاله ابن عباس ومجاهد ـ أو كربا ـ كما قاله عطاء وأبو مالك ـ والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس ، (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٤٩) أي لولا هذه النعمة التي هي توفيقه للتوبة وقبولها منه لطرح بالأرض الخالية من الأشجار مع وصف المذمومية. وقرئ «رحمة من ربه». وقرأ ابن هرمز والحسن «تداركه» بتشديد الدال. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «تداركته» ، (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي رد عليه الوحي بعد أن انقطع عنه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠) أي الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى.

روي أن هذه الآية نزلت في أحد حين حل برسول الله ما حل ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف. (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا ، بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك. وقرئ في السبعة «ليزلقونك» بضم الياء وفتحها. وقرئ «ليزهقونك».

روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله ، فنزلت هذه الآية. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي وقت سماعهم بالقرآن ، (وَيَقُولُونَ) لغاية حيرتهم في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُ) أي محمدا (لَمَجْنُونٌ) (٥١) فأجابهم الله تعالى بقوله : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢) ، أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عظة للجن والإنس.


سورة الحاقة

مكية ، إحدى وخمسون آية ، مائتان وست وخمسون كلمة ، ألف وأربعمائة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) (٢) أي أيّ شيء هي (وَما أَدْراكَ) أي وأيّ شيء أعلمك (مَا الْحَاقَّةُ) (٣) أي إنك لا علم لك يا أشرف الخلق بكنهها ، ومدى عظمها ، والحاقة هي الساعة الثابتة الوقوع ، الواجبة المجيء ، أو التي تحق فيها الأمور ، أي تعرف على الحقيقة ، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٤) أي بالحالة التي تقرع قلوب الناس بالإفزاع وهي القيامة ، وقوارعها انفطار السماء ، وانشقاقها ، ودك الأرض ، ونسف الجبال ، وطمس النجوم وانكدارها ، (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٥) أي بالصيحة المجاوزة للحد في القوة ، (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ، أي باردة (عاتِيَةٍ) (٦) ، أي مجاوزة للحد في شدة عصفها ، (سَخَّرَها) أي سلطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) ، أي متتابعة من صبيحة أربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر ، فكان آخرها هو اليوم الأخير منه ، (فَتَرَى الْقَوْمَ) أي قوم هود إن كنت حاضرا وقتئذ (فِيها) أي في مهاب الريح (صَرْعى) ، أي موتى مجندلين على الأرض ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧) أي كأنهم أصول نخل ساقطة بالية ، (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨)؟ قال قوم : أي لم يبق من نسل أولئك القوم أحد.

وقال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام ، أحياء في عقاب الله من الريح ، فلما أمسوا اليوم الثاني ماتوا ، فاحتملتهم الريح ، فألقتهم في البحر ، فذلك قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ). (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء ، أي ومن عنده من أتباعه وجنوده ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وأبيّ وأبي موسى «ومن تلقاءه». وقرأ أبي أيضا ومن معه ، والباقون بفتح القاف وسكون الباء أي من تقدمه من الأمم. (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي أهل القريات الخمسة المنقلبات قوم لوط ، وهي صنعة ، وصعرة ، وعمرة ، ودوما ، وسذوم (بِالْخاطِئَةِ) (٩) أي بالخطإ ، كتكذيب البعث ، وكاللواط والصفع والضراط ، وغير ذلك من أنواع المعاصي ، (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) موسى ولوطا وغيرهما ، (فَأَخَذَهُمْ) أي الله تعالى (أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) ، أي زائدة في


الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي ارتفع الماء وزاد أعلى جبل خمسة عشر ذراعا ، وذلك في زمن نوح (حَمَلْناكُمْ) في أصلاب آبائكم (فِي الْجارِيَةِ) (١١) أي في سفينة نوح عليه‌السلام ، (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي لنجعل هذه القصة التي هي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة لكم ، تتعظون بها (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢) ، أي ليحفظها قلب حافظ ويقال : تسمع هذا الأمر أذن سامعة ، فتنتفع بما سمعت.

وقرأ نافع بسكون الذال وقرأ العامة «وتعيها» بكسر العين. وروي عن ابن كثير ساكنة العين ، وذلك مثل «ويتقه» في قراءة من سكن القاف ، (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) وهي نفخة البعث. وقرأ أبو السماك بنصب «نفخة واحدة» على المصدر وبإسناد الفعل إلى الجار والمجرور (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي وبعد خروج الناس من قبورهم رفعت الأرض والجبال من أماكنها إما بالزلزلة أو بريح ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله من غير سبب (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤). أي ضربت إحدى الجملتين بالأخرى ضربة واحدة ، فتفتت وصارت كثيبا مهيلا (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١٥) أي قامت القيامة الكبرى. وهذا جواب «إذا» ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة ، (فَهِيَ) أي السماء (يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (١٦) أي ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة شديدة ، (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة واقفون على أطراف السماء التي لم تسقط ، فهؤلاء من جملة المستثنى ممن يموتون في الصعقة الأولى.

وقيل : إنهم يقفون لحظة على أطراف السماء ثم يموتون ، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أي حال كون العرش فوق الملائكة الواقفين على جوانب السماء (يَوْمَئِذٍ) أي يوم وقعت الواقعة ، (ثَمانِيَةٌ) (١٧) من الأملاك وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله تعالى بأربعة أخرى ، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال» (١) ، أي تيوس الجبل. وفي حديث آخر : «لكل ملك منهم وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس». قال بعضهم : واسم أحدهم روقيل ولبنان.

وقال ابن عباس : هم ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى (يَوْمَئِذٍ) أي يوم قامت القيامة (تُعْرَضُونَ) على الله ، أي تسئلون وتحاسبون.

وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات : عرض للحساب والمعاذير ، وعرض للخصومات والقصاص ، وعرض لتطاير الكتب وقراءتها. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١٨) أي لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم ،

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (١٨ : ٢٦٦).


وتظهر أحوال أهل العذاب ، فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم. وقرأ حمزة والكسائي «لا يخفى» بالياء التحتية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) كأبي سلمة بن عبد الأسد. (فَيَقُولُ) لأصحابه تبجحا وابتهاجا : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) أي خذوا كتابي وانظروا ما فيه من الثواب والكرامة ، (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠) أي إني في الدنيا تيقنت أني ألقى حسابي في الآخرة ولم أنكر البعث.

وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه ، فتكتب حسناته في ظهر كفه ، وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له : اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح ، ثم يقول : هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت عند النظرة الأولى أني ملاق حسابيه على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم». (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) أي منسوبة إلى الرضا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢٢) في المكان والدرجة (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) أي ثمارها قريبة يتناولها القاعد يقول الله لهم : (كُلُوا) من الثمار (وَاشْرَبُوا) من الأنهار (هَنِيئاً) ، أي بلا تعب في تحصيل الأكل والشراب وبلا داء في تناولهما (بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤) ، أي بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي أيام الدنيا ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) كالأسود بن عبد الأسد (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢٥) ، أي لم أعط كتابي هذا الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة ، (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٢٦) أي أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء ، (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (٢٧) أي ليت هذه الحالة كانت موتة انتهيت إليها ، أو ليت الموتة التي مت بها في الدنيا كانت قطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى ، (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (٢٨) ، و «ما» إما نافية و «مالية» كلمة واحدة ، أي ما دفع عني من عذاب الله مالي الذي جمعته في الدنيا أو استفهامية ، و «ما ليه» كلمتان. أي أيّ شيء نفعني مما كان لي من المال والأتباع (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (٢٩) أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا أو ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا ، فيقول الله تعالى يومئذ لخزنة النار : (خُذُوهُ) أيتها الزبانية (فَغُلُّوهُ) (٣٠) أي شدوه بالأغلال ، فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه ورجله إلى وراء قفاه إلى ناصيته ، (ثُمَّ الْجَحِيمَ) أي النار العظمى (صَلُّوهُ) (٣١) أي شووه ، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي قدرها بذراع الملك (سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢) أي أدخلوه.

قال ابن عباس : تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه ، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه ، ثم يجعل في عنقه سائرها. وقال نوف البكالي : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بين مكة والكوفة ، (إِنَّهُ كانَ) في الدنيا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٣٣) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣٤) ، أي ولا يحث على بذل طعام المسكين. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) (٣٥) أي فليس له في ذلك الوقت في مجمع القيامة قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦).


قال الكلبي : هو ما يسيل من أهل النار إذا عذبوا من القيح والدم والصديد ، (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) (٣٧) أي المتعمدون للذنوب وهم المشركون. وقرأ الزهري ، والعتكي ، وطلحة ، والحسن «الخاطيون» بياء مضمومة بدل الهمزة. وقرأ نافع ـ في رواية ـ وشيبة بطاء مضمومة بدون همز ، أي الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) (٣٩) ، و «لا» مزيدة أو أصلية رد لإنكارهم البعث ، أي أقسم بما تبصرون يا أهل مكة من شيء ، كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما لا تبصرون من شيء ، كالجنة والنار ، والعرش ، والكرسي وجبريل عليه‌السلام ، فالأشياء لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر. فالأقسام يعم جميع الأشياء على الشمول ، (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠) على الله وهو النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نسب القرآن هنا لرسول الله سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الذي أظهره للخلق ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، وجعله حجة لنبوته ، ونسب في سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] إلى سيدنا جبريل عليه‌السلام ، لأنه الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ ، وهو الذي رتبه ، ولذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : إن القرآن قول الله نزل به جبريل على رسول كريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما هُوَ) أي القرآن (بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٤٢) أي ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر ، لأنه مباين لصنوف الشعر إلا أنكم لا تقصدون الإيمان به ، فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم أنه شعر ، ٣ وليس بقول رجل كاهن ، لأنه وارد بشتم الشياطين ، إلا أنكم لا تتذكرون اشتماله على سب الشياطين ، فلذلك تقولون : إنه من باب الكهانة و «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي تؤمنون إيمانا قليلا وتذكرون تذكرا قليلا فإنهم قد يؤمنون في قلوبهم ويتذكرون بها ، إلا أنهم يرجعون عن ذلك سريعا ، ولا يتمون الاستدلال كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) [المدثر : ١٨] وقال في آخر الأمران : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤] ، وإما نافية فينتفي إيمانهم وتذكرهم ألبتة ، أي لا يؤمنون أصلا بأن القرآن من الله ولا يتذكرون أصلا كيفية نظم القرآن.

قال مقاتل : وسبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر.

وقال أبو جهل : شاعر.

وقال عقبة : كاهن. فرد الله تعالى عليهم بذلك. وقرأ ابن كثير وكذا ابن عامر على خلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية في «يؤمنون» ، و «يذكرون» وخفف ذال «تذكرون» حمزة والكسائي وحفص. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣) أي بل هو تنزيل من موجدهم على محمد على وجه التنجيم. وقرأ أبو السماك «تنزيلا» أي نزل تنزيلا ، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦) أي ولو نسب محمد إلينا قولا لم نقله ، لأخذنا يمينه ، ثم لضربنا رقبته ، فإن الوتين


هو عرق متصل بالرأس من القلب ، وهذا تمثيل بما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم ، والمراد أنه لو كذب علينا لأمتناه ويقال : لو نسب محمد إلينا قولا لم نأذن له في قوله لسلبنا عنه القوة ، ثم لقطعنا نياط قلبه بضرب عنقه ، ويقال : لو افترى محمد علينا قولا من الكذب لأخذناه بقوة منا.

وقال مقاتل : لانتقمنا منه بالحق فاليمين بمعنى الحق كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي من قبل الحق. وقرئ «ولو تقول» على البناء للمفعول (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) أي فليس منكم أيها الناس أحد يمنعنا عن محمدا وعن عقابه ، (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) لأنهم المنتفعون به ، (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) (٤٩) بالقرآن بسبب حب الدنيا فنجازيهم على تكذيبهم ، (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَسْرَةٌ) أي ندامة (عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين يوم القيامة ، وكذا في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين.

قال مقاتل : أي وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) أي وإن القرآن لحق يقين إنه كلامي نزل به جبريل على رسول كريم. ويقال : وإن الحسرة على الكافرين يوم القيامة حق يقين ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢) أي اذكر توحيد ربك العظيم تنزيها له عن الرضا بنسبة ما هو بريء منه وشكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك.


سورة المعارج

وتسمى سورة سأل سائل ، مكية ، أربع وأربعون آية ،

مائتان وست عشرة كلمة ، ثمانمائة وأحد وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ) أي طلب طالب عذابا هو واقع بالكافرين في الدنيا والآخرة ليس لذلك العذاب من يدفعه عنهم من جهة الله تعالى ، لأنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله.

قال ابن عباس : هو النضر بن الحارث حيث قال إنكارا واستهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة ابن أبي معيط. وقال الربيع : هو أبو جهل حيث قال : أسقط علينا كسفا من السماء. وقيل : وهو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علي رضي‌الله‌عنه : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (١) ، قال : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء ، فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر ، فوقع على دماغه ، فخرج من دبره ، فمات من ساعته ، فنزلت هذه الآية.

وقال الحسن وقتادة : لما بعث الله محمدا وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض : سلوا محمد لمن هذا العذاب ، وبمن يقع؟ فأخبره الله عنهم بقوله : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أي عن عذاب ، فعلى هذا فقوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقه قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [الأعراف : ١٨٧] وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [يس : ٤٨].

قال أبو السعود : ولعل هذا القول أقرب وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف محضة. وقرأ ابن عباس : «سال سيل بعذاب واقع للكافرين» أي اندفع عليهم واد من أودية جهنم بعذاب واقع ،

__________________

(١) رواه أحمد في (م ١ / ص ٨٤ ، ١١٨) ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : في فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد. وقرأ أبي «على الكافرين». (ذِي الْمَعارِجِ) (٣) أي ذي السموات فهو خالقها كما قاله ابن عباس ، وسميت معارج ، لأن الملائكة يعرجون فيها.

وقال قتادة أي ذي الفواضل والنعم وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. وقيل : أي ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة ، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) وهو جبريل (إِلَيْهِ) أي إلى انتهاء موضع كرامته تعالى وهو الموضع الذي لا يجري لأحد سواه تعالى فيه حكم. وقيل : إلى عرشه.

وقرأ الكسائي «يعرج» بالياء التحتية (فِي يَوْمٍ) من أيامكم (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) من سني الدنيا أي يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان إلى خمسين ألف سنة لو فرض ذلك. وقال وهب : ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى.

وقال محمد بن إسحاق : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقوله تعالى : (فِي يَوْمٍ) متعلق بتعرج كما عليه الأكثرون.

وقال مقاتل : هو متعلق بـ «واقع» وقيل : متعلق بـ «سال» بغير همزة وهو الذي من السيلان ، وعلى هذا فالمراد بذلك اليوم يوم القيامة ، والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. قال بعضهم : وهذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير ، والمعنى : لو اشتغل بتلك الحكومة والمحاسبة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ، ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحساب في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) أي فاصبر صبرا بلا جزع على استهزاء النضر وأمثاله بك ، وعلى تكذيب الوحي ، وعلى تعنت كفار مكة في السؤال عليك ، فهذا متعلق بقوله تعالى : (سَأَلَ) ومن قرأ «سال» بألف محضة فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه ، فاصبر ، فقد جاء وقت الانتقام ، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) أي إن الكفار يستبعدون اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة من الإمكان على جهة الإحالة ، ونعلمه قريبا من الإمكان هينا في قدرتنا غير متعذر علينا ، ويقال : إن كفار مكة يعتقدون العذاب غير واقع يوم القيامة ، ونعلمه واقعا لا بد من وقوعه ، وهذا تعليل للأمر بالصبر ، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٨) أي تصير السماء كدردي الزيت ، وهذا الظرف متعلق بـ «ليس له دافع» أو بما في معناه كيقع ، أي يقع العذاب يوم تكون إلخ ، أو متعلق بـ «قريبا» إذا كان الضمير في نراه للعذاب ، (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) أي تصير الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا ، وإنما وقع التشبيه به ، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش


إذا طيرته الريح ، (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (١٠) أي لا يسأل قريب قريبه عن أحواله كيف حالك ، ولا يكلمه ، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام ، أو لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته فلا يقال : لحميم أين حميمك؟ (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه.

وقرئ «يبصرونهم» أي يرونهم ولا يعرفونهم اشتغالا بأنفسهم ، (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي يتمنى المشرك أن يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأولاده وزوجته وأخيه ، وأقاربه الأقربين الذين فصل عنهم ، وينتهي إليهم التي تضمه في النسب وتحميه في النوائب ومن في الأرض جميعا من الخلائق وقرأ نافع والكسائي «يومئذ» بفتح الميم على البناء لإضافة يوم إلى مبني. والباقون بكسرها على الإعراب على الأصل في الأسماء. وقرئ «من عذاب يومئذ» بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» بـ «عذاب» لأنه في معنى تعذيب ، (ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤) معطوف على يفتدي ، أي يتمنى الكافر أن يفتدي نفسه بهذه الأشياء ثم أن ينجيه ذلك الافتداء ، (كَلَّا) وهذا هنا إما بمعنى حقا ، فحينئذ كان الوقف على «ينجيه» وهو وقف تام. وإما بمعنى لا فحينئذ كان الوقف على «كلا» وهو وقف تام ، وهذا أولى ، ولا يجمع بينهما في الوقف بل الوقف في أحدهما فقط أي لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب ، (إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١٦).

وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص ، أو على حال مؤكدة ، والكناية عائدة على النار لدلالة لفظ العذاب عليها ، وقرأ الباقون بالرفع فتجعل الكناية حرف عماد و «لظى» اسم «إن» و «نزاعة» خبرها ، كأنه قيل : إن لظى نزاعة ، أو تجعل ضمير القصة وهو اسم إن و «لظى» مبتدأ و «نزاعة» خبرا ، والجملة خبر عن «إن» والتقدير : أن القصة لظى نزاعة للشوى أي قلاعة للأعضاء التي في أطراف الجسد ، ثم تعود كما كانت وهكذا أبدا فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) عن الطاعة (وَتَوَلَّى) (١٧) عن الإيمان (وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حقوقه ، أي إن النار تدعوهم بلسان الحال أو أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا : إلي يا كافر إلي يا منافق ، ثم تلتقطهم الحب فقوله تعالى : أدبر وتولى ، إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله تعالى وطاعته وقوله : (وَجَمَعَ) إشارة إلى الحرص وقوله : (فَأَوْعى) إشارة إلى طول الأمل وهذه مجامع آفات الدين. (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (١٩) أي جبل جبلة هو فيها قلة الصبر وشدة الحرص (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) ، أي إذا أصابه الفقر والمرض ونحوهما صار جازعا شاكيا ، وإذا أصابه السعة والصحة صار مانع المعروف شحيحا بماله ، غير ملتفت إلى الناس ، وإنما ذم الله الإنسان على ذلك ، لأنه قاصر النظر عن الأحوال الجسمانية العاجلة ، فالواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال


الآخرة ، فإذا وقف في مرض أو فقر كان راضيا به لعلمه أنه فعل الله تعالى ، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية ، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) بأن لا يتركوها في وقت من الأوقات ولا يشغلهم عنا شاغل ، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢٤) أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس ، (لِلسَّائِلِ) أي الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) (٢٥) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا ، فيحرم ، (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢٦) حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعا في التوبة الأخروية ، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء ، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٢٧) أي خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استعظاما لجنابه تعالى واستقصارا لأعمالهم الحسنة. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (٢٨) فلا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وإن بالغ في الطاعة ، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي الأربع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الولائد بغير عدد ، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (٣٠) بالاستمتاع بهن (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي فمن ، طلب لنفسه وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٣١) أي المجاوزون للحدود ، فدخل في هذا حرمة وطء الذكور والبهائم والزنا ، (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أي لما ائتمنوا عليه من أمر الدين والدنيا ، (وَعَهْدِهِمْ) فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين الناس (راعُونَ) (٣٢) ، أي حافظون بالوفاء.

وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٣٣). وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع. والباقون على التوحيد ، أي يقومون بالشهادات بالحق عند الحكام ولا يكتمونها ، وهذا الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إظهارا لفضلها ، لأن في إقامتها إحياء الحقوق ، وفي تركها تضييعها.

وروى عطاء عن ابن عباس قال : والمراد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له ، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٣٤) أي يهتمون بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفات الثمانية (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥) بالثواب والتحف (فَما لـ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) (٣٦) أي أيّ شيء ثبت لكفار مكة مسرعين جهتك ، مادي أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) (٣٧) ، أي مجتمعين فهذه الأربعة أحوال من الموصول.

روي أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون منه ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد : فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية ، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (٣٨) كما يدخلها المسلمون (كَلَّا) أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلا ، لأن ذلك تمن فارغ (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩) وهو النطفة المذرة فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم؟ ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم فكيف يليق دخولهم الجنة لو


لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة؟ (فَلا أُقْسِمُ) ، أي إذا كان الأمر كما ذكر من أنا خلقناهم مما يعلمون فأقسم (بِرَبِّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشتاء والصيف ، (وَالْمَغارِبِ) أي مغارب الشتاء والصيف فلمشرق الشتاء والصيف مائة وثمانون منزلا ، وكذلك للمغربين (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) ، أي بطريق الإهلاك ولم يحصل ذلك وإنما هدد الله تعالى القوم بهذا لكي يؤمنوا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٤١) أي بعاجزين على أن نبدل خيرا منهم ، وليس تأخير عقابهم لعجز بل لحكمة داعية إليه ، (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم فيما هم فيه من الأباطيل (يَخُوضُوا) في باطلهم ، (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم،أو يهزئوا في كفرهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٢) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور بدل من يومهم بدل كل من كل. وقرئ «يخرجون» على البناء للمفعول (سِراعاً) إلى جهة صوت الداعي (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ). وقرأه ابن عامر وحفص بضم النون والصاد وهي التي تنصب فتعبد من دون الله تعالى ، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد ، وهي رواية وقرأ أبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتين أي منصوب كالعلم. وقرأ الحسن وقتادة بضمة فسكون وهو الصنم المنصوب للعبادة (يُوفِضُونَ) (٤٣) أي يسرعون (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) فلا يرفعونها ولا يرون خيرا (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يعلوهم سواد الوجوه ، (ذلِكَ) أي وقوع الأحوال الهائلة (الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤) في الدنيا إن لهم فيه العذاب ، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه.


سورة نوح

مكية ، ثمان وعشرون آية ، مائتان وأربع وعشرون كلمة ، تسعمائة وتسعمائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وكانوا جميع أهل الأرض أهل عصره (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) وأن حرف مصدري والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له : «أنذر» أي أرسلناه بالأمر بالإنذار ، ويجوز أن تكون مفسرة. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول والتقدير : أنا أرسلناه وقلنا له : أنذر ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة ، فلما جاءهم (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢) أي موضح لحقيقة الأمر بلغة تعلمونها ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح ، والأمر بالتقوى ، ويتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات ، (وَأَطِيعُونِ) (٣) فالأمر بطاعة نوح يتناول أداء جميع المأمورات وترك جميع المنهيات ، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فالإسلام يجبه ، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أمد قدره الله تعالى لهم بشرط الإيمان أي إن الله قضى على قوم نوح مثلا إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة ، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي إن ما قدر الله لكم على تقدير بقائكم على الكفر (إِذا جاءَ) وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه ، (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤) شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به ، فلما أيس نوح منهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته. (قالَ) أي نوح : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى الإيمان والطاعة (لَيْلاً وَنَهاراً) (٥) أي دائما ، من غير فتور (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٦) مما دعوتهم إليه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والتوبة (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بسببهما ، (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدوا مسامعهم لكيلا يسمعوا دعوتي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا صوتي ولا يروني ، (وَأَصَرُّوا) على الكفر والمعاصي (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان والتوبة (اسْتِكْباراً) (٧) عظيما بالغا إلى النهاية القصوى ، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ) إلى التوحيد والتوبة (جِهاراً) (٨) أي بأعلى صوتي ، (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ


إِسْراراً) (٩) ، فمراتب دعوة نوح عليه‌السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر ، فجازوه بالأمور الأربعة ، ثم ثنى بالمجاهرة ، وهي أشد من الإسرار ، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد (فَقُلْتُ) لهم : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالتوبة عن الكفر والمعاصي (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١٠) في حق كل من استغفره (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) أي مطرا دائما ، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١٢) تجري لمنافعكم. قيل : لما كذبوا نوحا عليه‌السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة ، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم ، وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) ، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا ، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال : والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا ، (أَلَمْ تَرَوْا) أي ألم تخبروا يا كفار مكة (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١٥) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة ، ملتزقة أطرافها ، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا ، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها ، فيرى الكل كأنها سماء واحدة ، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) أي أنبتكم من الأرض ، فنبتم نباتا عجيبا ، والمعنى : والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة ، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات ، المتولد من الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بالدفن عند موتكم ، (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث والحشر ، (إِخْراجاً) (١٨) محققا لا ريب فيه ، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة. (قالَ نُوحٌ) مناجيا له تعالى : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة ، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) (٢١) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح لا يعطيه شيئا ، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم ، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه


الإشارة صارفة لهم عن الدين وقرأ العامة كبارا بضم الكاف وتشديد. الباء وقرأ عيسى وأبو السماك وابن محيصن بالضم والتخفيف. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا بكسر الكاف وتخفيف الباء. (وَقالُوا) أي الرؤساء للسفلة معطوف على الصلة أيضا ، أي واتبعوا من قالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركوا عبادتها إلى عبادة رب نوح ، (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (٢٣) أي ولا تتركن عبادة هؤلاء. وقرأ نافع «ودا» بضم الواو والباقون بفتحها وقرأ العامة «يغوث ويعوق» بغير تنوين للعلمية والوزن ، أو للعلمية والعجمة. وقرأهما الأعمش مصروفين للتناسب أو على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ولعل هذه الأسماء الخمسة أسماء أولاد آدم ، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم حتى بعث الله نوحا عليه‌السلام ، ولهذا السبب نهى الرسول عن زيارة القبور أولا ، ثم أذن فيها وقال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن زيارتها تذكرة ، (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) معطوف على صلة من أي واتبعوا من قد أضلوا خلقا كثيرا وهم الرؤساء ، أو الأصنام أجريت مجرى الآدميين كقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ). (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (إِلَّا ضَلالاً) (٢٤) أي عذابا أو ضلالا في أمر دنياهم ، وهذا معطوف على قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) على حكاية كلام نوح بعد «قال» ، وبعد «الواو» النائبة عنه ، قالوا : وليست من كلام نوح لئلا يعطف الإنشاء على الإخبار لكن الظاهر أن المراد بالأخبار طلب للنصرة عليهم ، فيجوز أن تكون الواو من كلام نوح ، أي قال نوح : رب إنهم عصوني وقد عجزت وأيست عنهم فانصرني عليهم وقال : لا تزد الظالمين إلا ضلالا ، (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) و «ما» صلة و «من» تعليلية أي من أجل خطيئاتهم وبسببها أغرقوا بالطوفان لا بسبب آخر ، وقرأ أبو عمرو «خطاياهم». وقرأ ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» فأخّر كلمة «ما» فعلى هذه القراءة فـ «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. وقرئ «خطياتهم» بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «خطيئتهم» بالتوحيد على إرادة الجنس ، أو إرادة الكفر فقط والخطيئات والخطايا كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع سلامة ، والثاني جميع تكسير (فَأُدْخِلُوا ناراً) في القبر فإن عذاب القبر عقب الإغراق وإن كانوا في الماء ، لأن الفاء تدل على أن إدخالهم في النار حصل عقب الإغراق فلا يمكن حمل النار على عذاب جهنم في الآخرة.

قال الضحاك : إنهم كانوا في حالة واحدة يغرقون من جانب ويحرقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى ، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥). وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم ، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، وما قدرت هي على دفع عذاب الله تعالى عنهم. (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦) أي أحدا (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن دينك من آمن بك ومن أراد أن


يؤمن بك ، (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) أي إلا من سيفجر ويكفر ، (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) أي أبوي لمك وشمخا بنت أنوش ، فإنهما كانا مؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم أن المراد : والده وجده ، فاسم أبيه لمك واسم جده متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها خاء معجمة. وقرأ الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما ، ويحيى ابن يعمر والنخعي ولولدي ، أي ابني سام وحام. وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال ، أي أبي فيحتمل أن يريد عليه‌السلام أباه الأقرب الذي ولده وأن يريد جميع من ولده ، من لدن آدم إلى من ولده وكان بينه وبين آدم عشرة آباء ولم يكن منهم كافر كما قاله عطاء ، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي منزلي ، أو مسجدي أو سفينتي. وقيل : لمن دخل دخولا مع تصديق القلب (مُؤْمِناً) خرجت بهذا القيد امرأته وابنه كنعان ، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين يكونون من بعدي إلى يوم القيامة (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) أي الكافرين (إِلَّا تَباراً) (٢٨) أي إلّا هلاكا فاستجاب الله دعاءه عليه‌السلام فأهلكهم بالكلية.


سورة الجن

وتسمى قل أوحى ، مكية ، ثمان وعشرون آية ومائتان

وخمس وثمانون كلمة ، ثمانمائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ) يا أشرف الخلق : (أُوحِيَ إِلَيَ) وقرأ أبو عمرو في رواية يونس وهارون وحي بضم الواو بغير ألف. وقرئ «أحي» بالهمزة من غير واو ، أي أنزل إلى جبريل فأخبرني (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، أي أن الشأن استمع القرآن تسعة نفر من جن نصيبين باليمن ، (فَقالُوا) بعد ما آمنوا ورجعوا إلى قومهم : يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) أي كتابا مقروءا (عَجَباً) (١) ، أي خارجا عن عادة أمثاله من الكتب الإلهية مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي إلى الصواب وهو لا إله إلا الله ، (فَآمَنَّا بِهِ) أي بذلك القرآن ، أو بالرشد الذي في القرآن ـ وهو التوحيد ـ (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (٢) ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وذكر الحسن أن منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين ، (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي وأن الحديث ارتفع عظمة ربنا ، أي عظم سلطانه ، أو ارتفع غناه ، أي وصفه بالاستغناء عن الزوجة والولد ، أو تعالى حقيقته عن جميع جهات التعلق بالغير. وقرئ «جد ربنا» بكسر الجيم أي تعالى صدق ربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. وقرئ «جدا ربنا» بنصب «جدا» على التمييز (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) (٣). هذه الجملة مفسرة لما قبلها وبعضهم جعل «ما» مصدرية متعلقة بتعالى ، فحينئذ تكون «لا» زائدة ، أي تعالى صفة ربنا ما اتخذ زوجة وولدا كما نسبه الكفار ، (وَأَنَّهُ) أي الحديث (كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) أي جاهل منا وهو إبليس (عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٤) أي قولا مجاوزا للحد بعيدا عن الصدق وهو وصفة تعالى بإثبات الشريك والصاحبة والولد ، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٥) أي كنا نظن أنه لن يكذب على الله تعالى أحد أبدا ، ولذلك اتبعنا قوله. وهذا اعتذار منهم تقليدهم لسفيههم إبليس ، (وَأَنَّهُ) أي الحديث (كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) في الجاهلية (يَعُوذُونَ) أي يلتجئون (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٦) أي ظلما وذلك أنهم إذا سافروا سفرا ، أو اصطادوا صيدا ، أو نزلوا واديا خافوا من الجن لأنها تعبث بهم في بعض الأحيان فقالوا : نعوذ


بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيأمنون بذلك ولا يرون إلا خيرا فتزيد الجن والإنس إضلالهم حتى استعاذوا بهم ، (وَأَنَّهُمْ) أي الإنس (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) بعد الموت أو أنه لن يبعث الله أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة ، (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨) وأنا قبل أن آمنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فصادفناها قد ملئت من جهة الحراس الأقوياء ، وهم الملائكة الذين يمنعون من الاستماع ومن شعل منقضة من نار الكواكب ، (وَأَنَّا كُنَّا) قبل مبعث محمد (نَقْعُدُ مِنْها) أي السماء (مَقْعَدِ) خالية من الحرس (لِلسَّمْعِ) أي لأجل الاستماع ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) أي بعد مبعث محمد في مقعد من المقاعد (يَجِدْ لَهُ) أي لأجله (شِهاباً رَصَداً) (٩) أي شهابا قد أرصد له ليرجم به ، (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠) أي وأنا لا نعلم أشر أريد بمن في الأرض حين منعنا عن الاستماع ، أم أراد بهم ربهم خيرا ، أي ولما سمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علموا أنهم منعوا من صعود السماء حراسة للوحي ، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المتقون ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي ومنا قوم غير صالحين (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١). أي كنا قبل هذا ذوي مذاهب مختلفة.

قال السدي : الجن أمثالكم فيهم مرجئة ، وقدرية ، وروافض ، وخوارج (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي وأنا علمنا الآن أن الشأن لن نعجز الله أينما كنا من أقطار الأرض ، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١٢) أي هاربين من الأرض إلى السماء ، فليس لنا مهرب إلا في قبضته ، (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) (١٣) ، أي فمن يؤمن بربه فهو لا يخاف نقصا في جزاء حسناته ، ولا ظلما بزيادة جزاء سيئاته ، وهذا دليل على أن من حق من آمن بالله تعالى أن يجتنب المظالم. وقرأ الأعمش «فلا يخف» ، (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي وأنا بعد سماع القرآن مختلفون ، فمنا المخلصون في صفة الإسلام ، ومنا المائلون عن طريق الحق ، (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي أخلص بالتوحيد (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (١٤) أي وقصدوا طريق صواب ، (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) أي المائلون عن سنن الإسلام ، (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥). والجن وإن خلقوا من النار توقد نار جهنم بهم ، كما توقد بكفرة الإنس فإن النار القوية تأكل النار الضعيفة. وقيل : هاهنا آخر كلام الجن ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) و «أن» مخففة من الثقيلة ، والجملة معطوفة على أنه استمع والمعنى وأوحى إلى أن الحديث لو استقام الجن والإنس (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي على ملة الإسلام (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١٦) أي ولوسعنا عليهم الرزق. وقرأ الأعمش بضم واو لو تشبيها بواو الضمير ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي في ذلك الماء الذي هو كناية عن العيش الواسع فإن من آمن بالله فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام اختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا؟ وهل ينفق تلك النعم في طلب مراضي الله أو في مراضي الشيطان؟ (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي عن طاعته وعن كتاب ربه القرآن (يَسْلُكْهُ عَذاباً


صَعَداً) (١٧) أي يدخله في عذاب شديد. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية لإعادة الضمير على الله. والباقون بالنون.

روى عكرمة عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، أن «صعدا» جبل في جهنم وهو صخرة ملساء ، أو نحاس ، فيكلف الكافر صعودها ، ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا أعلاها جذب إلى أسفلها ، ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبدا ، (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي وأوحي إلي أن المساجد لله (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) ، أي فلا تعبدوا مع الله أحد أحدا غيره ، والمراد بالمساجد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة ، فيدخل فيها الكنائس والبيع ، ومساجد المسلمين ، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس ، فأمر الله المسلمين بالتوحيد والإخلاص ، (وَأَنَّهُ) أي وأوحى إلى أن الحديث (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) ، أي لما قام النبي يعبد الله لصلاة الفجر ببطن نخل كاد الجن يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته ومن اقتداء أصحابه به قائما ، وراكعا ، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله ، وقرأ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف بناء على أن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى ، والمعنى : وأنه لما أقام النبي يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمين ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله ، فأبى الله إلا أن ينصره على من عاداه ، وقرأ هشام «لبدا» بضم اللام. والباقون بكسرها.

واعلم أن «أن» المشددة في هذه السورة ستة عشرة ، ثنتان منها يجب فيهما الفتح «أنه استمع» و «أن المساجد لله». وواحدة يجب فيها الكسر «إنا سمعنا». وثلاثة عشر يجوز فيها الوجهان فالاثنتا عشرة فتحها الأخوان وابن عامر ، وحفص ، وكسرها الباقون وهي : و «أنه تعالى جد ربنا» و «أنه كان يقول» و «أنا ظننا» ، و «أنه كان رجال» و «أنهم ظنوا» ، و «أنا لمسنا السماء» ، و «أنا منا» و «أنا لا ندري» ، و «أنا منا الصالحون» و «أنا ظننا» و «أنا لما سمعنا» ، و «أنا منا المسلمون». والواحدة كسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون وهي : و «أنه لما قام عبد الله» (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي أعبده وأدعو الخلق إليه ، (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (٢٠) أي ولا أشرك بربي في العبادة أحدا. قرأ العامة «قال» على الغيبة. وقرأ عاصم وحمزة «قل» ليكون نظير لما بعده ، وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ، ونحن نجيرك. فنزلت. وهذا حجة لعاصم وحمزة ، ومن قرأ «قال» حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إنما أدعو ربي» ، فحكى الله ذلك عنه بقوله قال : أو يكون ذلك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم ، (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك : (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) (٢١) ، أي إني لا أقدر أن


أدفع عنكم ضرا وكفرا ، ولا أسوق إليكم نفعا ولا هدى. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة. ومعنى الكلام أن النافع والضار ، والمرشد والمغوي هو الله وأن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه ، وقرأ أبيّ «غيا ولا رشدا». (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن عصيته (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٢) أي ملجأ ، وموضع الاختفاء إن أرادني بضر ، (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ). وهذا استثناء من قوله : (لا أَمْلِكُ) وقوله : (وَرِسالاتِهِ) عطف على بلاغا ومن الله صفته لا صلته ، أي لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني بها ، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) العامة على كسر همزة إن لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ، ولذلك حمل سيبويه ومن عاد فينتقم الله منه ، ومن كفر فأمتعه ، ومن يؤمن بربه فلا يخاف ، على أن المبتدأ فيها مضمر. وقرأ طلحة بفتحها على أنها مع ما في حيزها في تأويل مصدر واقع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : فجزاؤه أن له نار جهنم ، أو فحكمه أن له نار جهنم كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] أي فحكمه أن لله خمسه ، (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢٣) بلا نهاية (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من فنون العذاب في الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) (٢٤) ، أي أعوانا ، فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين ، أو في جانب الكفار ، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) (٢٥) ، أي أجلا بعيدا لما سمع المشركون ذلك قال النضر بن الحرث إنكارا له واستهزاء به : متى يكون ذلك الموعود؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية : (قُلْ) لمن تعجلوا بالعذاب (إِنْ أَدْرِي) فإن وقوعه متيقن ، أما وقت وقوعه فغير معلوم ، (عالِمُ الْغَيْبِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم بنزول العذاب. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السدي «علم الغيب» بصيغة الماضي ونصب «الغيب» ، (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) (٢٦) أي لا يطلع الله على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحدا من خلقه ، (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، أي إلا رسولا ارتضاه لاطلاعه على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. وقرأ الحسن «يظهر» بفتح الياء والهاء و «أحد» فاعل به ، (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٢٧) أي فإن الله تعالى يجعل من جميع جوانب ذلك الرسول عند اطلاعه على غيبه حرسا من الملائكة يحفظونه من الجن لئلا يستمعوا قراءة جبريل ، فيلقوها إلى النكهة قبل الرسول ، حتى يبلغ جبريل ما أطلعه الله عليه من بعض الغيوب.

وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره ، فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين عنه ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان ، فيحذره ، فإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) واللام متعلق بـ «يسلك» ، وضمير «أبلغوا» إما للرصد فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم الله أن الشأن قد أبلغ الرصد رسالات ربهم سالمة عن


الاختطاف والتخليط علما حاصلا بالفعل ، وإما لمن ارتضى فالمعنى : ليعلم أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك ، (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) حال من فاعل «يسلك» ، أي يسلكهم ليترتب على السلك علمه تعالى بما ذكر والحال أنه تعالى قد أحاط بما عند الرصد ، أو عند الرسل من الأحوال جميعا ، (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) مما كان وما سيكون (عَدَداً) (٢٨) أي فردا فردا. وهو تمييز منقول من المفعول به. وقرئ «ليعلم» بالبناء للمفعول.


سورة المزمل

وهي عشرون آية ، مائتان وخمس وثمانون كلمة ، ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهجينا لما كان عليه من الحالة حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متلففا بقطيفة ، مستعد للنوم كما يفعله من لا يهمه أمر ، فأمر بأن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة ، والهجود إلى التهجد. وقرئ «يا أيها المتزمل». (قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى صلاة الليل (إِلَّا قَلِيلاً) (٢) (نِصْفَهُ) بدل من الليل ، (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) (٣) أي أو انقص القيام من النصف نقصا قليلا إلى نصف النصف ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي أو زد القيام على النصف إلى الثلثين ، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) أي بين القرآن في أثناء القيام تبيينا بأن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) ، أي سنوحي قرآنا منطويا على تكاليف شاقة على المكلفين ، (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) بفتح الواو وسكون الطاء عند الجمهور. وقرأ قتادة وشبل بكسر الواو وسكون الطاء ، والمعنى : أن قيام الليل بالصلاة هي أشد نشاطا وثبات قدم.

وقرأ أبو عمرو وابن عامر «وطاء» بكسر الواو وفتح الطاء ، أي موافقة للخشوع والإخلاص (وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦) أي أصوب قراءة ، وأحسن لفظا من النهار لسكون الأصوات ، (إِنَّ لَكَ) يا سيد الرسل (فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) ، أي تقلبا طويلا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل. وقرئ «سبخا» بالخاء المنقطة من فوق ، أي تفرق قلب بالشواغل ويقال المعنى : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه ، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي دم على ذكر اسم ربك ليلا ونهارا على أيّ وجه كان من تسبيح وتهليل ، وتحميد ، ودعاء ، وصلاة ، وقراءة قرآن ، ودراسة علم.

قال سهل : أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه اه. أي سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها ، وهذا إذا قرأ من أول سورة ، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل وإن كان فيها لم تسن له البسملة ، لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة ، (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) أي انقطع إلى الله تعالى عن الدنيا بإخلاص العبادة ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالجر على البدل من ربك ، أو على القسم بإضمار حرف


القسم ، وعند ابن عباس ، لكن قراءته «رب المشارق والمغارب». والباقون بالرفع على المدح وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو أو على الابتداء وخبره جملة ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩) فالإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة فيكون في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين. وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين. وقوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) إشارة إلى مقدم التفويض وهو أن يرفع الاختيار ويفوض الأمر بالكلية إليه تعالى ، فإن أراد الله أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل ، وإن أراد له عدم التبتل رضي الله به لا من حيث ذلك بل من حيث ذلك مراد الله تعالى وهاهنا آخر الدرجات ، (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما لا خير فيه فمن أراد المخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير ، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) بأن يجانبهم بقلبه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة ، وترك المكافأة وهذا هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يأتي النسخ بمثله ، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) أي اتركني وأرباب التنعم وكل أمرهم إلي ، وهم صناديد قريش ، وهذا بفتح النون فهو بمعنى الترفه ، إما بكسرها فهي بمعنى الأنعام وإما بضمها فهي بمعنى المسرة ، (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (١١) أي زمانا قليلا أيام الحياة الدنيا فقتلوا ببدر ، (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي إن لهم عندنا في الآخرة أمورا مضادة لتنعمهم قيودا تقيد بها أرجلهم وأغلالا تغل بها إيمانهم إلى أعناقهم وسلاسل توضع في أعناقهم ، (وَجَحِيماً) (١٢) أي نارا عظيمة يدخلونها (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ، أي تمسك في الحلوق وهو الزقوم والضريع (وَعَذاباً أَلِيماً) (١٣) وهو أنواع العذاب (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا ، أي استقر لهم عندنا ما ذكر يوم تزلزل الأرض وأوتادها ، وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول ، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (١٤) ، أي وصارت الجبال ترابا متناثرا بعضه على بعض لرخاوته ، وسمي الكثيب كثيبا ، لأن ترابه دقاق ، (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يا أهل مكة (رَسُولاً) ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر التكذيب ، (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ) ملك مصر (رَسُولاً) (١٥) ـ وهو موسى عليه‌السلام ـ (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) الذي أرسلناه إليه ، (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) (١٦) أي فعاقبناه عقوبة شديدة ـ وهي الغرق ـ (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١٧) أي فكيف تقون أنفسكم إن بقيتم على الكفر في الدنيا عذاب يوم يصير ذلك اليوم الولدان شمطا ، إذا سمعوا حيث يقول الله لآدم : ابعث بعثا من ذريتك إلى النار. قال آدم : يا رب ، من كم؟ قال الله تعالى : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. وقرأ زيد بن علي «يوم يجعل» بإضافة الظرف للجملة والفاعل ضمير راجع إلى الله تعالى ، أي فكيف لكم يا أهل مكة بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ، (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، أي منشق بذلك


اليوم لشدة هوله وهذه الجملة صفة ثانية لـ «يوما» وقرئ «متفطر» أي متشقق ، (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (١٨) والمصدر إما مضاف للمفعول أي كان وعد ذلك اليوم مفعولا ، أي كان الوعد المسند إلى ذلك اليوم واجب الوقوع ، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه ، وإما مضاف إلى الفاعل أي كان وعد الله لمجيء ذلك اليوم واقعا لا محالة ، لأنه تعالى منزه عن الكذب ، (إِنَّ هذِهِ) أي الآيات (تَذْكِرَةٌ) أي موعظة مشتملة على أنواع الإرشاد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) أي فمن شاء النجاة اشتغل بالطاعة واحترز عن المعصية ، فإن ذلك هو المنهاج الموصل إلى مرضاته تعالى ، (إِنَّ رَبَّكَ) يا أشرف الخلق (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).

قرأهما ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصبهما معطوفين على «أدنى» ، أي أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث. والباقون بجرهما معطوفين على «ثلثي الليل» ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من النصف والثلث ، (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) معطوف على ضمير «تقوم» ، أي ويقوم معك جماعة من أصحابك ، (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فلا يعلم مقادير أجزاء الليل والنهار إلا الله تعالى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي علم الله إن الحديث لن تقدروا على تقدير الأوقات ، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدا ، فالضمير عائد إلى مصدر الفعل ، أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة ، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي فرجع الله بكم إلى ترخيص ترك القيام المقدر ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ولو ركعتين. والصحيح أن أول ما فرض عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الدعاء إلى التوحيد : التهجد على التخيير المذكور أول السورة فعسر عليهم القيام به ، فنسخ بما تيسر من التجهد ، ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس ، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) أي علم الله أنه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أي وسيوجد آخرون يسافرون في الأرض يطلبون رزق الله يشق عليهم صلاة الليل ، (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وسيوجد آخرون يجاهدون في طاعة الله ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم ، لأنهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، أي فصلوا ما تيسر لكم من التهجد. وهذا تأكيد للأول ، فالأول مفرع على قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) إلخ. وهذا مفرع على قوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) إلخ فكل واحد من المؤكد والمؤكد مفرع على حكمة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوا زكاة أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بأن تنفقوا سائر الإنفاقات في سبيل الخيرات عن طيب قلب (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي خير كان من عبادات البدن والمال (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت كما قاله ابن عباس.

وقرأ أبو السمال «هو خير وأعظم أجرا» بالرفع على الابتداء والخبر ، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في كافة أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لجميع الذنوب (رَحِيمٌ) (٢٠) للمؤمنين.


سورة المدّثّر

ست وخمسون آية ، مائتان وخمس وخمسون كلمة ، ألف وعشرة أحرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) أي يا من لبس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد.

روى جابر بن عبد الله أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنت على جبل حراء فنوديت : يا محمد ، إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي ، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ، ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا فنزل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)»(١)

وعن الزهري : إن أول ما نزل سورة : (اقْرَأْ) [العلق : ١] إلى قوله تعالى : (ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥] ، ثم انقطع الوحي ، فحزن رسول الله وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل عليه‌السلام وقال : إنك نبي الله ، فرجع إلى خديجة فقال : «دثروني وصبوا علي ماء باردا» (٢) فنزل جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). (قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) أي قم من مضجعك ، فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣) أي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان ، (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) عن النجاسات ويقال : و «ثيابك فقصر» ، لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم ، فكانت ثيابهم تتنجس ، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والتكبير ، فنهى الرسول عن ذلك.

وقال أكثر المفسرين : أي وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة. وقال الحسن : وخلقك فحسن ، (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٥).

قرأ عاصم في رواية حفص بضم الراء في هذه السورة ، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر. قال أبو العالية : «الرجز» بضم الراء : الصنم ، وبالكسر النجاسة والمعصية.

وقال ابن عباس : أي المأتم فاترك ولا تقربنه أي دم على تركه ، (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) مرفوع منصوب المحل على الحال ، أي ولا تعط طالبا للكثير ، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧).

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٩٢) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب : سورة المدّثّر.

(٢) رواه أحمد في (م ٣ / ص ٣٩٢) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب : سورة المدّثّر.


روي أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام الوليد ودخل داره ، فقال القوم : إن الوليد قد صبا ، فدخل عليه أبو جهل وقال : إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك ، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره ، فقيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الوليد بقي على دينه الباطل لأجل المال ، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق ، لا لشيء غيره ، وهذا الأمر كله تعريض بالمشركين كأنه قيل لرسول الله : وربك فكبر ، لا الأوثان ، وثيابك فطهر ولا تكن كالمشركين فهم نجس البدن والثياب ، والرجز فاهجر ولا تقربه كما تقربه الكفار ، ولا تمنن تستكثر كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال ، وكانوا يستكثرون ذلك القليل ، أي كانوا رائين لما يعطونه كثيرا ، ولربك فاصبر على هذه الطاعات لا للأعراض العاجلة من المال والجاه ، (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٩) أي فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فوقت النقر يوم إذ نقر يوم عسير على الكل من المؤمنين والكافرين ، كما روي أن الأنبياء يومئذ يفزعون ، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد وذلك قوله تعالى. (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) وعلى المؤمنين يسير ، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) منصوب على الذم والتقدير : أعني وحيدا أو حال من العائد المحذوف ، أي اتركني ومن خلقته منفرد ، أي بلا أب فهو زنيم ، أو منفردا في الشرارة وهو الوليد بن المغيرة المخزومي ، لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه لرئاسته ويساره وتقدمه في الدنيا ، وكان يلقب بالوحيد وكان يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير ، (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) (١٢) أي مبسوطا.

قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقرة ، والغنم ، والحجور ، والجنان ، والعبيد ، والجواري.

وقال مقاتل : كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا ، (وَبَنِينَ) ثلاثة عشر كما قاله أبو مالك وسعيد بن جبير ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهو سيف الله وسيف رسوله وهشام وعمارة ، (شُهُوداً) (١٣) أي حضورا معه بمكة لا يفارقونه ألبتة لأنهم كانوا أغنياء ، (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١٤) أي وبسطت له الجاه والرياسة في قومه حتى لقب ريحانة قريش ووحيدا ، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (١٥) على ما أوتيه. قيل : إنه كان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة الأولى (كَلَّا) ، أي لا تكون له زيادة على ذلك أصلا فليرتدع من هذا الطمع ، فلم يزل الوليد بعد قوله تعالى : (كَلَّا) في نقصان ماله حتى افتقر ومات فقيرا ، (إِنَّهُ) أي الوليد بن المغيرة (كانَ لِآياتِنا) الدالة على التوحيد والقدرة والعدل ، وصحة النبوة ، وصحة البعث (عَنِيداً) (١٦) أي رادا وهو يعرفها بقلبه وينكرها بلسانه ، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧) أي سأكلفه مشقة من العذاب. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت ، فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رفعها عادت وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصعود جبل من نار


يصعد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي فيه كذلك أبدا ، (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (١٨) أي إن العنيد فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقوله ، (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (١٩) أي فلعن في دنياه على أي كيفية أوقع تقديره ، (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٢٠) أي ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أي حال كان تقديره ، وهذا تعجيب من قوة خاطره ، (ثُمَّ نَظَرَ) (٢١) في ذلك المقدر في القرآن مرة بعد مرة (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا ، ولم يدر ماذا يقول ، (وَبَسَرَ) (٢٢) أي قبض جبينه ، (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق (وَاسْتَكْبَرَ) (٢٣) أي تعظم عن اتباعه ، (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢٤) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقل عن أهل بابل ، (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (٢٥) أي ما هذا الذي أتى به محمد إلا قول البشر جبر ويسار.

روي أن الوليد مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ (حم) السجدة ، فلما وصل إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال لهم : والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبا الوليد ولو صبا لصبأت قريش كلها ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، ثم دخل عليه محزونا فقال : مالك يا بن أخي؟ فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه ، وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد. فقال : والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا! ولكني تفكرت في أمره كثيرا فلا أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر ، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم : تزعمون أن محمد مجنون فهل رأيتموه يخنق قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهن؟ فقالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا : اللهم لا ثم قالوا : فما هو؟ ففكر ، فقال : ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن أهل بابل ، فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله ، متعجبين منه ، فلما أقر الوليد بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله في الآخر من أن القرآن سحر وقول البشر إنما ذكره على سبيل العناد لا على سبيل الاعتقاد ، فإن السحر يتعلق بالجن ، (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٢٦) أي سأدخله في الطبقة السادسة من جهنم المسماة بسقر (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) (٢٧) أي أيّ شيء أعلمك ما هي في وصفها ، (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) أي لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا إلا أكلته ، فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا ، وهذه رواية عطاء عن ابن عباس. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٢٩) أي ظاهرة للبشر من مسيرة خمسمائة عام. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وزيد بن علي ، وعطية «لواحة» بالنصب على الاختصاص ، أو على الحال المؤكدة ، أي مغيرة للأبشار (عَلَيْها) أي النار ، (تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) ملكا.


وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق ، وأنيابهم كالصياصي ، وأشعارهم تمس أقدامهم ، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت منه الرحمة والرأفة ، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ، ويرميهم حيث أراد من جهنم ، وحكمة هذا العدد أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار ، وواحد للفساق ، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، والمجموع ثمانية عشر ، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل بسبب ترك العمل فقط ، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة ، فالمجموع تسعة عشر. ويقال : إن الساعات أربعة وعشرون وخمسة منها مشغولة بالصلوات الخمسة ، فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فحقا صار عدد الزبانية تسعة عشر ، (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي القائمين بتعذيب أهل النار ، (إِلَّا مَلائِكَةً) فلا تقاس الملائكة بالسجانين.

روي أنه لما نزل قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم. قال ابن أبي كبشة : إن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فنزلت وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم فتغالبونهم ، (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم يقولون : هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام القيامة ، (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لأن هذا العدد موجود في التوراة والإنجيل ، فلما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وفق ذلك من غير سابقة تعلم ، علموا أن ذلك حصل بسبب الوحي من السماء ، فالذين آمنوا بمحمد استيقنوا أن ذلك العدد هو الصدق. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ذلك ، وعلموا أن في كتابنا مثل ما في التوراة ، (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، إذ لم يكن العدد خلاف ما في كتابهم ، (وَالْمُؤْمِنُونَ) لانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل ، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، أي شك في صدق القرآن (وَالْكافِرُونَ) القاطعون بكذبه : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي أيّ شيء أراد الله بهذا العدد القليل حال كونه عددا عجيبا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء بهذا المثل إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي إن الخزنة تسعة عشر ولهم جنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، خلقوا لتعذيب أهل النار (وَما هِيَ) أي سقر (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) ، أي إلا عظة للخلق ليتذكروا كمال قدرة الله تعالى وأنه لا يحتاج إلى أعوان. (كَلَّا) أي حقا أو تنبهوا إلى ما سيلقى إليكم. (وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣).


قرأ نافع وحفص وحمزة بسكون الذال المعجمة ، والدال المهملة ، وبينهما همزة مفتوحة ، أي وقت ذهب. والباقون بفتح الذال المعجمة والدال بينهما ألف. أي إذا جاء. (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣٤) أي أضاء. وقرأ عيسى بن الفضل ، وابن السميقع سفر ثلاثيا ، أي طرح الظلمة (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) (٣٥) أي إن سقر لإحدى دركات جهنم (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٣٦) تمييز من «إحدى» أي إنها لإحدى الدواهي انذارا للبشر وفي قراءة أبي نذير بالرفع (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧) وقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ) بدل من قوله تعالى : (لِلْبَشَرِ) أي نذير لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى ، أو يتأخر عن خير فيضله الله ، (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) أي كل نفس مرهونة عند الله بكسبها غير مفكوكة ، (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) فإنهم فأكون رقابهم بأعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ، (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) أي يسأل أصحاب اليمين حال كونهم في جنات الكافرين عن أحوالهم حال كونهم في النار قائلين ، (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) أي أيّ شيء أدخلكم في هذه الدركة من النار ، (قالُوا) مجيبين للسائلين : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٤٣) الصلوات الواجبة (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٤٤) أي لم نك نعطي المسكين ما يجب علينا إعطاؤه له كنذر وكفارة وزكاة ، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) (٤٥) أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه ، (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤٦) أي بيوم الجزاء (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) (٤٧) ، أي الموت ، أي إنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) أي لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين ، (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) ، أي فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (٥٠).

قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، أي مذعورة ذعرها القناص. والباقون بكسرها أي نافرة من صوت الناس ، أو من ظلمة الليل (فَرَّتْ) أي الحمر (مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١) أي أسد سمي بذلك لأنه يقهر السباع ، (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٥٢) أي طرية لم تطو بأن تأتيهم وقت كتابتها ، فإن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين ، إلا فلان ابن فلان ونؤمر فيه باتباعك. وعن ابن عباس كانوا يقولون : إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته من النار ، (كَلَّا) أي لا يؤتون الصحف فلا تقترحوا ذلك ، (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) (٥٣) في زمن من الأزمان ، فلذلك يعرضون عن التذكرة (كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُ) أي القرآن ، (تَذْكِرَةٌ) (٥٤) أي عظمة عظيمة من الله توجب اتباعه ، (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٥٥) أي فمن شاء أن يتعظ بالقرآن اتعظ به وجعله نصب عينيه ، (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ولا يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن يشاء الله ذلك. وقرأ نافع بتاء الخطاب. وقرئ بالياء والتاء مشددا (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦) أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ، ويطيعوه وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.


سورة القيامة

مكية ، تسع وثلاثون آية ، مائة وسبع وتسعون كلمة ، ستمائة واثنان وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٢) أي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا والآخرة ، فإذا اجتهدت في الطاعة تلوم نفسها على عدم الزيادة ، وإذا قصرت تلوم نفسها على التقصير والمعنى : لا أقسم عليك بذلك اليوم ولا بتلك النفس ، ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت ، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وذلك قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) أي المكذب بالبعث ، (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) أي أن الحديث لن نقدر على أن نجمع عظامه بعد تفريقها. وقرأ قتادة «أن لن تجمع عظامه» على البناء للمفعول.

روي أن عدي بن أبي ربيعة ـ ختن الأخنس بن شريق ـ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ، ولم أومن بك ، أو يجمع الله العظام بعد صيرورتها ترابا ، فنزلت هذه الآية.

وقال ابن عباس : المراد بالإنسان هاهنا أبو جهل فإنه أنكر البعث بعد الموت. قال تعالى في جوابه : (بَلى) فهذه الكلمة أثبتت ما بعد النفي ـ وهو الجمع ـ أي بلى نجمعها والوقف هنا تام. وقال أبو عمرو : كاف (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) أي كنا قادرين أن نخلق أطراف أصابعه في الابتداء ، فوجب أن نبقى قادرين على الإعادة في الانتهاء. وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون» بالرفع ، أي ونحن قادرون. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) (٥) أي بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة ، وهو أمامه فمن كذب حقا كان فاجرا ، (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) (٦) أي يسأل الإنسان سؤال متعنت ومستبعد متى يوم القيامة ، (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (٧).

قرأ نافع بفتح الراء أي شخص البصر عند معاينة أسباب الموت والملائكة. والباقون بالكسر أي تحير البصر فزعا فلم يطرف. وقرأ أبو السمال «بلق» بمعنى انفتح ، (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٨) أي ذهب ضوءه. وقرئ و «خسف القمر» على البناء للمفعول ، أي ذهب بنفسه ،


(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٩) بأن يطلعهما الله تعالى من المغرب ، (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكرللقيامة (يَوْمَئِذٍ) أي إذا عاين هذه الأحوال : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) (١٠) أي أين الفرار من النار ، وقرئ بكسر الفاء ، أي أين موضع الفرار؟ (كَلَّا) أي حقا أو لا تتمن الفرار ، (لا وَزَرَ) (١١) أي لا ملجأ ، أي فلا جبل يواريه من النار (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢) ، أي موضع قرارهم يوم إذ كانت هذه الأمور مفوضة إلى مشيئته تعالى ، فإنه تعالى يدخل من يشاء الجنة ، ومن يشاء النار ، (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١٣) أي يخبر كل امرئ عند وزن الأعمال بما عمل وبما ترك من عمل خيرا كان ، أو شرا (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) ، أي بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله ، شاهد على نفسه ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه ، فإنه لا ينفعه ذلك ، لأنه شاهد على نفسه (لا تُحَرِّكْ بِهِ) أي بالقرآن (لِسانَكَ) قبل فراغ جبريل من قراءته عليك (لِتَعْجَلَ بِهِ) (١٦) ، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك (وَقُرْآنَهُ) (١٧) أي إثبات قراءته في لسانك ، (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي أتممنا قراءته ، عليك بلسان جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨) أي فاقرأ أنت بعد فراغنا من قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراء جبريل ، فإذا سكت جبريل فاشرع أنت في القراءة ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) أي بيان ما أشكل عليك من معاليه وأحكامه على سبيل التفضل ، (كَلَّا) أي لا تعجل يا أشرف الخلق وكن على أناة (بَلْ) أنتم يا بني آدم ، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ولذلك (تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) (٢٠) أي الدنيا ، (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة ، أي إنهم يحبون العمل للدنيا ويتركون العمل لثواب الآخرة ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) فـ «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» نعت له ، ويومئذ منصوب بـ «ناضرة» و «ناظرة» خبره ، و «إلى ربها» متعلق بالخبر والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة وهي وجوه المؤمنين ناظرة إلى الله تعالى لا يحجبون عنه ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥) أي ووجوه شديدة العبوس يوم القيامة وهي وجوه الكفرة ، توقن أن يفعل بها أنواع العذاب في النار ، (كَلَّا) أي تنبهوا لما أمامكم من الموت الذي ينقطع عنده المحبة بينكم وبين الدنيا ، (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠) أي إذا بلغت الروح أعالي الصدر ، وهي العظام المكتنفة بثغرة النحر عن يمين وشمال ، وقال : من حول المشرف على الموت على سبيل الطلب ، أو على سبيل الإنكار من ينجيه مما هو فيه ، وهل من طبيب فيداويه أو قال ملك الموت للملائكة : أيكم يرقى بروحه إلى السماء؟ وأيقن ذلك المحتضر أن ما نزل به فراق الدنيا واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ، فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا ويساق في ذلك اليوم إلى حكم الله تعالى إذ إليه مرجع الخلائق ، (فَلا صَدَّقَ) وهو معطوف على قوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ).


قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآيات في أبي جهل ، أي فهو ما صدق بالدين ، (وَلا صَلَّى) (٣١) أي ما صلى أبو جهل صلاة شرعية ، (وَلكِنْ كَذَّبَ) ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن ، (وَتَوَلَّى) (٣٢) أي أعرض عن الطاعة ، (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) أي يتمدد ويختال في مشيته ، لأن المتبختر يمد خطاه ، فاستقبله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذه ، فهزه هزة أو هزتين وقال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٤) ، أي ويل لك يا أبا جهل وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ، (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) ، أي وعيدا لك يا أبا جهل ، احذر يا أبا جهل فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه.

وقال القاضي : المعنى : بعدا لك ، بعدا لك ، أي بعدا في أمر دنياك ، وبعدا في أمر أخراك.

قال قتادة ومقاتل : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد أبي جهل بالبطحاء وقال له : «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» (١). فقال أبو جهل بأيّ شيء تهددني يا محمد؟ فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني والله لأعز أهل هذا الوادي ، وأعز من مشى بين جبليها. ثم انسل ذاهبا. فأنزل الله تعالى مثل ذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ، ولا يحاسب بعمله في الآخرة ، (أَلَمْ يَكُ) أي الإنسان (نُطْفَةً) أي ماء قليلا في صلب الرجل ، وترائب المرأة (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧) أي يصب في الرحم ، (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي ثم صار المني دما عبيطا بقدرة الله تعالى ، (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) ، أي فنفخ الله في ذلك الإنسان الروح فكمل أعضاءه. وهذا قول ابن عباس ومقاتل ، (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ) أي فجعل الله من الإنسان الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) ، يجتمعان تارة في الرحم ، وينفرد كل منهما عن الآخر تارة ، وكان لأبي جهل ابن اسمه عكرمة وبنت اسمها جويرية. (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي أنشأ هذه الأشياء (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) للبعث ، فالإعادة أهون من البدء في قياس العقل.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال : «سبحانك اللهم بلى» (٢). رواه أبو داود والحاكم.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] إماما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى. إماما كان أو غيره.

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٢٥ : ٨٠).

(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى (٧ : ٢٣٥) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٦٥٣).


سورة الإنسان

وتسمى سورة هل أتى ، وسورة الأمشاج ، وسورة الدهر ، مكية ، إحدى

وثلاثون آية ، مائتان وأربعون كلمة ، ألف وأربعة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) أي قد أتى بني آدم طائفة محدودة من الزمن الطويل غير مقدر في نفسه ، غير مذكور بالإنسانية أصلا ، وهي مدة الحمل. وقيل : وقد مرت على آدم أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض ، بل كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ، ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم وقوة ، فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة.

وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء. (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره بالخير والشر كما قاله الكلبي. وقال الحسن : أي نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء. (فَجَعَلْناهُ) أي الإنسان (سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية ، (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل ، (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) ، أي ليكون الإنسان إما مؤمنا وإما كافرا. ويقال : إنا هديناه السبيل ، ثم جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في «أما» على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وإما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله ، (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) أي إنا هيّأنا للكافرين سلاسل تشد بها أرجلهم ، ويقادون بها ، وأغلالا تشد بها أيديهم إلى رقابهم ، ونارا موقدة يحرقون بها. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي «سلاسلا» بالتنوين. (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، الموفين بنذرهم (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) أي إناء فيه خمر (كانَ مِزاجُها


كافُوراً) (٥) ، أي كانت تلك الخمر ممزوجة بماء عين كافور ، فإن الكافور : اسم عين في الجنة ، ماؤها في بياض الكافور ، ورائحته ، وبرده ، ولكن لا يكون فيه طعمه ، ولا مضرته ، ويبدل من «كافورا» قوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي يشرب عباد الله بماء تلك العين الخمر ، لكونها ممزوجة بها ، فالباء متعلقة بمحذوف حال من مفعول محذوف ، أي يشرب المؤمنون الخمر ممزوجة بتلك العين ، أو متعلقة بـ «يشرب» والضمير يعود على «الكأس» ، أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق ، أو مزيدة ويدل له قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله ، (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٦) أي يقودون العين حيث شاءوا من منازلهم ، وتتبعهم ، فحيث مالوا مالت معهم أي إن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجزي معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره ، (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي بما أوجبوه على أنفسهم لوجه الله تعالى فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم ، (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ) أي شدائده (مُسْتَطِيراً) (٧) ، أي سريع الوصول إلى أهله من العصاة ، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) ، أي مع حاجتهم إلى الطعام.

وقال الفضيل بن عياض : أي على حب إطعام الطعام ، أي بأن يكون ذلك مع طيب النفس (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٨) ، أي مسجونا مسلما وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير قائلين بلسان الحال : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لطلب ثواب الله ، (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) أي مكافأة (وَلا شُكُوراً) (٩) ، أي محمدة بقول أو بفعل.

روي أن عائشة كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ، ثم تسأل المبعوث ما قالوا ، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى ، (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي تعبس فيه الوجوه (قَمْطَرِيراً) (١٠) أي شديدا.

روي أن الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي شدائده بسبب خوفهم عنه ، (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (١١) أي وأعطاهم بسبب طلب رضا الله حسنا في وجوههم ، وفرحا في قلوبهم ، (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١٢) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانا فيه مأكل هني ، وحريرا فيه ملبس بهي ، (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي جالسين في الجنة على السرر في الحجال ، (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣) ، أي لا يصيبهم في الجنة حر محم ، ولا برد مؤذ ، لأن هواءها معتدل في الحر والبرد. ويقال : إن في الجنة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر ، فإن الزمهرير القمر في لغة طيئ ـ كما رواه ثعلب ـ ونورها من نور العرش (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) معطوف على محل «لا يرون» وهو في محل نصب حال من الضمير المستكن في «متكئين» ، أي بعداء عن الحر والبرد ، وقريبة ظلال شجرها منهم. وقرئ «ودانية» بالرفع على أنه خبر لـ «ظلالهما» ، والجملة


موضع الحال والمعنى : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. والحال أن ظلالها دانية عليهم ، أي أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم ، بمعنى أنه لو هناك شمس مؤذية لكانت أشجارها مظلة عليهم (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) أي أدنيت منهم عناقيد ثمارها ، فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي بصحاف من فضة ، (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي وبكيزان تكونت جامعة بين صفاء الزجاج وشفوفه ، وبياض الفضة ، ولينها ، فنسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا ، كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا ، لأن أصل القوارير في الدنيا : الرمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة شفافة. وقرئ «قوارير» الثاني بالرفع ، أي هي قوارير (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (١٦) أي قدروا القوارير في أنفسهم وأرادوا أن تكون على أشكال معينة موافقة لشهواتهم ، فجاءت حسبما قدروها ، وقيل : الضمير للطائفين بها ، أي قدر الطائفون الشراب فيها على قدر اشتهائهم. وقرئ «قدروها» بالبناء للمفعول ، أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، (وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي الجنة (كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧) ، أي ما يشبه الزنجبيل (عَيْناً فِيها) أي الجنة (تُسَمَّى) أي تلك العين (سَلْسَبِيلاً) (١٨).

قال مقاتل وابن حبان : سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرض من جنة عدن إلى أهل الجنان. ويقال : معناها سل الله سبيلا إليها. وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح. وقرأ طلحة سلسبيل بغير تنوين للعلمية والتأنيث ، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء. وقيل : أي محلون كما رواء نفطويه عن ابن الأعرابي أو مسورون كما رواه الفراء وهم خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور ، ولم يخلقوا عن ولادة على الصحيح ، (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (١٩) لصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض ، وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم ، (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي في أي مكان كان في الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠) وفي الحديث : «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) وهو ما لطف من الديباج.

قرأ نافع وحمزة «عاليهم» بإسكان الياء مبتدأ ، و «ثياب» خبره أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. والباقون بفتح الياء على أنه ظرف خبر مقدم ، و «ثياب» مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ثانية لـ «ولدان» ، أي يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب سندس إلخ. وقيل : «عاليهم» حال من ضمير «عليهم» أي ويطوف على الأبرار ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب إلخ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس ، (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو ما ثخن من الديباج.

قرأ نافع وعاصم «كلاهما» بالرفع. وقرأ الكسائي وحمزة «كلاهما» بالخفض. وقرأ ابن كثير «خضر» بالخفض ، و «إستبرق» بالرفع. وقرأ أبو عمرو ، وعبد الله بن عامر «خضر» بالرفع ،


و «إستبرق» بالخفض (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وهذا معطوف على يطوف عليهم ، فإن حلي أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم ، وأيضا إن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل : إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم ، (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرد لمطالعة جماله ، ملتذا بلقائه ، باقيا ببقائه ، وهي غاية منازل الصديقين ، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار.

وقال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش ، وحسد ، وما كان في جوفه من قذر وأذى ، (إِنَّ هذا) أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.

وقال ابن عباس : المعنى : إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم : إن هذا كان لكم جزاء ، (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢) أي مرضيا ، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات ، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا ، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه ، فقوله : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات ، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) أي متفرقا آية وآيتين ، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك ، (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) أي مقدما على المعاصي ، أيّ معصية كانت ، (أَوْ كَفُوراً) (٢٤) أي جاحدا للنعمة ، فـ «آثم» هو الوليد بن المغيرة ، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة ، كما قاله القفال وغيره ، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر ، أي عن ذكر النبوة ، فقرأ عليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات من أول (حم) السجدة إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣]. فانصرفا عنه وقال أحدهما : ظنت أن الكعبة ستقع علي (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥) أي صل الفجر والظهر والعصر ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء ، (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم : كان


ذلك من الواجبات على الرسول ، ثم نسخ ، فالأمر للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة ، (إِنَّ هؤُلاءِ) أي الكفرة من أهل مكة ، (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) وينهمكون في لذاتها الفانية ، (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) ، أي ويتركون وراءهم مصالح يوم ثقيل ، أي شديد هو له وعذابه ، (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ، أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ، (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (٢٨) ، أي وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء الكفرة وأتينا بأشباههم في الخلقة ، فجعلناهم بدلا منهم ، (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن هذه السورة عظة للخلق من الله ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩) ، أي فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة تقرب إلى الله بالعمل بما في هذه السورة ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي وما تقدرون على تحصيل اتخاذ السبيل إلى الله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تحصيله لكم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «وما يشاءون» بالياء التحتية. وقرأ ابن مسعود «إلا ما يشاء الله». (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠) أي إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته ، (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بأن يوفقه للإيمان المؤدي إلى دخول الجنة (وَالظَّالِمِينَ) وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى غير اتخاذ السبيل إلى الله ، (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) ، أي متناهيا في الإيلام وقرأ عبد الله بن الزبير «والظالمون» بالرفع على الابتداء.


سورة المرسلات

مكية ، خمسون آية ومائة وإحدى وثمانون كلمة ، ثمانمائة وستة عشر حرفا قال

ابن مسعود : نزلت والمراسلات عرفا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن ونحن معه نسير

حتى أوينا إلى غار منى ، فنزلت ، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها ، إذ

وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها ، فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وقيتم شرها كما وقيت شركم»

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥). وهذا إقسام من الله تعالى بطوائف من الملائكة أرسلهم بأوامره متتابعين ، فهم عصفوا في طيرانهم عصف الرياح ، ونشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، ففرقوا بين الحق والباطل ، فألقوا ذكرا إلى الأنبياء ويقال : أقسم الله برياح عذاب أرسلها متتابعة كعرف الفرس ، فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بعض أجزائه عن بعض ، فإن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع ، وتهدم الجبال ، وترفع الأمواج تمسّك بذكر الله ، والتجأ إلى إعانة الله ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ، ويمكن حمل هذه الكلمات الخمس على القرآن ، أي والآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد ، النازلة بكل عرف ، أي خير ، فعصفت سائر الملل ، فقهرت سائر الأديان ، وجعلتها باطلة ، ونشرت تلك الآيات آثار الهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا ، ففرقت بين الحق والباطل. (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) ، وهذا إما بدل من «ذكرا» ، أي فأقسم بالملائكة المنزلات وحيا أمرا أو نهيا. ويقال : وعدا أو وعيدا ، وإما مفعول لأجله ، أي إزالة أعذار المخلوقين وتخويفا لهم ، (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧) أي إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن ، ثم إنه تعالى ذكر علامات وقوع هذا اليوم فقال : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) أي محقت ذواتها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٩) أي فتحت فكانت أبوابا ، (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) أي قلعت بسرعة من أماكنها ، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١١).

وقرأ أبو عمرو بالواو على الأصل أي حصل لهم الوقت وهو إما وقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وإما وقت يجتمعون فيه للفوز بالثواب ، وإما وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به ،


وسؤال الأمم عما أجابوهم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) (١٢). أي يقال : لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل؟ وهذا القول المقدر إما جواب لإذا ، وإما حال من مرفوع أقتت ، أي مقولا فيهم ، لأي يوم أخرت إليه أمور الرسل ، وهو تعذيب الكفرة وتعظيم المؤمنين ، وظهور ما كانت الرسل تذكر من أحوال الآخرة وأهوالها ، وعلى هذا فجواب إذا مقدر وتقديره : فإذا طمست النجوم إلخ وقع ما توعدون أو بان الأمر ، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣) بدل من «لأي» ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بني الخلائق ويجوز أن يؤخذ من هذا جواب «إذا» ، أي وقع الفصل بين الخلائق ، أو فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة ، (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤) أي وما علمك يا أشرف الخلق بيوم الفصل وشدته ، فالاستفهام الأول : للاستبعاد والإنكار. والاستفهام الثاني : للتعظيم والتهويل والمعنى : أنت الآن في الدنيا لا تعلم ما يوم الفصل أي لا تعلم عظمه وأهواله على سبيل التفصيل ، وإن كنت تعلمها جمالا ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) أي واد في جهنم من قيح ودم يوم إذ يفصل بين الخلائق للمكذبين بذلك اليوم وبكل ما أخبر الأنبياء عنه ، و «ويل» مبتدأ سوغ الابتداء به كونه دعاء ونحوه ، سلام عليكم وفائدة العدول إلى الرفع دلالة على دوام الهلاك للمدعو عليهم (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) ، وهم جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوقف هنا كاف ، ثم استأنف الله بقوله : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧) ممن كذبوا الحق من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإماتة بالتعذيب ، وقد وقع ذلك في حق كفار قريش يوم بدر ، واستعقبه اللعن في الدنيا والعقوبة الأخروية سرمدا ، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله ، ثم سنتبعهم بسين التنفيس ، أما قراءة الأعمش والأعرج عن أبي عمرو ، ثم نتبعهم بتسكين العين فهو تسكين للتخفيف لا للجزم ، فهو مستأنف كالمرفوع لفظا ، (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨) أي مثل ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أشرك بالله ، فيما يستقبل إما بالسيف وإما بالهلاك فسنتنا جارية على ذلك ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩) أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى معدة لهم يوم القيامة. وقيل : هذا الويل لعذاب الدنيا ، فالمعنى : شدة عذاب يوم إذ أهلكناهم للمكذبين بآيات الله وأنبيائه ، (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠) أي من نطفة قذرة منتنة. (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢١) أي في مكان حريز رحم المرأة ، (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢٢) لله تعالى أي وقت الولادة ، (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣) أي قدرنا خلقه في رحم المرأة تقديرا فنعم المقدرون له نحن ، فإن إيقاع الخلق على هذا التحديد نعمة من المحدد على المخلوق ، أو فقدرنا على تصويره كيف شئنا ، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الهيئات.

قرأ نافع والكسائي «فقدرنا» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف. وقال علي كرم الله وجهه : «ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحد لأن العرب تقول : قدر وقدر عليه الموت». أي فقدرنا بالتخفيف يكون بمعنى قدرنا بالتشديد ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهلال : «إذا


غم عليكم فاقدروا له». أي قدروا له السير في المنازل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤) بقدرتنا على البدء والإعادة بعد الموت ، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦) ، أي ألم نجعل الأرض موضعا يضم أحياء كثيرة على ظهره ، وأمواتا غير محصورة في بطنه ، فالأحياء يسكنون في منازلهم ، والأموات يدفنون في قبورهم.

ونقل القفال عن ربيعة : أنه قال : دلت هذه الآية على وجوب قطع النباش ، لأن الأرض كانت حرزا للميت. (وَجَعَلْنا فِيها) أي على ظهر الأرض (رَواسِيَ) ، أي جبالا ثوابت لا تزول (شامِخاتٍ) أي عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) ، أي غاية في العذوبة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨) بأمثال هذه النعم العظيمة وتقول لهم الزبانية بعد الفراغ من الحساب : (انْطَلِقُوا) يا معشر المكذبين (إِلى ما كُنْتُمْ) في الدنيا (بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩) من العذاب.

روي أن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ، ولا كنان ، فتلفحهم الشمس ، وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم ، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله تعالى ، فهناك يقولون : فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتقول : خزنة النار للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عقاب الله ، (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) أي إلى دخان جهنم. وقرأ يعقوب «انطلقوا» على لفظ الماضي ، أي فانقادوا للأمر لأجل أنهم لا يستطيعون امتناعا منه ، (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) أي فرق ، وهي كون النار من فوقهم ومن تحث أرجلهم ومحيطة بهم (لا ظَلِيلٍ) ، أي لا يمنع حر الشمس ، (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) أي ولا يدفع من لهب النار شيئا ، أو ولا يبعد من العطش ـ كما قاله قطرب ـ (إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ) وهو ما يتطاير من النار (كَالْقَصْرِ) (٣٢) من البناء في عظمه (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) أي إبل (صُفْرٌ) (٣٣) ، أي في الحركة واللون ، فإن الشرار لما فيه من النار يكون أصفر ، وهذا تنبيه على أن في كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة ، فكأنه قيل : تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء.

قرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» بغير ألف بعد اللام. والباقون بالألف (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤) بهذه الأمور ، (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) فيه بحجة تنفعهم والسؤال قد انقضى قبل ذلك. وقرأ الأعمش بنصب «يوم» ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يوم ينطقون ، (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) ، أي أنهم لم يؤذنوا في العذر ، وهم لم يعتذروا أيضا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧) بهذا اليوم (هذا) ، أي اليوم (يَوْمُ الْفَصْلِ) أي فصل حكومات جميع المكلفين (جَمَعْناكُمْ) يا معشر المكذبين من جميع هذه الأمة (وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨) من المكذبين ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٣٩) ، أي فإن كان لكم حيلة في دفع الحقوق عن أنفسكم فافعلوها وغالبوني ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠) بالبعث (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) أي في ظلال شجرة ، (وَعُيُونٍ) (٤١) أي ماء ظاهر جار.


وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين. والباقون بكسرها ، (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢) فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت ، كما في أنواع فاكهة الدنيا ، فيقول الله تعالى لهم : (كُلُوا) من الثمار (وَاشْرَبُوا) من الأنهار (هَنِيئاً) أي سائغا بلا داء ولا تعب (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) في الدنيا من الخيرات ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من النعم في مقابلة ثلاث شعب من النار ، كأنه قيل : ظلال المكذبين ما كانت ظليلة ، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش ، أما المتقون فظلالهم ظليلة حاجزة بينهم وبين اللهب ، ومغنية لهم عن العطش ومعهم الفواكه التي يتمنونها في مقابلة شرار النار التي يخافها المكذبون ، ولما قال تعالى للكفار : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) قال المؤمنين : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً). (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤٤) أي إنا نجزي المحسنين في العقيدة مثل ذلك الجزاء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥) يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين ، (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) أي كلوا يا معشر المكذبين وعيشوا يسيرا في الدنيا ، (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦) أي مشركون ، مصيركم النار في الآخرة.

وقال أبو السعود : وهذا مقدر بقول هو حال من المكذبين ، أي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا ، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد ، وعلّل ذلك بإجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧) بما يجب تصديقه. وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (٤٨) ، أي وإذا قيل للمجرمين في الدنيا : اخضعوا لله بالتوحيدة ، وأطيعوا ، لا يقبلون ذلك. ويقال : نزلت هذه الآية في ثقيف حيث قالوا : لا نحني ظهورنا بالركوع والسجود. ويقال : هذا في الآخرة وذلك لما يقول الكفار : والله ربنا ما كنا مشركين. قال الله تعالى لهم : اسجدوا إن كنتم صادقين فيما تقولون ، فلم يقدروا على السجود وبقيت أصلابهم كالصياصي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) بمن يرشدهم إلى المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة ، وهذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع وضوحها ، فبأي كلام بعدها يؤمنون ، لأن القرآن مصدّق للكتب القديمة ، موافق لها في أصول الدين ، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب ، لأن ما في غيره موجود فيه ، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه.


سورة النبأ

وتسمى سورة التساؤل ، وسورة عم ، مكية ، أربعون آية ،

مائة وثلاث وسبعون كلمة ، سبعمائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (١) أي عن أيّ شيء يتساءل أهل مكة فيما بينهم إنكارا واستهزاء (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) سؤال ، وقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) جواب. فالسائل والمجيب هو الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]. (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) والخبر العظيم هو يوم القيامة ، فمنهم من جزم باستحالته فيقول : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، وما نحن بمبعوثين. ومنهم من شك في وقوعه فيقول : ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين. وقيل : الخبر العظيم هو القرآن فإن بعضهم جعله سحرا ، وبعضهم جعله شعرا ، وبعضهم قال : إنه أساطير الأولين.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى التوحيد ، وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن ، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم! ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء. وقيل : النبأ العظيم هو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا إليهم. وقرأ عكرمة وعيسى بن عمر عما بالألف على الأصل. وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بها السكت. (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥) ، أي ليرتدعوا عمّا هم عليه ، فإنهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال ، إذا حل بهم العذاب والنكال ، وسيعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، واقع لا ريب فيه. وقال القاضي : سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة ، وسيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه. وقال الضحاك : أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وروي عن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء المنقطة من فوق ، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦) أي فراشا. وقرئ «مهدا» أي مناما ، (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) للأرض حتى لا تميد بأهلها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) ذكورا وإناثا ، وقبيحا ، وحسنا ، وطويلا ، وقصيرا. (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) أي قطعا للتعب ، أو نوما منقطعا ، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء ، أما


دوامه فمن أضر الأشياء ، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠) فإن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه ، وأيضا بسبب ما يحصل فيه من النوم يندفع عنه أذى التعب الجسماني ، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية ، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة ، (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١) أي وقت معاش تتقلبون فيه في مكاسبكم ، (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢) أي خلقنا فوق رؤوسكم سبع سموات غلاظا قوية الخلق ، محكمة البناء ، لا يؤثر فيها مر الدهور ، (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١٣) أي شمسا مضيئة لبني آدم ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) ، أي السحائب بالرياح (ماءً ثَجَّاجاً) (١٤) أي صبابا. ويروي عن عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعكرمة أنهم قرءوا «وأنزلنا بالمعصرات» أي بالرياح المثيرة للسحاب ، (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بذلك الماء (حَبًّا) يقتات ، كالحنطة والشعير والأرز ، (وَنَباتاً) (١٥) لا يكون له كمام كالحشيش ، (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦) أي مجتمعة تداخل بعضها في بعض ، (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (١٧) أي إن يوم فصل الله بين الخلائق كان في تقدير الله تعالى ميعاد الاجتماع كل الخلائق في قطع الخصومات ، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب ، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) نفخة البعث ، أي تنفخ الأرواح في الأجساد ، (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٨) ، أي فتبعثون من قبوركم ، فتأتون إلى الموقف أمما ، كل أمة مع إمامها حتى يتكامل اجتماعهم ، (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) لنزول الملائكة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي خفيفة التاء. والباقون بتشديدها (فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) أي فصارت السماء ذات أبواب ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها ، (فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب إذ ترى على صورة الجبال ، ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها ، (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (٢١) أي طريقا ، فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم يرصدون الكفار (لِلطَّاغِينَ) ، أي للمتكبرين على الله (مَآباً) (٢٢) أي مرجعا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢٣) ، أي حقبا بعد حقب. وقرأ حمزة «لبثين» بغير ألف (لا يَذُوقُونَ فِيها) ، أي الأحقاب (بَرْداً) أي هواء باردا ، ولا ماء باردا. وقال الأخفش والكسائي ، والفراء ، وقطرب ، والعتبي : أي نوما ، سمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش ، (وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً) أي ماء حارا جدا ، (وَغَسَّاقاً) (٢٥) باردا منتنا لا يطاق ، وهو المسمى بالزمهرير.

قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه بتشديد السين ، (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم ، (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) (٢٧) ، أي كانوا لا يخافون ، أي يحاسبوا بأعمالهم أو إنهم كانوا غير مؤمنين وذلك لأن المؤمن لا بدّ وأن يرجو رحمة الله ، لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر ، (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد (كِذَّاباً) (٢٨).

وقرئ بتخفيف الذال. وقرئ «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال جمع كاذب ، أي كذبوا


بالقرآن والشرائع كاذبين ، فكل من يكذب بالحق فهو كاذب ، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) أي ضبطناه (كِتاباً) (٢٩) أي حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ ، أو كل شيء من أعمال بني آدم حفظناه مكتوبا في صحف الحفظة. وقرأ أبو السمال «وكل» بالرفع على الابتداء ، (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم : ذوقوا جزاءكم فلن نزيدكم إلا عذابا ، أي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ، وكلما خبت زدناهم سعيرا ، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) أي فوزا بالمطلوب (حَدائِقَ) أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة ، (وَأَعْناباً) (٣٢) أي كروما (وَكَواعِبَ) ، أي نساء تكعبت ثديهن (أَتْراباً) (٣٣) ، أي مستويات في السن على ثلاث وثلاثين سنة (وَكَأْساً دِهاقاً) (٣٤) ، أي ممتلئة ، (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) (٣٥) أي لا يجري بين المتقين كلام باطل وتكذيب من واحد لغيره بسبب الكأس التي يشربون منها. وقرأ الكسائي بالتخفيف (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣٦) أي جازى الله المتقين بمفاز جزاء كائنا منه تفضلا منه بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف ، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه : وجه منها على عشرة أضعاف ، ووجه على سبعمائة ضعف ، ووجه على ما لا نهاية ، والمعنى : راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع فيه نقصان. وقرأ ابن قطيب «حسابا» بالتشديد بمعنى محسب. (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ). وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو برفع «رب» و «الرحمن». وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر بجرهما. وقرأ حمزة والكسائي بجر الأول مع رفع الثاني. (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣٧) أي لا يملك أهل السموات والأرض أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم خطابا ما ، في شيء ما ، والوقف هنا كاف. (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ).

قال الضحاك والشعبي : هو جبريل وعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال. وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا ، (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) منهم في التكلم ، (وَقالَ صَواباً) (٣٨) أي وقال ذلك المأذون له بعد ورود الأذن له قولا صادقا حقا. وقيل : المعنى : لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته ، وذلك الشخص كان ممن قال صوابا ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، و «يوم» ظرف لقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ). (ذلِكَ) أي يوم قيامهم على الوجه المذكور ، (الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الثابت من غير صارف (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) أي فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه فعل ذلك بالإيمان والطاعة ، (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أي خوّفناكم يا أهل مكة بالقوارع الواردة في القرآن ، (عَذاباً قَرِيباً) هو عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) و «ما» استفهامية ، أي يوم يبصر كل امرئ أيّ شيء قدّمت يداه ، مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا وإما موصولة ، أي يوم ينظر كل امرئ إلى الذي قدمته يداه ، (وَيَقُولُ الْكافِرُ) لما قطع بالعقاب (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠) أي ليتني لم أبعث للحساب في هذا اليوم ، وبقيت ترابا كما كنت أوليتني


كنت ترابا في الدنيا ، فلم أخلق ولم أكلف ، وقيل : يقول الكافر عند ما يقول الله للبهائم بعد محاسبته بينها كوني ترابا ، يا ليتني أصير ترابا مثل تلك البهائم لأتخلص من عذاب الله تعالى. وقيل : ويقول إبليس لما عاين ما في آدم من الثواب والراحة يوم القيامة : ليتني كنت مكان آدم ، وذلك لأن إبليس عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار. وقال مقاتل : نزل قوله تعالى : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في أبي سلمة ، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وقوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ) في أخيه الأسد بن عبد الأسد.


سورة النازعات

مكية. خمس وأربعون آية ، مائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وثلاثة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) أي والملائكة الذين ينزعون روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة ، ومن تحت الأظافر ، وأصول القدمين كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء. (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) أي والملائكة التي تحل نفس المؤمن حلا رفيقا ، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير ، وتنشط روح المؤمن بالخروج إلى الجنة. (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) (٣) أي والملائكة الذين ينزعون نفس الصالح يسلونها سلا رفيقا رويدا ، ثم يتركونها حتى تستريح ، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة لئلا يصل إليه ألم وشدة ، (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤) أي والملائكة الذين يسبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، وبأرواح الكافرين إلى النار ، (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) ، أي فالملائكة الذين يدبرون أمور العباد ، قال عبد الرحمن بن سابط : يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل.

فأما جبريل : فهو موكل بالرياح والجنود.

وأما ميكائيل : فهو موكل بالقطر والنبات.

وأما عزرائيل : فهو موكل بقبض الأرواح.

وأما إسرافيل : فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى وليس في الملائكة أقرب منه. (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) و «يوم» منصوب بجواب القسم المضمر ، أي لتبعثن يا كفار مكة يوم تتحرك النفخة الأولى مع ظهور الصوت ، وسميت النفخة : بالراجفة ، لأن الدنيا تتزلزل عندها وتصوت فإن تلك النفخة هي المحركة لكل شيء ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) أي النفخة الثانية والرادفة : رجفة أخرى تتبع الأولى ، فتضطرب الأرض لإحياء الموتى ، كما اضطربت في الأولى لموت الإحياء. ويروى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بين النفختين أربعين عاما ، ويروى أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف ، وأن ذلك كالسبب للإحياء ، ولله أن يفعل ما يشاء


ويحكم ما يريد. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) أي قلوب كثيرة وهي قلوب الكفار يوم إذ يقع النفختان شديدة الاضطراب ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٩) أي أبصار أصحاب هذه القلوب ذليلة ، (يَقُولُونَ) منكرين للبعث متعجبين منه : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) بعد موتنا (فِي الْحافِرَةِ) (١٠) ، أي في الحالة الأولى. وقرأ أبو حيوة «في الحفرة» ، أي أنرد إلى ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا ، (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١١) أي متفتتة ، نرد ونبعث مع كون تلك العظام أبعد شيء من الحياة. وقرأ حمزة وعاصم «ناخرة» بألف أي فارغة تمر بها الريح ، فيسمع لها صوت. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «إذا» على الخبر ، (قالُوا تِلْكَ) أي الرجعة إلى الحياة (إِذاً) أي إن رددنا إلى الحالة الأولى وصحّ ذلك (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (١٢) ، أي رجعة ذات هلاك أي إن الرجعة إن صحت ، فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاء منهم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) ، أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله بل هي سهلة هينة في قدرته ، لأنها حاصلة بصيحة واحدة من إسرافيل ، (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض البيضاء المستوية من أرض الآخرة بعد ما كانوا أمواتا في جوف أرض الدنيا ، (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (١٥) أي أليس قد أتاك يا أشرف الخلق حديث موسى هذا إن اعتبر إتيانه قبل هذا الكلام ، وإلا فالمعنى : هل أتاك يا أكرم الرسل حديثه؟ أنا أخبرك به : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) ظرف لـ «حديث» (طُوىً) (١٦) وهو اسم واد بالشام ، وهو عند الطور بين أيلة ومصر ، وإنما سميت «طوى» لكثرة ما مشت عليه الأنبياء.

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون. وقرأ الباقون بضم الطاء منونا.

وروي عن أبي عمرو بكسر الطاء. (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ). عن الحسن قال : كان فرعون علجا من همدان ، وعنه أيضا كان من أصبهان ، طوله أربعة أشبار ، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفا من أن يمشي على لحيته. وقال مجاهد : كان من أهل إصطخر. وقرأ عبد الله «أن اذهب» لأن في النداء معنى القول ، (إِنَّهُ طَغى) (١٧) أي تجاوز الحد على الخالق ، وعلى الخلق ، فكفر بالله ، وتكبر على بني إسرائيل ، فاستعبدهم ، (فَقُلْ) بعد ما أتيته : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١٨)؟ أي هل لك يا فرعون سبيل إلى أن تصلح فتوحد بالله؟ وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي ، (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي وهل أدعوك إلى معرفة ربك بالبرهان فتعرفه ، (فَتَخْشى) (١٩) فإن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فمن خشي الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شر (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) أي فذهب موسى إلى فرعون ، فأراه قلب العصاحية ، (فَكَذَّبَ) فرعون موسى بالقلب واللسان وسمى معجزته سحرا ، (وَعَصى) (٢١) الله تعالى بإظهار التمرد بعد ما علم صحة الأمر حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين ، (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي انصرف عن موسى وأعرض عن الإيمان ، (يَسْعى) (٢٢) أي يجتهد في مكايدة موسى ، وفي معارضة الآية ، (فَحَشَرَ) ، أي فجمع السحرة بالشرط للمعارضة (فَنادى) (٢٣) في المجمع بنفسه ، أو بواسطة المنادي (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤)


أي لا رب فوقي ، (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥) أي فعذبه الله في الآخرة بالإحراق بالنار ، وفي الدنيا بالإغراق بالماء. وقيل : فعاقبه الله بكلمته الآخرة وهي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وبكلمته الأولى وهي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وكان بينهما أربعون سنة ، فالله تعالى يمهل ولا يهمل ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في قصة فرعون (لَعِبْرَةً) أي لعظة (لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) ، وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى ، والتكذيب لأنبيائه خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون ، وعلما بأن الله تعالى ينصر رسله ، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه ، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) ، أي أأنتم يا أهل مكة في خلقكم بعد موتكم أصعب في تقديركم أم خلق السماء على عظمها والوقف هنا تام ، (بَناها) (٢٧) وهذا تفصيل لكيفية خلقها ، (رَفَعَ سَمْكَها) أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض ، ومقدار ذهابها في سمت العلو مسافة خمسمائة عام.

واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقا ، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكا ، (فَسَوَّاها) (٢٨) أي فجعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع ، ولا انخفاض ، ولا تفاوت ، ولا فطور ، (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعل الليل مظلما (وَأَخْرَجَ ضُحاها) (٢٩) أي وأبرز نهارها ، وإنما عبر عن النهار بالضحى ، لأنها أكمل أجزاء النهار في الضوء ، (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) بألفي سنة (دَحاها) (٣٠) ، أي بسطها على الماء ، (أَخْرَجَ مِنْها) أي الأرض (ماءَها) ، أي عيونها المنفجرة بالماء وأنهارها الجاري ماؤها ، (وَمَرْعاها) (٣١) أي نباتها من العشب والشجر ، والثمر ، والحب ، والعصف ، والحطب ، واللباس ، والدواء حتى النار والملح ، فإن النار من العيدان والملح من الماء ، وإذا تأملت علمت أن جميع ما يتلذذ الناس به في الدنيا أصله الماء والنبات ، (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢) ، أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) أي إنا خلقنا هذه الأشياء منفعة لكم ولأنعامكم ، (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤) أي الداهية العظمى أعني (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) (٣٥) ، أي يوم يتذكر كل أحد فيه ما عمله في الدنيا من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة ، وطول الأمد ويجوز أن يكون يوم بدلا من الطامة الكبرى مبنيا على الفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) عطف على جاءت ، أي أظهرت الجحيم إظهارا بينا (لِمَنْ يَرى) (٣٦) فيراها كل ذي بصر من المؤمنين والكفار. وقرأ أبو نهيك و «برزت» بالتخفيف. وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» فعلا ماضيا. وقرأ زيد ابن علي وعائشة وعكرمة «برزت» مبنيا للفاعل مخففا ، و «ترى» بالتاء وهي إما للتأنيث فالضمير لـ «الجحيم» ، وإما للخطاب أي لمن ترى أنت يا محمد من الكفار الذين يؤذونك ، وجواب «إذا» محذوف تقديره انقسم الناس قسمين ، (فَأَمَّا مَنْ طَغى) (٣٧) أي تمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٣٨) أي انهمك فيها ، ولم يستعد للحياة الأخروية بالطاعة ، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٣٩) له ، ويقال : التقدير فإن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان


موصوفا بهذه الصفات. قيل : نزلت هذه الآية في النضر وأبيه الحرث ، (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي مقام حضرة ربه (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (٤٠) أي عن الميل إلى الحرام الذي يشتهيه (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١) له ، قيل : نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير ، ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ، ووقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه حتى استشهد رضي‌الله‌عنه.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) فهو أخو مصعب بن عمير ، أسر يوم بدر وأخذته الأنصار ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق وأكرموه وبيّتوه عندهم ، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه فقال : ما هو بأخ له ، شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا ، فأوثقوه حتى تبعث أمه فداءه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متشحطا في دمه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عند الله أحتسبك» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب»(١). (يَسْئَلُونَكَ) يا أشرف الخلق (عَنِ السَّاعَةِ) على سبيل الاستهزاء حين سمع المشركون وصفها بالأوصاف الهائلة مثل طامة وصاخة ، وقارعة : (أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢) أي متى إقامتها ، أي في أيّ وقت يوجدها الله تعالى ، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) أي في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٤٤) ، أي إلى ربك يرجع منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) أي إنما أنت مخوف من يخاف هولها ، فالإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها. وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وأبو جعفر ، وطلحة ، وابن محيصن «منذر» بالتنوين ، وهو الأصل وحذف التنوين للتخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦). وهذا إما تأكيد لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به ، أي كأن كفار قريش يوم يعاينون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه ، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عن الساعة بطريق الاستبطاء مستعجلين بها ، ويقولون : متى هذا الوعد؟ فالمعنى : كأنهم يوم يرون قيام الساعة لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية هي من الزوال إلى الغروب ، أو ضحى يومها واعتبار كون اللبث بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم.

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٤٦) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ٣٠١).


سورة عبس

وتسمى سورة الأعمى ، وسورة السفرة. مكية ، إحدى وأربعون

آية ، مائة وثلاث وثلاثون كلمة ، خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَبَسَ) أي كلح النبي وجهه. وقرئ بالتشديد للمبالغة ، (وَتَوَلَّى) (١) أي أعرض بوجهه لأجل (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) اسمه عبد الله ابن أم مكتوم ، وهو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري ، وأم مكتوم كانت أم أبيه ، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي ، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد ، أسلم قديما بمكة ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صناديد قريش : عتبة ، وشيبة ـ ابنا ربيعة ـ وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه ، وعبس ، وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه ويقول إذ رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له : «هل لك من حاجة؟» (١) (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٤) أي أيّ شيء يجعلك يا أشرف الخلق داريا حال هذا الأعمى حتى تعرض عنه ، لعله يتطهر بما يقتبس منك من الإثم ، أو يتعظ ، فتنفعه موعظتك ، إن لم يبلغ درجة التطهر التام.

وقرأ عاصم بنصب «فتنفعه» على جواب «لعل» ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) (٥) عن الإيمان والقرآن بماله من المال (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٦) أي تقبل عليه بوجهك وتميل إلى كلامه.

وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الضاد وقرأ أبو جعفر بضم التاء ، أي فأنت يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (٧) و «ما» إما نافية ، والجملة حال من ضمير «تصدى» ، أي والحال أنه ليس عليك بأس في عدم تطهره من الشرك بالإسلام ، وإما استفهامية للإنكار أي وأيّ شيء عليك في كونه لا يتطهر من دنس الكفر ، (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) (٨)

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : ذكر البعث.


أي حال كونه يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) (٩) من الله ، أي وهو مسلم (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠) أي تتشاغل بصناديد قريش. وقرأ طلحة بن مصرف «تتلهى». وقرأ أبو جعفر «تلهى» ، أي يلهيك شأن الصناديد (كَلَّا) أي لا تفعل مثل ذلك ، أي وذلك محمول على ترك الأولى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) أي إن القرآن موعظة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (١٢) أي فمن رغب في القرآن اتعظ به ، ومن لم يرده فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره (فِي صُحُفٍ) أي ذلك القرآن مثبت في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ (مُكَرَّمَةٍ) (١٣) عند الله تعالى ، (مَرْفُوعَةٍ) في السماء السابعة ، (مُطَهَّرَةٍ) (١٤) أي منزهة عن مساس أيدي الشياطين ، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) (١٥) أي ملائكة يكشفون الوحي بين الله ورسله ، أو يكتبون الكتب ناقلين من اللوح المحفوظ (كِرامٍ) أي عند الله تعالى (بَرَرَةٍ) (١٦) أي صادقين لله في أعمالهم. وقال القرطبي : إن المراد بما في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] هؤلاء السفرة الكرام البررة ، وقوله : (بِأَيْدِي) متعلق بـ «مطهرة».

قال القفال : لما لم يمس الصحف إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهر إليها لطهارة من يمسها. (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن الكافر (ما أَكْفَرَهُ) (١٧) أي أيّ شيء أكفره ، وهو تعجب من إفراطه في الكفران ، والتعجب بالنسبة للمخلوقين ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرناه بعد هذا ، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١٨) وهذا استفهام تقرير في التحقير ، أي فليتفكر الإنسان في نفسه من أيّ شيء خلقه الله ، ثم بيّن الله له فقال : (مِنْ نُطْفَةٍ) أي ماء حقير ، (خَلَقَهُ) فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير ، فالتكبر لا يكون لائقا به (فَقَدَّرَهُ) (١٩) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء ، أو فقدره أطوارا نطفة ، ثم علقة إلى أن تم خلقه ، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٢٠) أي ثم سهل الله خروجه من بطن أمه وكان رأس المولود في بطن أمه ، من فوق ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب ، فخروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب ، أو ثم بين طريق الخير والشر التي تتعلق بالدنيا ، والتي تتعلق بالدين ، (ثُمَّ أَماتَهُ) بعد ذلك ، (فَأَقْبَرَهُ) (٢١) أي جعله الله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢٢) أي بعثه من القبر (كَلَّا) ، أي لا تتكبر ، ولا تصر على إنكار التوحيد ، وعلى إنكار البعث ، أو حقا يا محمد (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) ، أي لم يعمل الإنسان الكافر بما أمره الله به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته ، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٢٤) الذي جعله الله سببا لحياته كيف دبر الله أمره ، (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) أي الغيث على الأرض ، (صَبًّا) (٢٥).

قرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا» بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال من طعامه ، لأن الماء سبب لحدوث الطعام ، فهو مشتمل عليه. والباقون بالكسر على الاستئناف. وقرئ «إني» بالإمالة ، أي كيف صببنا الماء صبا عجيبا! (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بالنبات (شَقًّا) (٢٦) بديعا لائقا به (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي الأرض (حَبًّا) (٢٧) ، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما ،


(وَعِنَباً) وهو غذاء من وجه وفاكهة من وجه ، (وَقَضْباً) (٢٨). قيل : هو كل ما يقطع من البقول.

وقال الحسن : هو العلف للدواب. وقال ابن عباس : هو الرطب فإنه يقطع من النخل ، (وَزَيْتُوناً) وفيه إصلاح المزاج ، (وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً) (٣٠) أي بساتين ملتفة الأشجار ، أو طوال الأشجار ، (وَفاكِهَةً) وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار ، (وَأَبًّا) (٣١) وهو ما تأكله الدواب من الكلأ ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢) أي فعل الله ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم ، (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) (٣٣) أي صيحة النفخة الثانية التي تصم الآذان لشدتها ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٣٤) و «يوم» إما منصوب بأعني تفسيرا لـ «الصّاخة» ، أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأي الكوفيين ، أي يعرض عن أخيه (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٣٦) وفائدة هذا الترتيب كأنه قيل يوم يعرض المرء عن أخيه ، بل عن أبويه اللذين هما أقرب من الأخ ، بل عن الزوجة والولد اللذين تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين ، وجواب «إذا» محذوف تقديره : اشتغل كل امرئ بحال نفسه ، ويدل عليه قوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تكون هذه الداهية (شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، أي شغل يكفيه في الاهتمام به ، أو عمل يصرفه عن قرابته كما قاله ابن قتيبة. وقرئ «يعنيه» بالياء المفتوحة والعين المهملة ، أي يهمه ، أي يوقعه في الهم ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (٣٨) أي مضيئة من صلاة الليل ـ كما قاله ابن عباس ـ أو من آثار الوضوء ـ كما قاله الضحاك ـ أو بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بالرحمة ومنازل الرضوان ـ كما قاله الرازي ـ (ضاحِكَةٌ) أي معجبة بكرامة الله أو مسرورة بالفراغ من الحساب ، (مُسْتَبْشِرَةٌ) (٣٩) أي فرحة بما تشاهد من النعيم الدائم والثواب الجسيم ، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (٤٠) أي كدورة (تَرْهَقُها) أي تدركها عن قرب ، (قَتَرَةٌ) (٤١) أي سواد كالدخان (أُولئِكَ) أي أصحاب هذه الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢) أي الجامعون بين الكفر بالله والكذب على الله.


سورة التكوير

مكية ، تسع وعشرون آية ، مائة وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) أي لفت أي صارت مختفية عن الأعين. وقيل : أي رميت عن الفلك. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما «تكويرها» إدخالها في العرش ، (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٢) ، أي تساقطت على وجه الأرض. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور ، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم. (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (٣) عن وجه الأرض بالرجفة ، (وَإِذَا الْعِشارُ) أي النوق الحوامل التي هي أنفس ما يكون عند أهلها ، (عُطِّلَتْ) (٤) أي تركت من غير راع لاشتغال أربابها بأنفسهم. وقيل : أي وإذا السحب تعطلت عن الماء. وقرئ «عطلت» بالتخفيف ، (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٥) أي جمعت من كل جانب لا للقصاص. وقيل : بعثت للقصاص إظهارا للعدل.

قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. وقرئ «حشرت» بالتشديد ، (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) أي ملئت من الماء ، فيفيض بعضها إلى بعض ، فتصير شيئا واحدا ، ثم تيبس البحار من الماء ، ثم تقلب نارا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم ، وهذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة وهي ما ذكر بقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) أي ردت الأرواح إلى أجسادها.

وقال ابن عباس : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين.

وقال الزجاج : قرنت النفوس بأعمالها ، (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٨) أي وإذا البنت المدفونة حية سئلت تبكيتا لمن دفنها في القبر وهي حية (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) ، أي هي وذلك كأن قيل


للموءودة إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم ، فما ذنبك أيتها البنت ، فكان جوابها : إني قتلت بغير ذنب ، فيفتضح القاتل. وقرئ «قتلت» بكسر التاء للمخاطبة مع قراءة «سئلت» بقراءة الجمهور. وقرئ «سألت» بالبناء للفاعل ، أي خاصمت أباها ، أو سألت الله تعالى. وهذه القراءة مع قراءة «قتلت» بضم التاء للمتكلم ، وبسكونها على التأنيث فالقراءات الشاذة ثلاثة ، (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (١٠) أي وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها عند الحساب ، وتطايرت في الأكف.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين. والباقون بتشديدها ، (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (١١) أي أزيلت عما فوقها ، وهي الجنة وعرش الله. وقرأ ابن مسعود «قشطت» ، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١٢) أي أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين. والباقون بتخفيفها (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (١٣) ، أي قربت من المتقين.

وقال عبد الله بن زيد : أي زينت (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) أي ما قدمت من خير أو شر فإن الأعمال لما عملتها النفس فكأنها أحضرتها في الموقف ، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) «لا» زائدة ، أي فأقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله التي تجري مع الشمس والقمر التي تختفي تحت ضوء الشمس. وهي هذه الأنجم الخمسة : بهرام ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري ، ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (١٧) ، أي ذهب ، (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) أي أضاء (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) أي إن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ، ولا ظن ، ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى أو أن القرآن لقول جبريل نزل به إلى محمد من جهة الله تعالى ، فهو رسول الله إلى الأنبياء ، وهو كريم لأنه يعطي أفضل العطايا وهو الهداية (ذِي قُوَّةٍ) أي شدة.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل : «ذكر الله قوتك فماذا بلغت؟» قال : رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذ سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها. وذكر مقاتل أن الأبيض ـ وهو شيطان ـ قصد أن يفتن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعه جبريل دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ، (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (٢٠) أي ذي جاه عند الله تعالى ، فإنه يعطي ما يسأل ، وهذه العندية عندية إكرام وتشريف ، لا عندية مكان وجهة ، (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السموات فتطيعه الملائكة ، فإنهم يصدرون عن أمره ، ويرجعون إلى رأيه (أَمِينٍ) (٢١) على وحي الله ورسالته ، قد عصمه الله من الخيانة والزلل ، (وَما صاحِبُكُمْ) أي نبيكم محمد يا معشر قريش (بِمَجْنُونٍ) (٢٢) ، كما زعمتم. والمقصود : من عدّ فضائل جبريل واقتصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفي الجنون ردّ قول الكفرة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما يعلمه بشر افترى على الله كذبا ، أم به جنة لا الموازنة بينهما ولا تفضيل جبريل على النبي ، ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا


المقام ادماج لتعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ من علو المنزلة عند الله تعالى بجعل السفير بينه وبينه تعالى ، مثل هذا الملك المقرب ، فهذه الصفات التي لجبريل رفع منزلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام بمطلع الشمس الأعلى على صورته التي خلق عليها ، (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤).

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة أي وما محمد بمتهم في القرآن ، بل هو ثقة فيما يؤدى عن الله تعالى. وقرأ الباقون بالضاد أي وما محمد ببخيل بالقرآن ، بل يخبر بما في القرآن من أخبار الغيب ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) أي وما القرآن بقول مسترق للسمع اسمه مرمى ، فيلقيه على محمد ، وهذا نفي لقول أهل مكة ، إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسان محمد وأنه كهانة وسحر ، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) أي فمن أيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن أمن نسبته للجنون أو الكهانة ، أو السحر ، أو الشعر ، وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أين تذهب؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٢٧) ، أي ما القرآن إلا عظة للإنس والجن ، (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب ، فإن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، أي إلا أن يشاء الله أن يعطيه تلك المشيئة ، ففعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة ، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة ، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله.


سورة الانفطار

مكية ، تسع عشرة آية ، ثمانون كلمة ، ثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) أي انشقت لنزول الملائكة ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) أي تساقطت متفرقة على وجه الأرض ، (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٣) أي فتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب بالأجاج ، وصارت البحار بحرا واحدا.

وقرأ مجاهد «فجرت» على البناء للفاعل والتخفيف ، أي تجاوز بعضها إلى بعض. وقرأ مجاهد أيضا ، والربيع بن خثيم ، والزعفراني والثوري «فجرت» مبنيا للمفعول ومخففا ، أي غير بعضها ببعض لزوال البرزخ ، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٤) أي قلب أسفلها أعلاها وأخرج ما فيها من الموتى أحياء (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) أي أدت من طاعة ، (وَأَخَّرَتْ) (٥) أي ضيعت ، وذلك عند نشر الصحف. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) أي ما الذي خدعك وسوّل لك الباطل ، حتى تركت الواجبات ، وأتيت بالمحرمات.

وقرأ سعيد بن جبير والأعمش «ما أغرّك» رباعيا ، فاحتمل أن تكون «ما» استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، أي أيّ شيء جعلك آمنا من عقاب ربك ، أو شيء عظيم يتعجب منه أدخلك في غرة ، أي أمن من العذاب؟ (الَّذِي خَلَقَكَ) نسمة من نطفة (فَسَوَّاكَ) أي جعلك سالم الأعضاء مهيأة لمنافعها (فَعَدَلَكَ) (٧).

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت ـ كما قاله أبو علي الفارسي ـ أو فصرفك إلى أي صورة شاء. وقرأ الباقون بالتشديد أي صيّرك متناسب الأعضاء ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع.

وقال عطاء عن ابن عباس : أي جعلك معتدل القامة حسن الصورة ، لا كالبهيمة المنحنية (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) و «ما» زائدة ، و «شاء» صفة لـ «صورة» ، و «ركبك» بيان لقوله تعالى : (فَعَدَلَكَ) أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح ، وطول ، وقصر ، وذكورة ، وأنوثة (كَلَّا) ، أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله ، وإنكم لا ترتدعون عن ذلك ، (بَلْ


تُكَذِّبُونَ) يا معشر قريش (بِالدِّينِ) (٩) ، أي بالجزاء على الأعمال ، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (١٠) حال من فاعل تكذبون ، أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم ، (كِراماً) عندنا (كاتِبِينَ) (١١) لهذه الأعمال في الصحف ، كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التقويم ، (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) من الأفعال ، قليلا وكثيرا ، ويضبطونه نقيرا وقطميرا لتجازوا بذلك ، (إِنَّ الْأَبْرارَ) أي الصادقين في إيمانهم (لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) ، أي لفي جنة دائم نعيمها ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) أي الكافرين المكذبين بيوم الدين (لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) أي في نار عظيمة ، (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها (يَوْمَ الدِّينِ) (١٥) أي يوم الحساب ، (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١٦) طرفة عين حتى قبل الدخول فيها فإنهم يجدون سمومها في قبورهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (١). (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨) أي أيّ شيء عجيب هو في الهول والفظاعة جعلك داريا يوم الدين ، و «ما» الاستفهامية خبر لـ «يوم الدين» ، فإن مدار الإفادة هو الخبر ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً).

قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» وقرأ أبو عمرو في رواية «يوم» مرفوعا منونا على جعل الجملة بعده نعتا له ، والعائد محذوف أي لا تملك فيه. وقرأ الباقون يوم بالفتح ، وهي إما فتحة إعراب بإضمار اذكر ، أو فتحة بناء وإنما بني لإضافته للفعل ، وإن كان معربا على رأي الكوفيين ويكون خبرا لمبتدأ مضمر.

وقال أبو علي : إن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا فاترك على حالة الأكثرية ، ومما يقوى النصب قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) [القارعة : ٢ ، ٣] وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٢ ، ١٣].

قال الواحدي : والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا ، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩).

قال الواسطي : قوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات. وقوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) إشارة إلى أن البقاء لله والأمر كذلك في الأزل ، وفي اليوم وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه ، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٢٥) ، بما معناه.


سورة التطفيف

وتسمى سورة المطففين ، نزلت بين مكة والمدينة في مهاجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فاستتمت بالمدينة ،

هي ست وثلاثون آية ، مائة وتسع وتسعون كلمة ، سبعمائة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) أي شدة العذاب للناقصين في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ، وكان أهلها من أخبث الناس كيلا ، فنزلت هذه الآية ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

قال الفراء : فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا ، وقال قوم : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة واسمه عمرو كان له صاعان ، يأخذ بواحد ويعطي بآخر فنزلت : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (٢) أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه ، يأخذونه وافيا وافرا حسب ما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل ، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال ، والاحتيال في ملئه. (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) ، أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم للبيع ونحوه ينقصون في الكيل والوزن. ويروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ووزنوا ، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا ، أي إذا كالوا هم لغيرهم ، أو وزنوا هم لغيرهم ينقصون ، وإثبات الألف قبل هم لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة لمنع من إثباتها في سائر الأعصار ، (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) أي ألا يوقن أولئك المطففون بالكيل والوزن (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (٤) (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥) أي شديد هوله ، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، أي لحكمه.

روي عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وقرئ «يوم» بالنصب والجر ، فالنصب منصوب بقوله تعالى : (مَبْعُوثُونَ) ، أو بإضمار أعني والجر بدل من «يوم عظيم» ، أو هو حالة النصب مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين ، فهو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر ، أو مجرور المحل بدلا من «يوم


عظيم» ويؤيده القراءة بالرفع والجر (كَلَّا) أي ارتدعوا عن التطفيف والغفلة عن ذكر البعث ، وعلى هذا المعنى يوقف على «كلا» أو «كلا» بمعنى حقا فلا يوقف عليه ، وكذا جميع ما يأتي من «كلا» في هذه السورة (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧) ، أي إن كتابة أعمال الكفار لفي سجين ، وهو موضع في الأرض السابعة السفلى ، (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) (٨) وهذا تعظيم لأمر سجين ، (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) أي إن كتاب الفجار كتاب معلم فيعلم من رآه أنه لا خير فيه ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١) أي الجزاء ، (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي بذلك اليوم (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي متجاوز عن المنهج الحق ، (أَثِيمٍ) (١٢) أي مبالغ في ارتكاب الإثم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) ، أي هذه إخبار الأولين فإن محمدا أخذ عنهم لا من الله تعالى فينكر النبوة ، (كَلَّا) أي حقا (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي ليس الأمر كما يقوله الكافر من أن ذلك أساطير الأولين ، بل غطى على قلوبهم أفعالهم الماضية من الكفر والمعاصي قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه» (١). (كَلَّا) أي حقا يا محمد (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) أي إن المكذبين بيوم الدين لممنوعون يوم القيامة عن النظر إلى ربهم ، والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم ، (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (١٦) أي لداخلو النار العظيمة ، (ثُمَ) إذا دخلوها (يُقالُ) لهم من جهة الزبانية (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، والآن قد عاينتموه فذوقوه ، (كَلَّا) أي لا تكذبوا البعث وكتاب الله أو حقا ، (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨) أي إن كتابة أعمال الصادقين في إيمانهم لفي عليين ، (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) (١٩) وهذا تنبيه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه معلوم له ، (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٢٠) أي إن كتاب أعمالهم موضوع في عليين مكتوب في لوح من زبرجد أخضر ، معلق تحت عرش الرحمن ، (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) أي يشهد الملائكة المقربون ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين كرامة للمؤمنين ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه ، (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٢٢) أي في جنة دائم نعيمها (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرة في الحجال ، (يَنْظُرُونَ) (٢٣) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من أنواع النعيم والعذاب للكفار ، (تَعْرِفُ) يا من يتأتى منك المعرفة (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) أي بهجة التنعم ورونقه من النور والضحك.

وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق ، وشيبة ، وطلحة ، ويعقوب ، والزعفراني تعرف مبنيا للمفعول ورفع نضرة وعلي بن زيد كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء التحتية ، (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي شراب خالص (مَخْتُومٍ) (٢٥) ، أي يختم رأس قارورة ذلك الرحيق أوله ختام أي عاقبة

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ، باب : مثل الدنيا ، ومسلم في كتاب الزهد ، باب : ١ ، وأحمد في (م ٢ / ص ١٩٧).


(خِتامُهُ مِسْكٌ) أي الذي يختم به رأس الإناء هو المسك ، أو عاقبته المسك أي يختم له برائحة المسك. وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف. وروي عنه أيضا كسر التاء ، والمعنى : خاتم رائحة ذلك الشراب مسك ، (وَفِي ذلِكَ) أي الرحيق (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ، (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢٧) أي وما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. سميت هذه العين بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) ، وهم أفضل أهل الجنة ، كما أن التسنيم هو أفضل أنهار الجنة.

قال ابن عباس : أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم ، لأنه يشربه المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين ، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) أي إن أكابر المشركين كأبي جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي ، كانوا يضحكون من أجل فقراء المؤمنين كعمار ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، (وَإِذا مَرُّوا) أي فقراء المؤمنين يأتون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِهِمْ) ، أي بالمشركين وهم في أنديتهم (يَتَغامَزُونَ) (٣٠) ، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ، ويعيبونهم ويقولون : انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها ، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. قيل : جاء علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون ، وضحكوا ، وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١) أي وإذا رجع الكفار من مجالسهم إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الشرك والتنعم بالدنيا ، أو ملتذين بذكر المسلمين بالسوء. وقرأ عاصم في رواية حفص عنه «فكهين» بغير ألف في هذا الموضع وحده والباقون بالألف ، (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) (٣٣) أي وإذا رأى المجرمون المؤمنين أينما كانوا قالوا : إن هؤلاء المؤمنين على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا؟ والحال أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم ، (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤) أي فيوم القيامة يضحك المؤمنون على الكفار حين يرونهم مغلولين أذلاء (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٣٥) ، وهذا حال من فاعل «يضحكون» ، أي يضحك المؤمنون على الكفار ناظرين حال كونهم على سرر الحجال إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر ، (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)؟ وهذا على سبيل التهكم ، والمعنى : كأنه تعالى يقول للمؤمنين : هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بشريعتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائدا في سرورهم.


سورة الانشقاق

مكية ، خمس وعشرون آية ، مائة وتسع كلمات ، سبعمائة وثلاثون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) من المجرة بالغمام ، والمجرة : هي البياض المعترض في السماء (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي انقادت لتأثير قدرته ، (وَحُقَّتْ) (٢) أي وهي حقيقة بأن تنقاد ، (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٣) مد الأديم العكاظي وزيدت في سعتها ، (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز ، (وَتَخَلَّتْ) (٤) أي وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء ، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي انقادت له في الإلقاء والتخلي ، (وَحُقَّتْ) (٥) أي وهي حقيقة بذلك وقوله تعالى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) يدل على نفوذ القدرة في شق السماء وبسط الأرض ، وإخلاء ما فيها من غير ممانعة أصلا ، وجواب «إذا» محذوف تقديره : علمت نفس عملها ، أو ليذهب الوهم إلى كل شيء ، وإن جعلت غير شرطية فهو منصوب باذكر مقدرا. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) أي يا ابن آدم إنك متعب النفس في العمل في دنياك تعبا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة فملاق ذلك العمل خيرا كان أو شرا في الكتاب الذي فيه بيانه ، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩) أي فأما من أعطى كتاب عمله الذي كتبه الملائكة بيمينه من أمامه ، فسوف يحاسب حسابا هينا ، وهو العرض ويرجع إلى عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا : هاؤم اقرؤا كتابي. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (١١) أي وأما من أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره فسوف يتمنى الهلاك ويناديه بقوله : يا ثبوراه تعال وهذا أوانك (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) ، أي ويدخل نارا وقودا. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقيل : قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بضم الياء وسكون الصاد. والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أي فيما بين عشيرته في الدنيا (مَسْرُوراً) (١٣) بما هو عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن بالله وصدق بالحساب. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١). (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) (١٤) أي إنه ظن أنه لن يرجع في الآخرة إلى خلاف ما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد ، باب : ٧٣.


هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم (بَلى) إن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا يزول ، (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥) أي إن ربه كان عالما بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يهمله بأن لا يعاقبه على سوء أعماله. وقيل : نزلت هاتان الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأسد وأخيه الأسود ، (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) (١٦) وهو حمرة المغرب بعد غروب الشمس ، وهي الأثر الباقي في الأفق من الشمس والفاء في جواب شرط مقدر ، و «لا» زائدة أو نفي وهو رد لكلام قبل القسم ، أي إذا عرفت هذا فلا تظن عدم الرجوع إلى الله في الآخرة ، (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) (١٧) أي جمع فإذا ستر الليل بظلمته الجبال والبحار والأشجار والحيوانات فقد جمعها وحملها ، (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (١٨) أي تكامل وذلك في ثلاث ليال : ليلة ثلاثة عشر ، وليلة أربعة عشر ، وليلة خمسة عشر. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) أي لتحولن يا أيها الإنسان حالا بعد حال ، وذلك من حين خلقهم الله إلى أن يموتوا ومن حين موتهم إلى أن يدخلوا الجنة ، أو النار.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان في «يا أيها الإنسان». والمعنى : كخطاب الجنس في قراءة العامة أو على خطاب الرسول ، والمعنى : لتصعدن يا أشرف الرسل طبقا مجاوزا لطبق في ليلة المعراج أي من سماء إلى سماء ، أو لتركبن حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. وقرئ بكسر الباء على خطاب النفس ، أي لتركبن أيها النفس طريقة أمة من الناس بعد أمة. وقرئ «ليركبن» بالياء على المغايبة ، وفتح الباء ، أي ليركبن هذا المكذب بيوم الدين حالا بعد حال من حين يموت إلى أن يدخل النار ، (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) أي إذا كان حالهم كما ذكر فأي شيء ثبت لكفار مكة حال كونهم غير مؤمنين ويقال : فأيّ شيء لبني عبد ياليل الثقفي يمنعهم من الإيمان ، وكانوا ثلاثة مسعود ، وحبيب ، وربيعة. فأسلم منهم بعد ذلك حبيب وربيعة. (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١) أي لا يخضعون بأن يؤمنوا به ، ولا يسجدون لتلاوته عند آيات مخصوصة.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ ذات يوم (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩]. فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر ، فنزلت هذه الآية ، واحتج أبو حنيفة بهذه على وجوب السجدة. وعن الحسن هي غير واجبة ، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) (٢٢) بالقرآن الناطق بأحوال القيامة ، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته إما للحسد وإما لتقليد الأسلاف ، وإما لخوف فوت مناصب الدنيا ومنافعها ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) (٢٣) أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب ، فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة ، (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أخبر يا أشرف الخلق من لا يؤمن بعذاب مؤلم إلا من تاب منهم (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥) ، أي غير منقوص ، ولا مكدر ولا مقطوع ويقال : غير منقوص حسناتهم بعد الهرم والموت.


سورة البروج

مكية ، ثنتان وعشرون آية ، مائة وتسع كلمات ، أربعمائة وثمانية وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) أي ذات المحال الاثني عشر ، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (٢) ، وهو يوم القيامة فإن الله تعالى وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه ، (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣) فالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق ، والمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب. (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤) وهذا دليل جواب قسم محذوف ، والتقدير : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وقيل : إن الجواب قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢]. والأخدود شق مستطيل في الأرض كالنهر ، وذكر أن طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا. وأصحاب الأخدود هم أناس كانوا بمدارع اليمن كما قاله قتادة عن علي ، أو هم الحبشة كما قاله الحسن عن علي أيضا. (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) (٥) من النفط ، والزفت ، والحطب.

وقرئ بضم الواو بمعنى الاتقاد وقوله : «النار» بدل اشتمال من الأخدود ، ثم إن أصحاب الأخدود إما الجبابرة الذين قتلوا المؤمنين ، فحينئذ إن قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) إما خبر فالمعنى : أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على القول بأن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم فهم في تلك الحالة كانوا ملعونين ، فالمعنى : أنهم خسروا الدنيا والآخرة ، أو دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ، وإما المؤمنون المقتولون بالإحراق بالنار. فيكون قوله تعالى : لعن أصحاب الأخدود خبرا لا دعاء. (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) (٦) ظرف لـ «قتل» أي لعنوا حين كانوا جالسين على شفير النار يعذبون المؤمنين ، فإن النار ارتفعت إليهم فهلكوا ، أو يقال لعنوا إذ المؤمنون مطرحون على النار ، (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) (٧) أي وهؤلاء الكفار مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حضور لم تحصل في قلوبهم ، شفقة ولا رأفة لغاية قسوة قلوبهم والوقف هنا تام إن جعل جواب القسم (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) بتقدير لقد وجائزا لطول الكلام إن جعل جواب القسم (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢].

روى مسلم عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان الملك فيمن قبلكم ساحر فلما كبر قال


للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما ليعلمه ، وكان في سلوك طريقه راهب فسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكى ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتل هذه الحية بواسطة رمي الحجر إليها ، ثم رمى الحجر فقتلها ، ومضى الناس فاشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : هذا لك إن شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحد إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله تعالى ، فأتى الملك فجلس كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي قال : أولك رب غيري؟ قال : ربي وربك الله ، فغضب فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فأحضر الراهب ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى فقد بالمنشار من مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك ، فقال له :ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقال له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فقال لأصحابه : اذهبوا به فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه إن لم يرجع عن دينه ، فذهبوا به وصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل ، فسقطوا وهلكوا ونجا ومشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ، فقال : كفانيهم الله ، فقال لأصحابه اذهبوا به إلى البحر فاحملوه في قرقورة (١) فتوسطوا به البحر فاقذفوه إن لم يرجع عن دينه ، فذهبوا به فلججوا به ليغرقوه فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ومشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ، وتقول : باسم الله رب هذا الغلام ، ثم ترميني به ففعل الملك ذلك فرماه بالسهم فوقع في صدغه فوضع يده عليه ، ومات ، فقال الناس آمنا برب هذا الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذره ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» (٢). وعن ابن عباس قال : كان بنجران بلد باليمن ملك من ملوك

__________________

(١) القرقورة : وهي السبغة الطويلة [القاموس المحيط ، مادة : قرقر].

(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الصيام ، باب : صيام العشر ، وأحمد في (م ١ / ص ١٥٦).


حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرجيل في الفترة قبل أن يولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه ، فجعل يتردد إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن الصوت ، فأعجبه ذلك ، فقعد إليه ، وسمع كلامه ذاهبا ، وراجعا فدعا الناس إلى دين عيسى عليه‌السلام ، فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيره بين النار واليهودية ، فأبى إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول ، قال : فكيف أقتلك؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي ، ففعل الملك ، فقتله ، فقال الناس : لا إله إلا إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وجعله أخدودا وملأه نارا فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه ، وكان في مملكته امرأة فأسلمت ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : ارجعي فأبت ، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت أخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : ارجعي فأبت ، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي : يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ، ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار وألقيت أمه عقبه. وعن وهب بن منبه : أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد ، ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه ، فغرق. وقال محمد ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر : إن خربة احترقت في زمن عمر ، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت رجعت إلى مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فبلغ ذلك عمر ، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.

وروي عن علي أنه قال : حين اختلفوا في أحكام المجوس : هم أهل كتاب ، وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم ، فسكر ، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول يا أيها الناس إن الله تعالى قد أحل لكم نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله قد حرمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك ، فقالت : أبسط فيهم السوط ، ففعل فلم يقبلوا ، فقالت : أبسط فيهم السيف ففعل ، فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ)، (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) أي وما عابوا من المؤمنين إلا إيمانهم (بِاللهِ الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يدفع (الْحَمِيدِ) (٨) أي الذي يستحق الثناء على ألسنة عباده المؤمنين (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وخزائن المطر ، والنبات (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٩) وهذا وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إن الذين أحرقوهم بالنار كما قاله


ابن عباس ، ومقاتل أو أن الذين محنوهم في دينهم بالأذية والتعذيب ليرجعوا عنه ، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) عن كفرهم وفتنتهم (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠) أي فلهم في الآخرة عذاب بسبب كفرهم ، وعذاب زائد على عذاب الكفر بسبب إحراق المؤمنين بالنار ، أو عذاب برد ، وعذاب إحراق ، أو فلهم في الآخرة عذاب جهنم ، وفي الدنيا عذاب الحريق حيث ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها ، وكان هؤلاء قوما من نجران ، وقيل : من أهل الموصل ، وكان ملكهم يسمى يوسف ، ويقال له ذو نواس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من المفتونين وغيرهم (لَهُمْ) بسبب الإيمان والعمل الصالح (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يتلذذون ببردها ويزول عنهم برؤية ذلك مع رؤية الأشجار جميع الأحزان والمضار (ذلِكَ) أي حيازتهم للجنات (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (١١) وهو رضا الله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي أن أخذه بالعذاب لمن لا يؤمن به (لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١٣) أي أنه تعالى يخلق خلقه ، ثم يفنيهم ، ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة ، فذلك الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ومن كان قادرا على الإيجاد والإعادة كان بطشه في غاية الشدة ، (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب من الكفر (الْوَدُودُ) (١٤) أي المحب لمن أطاع. (ذُو الْعَرْشِ) أي خالقه ومالكه.

وقرئ «ذي العرش» على أنه صفة لربك. (الْمَجِيدُ) (١٥) قرأ حمزة ، والكسائي بالجر على أنه صفة للعرش أو لربك ، والباقون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. قال العلماء : إن مجد الله عظمته بحسب الجود الذاتي ، وكمال القدرة ، والعلم ، والحكمة ، ومجد العرش : علوه في الجهة ، وعظمة مقداره ، وحسن صورته ، وتركيبه. (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ، ومن غيرها ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب. قال الرازي : «فعال» خبر مبتدأ محذوف وقال الطبري : رفع «فعال» وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود». (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (١٨) أي قد أتاك يا أشرف الرسل خبر الجموع فرعون وقومه ، وثمود ، وعرفت ما فعلوا من الكفر والضلال ، وما فعل بهم من العذاب ، والنكال ، فأنذر قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ، «وفرعون» ، «وثمود» بدل من «الجنود» فذكر الله تعالى من المتقدمين ثمود ومن المتأخرين فرعون لأن ثمود كانوا في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم فدل بهما على أمثالهما (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٢٠) أي ليست جناية قومك مجرد عدم الاتعاظ بما سمعوا من حديث أولئك ، بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك في أنه قرآن من عند الله تعالى مع ظهور حاله بالبينات الباهرة ، والحال أن الله تعالى قادر على


إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم بالقرآن والنبوة وهم في قبضته تعالى كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهربا ، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) أي ليس الأمر كما قالوا ، بل هذا القرآن الذي يقرؤه محمد كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى مكتوب في لوح محفوظ من وصول الشياطين إليه ، ومن التحريف.

وقرأ نافع «محفوظ» بالرفع على أنه نعت لـ «قرآن» ، والباقون بالجر على أنه نعت لـ «لوح» ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد ، وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن السميقع «في لوح» بضم اللام وهو الهواء الذي فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح بفتح اللام ، وهو عن يمين العرش مكتوب في صدره لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله ، وصدق بوعده ، واتبع رسله أدخله جنته ، وكونه محفوظا إما محفوظ عن أن يمسه إلا المطهرون ، أو عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ، أو عن أن يجري عليه تغيير وتبديل ، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به.


سورة الطارق

مكية ، سبع عشرة آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وواحد وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) أي الظاهر في الليل (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) (٢) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما الطارق قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الله الرسول به ، وكل شيء فيه وما يدريك لم يخبره به (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (٣) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام أي هو النجم المضيء في الغاية كأنه يثقب الأفلاك بضوئه ، وينفذ فيها قيل : هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح ، وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ، ويوقف به على أوقات الأمطار ، أو هو جنس الشهب الذي يرجم بها ، ووصف النجم بكونه طارقا لأنه يبدو بالليل أو لأنه يطرق الجني أن يصكه ، وقال محمد بن الحسين ، والفراء : إنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات ، وقال ابن زيد : هو الثريا ، وقال ابن عباس : هو الجدي ، وقال علي : هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد ، وقال آخرون : إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] روي أن أبا طالب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأت الأرض نورا ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله» فعجب أبو طالب ، فنزلت هذه السورة (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) ، وهذا جواب للقسم ، و «إن» نافية و «لما» بمعنى إلا ، أي ما كل نفس إلا عليها رقيب ، وهو الله تعالى وهذا بالتشديد على قراءة عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والنخعي أما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع ، والكسائي ، وهي بتخفيف الميم فـ «إن» مخففة من الثقيلة واللام في «لما» مخلصة من «إن» النافية وما صلة أي إن الشأن كل نفس برة أو فاجرة لعليها من يحصي عليها ما تكسب من خير وشر وهم الملائكة. (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أبو طالب وغيره (مِمَّ خُلِقَ) (٥) أي من أي شيء خلق نفسه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) ، وهو استئناف وقع جوابا عن استفهام أي خلق الإنسان من ماء ذي سيلان بسرعة في رحم المرأة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧)


أي من صلب ماء الرجل ، ومن عظام صدر المرأة ، وقال الحسن : يخرج من صلب الرجل وترائبه ، ومن صلب المرأة وترائبها ، وحكى القرطبي أن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ثم يتجمع في الأنثيين (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (٨) أي إن الذي خلق الإنسان ابتداء قادر على رده حيا بعد موته. (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) أي يظهر ما أخفي من الأعمال ، وما أسر في القلوب من العقائد ، والنيات ، وهو يوم القيامة. قال ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه هذا إن أريد برجعه نشر الإنسان يوم القيامة ، فـ «يوم» ظرف نرجعه فلا يوقف على قوله تعالى : (لَقادِرٌ) وإن أريد برجعه رد الماء إلى الإحليل كما قاله مجاهد ، أو إلى الصلب كما قاله عكرمة ، والضحاك ، أورد الإنسان ماء كما كان قبل كما قاله الضحاك أيضا فـ «يوم» منصوب بمضمر أي واذكر «يوم» فالوقف على «لقادر» كاف كالوقف على «السرائر» إلا إذا جرينا على قول الرازي : إن «يوم» منصوب بقوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) فلا وقف على السرائر (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠) أي فما للإنسان شيء من قوة يدفع به عن نفسه ما جاء من عذاب الله ، ولا أحد من الأنصار ينصره في دفعه ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) أي ذات المطر بعد المطر حينا بعد حين ، (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) أي ذات النبات لأن الأرض تنصدع بالنبات كما قاله الليث. (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (١٣) أي إن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى سرائركم فيه لقول حق ، (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) أي ليس ذلك الخبر بالباطل وهذا كما قاله القفال ، لكن أكثر المفسرين قالوا : أي أن القرآن الذي أخبر بمبدأ حال الإنسان ومعاده لقول مبين ، حق ، وقاطع شر ، وليس في شيء منه لعب ، بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) (١٥) أي إن أهل مكة يمكرون في إبطال أمر القرآن وإطفاء نوره ، (وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) أي أقابلهم بكيد قوي لا يمكن رده حيث أمهلهم على كفرهم حتى آخذهم على غرة (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل يا أشرف الخلق بالدعاء عليهم بإهلاكهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) أي أمهلهم على مهلة قريبة إلى يوم القيامة أو أمهلهم إمهالا قليلا إلى يوم بدر فـ «رويدا» إما مصدر مؤكد لمعنى العامل ، أو نعت لمصدره المحذوف.


سورة الأعلى

مكية ، تسع عشرة آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وأربعة وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) أي نزه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة ، وعن إطلاقه على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيه ، فلا يجوز تفسير أسمائه تعالى بما لا يصح ثبوته في حقه تعالى نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان ، والاستواء بالاستقرار ، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار ، والاستواء بالاستيلاء ، ولا يجوز أن يذكر العبد ربه إلا بالأسماء التي ورد الإذن بها من الشرع قال الواحدي : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أي نزه الاسم من السوء ومعنى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) نزه الله تعالى بذكر اسمه الدال على تنزيهه تعالى وعلوه عما يقول المبطلون ، ومعنى الأعلى أن جلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلا من حمدنا وشكرنا ، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.

وقرأ علي ، وابن عمر «سبحان ربي الأعلى» (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) أي الذي خلق كل ذي روح فكمل خلقه باليدين ، والرجلين ، والعينين ، والأذنين ، وسائر الأعضاء ، (وَالَّذِي قَدَّرَ) قرأه الجمهور مشددا أي أوقع تقديره في كل شيء ، فقدر خلقه حسنا أو دميما ، طويلا أو قصيرا ، وقدر أرزاقهم وآجالهم ، وقرأه الكسائي على التخفيف أي تصرف في خلقه كيف أراد (فَهَدى) (٣) أي لمنافع الخلق ومصالحه فألهم كيف يأتي الذكر الأنثى ، ويروى أن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى أن تحك عينها بورق الرازيانج فيرد الله إليها بصرها ، ويروى أن التمساح لا يكون له دبر وإنما يخرج فضلات ما يأكله من فمه حيث قيض الله له طائرا قدر غذاءه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه ، وقد خلق الله تعالى له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) أي أنبت النبات والزروع ، وقال ابن عباس : أي الكلأ الأخضر (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته (غُثاءً أَحْوى) (٥) أي درينا أسود بأن ألصق السيل أجزاء كدورة به فيسود (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) أي نجعلك قارئا للقرآن فتقرؤه فلا تنسى أي إنّا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ القرآن حفظا لا تنساه. قال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى ، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي. فقال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سنعلمك


هذا القرآن حتى تحفظه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسى النبي شيئا من القرآن ، وهذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير النبي ناسيا لذلك لقدر عليه ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة الله حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله لا من قوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الزجاج : أي إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فلا ينسى ، نسيانا كليا دائما ، وقال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها ، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سببا لنسيانه وزواله من الصدور. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٧) أي أنه تعالى عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه‌السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه ، (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) أي نوفقك للطريقة اليسرى في كل أبواب من باب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية ، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) أي عظ يا أشرف الرسل الناس بالقرآن واهدهم إلى ما فيه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله إن نفعت الموعظة ، فالتذكير العام واجب في أول الأمر ، فأما التكرير فإنما يجب عند رجاء حصول المقصود ، فلهذا المعنى قيد التذكير بهذا الشرط وقيل «إن» بمعنى إذ كقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، [آل عمران : ١٣٩] (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠) وهو من قطع بصحة المعاد ، ومن جوز وجوده بخلاف من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون. قيل : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وقيل : نزلت في ابن أم مكتوم ، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١١) أي ويتباعد عن الموعظة بالقرآن الأشقى ، وهو المعاند الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغي إليها فالفرق ثلاثة : العارف بصحة المعاد ، والمتوقف فيه ، والمعاند. فالعارف هو السعيد ، والمتوقف له بعض الشقاء ، والمعاند هو الأشقى ، قيل : نزلت هذه الآية في الوليد ، وعتبة ، وأبي (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) أي الذي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار ، (ثُمَ) بعد دخوله النار (لا يَمُوتُ فِيها) حتى يستريح (وَلا يَحْيى) (١٣) حياة تنفعه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) أي تطهر من دنس الشرك ، كما قال ابن عباس أي من قال : لا إله إلا الله ، وقال الزجاج : أي من تكثر من التقوى ، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى) (١٥) فمراتب أعمال المكلف ثلاثة : إزالة العقائد الفاسدة عن القلب ، واستحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه ، والاشتغال بخدمته ، وقال بعضهم أي قد فاز من تصدق بصدقة الفطر قبل خروجه إلى المصلى ، وكبر الله تعالى ، ثم صلى صلاة العيد مع الإيمان فأثنى الله على من فعل ذلك ، وإن لم يكن في مكة عيد ولا زكاة فطر لأن ذلك في علم الله سيكون ، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) أي أنتم يا كفار مكة لا تفعلون ذلك ، بل أنتم ترضون اللذات الفانية وتطمئنون بها وتعرضون عن الآخرة بالكلية ، أو أنتم أيها المسلمون لا تكثرون من التقوى ، بل تستكثرون من الدنيا الدنية على الاستكثار من الثواب ، وقرأ أبو عمرو «يؤثرون» بالياء أي الأشقون ، (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) أي والحال أن الآخرة خير في نفسها وأدوم لأنها مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ولذاتها خالصة عن الغائلة (إِنَّ هذا) أي قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ) ، (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٨) أي لثابت معناه فيها (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩).


سورة الغاشية

مكية ، ست وعشرون آية ، اثنتان وتسعون كلمة ، ثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) أي خبر القيامة التي تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين بشدائدها ، و «هل» استفهام أريد به التعجب مما في ذلك الحديث ، والتشويق إلى استماعه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ غشيت (خاشِعَةٌ) (٢) أي ذليلة بالعذاب (عامِلَةٌ) أعمالا شاقة (ناصِبَةٌ) (٣) أي ذات تعب فيها ، وهي جر السلاسل ، والأغلال ، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل ، وصعودهم في تلال النار وهبوطهم في وهادها وهم الرهبان وأصحاب الصوامع كما قاله ابن عباس ، أو هم الخوارج كما قاله علي (تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٤) أي تدخل نارا متناهية في الحر.

وقرأ أبو عمرو ، وعاصم بضم التاء الفوقية وقوله تعالى : (وُجُوهٌ) مبتدأ و (خاشِعَةٌ) وما بعده خبره ، وقيل خبره «تصلى» وما قبله صفات لـ «وجوه» ولا يوقف قبل الخبر ، وقرئ «عاملة» ناصبة على الشتم (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) أي متناهية في الحر (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٦) وهو ما يبس من الشبرق وهو نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبا تأكل منه الإبل ، وإذا يبس صار كأظفار الهرة ، وهو سم قاتل ، وهذا طعام لبعض أهل النار ، والزقوم ، والغسلين لآخرين (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧) أي غير مسمن وغير مشبع لأنه ليس من جنس ضريع الدنيا. روي أن كفار قريش قالت : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت هذه الآية ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (٨) أي ذات حسن وجمال (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٩) أي لثواب عملها الذي عملته في الدنيا راضية حين رأت ذلك الثواب حتى لا تريد أكثر منه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (١٠) مكانا ومنقبة (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١). قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص بفتح التاء ونصب «لاغية» أي لا تسمع أنت يا أكرم الرسل ، أو يا مخاطب ، أو لا تسمع الوجوه في الجنة كلمة ذات لغو ، فإنما يتكلمون بالحكمة ، وحمد الله على النعم ، وقرأ نافع بضم التاء الفوقية ورفع «لاغية» ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضم الياء التحتية ورفع «لاغية» ، وقرأ المفضل ، والجحدري بفتح الياء التحتية ونصب «لاغية» أي لا يسمع فيها أحد يمينا لا برة ولا فاجرة (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) (١٢) أي في الجنة عين شراب جارية على


وجه الأرض في غير أخدود ، وتجري لهم كما أرادوا. (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) في الهواء لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم ، والملك. قال ابن عباس : هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء (وَأَكْوابٌ) أي كيزان (مَوْضُوعَةٌ) (١٤) بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب ، أو فضة ، أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها (وَنَمارِقُ) أي وسائد (مَصْفُوفَةٌ) (١٥) بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى (وَزَرابِيُ) أي بسط فاخرة (مَبْثُوثَةٌ) (١٦) أي منشورة مفرقة في المجالس ، فلما أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك قال كفار مكة : ائتنا بآية بأن الله أرسلك إلينا رسولا فقال الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) أي أينكر كفار مكة البعث ، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله فلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت بشدة قوتها ، وعجيب هيئتها ، وصبرها على الجوع ، والعطش ، واحتمال المداومة على السير ، (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٨) فوق الأرض بلا عماد ولا إمساك (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) نصبا رضيا على الأرض لا يتزلزل (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) أي بسطت على الماء.

وقرئ «سطحت» مشددا ، وقرأ علي رضي‌الله‌عنه وكرم وجهه «خلقت» و «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» على البناء للفاعل وبتاء المتكلم ، (فَذَكِّرْ) أي فاقتصر على التذكير والحمل على النظر في هذه الأدلة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٢١) فلا بأس عليك في أن لا ينظروا بالاعتبار ولا يتذكروا بالافتكار إنما عليك البلاغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) أي لست يا أشرف الخلق بمتسلط عليهم بأن تجبرهم على الإيمان ، وقرأ هشام بالسين ، وحمزة بإشمام الصاد كالزاي ، والباقون بالصاد الخالصة ، وقرئ بفتح الطاء (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) (٢٣) ، وفي هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : إنه استثناء حقيقي وفي هذا احتمالان : إما أن يكون مستثنى من المفعول أي فذكر عبادي إلا من أعرض عن الإيمان وكفر بالقرآن فاستحق العذاب الأكبر ، وإما أن يكون مستثنى من الضمير في «عليهم» أي لست عليهم بمسيطر إلا على من انقطع طمعك من إيمانه وتولى عنك وكفر بالله ، فإن لله القهر ، وسيأمرك بقتالهم ، فإن جهاد الكفار وقتلهم تسليط ، فكأنه تعالى أوعدهم بالجهاد في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة.

ثانيهما : إن هذا الاستثناء منقطع عما قبله والتقدير لست بمستول عليهم ، لكن من تولى منهم فإن الله تعالى يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم ، وعلامة كون الاستثناء منقطعا حسن دخول «أن» في المستثنى به وإذا كان الاستثناء متصلا لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول : عندي مائتان إلا درهما ، فلا يحسن عليه دخول أن ، وهاهنا يحسن دخول أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر ، (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤) وسمي العذاب بالأكبر لأنه قد بلغ حد عذاب


الكفر ، فإن ما عداه من عذاب الفسق دونه ، وقرئ «ألا من تولى» بفتح الهمزة على التنبيه ، وهذا مما يقوي القول بأن الاستثناء منقطع ، وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه الله». (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) (٢٥) أي رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الياء ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) في المحشر على النقير والقمطير لا على غيرنا ، والحساب واجب عليه تعالى بحكم الوعد الذي يمتنع الخلف فيه ، وفي الحكمة فإنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم تعالى الله تعالى عنه ، وذكر تعالى هذه الآية ليزيل بها عن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزنه على كفرهم.


سورة الفجر

مكية ، تسع وعشرون آية ، مائة وتسع وثلاثون كلمة ، خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْفَجْرِ) (١) وهو صبح النهار أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق ، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل ، (وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) من أول ذي الحجة وفي الخبر : «ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر»(١) ، وذلك لأنها أيام الاشتغال بالحج في الجملة ، وقرئ و «ليال عشر» بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام ، (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) فالشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسرهما بيوم النحر ، ويوم عرفة ، وقال أبو بكر الوراق «الشفع» صفات الخلق كالعلم والجهل ، والقدرة ، والعجز ، والبصر ، والعمى ، والحياة ، والموت ، والوتر صفات الله تعالى وهي وجود بلا عدم ، حياة بلا موت ، علم بلا جهل ، قدرة بلا عجز ، عز بلا ذل ، وقال مقاتل : «الشفع» : هو الليالي والأيام ، و «الوتر» هو اليوم الذي لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة ، وقرأ حمزة والكسائي «والوتر» بكسر الواو ، والباقون بفتحها ، والكسر قراءة الحسن ، والأعمش ، وابن عباس ، وهي لغة تميم ، والفتح قراءة أهل المدينة ، وهي لغة حجازية ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) أي يذهب وهي ليلة المزدلفة ، فإنه يذهب ويجيء فيه الناس ، وقال مقاتل : أي إذا يسار في ذلك الليل وهي ليلة المزدلفة ، وقرأ نافع : وأبو عمرو بحذف ياء يسر وقفا وبإثباتها وصلا ، وأثبتها ابن كثير في الحالين ، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم ، وقرئ «يسر» بالتنوين كما قرئ به «والفجر» «والوتر» وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) أي هل في هذه الأشياء المذكورة مقسم به لذي عقل ، والمراد من هذا الاستفهام التأكيد والتحقيق والمعنى : أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى بهذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية ، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه ، وجواب القسم محذوف لدلالة المعنى عليه أي لنجازين كل أحد بما عمل بدليل تعديد ما فعل بالقرون الخالية ، فالوقف هنا تام

__________________

(١) رواه القرطبي في التفسير (٢٠ : ٨٨).


كما قاله أبو حاتم وغيره ، وقال ابن الأنباري : جواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي وإنما أجازوا الوقف هنا لطول الكلام ، لكن ينبغي حينئذ أن يقال وقف صالح أو نحوه لا تام للفصل بين القسم وجوابه (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق علما يقينا كيف أهلك الله قوم هود عند التكذيب (إِرَمَ) عطف بيان لـ «عاد» للإعلام بأنهم عاد الأولى القديمة إن جعلنا إرم اسما للقبيلة بتقدير مضاف أي سبط إرم فإرم جد عاد فإن عادا هو ابن عوص بن إرم ابن سام بن نوح عليه‌السلام وإن جعلناه اسم البلدة كان التقدير بعاد أهل إرم ويدل عليه قراءة ابن الزبير «بعاد إرم» على الإضافة وقرأ الحسن «بعاد إرم» مفتوحتين (ذاتِ الْعِمادِ) (٧) أي ذات الأساطين من ذهب وفضة أي ذات القدود الطوال (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها) أي مثل تلك المدينة في الحسن ، والجمال ، أو مثل عاد في عظم الجثة وشدة القوة (فِي الْبِلادِ) (٨) أي في جميع بلاد الدنيا.

وقرأ ابن الزبير و «لم يخلق مثلها» بالبناء للفاعل أي لم يخلق الله مثل إرم مدينة شداد. روي أنه كان لعاد ابنان شداد ، وشديد فملكا بعده وقهرا البلاد والعباد ، ثم مات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له الدنيا ، وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى فبنى مدينة إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب ، والفضة ، وأساطينها من الزبرجد ، والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب المدينة ، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح الباب ودخل ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت ، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فلما عاين ذلك ، ولم ير أحدا هاله ذلك ، ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة ، فقال الرجل في نفسه : هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها ، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى ، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه وقال له : يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال : نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد ابن عاد ، قال : فحدثني حديثها ، فقال : لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف


من الأعوان ، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صخرة نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا : هذه الأرض التي أمر الملك أن يبني فيها ، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال : انطلقوا فاجعلوا حصنا أي سوار واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ، ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ، ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ، ولم يبق منهم أحد ، ثم قال كعب : وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة ، فقال : هذا والله هو ذلك الرجل ، (وَثَمُودَ) أي وكيف أهلك الله قوم صالح ، وثمود قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس ، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك يعبدون الأصنام كعاد (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (٩) أي الذين نقبوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتا بوادي القرى ، وهو موضع بقرب المدينة قيل : هم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس ويشهدهم بأربعة أوتاد مطروحين على الأرض إلى أن يموتوا ، وقيل : لكثرة جنوده وخيامهم التي ينصبونها في منازلهم ، وقال ابن عباس أي ذي الجنود والعساكر التي تشد ملكه (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (١١) والموصول منصوب على الذم أو مرفوع كذلك أي الذين تجبر كل واحد من عاد ، وثمود ، وفرعون في بلادهم على أنبياء الله والمؤمنين (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) بالقتل وعبادة الأوثان وسائر المعاصي (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (١٣) أي فأنزل الله إنزالا شديدا عقب طغيانهم وفسادهم على كل طائفة من أولئك الطوائف جزء عذاب فأهلك عادا بالريح ، وثمود بالصيحة ، وفرعون بالغرق ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أنزله الله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به (إِنَّ رَبَّكَ) يا أشرف الخلق (لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) أي لفي الطريق عليه تعالى ممر سائر الخلق كما قاله ابن عباس أو إن إليه المصير كما قاله الفراء وهذا عام للمؤمنين والكافرين (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي إذا امتحنه ربه بالنعمة (فَأَكْرَمَهُ) بالمال والجاه والولد (وَنَعَّمَهُ) أي وسع عليه معيشته (فَيَقُولُ رَبِّي) أي فضلني بما أعطاني (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) أي وأما هو إذا اختبره ربه بالفقر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي فضيق عليه معيشته (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦) قوله تعالى : فأما الإنسان متصل من حيث المعنى بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فكأنه قيل : إن


الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة التي تنفعه في الآخرة ، فإنه يراقب أحواله ويجازيه بأعماله خيرا وشرا في الآخرة ، فأما الإنسان فلا يريد إلا الدنيا ولذاتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول : ربي أكرمني ، وإن لم يجدها يقول : ربي أهانني وأما هنا لمجرد التأكيد لا لتفصيل المجمل مع التأكيد ، و «الإنسان» مبتدأ خبره «فيقول» والظرف وهو «إذا» منصوب بالخبر لأن الظرف في نية التأخير ودخول الفاء في الخبر لما في أما من معنى الشرط ، وما زائدة ، والفاء في قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ) تفسيرية ، والوقف في «أكرمن» مفهوم وفي «أهانن» حسن. وقال أبو عمرو والوقف فيهما كاف ، وقيل : تام ، وقال الكلبي : إن المراد من الإنسان أبي بن خلف ، وقال مقاتل ، وابن جرير : نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وروي عن ابن عباس أن المراد بالإنسان عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، وقيل : إنه كافر جاحد ليوم الجزاء.

وقرأ نافع «أكرمن» و «أهانن» بإثبات الياء فيهما وصلا وحذفها وقفا ، وقرأهما البزي عن ابن كثير بإثباتها في الحالين ، وعن أبي عمرو : إن الحذف في الوصل أعدل ، والباقون بالحذف في الحالين ، وقرأ ابن عامر «فقدر عليه رزقه» بتشديد الدال أي جعله على مقدار البلغة (كَلَّا) رد على من ظن ذلك المذكور ، والمعنى : ليس إكرامي بالمال والغنى ، بالفقر ، وقلة المال ، ولكن إكرامي بالمعرفة والتوفيق وإهانتي بالنكرة والخذلان ، والوقف هنا حسن وهو أحسن من الوقف على «أهانن» ، (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧) أي قل يا محمد لهم : بل لكم أحوال أشد شرا من ذلك القول ، وهو أن الله تعالى يكرمكم بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه ، فإنكم لا تحسنون إلى اليتيم ولا تعرفون حقه ، (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١٨) بحذف إحدى التاءين ، وهو قراءة الكوفيين أي لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين ، وقرئ «ولا تحضوا» أي لا تأمرون بإطعامه ، وفي قراءة ابن مسعود «ولا تحاضون» بضم التاء أي لا يحض كل واحد منكم صاحبه ، وهذا إشارة إلى ترك بر اليتيم. (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (١٩) أي وتأكلون تراث اليتامى أكلا جامعا فإنكم تجمعون نصيبهم إلى نصيبكم ، وهذا إشارة إلى دفع اليتيم عن حقه الثابت له في الميراث ، وأكل ماله. (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠) أي كثيرا وهذا إشارة إلى أخذ مال اليتيم منه ، وقرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء التحتية (كَلَّا) أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا حتى (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٢١) أي إذا انكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل ، وشجر ، وبناء حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء حتى صارت ملساء ، (وَجاءَ رَبُّكَ) أي جاء ظهوره وقهره أي حصل تجليه تعالى على الخلائق أي زالت الشبهة ، وارتفعت الشكوك وظهر سلطان قهره ، (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢٢) أي وتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب مراتبهم محدقين بالجن والإنس فيكونون سبعة صفوف ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها إلى


المحشر ويكشف عنها حتى رآها الخلق ، وعلم الكافر أن مصيره إليها (يَوْمَئِذٍ) بدل من «إذا دكت». (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ما فرط فيه ويتعظ الكافر ، فيقول : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ، وهذا جواب «إذا» ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (٢٣) أي ومن أين له العظة وقد فاته أوانها (يَقُولُ) أي الإنسان الكافر (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢٤) فيا للتنبيه أي ليتني قدمت عملا يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء ، (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يقول الإنسان ذلك (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) (٢٥) أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل تعذيب الكافر ، (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) أي ولا يوثق أحد من الزبانية بالسلاسل والأغلال مثل إيثاق الكافر لتناهيه في كفره وفساده.

وقرأ الكسائي «لا يعذب ولا يوثق» بفتح الذال والثاء أي لا يعذب أحد مثل عذاب الكافر ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاق الكافر. (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٢٧) بذكر الله وطاعته ، وقرأ أبي بن كعب «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» وهي التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع البشارة من الملائكة وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة بلا شك أي يقول الله للمؤمن إكراما له أو على لسان ملك يا أيتها النفس المطمئنة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى ثواب ربك (راضِيَةً) بما أوتيت من النعيم المقيم (مَرْضِيَّةً) (٢٨) عند الله عزوجل في الأعمال التي عملتها في الدنيا ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (٢٩) أي في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي ، (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) معهم ، وقرئ «فادخلي في عبدي» وقرئ في «جسد عبدي» وهذا يؤيد كون الخطاب عند البعث. قيل : نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب ، وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة ، وقيل نزلت في خبيب بن عبد الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.


سورة البلد

مكية ، هي عشرون آية ، اثنتان وثمانون كلمة ، ثلاثمائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا) قال الأخفش هي مزيدة (أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١) وهو مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) أي أنت نازل في هذا البلد ، أو أنت في حل مما صنعت في هذا البلد ، فإن الله فتح مكة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فتحت على أحد قبله ، ولا أحلت له فأحل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ما شاء وحرم ما شاء. قتل عبد الله بن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ، ثم قال : إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الإذخر (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣) فالوالد آدم وما ولد بنوه ، وقيل كل والد وولده (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) أي في اعتدال القامة ، أو في تعب فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها ، وما وراءه ، وليس في هذه الدنيا لذة ألبتة فالذي يظن الإنسان أنه لذة فهو خلاص عن الألم ، وما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عن ألم الجوع ، وما يتخيل من اللذة عند اللبس ، فهو خلاص عن ألم الحر والبرد ، فليس للإنسان إلا ألم ، أو خلاص عن ألم ، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار اللذات والسعادات والكرامات (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (٥) أي أيحسب الإنسان بقوته أنه لن يقدر على بعثه ومجازاته ، أو على تغيير أحواله أحد وهو الله تعالى (يَقُولُ) أي الإنسان كلدة بن أسيد أو الوليد بن المغيرة (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) (٦) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم ينفعني ذلك شيئا.

وقرأ أبو جعفر بتشديد الباء مفتوحة ، وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا ، والباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا ، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧) أي أيحسب هذا الإنسان أنه لم يره أحد ، وهو الله تعالى حين كان ينفق وأنه تعالى لا يسأله عن إنفاقه ولا يجازيه


عليه. (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (٨) ينظر بهما (وَلِساناً) ينطق به (وَشَفَتَيْنِ) (٩) يستر بهما فاه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) أي بيّنا له الطريقين : طريق الخير ، والشر ، أو دللناه على الثديين لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه ، فإن الله تعالى هدى الطفل الصغير إلى الثديين حتى ارتضعهما (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) أي فهلا تلبس من أنفق ماله بمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، أو فلم يشكر تلك النعم الجليلة بتحصيل الأعمال الصالحة ، (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (١٢) أي أي شيء أعلمك ما الدخول في صعاب الطريق (فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) أي هي إعتاق رقبة ، أو إعطاء مكاتب ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه ، أو تخليص شخص من قود ، أو غرم ، أو فك المرء رقبة نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات التي يصير بها إلى الجنة ويتخلص بها من النار ، فهذه هي الحرية الكبرى (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) أي مجاعة (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) أي ذا قرابة (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) أي ذا افتقار كأنه لصق بالتراب من ضره ، فليس فوقه ما يستره ، ولا تحته ما يفرشه.

قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بصيغة المصدر في «فك» و «إطعام» وهو خبر مبتدأ محذوف ، والباقون بصيغة الفعل فيهما على الإبدال من «اقتحم» المنفي بلا كأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم فلا مكررة في المعنى ، فلا يقال : إن لا لا تدخل على الماضي إلا مكررة ، (ثُمَّ كانَ) أي مكتسب الطاعات داخل الأمور الصعاب (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الطاعات وعلى المرازي ، (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (١٧) أي بالرحمة على عباده فقوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين فإن الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك الصفة (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨) أي الجانب الذي فيه البركة والنجاة من كل هلكة ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) (١٩) أي الخصلة المكسبة للحرمان (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) أي مطبقة فلا يخرجون منها أبدا. قرأ أبو عمرو ، وحفص ، وحمزة بالهمزة ، والباقون بواو ساكنة.


سورة الشمس

مكية ، خمس عشرة آية ، أربع وخمسون كلمة ، مائتان وسبعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) أي ضوئها إذا ارتفعت وقام سلطانها ، (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) أي تبع الشمس بأن طلع بعد غروبها وذلك في النصف الأول من الشهر ، (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) أي إذا أظهر الشمس فإنها تنكشف عند انبساط النهار فكأنه أظهرها مع أنها هي التي تبسطه ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) أي يغطي ضوء الشمس بظلمته (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) أي والذي خلقها وهو الله تعالى أقسم بنفسه ، (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) أي بسطها على الماء ، (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (٧) أي وجسد كثير والذي أنشأها متناسبة الأعضاء ، أو وقوة مدبرة ، والذي أعطاها قوى كثيرة كالقوة السامعة ، والباصرة ، والمفكرة ، والمذكرة (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) أي أفهمها حالاهما من الحسن والقبيح ، وقيل : ألهم الله الكافر فجوره ، وألهم المؤمن المتقي تقواه. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) أي قد أدرك من طهر نفسه من الذنوب مطلوبه بفعل الطاعة ومجانية المعصية ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) أي وقد خسر من أخفى نفسه في المعاصي حتى انغمس فيها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) أي فعلت ثمود تكذيب الرسول بسبب مجاوزتها الحد في العصيان ، أو كذبت ثمود بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به العذاب فالطغوى على هذا اسم للعذاب الذي أهلكوا به (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) أي حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ومصدع بن دهو لعقر الناقة برضاهم ، (فَقالَ لَهُمْ) أي لثمود (رَسُولُ اللهِ) صالح لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقر الناقة (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (١٣) أي ذروا عقر الناقة التي هي آية الله الدالة على توحيده وعلى نبوتي واحذروا شربها فلا تمنعوها عنه في نوبتها ، (فَكَذَّبُوهُ) أي رسول الله صالحا في وعيده بالعذاب ، (فَعَقَرُوها) قال الفراء : عقر الناقة اثنان ، وقال قتادة : ذكر لنا إن قدار أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم ، (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي أهلكهم ربهم (بِذَنْبِهِمْ) أي بسبب قتلهم الناقة وتكذيبهم صالحا عليه‌السلام ، (فَسَوَّاها) (١٤) أي سوى هذه الطائفة في إنزال العذاب بهم صغيرهم ، وكبيرهم ، ووضيعهم ، وشريفهم ، وذكرهم ، وأنثاهم.

وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين ، (وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) أي ولا يخاف الله عاقبة


هذه الفعلة كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله ، وهذه إشارة إلى أنهم أذلاء عند الله تعالى ، وقيل : لا يخاف رسول الله صالح عقبى هذه العقوبة ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم ، وقيل : قام الأشقى لعقر الناقة والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء أي فهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه ، ففعل مع هذا الخوف الشديد فعل من لا يخاف ألبتة فنسب في ذلك إلى الحمق. وقرأ نافع ، وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء ، والباقون بالواو ، وهي للحال ، أو للاستئناف الإخباري ، وقرئ «ولم يخف» وهو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


سورة والليل

مكية ، إحدى وعشرون آية ، إحدى وسبعون كلمة ، ثلاثمائة وعشرون حرفا ،

قال القفال رحمه‌الله : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين

وفي أمية ابن خلف وبخله وكفره بالله ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) أي حين يغشى الشمس (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) أي ظهر بزوال ظلمة الليل (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) أي والذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل ما له توالد. قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذكر والأنثى» ، وقرأ ابن مسعود «والذي خلق الذكر والأنثى» ، وعن الكسائي «وما خلق الذكر» بالجر والمعنى : وما خلقه الله تعالى أي ومخلوق الله ، ثم يجعل الذكر بدلا منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) أي أن عملكم لمختلف في الجزاء لأن بعضه ضلال يوجب النيران وبعضه هدى يوجب الجنان ، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) أي فأما من أعطى من ماله في سبيل الله واجتنب المحارم وصدق بالشرائع فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى راحة ، كدخول الجنة ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) أي وأما من بخل بماله فلم يبذله في سبيل الخير واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وكذب بعدة الله من الخلف الحسن ، فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى الشدة كدخول النار ، (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١) أي ولا ينفعه ماله الذي جمعه في الدنيا إذا مات ، أو أي شيء ينفعه ماله الذي بخل به ، ولم يصحبه معه إلى آخرته إذا سقط في حفرة قبر أو في جهنم. (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذ خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد فقد فعلنا ما كان فعله واجبا علينا في الحكمة ، (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١٣) أي إن لنا ملك الدارين نعطي من نشاء ما نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق فليطلب سعادتهما منا (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي خوفتكم يا أهل مكة (ناراً تَلَظَّى) (١٤) أي تتوقد.

وقرئ شاذا بالتاءين (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١٦) أي لا يدخلها دخولا لازما مؤبدا إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله ، وأعرض عن طاعة الله. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أمية بن خلف ، وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله (وَسَيُجَنَّبُهَا


الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) أي وسيبعد عنها المبالغ في اتقاء المعاصي الذي يعطي ماله ويصرفه في وجوه الحسنات طالبا أن يكون ناميا عند الله تعالى لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ، وروى الضحاك عن ابن عباس : عذب المشركون بلال بن رباح واسم أمه حمامة ، وبلال يقول : أحد أحد ، فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أحد ينجيك» ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله» (١) فعرف أبو بكر ما يريده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا قال : نعم ، فاشتراه ، فأعتقه ، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله تعالى قوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) أي الأتقى (مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢٠) أي لم يفعل أبو بكر ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده ، لكن فعله ابتغاء وجه الله تعالى.

وقرأ يحيى بن وثاب برفع «الابتغاء» على البدل من محل «نعمة» ، فإنه رفع إما على الفاعلية ، أو على الابتداء و «من» مزيدة ، ويجوز أن يكون مفعولا له لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة ، (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) أي ما أنفق أبو بكر إلا لطلب رضوان الله ، وبالله لسوف يرضى الله عنه ، ولم يكن للنبي ولا لغيره عليه نعمة دنيوية ، بل كان أبو بكر هو الذي ينفق على رسول الله ، وإنما كان للنبي عليه نعمة الهداية إلى الدين إلا أن هذه نعمة لا يجزى الإنسان بها قال ابن الزبير : كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم ، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تشتري من يمنع ظهرك ، فقال : منع ظهري أريد ، فأنزل الله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلى آخر السورة ، وقرئ «يرضى» مبنيا للمفعول.

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٦١) ، والقرطبي في التفسير (٢٠ : ٩٣) وفيه : «في بيت رسول الله».


سورة الضحى

مكية ، إحدى عشرة آية ، أربعون كلمة ، مائة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالضُّحى) (١) وهو أول النهار حين ترفع الشمس وتلقي شعاعها وتخصيصه بالإقسام به لأنه الساعة التي كلم الله موسى فيها ، وألقي السحرة فيها سجدا (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (٢) أي أظلم واسود ، ونقل عن قتادة ، ومقاتل ، وجعفر الصادق أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه‌السلام ، وبالليل ليلة المعراج ، وقيل : إنما ذكر ساعة من النهار ، وذكر الليل بكليته لأن النهار وقت السرور ، والراحة ، والليل وقت الوحشة ، والغم ، فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها ، فإن الضحى ساعة والليل ساعات (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي ما قطعك ربك قطع المودع ، والمفارق.

وقرأ عروة بن الزبير ، وابنه هشام ، وابن أبي عبلة بتخفيف الدال أي ما تركك ربك يا أشرف الرسل منذ أوحى إليك تركا تحصل به فرقة كفرقة المودع (وَما قَلى) (٣) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. روى البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلتين أو ثلاثا ، فجاءت أم جمل امرأة أبي لهب فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فنزلت هذه الآية ، وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير ، فمات فمكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل عليه‌السلام لا يأتيني» (١). قالت خولة : فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد لحياه ، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة ، فقال : «يا خولة دثريني» (٢). فأنزل الله تعالى هذه السورة ولما نزل جبريل عليه‌السلام سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التأخر فقال : أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ، وروي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لزجره سائلا ملحا ، فقال

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٦١) ، والقرطبي في التفسير (٢ : ٩٣).

(٢) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (١٦٢٥٣) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٩٩).


المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ، وروي أن سبب احتباس جبريل عليه‌السلام لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٤) أي وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيد كل يوم عزا إلى عز ، ومنصبا إلى منصب ، فيقول : لا تظن أني قليتك ، بل إني أزيدك منصبا وجلالا ، ثم إن هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم ، أو وللآخرة خير لك من الدنيا لأن الكفار في الدنيا يطعنون فيك ، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم ، وأجعلك شهيدا على الأنبياء ، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٨ ، ٢٩] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من خيرات الدنيا والآخرة (فَتَرْضى) (٥).

روي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة كما يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال : إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، وعن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه أنه قال : رضي جدي أن لا يدخل النار موحد ،وهذا أيضا وعده تعالى رسوله على أحوال الدنيا ، فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ، ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة ، والنضير وإجلائهم وبث عساكره في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، وما هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وما وهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب ، وتهيب الإسلام وفشو الدعوة (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (٦) بمد الهمزة أي ضمك إلى من يكفلك ، وقرأ أبو الأشهب «فأوى» ثلاثيا أي فرحمك ، روي أن عبد الله بن عبد المطلب توفي وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر ، ثم ولد رسول الله فكان مع عبد المطلب ، ومع أمه آمنة ، فماتت وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم مات بعد آمنة بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين ، وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به فكان هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة ، فقام بنصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم توفي أبو طالب فذكره الله هذه النعمة روي أن أبا طالب قال يوما لأخيه العباس : ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه ، فقال : بلى ، فقال : إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحدا حتى إني كنت أنومه في فراشي ، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه ، لكنه كره أن يخالفني ، وقال : «يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» ، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه في الفراش إذ بيني وبينه ثوب في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك ، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكنت أفتقده من فراشي مرارا فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت أسمع منه مرارا كلاما يعجبني ، وذلك عند مضي بعض الليل وكان يقول في أول الطعام : «باسم الله الأحد» ، فإذا فرغ من طعامه قال : «الحمد لله» ، فتعجبت


منه ، ثم لم أر منه كذبة ، ولا ضحكا ، ولا جاهلية ، ولا وقف مع صبيان يلعبون (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) أي وجدك خاليا من الشريعة فهداك بإنزالها إليك ، وقيل : وجدك ضالا عن عبد المطلب فردك إليه ، كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضللت عن جدي عبد المطلب ، وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني ، فهداني الله» وروي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي فتعلق عبد المطلب بأستار الكعبة وقال :

اردده رب واصطنع عندي يداً

 

يا رب رد ولدي محمدا

فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد بين يديه ، وهو يقول : لا تدري ماذا ترى من ابنك ، فقال عبد المطلب ولم قال : إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة ، وكانت تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي ، وقال ابن عباس : رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ، (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا كما روي أن في مصحف عبد الله «ووجدك عديما» ، وقرأ اليماني «عيلا» بكسر الياء المشددة كسيد ، (فَأَغْنى) (٨) أي أغناك بالقناعة ، فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك ، وقيل أغناك بمال أبي بكر وبهيبة عمر. روي أن عمر قال حين أسلم والأصحاب كانوا يعبدون الله سرّا : يا رسول الله ابرز أنعبد نحن اللات جهرا ونعبد الله سرا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى تكثر الأصحاب» فقال : حسبك الله وأنا ، فقال تعالى : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] وقيل أغناه الله تعالى بتربية أبي طالب ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة ، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة ، وأغناه بإعانة الأنصار ، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) أي لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما كما قاله مجاهد ، أو فلا تغلبه على ماله ، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس وجهك إليه ، وروي أن هذه الآية نزلت حين صاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولد خديجة وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسة في الوجه ، فكيف إذا أذل التيم أو أكل ماله؟ وروي أن موسى عليه‌السلام قال : إلهي بما نلت ما نلت قال الله تعالى : «أتذكر حيث هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك ، ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك وليا على الخلق ، فلما نال موسى عليه‌السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم ، (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) أي لا تغلظ له القول ، بل رده ردا لينا برفق والمراد من السائل. مطلق السائل. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جالسا فجاء عثمان بتمر فوضعه بين يديه ، فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال : رحم الله عبدا يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل وكان النبي يعطيه ففعل


ذلك ثلاث مرات ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسائل أنت أم بائع فنزل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) واختار الحسن أن المراد من السائل من يسأل العلم ، وروى الزمخشري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» (١) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) قال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن فالتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره ، وروي عنه أيضا أن تلك النعمة هي النبوة أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وروي عن الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما أنه قال : إذا عملت خيرا فحدث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء ، وظن أن غيره يقتدي به ،وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآه رث الثياب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألك مال» قال :نعم ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(٢).

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان ١٤٧ ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٣٣) ، والحاكم في المستدرك (١ : ٢٦) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢٤) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٢ : ٢١٣) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥١٠٨) ، والبغوي في شرح السنة (١٣ : ١٦٥) ، وابن حجر في المطالب العالية (٢١٧٠) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦ : ٤٩٨) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (١٧١٦٥) ، والسيوطي في مجمع الجوامع (٤٧٧٧) ، والقرطبي في التفسير (١ : ٦٩٦) ، والألباني في السلسلة الصحيحة (١ : ٢١١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٧٩) ، والعراقي في المغني عن محل الأسفار (٤ : ٢٩٠) ، والشجري في الأمالي (٢ : ٢١٧) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣ : ٥٦٧).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٨٨٧).


سورة ألم نشرح

مكية ، ثمان آيات ، وتسع وعشرون كلمة ، ومائة وثلاثة أحرف

بسم الله الرحمن الرحيم

يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز كانا يقولان : هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة ، وكان يقرءانهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الجمل : ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٣] إلخ أتبعه بما هو كالتتمة له وهو شرح الصدور فقال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) قال في نور المقياس : وهذا معطوف على قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨] أي ألم نشرح لك يا أشرف الرسل قلبك للإسلام ، ويقال ألم نوسع قلبك للنبوة ، وقال الرازي : استفهم الله عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل شرحنا لك صدرك أي بالنبوة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق. روي أن جبريل عليه‌السلام أتاه وهو عند مرضعته حليمة وهو ابن أربع سنين فشق صدره وأخرج قلبه وغسله ونقاه ، ثم ملأه علما وإيمانا ، ثم رده في صدره وشق أيضا عند بلوغه عشر سنين وعند البعثة وليلة الإسراء فمرات الشق أربع على الصحيح ، وإنما ذكر الصدر لأنه محل الوسوسة ، قال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذي يقصده الشيطان فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكا نزل فيه هو وجنده وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة ، وإذا طرد العدو في الابتداء حتى لم يجد مسلكا حصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية ، وإنما قال الله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه تعالى قال : إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٣) أي خففنا عنك أعباء النبوة التي تثقل ظهرك من القيام بأمرها والمحافظة على حقوقها بأن يسرها الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تيسرت له ، وقيل عصمناك عن الوزر الذي يثقل ظهرك ، وقيل : لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزرا عظيما ، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر فلذلك قال تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤) أي رفع ذكره حيث قرن اسمه باسم الله تعالى في


كلمة الشهادة والأذان والإقامة ، وجعل طاعته من طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته ، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمي رسول الله ، ونبي الله ولو أن رجلا عبد الله تعالى وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) فـ «أل» في «العسر» الأول للعهد الحضوري وفي الثاني للعهد الذكري فالعسر واحد وهو العسر الذي كانوا فيه ، فهو هو وتنكير «يسرا» للتفخيم كأنه قيل : إن مع العسر يسرا عظيما ويسرا كاملا فتناول يسر الدارين ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه لن يغلب عسر يسرين» فقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر ، وفي مصحف ابن مسعود جملة واحدة مرة واحدة قال الرازي : والمراد من اليسرين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يغلب عسر يسرين» يسر الدنيا ويسر الآخرة وهما استفتاح البلاد ، وثواب الجنة وهذه الآية تثبيت لما قبلها ، ووعد كريم بتيسير كل عسير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين كأنه قيل خولناك ما خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله تعالى ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيرا ، (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (٧) أي فإذا فرغت من عبادة فأتبعها بعبادة أخرى بأن تواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا تخلي وقتا من أوقاتك منها. قال قتادة والضحاك ومقاتل : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فاتعب في الدعاء وارغب إلى ربك في المسألة يعطك ، وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وقال مجاهد : إذا فرغت من أمر دنياك فاتعب وصل ، وقال عبد الله بن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فاتعب في قيام الليل ، وقال ابن حبان عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فاتعب واستغفر لذنبك وللمؤمنين ، وقال علي بن أبي طلحة : إذا كنت صحيحا فاجعل فراغك تعبا في العبادة ، قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : إني أكره أن أرى أحدكم فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة ، (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) أي إلى ربك فارفع حوائجك واجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه ، وقرئ «فرغب» أي رغب الناس إلى طلب ما عنده تعالى.


سورة التين

مكية ، ثمان آيات ، أربع وثلاثون كلمة ، مائة وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) هما ثمران معلومات أقسم الله بهما لما فيهما من المصالح والمنافع ، فإن التين فاكهة طيبة لا عجم له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم ، ويسمن البدن ، ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويقطع البواسير والزيتون فاكهة وآدام ودواء ، وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب أهل الكهف ، والزيتون مسجد إيليا ، وعن ابن عباس : التين مسجد نوح المبني على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقال الضحاك : التين المسجد الحرام ، والزيتون المسجد الأقصى ، وعن الربيع : هما جبلان بين همذان وحلوان ، وقال كعب : التين دمشق والزيتون بيت المقدس ، وقال شهر بن حوشب : التين الكوفة والزيتون الشام ، (وَطُورِ سِينِينَ) (٢) وهو جبل ثبير وهو جبل بمدين الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) وهو مكة فهو أمين من أن يهاج فيه على من دخل فيه. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) أي كائنا في أحسن ما يكون من تعديل صوره ومعنى فإنه تعالى خلقه مستوي القامة متناسب الأعضاء متصفا بأكمل عقل ، وفهم ، وعلم ، وأدب إذا تكامل شبابه ، (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (٥) أي حال كونه أسفل سافلين أي حيث لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله ، فلا يكتب له وقتئذ حسنة أو رددناه مكانا أسفل سافلين ، وهو النار ، وقرأ عبد الله أسفل «السافلين» معرفا ، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والصغار فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٦) وهذا الاستثناء على القول الأول منقطع ، والمعنى : ثم رددناه أسفل ممن سفل بعد ذلك التحسين في أحسن الصورة حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره وضعف بصره ، وسمعه ، ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم أو فلهم أجر غير ممنون به عليهم ، أما على القول الثاني فهو متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع


والمعنى : ثم رددناه أسفل ممن سفل أي أقبح من كل قبيح صورة وأسفل من كل سافل من أهل الدركات ، وهم أهل النار إلا الذين كانوا صالحين فلا نردهم أسفل سافلين.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧) و «ما» اسم استفهام على وجه الإنكار والتعجب والخطاب للإنسان على طريقة الالتفات أي فما الذي يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث بعد ظهور هذه الدلالة الناطقة بالجزاء ، أي فإن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشرا سويا وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء فمن شاهد تلك الحالة ، ثم بقي مصرا على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه وقيل الخطاب للرسول ، و «ما» إما اسم استفهام أو بمعنى من أي ، فأي شيء يجعلك كاذبا بسبب إنكار الكافر الحساب بعد هذه الدلائل ، أو فمن يكذبك بالحساب يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) يحكم على الكفار بما يستحقونه من العذاب ، أو أليس الذي فعل ما ذكر بأتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء ، فإن عدم إمكانهما يقدح في القدرة وعدم وقوعهما يقدح في الحكمة ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) [ص : ٢٧] وفي الحديث : «من قرأ والتين إلى آخرها فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» أي سواء كان في الصلاة أو خارجها.

__________________

(١) رواه مسلم صفات المنافقين (٣٨) ، وابن حجر في فتح الباري (٨ : ٧٢٤) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٧٠) ، وابن كثير في البداية والنهاية (٣ : ٤٤) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٨٥٦) ، والبغوي في شرح السنة (٧ : ٢٧٠) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة (٢ : ١٨٩) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٤٦١).


سورة العلق

وتسمى سورة القلم ، وسورة اقرأ ، مكية ، تسع عشرة

آية ، اثنتان وسبعون كلمة ، مائتان وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله ، ثم اقرأ القرآن (الَّذِي خَلَقَ) (١) كل شيء (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢) أي من دم جامد (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٣) أي امض لما أمرت به ، والحال أن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٤) أي علم الإنسان الخط بالقلم ، وعلم ينصب مفعولين وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى ولولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش. روى عبد الله ابن عمرو قال : «قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك من الحديث قال : «نعم فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم» وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة» أي حذرا من تطلعهن إلى الرجال ، وحذرا من الفتنة لأنهن قد يكتبن لمن يهوين (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) أي علمه بالقلم وبدونه من الأمور الجلية والخفية ما لم يخطر بباله (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) أي حقا يا محمد إن الكافر يتكبر على ربه لأن رأى نفسه مستغنيا عن الله بالمال نزلت الآيات من هاهنا إلى آخر السورة في أبي جهل. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل عليه جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٨) أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث ، فسترى حينئذ عاقبة تمردك (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) و «أرأيت» لحمل المخاطب وهو النبي على التعجب وهي تتعدى إلى مفعولين لأنها بمعنى أخبرني فالمفعول الأول «الذي» والمفعول الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة أي أخبرني يا محمد الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل في ملأ من طغاة قريش : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ، فقالوا : نعم قال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن


على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) (١٢) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو ، والمعنى : أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول : تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية ، وقنع بالمراتب الدنيئة ، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني لـ «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول ، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها (كَلَّا) أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول : إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره ، وهو عبد الله بن مسعود (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (١٥) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ، وأمره جبريل عليه‌السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له : ما لك قال : إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»(١) وروي أنه لما نزلت سورة (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فإذا جبريل عليه‌السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال : ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا ،

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١ : ٥٦٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٣٨٦).


فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال له أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحدّ فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فلما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول يا محمد : أذن بأذن ، لكن الرأس هاهنا مع الأذن.

وقرئ «لنسفعن» بالنون المشددة فالفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، وقرأ ابن مسعود لأسفعن أي يقول الله : يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) في قولها (خاطِئَةٍ) (١٦) في فعلها لأن صاحبها متمرد على الله تعالى لأنه كان كاذبا على الله تعالى في قوله : إنه تعالى لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في قوله : إن محمدا ساحر ، أو كذاب ، أو ليس بنبي ، و «ناصية» بدل من الناصية ، وقرئ «ناصية» بالرفع والتقدير هي ناصية ، وقرئ ناصية بالنصب وكلاهما على الشتم ، (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (١٧) أي أهل مجلسه الذين يجتمعون فيه للتشاور ، أو لأنه مجلس العطاء والجود (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) هم الملائكة الغلاظ الشداد كما قاله الزجاج. قال ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا فزبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : والله إنك لتعلم بأني أكثر أهل الوادي ناديا فأنزل الله تعالى (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر ، فهو عند ذلك ازداد تعززا بماله ورئاسته في مكة ، ويروى أنه قال : ليس بمكة أكرم مني ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فلما ذكر الزبانية رجع فزعا فقيل له : خشيت منه قال : لا ، ولكن رأيت عنده فارسا وهددني بالزبانية فلا أدري الزبانية ، ومال إلى الفارس فخشيت منه ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما‌السلام على كتفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الأسد قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته معاينة ، وقرئ «ستدعى الزبانية» على المجهول أي ليجروه إلى النار (كَلَّا) أي لن يصل أبو جهل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو قومه (لا تُطِعْهُ) أي أبا جهل فيما يأمرك به من ترك الصلاة ، بل دم على ما أنت عليه من مخالفته (وَاسْجُدْ) أي صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا ، وقلل فكرك في هذا العدو ، فإن الله مقويك وناصرك (وَاقْتَرِبْ) (١٩) أي ابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك.


سورة القدر

مدنية ، قال الواحدي : إنها أول سورة نزلت بالمدينة ،

خمس آيات ، ولاثون كلمة ، مائة وأحد وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) أي إنا أنزلنا القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ على كتبة ملائكة سماء الدنيا إلى بيت العزة منها ، ثم نجمته السفرة على جبريل فكان جبريل ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع ، والحاجة إليه ومعنى القدر التقدير ، وسميت ليلة القدر بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت ، والأجل ، والرزق وغير ذلك ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل عليهم‌السلام ، والجمهور على أنها مختصة برمضان واختلفوا في تعيينها ، وقال بعضهم : إنها ليلة السابع والعشرين لأن فيها أمارات ضعيفة منها : ما روي أن عمر سأل الصحابة عن ليلة القدر ، ثم قال لابن عباس : غص يا غواص ، فقال زيد بن ثابت : أحضرت أولاد المهاجرين ، وما أحضرت أولادنا فقال عمر : لعلك تقول إن هذا غلام ، ولكن عنده ما ليس عندكم ، فقال ابن عباس : أحب الإعداد إلى الله تعالى الوتر وأحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع ، والأرضين السبع ، والأسبوع ، ودركات النار ، وعدد الطواف ، والأعضاء السبعة فدل ذلك العدد على أنها السابعة والعشرون ومنها قول ابن عباس : إن هذه السورة ثلاثون كلمة ، وقوله تعالى : (هِيَ) هو سابع وعشرون ومنها ما نقل عن ابن عباس أنه قال : ليلة القدر تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون الجملة سبعة وعشرين ، ومنها ما روي أنه كان لعثمان بن أبي العاص عبد فقال : يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر ، قال : إذا كانت تلك الليلة فاعلمني فإذا هي السابعة والعشرون ، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢) أي ما غاية فضلها ومنتهى علو قدرها ، ثم بين الله فضلها من ثلاثة أوجه ، أو أربعة بقوله تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر أي إن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. قال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم


والمسلمون من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر ، وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما ، وقال الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في منامه إن بني أمية يطئون منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا بعد واحد ، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه السورة ، ثم قال القاسم بن فضل : فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر فكأن الله تعالى يقول : أعطيتك يا أشرف الخلق ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من السعادات الدنيوية في أيام ملك بني أمية ، ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة لكن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه. ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة مع أن صلاة الجماعة قد تنقص صورة فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضا فأنت إذا قلت لمن يرجم بالزنا هذا زان فلا بأس ، ولو قلته للنصراني فهو قذف يوجب التعزير ولو قلته للمحصن فهو قذف يوجب الحد ، ولو قلته في حق عائشة كان ذلك القول كفرا ، ثم القائل بقوله : هذا زان قد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال ، فثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة. (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٤) روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة ، وهم سكان سدرة المنتهى ، وجبريل ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولواء على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر طور سيناء ولا يدع بيتا فيه مؤمن أو مؤمنة إلا دخله وسلم عليه يقول : يا مؤمن أو يا مؤمنة السلام يقرئكم السلام إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير ، وقوله : بإذن ربهم متعلق بـ «تنزّل» أو بمحذوف هو حال من فاعله أي متلبسين بأمر ربهم فإنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بأمره ، وقوله : «من كل أمر» متعلق بـ «تنزّل» أي تنزل أولئك في تلك الليلة من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى عام قابل ، فكل واحد منهم نزل لأمر آخر.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قال : «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة» أي وهو نصف شعبان فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها ، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان فإن الملائكة يرون في الأرض أنواع الطاعات التي لم يروها في عالم السموات. (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) فـ «سلام» خبر مقدم و «هي» مبتدأ مؤخر أي تلك الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق ، ومن كل آفة كما قاله أبو مسلم ، وابن عباس و «حتى» متعلق بـ «تنزّل» أي أن الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة سلامهم على أهل الصوم


والصلاة من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الليلة ، وقيل : إن «حتى» متعلق بـ «سلام» بناء على إن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر في الجار والمجرور أي إن ليلة القدر سلام إلى طلوع الفجر أي تسليم الملائكة على المطيعين ، ويقال : إن ليلة القدر من أولها إلى طلوع الفجر سالمة من التفاوت والنقصان ، فإن العبادة في كل جزء من أجزاء أوقاتها خير من ألف شهر ، فليست ليلة القدر كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللتطوع النصف وللدعاء السحر ، بل هي متساوية الأوقات ، وقيل : إن الوقف عند قوله تعالى : (سَلامٌ) فقوله تعالى : من كل أمر متعلق به وقوله : (سَلامٌ) خبر بعد خبر كقوله : (تَنَزَّلُ) وقوله تعالى : (هِيَ) مبتدأ وخبره ما بعده ، والمعنى كما قاله ابن عباس : ليلة القدر سلامة من كل أمر مخوف ، ومن كل شرور ، وفضلها مستمر إلى طلوع الفجر ، وقرأ الكسائي «مطلع» بكسر اللام.


سورة البيّنة

وتسمى سورة لم يكن وسورة القيمة ، وسورة البرية ، وسورة منفكين ،

مدنية ، ثمان آيات ، أربع وتسعون كلمة ، ثلاثمائة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي عبدة الأصنام (مُنْفَكِّينَ) عن كفرهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) وهي الرسول وسمي بالبينة لأن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز أي أن الكفار من الفريقين كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة ، والإنجيل وهو محمد عليه‌السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يعدون اجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، وقيل : إن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإلى أن جاءتهم البينة أي التي كانت ذاته بينة على نبوته ، وقيل : المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى أتاهم بيان ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى من صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرئ «والمشركون» عطفا على الموصول (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بالرفع بدل كل من كل من البينة ، وقرأ عبد الله «رسولا» بالنصب حالا من «البينة» (يَتْلُوا صُحُفاً) أي كتبا (مُطَهَّرَةً) (٢) أي منزهة عن الباطل (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣) أي في تلك الكتب أحكام مستقيمة تبين الحق من الباطل ، (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤) أي وما اختلفوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية ، (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) و «الواو» للحال و «اللام» بمعنى الباء أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة ، والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله جاعلين عبادتهم خالصة له تعالى لا يريدون رياء ولا سمعة ، وقرأ عبد الله «إلا أن يعبدوا الله» بإبدال «اللام» بـ «أن» (حُنَفاءَ) أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام ، (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) أي وذلك المذكور من عبادة الله بالإخلاص وإقام الصلاة ، وإعطاء الزكاة دين المستقيم و «الهاء» هاهنا قافية السورة ، وقرئ الدين القيمة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ


وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وبدأ الله بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروا مع العلم به وأيضا إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقدم حق الله على حق نفسه فكأنه تعالى قال له : كما قدمت حقي على حقك فأنا أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر فأهل الكتاب طعنوا في الرسول والمشركون طعنوا في الله (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦) أي الخليقة فهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧) قرأ نافع ، وابن ذكوان «البريئة» بالهمز في الموضعين ، والباقون بياء مشددة (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) معدن النبيين والمقربين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي الأربعة وهي الخمر ، والماء ، والعسل ، واللبن (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) و «خالدين» حال من مقدر فعامله محذوف أي دخلوها ، ولا يجوز أن يكون حالا من «هم» في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من «جزاؤهم» أو ظرف له و «أبدا» منصوب بـ «خالدين».

لطيفة : قال بعض الفقهاء : لو قال لفلان : علي كذا فهو إقرار بالدين ، ولو قال : لا شيء لي على فلان ، فهذا يختص بالديون ، وله أن يدعي الوديعة ، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا إذا عرفت هذا ، فقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يفيد انه وديعة والوديعة عين ، وهو أشرف من الدين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بأن يعظمهم ويمدحهم فإن الرضا عن العامل غير الرضا بعمله ، (وَرَضُوا عَنْهُ) أي فرحوا بما جازاهم من الثواب وبما أعطاهم من أنواع الكرامات. (ذلِكَ) أي المذكور من الجزاء والرضوان (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨) وصاحب الخشية هو العالم بشئون الله تعالى ، فإن الخشية مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.


سورة الزلزلة

مدنية ، تسع آيات ، خمس وثلاثون كلمة ، مائة وتسعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) أي إذا تحركت الأرض حركة شديدة فانكسر ما عليها من الشجر والجبال والبنيان ، (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) أي أحمالها من الأموال ، أو الأموات ، ثم إن كان المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى فالمعنى : أخرجت الأرض الكنوز في زمن بعد عيسى ، أو عند النفخة الأولى ، فيمتلئ ظهر الأرض ذهبا ولا يلتفت أحد إليه ، فكأن الذهب يصيح ويقول : إما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي ، وإن كان المراد منها الزلزلة الثانية عند النفخة الثانية ، فالمعنى : أخرجت الأرض الموتى أحياء كالخروج من الأم وقت الولادة ، أو لفظتهم ميتين كما دفنوا ، ثم يحييهم الله تعالى ، وذلك على الخلاف بين العلماء ، (وَقالَ الْإِنْسانُ) أي الكافر بطريق التعجب والمؤمن بطريق الاستعظام (ما لَها) (٣) أي أي شيء ثبت للأرض تزلزلت بهذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ كان ما ذكر ، وهو بدل من إذا (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) جواب إذا.

وقرأ ابن مسعود «تنبئ أخبارها» ، وقرأ سعيد بن جبير «تنبي» بسكون النون بأن يجعل الله الأرض عاقلا ناطقا ، ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) و «الباء» إما سببية متعلق بـ «تحدّث» أي تحدث الأرض أخبارها بسبب أمره تعالى إياها بالتحديث بأخبارها ، وإما تعدية لـ «تحدّث» فتكون هذه الجملة بدلا من «أخبارها» فالمعنى : تحدث الأرض بأخبارها بأن ربك أذن لها في الكلام (يَوْمَئِذٍ) منصوب بـ «يصدر» أي يوم إذ يقع ما ذكر (يَصْدُرُ النَّاسُ) من قبورهم إلى موقف الحساب (أَشْتاتاً) أي فرقا فرقا فريق يذهب إلى الموقف راكبا مع الثياب الحسنة أبيض الوجه والمنادي بين يديه ينادي هذا ولي الله ، وفريق يذهب إليه حافيا عاريا مع السلاسل والأغلال أسود الوجه والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) بضم الياء أي ليريهم الله تعالى أعمالهم مكتوبة في الصحائف وهي توضع بين أيديهم والمرئي هو الكتاب ، وقرئ «ليروا» بفتح الياء ، وهو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي وزن نملة صغيرة (خَيْراً يَرَهُ) (٧) قال أحمد بن


كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه ، وماله ، وأهله ، وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي ميزان أصغر النمل (شَرًّا يَرَهُ) (٨) قال ابن عباس : ليس من مؤمن ، ولا كافر عمل خيرا ، أو شرا إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ، ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته ، وقوله تعالى : (خَيْراً) و (شَرًّا) منصوبان على التمييز من «مثقال» أو على البدل من «مثقال» ، و «يره» جواب الشرط مجزوم بحذف الألف ، وقرأ ابن عباس ، والحسين بن علي ، وزيد بن علي ، وكذا عاصم في رواية «يره» مبنيا للمفعول ، وقرأ عكرمة «يراه» بالألف.


سورة والعاديات

مكية ، إحدى عشرة آية ، أربعون كلمة ، مائة وثلاثة وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (١) أي والخيل الجارية بشدة في الغزو تصوت أنفاسهن من الجري ، والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند شدة الجري ، وليس بصهيل ، ولا حمحمة ، بل هو صوت نفس ، وقال علي رضي‌الله‌عنه وكرم وجهه : أي وإبل الحاج الجارية من عرفة إلى مزدلفة ، ومن مزدلفة إلى منى تمد أعضاءها في سيرها ، و «ضبحا» حال بمعنى اسم الفاعل ، (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) (٢) أي فالخيل التي تطأ الخصي صاكات بحوافرها ما يخرج النار كنار حباحب وهو رجل من العرب أبخل الناس الذي في العساكر لا يوقد نارا حتى ينام الناس ، ثم يوقدها فإذا انتبه أحد أطفأها لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ، أو يقال فالجماعة الذين يركبون الإبل وهم الحجيج الموقدون نيرانهم بالمزدلفة ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) (٣) أي فالجماعة الذين يركبون الخيل الذين يهجمون على الأعداء للنهب ، أو للقتل في وقت صبح لير ، وإما يأتون وما يذرون ، أو فالجماعة الذين يندفعون من جمع إلى منى ركبانا بإسراع السير صبيحة يوم النحر (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) أي فهيجن في وقت الصبح ، أو بالجري غبارا ، أو فهيجن في المغار صباحا ، فتوسطن في ذلك الوقت أو بالغبار جمعا من جموع الأعداء.

وقرأ أبو حيوة «فأثرن» بالتشديد أي أظهرن بجريهن غبارا وقرئ «فوسطن» بالتشديد أي جعلن جمع الأعداء في ذلك الوقت ، أو في ذلك المكان ، أو بجريهن ، أو بالغبار في الوسط ، أو قطعن جمع الأعداء نصفين. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خيلا فمضى شهر لم يأته منهم خبر ، فنزلت هذه الآيات ، وعن محمد بن كعب قال : النقع ما بين مزدلفة ومنى الجمع مزدلفة ، فالمعنى : فتحركن وقت الصبح أو بالجري في وادي محسر فصرن بجريهن وسط مزدلفة ، أو يكون المعنى : فأظهرن في ذلك الوقت أو في جريهن صباحا بالتلبية فجعلن مزدلفة بجريهن في الوسط ويتأكد حمل الآيات على الإبل ، أو مع خيول الحجاج بما روى أبي في فضل هذه السورة مرفوعا : «من قرأها أعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٦) أي إن طبع


جنس الإنسان لكفور بنعمة ربه كما قاله ابن عباس وغيره ، وهذا بلسان ربيعة ومضر أو لربه لوّام فيعد المصائب ، والمحن ، وينسى النعم ، والراحات كما قاله الحسن ، ويقال : عاص بربه بلسان حضرموت ، ويقال : بخيل بلسان بني مالك بن كنانة ، وقيل : المراد بالإنسان الكافر كما قال ابن عباس : إن هذه الآية نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي ، وقيل : في أبي حباحب أي وهما كافران (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) (٧) أي وإن الرب تعالى على ذلك الصنع لشهيد حافظ ، (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال (لَشَدِيدٌ) (٨) أي قوي ولطلبه مطيق أو إن الإنسان وهو قرط أو أبو حباحب لأجل حب المال لبخيل ممسك ، (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩) أي أفلا يعلم الإنسان قرط ، أو أبو حباحب في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا أخرج ما في القبور من الأموات ، والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ومعنى علم الله بهم يوم القيامة مجازاته لهم ، وأتى بـ «ما» لأن غير المكلفين الذين في الأرض أكثر ، (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١٠) أي بين ما في القلوب من الكفر ، والإيمان ، والبخل والسخاوة.

وقرئ «حصل» مبنيا للفاعل ومخففا أي ظهر ما في القلوب من الأسرار الخفية. (إِنَّ رَبَّهُمْ) أي الإنسان (بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) وقوله تعالى : (بِهِمْ) و (يَوْمَئِذٍ) متعلقان بـ «خبير» وجمع الضمير العائد إلى الإنسان اعتبارا بمعناه لأنه اسم جنس أي أفلا يعلم الإنسان أن ربهم عالم بهم يجازيهم في يوم البعث فلا حاكم يروج حكمه ، ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو ، وقرأ أبو السمال «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة «أن» وإسقاط اللام من «لخبير».

سورة القارعة

مكية ، عشر آيات ، ست وثلاثون كلمة ، مائة واثنان وخمسون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْقارِعَةُ) (١) أي الصيحة التي تقرع القلوب (مَا الْقارِعَةُ) (٢) أي أي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ، (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما شأن القارعة. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) و «يوم» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين أي هي يوم يكون الناس فيه


(كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) أي المفرق فالله تعالى شبه الناس في وقت البعث بالفراش المنشور في الكثرة ، والتطاير إلى الداعي لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالفراش ، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) أي وتصير الجبال كالصوف الذي ينفش باليد في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو ، (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧) أي فمن ترجحت مقادير حسناته ، فهو في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها أي فهو في الجنة بغير حساب أما من استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابا يسيرا ، (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) أي وأما من طاشت حسناته فترجحت السيئات على الحسنات فأم رأسه نازلة في النار أي فيهوى في النار على هامته ، ثم إن كان مؤمنا فإما أن يعذب بقدر ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى الجنة ، وإما أن يشفع فيه ، وإن كان كافرا فيخلد في النار. (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (١٠) أي وأي شيء أعلمك يا أكرم الرسل ما هاويه والهاء للسكت.

وقرأ حمزة في الوصل بغير هاء ووقف بها ، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا لأنها ثابتة في المصحف (نارٌ حامِيَةٌ) (١١) أي هي نار متناهية حرها فسائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حارة نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب.

سورة التكاثر

مكية ، ثمان آيات ، ثمان وعشرون كلمة ، مائة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) أي شغلكم التغالب بالمناقب وبكثرة المال وعدد الرجال والتباهي بذلك عن التدبير في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت.

روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالأشراف في الإسلام ، فقال كل من الفريقين : نحن أكثر منكم سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، فكثرهم بنو عبد مناف ، فقال بنو سهم : إن البغي أفنانا في الجاهلية ، فعدوا أحياءنا ، وأحياءكم ، وأمواتنا ، وأمواتكم ففعلوا فكثرهم بنو سهم فنزلت فيهم هذه السورة. وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ (أَلْهاكُمُ) وقال ابن آدم يقول : «مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».

وقرئ «أألهاكم» على الاستفهام التقريري (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) أي حتى أتاكم الموت


فصرتم في المقابر زوارا تسيرون عنها إلى مكان الحساب. يقال لمن مات : قد زار قبره ، وإنما يقال ذلك لأنه لا بد له من انتقال عنها إلى منزله من جنة أو نار. (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣) أي حقا سوف تعلمون عند الموت حين يقال لكم لا بشرى وفي وقت سؤال القبر ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) عند النشور حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا ، وحين يقال وامتازوا اليوم. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) وجواب (لَوْ) محذوف أي حقا لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وما تفاخرتم في الدنيا ، ويقال : إن المعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التفاخر عن ذكر الله. (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦) وهذا جواب قسم محذوف أي والله لترون عذاب الجحيم فإنها يراها المؤمنون أيضا فكان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها.

وقرأ ابن عامر ، والكسائي بضم التاء أي أنهم يحشرون إلى الجحيم فيرونها ، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) أي ثم لترون نفس الجحيم بعين اليقين فإنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير ، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى ، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى ، التقريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة ، (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) أي يوم رؤية الجحيم (عَنِ النَّعِيمِ) (٨) في الدنيا فسؤال المؤمن سؤال تشريف وتبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة لأنه شكر النعم ، وسؤال الكافر توبيخ وتقريع لأنه ترك الشكر حيث قابل نعيم الدنيا بالكفر والعصيان ، وروى الحاكم في الحديث : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم» قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال : «أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» (١).

سورة والعصر

مكية ، ثلاث آيات ، أربع عشرة كلمة ، ثمانية وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَصْرِ) (١) أي الدهر أقسم الله به لأنه مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء ، والضراء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، بل فيه ما هو أعجب من كل عجيب ، أو هو

__________________

(١) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (٦ : ١٧٣) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ : ٣٢).


العشي أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى ، فإن كل عشية تشبه تخريب الدنيا بالموت وكل بكرة تشبه القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ، وقال الحسن : إنما أقسم الله بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انتهائها ، وقرب وقت انتهاء التجارة فيها ، أو هو صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها.

روي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول : دلوني على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها ماذا حدث فيك قالت : يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا ، فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الزنا فعليك الرجم ، وأما قتل الولد فجزاؤه جهنم ، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا ، لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر» ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) أي لفي غبن في مساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم أو في نقصان عمله بعد الهرم والموت (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم في تجارة لن تبور حيث استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات ، (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي تحاثوا بكل ما حكم الشرع بصحته من علم وعمل (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) أي تحاثوا بالصبر على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي.

سورة الهمزة

مكية ، تسع آيات ، أربع وثمانون كلمة ، مائة وإحدى وستون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ) أي شدة عذاب أو واد في جهنم من قيح ودم (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) أي مغتاب للناس من خلفهم (لُمَزَةٍ) (١) أي طعان في وجوههم نزلت هذه الآية في أخنس بن شريق ، فإنه كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قاله عطاء ، والكلبي ، والسدي ، أو في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه كما قاله مقاتل وجريج ، أو في أبي بن خلف كما قاله عثمان بن عمر أو في أمية بن خلف كما قاله محمد بن إسحاق ، أو في جميل بن فلال كما قاله مجاهد (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) أي أحصاه ، وقال الأخفش أي جعله ذخيرة لحوادث الدهر. وقال الضحاك أي أعد ماله لمن يرثه من أولاده ، وقيل : أي فاخر بكثرة عدد.


وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر جمع بتشديد الميم على التكثير ، وقرأ الحسن ، والكلبي و «عدده» بتخفيف الدال وهو معطوف على مالا أي وجمع المال ، وعدد ذلك المال ، أو وجمع عدد نفسه من أقاربه وعشيرته الذين ينصرونه ، وقيل : هو فعل ماض بفك الإدغام (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) أي يظن الكافر أن ماله جعله خالدا في الدنيا لا يموت لطول أمله ولفرط غفلته ، ويعتقد أنه إن نقص ماله يموت لبخله.

قال الحسن : ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت ، وقيل يظن أن المال يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة في النعيم المقيم ، وهذا تعريض بالعمل الصالح. (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده ، بل العلم ، والصلاح وعلى هذا يجوز الوقف هنا أو بمعنى حقا (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤) أي والله ليطرحن في النار التي تحطم كل من وقع فيها أي تكسره.

وقرئ «لينبذان» بالمثنى أي هو وماله ، وقرئ «لينبذن» بضم الذال أي هو وأنصاره وذلك لأن شأنه كسر أعراض الناس فإن الجزاء من جنس العمل ، (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) (٥) التي هي جزاء الهمزة اللمزة (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) (٦) أي التي لا تخمد أبدا بقدرته تعالى (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٧) أي التي تعلو وسائط القلوب ، فإنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال السيئة (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (٨) أي مطبقة أو مغلقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩) أي حال كونهم موثقين في عمد ممددة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين ، والعمود كل مستطيل من خشب ، أو حديد.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وشعبة «عمد» بضمتين جمع عمود أو عماد. وروي عن أبي عمر والضم والسكون ، وقرأ الباقون بفتحتين وهو على القراءتين جمع كثرة لعمود.


سورة الفيل

مكية ، خمس آيات ، ثلاث وعشرون كلمة ، ستة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ تَرَ) أي ألم تخبر يا أشرف الخلق ، أو ألم تعلم علما رصينا باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (١) قال قتادة : إن قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة ، فقال سعيد بن جبير : هو أبو الكيشوم (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) (٢) والهمزة للتقرير أي قد جعل ربك كيدهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن دمرهم أشنع تدمير ، (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (٣) أي طوائف.

روى ابن سيرين عن ابن عباس قال : كانت تلك الطير طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل ، وأكف كأكف الكلاب ، وروى عطاء عنه قال : طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا ، وقيل : كانت بلقاء كالخطاطيف كما قالته عائشة ، وقال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٤) أي طين متحجر مصنوع للعذاب ، وقيل بحجارة من جهنم فإن سجين اسم من أسماء جهنم ، فأبدلت النون باللام (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٥) أي كورق زرع أكلته الدود ، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف ليها الحاج ، فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج مع جيشه ، ومعه فيل اسمه محمود كان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره فلما بلغ قريبا من مكة وهو المغمس وهو في أرض الحل قريب من عرفة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل محمودا فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى غيرها من الجهات هرول ، ثم رجع عبد المطلب وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول :

لا هم إن المرأ يمنع حله فامنع حلالك


وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

ومحالهم عدواً محالك

 

لا يغلبن صليبهم

إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك

ويقول أيضا :

يارب فامنع عنهم حماكا

 

يا رب لا أرجو لهم سواكا

امنعهم أن يخربوا قراكا

 

إن عدو البيت من عاداكا

فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن ، فقال : والله إنها لطير غريبة ليست بنجدية ولا تهامية ، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا ، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وأعضاؤه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه ، وهذه القصة وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


سورة قريش

مكية ، أربع آيات ، سبع عشرة كلمة ، ثلاثة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) واللام إما متعلقة بالسورة التي قبل هذه السورة ، وإما متعلقة بالآية التي بعد هذه اللام ، وإما متعلقة بمحذوف فعلى الأول ، فإن التقدير فجعلهم كعصف مأكول لحب قريش إلخ أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف.

روي أن عمر رضي‌الله‌عنه قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين ، وفي الثانية ألم تر ، ولإيلاف قريش معا من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وإن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة ، وعلى الثاني فالتقدير فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل ، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلاف قريش ونفعهم أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة ، وعلى الثالث فإن هذه اللام لام التعجب فكأن المعنى : أعجبوا لإيلاف قريش ، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه. (إِيلافِهِمْ) بدل من إيلاف الأول لأن المبدل منه مطلق والبدل مقيد بالمفعول به ، أو توكيد لفظي فـ «رحلة» مفعول لإيلاف الأول.

وقرأ ابن عامر «لإلاف» قريش بغير ياء بعد الهمزة ، والباقون بياء بعدها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني أي لمؤالفتهم. قال ابن عادل : ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطا ، فهذا أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط ، وقرأ أبو جعفر «لإلف قريش إلفهم» بكسر الهمزة وسكون اللام بزنة حمل وعن ابن عامر «الافهم» بزنة كتابهم كما روي عن ابن كثير أيضا وروي عن ابن عامر أيضا ، كما روي عن عكرمة «ليلاف» قريش بياء ساكنة بعد اللام ، وقرأ عكرمة «ليألف» قريش فعلا مضارعا وعنه أيضا «ليألف» على الأمر (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) (٢) أي انتقالهما أي كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ وبالصيف إلى الشام فكانت أشراف أهل


مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ، ويقولون هؤلاء جيران بيت الله ، وسكان حرمه ، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله ، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام ، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم ، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى : (فَعَلَ رَبُّكَ) أو من قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ) [الفيل : ٥] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا ، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [القدر : ١] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة ، وقيل : إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا ، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.

وقرئ «رحلة» بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها ، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (٣) قال الخليل وسيبويه : إن اللام في «لإيلاف» متعلقة بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) ودخول الفاء فيه لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة وهي إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف والمعنى لجعلهم محبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم فليعبدوه تعالى (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر بواسطة كونهم جيران البيت (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤) أي من خوف دخول العدو عليهم ، ومن خوف زحمة أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم ، وقال الضحاك والربيع : أي آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدتهم جذام ، وقيل : آمنهم من خوف الضلال بالإسلام ، فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به فكانت نعمة الأمانة دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا أما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح.


سورة الماعون

وتسمى سورة الدين ، وسورة أرأيت ، مكية ومدنية ، سبع

آيات ، خمس وعشرون كلمة ، مائة وثلاثة وعشرون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (١) فرأى إما بصرية فالمعنى أأبصرت المكذب بالجزاء ، أو بالإسلام أو هل عرفته ، وإما بمعنى أخبرني الذي يكذب بالحساب من هو ، ويدل على هذا قراءة عبد الله بن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب والكاف لا تلحق البصرية ، وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ولم يصح عن العرب «ريت» ، ولكن لما كان حرف الاستفهام في أول الكلام سهل حذف الهمزة (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٢) والفاء جواب شرط محذوف أي إن أردت أن تعرف المكذب بالحساب فذلك الذي يدفع اليتيم بعنف عن حقه.

وقرئ «يدع اليتيم» أي يتركه ولا يدعوه أي يدعو جميع الأجانب ويترك اليتيم أي يترك المواساة معه ، وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل ، وقرئ «يدعو اليتيم» أي يدعوه رياء ، ثم لا يطعمه ، وإنما يدعوه استخداما أو قهرا ، (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣) أي ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين على صدقة المساكين.

قال ابن جريج : نزلت هذه الآية في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه ، وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة ، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل.

روي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي ، فقال له أكابر قريش : قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء ، ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتمس منه ذلك وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش ، فقالوا : صبوت ، فقال : لا والله ما صبوت ، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ.


وقال السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الضحاك : نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في رجل من المنافقين (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (٥) والنسيان عن الصلاة ، هو أن يبقى الإنسان ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد أن فيها فائدة دينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة. بلى ، قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن ، والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر. (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) (٦) بصلاتهم فإذا فاتتهم مع الناس تركوها بالمرة ، والمرائي من يظهر الأعمال عند الناس مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدين والصلاح أما من يظهر النوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرياء فلا بأس بذلك وليس بمراء ، (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) أي ويمنعون الناس الزكاة أو يمنعون الطالبين منافع البيت كالفأس ، والقدوم ، والإبرة ، والقدر ، والقصعة ، والمغرفة ، والمقدحة ، والغربال ، والدلو ، والملح ، والماء ، والنار.


سورة الكوثر

وتسمى سورة النحر ، مكية ، ثلاث آيات ، عشر كلمات ، اثنان وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ). وقرئ «أنطيناك» يا أشرف الخلق : (الْكَوْثَرَ) (١) أي الخير المفرط في الكثرة من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين ، فإن كتاب محمد هو الكتاب المهيمن على كتاب آدم وصحف إبراهيم وموسى ، وتحديه بالقرآن ، وذلك أعلاه كما تحدى آدم بالأسماء.

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال : لئن كنت صادقا ، فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول إليه ، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وعام حتى صار بين يدي الرسول وسلم عليه ، وشهد له بالرسالة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكفيك هذا؟» قال : حتى يرجع إلى مكانه ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع إلى مكانه ، وهذا أعظم من إمساك سفينة نوح على الماء. وعن محمد بن حاطب قال : كنت طفلا ، فانصب القدر علي من النار ، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : هذا ابن حاطب احترق كما ترى ، فتفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال : أذهب البأس رب الناس ، فصرت صحيحا لا بأس بي ، وذلك أعظم من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، وأكرم الله محمدا ، ففلق له القمر فوق السماء ، وفجر له أصابعه عيونا وكان الغمام يظله ، وأعطاه الله القرآن الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب ، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفه ثعبانين ، فانصرف مرعوبا كما أكرم الله موسى ، ففلق له البحر في الأرض ، وفجر له الماء من الحجر ، وظلل عليه الغمام وأكرمه باليد البيضاء ، وقلب عصا موسى ثعبانا وسبحت الأحجار في يد الرسول وأصحابه ، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرمه الله بالبراق ، كما سبحت الجبال مع داود ، وإذا مسح الحديد لان وأكرمه الله بالطير المحشورة ، وأضاف الرسول اليهود بالشاة المسمومة ، فلما وضع اللقمة في فيه أخبرته ، وروي أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء ، وشكت ذلك إلى الرسول فمسح عليها رسول الله بغصن ، فأذهب الله عنها البرص ، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى الرسول فردها إلى مكانها ، وعرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل ، فأخبره ، فأسلم العباس لذلك ، كما أكرم الله


عيسى عليه‌السلام بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ومعرفة ما يخفيه الناس في بيوتهم وحين نام رسول الله ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها وصلى وردها مرة أخرى لعلي ، فصلى العصر في وقته. وروي أن طيرا فجع بولده ، فجعل يرفرف على رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكلمه فقال : «أيكم فجع هذه بولدها؟» فقال رجل : أنا ، فقال : «اردد إليها ولدها» (١). وأكرمه الله بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان يرسل حماره يعفورا إلى من يريده ، فيجيء به وأرسل معاذا إلى بعض النواحي ، فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجز أن يرجع ، فتقدم وقال : أنا رسول رسول الله ، فانصرف وانقاد الجن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحين جاء الأعرابي بالضب وقال : لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب ، فتكلم الضب معترفا برسالته ، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة ، كما رد الله لسليمان الشمس مرة ، وعلم منطق الطير ، وأكرمه الله بمسيره غدوة مسيرة شهر ، وانقاد الجن له ، فلما كانت رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا فقال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

قال : عطاء الكوثر حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة.

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج». وفي رواية أنس أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر ، لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير ، وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان. وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن ، وأحلى من العسل ، وحافتاه خيام الدر ، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل : ما هذا؟ قال : الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى»(٢). (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي فدم على الصلاة خالصا لوجه ربك الذي أفاض عليك

__________________

(١) رواه أحمد في (م ٣ / ص ١٠٣) ، والحاكم في المستدرك (١ : ٨٠) وابن أبي شيبة في المصنف (١١ : ٤٣٧) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١٠ : ٤٩٨) ، والآجري في الشريعة (٣٩٦) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٩١٥٣) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٢٠) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤٠٣) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١١ : ٤٥).

(٢) رواه مسلم في الجهاد باب : ٣١ ، وأبو داود في الخراج باب : ٢٥ ، وأحمد (م ٢ / ص ٢٩٢) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ : ٣٤) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٩) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٦ : ١٦٩) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤ :٤٧٥) ، والبغوي في شرح السنة (١١ : ١٥٢) ، وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٣٩) ، ـ


هذه النعمة الجليلة خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها ، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر ، (وَانْحَرْ) (٢) أي استقبل القبلة بنحرك كما قاله ابن عباس ، والفراء ، والكلبي ، وأبو الأحوص كأنه تعالى يقول : الكعبة بيتي ، وهي قبلة صلاتك ، وقلبك قبلة رحمتي ، ونظر عنايتي ، فلتكن القبلتان متناحرتين أي متقابلتين ، (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) أي إن مبغضك هو المنقطع عن كل خير ، وهو أبو جهل كما قاله ابن عباس.

روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ، ثم إنه وصف رسول الله بالأبتر ، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا ، فلما وصلوا إلى دار خديجة ، وتوافقوا على ذلك ، أخرجت خديجة بساطا ، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا كالجبل ، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أقبح وجه ، فلما رجع أخذه باليد اليسرى ، فصرعه على الأرض مرة أخرى ، ووضع قدمه على صدره ، أو هو أبو لهب كما قاله عطاء فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شافهه بقوله : تبا لك ، كان أبو لهب يقول في غيبته أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبتر ، فنزلت هذه الآية أو هو العاص بن وائل السهمي ، كما قاله عكرمة.

روي أن العاص بن وائل كان يقول : إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي ، وعامة أهل التفسير ، أو هو عقبة بن أبي معيط ، كما قاله شمر بن عطية ، فإنه هو الذي كان يقول ذلك ، ووصف الله تعالى العدو بكونه شانئا ، إشارة إلى وعده تعالى لرسوله بقهر العدو كأنه تعالى يقول : هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك ، فيحترق قلبه غيظا وحسدا.

__________________

ـ والزيلعي في نصب الراية (٣ : ٤٣٩) ، والدار قطني في السنن (٣ : ٦٠) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٦٢١٠).


سورة الكافرون

وتسمى أيضا سورة المنابذة ، أو المعابدة ، وسورة الإخلاص ، أي

إخلاص العبادة ، وسورة المقشقشة ، أي المبرئة من النفاق. ست

آيات وستة وعشرون كلمة ، أربعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ) يا أشرف الرسل : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١).

روي أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد هلم حتى نعبد إلهك مدة ، وتعبد آلهتنا مدة ، فيحصل الصلح بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا ، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا ، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا ، فنزلت هذه السورة فلما نزلت وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه ، (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٢) أي لا أعبد الذي تعبدونه في المستقبل والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم من دون الله من الأوثان ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (٣) أي ولا أنتم عابدون في المستقبل عبادتي ، أي مثل عبادتي ، أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي وهو الله الواحد ، (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (٤) أي وما كنت قط عابدا فيما مضى الذين عبدتم فيه ، أي لم يعتد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (٥) ، أي وما عبدتم في وقت من الأوقات مثل عبادتي ، وإنما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا عن الاستقبال ، لأنه هو الذي دعوه إليه ، فهو الأهم ، فبدأ به ، أما حكايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبد الأوثان سرا ، خوفا منها ، أو طمعا إليها ، وأما نفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبادتهم ، فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلا ، وإن كان يعبد الله في بعض الأحوال وإنما قال : (ما أَعْبُدُ) في الرابعة ولم يقل : ما عبدت ليوافق (ما عَبَدْتُّمْ) في الثالثة ، لأن عبادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة لم تظهر لأحد بخلافها بعدها أما عبادة الكافر قبل البعثة وبعدها فظاهرة عند الناس ، (لَكُمْ دِينُكُمْ) وهذا تثبيت لقوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ولقوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، (وَلِيَ دِينِ) (٦) وهذا تقرير لقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) والمعنى : إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور لكم ، وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور لي ، كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إني نبي مبعوث


الشرك. وقيل : معنى الآية لكم حسابكم ولي حسابي ، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة وقيل لكم : العقوبة من ربي ولي العقوبة من أصنامكم ، لكن أصنامكم جمادات ، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام. وقيل لكم : عادتكم المأخوذة من أسلافكم والشياطين حتى تلقوا الشياطين والنار ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي حتى ألقى الملائكة والجنة.

وقرأ نافع وهشام وحفص بفتح ياء «ولي» وحذف ياء الإضافة من «دين» وقفا ووصلا السبعة. وجمهور القراء وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب.

سورة النصر

وتسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا وهي آخر سورة نزلت ـ قاله

ابن عباس ـ مدنية ، هي ثلاث آيات وثلاث ، عشرون كلمة ، تسعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إن كان نزول هذه السورة قبل فتح مكة ، فـ «إذا» ظرف مستقبل جوابه فسبح ، فإن كان النزول بعد الفتح فـ «إذا» بمعنى إذ التي للماضي ، فهي على هذا متعلقة بمقدر ، أي أكمل الله الأمر وأتم النعمة إذ حصل إعانة الله تعالى على عدوك ، (وَالْفَتْحُ) (١) أي فتح مكة ، وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح ، وكان لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، فقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وطوائف العرب إلى أن نزل بمر الظهران ، وقدم العباس وأبو سفيان إليه ، فاستأذنا ، فأذن لعمه خاصة ، فقال أبو سفيان : إما أن تأذن لي ، وإلا أذهب بولدي إلى المفازة ، فنموت جوعا وعطشا ، فرق قلبه ، فأذن له وقال له : «ألم يأن أن تسلم وتوحد؟» فقال : أظن أنه واحد ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا ، فقال : «ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟» فقال : إن لي شكا في ذلك ، فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال : وماذا أصنع بالعزى؟ فقال عمر : لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك ، فقال : يا محمد ، أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش ، وتصالح قومك وعشيرتك ، فسكان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرضهم للشن والغارة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم». وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، ثم تقدم أبو سفيان ودخل مكة وقال : إن محمدا جاء


بعسكر لا يطيقه أحد ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع من ذلك فزعا شديدا ، وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه ، كالساجد تواضعا وشكرا ، ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فقال : ومن تسع داري فقال : «ومن دخل المسجد فهو آمن» فقال : ومن يسع المسجد فقال : «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، ثم وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على باب المسجد وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم قال : «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم» ، فقالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم فقال : «اذهبوا ، فأنتم الطلقاء» (١) ، فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ، وأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة خمس عشرة ليلة ، ثم خرج إلى هوازن.

وقرئ «فتح الله» و «النصر». (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢) ، أي وأبصرت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيفة كأهل مكة ، والطائف ، واليمن ، وهوازن ، وسائر قبائل العرب ، وكانوا قبل ذلك فيه واحدا واحدا ، واثنين اثنين. وقرئ «يدخلون» على البناء للمفعول (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). أي فقل سبحان الله حامدا له ، (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واطلب غفرانه هضما لنفسك واستقصارا لعملك ، واستعظاما ، لحقوق الله ، واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى ، وكأنه تعالى يقول : إذا جاء نصر الله إياك والمؤمنين ، والفتح ، ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت بالتسبيح والحمد والاستغفار (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣) أي إنه تعالى يكثر قبول التوبة لكثير من التائبين ، والتوبة اسم للرجوع والندم ، والإنسان قد يقول : أستغفر الله وليس بتائب ، فيكون كاذبا وكان تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة ، وفي هذا تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار ، وكذا خواتيم الأعمار.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار. وعن عائشة : كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ، ولا يجيء إلا قال : «سبحان الله وبحمده» فقلت : يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده؟ قال : «إني أمرت بها» وقرأ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ). وعن ابن مسعود لما نزلت هذه السورة كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور» (٢).

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ : ١٢٧).

(٢) رواه أحمد في (م ١ / ص ٢٨١) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٩ : ٧) ، وابن كثير في التفسير (٨ : ٥٣٤) ، والبغوي في شرح السنة (٥ : ١٢٨) ، والطبري في التفسير (٣٠ : ـ


قال مقاتل : لما نزلت هذه السورة قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، وفيهم أبو بكر وعمر ، وسعد بن أبي وقاص والعباس ، ففرحوا ، واستبشروا ، وبكى العباس فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عم» قال : نعيت إليك نفسك ، أي أخبرت بموتك قال : «إنه كما قلت» ، فعاش بعدها ستين يوما ما رؤي فيها ضاحكا مستبشرا ، وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ، ثم نزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فعاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزل (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل : أحد عشر يوما ، وقيل : سبعة أيام والله أعلم ، وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ربيع الأول لاثني عشر خلت منه من هجرته إلى المدينة والهجرة ، كانت لاثني عشر خلت من ربيع الأول كما أن مولده كذلك على المشهور.

__________________

ـ ٢١٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٩٦) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٣).


سورة أبي لهب

وتسمى سورة تبت ، مكية ، خمس آيات ، ثلاث وعشرون كلمة ، سبعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(تَبَّتْ) أي هلكت (يَدا أَبِي لَهَبٍ) هو عبد العزى بن عبد المطلب ، (وَتَبَ) (١) أي هلك هو ، فالأولى : مشت تمشية الدعاء عليه. والثانية : أخرجت مخرج الخبر ، أي وقد حصل الهلاك عليه ، فهذه الجملة على هذا على تقدير : قد ، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب بالتصريح بقد ، وقيل : كل واحد من الجملتين أخبار ولكن أريد بالجملة الأولى هلاك عمله ، وبالثانية هلاك نفسه ، فإن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله ، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال : «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك؟ قال : «أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني؟» قالوا : بلى ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» (١) ، فقال : عند ذلك أبو لهب : تبا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت هذه السورة.

وروي أنه قال : فما لي إن أسلمت؟ فقال : «ما للمسلمين» فقال : أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بما ذا تفضل؟» فقال : تبا لهذا الدين أستوي فيه أنا وغيري.

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاه نهارا فأبى ، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذرا ، فجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت». فقال : لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجدي : «من أنا؟» (٢) فقال : رسول الله. وأطلق لسانه يثني عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، فأخذ بيدي الجدي ومزقه وقال : تبا لك أثر فيك السحر! فقال الجدي : بل تبا لك. فنزلت هذه السورة على وفق ذلك تبت يدا أبي لهب لتمزيقه

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٤ : ٣٤٥) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٨ : ٢٩٣) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٥٦٣٢).

(٢) رواه ابن حجر في تلخيص الحبير (٤ : ٩).


يدي الجدي ، وقد حصل له وجود الاعتقاد الباطل ، والقول الباطل ، والعمل الباطل (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢) أي أيّ تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه ، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون ، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه؟ أو لا ينفع أبا لهب ماله وكسبه عند ذلك ، فـ «ما» في «ما أغنى» للنفي؟ أو للاستفهام و «ما» في «ما كسب» إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها ، أو استفهامية أي أيّ شيء كسب فينفعه. روي أن أبا لهب كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه ، وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه ، فافترس أسد ولده عتيبة بالتصغير في طريق الشام فأنزل الله تعالى هذه الآية. والكسب : هو أرباح ماله. وقيل : نتاج ماشيته. وقال ابن عباس : وما كسب هو ولده والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه»(١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (٢). ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال. والعدسة : بثرة تخرج بالبدن فتقتل ، (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٣) أي سيدخل أبو لهب في الآخرة نارا عظيمة ذات اشتعال. وقرئ بضم الياء وفتح اللام مخففا ومشددا ، (وَامْرَأَتُهُ) معه أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان صخر بن حرب ، واسمها العواء. وقيل : اسمها أروى. وقرئ و «مريئته» بالتصغير للتحقير ، (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤) وماتت مخنوقة بحبلها وكانت لشدة عداوتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحمل بنفسها الشوك والحطب ، فتنثره بالليل في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عليه‌السلام يطؤه كما يطأ الحرير. وقرأ عاصم بالنصب على الشتم ، أو على الحال إذا أريد بحمل الحطب في مطلق الزمن ، وقرأ الباقون بالرفع على أنه نعت لامرأته إذا أريد به المضي. وقرئ «حمالة للحطب» بالتنوين نصبا ورفعا فالرفع على الخبر لامرأته ، والنصب على الشتم أو على الحال من «امرأته» إن جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير المستتر ، فإنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار كما كانت تحمل الحطب في الدنيا لأذية الرسول ، وحينئذ فجملة «في جيدها» في موضع الحال من «امرأته» وإن جعلناها مرفوعة بالابتداء فجملة «في جيدها» إلخ هو الخبر. (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥) أي من حديد في الآخرة ، فقد قال ابن عباس : هو سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها ، وتخرج من دبرها ، ويكون سائرها في عنقها ،

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٣٥٣٠) ، وابن ماجة في السنن (٢٢٩١) ، وأحمد في (م ٢ / ص ٢٠٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧ : ٤٨٠) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ : ١٥٤) ، وابن حجر في تلخيص الحبير (٣ : ١٨٩) ، وعبد الرزاق في المصنف (١٦٦٢٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (١ : ٣٤٧) ، والقرطبي في التفسير (٥ : ٤١٢).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ : ٨٢) ، والحاكم في المستدرك (٣ : ٧٤) ، وأحمد في (م ٤ / ص ١٦١).


قتلت من حديد قتلا محكما ويقال : أي في عنقها رسن من ليف المقل وهو شجر الدوم الذي اختنقت به وماتت.

قال قتادة والضحاك : إن العواء كانت تعيّر رسول الله بالفقر فعيّرها الله بأنها كانت تحتطب في حبل من ليف تجعله في جيدها ، فخنقها الله تعالى به ، فأهلكها.

سورة الإخلاص

وتسمى سورة المعرفة ، وسورة الجمال ، وسورة التوحيد ، وسورة النجاة ، وسورة النور ،

وسورة المعوذة ، وسورة المانعة ، لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار ، وسورة البراءة ،

لأنها براءة من الشرك ، مكية ، أربع آيات ، خمس عشرة كلمة ، سبعة وأربعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) إن هذه السورة نزلت بسبب سؤال المشركين. قال الضحاك : إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : سببت آلهتنا وخالفت دين آبائك! فإن كنت فقيرا أغنيناك ، وإن كنت مجنونا داويناك ، وإن هويت امرأة زوجناكها! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست بفقير ، ولا مجنون ، ولا هويت امرأة ، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته». فأرسلوه ثانية وقالوا : قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة؟ فأنزل الله هذه السورة فقالوا له : ثلاثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا ، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟! فنزلت (وَالصَّافَّاتِ) [الصافات : ١] إلى قوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات : ٤] فأرسلوه أخرى وقالوا : بين لنا أفعاله ، فنزل (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ٥٤] وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عامر : إلى من تدعونا يا محمد؟ فقال : «إلى الله تعالى» قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة ، وأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة ، وعامر بن الطفيل بالطاعون وقيل : نزلت بسبب سؤال النصارى.

روي عن ابن عباس قال : قدم وفد نجران فقالوا : صف لنا ربك ، أمن زبرجد ، أو ياقوت ، أو ذهب ، أو فضة؟ فقال : «إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء» فنزل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قالوا : هو واحد ، وأنت واحد ، فقال : ليس كمثله شيء ، زدنا من الصفة ، فقال : «(اللهُ


الصَّمَدُ)» فقالوا : وما الصمد؟ فقال : «الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج». فقالوا : زدنا ، فنزل (لَمْ يَلِدْ) كما ولدت مريم (وَلَمْ يُولَدْ) كما ولد عيسى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له نظير من خلقه.

وقال الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فإن الله تعالى أنزل صفته في التوراة ، فأخبرنا من أيّ شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومن ورث؟ ومن يرثه؟ فنزلت هذه السورة وصفات الله تعالى إما أن تكون إضافية ، وإما أن تكون سلبية.

أما الإضافية : فكقولنا : عالم قادر مريد خلاق.

وأما السلبية : فكقولنا : ليس بجسم ولا بجوهر ، ولا بعرض ، وقولنا : الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا : أحد يدل على مجامع الصفات السلبية ، وذلك لأن الله تعالى هو الذي يستحق العبادة ، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يستبد بالإيجاد فالاستبداد بالإيجاد ، لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة ، والإرادة النافذة ، والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، والمراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التراكيب. (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) أي السيد المصمود إليه في الحوائج.

وقال ابن مسعود والضحاك : الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل : الصمد هو الذي ليس فوقه أحد فلا يخاف من فوقه ، ولا يرجو من تحته ، ترفع الحوائج إليه. وقال قتادة : الصمد الباقي بعد فناء خلقه ، والذي لا يأكل ولا يشرب ، وهو يطعم ولا يطعم.

وقال أبيّ بن كعب : هو الذي لا يموت ولا يورث ، وله ميراث السموات والأرض.

وقال ابن كيسان : هو الذي لا يوصف بصفة أحد.

قال مقاتل بن حبان : هو الذي لا عيب فيه (لَمْ يَلِدْ) أي لم يصدر عنه ولد لأنه لم يجانسه شيء ، (وَلَمْ يُولَدْ) (٣) أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه تعالى سابقا ولاحقا. ويقال : لم يلد ، أي ليس له ولد فيرث ملكه ، ولم يولد أي ليس له والد فيرث عنه الملك ، فلم يرث ولم يورث ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) أي لم يشاكله أحد من صاحبة وغيرها ، فيمتنع أن يكون شيء من الموجودات مساويا له تعالى في شيء من صفات الجلال والعظمة ، ثم الآية الأولى : تبطل مذهب الثنوية القائلين : بالنور والظلمة ، والنصارى : في التثليث. والصائبين : في الأفلاك والنجوم.

والآية الثانية : تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله ، لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات.


والآية الثالثة : تبطل مذهب اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله.

والآية الرابعة : تبطل مذهب المشركين حين جعلوا الأصنام شركاء له تعالى. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء نورا ونور القرآن (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)».

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد ، فسمع رجلا يدعو ويقول : أسألك يا الله يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال : «غفر لك ، غفر لك ، غفر لك» (١) ، ثلاث مرات.

وعن سهل بن سعد جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه الفقر فقال : «إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة» (٢). ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه.

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الصبح اثنتي عشر مرة فكأنما قرأ القرآن أربع مرات وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى»(٣).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه ، لم يفنن في قبره وأمن من ضغطة القبر وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة»(٤).

__________________

(١) رواه الطبراني في المعجم الصغير (٢ : ٢٠) ، وابن حجر في لسان الميزان (٤ : ٥٥٧) ، وابن كثير في التفسير (٦ : ٩٥) ، والبخاري في التاريخ الكبير (١ : ٢٦٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٦) ، والعقيلي في الضعفاء (٣ : ٢٢٤).

(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ : ١٤٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤١٥).

(٣) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ : ١٤٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ : ٤١٢) ، والقرطبي في التفسير (٢٠ : ٢٤٩) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (٣٠١).

(٤) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦ : ٢٤١٦).


سورة الفلق

مدنية ، خمس آيات ، ثلاث وعشرون كلمة ، أربعة وسبعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

قيل : إن الله تعالى أنزل المعوذتين عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكونا رقية من العين. وروي أن جبريل عليه‌السلام أتاه وقال : إن عفريتا من الجن يكيدك فقال : إذا أويت إلى فراشك قل : أعوذ برب السورتين.

وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار». (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) أي الصبح ، فإنه وقت دعاء المضطرين ، وإجابة الملهوفين ، فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم ، ولأنه أنموذج من يوم القيامة ، لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ، ثم منهم من يخرج عن داره مفلسا عريانا ، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس ، ومنهم من كان ملكا مطاعا ، فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه ، وكذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب ، عار عن لباس التقوى. فيجر إلى الملك الجبار ، وبعضهم كان مطيعا لربه في الدنيا ، فصار ملكا مطاعا في العقبى يقدم إليه البراق.

وقيل : الفلق واد في جهنم أوجب فيها.

روي عن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال : لا أبالي ألبس من ورائهم الفلق. فقيل : وما الفلق؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، وإنما خصه الله بالذكر هاهنا ، لأنه القادر على مثل هذا التعذيب وفد ثبت أن رحمته تعالى أعظم من عذابه فكأنه يقول : يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأقدم من عذابك.

وقال الرازي : وأقرب التأويلات أن الفلق هو كل ما يفلقه الله تعالى كالأرض عن النبات والجبال عن العيون ، والسحاب عن الأمطار ، والأرحام عن الأولاد ، والبيض عن الفرخ ، والقلوب عن المعارف ، فكأن الله تعالى هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد وكأنه


تعالى قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات وبمكون المحدثات ، فيكون التعظيم فيه أعظم ويكون الصبح وجبّ النار أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى ، (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢) أي من شر كل ذي شر خلقه الرب من إبليس ، ومن جهنم ، ومن أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما ، (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) (٣) أي ومن شر قمر إذا طلع ، كما أخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، فأشار إلى القمر فقال : «نعوذ بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب» ، ومعنى غسوق القمر : امتلاؤه فوقوبه دخوله في الخسوف ، أو من شر شمس إذا غربت كما قاله ابن شهاب ، وإنما سميت غاسقا ، لأنها في الفلك تسبح ، فسمي جريانها بالغسق ووقوبها دخولها تحت الأرض ، أو من شر ثريا إذا سقطت ، لأن الأسقام تكثر عند سقوطها وترتفع عند طلوعها ، كما قاله عبد الرحمن بن زيد ، وعلى هذا تسمى الثريا غاسقا لانصبابه عند وقوعه في المغرب ، ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين ، أو من شرحية إذا لدغت (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) (٤) أي ومن شر النساء اللاتي يبطلن عزائم الرجال بالحيل كما اختاره أبو مسلم ، فمعنى الآية : أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحوّلنهم من رأي إلى رأي ، ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥) أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد ، وعمل بمقتضاه كتهيئة مبادي الإضرار بالمحسود قولا أو فعلا.


سورة الناس

مدنية ، ست آيات ، عشرون كلمة ، تسعة وتسعون حرفا

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ) يا أشرف المرسلين (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) أي ألتجئ بمصلح الناس والقائم بتدبيره ، وذكر الله أنه رب الناس على التخصيص مع أنه رب جميع المحدثات ، لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم ، وهو معبودهم.

وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ، (مَلِكِ النَّاسِ) (٢) عطف بيان ، جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي لا بطريق تربية سائر الملاك لمماليكهم ، ولا يجوز هاهنا «مالك الناس» بإثبات الألف بخلاف (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) في سورة الفاتحة [الآية : ٤] والفرق أن قوله : (بِرَبِّ النَّاسِ) أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقبه هذا الملك ليفيد أنه تعالى مالك وملك معا ، فإن قيل : أليس قال تعالى في سورة الفاتحة : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الآية : ٢] ثم قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الآية : ٤] فيلزم وقوع التكرار هناك قلنا : اللفظ دل على أنه رب العالمين ، وهي الأشياء الموجودة في الحال ، وعلى أنه مالك ليوم الدين ، فهناك «الرب» مضاف إلى شيء موجود الآن ، و «المالك» مضاف إلى شيء يوجد في الآخرة ، فلم يلزم التكرير ، فظهر الفرق ، وأيضا فإن جواز القراءات يتبع النزول لا القياس ، (إِلهِ النَّاسِ) (٣) عطف بيان جيء به لبيان أن ملكه تعالى بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة ، وإيجادا وإعداما ، فوصف الله أولا بأنه رب الناس ، ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا ، فبين بقوله ملك الناس ، ثم الملك قد يكون إلها وقد لا ، فبين بقوله (إِلهِ النَّاسِ) لأن الإله خاص بالله تعالى لا يشركه فيه غيره ، وأيضا إن أول ما يعرف العبد من معبوده كونه معطيا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة ، وهذا هو الرب ، ثم ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى معرفة استغنائه عن الخلق ، فيحصل العلم بكونه ملكا ، لأنه هو الذي يفتقر إليه غيره ويستغني عن غيره ، ثم عرف العبد أنه هو الذي ولهت


العقول في عزته وعظمته ، فيعرف أنه إله حقيقة (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) بفتح الواو هو بمعنى الموسوس وهو الشيطان (الْخَنَّاسِ) (٤) أي الذي يتأخر عند ذكر الإنسان ربه والوقف هنا كاف لمن رفع ما بعده أو نصبه على الشتم ، ولا وقف هنا لمن جعل ما بعده نعتا للوسواس ، (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٥) أي في قلوب الغافل عن ذكر الله ، وسقوط الياء عن الناس كسقوطها في قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) [القمر : ٦] (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) بيان للناسي عن ذكر الله فإنهما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تكلف بعض العلماء من جعل قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ) بيانا للوسواس ، وجعل قوله : (وَالنَّاسِ) عطفا عليه ، فكأنه قيل : من شر الوسواس الذي يوسوس ، وهو الجن ومن شر الناس اه. ومن جعل قوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) عطفا على (الْوَسْواسِ) بتقدير حرف العطف. فالمعنى : قل أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ بربه من الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس ، وفي هاتين السورتين لطيفة وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة ، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات : وهي الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد. أما في هذه السورة المستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى : سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية : سلامة الدين.

وهذا تنبيه على أن مضمرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا ، وإن عظمت ، والله أعلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد انتهى ما منّ الله به علينا من المعاني الميسّرة والألفاظ المسهّلة في خامس ربيع الآخر ليلة الأربعاء عام سنة ١٣٠٥ ألف وثلاثمائة وخمسة على يد الفقير إلى الله تعالى محمد نووي غفر الله له ولوالديه ، ولمشايخه ، ولإخوانه المسلمين ، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين آمين


الفهرس

سورة مريم

٣

الآيات ٨٠ ـ ٨٥

٣٣

الآيات ١ ـ ٥

٣

الآيتان ٨٦ ـ ٨٧

٣٤

الآيات ٦ ـ ١٣

٤

الآيات ٨٨ ـ ٩١

٣٥

الآيات ١٤ ـ ٢٠

٥

الآيات ٩٢ ـ ٩٥

٣٦

الآيتان ٢١ ـ ٢٢

٦

الآيتان ٩٦ ـ ٩٧

٣٧

الآيتان ٢٣ ـ ٢٤

٧

الآيات ٩٨ ـ ١٠٧

٣٨

الآيات ٢٥ ـ ٢٩

٨

الآيات ١٠٨ ـ ١١٤

٣٩

الآيات ٣٠ ـ ٣٥

٩

الآيات ١١٥ ـ ١٢٠

٤٠

الآيات ٣٦ ـ ٣٨

١٠

الآيات ١٢١ ـ ١٢٨

٤١

الآيات ٣٩ ـ ٤٦

١١

الآيات ١٢٩ ـ ١٣٣

٤٢

الآيات ٤٧ ـ ٥٣

١٢

الآيتان ١٣٤ ـ ١٣٥

٤٣

الآيات ٥٤ ـ ٥٩

١٣

سورة الأنبياء

٤٤

الآيات ٦٠ ـ ٦٣

١٤

الآيات ١ ـ ٣

٤٤

الآيات ٦٤ ـ ٦٩

١٥

الآيات ٤ ـ ٨

٤٥

الآيات ٧٠ ـ ٧٣

١٦

الآيات ٩ ـ ١٧

٤٦

الآيات ٧٤ ـ ٧٧

١٧

الآيات ١٨ ـ ٢١

٤٧

الآيات ٧٨ ـ ٨٧

١٨

الآيات ٢٢ ـ ٢٧

٤٨

الآيات ٨٨ ـ ٩٨

١٩

الآيات ٢٨ ـ ٣٤

٤٩

سورة طه

٢٠

الآيات ٣٥ ـ ٣٩

٥٠

الآيات ٢ ـ ٧

٢٠

الآيات ٤٠ ـ ٤٦

٥١

الآيات ٨ ـ ١٢

٢١

الآيات ٤٧ ـ ٥٥

٥٢

الآيات ١٣ ـ ١٦

٢٢

الآيات ٥٦ ـ ٦٢

٥٣

الآيات ١٧ ـ ٢١

٢٣

الآيات ٦٣ ـ ٦٨

٥٤

الآيات ٢٢ ـ ٣٤

٢٤

الآيات ٦٩ ـ ٧٣

٥٥

الآيات ٣٥ ـ ٣٩

٢٥

الآيات ٧٤ ـ ٧٨

٥٦

الآيات ٤٠ ـ ٤٤

٢٦

الآيات ٧٩ ـ ٨١

٥٧

الآيات ٤٥ ـ ٥٠

٢٧

الآيتان ٨٢ ـ ٨٣

٥٨

الآيات ٥١ ـ ٥٤

٢٨

الآيات ٨٤ ـ ٨٦

٥٩

الآيات ٥٥ ـ ٦٠

٢٩

الآيات ٨٧ ـ ٩١

٦٠

الآيات ٦١ ـ ٦٨

٣٠

الآيات ٩٢ ـ ٩٧

٦١

الآيات ٦٩ ـ ٧١

٣١

الآيات ٩٨ ـ ١٠٣

٦٢

الآيات ٧٢ ـ ٧٩

٣٢

الآيات ١٠٤ ـ ١١٢

٦٣


سورة الحج

٦٤

سورة النور

٩٩

الآيتان ١ ـ ٢

٦٤

الآيتان ١ ـ ٢

٩٩

الآيات ٣ ـ ٥

٦٥

الآيتان ٣ ـ ٤

١٠٠

الآيات ٥ ـ ١٠

٦٦

الآيات ٥ ـ ٩

١٠١

الآيات ١١ ـ ١٦

٦٧

الآية ١٠

١٠٢

الآية ١٧

٦٨

الآيات ١١ ـ ١٨

١٠٥

الآيات ١٨ ـ ٢٢

٦٩

الآيات ١٩ ـ ٢٢

١٠٦

الآيات ٢٣ ـ ٢٧

٧٠

الآيات ٢٣ ـ ٢٦

١٠٧

الآيتان ٢٨ ـ ٢٩

٧١

الآيات ٢٧ ـ ٢٩

١٠٨

الآيات ٣٠ ـ ٣٣

٧٢

الآية ٣٠

١٠٩

الآيات ٣٤ ـ ٣٦

٧٣

الآيتان ٣١ ـ ٣٢

١١٠

الآيات ٣٧ ـ ٣٩

٧٤

الآيات ٣٢ ـ ٣٤

١١١

الآيات ٤٠ ـ ٤٣

٧٥

الآيتان ٣٥ ـ ٣٦

١١٣

الآيات ٤٤ ـ ٤٧

٧٦

الآيتان ٣٧ ـ ٣٨

١١٤

الآيات ٤٨ ـ ٥٣

٧٧

الآيتان ٣٩ ـ ٤٠

١١٥

الآيات ٥٤ ـ ٥٨

٧٨

الآيات ٤١ ـ ٤٤

١١٦

الآيات ٥٩ ـ ٦٣

٧٩

الآيات ٤٥ ـ ٥٠

١١٧

الآيات ٦٤ ـ ٦٩

٨٠

الآيات ٥١ ـ ٥٣

١١٨

الآيات ٧٠ ـ ٧٣

٨١

الآيات ٥٤ ـ ٥٦

١١٩

الآيات ٧٤ ـ ٧٨

٨٢

الآية ٥٧

١٢٠

سورة المؤمنون

٨٣

الآيات ٥٨ ـ ٦٠

١٢١

الآيات ١ ـ ١٠

٨٣

الآية ٦١

١٢٣

الآيات ١١ ـ ١٧

٨٤

الآيات ٦٢ ـ ٦٤

١٢٤

الآيات ١٨ ـ ٢٠

٨٥

سورة الفرقان

١٢٥

الآيات ٢١ ـ ٢٦

٨٦

الآيات ١ ـ ٣

١٢٥

الآيات ٢٧ ـ ٣٨

٨٧

الآيات ٤ ـ ٦

١٢٦

الآيات ٣٩ ـ ٤٧

٨٨

الآيات ٧ ـ ١٠

١٢٧

الآيات ٤٨ ـ ٥٥

٨٩

الآيات ١١ ـ ١٦

١٢٨

الآيات ٥٦ ـ ٦٤

٩٠

الآيات ١٧ ـ ١٩

١٢٩

الآيات ٦٥ ـ ٦٩

٩١

الآيات ٢٠ ـ ٢٤

١٣٠

الآيات ٧٠ ـ ٧٥

٩٢

الآيات ٢٥ ـ ٢٨

١٣١

الآيات ٧٦ ـ ٨٨

٩٣

الآيات ٢٩ ـ ٣٣

١٣٢

الآيات ٨٩ ـ ٩٩

٩٤

الآيات ٣٤ ـ ٣٩

١٣٣

الآيتان ١٠٠ ـ ١٠١

٩٥

الآيات ٤٠ ـ ٤٣

١٣٤

الآيات ١٠٢ ـ ١٠٩

٩٦

الآيات ٤٤ ـ ٤٧

١٣٥

الآيات ١١٠ ـ ١١٥

٩٧

الآيات ٤٩ ـ ٥٢

١٣٦

الآيات ١١٦ ـ ١١٨

٩٨

الآيات ٥٣ ـ ٥٨

١٣٧


 الآيات ٥٩ ـ ٦٢

١٣٨

الآية ٣٦

١٧٤

الآيات ٦٣ ـ ٦٧

١٣٩

الآيات ٣٧ ـ ٣٩

١٧٥

الآيات ٦٨ ـ ٧٣

١٤٠

الآيات ٤٠ ـ ٤٢

١٧٦

الآيات ٧٤ ـ ٧٧

١٤١

الآية ٤٣

١٧٧

سورة الشعراء

١٤٢

الآيات ٤٤ ـ ٤٩

١٧٨

الآيات ١ ـ ٣

١٤٢

الآيات ٥٠ ـ ٥٧

١٧٩

الآيات ٤ ـ ١٠

١٤٣

الآيات ٥٨ ـ ٦٢

١٨٠

الآيات ١١ ـ ١٨

١٤٤

الآيتان ٦٣ ـ ٦٤

١٨١

الآيات ١٩ ـ ٢٧

١٤٥

الآيات ٦٥ ـ ٧٣

١٨٢

الآيات ٢٨ ـ ٣٥

١٤٦

الآيات ٧٤ ـ ٨١

١٨٣

الآيات ٣٦ ـ ٤٨

١٤٧

الآيات ٨٢ ـ ٨٦

١٨٤

الآيات ٤٩ ـ ٥٤

١٤٨

الآيات ٨٧ ـ ٧٩

١٨٥

الآيات ٥٥ ـ ٦٢

١٤٩

الآيات ٩٠ ـ ٩٣

١٨٦

الآيات ٦٣ ـ ٧٣

١٥٠

سورة القصص

١٨٧

الآيات ٧٤ ـ ٨٧

١٥١

الآيات ١ ـ ٤

١٨٧

الآيات ٨٨ ـ ١٠١

١٥٢

الآيات ٥ ـ ٧

١٨٨

الآيات ١٠٢ ـ ١١٥

١٥٣

الآيتان ٨ ـ ٩

١٨٩

الآيات ١١٦ ـ ١٣٢

١٥٤

الآيات ١٠ ـ ١٢

١٩٠

الآيات ١٣٣ ـ ١٤٩

١٥٥

الآيات ١٣ ـ ١٥

١٩١

الآيات ١٥٠ ـ ١٦٥

١٥٦

الآيات ١٦ ـ ٢٢

١٩٢

الآيات ١٦٦ ـ ١٨٢

١٥٧

الآيات ٢٣ ـ ٢٥

١٩٣

الآيات ١٨٣ ـ ١٩١

١٥٨

الآيات ٢٦ ـ ٢٨

١٩٤

الآيات ١٩٢ ـ ١٩٧

١٥٩

الآيات ٢٩ ـ ٣١

١٩٥

الآيات ١٩٨ ـ ٢١٠

١٦٠

الآيات ٣٢ ـ ٣٥

١٩٦

الآيات ٢١١ ـ ٢١٤

١٦١

الآيات ٣٦ ـ ٣٩

١٩٧

الآيات ٢١٥ ـ ٢٢١

١٦٢

الآيات ٤٠ ـ ٤٤

١٩٨

الآيات ٢٢٢ ـ ٢٢٦

١٦٣

الآيات ٤٥ ـ ٤٧

١٩٩

الآية ٢٢٧

١٦٤

الآيات ٤٨ ـ ٥٤

٢٠٠

سورة النمل

١٦٥

الآيتان ٥٥ ـ ٥٦

٢٠١

الآيات ١ ـ ٦

١٦٥

الآيات ٥٧ ـ ٦٢

٢٠٣

الآيات ٧ ـ ١١

١٦٦

الآيات ٦٣ ـ ٦٧

٢٠٤

الآيات ١٢ ـ ١٥

١٦٧

الآيات ٦٨ ـ ٧٥

٢٠٥

الآيات ١٦ ـ ١٨

١٦٩

الآيتان ٧٦ ـ ٧٧

٢٠٦

الآيتان ١٩ ـ ٢٠

١٧٠

الآيات ٧٨ ـ ٨٠

٢٠٧

الآيات ٢١ ـ ٢٣

١٧١

الآيتان ٨١ ـ ٨٢

٢٠٨

الآيات ٢٤ ـ ٢٧

١٧٢

الآيات ٨٣ ـ ٨٧

٢٠٩

الآيات ٢٨ ـ ٣٥

١٧٣

سورة العنكبوت

٢١٠


الآيات ١ ـ ٤

٢١٠

الآيات ٢٣ ـ ٣٠

٢٤٤

الآيات ٥ ـ ٩

٢١١

سورة الأحزاب

٢٤٥

الآيات ١٠ ـ ١٥

٢١٢

الآيات ١ ـ ٣

٢٤٥

الآيات ١٦ ـ ١٨

٢١٣

الآية ٤

٢٤٦

الآيات ١٩ ـ ٢٤

٢١٤

الآيات ٥ ـ ١٠

٢٤٧

الآيات ٢٥ ـ ٢٧

٢١٥

الآيات ١١ ـ ١٢

٢٤٨

الآيات ٢٨ ـ ٣٤

٢١٦

الآيات ١٣ ـ ١٨

٢٤٩

الآيات ٣٥ ـ ٤٠

٢١٧

الآيات ١٩ ـ ٢٢

٢٥٠

الآيات ٤١ ـ ٤٤

٢١٨

الآيات ٢٣ ـ ٢٧

٢٥١

الآيات ٤٥ ـ ٤٨

٢١٩

الآيتان ٢٨ ـ ٢٩

٢٥٢

الآيات ٤٩ ـ ٥٤

٢٢٠

الآيات ٣٠ ـ ٣٢

٢٥٣

الآيات ٥٥ ـ ٦٢

٢٢١

الآيات ٣٣ ـ ٣٦

٢٥٤

الآيات ٦٣ ـ ٦٧

٢٢٢

الآيتان ٣٧ ـ ٣٨

٢٥٥

الآيتان ٦٨ ـ ٦٩

٢٢٣

الآيات ٣٩ ـ ٤٣

٢٥٦

سورة الروم

٢٢٤

 الآيات ٤٤ ـ ٤٩

٢٥٧

الآيات ١ ـ ٣

٢٢٤

الآية ٥٠

٢٥٨

الآيات ٤ ـ ٧

٢٢٥

الآيتان ٥١ ـ ٥٢

٢٥٩

الآيات ٨ ـ ١١

٢٢٦

الآيات ٥٣ ـ ٥٦

٢٦٠

الآيات ١٢ ـ ١٨

٢٢٧

الآيات ٥٧ ـ ٦٠

٢٦١

الآيات ١٩ ـ ٢٣

٢٢٨

الآيات ٦١ ـ ٦٨

٢٦٢

الآيات ٢٤ ـ ٢٩

٢٢٩

الآيات ٦٩ ـ ٧٣

٢٦٣

الآيات ٣٠ ـ ٣٧

٢٣٠

الآيات ٦٩ ـ ٧٣

٢٦٣

الآيات ٣٨ ـ ٤١

٢٣١

سورة سبأ

٢٦٤

الآيات ٤٢ ـ ٤٩

٢٣٢

الآيات ١ ـ ٣

٢٦٤

الآيات ٥٠ ـ ٥٨

٢٣٣

الآيات ٤ ـ ٩

٢٦٥

الآيتان ٥٩ ـ ٦٠

٢٣٤

الآيات ١٠ ـ ١٢

٢٦٦

سورة لقمان

٢٣٥

الآيتان ١٣ ـ ١٤

٢٦٧

الآيات ١ ـ ٨

٢٣٥

الآيات ١٥ ـ ١٨

٢٦٨

الآيات ٩ ـ ١١

٢٣٦

الآيات ١٩ ـ ٢١

٢٦٩

الآيات ١٢ ـ ١٥

٢٣٧

الآيات ٢٢ ـ ٢٧

٢٧٠

الآيات ١٦ ـ ٢٢

٢٣٨

الآيات ٢٨ ـ ٣٥

٢٧١

الآيات ٢٣ ـ ٣٠

٢٣٩

الآيات ٣٦ ـ ٤٢

٢٧٢

الآيات ٣١ ـ ٣٤

٢٤٠

الآيات ٤٣ ـ ٤٦

٢٧٣

سورة السجدة

٢٤١

الآيات ٤٧ ـ ٥٤

٢٧٤

الآيات ١ ـ ٥

٢٤١

سورة فاطر

٢٧٥

الآيات ٦ ـ ١٤

٢٤٢

الآيات ١ ـ ٣

٢٧٥

الآيات ١٥ ـ ٢٢

٢٤٣

الآيات ٣ ـ ٨

٢٧٦


الآيات ٩ ـ ١١

٢٧٧

الآيات ١ ـ ١١

٣١٢

الآيات ١٢ ـ ١٧

٢٧٨

الآيات ١٢ ـ ١٨

٣١٣

الآيات ١٨ ـ ٢٧

٢٧٩

الآيات ١٩ ـ ٢٣

٣١٤

الآيات ٢٨ ـ ٣٥

٢٨٠

الآيتان ٢٤ ـ ٢٥

٣١٥

الآيات ٣٦ ـ ٤٠

٢٨١

الآيات ٢٦ ـ ٢٨

٣١٦

الآيات ٤١ ـ ٤٥

٢٨٢

الآيات ٢٩ ـ ٣٣

٣١٧

سورة يس

٢٨٣

الآيات ٣٤ ـ ٤١

٣١٨

الآيات ١ ـ ٥

٢٨٣

الآيتان ٤٢ ـ ٤٣

٣١٩

الآيات ٦ ـ ٩

٢٨٤

الآيات ٤٣ ـ ٥٧

٣٢٠

الآيات ١٠ ـ ١٦

٢٨٥

الآيات ٥٨ ـ ٦٤

٣٢١

الآيات ١٧ ـ ٢٥

٢٨٦

الآيات ٦٥ ـ ٨٤

٣٢٢

الآيتان ٢٦ ـ ٢٧

٢٨٧

الآيات ٨٥ ـ ٨٨

٣٢٣

الآيات ٢٨ ـ ٣٤

٢٨٨

سورة الزمر

٣٢٤

الآيات ٣٥ ـ ٣٩

٢٨٩

الآيات ١ ـ ٤

٣٢٤

الآيات ٤٠ ـ ٤٦

٢٩٠

الآيتان ٥ ـ ٦

٣٢٥

الآيات ٤٧ ـ ٥٠

٢٩١

الآيتان ٧ ـ ٨

٣٢٦

الآيات ٥١ ـ ٥٨

٢٩٢

الآيات ٩ ـ ١٥

٣٢٧

الآيات ٥٩ ـ ٦٥

٢٩٣

الآيات ١٦ ـ ٢٠

٣٢٨

الآيات ٦٦ ـ ٧٠

٢٩٤

الآيتان ٢١ ـ ٢٢

٣٤٩

الآيات ٧١ ـ ٧٨

٢٩٥

الآيات ٢٣ ـ ٢٥

٣٣٠

الآيات ٧٩ ـ ٨٣

٢٩٦

الآيات ٢٦ ـ ٣١

٣٣١

سورة الصافات

٢٩٧

الآيات ٣٢ ـ ٣٥

٣٣٢

الآيات ١ ـ ٧

٢٩٧

الآيات ٣٦ ـ ٤١

٣٣٣

الآيات ٨ ـ ١٧

٢٩٨

الآيات ٤٢ ـ ٤٤

٣٣٤

الآيات ١٨ ـ ٢٨

٢٩٩

الآيات ٤٥ ـ ٥١

٣٣٥

الآيات ٢٩ ـ ٤١

٣٠٠

الآيات ٥٢ ـ ٥٤

٣٣٦

الآيات ٤٢ ـ ٥٤

٣٠١

الآيات ٥٥ ـ ٦٢

٣٣٧

الآيات ٥٥ ـ ٦٥

٣٠٢

الآيات ٦٣ ـ ٦٦

٣٣٨

الآيات ٦٦ ـ ٨١

٣٠٣

الآيات ٦٧ ـ ٧٢

٣٣٩

الآيات ٨٢ ـ ٩٧

٣٠٤

الآيات ٧٣ ـ ٧٥

٣٤٠

الآيات ٩٨ ـ ١٠٣

٣٠٥

سورة المؤمن

٣٤١

الآيات ١٠٤ ـ ١٢٠

٣٠٦

الآيات ١ ـ ٥

٣٤١

الآيات ١٢١ ـ ١٤٣

٣٠٧

الآية ٦

٣٤٢

الآيات ١٤٤ ـ ١٥٧

٣٠٨

الآيات ٧ ـ ١٠

٣٤٣

الآيات ١٥٨ ـ ١٧٦

٣٠٩

الآيات ١١ ـ ١٥

٣٤٤

الآيات ١٧٧ ـ ١٨٢

٣١٠

الآيات ١٦ ـ ٢٠

٣٤٥

سورة ص

٣١١

الآيات ٢١ ـ ٢٦

٣٤٦


الآيات ٢٧ ـ ٢٩

٣٤٧

الآيات ١٥ ـ ١٩

٣٨١

الآيات ٣٠ ـ ٣٤

٣٤٨

الآيات ٢٠ ـ ٢٩

٣٨٢

الآيات ٣٥ ـ ٣٩

٣٤٩

الآيات ٣٠ ـ ٣٦

٣٨٣

الآيات ٤٠ ـ ٤٦

٣٥٠

الآيات ٣٧ ـ ٤٤

٣٨٤

الآيات ٤٧ ـ ٥٤

٣٥١

الآيات ٤٥ ـ ٥٤

٣٨٥

الآيات ٥٥ ـ ٦٠

٣٥٢

الآيات ٥٥ ـ ٦٠

٣٨٦

الآيات ٦١ ـ ٦٥

٣٥٣

الآيات ٦١ ـ ٦٧

٣٨٧

الآيات ٦٦ ـ ٧٣

٣٥٤

الآيات ٦٨ ـ ٧٦

٣٨٨

الآيات ٧٤ ـ ٨٢

٣٥٥

الآيات ٧٧ ـ ٨٦

٣٨٩

الآيات ٨٣ ـ ٨٥

٣٥٦

الآيات ٨٧ ـ ٨٩

٣٩٠

سورة السجدة

٣٥٧

سورة الدخان

٣٩١

الآيات ١ ـ ٥

٣٥٧

الآيات ١ ـ ٤

٣٩١

الآيات ٦ ـ ١٠

٣٥٨

الآيات ٥ ـ ١٠

٣٩٢

الآية ١١

٣٥٩

الآيات ١١ ـ ١٩

٣٩٣

الآيتان ١٢ ـ ١٣

٣٦٠

الآيات ٢٠ ـ ٣١

٣٩٤

الآيات ١٤ ـ ١٨

٣٦١

الآيات ٣٢ ـ ٣٨

٣٩٥

الآيات ١٩ ـ ٢٣

٣٦٢

الآيات ٣٩ ـ ٥٤

٣٩٦

الآيات ٢٤ ـ ٢٩

٣٦٣

الآيات ٥٥ ـ ٥٩

٣٩٧

الآيات ٣٠ ـ ٣٣

٣٦٤

سورة الجاثية

٣٩٨

الآيات ٣٤ ـ ٣٧

٣٦٥

الآيات ١ ـ ٥

٣٩٨

الآيات ٣٨ ـ ٤٣

٣٦٦

الآيات ٦ ـ ١٣

٣٩٩

الآيات ٤٤ ـ ٤٦

٣٦٧

الآيات ١٤ ـ ٢٠

٤٠٠

الآيات ٤٧ ـ ٥٤

٣٦٨

الآيتان ٢١ ـ ٢٢

٤٠١

سورة الشورى

٣٦٩

الآيات ٢٣ ـ ٢٧

٤٠٢

الآيات ١ ـ ٤

٣٦٩

الآيات ٢٨ ـ ٣٤

٤٠٣

الآيات ٥ ـ ١١

٣٧٠

الآيات ٣٥ ـ ٣٧

٤٠٤

الآيات ١٢ ـ ١٥

٣٧١

سورة الأحقاف

٤٠٥

الآيات ١٦ ـ ٢٠

٣٧٢

الآيات ١ ـ ٥

٤٠٥

الآيات ٢١ ـ ٢٣

٣٧٣

الآيات ٦ ـ ٩

٤٠٦

 الآيات ٢٤ ـ ٢٩

٣٧٤

الآيتان ١٠ ـ ١١

٤٠٧

الآيات ٣٠ ـ ٣٧

٣٧٥

الآيات ١٢ ـ ١٤

٤٠٨

الآيات ٣٨ ـ ٤٤

٣٧٦

الآيات ١٥ ـ ١٨

٤٠٩

الآيات ٤٥ ـ ٥٠

٣٧٧

الآيات ١٩ ـ ٢٣

٤١٠

الآيات ٥١ ـ ٥٣

٣٧٨

الآيات ٢٤ ـ ٢٨

٤١١

سورة الزخرف

٣٧٩

الآيات ٢٩ ـ ٣٢

٤١٢

الآيات ١ ـ ٨

٣٧٩

الآيات ٣٣ ـ ٣٥

٤١٣

الآيات ٩ ـ ١٤

٣٨٠

سورة القتال

٤١٤


الآيات ١ ـ ٣

٤١٤

الآيات ٣٤ ـ ٤١

٤٤٨

الآيات ٤ ـ ١٠

٤١٥

الآيات ٤٢ ـ ٤٥

٤٤٩

الآيات ١١ ـ ١٥

٤١٦

سورة الذاريات

٤٥٠

الآيات ١٦ ـ ١٨

٤١٧

الآيات ١ ـ ٩

٤٥٠

الآيات ١٩ ـ ٢٢

٤١٨

الآيات ١٠ ـ ٢٢

٤٥١

الآيات ٢٣ ـ ٢٧

٤١٩

الآيات ٢٣ ـ ٢٩

٤٥٢

الآيات ٢٨ ـ ٣٢

٤٢٠

الآيات ٣٠ ـ ٣٩

٤٥٣

الآيات ٣٣ ـ ٣٧

٤٢١

الآيات ٤٠ ـ ٥٠

٤٥٤

الآية ٣٨

٤٢٢

الآيات ٥١ ـ ٥٦

٤٥٥

سورة الفتح

٤٢٣

الآيات ٥٧ ـ ٦٠

٤٥٦

الآية ١

٤٢٣

سورة الطور

٤٥٧

الآيات ٢ ـ ٥

٤٢٤

الآيات ١ ـ ١٣

٤٥٧

الآيات ٦ ـ ١٠

٤٢٥

الآيات ١٤ ـ ٢٠

٤٥٨

الآيات ١١ ـ ١٣

٤٢٦

الآيات ٢١ ـ ٢٣

٤٥٩

الآيتان ١٤ ـ ١٥

٤٢٧

الآيات ٢٤ ـ ٣٢

٤٦٠

الآيتان ١٦ ـ ١٧

٤٢٨

الآيات ٣٣ ـ ٤١

٤٦١

الآيتان ١٨ ـ ١٩

٤٢٩

الآيات ٤٢ ـ ٤٩

٤٦٢

الآيات ٢٠ ـ ٢٤

٤٣٠

سورة النجم

٤٦٣

الآية ٢٥

٤٣١

الآيات ١ ـ ٧

٤٦٣

الآية ٢٦

٤٣٢

الآيات ٨ ـ ١٧

٤٦٤

الآيتان ٢٧ ـ ٢٨

٤٣٣

الآيات ١٨ ـ ٢٧

٤٦٥

الآية ٢٩

٤٣٤

الآيات ٢٨ ـ ٣١

٤٦٦

سورة الحجرات

٤٣٥

الآيات ٣٢ ـ ٤٢

٤٦٧

الآيتان ١ ـ ٢

٤٣٥

الآيات ٤٣ ـ ٥٣

٤٦٨

الآيات ٣ ـ ٥

٤٣٦

الآيات ٥٤ ـ ٦٢

٤٦٩

الآيات ٦ ـ ٨

٤٣٧

سورة القمر

٤٧٠

الآيتان ٩ ـ ١٠

٤٣٨

الآيات ١ ـ ٦

٤٧٠

الآيتان ١١ ـ ١٢

٤٣٩

الآيات ٧ ـ ١٩

٤٧١

الآية ١٣

٤٤٠

الآيات ٢٠ ـ ٣١

٤٧٢

الآيتان ١٤ ـ ١٥

٤٤١

الآيات ٣٢ ـ ٤٢

٤٧٣

الآيات ١٦ ـ ١٨

٤٤٢

الآيات ٤٣ ـ ٥٥

٤٧٤

سورة ق

٤٤٣

سورة الرحمن

٤٧٥

الآيات ١ ـ ٤

٤٤٣

الآيات ١ ـ ١٢

٤٧٥

الآيات ٥ ـ ٨

٤٤٤

الآيات ١٣ ـ ٢٤

٤٧٦

الآيات ٩ ـ ١٥

٤٤٥

الآيات ٢٥ ـ ٣٤

٤٧٧

الآيات ١٦ ـ ٢٣

٤٤٦

الآيات ٣٥ ـ ٤٨

٤٧٨

الآيات ٢٤ ـ ٣٣

٤٤٧

الآيات ٤٩ ـ ٦٢

٤٧٩


الآيات ٦٣ ـ ٧٨

٤٨٠

الآيات ٢٠ ـ ٢٤

٥١٤

سورة الواقعة

٤٨١

سورة الممتحنة

٥١٥

الآيات ١ ـ ١٢

٤٨١

الآيات ١ ـ ٣

٥١٦

الآيات ١٣ ـ ٢٣

٤٨٢

الآيات ٤ ـ ٧

٥١٧

الآيات ٢٤ ـ ٣٦

٤٨٣

الآيتان ٨ ـ ٩

٥١٨

الآيات ٣٧ ـ ٥٦

٤٨٤

الآيتان ١٠ ـ ١١

٥١٩

الآيات ٥٧ ـ ٦٧

٤٨٥

الآية ١٢

٥٢٠

الآيات ٦٨ ـ ٧٩

٤٨٦

الآية ١٣

٥٢١

الآيات ٨٠ ـ ٩١

٤٨٧

سورة الصف

٥٢٢

الآيات ٩٢ ـ ٩٦

٤٨٨

الآيات ١ ـ ٥

٥٢٢

سورة الحديد

٤٨٩

الآيات ٦ ـ ١٠

٥٢٣

الآيات ١ ـ ٦

٤٨٩

الآيات ١١ ـ ١٣

٥٢٤

الآيات ٧ ـ ٩

٤٩٠

الآية ١٤

٥٢٥

الآيتان ١٠ ـ ١١

٤٩١

سورة الجمعة

٥٢٦

الآيات ١٢ ـ ١٤

٤٩٢

الآيات ١ ـ ٣

٥٢٦

الآيات ١٥ ـ ١٨

٤٩٣

الآيات ٤ ـ ٩

٥٢٧

الآية ١٩

٤٩٤

الآيتان ١٠ ـ ١١

٥٢٨

الآيات ٢٠ ـ ٢٤

٤٩٥

سورة المنافقون

٥٢٩

الآيتان ٢٥ ـ ٢٦

٤٩٦

الآيتان ١ ـ ٢

٥٢٩

الآيات ٢٧ ـ ٢٩

٤٩٧

الآيات ٣ ـ ٧

٥٣٠

سورة المجادلة

٤٩٨

الآيات ٨ ـ ١١

٥٣١

الآية ١ ٤٩٨ الآية ٢

٤٩٩

سورة التغابن

٥٣٢

الآيات ٣ ـ ٦

٥٠٠

الآيات ١ ـ ٥

٥٣٢

الآيتان ٧ ـ ٨

٥٠١

الآيات ٦ ـ ١٢

٥٣٣

الآيتان ٩ ـ ١٠

٥٠٢

الآيات ١٣ ـ ١٨

٥٣٤

الآيتان ١١ ـ ١٢

٥٠٣

سورة الطلاق

٥٣٥

الآيات ١٣ ـ ١٨

٥٠٤

الآية ١

٥٣٥

الآيات ١٩ ـ ٢١

٥٠٥

الآيات ٢ ـ ٤

٥٣٦

الآية ٢٢

٥٠٦

الآيات ٥ ـ ٧

٥٣٧

سورة الحشر

٥٠٧

الآيات ٨ ـ ١١

٥٣٨

الآية ١

٥٠٧

الآية ١٢

٥٣٩

الآيات ٢ ـ ٥

٥٠٨

سورة التحريم

٥٤٠

الآيتان ٦ ـ ٧

٥٠٩

الآية ١

٥٤٠

الآيات ٨ ـ ١٠

٥١٠

الآيات ٢ ـ ٤

٥٤١

الآيات ١١ ـ ١٥

٥١١

الآيات ٥ ـ ٨

٥٤٢

الآيات ١٦ ـ ١٩

٥١٣

الآيات ٩ ـ ١٢

٥٤٣

سورة الملك

٥٤٥


الآيتان ١ ـ ٢

٥٤٥

الآيات ٩ ـ ١٧

٥٧٦

الآيات ٣ ـ ١٣

٣٤٦

الآيات ١٨ ـ ٢٠

٥٧٧

الآيات ١٤ ـ ٢١

٥٤٧

سورة المدثر

٥٧٨

الآيات ٢٢ ـ ٢٩

٥٤٨

الآيات ١ ـ ٧

٥٧٨

الآية ٣٠

٥٤٩

الآيات ٨ ـ ١٧

٥٧٩

سورة القلم

٥٥٠

الآيات ١٨ ـ ٣٠

٥٨٠

الآيتان ١ ـ ٢

٥٥٠

الآيات ٣١ ـ ٣٣

٥٨١

الآيات ٣ ـ ١٣

٥٥١

الآيات ٣٤ ـ ٥٦

٥٨٢

الآيات ١٤ ـ ٢٧

٥٥٢

سورة القيامة

٥٨٣

الآيات ٢٨ ـ ٣٦

٥٥٣

الآيات ١ ـ ٨

٥٨٣

الآيات ٣٧ ـ ٤٦

٥٥٤

الآيات ٩ ـ ٣٠

٥٨٤

الآيات ٤٧ ـ ٥٢

٥٥٥

الآيات ٣١ ـ ٤٠

٥٨٥

سورة الحاقة

٥٥٦

سورة الإنسان

٥٨٦

الآيات ١ ـ ١٠

٥٥٦

الآيات ١ ـ ٤

٥٨٦

الآيات ١١ ـ ١٨

٥٥٧

الآيات ٥ ـ ١٣

٥٨٧

الآيات ١٩ ـ ٣٦

٥٥٨

الآيات ١٤ ـ ١٩

٥٨٨

الآيات ٣٧ ـ ٤٦

٥٥٩

الآيات ٢٠ ـ ٢٦

٥٨٩

الآيات ٤٧ ـ ٥٢

٥٦٠

الآيات ٢٧ ـ ٣١

٥٩٠

سورة المعارج

٥٦١

سورة المرسلات

٥٩١

الآيتان ١ ـ ٢

٥٦١

الآيات ١ ـ ١١

٥٩١

الآيات ٣ ـ ٩

٥٦٢

الآيات ١٢ ـ ٢٣

٥٩٢

الآيات ١٠ ـ ٢١

٥٦٣

الآيات ٢٤ ـ ٤١

٥٩٣

الآيات ٢٢ ـ ٣٩

٥٦٤

الآيات ٤٢ ـ ٥٠

٥٩٤

الآيات ٤٠ ـ ٤٤

٥٦٥

سورة النبأ

٥٩٥

سورة نوح

٥٦٦

الآيات ١ ـ ٩

٥٩٥

الآيات ١ ـ ٨

٥٦٦

الآيات ١٠ ـ ٢٨

٥٩٦

الآيات ٩ ـ ٢٢

٥٦٧

الآيات ٢٩ ـ ٤٠

٥٩٧

الآيات ٢٣ ـ ٢٦

٥٦٨

سورة النازعات

٥٩٩

الآيتان ٢٧ ـ ٢٨

٥٦٩

الآيات ١ ـ ٧

٥٩٩

سورة الجن

٥٧٠

الآيات ٨ ـ ٢٤

٦٠٠

الآيات ١ ـ ٦

٥٧٠

الآيات ٢٥ ـ ٣٩

٦٠١

الآيات ٧ ـ ١٦

٥٧١

الآيات ٤٠ ـ ٤٦

٦٠٢

الآيات ١٧ ـ ٢١

٥٧٢

سورة عبس

٦٠٣

الآيات ٢٢ ـ ٢٧

٥٧٣

الآيات ١ ـ ٨

٦٠٣

الآية ٢٨

٥٧٤

الآيات ٩ ـ ٢٧

٦٠٤

سورة المزمل

٥٧٥

الآيات ٢٨ ـ ٤٢

٦٠٥

الآيات ١ ـ ٨

٥٧٥

سورة التكوير

٦٠٦


الآيات ١ ـ ٩

٦٠٦

سورة الشمس

٦٣٥

الآيات ١٠ ـ ٢٢

٦٠٧

الآيات ١ ـ ١٥

٦٣٥

الآيات ٢٣ ـ ٢٩

٦٠٨

سورة والليل

٦٣٧

سورة الانفطار

٦٠٩

الآيات ١ ـ ١٦

٦٣٧

الآيات ١ ـ ٨

٦٠٩

الآيات ١٧ ـ ٢١

٦٣٨

الآيات ٩ ـ ١٩

٦١٠

سورة الضحى

٦٣٩

سورة التطفيف

٦١١

الآيات ١ ـ ٣

٦٣٩

الآيات ١ ـ ٦

٦١١

الآيات ٤ ـ ٦

٦٤٠

الآيات ٧ ـ ٢٥

٦١٢

الآيات ٧ ـ ١٠

٦٤١

الآيات ٢٦ ـ ٣٦

٦١٣

الآية ١١

٦٤٢

سورة الانشقاق

٦١٤

سورة ألم نشرح

٦٤٣

الآيات ١ ـ ١٤

٦١٤

الآيات ١ ـ ٤

٦٤٣

الآيات ١٥ ـ ٢٥

٦١٥

الآيات ٦ ـ ٨

٦٤٤

سورة البروج

٦١٦

سورة التين

٦٤٥

الآيات ١ ـ ٧

٦١٦

الآيات ١ ـ ٦

٦٤٥

الآيتان ٨ ـ ٩

٦١٨

الآيتان ٧ ـ ٨

٦٤٦

الآيات ١٠ ـ ٢٠

٦١٩

سورة العلق

٦٤٧

الآيتان ٢١ ـ ٢٢

٦٢٠

الآيات ١ ـ ١٠

٦٤٧

سورة الطارق

٦٢١

الآيات ١١ ـ ١٥

٦٤٨

الآيات ١ ـ ٧

٦٢١

الآيات ١٦ ـ ١٩

٦٤٩

الآيات ٨ ـ ١٥

٦٢٢

سورة القدر

٦٥٠

سورة الأعلى

٦٢٣

الآيات ١ ـ ٣

٦٥٠

الآيات ١ ـ ٦

٦٢٣

الآيتان ٤ ـ ٥

٦٥١

الآيات ٧ ـ ١٩

٦٢٤

سورة البيّنة

٦٥٣

سورة الغاشية

٦٢٥

الآيات ١ ـ ٥

٦٥٣

الآيات ١ ـ ١٢

٦٢٥

الآيات ٦ ـ ٨

٦٥٤

الآيات ١٣ ـ ٢٤

٦٢٦

سورة الزلزلة

٦٥٥

الآيتان ٢٥ ـ ٢٦

٦٢٧

الآيات ١ ـ ٧

٦٥٥

سورة الفجر

٦٢٨

الآية ٨

٦٥٦

الآيات ١ ـ ٥

٦٢٨

سورة والعاديات

٦٥٧

الآيات ٦ ـ ٨

٦٢٩

الآيات ١ ـ ٦

٦٥٧

الآيات ٩ ـ ١٦

٦٣٠

الآيات ٧ ـ ١١

٦٥٨

الآيات ١٧ ـ ٢٢

٦٣١

سورة القارعة

٦٥٨

الآيات ٢٣ ـ ٣٠

٦٣٢

الآيات ١ ـ ٣

٦٥٨

سورة البلد

٦٣٣

الآيات ٤ ـ ١١

٦٥٩

الآيات ١ ـ ٧

٦٣٣

سورة التكاثر

٦٥٩

الآيات ٨ ـ ٢٠

٦٣٤

الآيتان ١ ـ ٢

٦٥٩


 الآيات ٣ ـ ٨

٦٦٠

سورة الكافرون

٦٧٢

سورة والعصر

٦٦٠

 الآيات ١ ـ ٦

٦٧٢

الآية ١

٦٦٠

سورة النصر

٦٧٣

الآيتان ٢ ـ ٣

٦٦١

الآية ١

٦٧٣

سورة الهمزة

٦٦١

الآيتان ٢ ـ ٣

٦٧٤

الآيتان ١ ـ ٢

٦٦١

سورة أبي لهب

٦٧٦

الآيات ٣ ـ ٩

٦٦٢

الآية ١

٦٧٦

سورة الفيل

٦٦٣

الآيات ٢ ـ ٥

٦٧٧

الآيات ١ ـ ٥

٦٦٣

سورة الإخلاص

٦٧٨

سورة قريش

٦٦٥

الآية ١

٦٧٨

الآيتان ١ ـ ٢

٦٦٥

الآيات ٢ ـ ٤

٦٧٩

الآيتان ٣ ـ ٤

٦٦٦

سورة الفلق

٦٨١

سورة الماعون

٦٦٧

الآية ١

٦٨١

الآيات ١ ـ ٣

٦٦٧

الآيات ٢ ـ ٥

٦٨٢

الآيات ٤ ـ ٧

٦٦٨

سورة الناس

٦٨٣

سورة الكوثر

٦٦٩

الآيات ١ ـ ٣

٦٨٣

الآية ١

٦٦٩

الآيات ٤ ـ ٦

٦٨٤

الآيتان ٢ ـ ٣

٦٧١

الفهرس

٦٨٥

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - ٢

المؤلف:
الصفحات: 695