بسم الله الرّحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على عباده الّذين اصطفى من خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، سيّما بقيّة الله في الأرضين أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

يعتبر علم الفقه من أوسع العلوم الإسلاميّة وأشهرها لارتباطه اليوميّ بحياة الفرد المسلم. في عباداته ومعاملاته وعلاقاته ببني نوعه.

وقد أولى علماء الإسلام المتقدّمين والمتأخّرين ، اقتداء بنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتهم عليهم‌السلام اهتماما بالغا بهذا العلم الشريف ، ويتبيّن هذا الاهتمام جليّا في ما دوّنوه من مؤلّفات قيّمة في هذا المضمار ، وكان من جملة هؤلاء العلماء آية الله الحاج ميرزا أبو الفضل النجم‌آبادي رحمه‌الله.

فقد ترك لنا هذا العالم الجليل آثارا قيّمة في هذا المجال ، تأليفا وتحقيقا ، وتقريرا.

ومن جملة ما سطّره يراعه الشريف رسائل متفرّقة في الفقه هي تقريراته لدروس أساتذته خصوصا العلمين الآيتين النائيني والعراقي رحمه‌الله ، زوّدنا بنسخها خلفه الفاضل الدكتور محمّد علي النجم‌آبادي ، وقد جمعناها بعد ترتيبها تحت عنوان «الرسائل الفقهيّة» وهي الّتي بين يديك.


«الرسائل الفقهيّة» : هو الإصدار الثالث الّذي يصدر عن مؤسسة آية الله العظمى البروجردي قدس‌سره من آثار المرحوم النجم‌آبادي رحمه‌الله.

نسخ الكتاب

نسخ هذه الرسائل مليئة بالمشاكل والأخطاء والتصحيفات بالإضافة إلى عدم الترتيب ، ويمكن درجها على النحو التالي :

١ ـ رسالة (لباس المصلّي) : مخرومة الأوّل والآخر.

٢ ـ رسالة (صلاة الجماعة) : مخرومة الآخر.

٣ ـ رسالة (الخمس) : تعرّض المؤلّف رحمه‌الله فيها لقسم من البحث في المسألة ولم يشر في آخرها إلى انتهائه.

٤ ـ رسالة (الوقف) : لم يصرّح رحمه‌الله فيها باسم أحد من أساتذته ، نعم ؛ في الصفحة (٢٤٨) من هذا الكتاب (رسالة الوقف) تطالعنا هذه العبارة : «كما حقّقنا ذلك في رسالة الغصب» وبما أنّ رسالة الغصب هي تقريره لدروس المرحوم آقا ضياء الدين العراقي ، فيكون الظنّ الغالب أنّ هذه الرسالة أيضا هي تقريره لأستاذه المذكور حيث حرّرها في تأريخ : العشر الآخر من ذي القعدة الحرام ١٣٤٧ ه‍. ق ، والله أعلم. وهذه الرسالة تامّة الأوّل والآخر.

٥ ـ رسالة (الإجارة) : لا نقطع بنسبة هذه الرسالة إلى المؤلّف رحمه‌الله لعدم تمامها أوّلا وخطّها السقيم الغير مقروء إلّا بصعوبة بالغة ، على أيّة حال ، فقد كانت هي ولاحقتها رسالة (الوكالة) ضمن النسخ التي زوّدنا بها ولد المؤلّف كما أسلفنا ، وقد كان عملنا فيهما شاقّا للأسباب المذكورة.


٦ ـ رسالة (الوكالة) : وقد تقدّم الحديث عنها في الفقرة السابقة.

٧ ـ رسالة (تصرّفات المريض) : تامّة الأوّل والآخر ولم يشر فيها إلى تأريخ تحريرها.

٨ ـ رسالة (الغصب) : مخرومة الأوّل وقال في آخرها : وقد وقع الفراغ في العشر الآخر من شعبان من سنة ١٣٤٤ ه‍. ق ، وعليه التكلان.

عملنا في الكتاب

تركّز عمل الإخوة المحقّقين الأفاضل في هذه الرسائل بالدرجة الأولى على ترتيب أوراق كلّ رسالة من خلال قراءة المتن بدقّة لربط كلّ صفحة بالّتي سبقتها ، ثمّ رفع الأخطاء اللغويّة والتصحيفات ، وإيراد كلام ملائم للرسائل المخرومة الأوّل لتتميم البحث ووصله ، وقد أشرنا إلى كلّ في موضعه.

وخلاصة القول : فقد بذل الإخوة المحقّقون الأفاضل جهودا مضاعفة وتحمّلوا مشاقّ العمل في إخراج وترتيب وتبويب وفهرسة الكتاب وترتيب الرسائل حسب التسلسل المتعارف في أبواب الفقه ، ليخرج هذا الكتاب بهذه الصورة.

والمؤسّسة إذ تضع هذا السفر بين يدي العلماء الأعلام والمحقّقين الكرام وطلبة علوم أهل البيت عليهم‌السلام لا تدّعي أنّه خال تماما من الأخطاء والاشتباهات فإن وجد فيه نقص فإنّ الكمال لله وحده ، كما تتقدّم بالشكر الجزيل والامتنان إلى أصحاب السماحة : حجج الإسلام والمسلمين : السيّد محمّد الحسيني ، والشيخ محمّد الرسولي ، والشيخ علي آيةاللهي ، والشيخ علي طاهرپور ، والإخوة


الأفاضل : الحاج عبد الحسين التبريزيان ، ومحمّد حسين الرحيميان ، وكريم راضي الواسطي ، وقد كان العمل في هذا الكتاب بجميع مراحله تحت إشراف وتوجيه سماحة الشيخ عبد الله المحمّدي ، فلله درّهم جميعا وعليه أجرهم ، ووفّقنا الله جميعا لخدمة علوم أهل البيت عليهم‌السلام إنّه خير ناصر ومعين.

مؤسسة آية الله العظمى البروجردي رحمه‌الله

لنشر معالم أهل البيت عليهم‌السلام


نماذج

من النسخ الخطيّة



















الفهرس الإجمالي

١ ـ رسالة الطهارة (٢٩ ـ ٨٦)

٢ ـ رسالة الصلاة (٨٧ ـ ٢٢٠)

٣ ـ رسالة الخمس (٢٢١ ـ ٢٤٣)

٤ ـ رسالة الوقف (٢٤٥ ـ ٣٥٦)

٥ ـ رسالة الاجارة (٣٥٧ ـ ٣٦٤)

٦ ـ رسالة الوكالة (٣٦٥ ـ ٤٦٨)

٧ ـ رسالة الوصايا (٤٦٩ ـ ٥١٠)

٨ ـ رسالة الغصب (٥١١ ـ ٦٨٤)



رسالة الطهارة

حكم الماء القليل

حكم شرب الماء النجس وبيعه

حكم الغسالة

جواز البدار لذوي الأعذار وعدمه

حكم خرء الطير وبوله

نجاسة المني

نجاسة الميتة

نجاسة الدم

حكم العصير العنبي

نجاسة الكافر

تطهير الأواني

ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

جواز بيع المتنجّس وعدمه



بسم الله الرحمن الرحيم

[الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين].

حكم الماء القليل

لا خلاف بل لا إشكال في انفعال الماء القليل بالنجاسة في الجملة ، والأخبار الخاصّة الدالّة عليه كثيرة ، بحيث تكون فوق حدّ الاستفاضة ، كما تدلّ عليه أخبار [الماء] الكثير والماء الكرّ (١) بتقريب آخر غير ما قرّرناه ، وهو : أنّه لمّا كان الظاهر منها التحديد ، خصوصا ما وقع منها في جواب الأسئلة ، فيدلّ ذلك على انحصار القلّة [و] أنّ الّذي لا ينفعل هو الكرّ.

فيستفاد من مفهوم تلك الأخبار أنّ القليل غير عاصم ، وينجس بكلّ ما لا ينجس به الكثير ، بمعنى أنّه كما أنّ لفظ الشي‌ء في المنطوق عامّ كذلك المفهوم ، ولا إهمال فيه ؛ لأنّ المفهوم وإن كان مدلولا عقليّا إلّا أنّ كيفيّة الاستفادة موكول إلى العرف ، ومن المعلوم أنّ العرف يفهم في المقام أنّ كلّ ما ليس بمنجّس للكثير منجّس للقليل.

وبعبارة اخرى ؛ ليس نفي التنجيس في المنطوق عن جنس النجاسات ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ١٤٣ الباب ٥ و ١٥٨ الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.


ويكون مفاد القضيّة سبب العموم حتّى يكون نقيضه ثابتا في المفهوم ، وهو إثبات التنجيس لبعض النجاسات ، بل المفاد للسالبة الكليّة سلب الحكم عن كلّ فرد من النجاسات ، فيكون المستفاد من مفهومها إثبات الحكم والتنجيس لكلّ فرد منها ، إلى ذلك أشار الشيخ قدس‌سره في طهارته (١).

هذا مضافا إلى أنّ الإهمال ينافي التحديد ، بل الظاهر منه أنّه في مقام بيان تمام الحكم ، بحيث لا يبقى السائل في الحيرة من جهة أصلا.

وتدلّ على انفعال الماء القليل أيضا الأخبار الخاصّة ـ كما أشرنا إليها ـ الواردة في الماء الّذي شرب منه الكلب والخنزير ، أو وقع فيه القذر أو الخمر أو غيره ، من الميتة ونحوها (٢) ، ولا خصوصيّة لشي‌ء منها ، بداهة أنّ الملاك كلّه ملاقاة النجاسة.

وكيف كان ؛ الدليل القطعيّ في مقابل قول ابن [أبي] عقيل (٣) موجود ، إنّما الكلام في تنجّس القليل بمطلق النجس بحيث يعمّ المتنجّس ، وهو الّذي وقع البحث فيه ، وبنى على عدم الانفعال بالمتنجّسات بعض القدماء (٤) وجمع من المتأخّرين (٥). واشتدّ الخلاف فيه بين متأخري المتأخّرين ، وذهب إلى عدم الانفعال بها في الجملة جمع من أعاظم من عاصرناهم ، منهم الفقيه الزاهد الهمداني (٦) قدس‌سره.

__________________

(١) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ١ / ١١٥ و ١١٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ١٥٨ الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ١٧٦.

(٤) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ١٧٦.

(٥) انظر! مفتاح الكرامة : ١ / ٧٣ ، مفاتيح الشرائع : ١ / ٨٣.

(٦) مصباح الفقيه : ١ / ٨٣.


وحاصل مقالة هؤلاء الجماعة عدم وجود الدليل على الانفعال ، وإنّما القدر المتيقّن من الأدلّة هو تأثير الأعيان النجسة وبعض أقسام المتنجّس ، كالمائع منه الملاقي للنجس ، كما يدلّ عليه الأخبار الدالّة على غسل الإناء الواقع فيها النجاسة أو شرب منها الكلب ، مع الالتزام بعدم الملازمة بين شربه ومسّه نفس الإناء والكأس ، وأمّا المتنجّسات الجامدة الّتي ليست فيها عين النجاسة كالمتنجّس بالدم أو القذر الّذي يبس وذهب عينهما ، فلا دليل على التنجّس بها حينئذ ولو كان الملاقي رطبا ، وأمّا الأوامر الواردة في غسل الثياب ونحوه فإنّما هي لاشتراط طهارته في الصلاة ، فلا يتوهّم أنّها لدفع السراية حتّى يتمسّك بإطلاقها وشمولها لما إذا يبست النجاسة وذهبت عينها من الثوب.

هذا ؛ ولكن هذا الجواب وإن سلّم في مثل الثوب ، ولكن لا يتمّ بالنسبة إلى تطهير الفرش والبساط وغيرهما من الآلات ، مضافا إلى أنّ نفس تلك الأخبار الدالّة على لزوم غسل الإناء ونحوها ، الشاملة لحال تجدّد النجاسة ويبوسة الإناء تكفي للدلالة على المدّعى ، كما لا يخفى.

وأمّا حملها على التنزّه عن النجاسات مطلقا في الأكل والشرب كما ترى ، على أنّ الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة ، بل السيرة العمليّة على الاجتناب عن ملاقي المتنجّسات مطلقا المنتهية إلى زمان المعصوم عليه‌السلام محقّقة ، كما ادّعى شيخنا قدس‌سره استاد الأساطين في طهارته في بحث الماء المضاف كون المسألة ضروريّة (١) ، فعلى هذا لا ينبغي ترك الاحتياط في المسألة ، وإن كان الالتزام بالنجاسة فيما إذا تعدّت الواسطة وتجاوزت عن الأولى والثانية في غاية الإشكال ؛ لعدم شمول الأدلّة لها ، فراجع وتدبّر.

__________________

(١) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ١ / ٣٠١.



حكم شرب الماء النجس وبيعه

... فالتحقيق (١) عدم الفرق بين المختلفتين والمتساويتين سوى باب المخاصمات ؛ لما ورد فيها من الأخبار الخاصّة (٢) ، ففي المقام تسقط البيّنتان مطلقا للتعارض ، ويراجع إلى الأصل كما عليه الأصحاب قدس‌سره ، ولا موجب للترجيح أصلا وإن كان مقتضى ما يظهر من كلام السيّد ـ طاب رمسه الشريف ـ في قضاء «العروة» في بحث تعارض البيّنات الالتزام بالمرجّحات الداخليّة مطلقا ، حيث أفتى قدس‌سره بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها (٣) ؛ لما أشرنا إليه من أنّ حجيّة البيّنة لمّا كانت لإفادتها الظنّ النوعيّ وليس كالأصل تعبّديّا محضا ، فكلّما أوجب قوّة الظنّ لا بدّ من الترجيح به ، ويظهر منه بناؤه عليه في تعارض الأخبار أيضا.

والحاصل ؛ أنّ المستفاد من مقالته في ذاك الباب البناء على الرجوع إلى المرجّحات في تعارض الأمارات مطلقا ، ومنها المقام ، ولكن لم يظهر لنا إلى الآن التزام الأصحاب به فيه وسائر المقامات ، ورفع اليد عن مقتضى القاعدة في الأدلّة المتعارضة سوى باب المخاصمات والأخبار المتعارضة ، فالحقّ ما عليه الجلّ.

__________________

(١) كما يظهر من السياق ، هنا سقطة من الكلام.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٢٤٩ الباب ١٢ من أبواب كيفيّة الحكم.

(٣) العروة الوثقى : ٣ / ١٤٩ و ١٥٠.


وقد عرفت أنّ الدليل أيضا لا يقتضي التجاوز عن البابين والعدول عن الأصل في المقام.

فرع :

قالوا : لا يجوز شرب الماء النجس للمكلّفين ، بل يحرم سقيه للأطفال ، ويجوز بيعه مع الإعلام. فهنا مقامات :

الأوّل ؛ عدم جواز تناول النجس للمكلّفين.

والثاني ؛ حرمة التسبيب له للغير بالغا كان أو غيره.

الثالث ؛ اشتراط صحّة بيعه بالإعلام.

أمّا الدليل على الأوّل ـ مضافا إلى الإجماع المحقّق ، بل هو ضروريّ الدين وأنّه من الخبائث ـ الأخبار الخاصّة الواردة في مثل الماء النجس والسمن وغيرهما ، حيث أمروا عليهم‌السلام بالإراقة (١) ، وفي جملة منها نهوا عليهم‌السلام عن الشرب وغيره (٢).

إنّما الكلام في حرمة التسبيب لتناول الغير ؛ إذ يمكن أن يقال : إذا كان الغير جاهلا بالنجاسة فهو معذور في تناوله ولا إثم عليه ، فلا معصية ، وعلى هذا لا محذور فيه ولا منع.

وفيه أوّلا : إنّ المعذوريّة لا ترفع الحرمة الواقعيّة المترتّبة على الموضوعات الخارجيّة ، والإيقاع على الحرام النفس الأمريّ يكون كالإضلال قبيح عقلا وحرام شرعا ؛ إذ القذارة والنجاسة من الامور الواقعيّة والمفاسد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ١٥٠ الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ١٣٧ الباب ٣ من أبواب الماء المطلق.


الخارجيّة الّتي نشأت [منها] الحرمة ، ولا دخل فيها للعلم والجهل.

وبالجملة ؛ المسبّب لوقوع الغير في الحرام مرتكب للحرام ، فلا يجوز له الإقدام.

وثانيا : الخبر الوارد في المرق الواقع فيه الجرذ والفأرة أمر عليه‌السلام فيه بإهراق المرق (١) مع أنّه لو كان يجوز تناول الجاهل لكان ينهى عليه‌السلام عن تناول السائل ، فيستفاد من أمره عدم جواز الاستفادة منه بوجه ، فتأمّل.

وثالثا : الأخبار الواردة في الدهن النجس والميتة (٢) صريحة في عدم جواز البيع إلّا أن يبيّن للمشتري ويعلمه (٣) بالنجاسة حتّى لا يصرفه إلّا في الاستصباح.

ومن المعلوم على ما بيّنه شيخنا قدس‌سره في «المكاسب» عدم ترتّب بين الإعلام والاستصباح بوجه (٤) ، فليس المقصود إلّا تبيينه للمشتري حتّى لا يأكله ولا يصرفه في ما هو مشروط بالطهارة.

وأما المقام الثاني ؛ فقد اتّضح ممّا بيّنا حكم التسبيب بالنسبة إلى المكلّفين ، وأمّا بالنسبة إلى الأطفال في غير مثل الخمر فيشكل الأمر فيه ، إذ لا أمر ولا نهي لهم ، إلّا أن يتمسّك بإطلاق مادّة الأدلّة بالنسبة إليهم ، أو من إطلاق قوله عليه‌السلام بإهراق المرق المتنجّس ، أو بعموم آية الرجز (٥) على أحد معانيه ، وهو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٩٦ الحديث ٣٠٣٣٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٧ الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) في بعضها قال عليه‌السلام : «حتّى تبيّنه» (وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٨ الحديث ٢٢٠٧٨) وفي بعضها : «حتّى تعلمه» (وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٨ الحديث ٢٢٠٧٦) ونحوه (وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٨ الحديث ٢٢٠٧٧) ، «منه رحمه‌الله».

(٤) المكاسب : ١ / ٧٣.

(٥) المدّثّر (٧٤) : ٤.


القذر والنجس ، كما يمكن الاستدلال بها بناء عليه ؛ لحرمة التسبيب مطلقا ، وكيف كان ؛ فلا ينبغي ترك الاحتياط بالنسبة إلى الأطفال.

وأما المقام الثالث ؛ فالّذي يدلّ على وجوب الإعلام لبيع النجس الروايات المعتبرة بين الصحيحة والموثّقة وغيرهما أوردها في «الحدائق» (١) أشرنا إلى بعضها هنا وأوردها في «الوسائل» في الأبواب المتفرّقة (٢).

وحاصل ما يستفاد منها وجوب الإعلام في بيع الدهن النجس ، ومن المعلوم أنّه لا خصوصيّة للدهن أو الميتة ، بل المقطوع به أنّ السبب هو النجاسة حتّى لا يستعمل في غير الاستصباح.

فعلى هذا ؛ الأقوى وجوب الإعلام في بيع المائعات النجسة ، بل كلّ ما يكون أهمّ منافعه وأظهر خواصّه مشروطا بالطهارة ، وإلّا فلا ، كما أفتى بذلك جلّ الأصحاب في الكتب المفصّلة والرسائل العمليّة ، فلا يتوهّم أنّ البائع لمّا لم يكن من ناحيته تسبيب والمشتري جاهل بالنجاسة ومعذور فلا محذور في بيع النجس ؛ إذ قد عرفت أنّ الوجوب الإعلام من جهة الروايات ، فافهم.

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١٨ / ٨٦ ـ ٨٨.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٧ الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به و ٢٤ / ١٩٤ الباب ٤٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.


حكم الغسالة

هذه مسألة معضلة ، مثل مسألة نجاسة ماء البئر إذا وقعت فيها نجاسة ، حيث إنّ المشهور نجاستهما مع أنّ الدليل لا يساعد عليها ، ففي البئر الأخبار معارضة جدّا ، بل الأدلّة على طهارتها أقوى.

وقد تعرّض له قدس‌سره في «مصباح الفقيه» وأشبع الكلام فيه ، وقال : إنّ شهرة القدماء من جهة الرواية غير محقّقة حتّى تثبت بها ضعف أخبار الطهارة ، مضافا إلى كثرة القرائن في أخبار النجاسة الدالّة على استحباب النزح (١) ، وكيف كان فنحن في المباحثة بنينا على الطهارة.

وأمّا الغسالة (٢) فالظاهر أنّه لا خلاف في نجاسة الغسلة المزيلة إلّا من يرى عدم انفعال الماء القليل كالعماني (٣) ، وإنّما البحث في الغسلة الثانية والمطهّرة للمحلّ ، لا إشكال أنّ الالتزام بنجاستها مبنيّ على عموم أو إطلاق في أدلّة تنجيس النجاسات ، بحيث يشمل الملاقي للنجس ، وهو متوقّف على هذين الأمرين من شمول الأخبار الواردة في المواقع الخاصّة في تنجيس النجاسات ، أو الالتزام بالمفهوم للنبويّ المشهور المتلقّى بالقبول ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الماء إذا

__________________

(١) مصباح الفقيه : ١ / ٣١ ـ ٣٥.

(٢) هذه المسائل الثلاث من انفعال الماء القليل ونجاسة الغسالة وتنجيس المتنجّسات كلّ واحدة منها مرتبطة بالاخرى من حيث المبنى والمستند والحكم ، «منه رحمه‌الله».

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ١٧٦.


بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» (١).

أمّا الأوّل ؛ فالإنصاف أنّه ليس في تلك الأخبار ما يشمل المتنجّسات ، كما يظهر للمتتبّع ، فإنّ جلّها مشتملة على أعيان النجاسات ، كالدم والقذر والبول ونحوها.

نعم ؛ روايتان منها يمكن استفادة الإطلاق منهما ، إحداهما رواية العيص (٢) بناء على عدم ظهور البول والقذر في أعيانهما ، كما يشعر بذلك عدم وقوع لفظ المتنجّس في السؤال والجواب في الأخبار ، بل التعبير عنه وقع فيها بأعيان النجاسات أيضا.

والاخرى موثّقة عمّار (٣) ، حيث اعتبر فيها في تطهير الإناء والكوز بالتفريغ ثلاث مرّات ، فإنّه ولو قلنا : إنّه اعتبر لحصول التعدّد ، ولكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الاوليين ، وأمّا بالنسبة إلى الثالثة الّتي رتّب التطهير عليه‌السلام عليها فمعلوم أنّه لا يتوقّف عليه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه حكم تعبّديّ محض ، لا لكون الماء متنجّسا ، فتأمّل.

وأمّا الثاني ؛ فلإنكار أصل المفهوم في المقام مجال (٤) مضافا إلى أنّه بناء عليه أيضا لا يثبت المدّعى ، إذ ثبوته متوقّف على عموم لفظة «الشي‌ء» في المفهوم ، مع أنّه لا مقتضي له كما في المنطوق من وقوع النكرة في سياق النفي ، فيصير المفهوم من هذه الجهة مهملة ، ولا بدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن ، وهو أعيان النجاسات.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٧٦ الحديث ١٥٦ مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢١٥ الحديث ٥٥٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٦ الحديث ٤٢٧٦.

(٤) كما اعترف قدس‌سره به ، في «مصباح الفقيه» ، «منه رحمه‌الله» ؛ (مصباح الفقيه : ١ / ١٧ و ١٨ و ٢٦).


فعلى هذا ؛ القول بطهارة الغسالة في غير الغسلة المزيلة قويّ ، إلّا أن يدّعى الملازمة بين نجاسة الشي‌ء وملاقيه.

بيان ذلك : أنّه لمّا كان المفروض أنّ الشارع أمر بالغسل بعد ذهاب العين أيضا ، فيدلّ ذلك على بقاء المحلّ على النجاسة بعد.

فحينئذ ؛ كيف يمكن الالتزام بطهارة ملاقي النجس ماء كان أو غيره ، مع أنّ السراية أمر عرفيّ ارتكازيّ؟

هذا ؛ ويضعّفه أنّه لا إشكال في طهارة ما بقي من الغسالة في المحلّ ، ومع ذلك لا يجوز الحكم بنجاسة ما انفصل منه ؛ لأنّه يلزم القول باختلاف الماء الواحد في الحكم.

وقد أشار إلى ذلك السيّد قدس‌سره في «الناصريّات» (١).

وبالجملة ؛ فما قوّيناه من طهارة الغسالة أقوى ، وإن كان الاحتياط حسنا ، كما عليه المعظم (٢).

وربّما يستدلّ ببعض الروايات الواردة في الماء القليل ، مثل ما أجاب الإمام عليه‌السلام عن السؤال بأنّ الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل الغسل ، فقال عليه‌السلام : «إن كان أصاب يده جنابة فليهرق الماء» (٣) وما أمر بغسل إناء الماء فيها ، فيستفاد من ذلك عدم نجاسة الإناء وعدم كون المتنجّس منجّسا (٤).

وفيه ما لا يخفى ، إذ ليس السؤال والجواب إلّا عن الماء وبيان حكمه ، لا أمر آخر ، وسيجي‌ء في بحث الماء القليل ماله دخل في المقام إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الناصريّات (الجوامع الفقهيّة) : ١٧٩.

(٢) انظر! مدارك الأحكام : ١ / ١١٨ ـ ١٢٠.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ١٥٤ الحديث ٣٨٤ ، نقله بالمعنى.

(٤) لاحظ! مصباح الفقيه : ١ / ٦١ ط. ق.



جواز البدار لذوي الأعذار وعدمه

هذه المسألة من المعضلات ، وقد اختلف الأصحاب فيها ، فكل ذهب إلى قول من الجواز والمنع ، والتفصيل بين رجاء زوال العذر أو العلم به وعدمه ، وذهب بعضهم إلى التفصيل بين باب التيمّم وسائر الأبواب ، فالتزموا بالجواز في الأوّل نظرا إلى أنّ التيمّم بدل عن الطهارة ، بل مصداق لها ، فيجوز ، بخلاف سائر الأبواب ، حيث إنّ بدليّة الفاقد للشرط من الاضطرار المحض ، فلا يجوز البدار ما لم يكن الاضطرار مستوعبا (١).

وعلى كلّ حال ؛ لا ينبغي استناد أحد الوجوه إلى المشهور وإن ادّعي الشهرة بالنسبة إلى المنع (٢).

وكيف كان ؛ لا بدّ من البحث أوّلا في ما هو مقتضى القواعد العامّة ، ثم في ما تقتضيه الأخبار والأدلّة الخاصّة في كلّ باب.

فنقول : يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاقات الصلاة الشاملة للمكلّفين في كلّ زمان بين الحدّين تدلّ على جواز البدار ، والتشكيك فيها من حيث عدم كونها في مقام بيان القدرة على إيجاد الشرط وعدمه بل هي في مقام أصل التشريع ليس في محلّه ؛ إذ لا إشكال في أنّ مثل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٤ / ٢٤٧.

(٢) جواهر الكلام : ٥ / ١٥٨.


اللَّيْلِ) (١) مطلق بالنسبة إلى كلّ آن بين الحدّين وإن قيّد من جهة أصل التكليف بقيود كالعقل ونحوه ، وأيضا قيّد من ناحية المكلّف به ، إلّا أنّ تقييده من الجهة الثانية لمّا كان بالعرض فيؤخذ فيها بالقدر المتيقّن ، وهو حال الاختيار.

وبالجملة ؛ إطلاقات الصلاة بالنسبة إلى القيود الزائدة على المعلوم منها الواردة عليها باقية على حالها ، فلا مانع من التمسّك بها عند الشكّ.

وهكذا قوله تعالى في باب التيمّم : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) (٢) .. إلى آخره ، فكلّ زمان يصدق عدم الوجدان يصحّ الإتيان بالصلاة والبدار عليها.

ودعوى عدم صدقه مع رجاء رفع العذر باطلة بالوجدان ، وعلى مدّعيها إثباتها.

هذا مقتضى العمومات ، وأمّا الأدلّة الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب ، ففي باب التيمّم من أمعن النظر إلى أخبارها يستفيد الجواز وإن كان بعض أخبارها يوهم المنع (٣) إلّا أنّه لا إطلاق لها ، بل غاية مدلولها لزوم التأخير مع رجاء زوال العذر فينبغي التأخير عنده ، مع أنّ المستفيضة المعتبرة المعلّلة بأنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد (٤) مصرّحة بعدم لزوم الإعادة مع بقاء الوقت.

وأمّا الأخبار الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب ، ففي مسألة عدم وجود الساتر الأخبار مطلقة في الإتيان بالصلاة عاريا (٥) ، وتقييدها بالاضطرار

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٧٨.

(٢) النساء (٤) : ٤٣ ، المائدة (٥) : ٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٨٤ الباب ٢٢ من أبواب التيمّم.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٧٠ الحديث ٣٨٩٥ و ٣٨٩٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٤٤٨ الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي.


المستوعب وعدم وجدان الساتر في تمام الوقت لا موجب له ، وهكذا بالنسبة إلى الساتر النجس وإن كان يظهر منهم وجوب التأخير فيه (١).

ولكنّ الظاهر منهم في مسألة الاضطرار إلى السجود على النجس تسالمهم على عدم لزوم الإعادة مع التمكّن إلى الطاهر في الوقت (٢) ، فراجع.

بل لنا دعوى ذلك بالنسبة إلى مطلق الشروط ، حيث إنّ القدر المتيقّن منها اختصاصها بحال التمكّن والاختيار والقدرة على إيجاد الشروط ، وقد أشار إلى ذلك المحقّق اليزدي الحائري قدس‌سره في صلاته (٣).

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٥ / ٣٥٠.

(٢) العروة الوثقى : ١ / ١٠٠ المسألة ١٢.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الحائري اليزدي : ٢٦٣.



حكم خرء الطير وبوله

فرع :

اختلفوا في نجاسة خرء الطير الغير المأكول ، نسبت النجاسة إلى المشهور (١) استنادا إلى إطلاق الروايات الدالّة على نجاسة أبوال غير المأكول (٢) ، ثم التعدّي منها إلى خرء الطير للإجماع المركّب ، وخصوص بعض الروايات الدالّة على نجاسة مطلق العذرة (٣) ، وفيها ما لا يخفى.

فالتحقيق ؛ طهارة بوله وخرئه لصحيحة أبي بصير الصريحة فيهما (٤) ، لما عمل بها جمع من القدماء والمتأخّرين (٥) وإن كانت النسبة بينها والروايات المقابلة العموم من وجه ، إلّا أنّ الترجيح لهذه الرواية من جهات ، أظهرها التعبير فيها بالطير لا المأكول ، فلولا له خصوصيّة لكان التعبير بغيره أولى ، مضافا إلى انصراف غير المأكول عن الطير ، ولو سلّمنا التكافؤ فتتساقطان ، فقاعدة الطهارة محكمة.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٤ باب ٨ من أبواب النجاسات.

(٣) بحار الأنوار : ٨٠ / ١٢٧ الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ ، المقنع : ١٤ ، المبسوط : ١ / ٣٩ ، ونقل عن ابن أبي عقيل والجعفي في ذكرى الشيعة : ١ / ١١٠ ، كشف اللثام : ١ / ٣٩٠ ، ومدارك الأحكام : ٢ / ٢٦٢ ، ونقل عن جماعة من المتأخّرين في جواهر الكلام : ٥ / ٢٧٥.


ودعوى كون روايات النجاسة موافقة للمشهور (١) ، فاسدة ؛ إذ الشهرة في المسألة فتوائيّ ، لا من جهة الرواية.

نعم ؛ في خصوص الخفّاش وردت الرواية الّتي رواها الشيخ (٢) ، ولكنّها غير صريحة في النجاسة ، بل فيها أمر بالغسل ، مع أنّها معارضة بما هي صريحة في الطهارة ، والشهرة على النجاسة في بوله وإن كانت محقّقة ، إلّا أنّ الكلام هنا كما تقدّم ، ولم يثبت الشهرة الاستناديّة (٣).

فرع :

لا إشكال في تعميم الحكم بالنسبة إلى غير المأكول أن تكون حرمة الأكل ذاتيّا أم عرضيّا ، إنّما الكلام في أبوال غير المأكول وغائطه ممّا لا نفس له ، فإنّ دعوى انصراف غير المأكول عن مثل الحيّة والوزغة ونحوهما في محلّها ، مع أنّه لم يثبت أن يكون لأمثاله بول ، مع أنّه قد عرفت عمدة مستند نجاسة غائط غير المأكول وخرئه ؛ الإجماع ، ولا إطلاق ولا عموم له ، فلا مانع من قاعدة الطهارة ،

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٥ / ٢٧٧ ، المعتبر : ١ / ٤١١.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨١ الحديث ٧٧٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٨.

(٣) «كلّ شي‌ء يطير لا بأس بخرئه وبوله» مضافا إلى عمومات أدلّة النجاسة «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٣٩٨٨ و ٣٩٨٩) والروايات الّتي علّق حليّة الأكل على مأكول اللحم (وسائل الشيعة : ٢٥ / ٨١ الباب ٤٠ من أبواب الأطعمة المباحة).

وأمّا قول العلّامة : إنّ الرواية الاولى الّتي استدلّ بها الآخرون فلا بدّ من تخصيصها بالخفّاش قطعا فيلحق به غيره (مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٧) ، فلا يتمّ إلّا أن يستكشف المناط القطعيّ ، ولا بدّ من ملاحظة النسبة بين الروايتين : الموثّقة والحسنة ، ورعاية الترجيح لهما بعد العجز عن الجمع الدلاليّ بينهما ، مع أنّه بمثابة من الإمكان ، لظهور الأولى في الطير ، وكونه تمام الموضوع للحكم لا المأكول منه ، بخلاف الحسنة ، فإنّها منصرفة إلى مأكول اللحم من غير الطير ، بل هو الظاهر منها ؛ بخلاف الأولى الّتي لا يبعد دعوى الصراحة في الطير ، كما أشرنا إليه ، «منه رحمه‌الله».


كما أنّه تجري بالنسبة إلى الغائط وبول الحيوان المشتبه حرمة وحليّة ، سواء كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

وهكذا في جميع أقسام الشكّ من كونهما ممّا لا نفس له أو غيره ، وإن كان الأصل في مثله في الشكّ في حليّة الأكل ونجاسة ميتته الحرمة والنجاسة ، على التفصيل في محلّه من حيث الشكّ في قابليّته للذبح أو وقوع الذبح ، وأنّ القابليّة هي من شرائط الذبح أو أمر خارج عنه ، وأنّه بناء على الأخير فيما إذا احرز الذبح تجري أصالة الحلّ ، ولا مجال لجريان أصالة الحرمة الثابت حال الحياة (١) ، لأن المفروض عدم الاشتباه في الأمور الخارجيّة ، بل الشبهة من حيث الحكم ، بناء على جريان أصالة الحلّ في الشبهات الحكميّة ، كما هو التحقيق.

__________________

(١) وإن كان الأمر كذلك ، ولا يجوز أكل الحيوان الحيّ كما صرّحوا به في السمك (جواهر الكلام :٣٦ / ١٧٠) ويظهر منهم في غيره أنّ الحكم ثابت أيضا. فراجع ، «منه رحمه‌الله».



نجاسة المني

فرع :

لا إشكال عندهم في نجاسة المنيّ من كلّ حيوان ذي نفس ، إنّما البحث في دليله ، إذ الظاهر من الأخبار هو منيّ الإنسان (١) ، ولا إطلاق لها حتّى تشمل غيره ، مضافا إلى تصريح جملة من الروايات أنّ ما أكل لحمه لا بأس بما يخرج منه (٢).

فحينئذ إن ثبت الإجماع بالنسبة إلى ما لا نفس له مطلقا فلا محيص عن الالتزام بالنجاسة ، وإلّا فقاعدة الطهارة بالنسبة إلى منيّ غير الإنسان محكمة ، والاحتياط لا ينبغي تركه ، خصوصا في غير المأكول من الحيوان.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٣ الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٩ الحديث ٤٠٠٥ و ٤١٤ الحديث ٤٠٢٢.



نجاسة الميتة

من النجاسات الميتة ، البحث فيها من جهات :

الاولى ؛ قالوا : ميتة ماله نفس سائلة نجسة ، الّتي يقال [لها] بالفارسيّة : (خون جهنده) مع أنّ الروايات مطلقة (١) ، وهكذا الآية (٢).

نعم ؛ في رواية أبي بصير قال عليه‌السلام : «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» (٣) ومقتضى الصناعة تقييد سائر الروايات بها ؛ إذ المراد بالنفس هو الدم ، والسائل [ما له] الجريان ، وأنت خبير بأنّ غاية ما يستفاد منها اعتبار الدم الجاري ، وأما ما يخرج بالدفع والحدّة فلا ، إلّا أن يقال : إنّ ما لا يخرج بالدفع والشدّة هو الرشح لا السيلان ، وإنّما السائل هو الكثير الجاري لا مثل دم السمك ونحوه.

والحاصل ؛ أنّه إذا كان المراد بالنفس ـ كما في أكثر الروايات ـ الدم (٤) ، وهو كيفما كان له جريان في الجملة ، فإذا قيّدت بالسيلان ـ كما في بعض

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦١ و ٤٦٢ الحديث ٤١٧٨ و ٤١٧٩.

(٢) البقرة (٢) : ١٧٣ ، المائدة (٥) : ٣ ، الأنعام (٦) : ١٤٥ ، النحل (١٦) : ١١٥.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤١٨٤ و ٤١٨٧ ، ولم ترد هذه الرواية عن أبي بصير في الجوامع الحديثيّة.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٣ الباب ٣٥ من أبواب النجاسات.


الروايات (١) ـ فالمراد بالمجموع يكون ما اعتبروا من الدم الكثير الّذي يخرج بالدفع لا مطلق الدم الجاري ، فتدبّر!

الثانية ؛ لا إشكال في نجاسة أجزاء الميتة في الجملة ، عدا ما استثني ، إنّما الكلام في الأجزاء المبانة من الحيّ كالأليات المقطوعة من الغنم ونحوها ، وأنّ حكمها في النجاسة حكم الميتة مطلقا ، المشهور أنّها كذلك ، لإطلاق الميتة على الأجزاء المبانة في جملة من الروايات ، مثل قوله عليه‌السلام : «فما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت» (٢).

وفيه ؛ أنّه يتمّ لو كان المراد منه التنزيل من جميع الجهات ، مع أنّ القرينة فيها على أنّ المراد منها حرمة الأكل ، موجودة ، مضافا إلى أنّ الالتزام بإطلاق التنزيل فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن.

إن قلت : إنّ الذبح إنّما هو لحليّة الأجزاء ، فلو لم تكن القطعة المبانة هي الميتة لأمكن تقطيع الحيوان إلى قطعات بلا احتياج إلى الذبح.

قلت : لا ننكر أنّ الحليّة متوقّفة على الذبح ، وبدونه القطعات المبانة محرّمة ، إنّما الكلام في نجاسة القطعة المبانة ، وأنّ طهارتها أيضا تتوقّف على الذبح ، وأنّها بحكم الميتة من جميع الجهات.

هذا ؛ ولكن لمّا كانت الميتة في الشريعة ليست هي ما مات حتف أنفه ، بل هي في اصطلاح المتشرّعة كلّ ما لم يذكّ ، ومن المعلوم أنّ القطعة المبانة يصدق عليها هذا العنوان ، فهي ميتة ، فتأمّل!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤١٨٤ و ٤١٨٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٣ / ٣٧٦ الحديث ٢٩٧٩٠ ـ ٢٩٧٩٢.


ويمكن أيضا استفادة الحكم عن الروايات الدالّة على أنّ أليات الغنم المقطوعة لا ينتفع بها ، ولا يستصبح ، لأنّها تصيب الثوب واليد (١) ، وإن كانت تلك الروايات ضعيفة السند ، كما أشار إليها في «الحدائق» (٢) وأيضا الإجماع والسيرة العمليّة على نجاستها محقّقة ، فعلى هذا ينبغي الاجتناب عن القطعة المبانة ، ولكن لا القطعات الصغار كالبثور والثالول وما ينفصل عن الجسد عند الحكّ ونحوها ؛ إذ الأدلّة المتقدّمة قاصرة عن شمول مثلها جدّا ، والقدر المتيقّن من السيرة غيرها ، كما لا يخفى.

الثالثة ؛ لا خلاف في استثناء بعض أجزاء الميتة عنها ، كالشعر والوبر والقرن وغيرها ممّا لا روح لها ، وإنّما الإشكال في بعض مصاديقها كالإنفحة واللبن والفارة.

أمّا الاولى ؛ فوقع الكلام في المراد بها ، وأنّها المائع المجتمع في كرش الحمل والجدي ما لم يأكلا ، ويكونا رضيعا ، أو هو وظرفه ، أو المراد بها الظرف فقط (٣).

والتحقيق ؛ استثناء نفس المائع الّذي يتبدّل اللبن الّذي يشربه الرضيع من الحيوان به ، وهو الّذي يعمل منه الجبن ، إذ هو القدر المتيقّن من النصوص وكلام اللغويّين (٤) ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام بطهارة باطن الجلدة ؛ للملازمة العرفيّة ، وأمّا ظاهرها فلا ، بل ينبغي تطهيرها ؛ للشكّ في خروج أصل الجلدة ، كما عرفت ، ويكون حكمها كسائر الأجزاء.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ٧١ الباب ٣٠ من أبواب الذبائح.

(٢) الحدائق الناضرة : ٥ / ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) الحدائق الناضرة : ٥ / ٨٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، وانظر! الحدائق الناضرة : ٥ / ٨٦ ، المصباح المنير : ٦١٦ (نفح).


ومن المعلوم أنّها ليست ممّا لا روح لها حتّى يخرج عن حكم الميتة بالتعليل الوارد في أخبار المستثنيات ، بل الجلدة كالمعدة وسائر الأعضاء الداخليّة.

هذا ؛ وأمّا ما ورد من الأخبار الدالّة على طهارة الجبن المشترى من السوق للشكّ في كون الميتة فيه (١) ، الّذي يستفاد منها ثبوت نجاسة أصل المائع والإنفحة ، وإنّما حكم الطهارة للمشكوك من الجبن ، فالظاهر أن تلك الأخبار وردت تقيّة ، كما يظهر بالمراجعة إليها ، خصوصا الرواية المشتملة على السؤال والجواب عن هذا الموضوع (٢) ، والسائل هو قتادة ، والظاهر أنّه من رجال العامّة (٣).

وأمّا الثاني ؛ وهو اللبن ؛ لا إشكال فيه دليلا ، حيث إنّ الأخبار المستفيضة المعمول بها مشتملة على استثنائه (٤) ، وإنّما المخالف هو ابن إدريس وبعض آخر (٥) والعجب من شيخنا الأنصاري كيف خالف (٦)؟! وأعجب من ذلك جعله قدس‌سره نجاسة الملاقي للنجس من القواعد الّتي غير قابلة للاستثناء كالقواعد العقليّة ، وجعلها مثل قاعدة «الناس مسلّطون» أو قاعدة «حرمة الدباء» فكما أنّه لا يجوز الخروج عن أمثالهما إلّا بدليل قطعيّ قويّ ، فكذلك ضابطة نجاسة الملاقي للنجس (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الحديث ٣٠٢٨٦.

(٣) انظر! تنقيح المقال : ٢ / ٢٧.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٨٠ الحديث ٣٠٢٨٨ و ١٨٢ الحديث ٣٠٢٩٤ و ٣٠٢٩٥.

(٥) السرائر : ٣ / ١١٢ ، المراسم : ٢١١.

(٦) المكاسب : ١ / ٣٥.

(٧) بظهور المناط فيها ، وهو السراية كما في تلك ، «منه رحمه‌الله».


وأنت خبير بأنّ هذه القاعدة ليست كذلك (بهذه المثابة) ، والاستثناء عنها ليس بعزيز ، مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ النجاسة ليست أمرا حقيقيّا واقعيّا ، بل أمر تعبّديّ ، كما يظهر ذلك من كيفية تنجيس النجاسات وتوسعة المطهّرات ، مع أنّها لو كانت امورا واقعيّة العقل والعرف لا يساعدان على تطهير الأرض ـ مثلا ـ باطن النعل والرجل وإن بقي أثر النجاسة ، وهكذا طهارة غسالة الاستنجاء بل مطلقا ، والتطهير في نحو المركن ، وغير ذلك من الأحكام المسلّمة في باب الطهارة ، فتأمّل.

وأمّا المسك ؛ لا يخفى أنّه ليس كسائر المستثنيات ، بأن يدلّ عليه دليل خاصّ ، بل خروجه إنّما هو لما يستفاد من طهارة المسك وجواز استعماله من الأخبار والسيرة القطعيّة إلى زمان المعصوم عليه‌السلام ، فعلى هذا لا ينبغي البحث فيه إلّا على ما تقتضيه القاعدة.

فنقول : تارة الكلام في نفس المسك ، واخرى في فارته وظرفه.

أمّا الجهة الاولى ؛ فالمسك بأقسامه الأربعة إن كان هو دم الظبي المخصوص يكون محلّ الإشكال ، إلّا أنّ يتيقّن باستحالته ، كما لا ريب فيه بالنسبة إلى بعض صوره ، وهو ما إذا يبست فأرته وانجمد المسك فيه ، إلّا أنّ مجال إنكار كونه دما أصلا واسع ، بل هو أمر آخر يشبه بعض أقسامه لون الدم ، مضافا إلى أنّ الشكّ فيه يكفي للحكم بطهارته ؛ لكون الشبهة موضوعيّة ، مع أنّه لا عموم لنجاسة مطلق الدم على ما سيأتي إن شاء الله.

وأمّا فأرته ، أمّا في حال حياة الظبي فإذا يبست وانقطع بنفسها أو بعلاج ، بحيث يعدّ أمرا خارجا عن أجزاء الظبي فهي طاهرة ، وتكون كسائر الأجزاء


المبانة من الحيوان الّتي يعدّ من ثمراته وفضلاته ، وكذلك إذا يبست في حياته وانفصلت بعد موته ، فحينئذ أيضا طاهر ؛ لأنّه يكون من أجزاء الميتة الّتي لا روح لها.

وأمّا قبل اليبوسة فهي نجسة ، سواء في حياته أو موته ؛ لأنّها من أجزاء الحيوان.

نعم ؛ إذا شكّ في ذلك فهي محكوم بالطهارة ؛ لكون الشبهة موضوعيّة ، فلا يحتاج إلى الأمارة.

تذييل : قالوا : سوق الإسلام ويد المسلم أمارة التذكية ، ويدلّ عليهما ـ مضافا إلى السيرة القطعيّة الشرعيّة والعقلائيّة ـ الأخبار الخاصّة ، مثل رواية الصدوق قدس‌سره عن سليمان بن جعفر (١) ، ورواية الكليني عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : سألته عليه‌السلام عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها؟ قال : «نعم ليس عليكم المسألة» (٢) .. إلى آخره.

وخبر إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» (٣) وغير ذلك من الأخبار الّتي حاصل ما يستفاد منها أنّ بلد المسلمين من سوقهم وغيره ، بل كلّ محلّ غالب أهله

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٧ الحديث ٧٨٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩١ الحديث ٤٢٦٢.

(٢) لم نعثر عليها في الكافي ، وإنّما رواها الشيخ في تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٩٦ الحديث ١٥٢٩ ، عنه وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩١ الحديث ٤٢٦٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٢ الحديث ٤٢٦٦.


المسلمون ، الجلود وغيرها من أجزاء الحيوان محكوم بالتذكية (١).

فإنّ بلد الإسلام طريق إليها وإن اخذت من يد مجهول الحال ، لا ما إذا اخذ من الكافر ، أو كان مسبوقا بيده ، إلّا إذا كان المسلم الّذي أخذ منه رؤي أنّه يعامل معه معاملة التذكية ، كأن يصلّي فيه.

فالسوق طريق إلى اليد الّتي هي بنفسها أمارة التذكية ، كما أنّ معاملة المسلم في ما كان مسبوقا بيد الكافر معاملة التذكية أيضا محمولة على الصحّة وطريق إليها أيضا للآخرين ، وفي غير هاتين الصورتين أصالة عدم التذكية محكّمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٠ الباب ٥٠ من أبواب النجاسات.



نجاسة الدم

يقع البحث فيه من جهات :

الاولى ـ وهي عمدتها ـ إثبات النجاسة مطلقا ، بحيث يكون الأصل فيه ذلك حتّى يرجع إليه في موارد الشكّ ، والحقّ أنّه ليس لنا دليل عليه ، إذ الأخبار الواردة فيه ليست إلّا ما تشتمل على السؤال والجواب في الموارد الخاصّة ، والإطلاق فيها وارد مورد حكم آخر ، إلّا أن يدّعى الإطلاق المقاميّ ، وأنّ العرف يفهم منها ذلك ، وأنّ مناط النجاسة ليس إلّا طبيعة الدم من أيّ شي‌ء وفي أيّ محلّ ، وإثبات ذلك في غاية الإشكال.

ثانيها ؛ في الدّم المستثنى ، وهو دم غير ذي النفس ، والظاهر أنّه لا كلام في طهارته ، وإنّما البحث في الدليل عليها ، فإنّ مثل ما ورد في دم ميتة ذي النفس (١) واعتبر في الموثّقة ماله نفس (٢) ، لم يرد هنا ، ولذلك تشبّث كلّ إلى وجه بعد كون الحكم قطعيّا.

والّذي توجّه إليه نظري القاصر هو أنّ في جملة أخبار المستثنيات من الميتة قال عليه‌السلام : «إنّه لا دم له» (٣) مع أنا نرى حسّا أنّ لها دم في الجملة ، فيستفاد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٥٢٧ الباب ٨٢ من أبواب النجاسات.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٥٢٧ الحديث ٤٣٦٨.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٣ الحديث ٤١٨٣ ، مع اختلاف يسير ، مستدرك الوسائل : ٢ / ٥٨٠ الحديث ٢٧٨٥.


من ذلك أنّ المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فيصير ذلك حاكما على أدلّة نجاسة الدم ، فتأمّل. مع أنّ الأمر بعد إنكار العموم والإطلاق في الدم سهل.

الجهة الثالثة ؛ في حكم الدم وغيره من النجاسات في البواطن ، وهذا من أهمّ مباحث النجاسات (١).

ومجمل القول فيه حيثما تقتضيه القواعد هو الالتزام بالطهارة على أحد الوجهين : إمّا أن يبنى على نجاسة الدم مطلقا ، بأن نقول : وإن كان أصل الحكم مصطادا من الموارد الجزئيّة والمواقع الخاصّة ، إلّا أنه ليس شأن حكم الدم إلّا كسائر الأحكام الشرعيّة الكليّة من الموارد الخاصّة ، فإنّ العرف إذا قيل له : دم البقر مثلا نجس لا يفرّق بينه وبين دم الغنم وسائر الحيوانات ، وكذلك لا يفرّق بين محالّه من الظاهر والباطن ، كما إذا قيل : هذا الخمر حرام ، فأينما كانت يفهم منه الحرمة مطلقا وإن كان المشار إليه إناء مخصوصا.

فعلى هذا لا يبقى مجال للتشكيك من حيث إطلاق نجاسة الدم والبول ونحوه في البواطن ، إلّا أنّه لمّا كان شرط تأثير النجس قابليّة المحلّ للتنجّس ، فكلّ ما يشكّ فيها فلمّا لا أصل ولا دليل [في المقام] يثبت القابليّة ، فقاعدة الطهارة محكمة (٢).

فعلى هذا نفس البواطن لا ينبغي الحكم بنجاستها ، كباطن الفم والأنف وغيرهما إذا خرج منهما الدم ؛ لإمكان أن يكون البواطن كالأجسام الصقيلة

__________________

(١) واختلف الأصحاب فيها جدّا ، وأفتى كلّ بفتوى مخصوصة. فراجع ، «منه رحمه‌الله».

(٢) ولا يلزم منه تقييد في إطلاق نجاسة الدم ، كما إذا قيل : الكرّ لا ينفعل ، لا يوجب التخصيص في عموم النجاسات ؛ لأنّ الكرّ غير قابل للانفعال ، «منه رحمه‌الله».


كالزئبق الغير القابلة للتنجّس ، وقد عرفت ، بل الشكّ يكفي للحكم بطهارتها.

نعم ؛ إذا ادخل شي‌ء من الخارج ولاقى الدم أو البول ينجس بمقتضى ما بيّنا وإن لم يكن عليه في الخارج أثر النجاسة ، هذا حاصل ما حقّقه صاحب «الحدائق» على ما نقل (١).

والوجه الثاني ؛ هو أن يقال : إنّ حكم الدم استفيد عن الموارد الّتي وقع في السؤال والجواب إصابة الثوب أو البدن ونحوهما الدم ، وغاية ما تدلّ عليه مجموع هذه الأسئلة والأجوبة أنّ ملاقاة أمثال ما ذكر الدم توجب نجاسة الملاقى ، فلا بدّ أن يكون هنا ملاقى ـ بالفتح ـ وملاق ـ بالكسر ـ ولا خفاء أنّ الدم وكذلك البول ما داما في الباطن لا يصدق عليهما هذا المفهوم ، فلا يثبت الحكم حينئذ.

والحاصل ؛ أنّ الظاهر عدم وجود دليل يستكشف منه نجاسة صرف وجود الدم ، بل الدليل على خلافه ، كما في أخبار الرعاف وغيره قال عليه‌السلام : «إنّما عليك أن تغسل الظاهر دون الباطن» (٢).

فعلى هذا ؛ لقد أحسن وأجاد من أفتى بعدم النجاسة في البواطن ؛ فبنى على طهارة النوى الخارج ، وكذلك زجاج الحقنة إذا خرجا نقيّا وإن علم بملاقاتهما البول والعذرة ، وكذلك طهارة الإبرة ونحوها إذا ادخلت في البدن وخرجت نقيّة (٣) ، بخلاف الوجه السابق ، فعليه التزم بالنجاسة في هذا الفرع.

وبالجملة ؛ على الوجه السابق لا بدّ من التفصيل بخلاف الّذي قرّرنا ، حيث

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٥ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٨ الحديث ٤٠٩٨ و ٤٠٩٩.

(٣) العروة الوثقى : ١ / ٥٦ المسألة ١ ، و ٦٥ المسألة ١٢.


إنّ القاعدة هي الطهارة كليّة ما لم يلاق شيئا [من] الدم وغيره في الخارج.

نعم ؛ في بعض الموارد تكون الشبهة مصداقيّة ، كما في باطن الفم أو القسمة الداخليّة المقدّمة من الأنف ، حيث اختلفت الفتوى فيها أيضا ، ولكن على كلا التقريبين (١) مقتضى القاعدة فيهما أيضا الطهارة ، وهكذا إذا ادخل نجاسة من الخارج إلى الداخل ، فإذا زالت عينها فالباطن باق على طهارته وإن ورد إدخال الماء في الفم فهو لإخراج عين النجاسة لا للتطهير ، فافهم!

__________________

(١) وإمّا من جهة الشكّ في القابليّة ، أو التشكيك في الإطلاق ، «منه رحمه‌الله».


حكم العصير العنبي

الإشكال في باب العصير العنبي من حيث النجاسة من جهات :

الاولى : من جهة الكبرى ، أي أصل النجاسة ، وأنّها من مصاديق الخمر أم هو أمر آخر في عرضها ، والشارع حرّمها وحكم بنجاستها تعبّدا؟ على خلاف.

الثانية : من جهة الصغرى ؛ من حيث إنّ العصير بمجرّد الغليان والنشيش وإن لم يثخن يحرم وينجس ، أو يعتبر فيها الثخونة ، بل الاشتداد؟

ثمّ إنّه هل النجاسة مترتّبة على الغليان مطلقا ، سواء كان بنفسه أم بالنار ، أو يختصّ بالأوّل؟

ثمّ إنّه هنا جهة اخرى ، وهي إشكال أخبار الباب من حيث فقه بعضها ، واضطراب بعض آخر متنا وسندا.

أما الجهة الاولى (١) فالالتزام بكون العصير العنبيّ مطلقا من مصاديق الخمر تحكّم محض ، لا يساعد عليه اللغة ولا العرف ، فإنّ الخمر لها طريق معمول مرسوم مثل الخلّ ، لا ربط له بالعصير ، كما هو واضح.

نعم ؛ قد يتوهّم إلحاقه بها (٢) من جهة بعض الأخبار (٣) ، كما في خبر معاوية

__________________

(١) من جهات الصغرى ، «منه رحمه‌الله».

(٢) شرائع الإسلام : ١ / ٥٢ ، مدارك الأحكام : ٢ / ٢٩٢ و ٢٩٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩٢ الباب ٧ من أبواب الأشربة المحرّمة.


ابن عمّار ، حيث قال عليه‌السلام في جواب سؤاله عن البختج قبل ذهاب ثلثيه : «إنّه خمر» (١).

ولكن ـ مع الغضّ عن اضطرابه متنا وأنّه ليس في نسخة «الكافي» (٢) هذه اللفظة ـ أنّه لا يستفاد منها إلّا التنزيل ، لا إلحاقه بالخمر موضوعا من باب الإخبار عن أمر واقعيّ خارجيّ أو من باب التعبّد.

وبالجملة ؛ لا إشكال في أنّ العصير ليس خمرا مطلقا وإن كان قد تتصادق عليه ، كما نشير إليه ، ولذلك عقدوا له بابا خاصّا قديما وحديثا ، كما أنّ له عنوانا على حدة في الأخبار (٣).

وأمّا الجهة الثانية ؛ لا إشكال في أنّ العصير قد يطبخ حتّى يجعل دبسا وربّا فيغلى بالنار ، وهذا هو الّذي وقع سؤالا وجوابا في الأخبار ، وقد حكم فيها بالحرمة قبل ذهاب ثلثيه (٤) ، وليس في هذه الأخبار دلالة بل إشعار بالنجاسة.

وقسم (٥) من العصير يوضع حتّى يغلى بنفسه بحيث يحتمل أن يسكر ، فيصير مصداقا للخمر ، ولا ريب أنّه حينئذ يصير حراما ونجسا ، لأنّه إمّا خمر حقيقة ، وإمّا مائع مسكر ، ولكنّ الحكمين متوقّفان على العلم بالأمور المذكورة ، وإلّا فمع الشكّ استصحاب الحلّ والطهارة هو المرجع بلا كلام ، والاحتمال لا يؤثّر شيئا.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٩ / ١٤٣ الحديث ٥٢٦.

(٢) الكافي : ٦ / ٤٢١ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩٣ الحديث ٣١٩٤٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩٢ الباب ٧ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٨٢ الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة.

(٥) وهذا هو الّذي بنى عليه ابن حمزة رحمه‌الله كلامه وحكم بالحرمة والنجاسة (الوسيلة : ٣٦٥) ، وأفتى به بعض المعاصرين ، وقالوا بأنّ حلّيته وطهارته متوقّفة على التخليل ، بل كلمات القدماء طرّا يرجع إلى ذلك ، حسبما نقلها شيخ الشريعة قدس‌سره في رسالته ، «منه رحمه‌الله».


نعم ؛ مع الغليان والنشيش وحصول صفة الإسكار يثبت الحكمان بلا احتياج إلى الاشتداد والثخونة ، كما يكون كذلك ـ يعني حكم الحرمة فقط ثابت ـ في القسم الأوّل أيضا بمجرّد الغليان بالنار وإن لم يحصل الاشتداد ، ولا يحلّ إلّا بعد التثليث ، فتدلّ عليه الأخبار المصرّحة المفصّلة بين ما إذا غلى العصير بالنار ، وبين ما إذا غلى بنفسه ، حيث جعلت غاية الحلّيّة في الاولى ذهاب الثلثين ؛ والثانية بأن تصير خلًّا ، كما تدلّ عليه كلمات الفقهاء ، وأمّا في الأخبار ، فالغاية غير مذكورة في الأخيرة.

وذلك كلّه لعدم الدليل على اعتبار ذلك الاشتداد (١) من الأخبار ، والّذي يدلّ عليه هو الغليان ، بأن يصير أسفله أعلاه (٢) وبالعكس (٣).

وعلى كلّ حال لا دليل على نجاسة العصير (٤) بأيّ قسم منه أصلا ، وأمّا دعوى الإجماع في المسألة ـ مع أنّها غير معنونة في كلمات القدماء أصلا ـ عجيبة ، وكذلك ادّعاء الشهرة ، فإنّ شهرة النجاسة ليست إلّا من المتأخّرين ، ومن المعلوم أنّها لا تكون دليلا ، ولذلك اشتهرت طهارة العصير بين متأخّري المتأخّرين.

والّذي يحتمل قويّا أنّ منشأ الحكم بالنجاسة هو فتوى الشيخ قدس‌سره الّذي هو مبدأ المتأخّرين ورئيسهم.

__________________

(١) بمعنى الغلظة ؛ نعم ؛ المراد به الثخونة والحدّة الّتي هي الإسكار معتبر ، كما يظهر ذلك بالتأمّل في الأخبار وكلمات الأعلام الأخيار ، وبالجملة فهذه الأوصاف الأربعة ، أعني الشدّة والنشيش والتغيّر والزبد ملازمة بينها وهي ملازمة للإسكار ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٨٧ الحديث ٣١٩٢٦.

(٣) كما أشار إليه بعض الأخبار ، «منه رحمه‌الله».

(٤) بعنوان العصير ، «منه رحمه‌الله».


ومنشأ فتواه قدس‌سره قوله عليه‌السلام في رواية عمّار : «هو خمر» (١) بناء على روايته ، مع أنّ هذه اللفظة ليست في الحديث على رواية «الكافي» (٢) الّذي هو أضبط على المشهور.

مضافا إلى أنّه مع التسليم بكونه جزء الحديث من حيث الدلالة فيه جهات من البحث ؛ إذ لعلّه عليه‌السلام حكم بكون نوع خاصّ من العصير خمرا لا مطلقا ؛ لأنّ الراوي يسأل عن البختج الّذي قيل : هو معرّب «مى پخته» (٣) ، وغير ذلك من جهات الإشكال في الحديث الّذي [هو] حديث زيد النرسي ، حيث وقع فيه تصحيف عجيب ، وزيد فيه جملة تدلّ على إطلاق حكم النجاسة بالنسبة إلى ما إذا غلى العصير بنفسه أو بالنار.

مع أنّه ليس في أصل هذا الراوي الجليل ـ على ما ذكره المجلسي وغيره (٤) ـ أثر من الجملة المذكورة ، بل هو أيضا موافق لسائر الأخبار ، وذكر حكم العصير المطبوخ.

كما يشعر بذلك أيضا الأخبار المشتملة على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مسكر حرام» (٥) بحيث يستفاد منها الحصر كما يستشعر أيضا عن الأخبار الّتي مبتن حكمة التثليث في العصير المطبوخ بالنار بأنّه يحفظ ويمنع عن الفساد وحصول

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٩ / ١٤٣ الحديث ٥٢٦.

(٢) الكافي : ٦ / ٤٢١ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩٣ الحديث ٣١٩٤٠.

(٣) لسان العرب : ٢ / ٢١١.

(٤) بحار الأنوار : ٧٩ / ١٧٧ الحديث ٨ ، مستدرك الوسائل : ٣٨ / ٢٠٦٧٦.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٢٥ باب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة.


حالة الإسكار ، فيصير شرابا طيّبا وإن بقي سنة (١).

ويدفع ذلك كلّه إطلاقات الباب ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ ما غلى بالنّار فقد حرم» (٢) بل عمومها ، بناء على عدم تقييدها وتخصيصها بما يستفاد من مجموع الأخبار المشار إليها المستفاد منها أنّ المناط هو حصول وصف الإسكار فعلا أو صيرورة العصير بعد الغليان مظنّة الفساد.

ويمكن الدعوى بأنّ الوصفين ـ أعني الغليان مطلقا (٣) والشدّة ـ ملازم لحصول وصف الإسكار والخمريّة ، كما ادّعاه العلّامة الطباطبائي (٤) ؛ فحينئذ يرتفع الخلاف ، ولكن الشأن إثباتها.

وبالجملة ؛ ما استظهرنا من كلمات جلّ الفقهاء من التفصيل بين ما إذا غلى بالنار ، أو بنفسه ، ففي الأوّل لا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه ، وفي الثاني حليّته بصيرورته خلًّا هو الّذي يستفاد من أخبار الباب أيضا ، فإنّ من أمعن النظر إليها يرى أنّ كلّ ما كان الكلام فيها عن العصير المطبوخ فحليّته مغيّاة بالتثليث ، بخلاف ما كان الكلام عن العصير المغليّ بنفسه.

نعم ؛ في رواية زيد النرسيّ (٥) ما يستفاد منها التعميم ، ولكنّها محرّفة ـ على ما حقّقه شيخ الشريعة قدس‌سره ـ وإنّ النسخة الصحيحة منها توافق سائر الروايات.

وأمّا اعتبار أصله ورواياته فممّا لا إشكال فيه أصلا ، وقد تعرّض له

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٨٨ الباب ٥ و ٢٩٥ الباب ٨ من أبواب الأشربة المحرّمة.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٨ ذيل الحديث ٢٠٦٧٦ مع اختلاف.

(٣) بالنار أو بالنفس ، «منه رحمه‌الله».

(٤) رياض المسائل : ١ / ٤٨٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٩١ الحديث ٣١٩٣٥.


العلّامتان : الوحيد البهبهاني والطباطبائي ، وغيرهما من الأعاظم (١) رحمة الله عليهم وأنّ أصله منقول عن ابن أبي عمير الّذي هو من أصحاب الإجماع ، ولا يروي إلّا عن الثقة (٢).

فعلى كلّ حال من جهة الحجيّة والاعتبار لا مرية في أصل زيد النرسي ، وإنّما الكلام في متنه ودلالته ، وقد تبيّن أخيرا أنّه مصحّف على نقل متأخّري المتأخرين ، والصحيح المضبوط منه لا يخالف سائر الأخبار (٣).

__________________

(١) تعليقات على منهج المقال : ١٤٣ ، رجال بحر العلوم : ٢ / ٣٦٥ ـ ٣٧٨ ، ولاحظ! جامع الرواة : ١ / ٣٤٣.

(٢) الفهرست للشيخ الطوسي : ١٧٢ ، جامع الرواة : ١ / ٣٤٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٨٢ الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة.


نجاسة الكافر

هذا المبحث أيضا من المشكلات ، قال بعضهم بنجاسته مطلقا ، مستدلّا بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (١) ووجهه واضح (٢).

واستشكل فيها من جهة الكبرى

أوّلا ؛ بأن المراد من «النجس» ليست النجاسة الاصطلاحيّة الشرعيّة ، لأنّها مستحدثة من عصر الأئمّة عليهم‌السلام إلى بعد ، وأمّا وقت نزول الآية فلم يكن المراد من «النجس» إلّا القذارة ، وهي المعنى اللغوي ، ولمّا لم يكن للكافر قذارة ظاهريّة حتّى ينطبق على اللغويّ فلا بدّ أن يحمل على النجاسة الحكميّة والقذارة الباطنيّة ، كما لم يرد لفظ «النجس» في الأخبار بالمعنى المصطلح أيضا.

قالوا : ويؤيّد ذلك ذيل الآية ؛ إذ لو كان المراد المعنى المصطلح فلا بدّ من تخصيص الحكم ، وهو عدم قرب الكافر وعدم دخولهم في المسجد الحرام بما إذا كانوا رطبا بمثل العرق وغيره حتّى لا يلوّث بهم المسجد الحرام ؛ إذ لا خلاف في أنّ كلّ يابس ذكيّ ، كما أنّ الحكم في مطلق النجاسات ذلك (٣).

__________________

(١) التوبة (٩) : ٢٨.

(٢) تذكرة الفقهاء : ١ / ٦٧.

(٣) الحدائق الناضرة : ٥ / ١٦٤ ، لاحظ! جواهر الكلام : ٦ / ٤٢.


وبالجملة ؛ لا سبيل إلى حمل النجس في الآية على المعنى المصطلح ، فلا محيص عن الحمل إلى القذارة المعنويّة وهي نجاسة الكفر.

هذا حاصل ما اورد على الآية.

وفيه ؛ أنّ هذا وارد إذا كان المراد من النجاسة الشرعيّة مفهوما مباينا لمعناها اللغويّ ، وأمّا إذا كان من مصاديق ذلك المعنى ، بأن كانت النجاسة الشرعيّة عين المفهوم اللغوي ، غايته أنّ الشرع تصرّف فيها ، بأن جعل لها حدودا خاصّة ووسّع دائرة المفهوم اللغويّ أو ضيّقه ، فحينئذ لا منافاة بين المعنى اللغويّ والشرعيّ حتّى لا يجوز الجمع بينهما إلّا بالقرينة والمئونة ، فالمراد بالنجس في الآية هو النجاسة الشرعيّة الّتي هي بين مصاديق القذارة اللغويّة.

وأمّا ذيل الآية والحكم بعدم جواز دخول الكافر المسجد أيضا لا ينافي هذا المعنى ، بل هو مخصوص بهذا الفرد من النجاسات للفرار وإن لم يكن ملوّثا ، ولا يلزم تخصيص الحكم بما إذا كان الكافر نجاسة مسرية ، فيكون حاصل معنى الآية ـ والله أعلم ـ : أنّ الكافر قذر لسراية نجاسته الباطنيّة إلى ظاهره ، فلا يجوز أن يدخل المسجد الحرام ، ولا مانع من هذا المعنى ، ولا مبعد له سوى دعوى القطع بأنّ النجاسات الشرعيّة مطلقا إنّما يحرم إدخالها المسجد إذا كانت متعدّية ، وإلّا فلا ، وإثباتها كليّا على مدّعيها.

وأمّا ثانيا ؛ فالإشكال في الآية من جهة الصغرى ، حيث إنّ الحكم على فرض التسليم مخصوص بالمشرك ، فلا يعمّ الكافر بأقسامه من أهل الكتاب وغيره ، ولذلك قيل بأنّهم أيضا مشركون ، كما يدلّ ذيل آية اخرى ، وهو قوله


تعالى : (سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (١)) (٢).

وفيه ؛ أنّ هذا خلاف المعنى المصطلح من الشرك والمشرك ؛ إذ الظاهر منه هو الّذي يرى في عرض ذاته تعالى شريكا في خالقيّته وتدبيره ، وهذا المعنى يختصّ بالوثنيّ والصنميّ وكلّ من اعتقد للموجودات وعالم التكوين مبدءين ، وأمّا مثل اليهود والنصارى القائلين بأنّ الله تعالى اتّخذ عزيزا أو المسيح ولدا ، وكذلك من اعتقد بالواسطة والمقرّب إليه تعالى ، فإطلاق الشرك عليهم إنّما يكون بالعناية ، والإطلاق أعمّ ، كما اطلق على المرائي المشرك ، مع أنّه لا يعبد إلّا الله ، وإنّما يرائي عبادته لا أن يكون الناس معبودا.

وبالجملة ؛ فهذه الجهات لمّا ينافي الخلوص وأنّه ساحته تعالى بري‌ء عن شئون الإمكان من اتّخاذ الولد ونحوه ، فلذلك جعل تعالى الالتزام بها من الشرك ، لا أن يكون المعتقد بها مشركا حقيقيّا ، ولذلك جعل المشرك في القرآن غالبا في عرض أهل الكتاب.

فعلى هذا يخرج أهل الكتاب عن مساق الآية ، ولا بدّ من البحث فيهم مستقلّا ، كما عليه بناء الأصحاب.

ولقد أجاد المحقّق الهمداني قدس‌سره في «مصباح الفقيه» في البحث عن أهل الكتاب ، ونقل عمدة الأخبار واستدلال الفريقين القائلين بطهارتهم ونجاستهم.

وحاصل ما أفاد : أنّ الأخبار الّتي تمسّكوا بها لنجاستهم غير دالّة على نجاستهم الذاتيّة ، بل فيها ما يستفاد منه طهارتهم من هذه الجهة ، كقوله عليه‌السلام في

__________________

(١) التوبة (٩) : ٣١.

(٢) الحدائق الناضرة : ٥ / ١٦٦.


رواية ابن مسلم : «لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الّذي يطبخون ، ولا في آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر (١)» (٢).

ولكنّ أخبار طهارتهم ظاهرة فيها ، ومشتملة على شواهد دالّة على أنّ أخبار النجاسة في مقام بيان نجاستهم العرضيّة لا الذاتيّة ، فهي على حجّيّتها باقية ؛ إذ لا قصور في دلالتها وكذلك في سندها ؛ لأنّها صحاح مستفيضة ، والمفروض أنّ الطائفة الاولى لقصور دلالتها ـ كما أشرنا ـ لا تصلح لمعارضتها.

نعم ؛ الذي يضعّفها ذهاب المشهور إلى نجاستهم ، فبناء على أنّ الشهرة الفتوائيّة على الخلاف يوجب سبب الوثوق والاطمينان عن الرواية ، يشكل القول بالطهارة ، والمسألة تحتاج إلى المراجعة ومزيد تأمّل حتّى يظهر الأمر وحقيقة الحال ، وهو العالم.

بقي الكلام في معنى الكفر والكافر ، فإنّ بعض مصاديقه مشكوك ؛ إذ الكفر لغة بل اصطلاحا معناه : الجحود والإكفار (٣). وعليه لا يصدق الكافر على الشاكّ والمتردّد في أركان الدين ، وينحصر بالجاحد والمعاند ، كما نرى في القرآن بالعيان أنّ خطاباته وزجره متوجّه إليهما ، مثل الآيات الكريمة : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٤) و (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٩ الحديث ٤٠٤٠ ، انظر! مصباح الفقيه (كتاب الطهارة) : ٥٥٨ و ٥٥٩ ط. ق.

(٢) الظاهر أنّ هذه الأخبار ليست لبيان الطهارة والنجاسة ، بل هي في مقام الحكم بالاجتناب عن اليهود والنصارى ، وعدم الخلطة معهم ، وحاصلها : أنّها أحكام أخلاقية ، «منه رحمه‌الله».

(٣) مجمع البحرين : ٣ / ٤٧٤.

(٤) النمل (٢٧) : ١٤.


الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١) وغيرهما (٢).

وبالجملة ؛ الشاكّ في الله ورسوله والأمور الضروريّة من الدين وجدانا ممكن ، وصريح كثير من الأخبار إحالة الكفر على الجحود ، بحيث ما لم ينكروا لم يكفروا.

فحينئذ لا مجال لإنكار الواسطة بين الكفر والإسلام ، وإن كان يظهر من الكتب الكلاميّة بل الفقهيّة إنكارها وإلحاق الشاكّ بالجاحد (٣) ، وجعلوا الإسلام مقابل الكفر (٤).

فعلى هذا مقتضى القاعدة في الشاكّ الّذي لا ينكر الاصول التفصيل في الأحكام ، فما كان منها مترتّبة على الإسلام مثل النكاح ونحوه ، لا يثبت للشاكّ ، وما كانت ثابتة للكافر مثل النجاسة أيضا لا تثبت.

ولا فرق في ذلك بين المنتحلين للإسلام ـ كما جعل هؤلاء مفاد الأخبار ـ وغيرهم.

إن قلت : إنّ الأخبار الّتي تدلّ على أنّ ما يحقن به الدماء ويجري عليه المواريث هو الإقرار بالشهادتين ، وأنّ به يمتاز الكافر عن الإسلام (٥) ، ترفع الواسطة وتبيّن الضابطة.

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٧١.

(٢) العنكبوت (٢٩) : ٤٧ ، ٤٩.

(٣) جواهر الكلام : ٦ / ٤٨.

(٤) الحدائق الناضرة : ٥ / ١٦٢ ، ونقل في «مصباح الفقيه» تسالمهم عليه ، ولذلك أوّل الأخبار الّتي أشرنا إليها ، «منه رحمه‌الله» ، مصباح الفقيه (كتاب الطهارة) : ٥٥٧ ط. ق.

(٥) الكافي : ٢ / ٢٤ الحديث ١.


قلنا : أوّلا ؛ لا منافاة بينها والأخبار الّتي علّقت الكفر على الجحود (١) ، وقد اعترفنا بأنّ أحكام الإسلام لا تترتّب على الشاكّ.

وثانيا ؛ إنّه لا بدّ من تقييد تلك الأخبار بالّتي ذكرنا ، بمعنى أنّه وإن كان مفادها أنّ غير المقرّ بالشهادتين كافر ، إلّا أنّه يقيّد بما إذا جحد ، وأمّا الساكت فلا يترتّب عليه أحكام الكفر. فتأمّل جيّدا!

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٣٣ الحديث ٢.


تطهير الأواني

فرع : يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا أولاهنّ ، بالتراب.

أقول : هذا الحكم في الجملة من المسلّمات ، إلّا أنّه كلّما تفحّصنا ما عثرنا على رواية يستفاد منها الحكم بهذه الخصوصيّات ؛ إذ ليس في أخبار الباب (١) إلّا رواية أبي العباس (٢) ، مع أنّه ليس فيها لفظة الولوغ أوّلا ، بل قال عليه‌السلام : «لا تتوضّئوا من فضله» إلّا أن يقال : إنّه مساوق للولوغ الّذي هو شرب المائع باللسان ، كما يشعر به النهي عن التّوضّؤ به ، فتأمّل. فإنّه بيان لبعض آثاره ، ولذلك يجري الحكم في سائر المائعات.

وثانيا ـ وهو العمدة ـ ليس فيها ما يدلّ على اعتبار الغسل ثلاثا ، بل الظاهر منها اعتبار الغسل فقط بعد التعفير بالتراب.

نعم ؛ على رواية المحقّق في «المعتبر» حيث نقل هكذا : «ثمّ بالماء مرّتين» (٣) يتمّ الفتوى ، إلّا أنّ الشأن إثبات كون هذه الرواية مستندا لفتوى الأصحاب ، مع أنّها على ما في كتب الأحاديث خالية عن هذا القيد.

إن قلت : يمكن أن يكون مستندهم بالغسل ثلاثا رواية عمّار (٤) الّتي هي

__________________

(١) ما يمكن أن يتمسّك بها من المعتبرات ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٦ الحديث ٥٧٤.

(٣) المعتبر : ١ / ٤٥٨.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٦٨ الحديث ٣٢١٤٢ و ٣٢١٤٣.


المستند لاعتبار الثلاث في مطلق الإناء.

قلت : فعلى هذا لا بدّ من الفتوى بالغسل ثلاثا بعد التراب ، مع أنّهم ما التزموا بذلك ، مضافا إلى أنّ تلك الموثّقة صريحة أو ظاهرة في بيان تمام المراد ، كما أنّ رواية أبي العبّاس كذلك ، وتأبى عن التقييد جدّا.

فعلى هذا لا دليل على الحكم المزبور إلّا الإجماع المدّعى في الباب ، فإن تمّ فهو ، وإلّا فيشكل الأمر جدّا.

ثمّ إنّه على [أنّه] يتعدّى الحكم إلى لطع الكلب الإناء ، أو وقوع لعاب فمه فيه ، كما عليه جمع (١) ، يمكن الالتزام بالتعدّي والتعميم ، بناء على أن يكون المستند رواية أبي العباس ، حيث إنّ من قوله عليه‌السلام أوّلا : «رجس نجس» «لا تتوضّئوا بفضله» «واصبب ذلك الماء» (٢) .. إلى آخره ، يستفاد من مجموع ذلك أنّ في فم الكلب مطلقا قذارة خاصّة إذا أصابت الإناء لا تزول إلّا بالتعفير.

ثمّ إنّه هل يلحق الخنزير بالكلب في لزوم التعفير والغسل ثلاثا ، أم لا؟ الّذي يظهر من قدماء الأصحاب ذلك (٣) ، ولكن لم يظهر لنا دليل عليه من رواية ولا غيرها ممّا يعتدّ به.

وأمّا المشهور بين المتأخّرين وجوب الغسل سبع مرّات (٤) ، مستندا إلى صحيحة عليّ بن جعفر (٥) عليه‌السلام وهو رواية تامّة الدلالة ، ومع ذلك العجب من

__________________

(١) جواهر الكلام : ٦ / ٣٥٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٦ الحديث ٥٧٤.

(٣) الخلاف : ١ / ١٨٦ المسألة ١٤٣.

(٤) مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٦ المسألة ٢٥٨.

(٥) وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٥ الحديث ٥٧٢.


القدماء كيف لم يعتمدوا عليها؟! ولذلك يشكل الأمر جدّا ، حيث إنّه إن ثبت إعراض الأصحاب عنها فكيف عمل بها مشهور المتأخّرين؟ وإن لم يثبت ، فلا بدّ من المصير إليها.

وعلى كلّ حال لا مستند للقدماء من وجوب التعفير ، وأمّا الغسل ثلاثا فيمكن أن يكون مستندهم رواية عمّار الواردة في مطلق الإناء (١) ، فتأمّل!

فرع : مثل الحنطة والأرزّ بل الصابون ممّا لا يقبل العصر إذا تنجّست هل يطهر أم لا؟ فقال بعضهم بقبوله مطلقا (٢) ، وفصّل بعضهم بين الماء الكثير والجاري [والقليل] ، فالتزموا بقبوله التطهير [في الماء الكثير والجاري] دون القليل (٣).

ومعلوم أنّ الخلاف فيما إذا تعدّت وسرت النجاسة إلى باطن ما ذكر ، ونقول : إنّ البحث في المقام من جهات :

الاولى ؛ إنّ الأمور المذكورة غير قابلة للعصر ، فالغسالة لا يخرج منها.

والثانية ؛ أنّ ما يدخل في جوفها إنّما هو الرطوبة لا الماء ، فلا يصدق الغسل.

الثالثة ؛ أنّ وجود الرطوبة فيها مانعة عن تأثير المطهّر ، بل يصير مضافا بالنسبة إلى بعضها.

الرابعة ؛ عدم وجود إطلاق أو عموم يدلّ على قبول كلّ متنجّس للتطهير.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٦٨ الحديث ٣٢١٤٣.

(٢) جواهر الكلام : ٦ / ١٥١ و ١٥٢ ، فقد نسب القول فيه إلى الأردبيلي والكاشاني والنراقي واستقواه.

(٣) جواهر الكلام : ٦ / ١٥٠.


هذه عمدة جهات الإشكال في المسألة ، ولكن بعضها يختصّ بالتطهير بالقليل كالاولى ، حيث إنّ المطهّر القليل لمّا ينفعل فلا بدّ من خروج الغسالة في الجملة (١) حتّى يتطهّر المحلّ ، ومن المعلوم أنّ الكرّ والجاري لا ينفعل ، ولذلك بنينا على عدم لزوم العصر فيهما ، وبعضها يعمّ الكثير مثل الثانية.

والحقّ أنّ تلك الجهة من الإشكال غير قابلة للذبّ ؛ بداهة أنّه لا يصدق الغسل بالماء على مثل الحنطة والصابون إذا تنجّست وسرت النجاسة إليها بوضعهما في الكرّ أو الجاري لا عقلا ولا عرفا ، وإن أصرّ قدس‌سره في «مصباح الفقيه» على صدقه بتقريب له (٢).

هذا ؛ وأمّا الجهتان الاخريان فليستا بشي‌ء ، كما يظهر للمتأمّل.

ومع ذلك ؛ فالتحقيق أنّ الأشياء المذكورة قابلة للتطهير ؛ لأنّ باب التطهير كالتنجيس أمر تعبّديّ ، بمعنى : كما أنّه ليس كلّ شي‌ء منجّسا إلّا أن يدلّ عليه دليل شرعيّ ، كذلك كيفيّة التطهير في الجملة ، وتعيين أصل المطهّر إنّما هما بيد الشرع ، فلما نرى أنّه جعل الأرض مطهّرا لباطن الكفّ والنعل مع بقاء الأثر ، أو رشح الماء وصبّه في بعض المتنجّسات كذلك.

وهكذا باب الاستنجاء والتطهير بالأحجار مع بقاء الأثر ، مثل الطشت من الماء وما اعتبر ورود المطهّر ، بمعنى أنّه اكتفي إلى صدق الورود ابتداءً لا استدامة ، كما هو المسلّم وعليه الأصحاب.

وإنّما الخلاف في ما إذا كان المتنجّس واردا من الأوّل ، فكذلك في تطهير

__________________

(١) وذلك ؛ لأنّ الخروج رأسا لا يتحقّق في مطلق المتنجّسات ، «منه رحمه‌الله».

(٢) مصباح الفقيه : ٦٠٢ ط. ق.


المتنجّسات المذكورة يكفي ورود الماء عليها وصدق الإصابة في الجملة وإن لم يصدق الغسل عقلا بل عرفا ؛ إذ عرفت أنّه ليس مدار الأحكام الشرعيّة على الدقّة العقليّة ، فما ذكر من الموانع ليست إلّا الاستبعادات المحضة الّتي لا تعارض الأدلّة المطلقة بل العامّة ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الله الماء طهورا» (١).

هذا ؛ مضافا إلى الروايات الخاصّة في المقام ، مثل روايات طهارة السطح النجس بالمطر ، والسقف ، حيث قال عليه‌السلام بأنّ ما يكف منه ويتقاطر منه طاهر (٢) مع أنّ ماء المطر لا يسري إلى الطرف الداخل من السقف والسطح إلّا بالرطوبة.

وكذلك أمره عليه‌السلام بتطهير اللحم المتنجّس في القدر بالماء (٣) ، وأمثال ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة ، وقد أفتى بمضمونها الجلّ.

فعلى هذا يندفع شبهة اعتبار خروج الغسالة أيضا ، فتدبّر.

هذا ؛ ولكن في التطهير بالقليل لا ينبغي ترك الاحتياط ، خصوصا في مثل الصابون ، وأمّا قابليّة تطهير ظاهر ما ذكر بالماء مطلقا فهي مسلّمة ، وشبهة سراية نجاسة الباطن إلى الظاهر مندفعة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ١٣٥ الحديث ٣٣٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ١٤٤ الباب ٦ من أبواب الماء المطلق ، نقله بالمعنى.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ٢٠٦ الحديث ٥٢٩.



ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات

الأوّل : دم القروح والجروح (١) وعمدة البحث فيه من جهة أنّ العفو عنهما مختصّ بما إذا كان في التطهير مشقّة بحيث تكون أدلّتها مساوقة لأدلّة الحرج ، أم لا ، بل الأمر أوسع منه ، فيكون معفوّا عنه حتّى يبرأ ، وما دام مقتضى سيلان الدم موجودا فدم القروح لا يلزم تطهيره؟ الّذي يظهر من أكثر أخبار الباب وعمدتها الثاني ، ولا دليل على التقييد بالمشقّة سوى دعوى الانصراف أو الاستفادة من مناسبة الحكم والموضوع.

نعم ما يمكن أن يستدلّ به من الدليل اللفظي المقيّد لإطلاقات الباب موثّقة سماعة المضمرة (٢) ، حيث علّل الإمام عليه‌السلام عدم لزوم التطهير بأنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة ، ومن المعلوم أنّه ظاهر في التقييد ، ولكن يفترق المقام مع أدلّة الحرج أنّ فيها المناط الحرج الشخصي ، ولذلك تكون حاكمة على سائر الأدلّة ، إذ ميزان الحكومة صدق العنوان الموجب للتوسعة أو التضييق على التفصيل في محلّه ، بخلاف المقام ، فغاية ما نلتزم به هي المشقّة النوعيّة ، كما يستفاد من التعليل المذكور.

الثاني : الدم مطلقا غير الدماء الثلاثة ، والبحث فيه ...

__________________

(١) الّذي يظهر من اللغة أنّهما بمعنى واحد ، وهو الجراحة (مجمع البحرين : ٢ / ٤٠٣) ، فمثل الدماميل لها عنوان على حدة ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٣٣ الحديث ٤٠٨٢.



جواز بيع المتنجّس وعدمه

فرع :

قالوا : لا يجوز التسبيب في ارتكاب النجس ، ونحن بيّنّا سابقا ما هو مقتضى الأدلة في هذه المسألة ، والغرض هنا بيان ما فرّعوا عليها من عدم جواز بيع النّجس وإعارته.

فنقول : التحقيق أنّ الحكم يختلف بالنسبة إلى ما يتصوّر من الأقسام ؛ إذ التنجّس إن كان ممّا لا يقبل التطهير أصلا كالسمن المائع أو العسل الّذي فيه نجاسة ، ففي مثله لمّا كان يخرج عن الماليّة رأسا ويصير كالأعيان النجسة ، فمقتضى قوله عليه‌السلام : «إنّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» (١) عدم جواز بيعه وكذا إعارته ؛ لأنّه إيقاع في الحرام الذي قلنا : إنّه بحكم الشرع والعقل قبيح وحرام.

وأمّا في ما يقبل التطهير فهو على قسمين : أحدهما ما يكون استعماله مشروطا بالطهارة ، كالأواني ونحوها ، فلا بدّ فيه من الإعلام ؛ إذ المفروض ملازمة الاستعمال في مثله مع الطهارة ، فتكون من المصاديق الواضحة لتسبيب الحرام.

إنّما الكلام في بطلان المعاملة فيه ، لا أرى له وجها سوى النهي المستفاد من التسبيب المنطبق على البيع ونحوه ، مع أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٢ / ١١٠ الحديث ٣٠١ ، و ٣ / ٤٧٢ الحديث ٤٨.


الفساد ، كما هو التحقيق ، والمسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل.

وثانيهما ؛ ما لم يشترط في استعماله الطهارة ، كالفرش واللحاف ، بل واللباس الّذي يكون استعماله في المشروط بالطهارة اتّفاقيّا أو كثيرا ، ففي أمثاله لمّا لا يصدق التسبيب فلا حرمة ، ولا يجب الإعلام أيضا عند البيع ونحوه.

والحاصل ؛ أنّ الحكم دائر مدار التسبيب ، وإلّا فلا حرمة ، فلا يجب رفع المانع ، والإعلام في ما لو علم بابتلاء الغير بالنجاسة حتّى في بيت نفسه ، فتدبّر!

واعلم! أنّه يدلّ على بطلان البيع مع عدم الإعلام في القسم الأوّل من القسمين الأخبار الخاصّة الواردة في بيع الدهن النجس ، قال عليه‌السلام : «يبيّنه (١) لمن يشتريه (٢) ليستصبح به» (٣) وإن ناقش فيه شيخنا قدس‌سره بأنّه لا ملازمة بين البيان والاستصباح ، إلّا أنّه سلّم أنّ غاية التقييد عدم استعماله في الأكل ونحوه (٤) ، والمستفاد من التقييد والأمر بالبيان هو الاشتراط ، كما هو الأصل في المركّبات.

ثمّ إنّ التحقيق أنّ الأصل في النجاسات عدم جواز الانتفاع وبيعها إلّا ما دلّ عليه الدليل ، كما أنّ الأصل في المتنجّسات هو العكس.

__________________

(١) في المصدر : «وبيّنه».

(٢) في المصدر : «اشتراه».

(٣) وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٨ الحديث ٢٢٠٧٧ ، و ٢٤ / ١٩٤ الحديث ٣٠٣٢٣.

(٤) المكاسب : ١ / ٧٣.


رسالة الصلاة

لباس المصلّي

صلاة الجماعة



لباس المصلّي

[لا يخفى أنّه وقع التسالم بين الفقهاء على جريان أصالة عدم التذكية عند الشكّ في اللحوم والجلود فلا تجري فيها أصالة الحليّة والطهارة ، فلا تصحّ فيها الصلاة للنهي عن الصلاة في غير المذكّى ، وهو كما يحرز بالوجدان يحرز بالأصل أيضا ، فعند الشكّ في التذكية تجري أصالة عدم التذكية.

فاللازم هنا بيان امور :

الأوّل : أنّ الأصل عند الشكّ هو عدم التذكية ، لأنّ الحيوان لم يكن مذكّى في زمان ويشكّ الآن في وقوع التذكية عليه ، وأنّه مات بالتذكية والذبح مع الشرائط أم لا؟ فيستصحب عدمها.

ولا يقال : إنّ عنوان الميتة أمر وجودي فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية إلّا على القول بالأصل المثبت.

فإنّه يقال : كما أنّ الحكم بالحرمة والنجاسة رتّب في الأدلّة على عنوان الميتة كذلك رتّب على غير المذكّى ، فعند الشكّ يستصحب عدم التذكية ، وهذا الأصل هو المرجع عند الشكّ ما دام ليس على اللحم أو الجلد] (١) أثر استعمال المسلم حتّى تصير واردا وحاكما على الأصل.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أوردناه لتتميم البحث.


ولا يخفى أنّ الظاهر من الأدلّة (١) مانعيّة [مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ فيها» (٢) وغيره كما يظهر لمن تأمّل في الأدلّة] الميتة ، وإن كان يظهر من ذيل رواية ابن بكير (٣) اشتراط التذكية ، إلّا أنّه بعد كونها مصدّرة بحكم آخر ، فالظاهر أنّها ليس في مقام تأسيس الشرطيّة واهتمام فيها مستقلّا ، بل يكون إشارة إلى مدخليّة التذكية.

فكيف كان ، فقد عرفت عدم الفرق ، فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مجال للمناقشة في الاستصحاب المذكور إمّا من جهة كونه معارضا بعد ما عرفت من توقّف حليّة الأكل على التذكية ، مع أنّ في الأخبار وارد أنّ : «كلّ ما لم يذكّ فهو ميتة» (٤) ، وإمّا من جهة تعدّد الموضوع وتبدّله ؛ لأنّه بعد الغضّ عمّا ذكرنا في جوابه للإشكال فيه ، بأنّ ما هو موضوع للحكم هو العدم النعتي ، ولا ربط له بالعدم المحمولي فإنّه قد تغيّر يقينا.

فأقول : إنّما العدم النعتي الّذي كان مقارنا للحياة ، وما تغيّر ذاك العدم قطعا ، فإنّ من الواضح أنّ العدم في جميع هذه الأحوال واحد ، وإنّما الوجودات والأحوال مقارنات له ، ولا يكون لها دخل في قوام حقيقته حتّى يقال : إنّه إذا كان حيّا كان عدم آخر غير حال موته ، فإنّه لا أثر لهذا التبدّل أصلا.

وبالجملة ، فنقول : إنّ هذا الحيوان إذا كان حيّا ما كان فعل التذكية واقعا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٥.

(٣) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٢٢ الحديث ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٣ / ٣٧٦ الباب ٢٤ من أبواب الصيد ، نقله بالمعنى.


عليه ، فيستصحب عدم هذا الفعل إلى بعد الموت.

الثاني : اختلفوا في أنّ القابليّة في الحيوان ـ أي كونه مأكول اللحم ـ أن يكون من مقوّمات التذكية الشرعيّة وأجزائها ، أم لا ، بل هي إنّما الأفعال الخاصّة ، وهو خارج عنها؟

يمكن استفادة الثاني من الأخبار ؛ لأنّه إذا يسأل الراوي من الإمام عليه‌السلام ويقول : أليس التذكية بالحديد؟ فيقول عليه‌السلام : «نعم إذا علمت أنّه مأكول اللحم» (١) فالظاهر من الرواية أنّه شرط خارج وغير ذلك من الأدلّة ممّا يأتي الإشارة إليها إن شاء الله.

وكيف كان ، تظهر الثمرة في أنّه إذا قلنا بالأوّل ، فإذا شككنا في المأكوليّة (القابليّة) فالمرجع أصالة عدم التذكية ؛ لأنّ الشكّ فيها يرجع إلى الشكّ في التذكية ، بناء عليه فيقال : إذا كان هذا الحيوان حيّا ما كان هذا المعنى ـ أي التذكية ـ واقعا فيستصحب.

فلا يقال : إذا احرز فعل الذابح وشكّ في القابليّة فلا بدّ أن يرجع إلى القاعدة.

لأنّا نقول : الأصل الموضوعي هنا حاكم ، فالشكّ في الأجزاء يوجب الشكّ في الموضوع ، بخلاف الثاني ، فإذا شككنا فيها بناء عليه ، فالمرجع قاعدة الحليّة والطهارة ؛ لأنّه ليس للمشكوك حالة سابقة حتّى تلاحظ ، فإذا علمنا بتذكية حيوان وشككنا في مأكوليّة لحمه ، فهو محكوم بالحليّة والطهارة ، لأنّه لا مانع من الأصلين مع عدم أصل موضوعيّ حاكم ، فإذا شكّ في التذكية ؛ فإمّا أن يكون المنشأ مأكوليّة اللحم وعدمه ، وإمّا أن يكون الفعل الواقع ، أي من جهة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٥ ، و ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٤ ، نقله بالمعنى.


سائر الشرائط المعتبرة فيها ، مع فرض القطع بكون الحيوان من مأكول اللحم ، وعلى كليهما فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية ؛ لأنّه في الصورة الاولى يكون الشكّ ، وإمّا يكون على الأوّل منشأ الشكّ هو فعل الذابح مع القطع بالقابليّة ، فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية ؛ لأنّ الشكّ في الأجزاء يرجع إلى الشكّ في المركّب ، وعلى الثاني أيضا إمّا أن يكون منشأ الشكّ وقوع الفعل عليه فالمرجع أيضا أصالة عدم التذكية ، فالصور أربع ، وعلى كلّ حال فلا يثمر هذا النزاع في مقامنا ، ولا يمنع من إجراء الأصل إلّا في صورة واحدة كما عرفت.

واختلاف آخر واقع في المقام وهو أنّ غير مأكول اللحم من الحيوان يقع عليه التذكية أم [لا؟] ، والأقوال المعروفة في المسألة أربعة ، يتبيّن كلّها مع مداركها في محلّه.

والّذي استقرّ عليه رأي الأستاذ ـ دام ظله ـ هو أنّ ما عدا الحشرات ونجس العين يقع عليه التذكية ؛ لورود خبرين صحيحين بوقوعها على السباع (١) مع الرواية الدالّة على أنّ أكثرها مسوخ (٢) ، يثبت المدّعى.

اعلم! أنّ ما حكمنا به من لزوم العلم واشتراطه بعدم كون لباس المصلّي من الميتة ، أو قيام الأمارة عليه ، استفدناه من الأخبار (٣) ، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار من أنّ كلّ ما شكّ في كونه ميتة يحكم بصحّة الصلاة فيه (٤) ولا يخفى أنّها لا تثبت الطهارة والحليّة لأنّه لا يصير الشك أمارة حتّى يثبت جميع الآثار ، وكيف

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١١٤ الحديث ٣٠١١٣ ، و ١٨٥ الحديث ٣٠٣٠٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الحديث ٥٣٥٠ ، وفيها : «ما لا يؤكل لحمه لأن أكثرها مسوخ».

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٣ الباب ١ من أبواب لباس المصلّي.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٤٢٧ الباب ٣٨ و ٤٥٥ الباب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي.


كان فهي منزّلة على صورة قيام الأمارة ؛ لأنّها وإن كانت مطلقة إلّا أنّها مقيّدة ، لأنّ مساقها يقتضي ذلك ، فإنّ منشأ السؤال كانت الجهات الثلاث :

إمّا لأنّ الجماعة يطهّرون جلد الميتة بالدباغ.

وإمّا لأنّهم يستحلّون ذبائح الكفّار.

وإمّا لأن الكفار كانوا مخلوطين في بلاد المسلمين فيشتبه حكم كثير من الجلود ، ولتلك الاحتمالات كانوا يسألون من الإمام عليه‌السلام فقال عليه‌السلام : «كلّ ما أخذتم من المسلمين وشككتم فيه من هذه الجهات فلا تعتنوا به ، واحملوا فعلهم على الصحّة ورتّبوا عليه أثر الواقع لا أثر اعتقاده» (١).

كلّ ذلك ، إذا كان مسلما أو سوق المسلمين ، فإنّ المراد من لفظ السوق هو هذا لا مطلق السوق ؛ ومع ذلك كلّه مقيّدة بالصحاح المقيّدة (٢).

الثالث : اختلفوا في أنّه كما تكون يد المسلم أمارة على الحلّ والطهارة (٣) كذلك تكون يد الكفار أمارة على عدم التذكية ، أم لا بل تكون لا أمارة ، وتظهر الثمرة في مسألة التعارض إذا وردتا على الجلد؟ الأظهر الثاني ، لأنّ المستفاد من الأخبار لا يكون أكثر من ذلك ، فإنّ الإمام عليه‌السلام يأمر الآخذ من يد الكافر بالتحقيق ، مع أنّا ما استكشفنا ذلك إلّا من اختصاص أدلّة الأماريّة بيد المسلم ، وهي لا تثبت أكثر ممّا ذكرنا.

مسألة : هل تكون أرض المسلمين أمارة عرضيّة في مقابل يدهم أم لا ، بل هي راجعة وطريق إلى اليد؟

__________________

(١) لاحظ! مستند الشيعة : ١٥ / ١٤٧ ـ ١٤٩ ، ظاهر العبارة مستفاد من روايات واصول ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٠ الباب ٥٠ من أبواب النجاسات.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٠ الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، و ٢٤ / ٧٠ الباب ٢٩ من أبواب الذبائح.

(٣) الحدائق الناضرة : ٧ / ٥٢ ـ ٥٤.


من اشتراط بعضهم وجود أثر الاستعمال على المطروح فيها يظهر الثاني ، ومن إطلاق بعض آخر يظهر الأوّل ، ومدرك أصل المسألة رواية السكوني (١) ، وهو وإن كان عاميّا ممدوحا إلّا أنّهم اختلفوا في العمل برواياته ، ففي بعض المقامات يعملون به وفي بعض آخر لا يعملون بها ، لأنّ رواياته تحتمل التقيّة مطلقا ، ولكن لمّا كان منشأ السؤال إحدى الجهات الّتي قلنا ، والإمام عليه‌السلام كان في مقام بيان حمل فعل المسلم على الصحّة ، ولذا يبيّن عليه‌السلام أنّ اليد أمارة ، ومعلوم أنّ الأرض من حيث هي أرض لا تكون أمارة ، فلا بدّ أن يحمل على ما لو كان عليه أثر الاستعمال حتّى يرجع إلى اليد ، مع إمكان حملها على التقيّة.

وبالجملة ؛ هي لا تكون دليلا معتبرا يوجب رفع اليد عن الأصل المستفاد عن المعتبرات ، والأخذ بإطلاقها ، مع إمكان تقييدها وتخصيصها.

مع أنّه يمكن أن يكون السؤال عن النجاسة والطهارة لا من جهة التذكية والميتة ، لأنّ من الواضحات أنّه لا يمكن الحكم بكون مطلق المطروح من المذكّى ، مع احتمال كونه من بقيّة ما أكلته الكلاب وغيره ، والأخذ بإطلاق هذه الرواية ، والجمود على ظاهرها يوجب القول به.

فالإنصاف أنّها مجملة ، وإلحاق الأرض بالسوق لا محصّل له ، لأنّ السوق أيضا طريق إلى اليد ، لا أن يكون بنفسه أمارة موضوعيّة ، فلو أخذ الجلد من يد الكافر من سوق المسلم لا يكون محكوما بالتذكية ما لم يكن مسبوقا بيد المسلم أو مجهول الحال حتّى يوجب الحكم بالتذكية بها للغلبة في الأخير ، وفي الأوّل باستصحاب اليد.

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٢٩٧ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٢٤ / ٩٠ الحديث ٣٠٠٧٧.


متى تصير يد المسلم أمارة؟

مسألة : إنّما يد المسلم مفيدة وتصير أمارة إذا لم يكن الجلد المأخوذ منه مسبوقا بيد الكافر أو مجلوبا من أرضهم ، فلو كان المأخوذ من يد المسلم هكذا لم يكن محكوما بالتذكية ، وذلك لأنّ الأدلّة الدالّة على حجيّة اليد لا تدلّ على كون الحكم واقعيّا ، فإنّ الأدلّة إمّا أن تكون في مقام بيان قضايا حقيقيّة واقعيّة ، وإمّا أن تكون قضايا خارجيّة ، فيصير مفاد الاولى بيان الحكم الكلّي ، والثانية الحكم الجزئي الخارجي وبعد أن عرفت أنّ أخبار اليد ناظرة إلى ما كانوا مبتلين به وسألوا عنه ، ومن المسلّم أنّه ما كان في زمن ورود الروايات الجلود مجلوبة من بلاد الكفر ، بل كان [من] بلد المسلمين وكان المسلمون فيها أغلب ، بخلاف ما يجلب في عصرنا من الجلود ونحوها من بلاد الكفر ، ويقطع بكون أصل منشأها تلك البلاد الّتي لا يفرّق فيها بين المأكول مأكول اللحم وغيره ، ولا بين المذبوح والميتة ، وما يكون فيها سلطنة للمسلمين.

وبالجملة ، شمول أدلّة السوق واليد لمثلها في غاية الإشكال ، فالأقوى الاجتناب ، إلّا أن يظنّ بأنّ من اشترى من المسلمين منهم أوّلا قد تحرّى وثبت عنده عدم كون المجلوب من الميتة ، فيحمل على الصحّة ويجوز الاستعمال.

ولا يخفى أنّه لا يجوز في المقام التمسّك بالإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال ، فإنّ مقام التمسّك إنّما هو إذا كان للمسئول حين السؤال فردان أو أكثر ، حتّى يحمل الجواب على كلّ الأفراد ، وقد قلنا : إنّ حمل الجلود ونحوه ما كان معمولا من البلاد المختصّة بالكفّار في عصر ورود الأخبار.


الرابع : اختلفوا في أنّ الميتة من حيث هي عنوان للمانعيّة بنفسها ، أم هي راجعة إلى النجاسة؟ فإن قلنا بالأوّل ؛ فلا يجوز الصلاة في جلد الميتة الّتي لا نفس سائلة لها مثل السمك وغيره ، وإلّا فلا.

الّذي يستفاد من الأدلّة الثاني ، فإنّه بعد ما عرفت وجه السؤال عن الميتة والصلاة فيها من الموجبات فلا يبقى مجال لجعلها مانعا بنفسه (١) كما هو ظاهر بعض أخبار الباب وإن كان فيها مطلقا مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ في شي‌ء من الميتة» (٢) فيحمل على المقيّدات.

فرع : الظاهر أنّ اعتبار اليد (٣) هنا إنّما يكون من باب حمل الفعل على الصحّة (٤) ؛ لأنّه القدر المتيقّن من الأدلّة ، لا من باب الملكيّة ، بأن يقال : إنّ الميتة لا يملكه المسلم فيكشف كونه مذكّى إذا كان على يده ، حتّى لا يحتاج أن يكون عليه أثر الاستعمال ، بل يكون صرف القبض كاشفا ، ولو احتمل إرادة إراقته بخلاف الأوّل فلا بد أن يكون عليه أثر الاستعمال ، ويعامل معه معاملة لا يعامل المسلم مع الميتة كما يشعر به قوله عليه‌السلام : «إذا رأيت منهم يصلّون فيه» (٥) وكذلك

__________________

(١) أي نجاسته ومانعيّته من هذه الجهة ، لا كونه عنوانا مستقلّا ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٣ الحديث ٥٣٤١.

(٣) أقول : في المقام صاحب «الجواهر» قدس‌سره يفرّق بين المقتضى على المبنيين ، فعلى كونها من باب أمارة الملكيّة يحكم بعدم لزوم أثر الاستعمال بخلاف كونها من باب الحمل على الصحّة (جواهر الكلام : ٨ / ٥٦) ، ولكن رأيت في بعض تعليقات «الرسائل» في بحث تعارض الاستصحابين لبعض الأجلّة قدس‌سرهم ينقل عن مجلس درس صاحب «الجواهر» رحمه‌الله بجعله قاعدة اليد من جزئيّات حمل فعل المسلم على الصحّة ، «منه رحمه‌الله».

(٤) جواهر الكلام : ٨ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٥) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٢ الحديث ٤٢٦٦.


اعتراضه في السوق يكون في معرض البيع وغير ذلك ، فلو شكّ في شي‌ء فلا بدّ أن يرجع إلى أصالة عدم التذكية الّتي لا يعارضها صرف الأخذ باليد والسلطنة عليه الّتي هي علامة للملك.

فرع آخر : لو سبقت على جلد يد المسلم ولحقته يد الكافر أو بالعكس ، أو تشاركتا ، يحكم بتذكيته ؛ لأنّ يد الكافر ليست بأمارة على ما قلنا ، كما هو المفهوم من قوله عليه‌السلام : «حتّى تسألوا» (١) فلا يعارض مع الأمارة ، وإن كان يمكن القول بتقدّم يد المسلم أيضا وإن قلنا بأماريّة يد الكافر ـ كما يظهر عن بعض (٢) ـ لأنّ أماريّته لا يفيد إلّا النفي ، فتأمّل! وفي قبال المشهور تفاصيل ثلاثة تمسّكوا بأخبار مؤوّلة (٣) مع أنّها ليست قابلة لما تمسّك به المشهور بوجه أصلا مذكورة في «الجواهر» (٤) فالحريّ الدخول في بيان الأمر. لا يقال : يد الحادثة متقدّمة لأنّها أمارة ترفع بها أثر الأمارة السابقة ، كما في الملك.

لأنّنا نقول بعدم الحكم بكونه مذكّى لسبق يد المسلم عليه ، فلا ينقلب المذكّى إلى الميتة ، ولا يتصوّر له موجب بخلاف الملك ، فيكون للانقلاب فيه موجبات كثيرة.

الخامس : وهو اشتراط كون الملبوس والمحمول من مأكول اللحم في الجملة ، فلا يجوز الصلاة في جلود السباع ولا المسوخ مطلقا ، ولا في شعرها

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٩٩ الحديث ١٥٤٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٢ الحديث ٤٢٦٦ ، وفيه : «أن تسألوا».

(٢) ذكرى الشيعة : ٣ / ٢٨.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٠ الحديث ٤٢٦١ و ٤٩٣ الحديث ٤٢٦٨.

(٤) جواهر الكلام : ٦ / ٣٤٦ و ٨ / ٥٣ ـ ٥٥.


ولا في سائر أجزائها ، والعمدة في الدليل هي الموثّقات (١) أو الصحاح المستفيضة (٢).

إنّما الإشكال في المقام هو أنّه علّل في رواية السنجاب بأنّه يجوز الصلاة فيه لأنّه «لا يأكل اللحم» (٣) فيتخيّل كونها مخصّصة لروايات المنع ، فهي دالّة على عدم الجواز في أجزاء السباع خاصّة لا مطلق ما لا يؤكل إذا ذكّي.

وفيه ؛ أنّه علّل في رواية مضمونها : «لا يجوز الصلاة في ما لا يؤكل بأنّ أكثرها المسوخ» (٤) فيستفاد من مفهوم هذه الرواية كون العلّة أعمّ ممّا هي مذكورة في رواية السنجاب ، وكونها علّة للتشريع لا علّة للحكم حتّى يدور مدارها ، لظهور أنّه إمّا أن تكون النسبة بينهما (بين الروايتين) عموما من وجه أو التباين ، ولا معارضة بينهما على ما ذكرنا من عدم انحصار العلّة ، حتّى يخصّص.

لا يقال : العلّة في الاولى أخصّ من الثانية ، فلا بدّ [من] العمل فيها بما يعمل في مطلق العامّ والخاصّ.

لأنّا نقول : ليس الأمر كذلك ، فإنّه إذا وردت علّتان للحكم بحيث يكون أحدهما أخصّ والآخر أعمّ يستكشف ذلك عن كون العلّة شيئين ، وعدم انحصار العليّة بالأولى ، لعدم التعارض بينهما لأنّ تخصيص العامّ بالخاصّ في غير مورد العلّة إنّما يكون للتعارض ، فإنّ المقام يصير من قبيل ما لو قال : أكرم العلماء ثمّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٥ ، و ٣٥٣ الحديث ٥٣٦٧ ، و ٣٥٤ الحديث ٥٣٧٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٥ الحديث ٥٣٧٥ ، و ٣٤٧ الحديث ٥٣٥١ ، و ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.

(٣) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ٣ ، و ٤٠١ الحديث ١٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٣ و ٥٣٥٤.

(٤) علل الشرائع : ٣٤٢ الحديث ١ ، الباب ٤٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الحديث ٥٣٥٠.


قال : أكرم زيدا وكان منهم ، فيصير نتيجة ذكره إمّا أهميّته أو غير ذلك.

لا يقال : إنّ العلّة في الاولى ظاهرة في كونها علّة للحكم ، بخلاف الثانية فإنّها ظاهرة في كونها علّة للتشريع لقوله عليه‌السلام : «لأنّ أكثرها مسوخ» (١) فلو لم تكن علّة للتشريع فاللازم عدم المنع عمّا لم يكن من السباع مسوخا ، فكيف يرفع اليد عمّا هو ظاهر ويصرفه إلى خلافه لما هو خلاف الظاهر.

لأنّا نقول : ظهور الاولى في العليّة والانحصار إنّما كان بمقدّمات الحكمة ، بأن يقال : إنّما كان عليه‌السلام في مقام البيان وقد ذكر هذه العلّة ، ولو كانت علّة اخرى لكان اللازم أن يذكر ، وغير ذلك ، كما هو طريق استفادة انحصار العلّة في باب المفاهيم وغيرها ، فعلى هذا فلو ثبتت من دليل آخر علّة اخرى أعمّ فتبطل المقدّمات من أصلها ، فلا يبقى للانحصار مجال ، وتصير العلّة الثانية بالنسبة إلى المسوخ نصّا ، فيدور الحكم مدارها نفيا وإثباتا ، مثل ما لو قال : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، بخلاف الاولى إنّما يدور الحكم مداره ثبوتا.

وتظهر الثمرة فيما لو كان ذا مخلب ولم يكن مسوخا ، مع أنّ الجمود بظاهر العلّية في الاولى يوجب استهجانها ؛ لظهور تعليق الجواز بعدم أكله اللحم ، مع أنّ كثيرا ممّا جوّز فيه هذه القضيّة يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، فتأمّل!

فالمحصّل ؛ أنّه لا يجوز الصلاة في أجزاء غير المأكول مطلقا إلّا السنجاب والخزّ ، لورود الروايات الصحيحة (٢) المعمول بها على الجواز فيهما ، أمّا السنجاب فالظاهر أنّه الّذي الآن موجود ، وأمّا الخزّ فهو اسم لحيوان بحريّ قد

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الباب ٣ ، و ٣٥٩ الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي.


كان وبره في غاية اللطافة والرقّة ، قد كان معمولا في قديم الزمان يأخذون من وبره ومنسوجه ألبسة وأثوابا ثمينة ـ غالي القيمة ـ حتّى كانوا لكثرة لطافته ونعومته يخلطونه بوبر الأرنب والثعلب ، والظاهر أنّه ليس الآن بموجود ، بل من زمن بعد العباسيّة صار مفقودا على ما قاله ـ دام ظلّه ـ فلو شكّ في جلد في زماننا أنّه منه أو من غيره فلا بدّ أن يرجع إلى الأصول العمليّة.

وأمّا الصلاة في غيرهما مثل الثعالب والأرانب فلا إشكال في عدم جواز الصلاة فيهما ، ولا في غيرهما ممّا لا يؤكل لحمه ، عملا بالإطلاقات (١) ، فلا بدّ من حمل ما دلّ على الجواز على التقيّة (٢) ، إذ ليست قابلة للتعارض مع العمومات ؛ لإعراض المشهور عنها وموافقتها لمذهب العامّة ، مع معارضتها لما دلّت بالخصوص على المنع (٣) ، ومع ذلك كلّه فلدفع شبهة مخصّصية رواية السنجاب فنقول : إنّ ما ذكر فيها بصورة التعليل ليس مسوقا للعليّة ، بل المراد من ذكره أنّه لمّا كانت للسنجاب سبلة وصورة كصورة السنّور والسباع فيتوهّم كونه منها ، فقال : إنّه ليس منها ، لأنّها تأكل اللحم ولها ناب ومخلب ، والسنجاب لا يكون له هذه الآثار ، فعلى هذا لا يستفاد منه العليّة أصلا.

ومع الغضّ عن ذلك فأقول : لا بدّ أن يعلم أنّ لكلّ قضيّة تعليليّة أمران : عموم مستفاد من منطوقه ، ومفهوم مستفاد من دليله ، ولا ريب في المقام أنّه لا تعارض بين مفهوم هذه العلّة وما يقوله عليه‌السلام : «لأنّ أكثرها مسوخ» (٤) في رواية ما

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٢ الباب ٥ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٠ الباب ٤ من أبواب لباس المصلّي.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٥ الباب ٧ من أبواب لباس المصلّي.

(٤) مرّ آنفا.


لا يؤكل لحمه ، لأنّ مفهوم الأوّل ـ وهو عدم الجواز في ما يأكل اللحم ـ لا يعارض مع علّية المسوخيّة ، لعدم الجواز أيضا كما هو المستفاد من الثانية ؛ لأنّهما علّتان ذكرنا كلّ واحدة منهما في رواية (١) ، وإنّما التعارض البدوي يكون بين منطوقهما ، فإنّ الأولى يستفاد منها جواز الصلاة في ما لا يأكل ولو كان مسوخا ، والثانية يستفاد منها عدم الجواز في المسوخ مطلقا ، ولا ريب أنّ الثانية أخصّ فتخصّص الاولى بها.

إن قلت : إنّ الثانية أيضا أعمّ من الآكل وغيره ، فتصير النسبة عموما من وجه.

قلت : كلتاهما متصادقتان في الآكل المسوخ ، وإنّما التعارض والاجتماع إنّما يكون في المسوخ الّتي لا تأكل ، فهو الّذي يستفاد من الاولى الجواز في أجزائه لأعميّته عن الثانية ، والثانية يستفاد منها العدم وهي مخصّصة للاولى ؛ لأنّه لا تبقى الأعميّة في الثانية بعد التصادق.

والحاصل ؛ إنّا نقول بملازمة عدم جواز أكل اللحم مع عدم جواز الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل ، والسبب للحرمة غالبا يكون واحدا من الثلاثة : المسوخيّة ، وكون الحيوان آكلا للّحم ، [وكونه من] الحشرات ، وكلّ واحد منها يكون موجبا لعدم جواز الصلاة في أجزائه ، ولا يخفى أنّ العلّة في الثانية تصير بعد علّة للحكم لا للتشريع ، لأنّ ما يقوله عليه‌السلام : «لأنّ أكثرها مسوخ» (٢) لأنّ الباقية تكون من الحشرات ، فلا يكون في مقام بيان كلّ ما هو موجب للحرمة ، ولكن بالنسبة إلى ما يشمله من المسوخ يكون الحكم كليّا ، والمسوخيّة علّة له.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الحديث ٥٣٥٠ ، و ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٣.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٩٨ من هذا الكتاب.


والعجب أنّه بعد ذلك كلّه قال ـ دام ظلّه ـ : قد ظفرنا بنسخة مصحّحة من «الكافي» فوجدنا جاءت رواية السنجاب [على] غير ما ذكرنا ، وهو أنّ السائل يسأل عمّا يؤكل من غير الغنم فيقول عليه‌السلام : «لا بأس بالسنجاب» (١) .. إلى آخرها ، فالإمام عليه‌السلام يكون في مقام بيان مأكول اللحم من الحيوان من غير الغنم أو النعم (٢) على اختلاف في النسخ ، فهذا موافق لسائر الروايات الّتي دلّت على حلّية أكل لحمه ، مع أنّ ذيل الرواية أيضا شاهد على كون الرواية هكذا ؛ لأنّه عليه‌السلام يقول : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ ذي ناب ومخلب» (٣) مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نهى إلّا عن أكلهما ، فالعلّة إنّما سيقت لبيان حليّة الأكل لا لجواز الصلاة ، فالرواية مشتملة على بيان حكمين.

والأخبار في حليّة أكل السنجاب وجواز الصلاة في جلده مختلفة ؛ بعضها تدلّ على جوازهما (٤) ، وبعضها تدلّ على عدم جوازهما (٥) ، والاخرى دالّة على حرمة الأوّل وجواز الثاني (٦) ، ولذلك اختلفت الفتاوى والأقوال فيه أيضا (٧).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٤.

(٢) والأنسب هو الغنم لأنّه ما كان المعمول أن يؤخذ الجلد من غيره من الأنعام ، ولا يخفى أنّ نسخة «الوافي» (الوافي : ٧ / ٤٠٢ الحديث ٦١٩٣) ، وغيره موافق لهذا ، أي ليس فيها كلمة «لا» فالنسخة معتبرة «منه رحمه‌الله».

(٣) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢١٦ الحديث ٧٩٧ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٤.

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

(٦) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٧ الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي.

(٧) جواهر الكلام : ٨ / ٩٦ ـ ١٠١ ، جامع المقاصد : ٢ / ٧٩.


وبذلك ظهر ما في كلام [صاحب] «الجواهر» رحمه‌الله من النقل عن بعض بعدم جواز الاستدلال بهذه الرواية من جهة اشتمالها لما هو مخالف للإجماع (١).

وكذلك ما نقله قدس‌سره أيضا من ضعف هذه الرواية لمعارضته للموثّقة (٢) ، فإنّها صريحة في عدم جواز الصلاة في السنجاب فإنّ مورد السؤال فيها إنّما هو السنجاب مع غيره ، والإمام عليه‌السلام يطبّق الحكم ـ وهو عدم جواز الصلاة في ما لا يؤكل لحمه ـ بهذه الامور ، والعمل بهذه الرواية يوجب التخصيص المستهجن بالنسبة إلى الموثّقة ، وهو إخراج المورد عن الحكم.

فإنّ هذا الكلام مردود من جهة أنّه لو كان مورد السؤال في الموثّقة منحصرا بالسنجاب يلزم ما ذكر ، ولكن لمّا كانت مشتملة على امور منها هذا ، فإخراجه لا يوجب استهجانا أصلا.

ويمكن أن يقال : مع تسليم صحّة نسخة «الوسائل» ـ زيادة على ما ذكرنا آنفا بأنّه العلّة ـ إنّما هي مختصّة بالسنجاب ؛ لخروجه عن سائر ما سئل عنه ، فلا يجوز التعدّي عنه إلى كلّ ما هو مثل ذلك ، وهذا جار في كلّ قضيّة استثنائيّة علّلت المستثنى بشي‌ء ، بخلاف ما لو كانت القضيّة المعقودة إيجابيّة محضة أو سلبيّة كذلك ، وهذا يصير نظير ما لو سئل الطبيب عن أشياء فينهى عنها إلّا عن واحد منها لعلّة ، فلا يجوز التعدّي إلى غيره ، لأنّه يحتمل أن يكون لجنس المسئول عنه خصوصيّة.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٨ / ٩٩.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٢٢ الحديث ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


مع أنّا قد بيّنا أنّ النسبة بين رواية السنجاب ورواية المسوخ إنّما تكون عموما مطلقا ، فيصير المرجع رواية المسوخ ، ومع الإغماض عن ذلك وتسليم كون النسبة عموما من وجه فنقول : أيضا يجب تقديم رواية المسوخ ، لأنّه قد حرّر في محلّه أنّه لو كانت النسبة بين المتعارضين عموما وخصوصا من وجه ، والعمل بأحدهما يوجب طرح الآخر رأسا يلزم تقديم ما يوجب طرحه ، حفظا لكلام الحكيم عن اللغويّة ، والمقام يكون من هذا القبيل لأنّهما في المسوخ (١) الآكل متضادّتان ، والآكل الغير المسوخ مشمول برواية السنجاب (٢) ، كما أنّ الأوّل أيضا مشمولها ، فلا يبقى لرواية المسوخ مورد لو قلنا بالجواز في المسوخ.

حكم الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه

فرع : لا يجوز الصلاة مع الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه ؛ للشهرة المستفيضة ، بل الإجماع ، ولعموم الموثّقة لابن بكير (٣) بعد الخروج عن معنى الظرفيّة الحقيقيّة (٤) والتزام معنى مجازيّ وهو مطلق الملابسة ، لأنّ الالتزام بهذا ممّا لا بدّ منه بالنسبة إلى الروث وبعض الفقرات الاخر ، فيشمل المنسوج من الشعر والملقى منه.

وممّا يؤيّد الالتزام المذكور هو صحيحة الهمداني الّتي هي نصّ في

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٤.

(٣) مرّ آنفا.

(٤) والمقام يكون من باب المعارضة بين عقد الوضع والحمل ، والحمل نظير : لا تضرب أحدا ، ولا يكون قاعدة مطّردة لترجيح أحدهما على الآخر ، بل لا بدّ من الرجوع إلى القرائن الخارجيّة ، «منه رحمه‌الله».


المقام (١) ، ويؤكّد أن يكون المراد من الظرفيّة التبعيّة ، وكذلك لا تجوز في المخلوط منه ولو أقلّ قليل ولو لم يتميّز ، لأنّ المناط في المانعيّة هو وجوده الواقعي.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ المستهلك منه لا يضرّ ، فإن كان المراد من المستهلك هو تبديل الصورة النوعيّة فمقبول ، إلّا أنّ الظاهر أنّه غير متصوّر في المقام ، وإن كان المراد عدم التميّز فمردود لما عرفت ، ولأنّ الروايات الدالّة على المنع من الصلاة في الخزّ المغشوش (٢) أعمّ من أن يكون الغشّ قليلا أو كثيرا ، مع أنّ المعمول من الغشّ هو ما لا يتميّز غالبا ، وكذلك لا تجوز الصلاة في المحمول منه كعروة السكّين (٣) وغيرها لعموم الموثقة (٤) أيضا ، لو كان بارزا ، وأمّا ما كان منه ملفوفا في شي‌ء أو موضوعا في قارورة ـ مثلا ـ فالقول بالمنع لا يخلو عن إشكال ، كلّ ذلك لأنّ الالتزام بالتوسعة في معنى الظرفيّة المستفادة من الموثّقة ممّا لا بدّ منه ، ولكن بحدّ لا مطلقا ، بل بمقدار يساعده العرف واللغة.

بيان ذلك : أنّ مراتب الظرفيّة مختلفة.

الأوّل : إسناد الظرفيّة الزمانيّة والمكانيّة إلى الجواهر والموجودات الحقيقيّة.

__________________

(١) فإنّها مرويّة في «الكافي» ، والمرويّات فيه صحاح باصطلاح القدماء ، ومعمول بها ، فلا مجال للخدشة في سندها على ما قاله ـ دام ظلّه ـ «منه رحمه‌الله» ، ولا يخفى أنّ هذا وهم ، حيث لم نعثر على رواية للهمداني في هذا الباب في «الكافي» ، بل هي في تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٢٣ الحديث ٨١٩ والاستبصار : ١ / ٣٨٤ الحديث ١٤٥٥.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٦١ ، الباب ٩ من أبواب لباس المصلّي.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٩٥ ، جواهر الكلام : ٨ / ٧٩.

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


الثاني : إسناد الأعراض إليها كبياض الثلج ، وضوء النهار.

الثالث : إسناد الأحوال والأفعال ـ أي وقوعهما فيهما ـ إلى الزمان والمكان كصلاة الليل ، والضرب في الميدان وكذلك تتصاعد التوسعة إلى أن يصل إلى إسناد الأفعال إلى توابع الوجود والأحوال إلى ملابسات الموجودات الخارجيّة ، مثل الصلاة في الثوب ، بل إلى مطلق الملابس مثل الصلاة في القلنسوة أو التكّة ، فإنّهما وإن لم يكونا محيطين بالمصلّي إلّا أنّ إطلاق الظرفيّة بهما شائع.

إلّا أنّ مساعدة العرف واللغة في التوسعة ـ بحيث تشمل الظرفيّة [على] الفرض الأخير ـ بعيد جدّا ، ولذا استشكلنا في المنع فيه ، ولكن قلنا بالمنع في الشعر الملقى ؛ لأنّ الرواية بنفسها قد تعرّضت لبيان حكم نظيره وهو البول واللبن إذا أصابا البدن أو اللباس ، وهما يكونان من قبيل إطلاق الظرفيّة إلى توابع الوجود فإنّهما إذا أصابا يفرض لهما نحو إحاطة ، ولذا يطلق الظرفيّة بالنسبة إلى الأفعال وهو الصلاة فيهما ، وكذلك الشعر الملقى.

وأمّا ما قاله صاحب «الجواهر» قدس‌سره من الالتزام بالمجازيّة في بعض المدخولات مثل الروث وغيره (١) فلا ترجيح له على ما ذكرنا ؛ لأنّه لا محيص عنه بالنسبة إلى جلّ فقرات الموثّقة (٢) مع أنّ ما ذكرنا راجح لتأييده بالروايات الخاصّة الّتي العمل بها يقتضي التعميم في معنى هذه الرواية ، كما لا يخفى.

وكذلك ما قاله الاستاد الأكبر قدس‌سره من إخراج «في» عن معناه رأسا وإشرابه

__________________

(١) جواهر الكلام : ٨ / ٧٧.

(٢) مرّ آنفا.


معنى المصاحبة والمعيّة ، لا حاجة إليه (١) ، مع أنّه خلاف الأصل ، ويوجب إخراج بعض الفروع عن الرواية مع أنّه داخل قطعا.

فرع ؛ لا تجوز الصلاة في ما لا تتمّ الصلاة به منفردا ، كالتكّة والقلنسوة إذا كان معمولا ممّا لا يؤكل لحمه ، لعموم الموثّقة (٢) وصحيحة زرارة (٣) ، وللأخبار الخاصّة (٤) وأمّا حديث محمّد بن عبد الجبّار (٥) فليس قابلا للمعارضة ، مع أنّه مطروح ؛ لخصوص رواية الهمداني الّتي تعارض جزء منه ، وهو ما إذا كان عليه (الثوب) شعر ملقى ممّا لا يؤكل لحمه (٦) ، ومكاتبة ابن مهزيار (٧) الّتي تعارض جزءه الآخر ، وهو في ما لا تتمّ الصلاة فيه إذا كان معمولا ممّا لا يؤكل ، فيصير الحديث من العامّ الّذي يعارض خاصّين اللذين يستوعبان جميع أفراده ، فيصير التعارض تباينيّا ، ولا ريب أنّ هنا يكون الترجيح للخاصّين ، لموافقتهما للمعتبرات الاخر (٨) ، ولموافقته التقيّة ومذهب العامّة ، ولأنّ الظاهر من عمومه مخالف لإجماع الفريقين كما أشار قدس‌سره إلى كلّ ذلك وامور اخر في «الجواهر» (٩).

مع أنّه لا بدّ من أن يرجّح غيره عليه ، لكونه مشافهة ، وهو مكاتبة ، لكنّا لم

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الحائري اليزدي : ٥٣.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٦ الحديث ٤١٦٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٥ الحديث ٤١٦٠.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٧٦ الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٧٧ الحديث ٥٤٤٢.

(٦) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٦ الحديث ٥٣٤٧.

(٧) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٧٧ الحديث ٥٤٤١.

(٨) راجع! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٢ الباب ٥ و ٣٥٤ الباب ٦ من أبواب لباس المصلّي.

(٩) جواهر الكلام : ٨ / ٧٦ و ٧٨.


نعثر في الباب على رواية خاصّة تكون مشافهة.

أقول : ولعلّ مراده قدس‌سره هي الموثّقة (١).

الأمر السادس : قد أشرنا إلى استثناء الخزّ والسنجاب عن عموم المنع ، إلّا أنّ الإشكال في الأوّل في شمول عموم الجواز على الموجود منه الآن ، لأنّه لا يستفاد من الأخبار ضابطة متقنة معيّنة في تعريفه ، وكذلك كلمات الأصحاب فيه مختلفة ، فبعضها تدلّ على كونه بحريّا (٢) ، والآخر على كونه برّيا (٣) ، وبعضها على كونه ممّا يعيش فيهما (٤) ، وكذلك اختلاف أهل اللغة والتجّار ، كما أنّ المستفاد من بعض الأخبار والكلمات أنّ له نفس سائلة (٥) ، والاخرى أنّه ليس له نفس سائلة (٦).

وبالجملة ؛ إنّ كلمات الأعيان فيه مضطربة ، مع أنّ المنقول عن البعض أنّه منذ زمان يكون قد فقد (٧) مع أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه ، ولا ريب أنّ كلّ ذلك لا أقلّ يورث الشكّ ، والأصل في المقام المنع ، فالأقوى الاجتناب عمّا يسمّى في زماننا بالخزّ في الصلاة.

وأمّا الثاني ؛ فللشكّ في أصل الحكم فيه ؛ لأنّ الأخبار الخاصّة فيه متعارضة ؛ والعامّة منها ـ مثل : موثّقة ابن بكير (٨) بقرينة السؤال ـ صريح في

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) راجع! مدارك الأحكام : ٣ / ١٦٧ و ١٦٨ ومستند الشيعة : ٤ / ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٣) راجع! الحدائق الناضرة : ٧ / ٦٥ ـ ٦٧.

(٤) راجع! مدارك الأحكام : ٣ / ١٦٧ و ١٦٨ ، الحدائق الناضرة : ٧ / ٦٥ ـ ٦٨ ، مستند الشيعة : ٤ / ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٥) الحدائق الناضرة : ٧ / ٦٦ و ٦٧.

(٦) الحدائق الناضرة : ٧ / ٦٦ و ٦٧.

(٧) جواهر الكلام : ٨ / ٩٢.

(٨) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


المنع ، ولأنّ المشهور بين القدماء وجملة من المتأخّرين المنع فيه (١) ، مع أنّه إلى الأكثر نسب الشهيد قدس‌سره (٢) ، مع أنّ الإجماع عليه منقول ، ويشهد بذلك كلّه التتبّع في الأخبار (٣) وكلمات الأخيار قدّس أسرارهم (٤) ، فالأقوى فيه المنع أيضا.

وأمّا ما تمسّك به صاحب «الجواهر» قدس‌سره للجواز في الأوّل (٥) ، وهو عمدة دليله من أصالة عدم النقل ، فلا وجه له ؛ لأنّه إنّما يستدلّ بها لإثبات معنى سابق مثل المعنى اللغوي ، وعدم حدوث اصطلاح معنى للّفظ ، مثل ما يقال : إنّ الصعيد قد كان يطلق في اللغة على مطلق ما في وجه الأرض ، ثمّ يشكّ في نقله إلى التراب الخالص (٦) ، فيتمسّك بها لإثبات الأوّل ، وأمّا المقام فهو عكس ذلك فهو من قبيل الاستصحاب القهقرى ؛ لأنّ الشكّ إنّما يكون في تسمية ما هو يسمّى الآن بالخزّ في القديم ، أي في عصر ورود الأخبار به أيضا ، مع أنّ المستند في التسمية غير معلوم ، فتأمّل!

حكم لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه

الأمر السابع : اختلف الأصحاب في جواز لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه في الصلاة وعدمه ، ووقع الخلاف في كون المأكوليّة شرطا أو عدمه مانعا ،

__________________

(١) جامع المقاصد : ٢ / ٧٩ ، الحدائق الناضرة : ٧ / ٧١ ، مستند الشيعة : ٤ / ٣٢٨.

(٢) روض الجنان : ٢٠٧ ، لاحظ! مستند الشيعة : ٤ / ٣٢٨ ، الحدائق الناضرة : ٧ / ٦٨.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الباب ٢ و ٣٥٠ الباب ٤ من أبواب لباس المصلّي.

(٤) لاحظ! جامع المقاصد : ٢ / ٧٩ ، جواهر الكلام : ٨ / ٩٦ و ٩٧ ، مستند الشيعة : ٤ / ٣٢٨.

(٥) جواهر الكلام : ٨ / ٩١.

(٦) مجمع البحرين : ٣ / ٨٥.


ولتوضيح الأمر يقدّم امور :

الأوّل : هل يكون للأحكام الوضعيّة بحذاء الأحكام التكليفيّة جعل ووضع على حدة ، أم هي منتزعة منها؟ والظاهر أنّ الثاني هو الحقّ ، كما عليه المحقّقون ، وأنّ الاختلاف فيه إنّما يكون في البديهيّات ، كما يظهر لمن رجع إلى وجدانه أنّ من يكون في مقام إنشاء أمر مركّب من امور ، أو تكليف مشروط بامور وجودا أو عدما ، فإمّا أن يتعقّل ويتصوّر هذه الامور فيحكم ويكلّف عليها ، أو لا ، فعلى الأوّل ؛ فإذا أنشأ فينتزع منه الحكم الوضعي ، أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ونظائرها ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى جعل آخر حتّى يقول : جعلت هذا جزء لذاك أو شرطا ، لأنّه يصير لغوا ، وهو محال على الحكيم ، وعلى الثاني فانضمام ذاك الامور يوجب الخلف.

نعم ؛ يمكن ذلك بالبداء وهو محال أيضا ، فإنّه لا بدّ لمن هو عالم بعواقب الامور من بيان كلّ ماله دخل في مطلوبه من أوّل الأمر ، فلو أنشأ وكلّف بما هو مركّب أو مشروط بأربعة امور ، لا يعقل أن يضمّ إليه خامسا ، ويقول : جعلته جزء أو شرطا ، بل عليه أن يحكم من الأوّل بالمركّب معه.

وبالجملة ؛ من نفس إنشائه وجوب الصلاة عند الدلوك ينتزع السببيّة ، [ووجوبها] مع السورة ينتزع الجزئيّة ، وإن أبيت فراجع إلى الموالي الظاهريّة إذا يقول : أكرم زيدا إن جاءك هل يحكم بأمرين ، وهما سببيّة المجي‌ء للإكرام ووجوبه عند المجي‌ء ، أم لا ، بل ينشئ امرا واحدا وهو وجوب الإكرام عند المجي‌ء ثمّ ينتزع العبد منه السببيّة؟

وبما ذكرنا ظهر أنّها ليست قابلة للجعل في عالم التصوّر أيضا ، فإنّ فيه


أيضا إذا تصوّر عدّة امور واعتبر اجتماعها ، أو تصوّر أمرا مقيّدا بأمر وجوديّ أو عدميّ ينتزع منه الجزئيّة والشرطيّة ، فإنّ تصوّرها هكذا عين الجزئيّة والشرطيّة ، ولا يحتاج إلى تصوّر جزئيّته أو شرطيّته ، ولو لم يتصوّر يلزم البداء والخلف ، كما ذكرنا ، ولو سلّم جعلها في عالم التصوّر ، لا ينتج بالنسبة إلى الخارج بعلم.

وبعبارة اخرى ؛ فرق بين الامور الاعتباريّة والانتزاعيّة ، فإنّ الأوّل لها وجود متأصّل باعتبار ما يعتبر فيها ، ولو لم يعتبر معتبر ، فإنّ الفوق فوق ، والتحتيّة للتحت ثابتة ، ولو لم يعتبرهما أحد.

ويمكن أن يقال : إنّ وجودها يكون من قبيل وجود الأعراض ؛ وبالجملة لها حظّ من الوجود مثل الوجودات الحقيقيّة ، بخلاف الثانية ، فإنّها ليس لها وجود إلّا بالانتزاع ، وليس لها وجود في موطن من المواطن ، فليست قابلة للجعل تأصّلا تشريعا ، فإنّه إذا قال الشارع : اغسل ثوبك من النجاسة الفلانيّة مرّتين ، ينتزع منه شرطيّتهما في الطهارة ، وكذلك إذا قال : الصلاة (١) مشتمل على قراءة [الحمد] وسورة وغيره ينتزع منه الجزئيّة ، وكذلك إذا قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) ينتزع منه سببيّة العقد للتمليك (٣) والتملّك.

والظاهر أنّ من الواضحات إنّه لا تنال يد الجعل لهذه الامور إلّا تبعا ، والمخالف مكابر جدّا ، وإن كان في تصويرها (دخلها) وارتباطها بالماهيّة ترتّب ، فإنّ الجزء مقدّم على الشرط فإنّه من مقوّمات الذات ، والتقييد والقيد كلاهما

__________________

(١) وإن كان نفسها قابلا للجعل ؛ لأنّهما من الامور الاعتباريّة ، كما قرّر في الاصول ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٢) المائدة (٥) : ١.

(٣) وكذلك مقدميّة المقدّمة ، فإنّها ليست قابلة للجعل وبوجوب ذي المقدّمة تجب هي قهرا ، مع أنّها لها وجود على حدة في حيال وجود ذي المقدّمة ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».


داخلان فيه ، بخلاف الشرط فإنّه متأخّر ، ولذا قد يقال : إذا تعارض في الوجود بين إحرازهما يقدّم الأوّل ، فتأمّل!

ومن البديهة أنّ ذلك لا يكشف عن مجعوليّتها أصالة ، وقد كتبت في بحث الاصول من البرهان زيادة عمّا علّقت ونقلت هاهنا.

الثاني : قد نقلنا عنه ـ دام ظلّه ـ سابقا عدم إمكان جعل عدم شي‌ء مانعا لشي‌ء بعد جعل وجوده شرطا للزوم اللغويّة ، ونقول تأكيدا للأمر : إنّ هذا محال ملاكا وخطابا وأثرا ، لأنّه لا بدّ أن يعلم أنّ عدم المعلول إمّا أن يكون لعدم المقتضي أو يكون لوجود المانع ، ومن الواضح أنّه إذا لم يكن المقتضي موجودا ، ولو كان المانع موجودا ينسب عدم المعلول إلى عدم المقتضي ، لا إلى وجود المانع ، فإنّه لا أثر له مع عدمه ، ولا يكون له دخل في عدم المعلول أصلا ، والشرط إنّما يكون من أجزاء المقتضي ، فبانعدامه ينعدم ، فإذا جعل عدمه مانعا فلا يقال في هذه الصورة : انعدام المعلول إنّما يكون من جهة وجود المانع ، بل يكون من جهة عدم الشرط الموجب لعدم المقتضي. وبذلك ظهر النظر في جملة من كلمات صاحب «الجواهر» في المقام وغيره (١) ، فتأمّل!

وبالجملة ؛ من تأمّل في معنى المانع يظهر له بداهة ما بيّنا ، فإنّ المانع هو الّذي يمنع عن تأثير المقتضي وترشّحه ماله أن يترشّح ، فلمّا لم يوجد المقتضي من جهة عدم شرطه فاستثناء عدم الأثر إليه ـ أي إلى المانع ـ يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

برهان آخر : لا إشكال أنّه إذا كانت العلّة مركّبة من امور تدريجيّة فيكون

__________________

(١) جواهر الكلام : ٨ / ٨٧ ـ ٩٣.


بين أجزاء العلّة الترتّب قهرا ، ولذا يقال : إنّ الجزء الأخير هو العلّة التامّة ، أي هو ما به يتمّ تماميّة العلّة ويوجد أثرها ، ومن المعلوم أنّ أجزاء العلّة المقتضي مقدّم على شروطها ، وكذا الشروط مقدّم على المانع.

لا يقال : إنّه ليس بين المعلول والعلّة إلّا تخلّل «فاء» واحد ، وما ذكرت يقتضي أن يكون بينها وبين العلّة إذا كانت مركّبة تخلّل فاءات وتأخّرات ، وهذا خلاف التحقيق.

لأنّا نقول : عدم تأخّر رتبة المعلول عن العلّة إلّا بمرتبة واحدة لا ينافي الترتّب بين أجزاء العلّة إذا كانت مركّبة من امور تدريجيّة ، فإنّ من البديهة أنّه إذا كان السلّم ـ مثلا ـ علّة للذهاب على السطح لا يتخلّل بين الكون عليه والسلّم إلّا فاء واحد ، مع أنّ بين درجات السلّم ترتيب ، والطفرة محال ، والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه من كون الجزء الأخير هو العلّة.

والحاصل ؛ أنّ الترتيب بين المعدّات إنّما هو من الواضحات ، فقد تبيّن بذلك محاليّة جعل الضدّ مانعا ملاكا ، كما أنّ بذلك بيّنوا عدم كون الضدّ مقدّمة وعلّة للآخر ، فإنّهما إنّما يكونان معلولا للعلّة الثالثة ، والضدّ وعدمه إنّما يكونان في رتبة واحدة ، مع أنّ المقدّمة والعلّة مقدّمة على المعلول رتبة ، ومنشأ التوهّم أنّه لمّا لا يجتمع الشي‌ء مع ضدّه في الوجود ، ويكون وجود كلّ واحد منهما مساوقا لعدم الآخر توهّمت المقدّمية ، وإلّا لو كان كما توهّم يلزم الدور كما هو واضح ، وأمّا عدم جواز الجعل خطابا ، للزوم اللغويّة ، وأمّا أثرا ، لكونه تحصيلا للحاصل.

الأمر الثالث : الّذي يستظهر من جملة من الأخبار كون غير مأكول اللحم


مانعا لا كون المأكول شرطا ، فإنّ طائفة منها تدلّ على حرمة لبسها في الصلاة (١) ومعلوم أنّ الحرمة فيها تشريعيّة (٢) ، فهو صريح في المانعيّة.

ومنها ؛ لسانها عدم جواز اللبس في الصلاة (٣) ، والجواز هو المجاوزة والتعدّي ، فالمراد بها هو أنّ لبسها في الصلاة مانع عن الخروج عن عهدة التكليف.

ومنها ؛ لسانها النهي عن لبسها في الصلاة (٤) مثل : «لا تصلّ فيها» وغيره (٥) ، ولا ريب أنّ النهي هاهنا غيريّ ، والمراد بالطلب الغيري هو أنّ في المطلوب مدخليّة في تحقّق المأمور به ، فيصير مفاد النهي الغيري هو أنّ المنهيّ عنه ـ أي ما طلب عدمه في المأمور به ـ مانع عن انتقال المأمور به ، ومن الواضح أنّ النهي الغيري لا يدلّ إلّا على المانعيّة ، وكذلك غيره ممّا عرفت.

إنّما الّذي يمكن أن يستفاد منه الشرطيّة من الأخبار ـ كما قد تمسّك به بعضهم (٦) ـ هو رواية عليّ بن [أبي] حمزة (٧) وذيل موثّقة ابن بكير (٨) ، ولكن لا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) لأنّ الحرمة الذاتيّة في العبادات لفقدان شرط منها غير ثابت ، بل غايته اللغوية إلّا في باب الصلاة بدون الطهارة ، على ما يظهر من رواية. «منه رحمه‌الله».

(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٣ ، الحديث ٥٣٦٧ و ٥٣٦٨.

(٤) كأنّ هذه الجملة هي عين الاولى ؛ لأنّ الحرمة إنّما هي مستفادة من هذه الأخبار ، فالجملة الاخرى هي ما عبّر فيها بلفظ الفساد ، فهي أيضا صريح في كون المأمور به لاقترانه بالمانع فقد فسد ، وإرجاعها إلى الشرط محتاج إلى الخروج عن ظاهر اللفظ ، كما هو واضح ، «منه رحمه‌الله».

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٥٤ الحديث ٥٣٧١.

(٦) مستند الشيعة : ٤ / ٣٢٩.

(٧) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٨ الحديث ٥٣٥٤.

(٨) الكافي : ٣ / ٣٩٧ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٢٢ الحديث ٨١٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


يخفى أنّ الاولى إنّما تصير دليلا إذا أرجعنا قوله عليه‌السلام : «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» (١) إلى الجزء الأوّل من الرواية ، وجعلنا قوله عليه‌السلام : «بلى» مع سؤال الراوي (أليس التذكية بالحديد؟) (٢) جملة معترضة ، ويصير من قبيل ما لم يتمّ كلام الإمام عليه‌السلام ، قد استعجل الراوي في السؤال بسؤال آخر ، ثمّ أجابه عليه‌السلام فرجع عليه‌السلام بعد ذلك إلى تتميم جواب السؤال الأوّل ، وكلّ ذلك خلاف الظاهر ، فليس قابلا لصرف ظهور الروايات الاولى ، فلا بدّ أن يرجع القيد إلى الجزء الأخير من الرواية ، أي يجعل القابليّة من قيود التذكية ، كما يقتضيه ظاهر الكلام والقاعدة اللفظيّة ، فيصير معارضا لما يدلّ على عدم اشتراط القابليّة في التذكية ، كما هو الحقّ ، ودلّ الدليل على قابليّة تذكية كلّ حيوان ما عدا الحشرات ونجس العين ، فيطرح ذيل هذه الرواية ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ إن لم يقبل التأويل ، وشرح الكلام في محلّه ، وكيف كان ليست الرواية دليلا لما ذكروا.

وأمّا الثاني ؛ وهو ذيل الموثّقة (٣) ، فهو إمّا أن يكون تأكيدا للصدر أو تأسيسا ، فإن جعلناه تأكيدا فيمكن أن يكون الصدر قرينة على الذيل أو بالعكس ، كلاهما محتمل فلا يتمّ الدليليّة ، وإن جعلناه تأسيسا ـ كما هو أولى ـ فالظاهر كونه مسوقا لبيان حكم الناسي إذا صلّى فيه ، كما يشهد به قوله عليه‌السلام : «تلك» فإنّ الظاهر كونها إشارة إلى ما هو واقع في الخارج نسيانا ، فيقول عليه‌السلام : «لا يقبل الصلاة» (٤) الّتي وقعت في الخارج وإلّا فأصل الحكم معلوم مبيّن من صدر الرواية ، فعلى هذا غير مرتبط بالشرطيّة ، ويصير دليلا للمشهور حيث أفتوا

__________________

(١) مرّ آنفا ، وهي موثّقة ابن بكير.

(٢) مرّ آنفا ، وهي رواية علي بن أبي حمزة.

(٣) مرّ آنفا وهي موثّقة ابن بكير.

(٤) مرّ آنفا وهي موثّقة ابن بكير.


بأنّ من صلّى ناسيا في ما لا يؤكل فعليه الإعادة (١) ، مع أنّ إطلاق صحيحة «لا تعاد» (٢) يقتضي عدم الإعادة ، ولذلك توهّم كونه فتوى بلا مدرك ، فلعلّ نظرهم واستفادتهم يكون من هذا الذيل ، وإن كانت النسبة بينها وبين الصحيحة عموما من وجه ، لأنّ الذيل يقتضي الإعادة ناسيا أو جاهلا ، والصحيحة تدلّ على عدم إعادة الناسي بناء على اختصاص دلالتها به ، وأعمّ من الذيل من جهة دلالتها على غير ما لا يؤكل من الموانع إلّا أنّه يجب تقديم الذيل عليها ، لأنّ رواية ابن الحجّاج (٣) تدلّ على عدم لزوم إعادة الجاهل ، فإنّه لمّا يسأل من الإمام عليه‌السلام عن الصلاة جاهلا في فضلات ما لا يؤكل ، فيقول عليه‌السلام بعدم وجوب الإعادة ، مع أنّها نجسة ، فتدلّ على أجزائها الطاهرة بالأولويّة القطعيّة ، فعلى ذلك يختصّ الذيل بالناسي فتنقلب النسبة فيخصّص الذيل صحيحة زرارة (٤) مع أنّه لو قدّمت لا يبقى للذيل مورد.

والحاصل ؛ أنّ الذيل دليل لما أفتى به المشهور ، ولا ربط له بالمقام ، ومع التسليم إنّ الصدر والذيل متعارضان ، فيصير المرجع الروايات الدالّة على المانعيّة ، كما أشرنا إليها ، فلا تغفل.

اعلم! أنّ الشرطيّة ملازمة لأحد الامور الثلاثة : إمّا القول بلزوم كون لباس المصلّي من الحيوان المأكول ، فلا يجوز في القطن وغيره ، وإمّا القول بكون

__________________

(١) جواهر الكلام : ٨ / ٧٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٣٤ الحديث ٩٢٠٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٥ الحديث ٤٢١٨ ، وفيه : «عبد الرحمن بن أبي عبد الله» بدلا عن : «ابن الحجّاج».

(٤) مرّ مرارا ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


الاشتراط بالنسبة إلى غير الحيوان من السالبة بانتفاء الموضوع ، وإمّا جعل الشرط أحد الامور المأكوليّة أو القطن أو الكتّان.

أمّا الأوّل ، فهو خلاف الإجماع والضرورة.

وأمّا الثالث ؛ فلم يثبت من الأدلّة هكذا ، بل اشترط الساتر للمصلّي ، ثمّ جعل غير المأكول مانعا كما هو ظاهر الأدلّة.

وأمّا الثاني ؛ فهو خلاف الأصل مع أنّها في المقام قريب من الاستهجان ، فإنّه إذا قيل : يشترط في لباس الرجل إذا كان مصلّيا أن لا يكون من الحرير (١) إنّما لوحظت الشرطيّة فيه بالنسبة إلى المرأة إذا كانت مصلّية لا إلى حالها ما لم تقرأ الصلاة (٢).

مع أنّ مفاد الشرطيّة إنّما يكون التقييد ، والتقييد إنّما يتصوّر حيث [كان] الإطلاق جائزا ، ومن المعلوم أنّه بعد ما ثبت جواز الصلاة في غير الجلد من الحيوان ـ مثل القطن ـ فالإطلاق غير جار (٣).

مع أنّ لازم الشرطيّة إنّما هو الخصوصيّة الوجوديّة بخلاف المانعيّة ، وقد علمت أنّه لا خصوصيّة في اللباس كونه من الحيوان أصلا.

وبالجملة ؛ من تأمّل يرى أنّ محذورات الشرطيّة كثيرة مع أنّ الدليل لا يساعدها ، ومع التسليم فدلالة ذيل الموثّقة (٤) ليست تامّة ، لأنّ الظاهر من لفظ

__________________

(١) فإنّه يكون في قباله صنف يجوز صلاته فيه ، «منه رحمه‌الله».

(٢) ولازم الشرطيّة في المقام صيرورته نظير الآخر ، فلا بدّ أن يقال : لوحظت الشرطيّة بالنسبة إلى الصلاة في الحيوان ، ومقابله حال قراءة الصلاة في القطن وشبهه ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٣) لأنّه لا يقال : يشترط في اللباس من المصلّي الجلد ، سواء كان من المأكول أو غيره ، «منه رحمه‌الله».

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤ ، مرّت الإشارة إلى مصادرها مرارا.


«من» في قوله عليه‌السلام : «ممّا أحلّ الله أكله» هو البيانيّة لا تقييديّة ، فإذا صارت بيانيّة فتكون في مقام بيان لفظ الغير الواقع قبلها ، فلا يستفاد منها الشرطيّة.

تذنيب : بعض من منع الصلاة في المشكوك نظرا إلى إحرازه الشرطيّة من الأدلّة أرجع الروايات الدالّة على الفساد وفي غير المأكول وحرمة الصلاة فيه وغيرها ، الّتي استفدنا منها المانعيّة ، إلى الشرطيّة وساقها مساق الذيل [من] الموثّقة ببيان أنّ المراد منها عدم الحليّة وانتفاعها الّتي يجب إحرازها ، لا أن يكون المراد ظواهر هذه الألفاظ ، ولكن ما عرفنا وجه هذا الالتزام ، فإنّه إخراج اللفظ عن ظاهره بلا دليل ، وتكلّف بلا موجب.

نعم ؛ توهّم ذلك بالنسبة إلى الحلّ والإباحة بزعم أنّهما أمران عدميّان ، فإنّهما عبارتان عن عدم الوجوب أو الحرام ، ولكن تبيّن في محلّه أنّ الزعم فاسد بالنسبة إليهما. أيضا ، فإنّهما أمران وجوديّان يعبّر عنهما بإرخاء العنان وتحويل الأمر إلى الطرف ، وجعله باختيار من بيده العنان والأمر ، ومن البديهة أنّ مثل هذا التوهّم لم يجر في مثل الحرام والفاسد.

الأمر الرابع : استدلّ جملة من المجوّزين باستعمال المشكوك في الصلاة بدلالة الألفاظ على المعاني المعلومة ، وقد بيّنوا مرادهم باحتمالات خمسة :

أحدها : وضع الألفاظ للمعاني المعلومة.

ثانيها : انصرافها في مقام التكليف إليها.

ثالثها : كون المانع من امتثال أوامر العبادة بتنجّز النهي عن العبادة إذا فقد الشرط ، ومن المعلوم أنّه إذا كان الموضوع مشكوكا لا يتنجّز النهي ، ولعلّ إلى ذلك يرجع ما قرّره ـ دام ظلّه ـ في الأمر الآتي في مقام تأسيس الأصل.


الرابع : تنزيلها بصورة العلم من جهة قبح تكليف الجاهل.

خامسها : دعوى صراحة خصوص الأخبار (١) في ذلك.

الثلاثة الاولى بعيدة عنهم ، فالمهمّ بيان الاحتمالين الأخيرين نقلا عن الفاضل النراقي والمحقّق القمّي قدس‌سرهما.

الأوّل : أنّه لمّا تعلّقت التكاليف بمفاهيم الألفاظ الّتي منها لفظ غير المأكول ، فلا بدّ أن يحمل على المعلوم منه ؛ لأنّ التكليف بالمجهول قبيح ، ولذلك اخذ في جملة الشرائط العامّة العلم (٢).

وجوابه : أنّ التكليف بالمجهول قبيح إن كان مجهولا (٣) رأسا بحيث لا يمكن امتثاله ، أو امتثاله يوجب العسر والحرج ، مثل أن يقال : جئني بشي‌ء واريد شي‌ء معيّن ، وأمّا إذا لم يصل بهذا الحدّ ، بل كان يمكن امتثاله بطريق الاحتياط أو الفحص فلا يلزم محذور.

مع أنّ كليّة التكاليف قد تعلّقت بالعباد في حال جهلهم وإلّا لم يكن واجبا الفحص والتحصيل.

وأمّا حديث أخذ العلم (٤) في جملة الشرائط العامّة إنّما هو في مقام التنجّز والعقاب على فرض التسليم.

الثاني : استفادة المانعيّة في المعلوم مطلقا من الأخبار ، مثل : رواية عبد الرحمن بن الحجّاج يسأل عن الإمام عليه‌السلام أن يقرأ صلاته في عذرة الإنسان

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٤ / ٤٥٥ الباب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي.

(٢) مستند الشيعة : ٤ / ٣١٦.

(٣) وهو ما يرجع إلى عدم القدرة «منه رحمه‌الله».

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الحديث ٥٣٤٤.


والكلب وهو لا يعلم ، فيقول عليه‌السلام : «صلاته صحيحة» (١) فيستفاد منه ـ وغير ذلك من الأخبار الّتي عمدتها هذا ـ أنّ الصلاة في غير المأكول لا تجوز إذا كان معلوما (٢) ، وبعبارة اخرى : مانعيّة هذه الامور مشروطة بصورة العلم.

وفيه : أنّ الرواية إنّما تكون في مقام بيان الإجزاء ، بمعنى أنّ من دخل في صلاته وهو جاهل بوجود المانع معها ، ثمّ تبيّن بعد الصلاة وجود المانع ، فلا يجب عليه الإعادة ، ولم يظهر منه أنّ من هو من أوّل الأمر شاكّ بوجود المانع ، فدخل في العمل أن يكون دخوله جائزا حتّى يصير عمله صحيحا.

والحاصل ؛ أنّه قد يدّعى كون الرواية في مقام بيان أنّ أجزاء غير المأكول مانعة عن الصلاة إذا كانت معلومة وإلّا فلا ، فقد سيقت لبيان الضابطة والحكم الكلّي ، وهذا احتمال أنّى لهم بإثباته وتعيينه ، مضافا إلى أنّ ما ذكرنا من كونه مسوقا لبيان الإجزاء ، بمعنى إتيان الفعل بداعي امتثال الواقع فتبيّن خلافه ، فيحكم عليه‌السلام بإجزائه عن الواقع ، هو الظاهر من الرواية ، فلا ربط له بالمقام.

هذه عمدة الروايات الّتي استدلّوا لإثبات دعواهم ، فقد عرفت حالها ، والباقي أسوأ حالا من تلك الرواية ، فراجع!

والاحتمالات الاخر لإثبات مدّعاهم ـ من كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة أو كون المراد منها في مقام تنجّز التكاليف المعلومة منها ـ واضحة الفساد غنيّة عن البيان ، فلا ينبغي التمسّك بمثل هذه الموضوعات لجواز

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٤٠٦ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٥ الحديث ٤٢١٨ ، وفيه : عبد الرحمن بن أبي عبد الله بدلا عن : عبد الرحمن بن الحجّاج.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٥ الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي.


استعمال المشكوك ، فالحريّ الاستفادة ممّا سنؤسّس من الأصل.

الأمر الخامس : في تأسيس الأصل في المسألة ، ولا بدّ من التكلّم فيه في مقامات :

الأوّل : في كونها مجرى للبراءة أو الاشتغال ، وجريان البراءة فيها موقوف بأمرين : أحدهما : جريان البراءة في الارتباطيّات ، وقد تبيّن في محلّه جريانها فيها ، لأنّ كلّ واحد من الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط يكون بمنزلة الأحكام المستقلّة ، وفرض الارتباط كالعدم.

ثانيهما : انحلال كلّ من الأحكام الكليّة إلى التكاليف الجزئيّة باعتبار كلّ واحد من مصاديقها ، مثل : لا تشرب الخمر ، ففي المقام أصالتها أو انتزاعيّتها وتبعيّتها لا تثمر شيئا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ فإن ثبت كون لسان الأمارات على الوجه الرابع ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب ، إنّما الكلام فيما لو لم يثبت ، وكان على أحد الأنحاء الثلاثة.

فقد يقال في وجه تقديمها : وسرّه هو أنّه لا إشكال في أنّ النسبة بين أدلّة الأمارات والاستصحاب العموم من وجه ، والسبب في الحكم بالتعارض في العامّين من وجه ، وعدم تقديم أحدهما على الآخر وترجيحه ، هو أنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ، لأنّ كلّا يقتضي العمل بظاهره ، فلا بدّ إمّا من الحكم بالتساقط أو الرجوع إلى المرجّح الخارجي مع وجوده.

وقد ذكروا من جملة الشرائط في الحكم بالتعارض بينهما هو أن لا يلزم من ترجيح أحدهما إلغاء الآخر رأسا ، وإلّا فيرجّح هذا لعدم لزوم الترجيح بلا


مرجّح ، وعدم تحيّر العرف في ذلك وحكمه بتقديمه ؛ لأنّه يصير بمنزلة العامّ الآبي عن التخصيص ، فيوجب كونه نصّا في مدلوله والآخر ظاهر ، فيخصّص بهذا.

ففي المقام لو خصّص الخبر الواحد أو اليد بالاستصحاب لزم لغويّة هذه الأمارات وعدم بقاء المورد لها ، مع فرض ثبوت عدم الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول بالإجماع ، فإذا قام الخبر أو اليد ـ مثلا ـ على نجاسة شي‌ء ، فإن كان مسبوقا بالطهارة فيجب العمل بالحالة السابقة وطرح الخبر أو اليد ، وإن لم يكن له حالة سابقة فيجب الرجوع إلى سائر الاصول ، من أصالة الطهارة وغيرها ، فيلزم التخصيص المستوعب ، فلا بدّ من ترجيح الأمارة عليه وتخصيص الاستصحاب بها ، حتّى لا يلزم هذا المحذور ، والمحذور الآخر فقد عرفت أنّه مرتفع بحكم العرف.

والقاعدة المذكورة لا تختصّ بالمقام بل نظائرها كثيرة ؛ منها : التعارض بين مفهوم قاعدة طهارة الماء إذا بلغ قدر كرّ ، ومنطوق الدليل الدالّ على طهارة الجاري ، وغير ذلك من الموارد.

هذا ؛ ولكن تسجيل هذا الوجه مبتن على أن نقول : مع اختصاص الشبهات في الأموال والشبهات المشوبة بالعلم الإجمالي بمدلول الأمارات ، وعدم مجرى للاصول فيها ، وكذلك إذا كان مجراهما (١) متوافقين وترجيح الاصول عليها يوجب التخصيص المستهجن ولغويّة أدلّة الأمارات أيضا بعد ذلك كلّه ، مع أنّ موارد الشبهات المذكورة كثيرة.

إلى هنا كنّا في مقام تصوير الوجوه والاحتمالات الآتية في لسان الأمارات ، ونقل الأقوال في المسألة ، فالآن نرجع إلى بيان ما هو الحقّ.

__________________

(١) فإنّ هاهنا أيضا عمل بالأمارة «منه رحمه‌الله».


فأقول : ملخّص ما استفدت عن الاستاد ـ دام ظلّه ـ أنّه قال : مع الغضّ عمّا يرد على القول بورود الأمارات على الاستصحاب من العدول أوّلا عمّا هو ظاهر من معنى الشكّ الواقع في حديث الاستصحاب (١) ، وإخراجه إلى غيره من جعل الحكم أعمّ من الظاهري والواقعي ، مع أنّ ذلك خلاف ما تسالموا عليه ، لأنّهم بنوا أنّ الشكّ متعلّق بما تعلّق به لفظ اليقين الواقع في صدر الحديث حتّى لا يختلف متعلّقهما كما يقتضيه ظاهر القضيّة الاستصحابيّة ، وكذلك إخراج اليقين عن المعنى الظاهر فيه ثانيا ، لأنّ استناد النقض به يقتضي كونه بنفسه سببا وموجبا له لا أن يكون شرطا لتحقّق ما هو ناقض حقيقة ، وكيف ، لو كان متعلّق اليقين الحكم الظاهر ـ الّذي هو مفاد الأمارات الظنيّة ـ يكون النقض مستندا إليها ؛ لأنّها توجب التنجيز ، واليقين بها يصير شرطا لتحقّق المنجّز ، بخلاف ما لو كان العلم طريقا إلى الواقع ، فعند ذلك لمّا لم يكن منجّز غيره استند النقض إلى نفس اليقين ، فإنّه على هذا يصير العلم بمنزلة الأمارات الّتي هي كاشفة عن الواقع ، وتحقيق ذلك في بيان جعل الطرق.

والحاصل ؛ أنّه لمّا كان ظاهر كلّ عنوان اخذ في موضوع يقتضي كونه بنفسه دخيلا في ثبوت الحكم ومؤثّرا له ، فالقاعدة حاكمة بكون المراد من اليقين هو الكاشف عن الواقع والدالّ عليه ، لما عرفت ، كما كان هذا مدلول لفظ اليقين الواقع في صدر الحديث ، فالسياق أيضا مساعد لما ذكر.

فمع تسليم ذلك كلّه فنقول : قد عرفت أنّ مبنى كلام القائل بكون أدلّة حجيّة الخبر ـ مثلا ـ واردا على الاستصحاب هو التصرّف في لفظ الشكّ واليقين ، ولكن لا يفيده ذلك ؛ لأنّ لسان أدلّة اعتبار الأمارات إن كان من قبيل الرابع ، وهو

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.


سلب الشكّ وجعل الشاكّ بمنزلة المتيقّن ، فمن البديهة أنّ دليل الاستصحاب الدالّ على عدم نقض اليقين بالشكّ الأعمّ من الواقعي والظاهريّ ، أنّ هذا الدليل لا يشمل نفسه.

بمعنى أنّه يدلّ على الحكم وهو عدم النقض بسبب الشكّ من غير ناحية هذا الدليل ، لأنّه لا يكون حكم حافظا لموضوع نفسه ، بل لا يعقل ذلك ، فإذا كان لسان الدليل للأمارة هو نفي الشكّ فلا يجوز التمسّك بدليل الاستصحاب لإثبات الحكم الظاهري حتّى يقال : إنّ السالبة الكليّة تنتقض بالموجبة الجزئيّة ، والمفروض أنّ لسان دليل الخبر أيضا لا يثبت حكما ، وإنّما لسانه نفي الشكّ ، مع أنّ الشكّ بالوجدان مع قيام الخبر على خلاف الحكم الثابت بالاستصحاب باق ، وليس من رأسه مرفوعا ، فالموضوع باق وما تغيّر عمّا كان عليه ، نعم الحكم الثابت بالاستصحاب مرفوع ، وهذا إنّما كان مناطا للحكومة لا الورود ، ومناط الورود إنّما كان تعليق جريان أحد الدليلين على عدم الآخر الّذي كان قد يعبّر عنه بتبدّل الموضوع وتغييره ، فعلى تقدير كون لسان دليل الخبر هو المعنى الرابع لا يكون مجال للورود ، بل حاكم بكونه ناظرا وشارحا كما عرفت من نفيه الحكم بلسان نفي الموضوع.

نعم ؛ إن كان لسان أدلّة حجيّة الأخبار هو المعاني الثلاثة الاولى ، فلا يبعد الورود ؛ لأنّها بنفسها تثبت حكما ظاهريّا ، فانتقاض السلب الكلّي المستفاد من الشكّ إنّما يكون من غير ناحية الاستصحاب ودليله ، فالموضوع ينقلب ويتغيّر ، فيحقّق مناط الورود ، ولكن أنّى لهم بإثبات كون لسان الأدلّة والأمارات هكذا ، لا من الوجه الرابع (١).

__________________

(١) إلى هنا تمّت الرسالة.


بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ وفّقني

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

الصلوات المشروعة فيها الجماعة

المقصد السادس : في الجماعة ، وفيه أبحاث.

الأوّل : في ما شرّع فيه الجماعة : لا إشكال في مشروعيّتها في الفرائض اليوميّة واستحبابها مؤكّدا فيها ، خصوصا في الصبح والمغرب منها. وإنّما البحث في موارد.

الأوّل : المنذورة من الصلوات المندوبة ، والأقوى فيها عدم المشروعيّة ؛ لظهور أدلّة الفريضة في الأصليّة منها ، حيث إنّ الّذي يدلّ على المشروعيّة فيها مطلقا ليس إلّا صحيح زرارة والفضيل : قلنا له : الصلاة في جماعة فريضة هي؟

فقال : «الصلوات فريضة ، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها ، ولكنّها سنّة» (١) .. إلى آخره.

وهو أمره دائر بين أن يكون المراد من المنفيّ العموم المجموعي أو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٨٥ الحديث ١٠٦٧٦.


الانحلالي في مقابل الفريضة الّتي يجب فيها الجماعة ، كالعيدين ، فحينئذ قوله : «ولكنّها سنّة» يكون تابعا له ، ولمّا كان الظاهر منه هو الاحتمال الثاني لكونه في مقام رفع توهّم السائل من كون الجماعة فرضا في كلّ فريضة فالإمام عليه‌السلام قال : ليس كذلك.

فيستفاد من إطلاق الجواب في مورد المسئول عنه الّذي هو الفريضة أنّها سنّة فيها سوى ما استثني منها ، وثبت وجوبها فيها من الفرائض.

وكيف كان ؛ لا إشكال في أنّ هذا الإطلاق لا يشمل الفرض بالمعارض ، فلا دليل حينئذ على مشروعيّتها في المنذورة سوى ما في عبارة «الذكرى» من دعواه الإجماع (١).

ولكنّه يتوقّف على أن يكون مراده من قوله : «عندنا» هو الإجماع المصطلح ، ولمّا لم يثبت ؛ لمكان أنّ عادته وغيره من أساطين المتأخّرين في المسائل الإجماعيّة التعبير ب «عند علمائنا أجمع» ونحوه ، وهو الّذي لو وقع في كلماتهم قدس‌سرهم لا ريب في ثبوت الإجماع به ، وأمّا لفظ «عندنا» فإنّما يعبّرون عنه فيما كان الأمر متسالما ولم يبلغ إلى حدّ الإجماع ، فحينئذ الإجماع في المسألة أيضا لا يتمّ ، فبقي تحت الأصل.

لا يقال : كيف وأنتم في أكثر المقامات ألحقتم المنذورة بالفريضة الأصليّة ، فما الفرق بينها و [بين] مسألة الجماعة؟

لأنّا نقول : أمّا في مثل ما أسقط فيه الشروط كالقيام والاستقرار والاستقبال وهكذا مسألة الشكّ ؛ فلمّا كان استفدنا من مناسبة الحكم والموضوع كون تلك

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٧٤.


الأحكام تسهيلا للندب فيدور الحكم مدار الوصف ، فلذلك بنينا على أنّه عند زواله فيرتفع ، بخلاف المقام لعدم مناسبة في البين تقتضي ذلك.

وبالجملة ؛ فمقتضى أصالة عدم المشروعيّة عدم الإتيان بالمنذورة جماعة.

الثاني : صلاة الطواف ، والأقوى فيها المشروعيّة ، وذلك لشمول الإطلاق لها على التقريب المذكور.

وأمّا الّذي صار منشأ لتشكيك بعض فيها من جهة عدم النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإتيانها جماعة في حجّة الوداع ، مع أنّ جميع أفعالها فيها منقولة ، بل المنقول أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الطواف توجّه إلى مقام إبراهيم عليه‌السلام وقرأ الآية وصلّى ركعتين (١).

ففيه : مع أنّه كما لم ينقل إتيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها جماعة كذلك لم ينقل فرادى ، ومع تسليمه ، لعلّه لم يمكن الاجتماع من ضيق المكان أو عدم التوافق عند إتمام الطواف بين فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الناس ، [مع] أنّ عدم النقل لا يصير دليلا على عدم المشروعيّة ، بحيث يعارض الإطلاق ، كما لا يخفى.

الثالث : النوافل ، أما نوافل شهر رمضان ، فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم مشروعيّتها فيها ، لتظافر الأخبار بها مثل ما ورد من أمر أمير المؤمنين الحسن عليهما‌السلام بالنداء في الناس أنّه لا جماعة في نوافل رمضان (٢).

وبهذا المضمون وغيره الدالّ على عدم مشروعيّة الجماعة فيها ؛ الأخبار

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٩ / ٣٠٠ و ٣٠١.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦ الحديث ١٠٠٦٣.


مستفيضة (١) مضافا إلى صحّة كلّ منها.

وإنّما الإشكال في غيرها من النوافل ، والأقوى فيها أيضا عدم المشروعيّة سوى ما استثني منها ، وذلك لما ادّعى من الإجماع في «المنتهى» قال : إنّ عدم جواز الجماعة في النوافل عدا صلاة الاستسقاء والعيدين هو مذهب علمائنا أجمع ، واستدلّ عليه بما في صحيحة الفضلاء : زرارة ومحمّد بن مسلم والفضيل عن الصادق عليه‌السلام (٢).

ولكن لا يخفى ما في استدلاله ، ولما روى إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام ؛ وسماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ هذه الصلاة نافلة ولن يجتمع للنافلة» (٣).

وإبراهيم بن هاشم (٤) ، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال للحسن عليه‌السلام : «وأعلمهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة» (٥).

وعن «الخصال» في حديث شرائع الدين : «ولا يصلّى التطوّع في جماعة قال : «ذلك بدعة» (٦).

وعن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون : «لا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة ، فإنّ ذلك بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة» (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥ الباب ١٠ من أبواب نافلة شهر رمضان.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥ الحديث ١٠٠٦٢ ، منتهى المطلب : ١ / ٣٦٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٢ الحديث ١٠٠٤٠.

(٤) في المصدر : إبراهيم بن عثمان.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٦ الحديث ١٠٠٦٥.

(٦) الخصال : ٦٠٦ الحديث ٩ ، وفيه : «لأنّ ذلك بدلا من : قال : ذلك».

(٧) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٣٥ الحديث ٨٣٠.


وعن محمّد بن سليمان قال : إنّ عدّة من أصحابنا أجمعوا على هذا الحديث ، منهم يونس بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وصباح الحذّاء ، عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن عليه‌السلام.

وسماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن هذا الحديث وأخبرني به ـ ومتن الرواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إنّ هذه الصلاة نافلة ولن يجتمع للنافلة» .. إلى أن قال : «واعلموا أنّه لا جماعة في نافلة» (١) وغير ذلك من الأخبار (٢).

فحينئذ ؛ لا يبقى شكّ (٣) في عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة ، مضافا إلى أنّ الأصل يكفي فيها مع عدم إطلاق في البين ظاهرا ، والله العالم.

الرابع : صلاة الغدير ؛ فقد قيل بخروجها عن الحكم الكلّي المزبور ، بل لا يبعد دعوى الشهرة فيها ، كما عن الأردبيلي (٤) ، بل عن «إيضاح النافع» أنّ عمل الشيعة عليه (٥) ، والأصل في ذلك لا يبعد أن يكون المرسل الّذي نقله في «التذكرة» عن أبي الصلاح (٦).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٢ الحديث ١٠٠٤٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٥ الباب ١٠ من أبواب نافلة شهر رمضان.

(٣) والعجب من صاحب «المدارك» رحمه‌الله مع أنّ مذهبه في الأصول معلوم ، مال في هذه المسألة إلى الجواز (مدارك الأحكام : ٤ / ٣١٥) ، نظرا إلى ما يشعر به كلام «الذكرى» (ذكرى الشيعة : ٤ / ٣٨٣) من وجود القائل به ، وإلى الروايتين اللتين مضافا إلى ظهورهما في التقيّة ويشمله ثانيهما على ما هو خلاف المتسالم عندهم ، معرض عنهما ، فراجع ، «منه رحمه‌الله».

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ٣ / ٢٤٣.

(٥) لم نقف على هذا الكتاب.

(٦) الكافي في الفقه : ١٦٠ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٢٨٥.


ولكن لمّا لم تثبت المرسلة لنا ، فحينئذ لا يبقى لنا دليل سوى عمل المشهور وما ادّعي من مسألة التسامح في أدلّة السنن ، وكلاهما لا ينفع شيئا في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلما هو المسلّم من أنّ الشهرة في حدّ نفسها ليست دليلا ، وإنّما تصلح للجابريّة ، مع أنّه لم يثبت لنا مجبور.

وأمّا مرسل أبي الصلاح الّذي احتملنا كونه مدركا للمشهور ؛ فيمكن أن يكون ما هو المنقول عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير من صلاته بالناس ركعتين ، بعد أمرهم الاجتماع (١) ، مع أنّه يحتمل أن يكون هو صلاة الظهر الفريضة ، لا نافلة يوم الغدير ، بل هو الأقرب ، حيث إنّ اجتماع الناس إلى قبل الظهر بعد النداء من طرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع التفرقة الكثيرة الّتي كانت بينهم بعيد جدّا.

وأمّا الثاني : فلأنّ مورد قاعدة التسامح إنّما يكون إذا كان الشكّ في مشروعيّة العبادة فقط ، بحيث يحتمل عدم طلب الشارع له ، فحينئذ ببركة القاعدة يثبت الطلب والإحراز.

وأمّا فيما لم يكن كذلك ، بل يثبت مبغوضيّة الفعل وإحراز حاله ذاتا ، كما في المقام ، حيث دلّت الأخبار المتقدّمة على كون النافلة مطلقا بدعة وضلالة (٢) ، فالقاعدة لا تثمر ؛ إذ لا ترفع الحكم الأوّلي الثابت للذات ، بل تحتاج إلى دليل خاصّ يتكفّل ذلك ، فيصير بيانا للحكم الثانويّ لها ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى بعض النوافل ستأتي الإشارة إليها.

فعلى هذا ؛ الاحتياط قويّا ترك صلاة الغدير [جماعة] والله العالم.

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٦٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٣٣ الباب ٢٠ من أبواب صلاة الجماعة.


الجماعة في صلاة العيدين

الخامس : صلاة العيدين ، ففيهما أوّلا بحث من جهة كونهما فرضا طرأ عليهما النفل ، أو كونهما نوعان من جهة زمان الحضور وبسط يد المعصوم عليه‌السلام فيجب ، وبالنسبة إلى زمان الغيبة وعدم اجتماع الشرائط فيستحبّ.

فمن ذلك يظهر أنّ مشروعيّتهما في الجملة في عصر الغيبة ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما جماعة ، فإنّه نسب إلى بعض المنع عنه (١).

ولكنّ الأقوى ؛ مشروعيّته ، وذلك لأنّه مضافا إلى عدم ثبوت الخلاف لنا ممّن نسب إليه ، بل ثبت خلافه ، كما سيظهر لك أنّ ما ذكر دليلا للمنع عنها لا يصلح له ؛ إذ ليس هو إلّا جملة من الأخبار الّتي مضمونها أنّه أمر المعصوم عليه‌السلام أصحابه وقال لهم : صلّ وحدك (٢) ، وهذا يحتمل فيه وجهان : فإمّا [أن] يكون المراد من الوحدة في مقابل الجماعة المشروعة ، أي الصلاة مع المعصوم عليه‌السلام والإمام الحقّ ، وإمّا أن يكون المراد من الوحدة الفرادى.

والمعنى الثاني وإن كان أظهر ، إلّا أنّه لا محيص عن رفع اليد عنه وحملها على الأوّل ، لما ورد من الأخبار الّتي نصّت على مشروعيّتها جماعة وفرادى (٣) ، ولا يمكن حملها على الجماعة الّتي اجتمعت فيها شرائط الوجوب أي مع

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٣ / ١٩٦.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الباب ٣ من أبواب صلاة العيد.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٤ الباب ٣ ، من أبواب صلاة العيد.


الإمام عليه‌السلام ، لورودها في العصر الّذي لم يكن المعصوم عليه‌السلام فيه مبسوط اليد.

منها : ما رواه في «الإقبال» عن محمّد بن أبي قرّة ، بإسناده إلى الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن صلاة الأضحى والفطر فقال : «صلّهما ركعتين في جماعة وغير جماعة» (١).

ومنها : مرسل ابن مغيرة مضمونه كسابقه (٢).

وأمّا جعل موثّقة عمّار الّتي هي أنّه سئل : هل يؤمّ الرجل بأهله؟ فقال : «لا يؤمّ لهنّ ولا يخرجن» (٣).

وهكذا موثّق سماعة : «وإن صلّيت وحدك فلا بأس» (٤) معارضا ، فالإنصاف أنّهما لا يصلحان ، أمّا الثاني منهما فلما عرفت أنّ بهذا المضمون بل أظهر منها أخبار كثيرة (٥) ، ولا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها.

وأمّا الأوّل ؛ فلأنّه محمول على عدم وجوب صلاة العيدين على النساء ، حيث توهّم السائل أنّه إذا لم يجب عليهنّ في جماعة الرجال فهل يجب عليهنّ ذلك في بيوتهنّ؟ فأجاب عليه‌السلام بعدم وجوب كليهما عليهنّ ، فتأمّل!

هذا كلّه ؛ مضافا إلى أنّه يظهر من عبارات جماعة من الأساطين من المتقدّمين والمتأخّرين كون المسألة إجماعيّة ، منهم المفيد قدس‌سره ، والعجب أنّه الّذي نسب إليه المنع قال في «المقنعة» على ما حكي عنه : (وللفقهاء من شيعة آل

__________________

(١) إقبال الأعمال : ٢٨٥ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٥ الحديث ٩٧٥٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٦ الحديث ٩٧٥٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٧١ الحديث ٩٨٨٨ ، وفيه : لا يؤمّ بهنّ.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢٢ الحديث ٩٧٤٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٢١ الباب ٢ من أبواب صلاة العيد.


محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس وصلوات الأعياد والاستسقاء والخسوف والكسوف) (١).

ومنهم ابن إدريس ، فعن «السرائر» : أنّ إجماع أصحابنا وهو قولهم بأجمعهم : يستحبّ في زمان الغيبة لفقهاء الشيعة أن يجمعوا بهم صلوات الأعياد (٢).

ومنهم الراوندي ، فعنه أنّه بعد نقل إنكار الجماعة في صلاة العيدين عن بعض قال : الإماميّة يصلّون هاتين الصلاتين جماعة ، وعملهم حجّة (٣).

ثمّ إنّ هنا فروعا اخر من حيث اعتبار المجانسة بين صلاة المأموم والإمام قضاء وأداء وفرضا ونفلا في ما يجوز فيه من النوافل كالعيدين مع صلاة الخسوف والكسوف وغير ذلك من الجهات أشار إليها ـ دام ظلّه ـ ولم يعتبرها إلّا فيما كان توافقهما اتّفاقيّا ، كالاستسقاء وأحد العيدين ، حيث إنّه نادر جدّا أن يجتمع أسبابهما فيشكل شمول الإطلاقات لها ، فتدبّر! والله العالم.

ما يدرك به الجماعة

البحث الثاني : في ما يدرك به الجماعة

إدراك الجماعة تارة يبحث من حيث إدراكه أصل الجماعة ، واخرى من حيث ركعاتها ، أمّا الأوّل : فيدرك الجماعة بإدراك الإمام في تشهّده الأخير ،

__________________

(١) المقنعة : ٨١١ ، حكاه صاحب جواهر الكلام : ١١ / ٣٥٠.

(٢) السرائر : ١ / ٣١٦ ، مع اختلاف في الألفاظ.

(٣) نقل عنه البحراني في الحدائق الناضرة : ١٠ / ٢١٥.


وكذلك قبل السجدة الأخيرة ، بل السجدتين ، إلّا أنّه إشكال فيها من حيث زيادة الركن.

وعلى كلّ حال ؛ فحينئذ يكبّر ويدخل في الصلاة ويتبع الإمام حتّى يفرغ من صلاته فيقيم ويتمّ صلاته من دون تجديد واستيناف تكبيرة الإحرام ، وذلك لما دلّت عليه روايات صحاح تبلغ حدّ الاستفاضة (١) وفي «الجواهر» تعرّض لهذه المسألة في آخر بحث الجماعة (٢) ونحن أيضا نزيد الكلام فيها في ما يأتي إن شاء الله.

وأمّا الثاني : في إدراك الركعة ؛ الأقوال ثلاثة :

أحدها : ما هو المشهور المنصور ، وهو أنّ آخر ما تدرك به الركعة هو قبل رفع الإمام رأسه من الركوع.

ثانيها : إدراك تكبيرته للركوع.

ثالثها : إدراك تسبيحة ركوعه ، ومنشأها اختلاف الأخبار.

والأقوى قول المشهور ، والأخبار الدالّة عليه كثيرة ، منها : ما رواه المشايخ الثلاثة عن الصادق عليه‌السلام «إذا أدركت الإمام وقد ركع فكبّرت قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدركت الركعة ، وإن رفع رأسه قبل أن تركع فقد فاتتك الركعة» (٣).

ومنها : عنه عليه‌السلام أيضا في الرجل : «إذا أدرك الإمام وهو راكع فكبّر الرجل

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٢ الباب ٤٩ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) جواهر الكلام : ١٤ / ٥٤.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٢ الحديث ١٠٩٦٣.


وهو مقيم صلبه ، ثم ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة» (١) وغير ذلك من الأخبار (٢) ، ودلالتها على المطلوب واضحة.

والدليل على القول الثاني أيضا أخبار :

الأوّل : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن الباقر عليه‌السلام قال : قال لي : «إن لم تدرك القوم قبل أن يكبّر الإمام للركعة فلا تدخل معهم في تلك الركعة» (٣).

هذا ؛ مضافا إلى عدم تعرّضه لمسألة الإدراك وإنّما هو النهي المحمول على الكراهة من لفظ «القوم» فيه ، يستفاد سوقه للنهي عن الدخول معهم في الصلاة تقيّة ؛ لاستلزامه حينئذ فوت القراءة.

الثاني : عنه عليه‌السلام أيضا : «إذا لم تدرك تكبيرة الركوع فلا تدخل في تلك الركعة» (٤) وهذا أيضا مشترك مع الأوّل في الجهة الاولى من الكراهة.

الثالث : عنه عليه‌السلام أيضا : «لا تعتدّ بالركعة الّتي لم تشهد تكبيرها مع الإمام» (٥) ، وهذا مثلهما محمول على الكراهة ، أو إرشاد إلى عدم الوصول بالركوع ، واحتمال أن يفوت ، فهذه التلبية راويها هو الّذي روي عنه في الطائفة الاولى أيضا ، وبعد أن كان صريحها إدراك الركعة بما عرفت ، فلا محيص عن حمل هذه على الكراهة ونحوها.

الرابع : صحيح آخر عنه عليه‌السلام : «إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام فقد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٢ الحديث ١٠٩٦٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٢ الباب ٤٥ من أبواب صلاة الجماعة.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨١ الحديث ١٠٩٥٩.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٢ الحديث ١٠٩٦١.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨١ الحديث ١٠٩٦٠.


أدركت الصلاة» (١).

وهذا لا ربط له بما نحن فيه ، وإنّما هو ينفي عدم إدراك الصلاة أصلا ، فهو يعارض بظاهره الأخبار الدالّة على الجهة الاولى الّتي هي راجحة عليه سندا ودلالة فلا بدّ من رفع اليد ببركتها عن مفهومه.

الخامس : حسنة الحلبي الواردة في الجمعة (٢) ، وهي إن كانت دلالتها على مسألتنا تامّة إلّا أنّه بعد أن كانت بالمفهوم الّذي يتوقّف على تماميّة إطلاق المنطوق بمقدّمات الحكمة حتّى تختصّ العلّة بالمذكور في القضيّة ، ومعلوم أنّ ظهور تلك الأخبار ودلالتها في وجود سبب آخر يصير بيانا ويمتنع عن انعقاد الإطلاق.

فعلى هذا ؛ هذه الخمسة لا تصلح لمعارضة الطائفة الاولى دلالة ، ومع الغضّ عن ذلك فالمرجّحات السنديّة فيها أيضا موجودة ، من الشهرة الروايتي ـ كما تظهر من رواية «الاحتجاج» (٣) ـ والفتوائي ، حيث إنّه لم يعمل بهذه الطائفة من القدماء إلّا الشيخ قدس‌سره (٤) ، ومن حيث العدد والكثرة ، فلا مجال لرفع اليد عنها والعمل بها ، كما لا يخفى.

والدليل على القول الثالث رواية «الاحتجاج» عن الحميري عن مولانا صاحب الزمان ـ أرواحنا له الفداء ـ (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨١ الحديث ١٠٩٥٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٤٥ الحديث ٩٥٣٦.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٣١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٣ الحديث ١٠٩٦٦.

(٤) المبسوط : ١ / ١٥٨.

(٥) الاحتجاج : ٢ / ٣١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٣ الحديث ١٠٩٦٦.


وهو مضافا إلى ما في أصل سنده ـ حيث إنّ روايات «الاحتجاج» وإن كانت صحاحا عنده حسبما صرّح به في أوّل كتابه ، من أنها غنيّة عن ذكر سندها (١) ، إلّا أنّها بالنسبة إلينا لا تخرج عن كونها مرسلة ـ أنّ النسبة بينها وبين الطائفة الاولى من قبيل : «إذا خفي الأذان فقصّر» (٢) ، و «إذا خفي الجدران فقصّر (٣)» (٤) لمكان أنّ كليهما في مقام التحديد ، غايته أنّ مفاد الاولى أعمّ ، وحينئذ لو أخذنا برواية «الاحتجاج» يوجب طرح الأخبار الاولى مع كثرتها رأسا ، إذ المفروض أنه لم يعمل بالحدّ الذي يستفاد منها مع كونها ظاهرا في النجاسة ، ومعاملة الإطلاق والتقييد إنّما يجري في غير مقام ، مما لم يكن المطلق الدالّ على الأزيد والأكثر في مقام التحديد ، حتّى تستلزم تلك المعاملة والجمع طرح أحد الدليلين ، وهو المطلق فلا محيص عن جعلها قرينة لهذه الرواية ، ورفع اليد عن مفهومها ، فتأمّل! والله العالم.

فروع :

الأوّل : لا ينبغي التأمّل في أنّ حدّ الركوع الّذي يدرك به الجماعة هو ما لو اجتمع ركوع المأموم مع ركوع الإمام ، أي يصل المأموم إلى حدّ الراكع ولم يأخذ الإمام بالرفع فيدركه فيه ، وإلّا فلا يصدق الإدراك بأن يصل المأموم إلى حدّ الراكع والإمام آخذ بالرفع ، أو يكون هو في حال الهويّ والإمام في حال الرفع.

__________________

(١) الاحتجاج : ١ / ٤.

(٢) وإن كان فرق بين المقامين من جهة لما تقدّم في بحث صلاة المسافر من أنّ واقع الشرطين أمر واحد وإنّما يكون الاختلاف في مراتب الشرطين مفهوما ، «منه رحمه‌الله».

(٣) أي : من جهة تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء ، «منه رحمه‌الله».

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٧٠ الباب ٦ من أبواب صلاة المسافر.


وذلك ؛ لأنّه : أوّلا : أنّ الظاهر من الفعل الماضي في قوله عليه‌السلام : «إذا ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه» (١) النسبة التحقيقيّة لا التلبسيّة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يصدق إلّا في الصورة الاولى لا الأخيرين.

وثانيا : أنّ إدراك الركوع منصرف عنهما ، إذ الظاهر منه هو الركوع الحقيقي لا ما يجزي عنه في بعض المواقع كالاضطرار ونحوه ، حيث يكتفى ببعض مراتبه.

وبالجملة ؛ كون المأموم راكعا في حال أخذ الإمام في الرفع لا يصدق أنّه أدرك الإمام راكعا ، بمعنى أنّ الدليل منصرف عنه ، ففيما لو كان هو في حال الهوي والإمام آخذا في الرفع ؛ الأمر أوضح.

الثاني : المراد بأنّ آخر ما يدرك به الركعة في الجماعة أيّ شي‌ء هل هذا مختصّ بابتداء الصلاة أو مطلق يشمل تمام الركعات؟ ثمّ إنّه هل هذا حكم تعبّدي في الركعة الاولى بحيث يكون لا بدّ من إدراك ركوع الإمام مطلقا على كلّ حال ، ولا يجزي إدراك الإمام قبل الركوع لو لم يدركه ، أم لا ، بل لا موضوعيّة في البين ، والمراد أنّ آخر ما يدرك به الركعة هو هذه الحالة ، فهو لبيان الحدّ ، فلو لم يدرك ركوع الإمام ولا قبله فالجماعة غير مدركة؟ احتمالات ، بل أقوال ثلاثة :

أحدها : أن يكون حكما تعبّديّا مختصّا بالركعة الاولى بحيث لو لم يدرك ركوع الإمام فيها ولو أدركه قبله فلا يتحقّق إدراك الركعة.

ثانيها : أن يكون تحديدا لها ، بأن يعتبر ذلك لإدراك خصوص الركعة الاولى ، من حيث إنّه آخر ما يدرك به الركعة الاولى هو حدّ إدراك ركوع الإمام ، فهذا هو الحدّ له فلو أدركه قبله فقد أدرك الركعة وما فاتته.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٢ الحديث ١٠٩٦٢.


ثالثها : أن يكون تحديدا لمطلق الركعات لا خصوص الاولى ، وهذا هو الحقّ ، وعليه المشهور.

فهنا دعويان :

الاولى : أنّه يكفي لإدراك الركعة إدراك أحد أفعال الإمام إلى أن يرفع رأسه عن ركوع كلّ ركعة فيجزيه إدراكه ولو قبل الركوع ، والركوع هو آخر الحدّ لا أن يكون أمرا تعبّديّا يعتبر مطلقا.

ويدلّ عليها روايات (١) عن عبد الرحمن بن حجّاج وغيره مضمونها : أنّه سئل عن المعصوم عليه‌السلام أنّه كان رجل مصلّيا مع الإمام فمنعه الزحام عن الركوع معه حتّى سجد هل فاتته الركعة؟ فأجاب عليه‌السلام بأنّه «لا» (٢).

فهذه قرينة على أنّ المراد بالأخبار الدالّة على أنّه إذا لم يدرك ركوع الإمام فقد فاتت الركعة هو التحديد وبيان آخر حدّ يمكن اللحوق بالإمام في الركعة ، لا أن يكون تعبّدا في البين.

هذا مع ما عليه الأصحاب في باب الجمعة وغيرها من أنّ إدراك الركعة لا يتوقف على الركوع ، فراجع!

الثانية : أنّه إذا لم يدرك الإمام في الركعة أصلا إلى الركوع فقد قامت الركعة ، سواء كان في الركعة الاولى أو غيرها ، وعليها وإن لم يكن دليل بالخصوص إلّا أنّ مقتضى الأصل ذلك ، حيث إنّه إذا كان المفروض عدم إدراك شي‌ء من الركعة مع الإمام فلا دليل على إدراك الركعة ويكفي في الحكم بالعدم عدم الدليل.

__________________

(١) أوردها في «الوسائل» في باب الجمعة ظاهرا ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٥ الحديث ٩٥١٤ ، و ٣٣٦ الحديث ٩٥١٦.


وأمّا الأدلّة الدالّة على أنّ فوت ركن واحد أو أزيد في الجماعة فلا يضرّ ، فلا ينفع شيئا ، لمكان أنّها فيما إذا كانت الركعة مدركة قبل الركن ومن غير جهته.

هذا ؛ مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع من جهة أنّ تسمية الركعة بها لاشتمالها على الركوع يقتضي ذلك ، ويصير قرينة على إلغاء خصوصيّة الركعة الاولى في الأخبار المشتملة عليها ، كما في بعض ما روي عن ابن حجّاج (١).

فعلى هذا ؛ التحقيق ما بنينا عليه ، فما في «[وسيلة] النجاة» (٢) من اختصاصه بالركعة الاولى ، وكذلك في «العروة» ، لا وجه له (٣).

الثالث : الأقوى عدم بطلان الصلاة فيما إذا ركع بقصد إدراك ركوع الإمام فرفع رأسه ولم يدركه ، فهذا وإن لم يحتسب له ركوع إلّا أنّه ليست زيادة مبطلة ، بل ملحقة بزيادة الركن الّتي لا يضرّ في الجماعة.

وذلك ؛ فلعموم أدلّتها وعدم وجود شي‌ء فيها أنّها تختصّ بالزيادة الّتي أدرك الإمام وتحقّق التبعيّة فعلا ، بل يكفي قصد الإدراك والتبعيّة ، ويؤيّد إطلاقها رواية حفص الواردة في باب الجمعة في من لم يدرك الإمام في سجدة الركعة الاولى ، وبقي على حاله إلى أن لحقه الإمام لسجود الركعة الثانية فيجب عليه متابعته حينئذ في السجود وينوي بهما للاولى.

وقال عليه‌السلام : إنّه «وإن كان لم ينو السجدتين في الركعة الاولى لم تجز عنه الاولى و [لا] الثانية ، وعليه أن يسجد» (٤) ... إلى آخره ، فما حكم عليه‌السلام ببطلان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٧ الحديث ١٠٩٧٥.

(٢) وسيلة النجاة : ١ / ٢٥٠ المسألة ١٠.

(٣) العروة الوثقى : ١ / ٧٩٠ المسألة ٢٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٣٣٥ الحديث ٩٥١٥ ، مع اختلاف يسير.


الصلاة مع أنّ السجدتين ركن ، والمفروض عدم تحقّق التبعيّة فعلا ، لمكان وجوبهما عليه ثانيا وإتيان ركعة تامّة بعده ، والمسألة وإن كانت خلافيّة إلّا أنّ الرواية معتبرة وعمل بها جمع.

مضافا إلى أنّه لا إشكال في أنّه لو رفع المأموم رأسه من الركوع ساهيا قبل الإمام ثمّ رجع ثانيا ، مع أنّ الإمام كان رافعا رأسه فلم يدركه ، هذه الزيادة لا تبطل الصلاة ، فهذه أيضا تدلّ على أنّ المغتفر قصد الإدراك ، وبالجملة ؛ فما أفتى به في «[وسيلة] النجاة» (١) من بطلان الصلاة وتبعه في «العروة» (٢) لا وجه له.

وأمّا الأدلّة والأخبار المعتبرة منها إدراك ركوع الإمام فلا تدلّ على بطلان الصلاة ، بل غاية مدلولها أنّه فاتته الركعة (٣).

الرابع : في المسألة السابقة فبناء على التحقيق من عدم بطلان الصلاة لا إشكال أنّه يجوز للمأموم أن ينفرد حينئذ ويجوز له المتابعة والبقاء على الجماعة ، وعليه فهل يجب عليه متابعة الإمام في السجدتين أولا ، بل يتعيّن عليه التوقّف حتّى يخلص الإمام من تلك الركعة فيتبعه في الركعة اللاحقة؟

الّذي يظهر من عبارات بعض أساطين الفقهاء كالعلّامة قدس‌سره الأوّل (٤) ، نظرا إلى عموم «فاركعوا حين يركع واسجدوا إذا سجد» (٥).

وفيه ـ مع الغضّ عمّا في سند الدليل المزبور ـ أنّه : لا يدلّ ـ كما سيأتي

__________________

(١) وسيلة النجاة : ١ / ٢٥٥ المسألة ١٢.

(٢) العروة الوثقى : ١ / ٧٨٦ المسألة ١٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٠ الباب ٤٨ من أبواب صلاة الجماعة.

(٤) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٣٤٥.

(٥) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٦.


توضيحه ـ على ما ذكر ، حيث إنّه ليس مشرّعا للركوع والسجود ، بل هو في مقام بيان تشريع التبعيّة وحكمها ، وأنّ ما يجب على المأموم من إجراء صلاته فعليه الإتيان بها تابعا للإمام ، لا أنّه يجب عليه ذلك ، ولو لم يكن على نفسه شي‌ء كما في المقام.

وعلى هذا ؛ فيتعيّن الوجه الثاني ؛ لعدم الدليل على جواز الاتّباع والإتيان بالركن الزائد اختيارا ، ولذلك لا يجب متابعة الإمام فيما إذا ابتدأ المأموم في صلاته المغرب بعشائه في الركعة الأخيرة منها بلا إشكال.

وبالجملة ؛ الأخبار الدالّة على أنّه يسجد مع الإمام السجدتين ، إذا أدركه بعد الركوع (١) إنما هي لبيان درك فضل الجماعة ويحمل على الاستحباب ، جمعا بينها وبين الطائفة الاخرى الدالّة على لزوم الوقوف في حال القيام ، وعدم السجود مع الإمام ، كما يأتي تفصيل ذلك في محلّه إن شاء الله.

مضافا ؛ إلى أنّه على فرض الالتزام بلزوم المتابعة أو رجحانها بالنسبة إلى السجدتين ، فسيأتي أنّه لا دليل على بطلان الصلاة بذلك ، وأنّ الأخبار الّتي مفادها أنّه (فاسجد مع الإمام لا تعتدّ بها) (٢) ، فهي لا تدلّ إلّا على أنّه لا تعتدّ بالسجود والركعة ، وعلى فرض القول بالبطلان بها أو بالخروج عن الصلاة لمتابعته في السلام ، فليس ذلك دليلا على عدم مشروعيّة الايتمام ، وعدم جواز تكبيرة الإحرام بعد ورود الأمر بها ، لأنّه يمكن أن يكون ذلك من باب اعتبار التكبيرة للدخول ، ولو في جزء من الصلاة كما اعتبر في أصلها ، كما لا يخفى ، والله العالم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٢ الباب ٤٩ من أبواب صلاة الجماعة.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٢ الباب ٤٩ من أبواب صلاة الجماعة.


الخامس : لا إشكال في أنّه يجوز الدخول في الجماعة في أيّ حال مطلقا ، سواء احتمل أنّه يدرك الإمام فعلا أم لا ، بل مع القطع بالعدم لأنّه لو لم يدركه في الحال فله أن يصبر فيلحقه في الركعة الآتية ، وله أن ينفرد ولا محذور في شي‌ء من ذلك أصلا ، فلا يحتاج إلى إجراء أصل ونحوه ، حتّى يحرز بقاء الإمام على حاله الّذي يكون عليه.

فعلى هذا ؛ عنوان المسألة بأنّه هل يجوز الاقتداء ويمكن إحراز البقاء بالأصل أم لا؟ كما في بعض العبارات ، لا وجه له ، بل العنوان أنّه هل يجوز أن يؤتى بالركوع بقصد التبعيّة مع عدم العلم بالإدراك؟ وهل يصحّ إحراز ذلك باستصحاب بقاء الإمام على حاله حتّى يلحقه المأموم كما ببركته يحكم ببقائه على صفاته المعتبرة فيه إلى أن يتمّ الصلاة ، بل به يحكم على بقاء مطلق الامور في الزمان المستقبل ممّا لا يمكن إحرازه بالوجدان ، لعدم خلوّها عن الحوادث من الموانع الّتي بها يمكن زوال الوصف ، أم لا يصحّ ذلك في خصوص المقام؟ قد استشكل فيه شيخنا قدس‌سره نظرا إلى أنّه وإن قلنا بقيام بعض الاصول والأمارات مقام العلم الطريقي ، ولكن إنّما يكون ذلك فيما إذا لم يعتبر الإحراز الوجداني (١).

وبعبارة اخرى : الاطمينان والاستصحاب وإن كان من الاصول المحرزة إلّا أنّه لمّا لا يحصل الاطمينان فلا يترتّب الأثر الشرعي عليه في المقام ، وسيأتي سرّ ذلك ، وتنقيح هذه المسألة في الفرع الآتي والله المؤيّد.

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٣٣١.


الشكّ في إدراك ركوع الإمام

السادس : إذا ركع المأموم وشكّ في إدراكه ركوع الإمام ، بأن لم يرفع رأسه قبله ، فهل يصحّ الحكم بإدراكه بالأصل ، بأن يستصحب بقاء الإمام راكعا ، أم لا؟ فقد يجعل مبنى المسألة على مسألة استصحاب مجهول التأريخ ومعلومه ، وسنشير إلى وجهه.

وعلى كلّ تقدير ؛ جريان الأصل في المقام وعدمه يقتضي بيان ضابطة جريان الاستصحاب في الحادثين المجتمعين في الوجود فيترتّب عليه الأثر الشرعي بحيث لا يلزم مثبت.

فنقول : كلّما كان الأثر الشرعي لنفس اجتماع حادثين في الزمان عناية اخرى ، كما لو فرضنا في المقام بأن يكون الحكم مترتّبا على حصول ركوع المأموم في زمان حصول ركوع الإمام ، فحينئذ لو احرز أحدهما بالوجدان وشكّ في الآخر من حيث حدوثه واجتماعه معه وعدمه ، فهنا يحكم به بالأصل وتكون المسألة من صغريات الموضوعات المركّبة الّتي أحرز أحد جزأيها بالأصل والآخر بالوجدان ، كما حكموا به في مسألة العلم بإسلام الوارث مع الشكّ في موت مورّثه قبله أو بعده ، لكون الأثر مترتّبا على الإسلام في زمان حياة المورّث.

وكلّما كان الأثر مترتّبا على حال من أحوال أحد الحادثين عند حادث آخر ولم يكن صرف الاجتماع في الوجود ، بأن اخذ أحد العنوانين نعتا للآخر ، كما يمكن ذلك في العرض ومحلّه ، لا في الجوهرين ولا في العرضين موضوع كلّ منهما غير الآخر ، بل في مثلهما المعقول هو الشقّ الأوّل حسبما أوضحناه في محلّه.


وكيف كان ؛ في هذا القسم الاستصحاب لا مجرى له ، كما لو فرضنا أن يكون المقام من هذا القبيل بأن اعتبر ركوع المأموم حال ركوع الإمام ، أو يتحقّق ركوعه قبل أن يرفع رأسه ، فهنا ترتّب الأثر لمّا كان يتوقّف على إحراز العنوان المأخوذ في الدليل والأصل ـ أي استصحاب بقاء ركوع الإمام ـ لا يحرز ذلك ؛ لكونه أمرا عقليّا إلّا بناء على المثبت ، فلذلك الأصل لا سبيل إليه إلّا أن يجعل العنوان المأخوذ كناية عن الاجتماع في الوجود ، ولا يكون له خصوصيّة ، ويدخل في القسم الأوّل ، وعلى هذا ، يمكن إدراك المسألة في معلوم التأريخ ومجهوله.

توضيح ذلك : أنّه إذا فرضنا أن يكون وقت ركوع الإمام معلوما بأنّه في الثانية الفلانيّة ؛ فحينئذ إذا شكّ المأموم في تحقّق ركوع نفسه قبل رفع الإمام رأسه من الركوع ، فلمّا كان هو معلوما حاله ولا مجرى للأصل فيه والطرف الآخر مشكوك من حيث لحوق المأموم به وعدمه ، فالأصل يجري فيه ويحكم بعدم الإدراك لأصالة عدم تحقّق ركوع المأموم قبل رفع الإمام رأسه.

ولو كان الأمر بالعكس فالحكم كذلك ، بأن كان زمان ركوع نفسه معلوما وركوع الإمام مجهولا ، فهنا بأصالة بقاء ركوع الإمام يحكم باللحوق وإدراك المأموم ركوعه ، ولو كان زمان كليهما مجهولا فيتعارض الأصلان ، أو لا يجريان رأسا ، على الخلاف في المسألة.

ولكن كلّ ذلك بناء على إلغاء خصوصيّة القبليّة ونحوها من العنوان المأخوذ في الدليل وجعله كناية عن الاجتماع في الوجود فقط ، وإلّا فهذا التفصيل أيضا لا يثمر شيئا ، إذ بالأصل على كلّ حال لا يثبت العنوان وهو القبليّة ، كما لا يخفى.


ثمّ إنّ هذا التفصيل بعينه يجري في الفرع السابق أيضا في جواز الإتيان بالركوع بقصد التبعيّة ، كما بنى عليه شيخنا قدس‌سره في بعض كلماته (١) ، فلو بني على إلغاء خصوصيّة العنوان ففيه : الأصل ينفع ؛ لجواز التبعيّة مع الشكّ في الإدراك إذا لم يكن حدّ ركوع الإمام معلوما حتّى يصير زمان رفع رأسه معلوما ، وإلّا فيصير نتيجة الأصل بالعكس ، حيث إنّه إذ كان حدّ ركوع الإمام معلوما وركوع نفسه مشكوكا ، فلا بدّ أن يجري أصالة عدم اللحوق فيعمل بمقتضاه ، هذا هو أساس الأمر في كلا الفرعين.

إذا تبيّن ذلك فنقول : الحقّ عدم جريان الأصل في كلا المقامين ، أما في الأوّل ؛ فلأنّه مضافا إلى أنّه استصحاب في المستقبل وهو لا يخلو عن الإشكال كما يظهر من بعض كلمات «الجواهر» (٢) لانصراف أدلّته إلى ما يكون متعلّق الشكّ واليقين موجودا في الحال أو لا ، قد عرفت أنّ جريان الأصل مبنيّ على إلغاء قيد الخصوصيّة ، وجعل عنوان القبليّة المأخوذ في الأدلّة كناية عن صرف الاجتماع في الوجود وهو خلاف الظاهر ، فلا سبيل إليه ، وإلّا فيجري ذلك في مطلق العناوين المأخوذة في أدلّة الأحكام ، فبهذه المئونة يلغى كلّها عن الموضوعيّة.

وثانيا : مع الغضّ عن ذلك أنّ الأصل المذكور لا يثمر شيئا ؛ لمكان أنّ جواز الاقتداء والإتيان بالركوع بقصد التبعيّة يتوقّف على إحراز الإدراك وهو لا يحرزه.

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٣٣٣ و ٣٣٤.

(٢) جواهر الكلام : ١٢ / ٣٢٥.


وبعبارة اخرى : كما أنّ أصل الصلاة يتوقّف على الجزم في النيّة بالنسبة إلى الامور الّتي تحت اختيار المكلّف ، فهكذا في أجزائها ، فما لم يجزم بها يشكل جواز الإتيان بها ، بمعنى أنّ المسألة تدخل في جواز الإتيان بامتثال الاحتمال مع إمكان الامتثال العلمي.

وبالجملة ؛ أصل جواز الاقتداء في كلّ حال لا ربط له بمسألة قصد المتابعة في جزء مع الشكّ في تحقّقها ، وعدم إحراز الإدراك ، والأصل لا ينفع في ذلك لأنّه إنّما يجري في أمثال المقام في ما لا يمكن إحرازه وجدانا ، بمعنى أنّها خارجة عن اختيار الشخص ، وأمّا في ما هو باختياره ، وداخلة في موضوع النيّة وما يعتبر فيه الجزم ، فلا محيص عن تحصيل الاطمئنان.

ومن ذلك ؛ ظهر أنّه لا يمكن أن يقال : لمّا لا يضرّ هذا الركوع ولو لم يحصل الإدراك لما بنيتم أنّه زيادة مغتفرة ، فلا مانع عن الإتيان به ولو بقصد المتابعة ، لأنّ ذلك إنّما يثمر فيما إذا دخل وأتى بالركوع على وجه مشروع واتّفق عدم الإدراك ، والإشكال في المقام في أصل مشروعيّة الإتيان به من الأوّل ، فتأمّل في ما ذكرنا حتّى يظهر لك ما في ما أفاده الشيخ قدس‌سره في المقام (١) ، والظاهر ؛ إنّ ما سلكنا هو ما عليه المشهور ، والله العالم.

شرائط الجماعة

البحث الثالث : في شرائط الجماعة ، وهي بين أمرين وقسمين :

أحدهما : ما يرجع إلى الشرط العرفي في أصل تحقّق كلّ اجتماع وصدقه ،

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٥٩.


بحيث يكون تصرّف الشارع حينئذ من باب التحديد وتعيين أحد مصاديق ما هو المعتبر عند العرف في الجملة ، وهو أمران : الاجتماع وعدم البعد بين الإمام والمأموم زائدا على المقدار المعيّن ، وعدم وجود الحاجب.

ثانيهما : ما يكون شرطا شرعيّا وتعبّديا محضا كعدم انخفاض مكان الإمام عن المأمومين.

أمّا القسم الأوّل : فالأوّل من الشرطين ـ وهو عدم وجود الحائل بين الإمام والمأموم إذا كان من الرجال ـ هو أن لا يكون بينهما ما يمنع عن المشاهدة غير الصفوف في سائر الحالات ، والجامع عدم وجود السترة المانعة عن المشاهدة.

والأصل فيه ـ مضافا إلى الإجماعات المنقولة البالغة إلى حدّ الاستفاضة في المسألة : ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ففيها : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصفّ الّذي يتقدّمهم قدر ما لا يتخطّى فليس تلك لهم بصلاة ، وإن كان بينهم سترة أو جدار ، فليس تلك لهم بصلاة إلّا من كان بحيال الباب» وقال : «وهذه المقاصير لم يكن في زمان أحد من الناس وإنّما أحدثها الجبّارون ، وليس لمن صلّى خلفها يقتدي (١) بصلاة من فيها صلاة» (٢).

ودلالتها على المطلوب ـ وهو اعتبار عدم الحائل المانع عن المشاهدة ـ واضحة ؛ لأنّ المراد من السترة والجدار فيها ليس إلّا بيانا للمثال ، والمقصود من

__________________

(١) في من لا يحضره الفقيه : مقتديا.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٥٣ الحديث ١١٤٤ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ و ٤٠٧ الحديث ١١٠٣٣.


ذكرهما أنّه كلّ ما يكون موجبا لتحقّق الستر بين الإمام والمأموم.

ومن المعلوم ؛ أنّ صدق الستر والجدار لا يتحقّق إلّا بأن يكون الحائل يمنع عن المشاهدة ، فلو لم يكن كذلك مثل الحائط القصير ، كما لو كان ارتفاعه بمقدار الشبر فلا يصدق عليه أنّ بينهما سترة أو جدار ، والمراد من «المقصورة الّتي أحدثها الجبّارون» هو الحجرة الّتي كانوا يبنون مكان المحراب ، وكان له باب من خارج المسجد على وجه لا يحتاج الإمام للدخول فيه بالدخول في المسجد وإن كان له باب آخر في المسجد أيضا.

وقوله عليه‌السلام : «إلّا من كان بحيال الباب» يحتمل أن يكون المراد منه باب المقصورة فيكون توطئة لقوله عليه‌السلام : «وهذه المقاصير» .. إلى آخره.

ويحتمل أن يكون المراد منه باب المسجد الّذي يصلّي فيه الإمام ، وهذا أظهر ، كما سيأتي توضيح ذلك إن شاء الله.

ثمّ إنّ هذا أصل موضوع الشرط ، ويتفرّع عليه امور نذكرها في طيّ مسائل :

الاولى : أنّه قد عرفت لا إشكال [في] أنّه لو كان بين الإمام والمأموم حائل يمنع المشاهدة رأسا تبطل الصلاة حينئذ ، وأمّا لو كان على نحو يمنع عن المشاهدة في بعض الحالات كحالة الجلوس أو القيام فقط ، فقد يقال بأنّه لا يضرّ نظرا إلى أنّ المراد صدق الحائل على وجه الكلّي.

وفيه : أنّه قد علّق الحكم بعدم كون الصلاة صلاة يكون بينهما ساتر على نحو صرف الوجود.

وبعبارة اخرى : المستفاد من الرواية اعتبار عدم الساتر بين الإمام


والمأموم في صحّة صلاة المأموم جماعة على نحو السالبة الكليّة ، ومن المعلوم أنّه يكفي في رفع ذلك تحقّق الستر ولو في بعض الحالات ؛ لصدق تحقّق الساتر بين الإمام والمأموم ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ قوله في الرواية : «إن كان بينهم سترة أو جدار» عطف على قوله : «وكان بينهم قدر ما لا يتخطّى» فيصير من قبيل الحال ، والمعنى يصير حينئذ : أنّه إن صلّى قوم وكان بينهم وبين الإمام سترة أو جدار ، وكلّ شي‌ء كان مفيدا لحكاية الحال يدلّ على اقتران الحال مع الفعل الّذي كان هذا الحال حالا له على نحو الاستيعاب ، كما سيجي‌ء ذلك بالنسبة إلى مسألة ما لا يتخطّى.

فعلى هذا ؛ فلو كان الحائل مانعا في بعض الحالات لا يضرّ إلّا على نحو يلحق بالعدم ، بحيث كان مانعا بالنسبة إلى معظم الحالات ، وأمّا في مثل حال الجلوس فقط ونحوه فلا ، ولعلّ ذلك منشأ ذهاب المعظم إلى عدم مضرّيّة الحائل في هذه الحالة.

نعم ؛ ولو لم نقل بذلك ، وبنينا على الأوّل : إذا كان الحائل على نحو يمنع عن المشاهدة في خصوص حال السجود ، بأن يكون ارتفاعه بمقدار شبر أو أنقص ، فلا يكون مشمولا للرواية ، لعدم صدق الجدار والحائل ، وإن صدق أنّ بينهما شي‌ء ، وبعد عدم شمول الرواية لمثله فلا بدّ من الالتزام بعدم كونه مانعا لو كان لنا عموم في باب الجماعة وأمكن الرجوع إليه.

ولكن قد تقدّم في صدر الباب أنّه ليس لنا عموم قابلا لرفع الشكّ إذا شكّ في اعتبار شي‌ء لانعقاد الجماعة عرفا أو شرعا ، ولا إشكال في ثبوت الشكّ في اعتبار أمثال هذه الأمور ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول العمليّة ، ومقتضاها في


أمثال المقام الاحتياط لا البراءة.

ضرورة أنّ صلاة الجماعة فرد من الصلوات الواجبة عينا ، فإذا شكّ في اعتبار شي‌ء فيها ، فمرجع ذلك إلى الشكّ في المحصّل لا إلى الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حتّى يرجع إلى البراءة ، كما لا يخفى.

إذا كان الحائل بحيث لا يمنع عن المشاهدة

المسألة الثانية : إذا كان الحائل مخرّما مثل الشبابيك وأمثالها ، فتارة ؛ يكون على نحو [تكون] فرجه في غاية الضيق ، مثل ما إذا كان من بعض أنواع الحصر ونحوه فإنّ هذا مثل ما لا يكون له الفرج أصلا لصدق الحائل والسترة عليه ، كما لا يخفى.

واخرى ؛ يكون على وجه [تكون] فرجه واسعة لا تمنع عن المشاهدة ، كالشبابيك الموجودة في الرواقات ؛ ففي أمثالها لا ينبغي الريب في عدم شمول الرواية لها ؛ لعدم صدق الساتر والجدار عليها.

وتوهّم إمكان دخوله من جهة قوله في صدرها : «وإن كان بينه وبين الإمام ما لا يتخطّى» بناء على أن يكون المراد منه ما لا يمكن أن يتخطّى ، سواء كان ذلك لعدم المقتضي ـ كما إذا كان الفصل لبعد المسافة ـ أو كان لوجود المانع كالشبابيك المذكورة ، مدفوع بأنّ المراد من «ما لا يتخطّى» على ما سيأتي ـ ليس عدم التخطّي بل المراد منه ما يقدّر بعدم التخطّي من حيث البعد والمسافة ، ويشهد له قوله : «وإن كان بينهم وبين الصفّ الّذي يتقدّمهم بمقدار ما لا يتخطّى» فلا تدلّ الرواية على حكم مثل الشبابيك وغيرها ممّا لا يمنع عن المشاهدة ،


فحينئذ يبقى مورد للشكّ فيرجع إلى الأصل.

الثالثة : لو كان الحائل جسما شفّافا لا يمنع [من] المشاهدة مثل الزجاج ، فهل يلحق بالجدار والسترة أم لا؟ وجهان : والأقوى عدم الإلحاق ، إذ لا ظهور للرواية فيما يشمله ، لعدم صدق السترة والجدار عليه.

وابتناء المسألة على كون الإبصار بخروج الشعاع أو الانطباع ، فعلى الأوّل لا يكون ساترا ، وعلى الثاني يكون حائلا ، لا وجه له ، إذ ليست المسائل الشرعيّة مبتنية على مثل هذه الدقائق الحكميّة ، بل إنّما تدور مدار صدق العناوين العرفيّة ، وعليها قد عرفت أنّها غير محقّقة.

إلّا أن يقال بأنّ مانعيّة الستر والحائل ليست لأجل أنّه معه يحجب الإمام عن المأموم ، وأنّه لا يطّلع على ما يفعل ، بل لأجل كونه موجبا لتعدّد المجلس ، وهذا المعنى متحقّق عند تحقّق الحيلولة بمثل الزجاج.

ولكن فيه : أنّ هذا حدس محض لا دليل عليه ؛ إذ لا دلالة للرواية عليه ، فالإنصاف أنّه أيضا مورد للشكّ ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل وهو الاشتغال كما تقدّم ، ولكن يمكن إثبات الأصل اللفظي وإطلاق في باب الجماعة يرجع إليه عند الشك لتصحيح العبادة وإن منعناه سابقا.

توضيح ذلك : إنّ الشكّ في باب الجماعة وانعقادها إن كان راجعا إلى اعتبار ما يكون شرطا لانعقاد الجماعة عند العرف ، بحيث لولاه لصدق الجماعة عرفا ، فلا إشكال في عدم دفع الشكّ بالرجوع إلى الإطلاقات ، وإن كان راجعا إلى اعتبار شي‌ء شرعا وتعبّدا زائدا عمّا عليه العرف ، فهذا لا مانع من دفعه بالرجوع إلى ما تقدّم من إطلاق صحيحة زرارة المتقدّمة في أوّل بحث الجماعة


من قوله عليه‌السلام في ذيلها : «ولكنّ الجماعة سنّة في الصلاة من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علّة فلا صلاة له» (١). فتأمّل! إذ لا دلالة ولا إطلاق لها من الجهة الّتي نحن فيها ، بل الظاهر منها أنّها وردت لمشروعيّة الجماعة فقط.

الرابعة : لا فرق في الحائل بين أن يكون في تمام الصلاة أو كان في بعضها ، فلو كان مع رفعه في الأثناء فلا تنعقد الجماعة ، وكذلك لو لم يكن ابتداءً وحدث في الأثناء يوجب بطلانها ، وذلك لإطلاق الرواية.

نعم ؛ لو دخل في الجماعة على وجه المشروعيّة ثمّ حدث الحائل في الأثناء وإن تبطل الجماعة حينئذ ، ولكنّه لا تبطل أصل الصلاة بل يصير المأموم منفردا قهرا ، كما في سائر المقامات الّتي يتعذّر البقاء [فيها] على الجماعة.

الخامسة : لا يعتبر في الحائل المانع عن المشاهدة الموجب لعدم تحقّق الجماعة أن يكون غير إنسان ، لأنّ المدار في الحائل ما يوجب الستر بين الإمام والمأموم ، فلو حصلت الحيلولة بقيام إنسان بينهما على الوجه المذكور تبطل الجماعة ، إلّا أن [يكون] هو أيضا مأموما ، كما سيجي‌ء وجهه.

نعم ، لو كان الحائل آدميّا لا بدّ وأن يكون مستقرّا ، فلو حصلت الحيلولة بمجرّد مرور إنسان أو غيره بينهما فلا يضرّ ذلك ؛ لعدم صدق المانع ، إذ الحائل لا بدّ وأن يكون له الاستقرار عرفا ، إلّا إذا صدق الاستقرار حينئذ ، كما إذا كان مرور أشخاص متعدّدين بحيث يكونون متّصلين ، ولا يكون بينهم فصل أصلا ، فيلحق ذلك بالحائل المستقرّ لصدق السترة حينئذ ، ولا فرق في الإنسان الّذي يحصل به الحيلولة بين أن يكون مصلّيا منفردا أو غير مصلّ رأسا [أصلا] ، أو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٨٥ الحديث ١٠٦٧٦.


كان مقتديا بذلك الإمام مع علم المأموم ببطلان صلاته ، إذ المغتفر في حيلولة سائر المأمومين فيما إذا كانت جماعته صحيحة ، وإلّا فهو كغيره من الساتر ، كما لا يخفى.

وأمّا إذا شكّ في صحّة صلاة الواسطة وأجزاء الصفّ المتقدّم الحائل بينه وبين الإمام ، فلا مانع من الحكم بها ببركة أصالة الصحّة ، فحينئذ تصحّ صلاته جماعة ، ولو كانت صلاته فاسدة واقعا ، كما ذهب إليه في «المسالك» (١) لما سيأتي في مسألة بطلان صلاة الإمام واقعا مع عدم علم المأمومين به فإنّه لا يوجب بطلان صلاة المأمومين لعدم كون موضع صحّة الاقتداء إلّا إحراز صحّة صلاة الإمام ، ففي ما نحن فيه الأمر أظهر.

وذلك ؛ لأنّ من الأدلّة الدالّة على عدم مضرّيّة الحيلولة بالمأمومين وأنّ مشاهدة من يشاهد الإمام تكفي لصحّة الاقتداء وجوازه ؛ يستفاد أنّ كلّ مأموم يشاهد الإمام يقوم مقام الإمام بالنسبة إلى المأموم الآخر الّذي خلفه أو على يمينه أو شماله ، فكما أنّ إحراز كون صلاة الإمام صحيحة يكفي في انعقاد الجماعة الصحيحة حقيقة ولو كانت فاسدة واقعا ، وهكذا الحال بالنسبة إلى المأموم الحائل بين الإمام ومن خلفه.

وبذلك ظهر اندفاع ما أورده في «الجواهر» على «المسالك» قدس‌سرهما بأنّه بعد البناء وتسليم حصول الحيلولة بحائليّة المأموم المعلوم فساد صلاته ؛ فلا بدّ من الالتزام بعدم الفرق بين العلم بفساد صلاته وعدم العلم به ، مع فساده واقعا ، كما

__________________

(١) مسالك الإفهام : ١ / ٣٠٥.


إذا ظهر ذلك بعد الصلاة ، إذ الحائل بوجوده الواقعي مانع (١).

وجه الاندفاع ما سمعت من أنّ المأموم المشاهد للإمام لمّا يصير بمنزلة نفس الإمام بالنسبة إلى من خلفه فيكون حاله حال الإمام ، فتأمّل! فإنّ ذلك الّذي أفاده ـ دام ظلّه ـ لا يخلو عن القياس ، إذ الاكتفاء بمشاهدة من يشاهد الإمام والتنزيل المزبور لا يستلزم التنزيل من الجهة الّتي نحن فيها أيضا ، ولا ملازمة عرفا بين الدليل الدالّ على عدم مضرّيّة الحيلولة الحاصلة بالمأموم وهذه الجهة أصلا ، فالاحتياط لا ينبغي تركه ، والله العالم.

أحكام الحائل

المسألة السادسة : لا إشكال أنّه يكفي في صحّة الجماعة وعدم صدق الحائل أن يكون المأموم على وجه كان مشاهدا للإمام أو مشاهدا لمن يشاهده ولو بوسائط متعدّدة كثيرة ، على وجه لو لا الوسائط كان المأموم يشاهد الإمام من أحد الجوانب الثلاثة من المقدّم أو اليمين أو اليسار.

وذلك : لما تقدّم من أنّ ما جعل مانعا عبارة عمّا يكون حائلا بين الإمام والمأموم على وجه يكون مانعا عن المشاهدة لو لا احتجاب الإمام عن المأمومين بسبب غيرهم ، فحينئذ لا يحصل الحائل في الصفّ الأوّل المنعقد خلف الإمام ، ولو طال عرضا على وجه لا يرى الإمام المأموم الّذي في آخر الصفّ لطوله ، ولكن كان متّصلا بالصفّ على وجه لا يحصل بينه وبينه ما لا يتخطّى ، وكذلك بالنسبة إلى الصفّ الثاني إذا كان أطول من الأوّل إذا لم يحجب

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٥٩.


بينه والإمام غير الصفّ الأوّل ، وهكذا الصفوف اللاحقة إلى أن تخرج من المسجد ، وكان الصفّ الواقع في خارج المسجد بحيال الباب على وجه يكونون يرون الإمام بلا حائل لو لا الصفوف المتقدّمة عليهم ، فالحكم في جميع ذلك ممّا لا إشكال فيه عند أحدهم بعد البناء على أنّ الحيلولة بالمأمومين لا يضرّ إجماعا.

وإنّما الإشكال والخلاف من جهة اخرى ، وهي أنّه هل يكفي مشاهدة الإمام أو مشاهدة من يشاهده من المأمومين ولو بوسائط من كلّ واحد من الجوانب الثلاث ولو بحيث لو لا مشاهدتهم لم يكن يشاهد الإمام أيضا لوجود الحائل ، كما إذا كان خلف اسطوانة يشاهد من طرف يمينه أو يساره أو قدّامه من يشاهد الإمام ، وكما في الصفّ المنعقد بحيال باب المسجد بالنسبة إلى من لم يكن من أجزاء هذا الصفّ بحيال الباب ، بأن يكون مشاهدا من طرف يمينه أو يساره من هو بحيال الباب فقط ، وكما في الصفّ المنعقد خلف الإمام إذا كان الإمام في محراب يكون جانباه مستورا بالجدار وله باب واقفا قدّامه منفتحا بحيث لا يراه ، إلّا من كان بحيال الباب ، أو لا يكفي ذلك ، بل لا بدّ وأن يكون بحيث لو لا احتجاب الإمام بالمأمومين لكان مشاهدا له؟ وعليه لا يصحّ من يصلّي بين الاسطوانات لو كانت على وجه تكون حائلا ، وكذا في المثالين لا يصحّ إلّا صلاة من هو بحيال الباب ومقابله.

فذهب المشهور ـ على ما نقل عن كثير ، بل ربما ادّعي الاتّفاق ـ إلى الأوّل ، كما يستفاد ذلك من كثير عباراتهم المذكورة في مسألة الاقتداء بإمام كان في محراب داخل في المسجد ، وفي مسألة من كان يصلّي خارج المسجد بحيال الباب.


ففي «المنتهى» عن العلّامة قدس‌سره قال : (لو لم يشاهد الإمام وشاهد المأموم صحّت صلاته ، وإلّا بطلت صلاة الصفّ الثاني ولا نعرف فيه خلافا) (١).

وقال في موضع آخر منه «والتذكرة» ـ وهكذا في «المسالك» «والمدارك» وغيره ـ : (لو وقف المأموم خارج المسجد حذاء الباب وهو مفتوح يشاهد المأمومين في المسجد صحّت صلاته ، وصلّى قوم على يمينه أو شماله أو ورائه صحّت صلاتهم ؛ لأنّهم يرون من يرى الإمام ، ولو وقف بين يدي هذا الصفّ صفّ آخر عن يمين الباب أو يساره بحيث لا يشاهدون من في المسجد لم تصحّ صلاتهم) (٢).

ثم قال : (ولو لم يكن المأموم في قبلته ، بل على جانبه ، فإن اتّصلت الصفوف به صحّت صلاته وإلّا فلا ، ذكره الشيخ في «المبسوط») (٣) ـ إلى أن قال ـ : (التاسع : لا بأس بالوقوف بين الأساطين) (٤).

وذهب بعض آخر كصاحب «الذخيرة» و «الرياض» وجماعة اخرى ، وتبعهم في «الجواهر» لو لا الإجماع على ما ذهب إليه المشهور (٥).

وذكر في وجهه : أنّه لا دليل على ما ذهب إليه المشهور إلّا توهّم كون المراد من قوله عليه‌السلام : «إلّا من كان بحيال الباب» بعد قوله عليه‌السلام : «إن كان بينهم سترة أو

__________________

(١) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ط. ق.

(٢) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ، تذكرة الفقهاء : ٤ / ٢٥٨ ، مسالك الافهام : ١ / ٣٠٥ ، مدارك الأحكام : ٤ / ٣١٨ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٣ / ٢٧٧.

(٣) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ، المبسوط : ١ / ١٥٦.

(٤) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥.

(٥) ذخيرة المعاد : ٣٩٣ ، رياض المسائل : ٣ / ٢٦ ، كفاية الأحكام : ٣١ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٠.


جدار» (١) فذلك ليس لهم بصلاة هو الصفّ الّذي بحيال الباب خارج المسجد مقابل الصفّ المنعقد على جانبي الباب من اليمين واليسار (٢).

ومن المعلوم ؛ أنّ هذا الصفّ لا يرون إلّا من يرى مشاهد الإمام من جانبي اليمين واليسار بحيث لو لا المأمومين كان بين الإمام والمأمومين حائل يمنع المشاهدة.

وهذا مدفوع بأنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة حصر الحكم بالصحّة على خصوص من كان بحيال الباب من الصفّ لا الحكم بصحّة صلاة الصفّ الّذي كان بحيال الباب ، ودعوى كون المراد الحصر بالإضافة إلى الصفّ السابق على هذا الصفّ لا شاهد لها فحينئذ قوله عليه‌السلام : «إن كان بينهم سترة أو جدار فليس ذلك لهم بصلاة» (٣) يكون محكّما ، وإلّا صحيحة الحلبي الواردة بعدم البأس عن الصلاة جماعة بين الأسطوانتين (٤) ، بتقريب أنّ من يقف بين الاسطوانات كثيرا ما لا يشاهد من يشاهد الإمام من طرف قدّامه ، بل إنّما يشاهد من يشاهد الإمام من طرف يمينه أو يساره ، بحيث لو لا الاكتفاء بمطلق المشاهدة لكان بينه وبين الإمام حائل وهو الاسطوانة.

وفيه : أنّ الواقف بين الأساطين لو كان على وجه كان بينه وبين الإمام حائل غير المأمومين ، فلا إشكال في فساد صلاته بل هو عين مسألتنا ، فحينئذ لا بدّ من أن تحمل الرواية وهكذا كلمات من صرّح بعدم البأس بالوقوف بين

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ و ٤٠٧ الحديث ١١٠٣٣.

(٢) الحدائق الناضرة : ١١ / ٩٩ و ١٠٠.

(٣) مرّ آنفا.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٨ الحديث ١١٠٣٤.


الأساطين (١) على ما لا ينافي لعدم حصول الحيلولة بأنّ المراد من الصلاة بين الأساطين البنية الّتي لا تكون بها حائل ، بأن يكون المصلّي متوسّطا بينهما ، أي بعضها على يمينه وأخرى على شماله ، لا أمامه أو خلفه.

هذا ملخّص ما أفاد ردّا على المشهور ، ولكنّه فاسد ، فلأنّ حمل قوله عليه‌السلام : «إلّا من كان بحيال الباب» (٢) على خصوص من يكون في قبال الباب عن بعض الصفّ المنعقد في حيال الباب لا على مجموع هذا الصفّ ، مبنيّ على أن يكون المراد من الحيال خصوص المقابل في قبال اليمين واليسار.

مع أنّه لا وجه له أصلا ، لأنّه أمّا في اللغة فقد فسّر بالحذاء ، والحذاء بالإزاء ، ثمّ فسّر الإزاء بالحذاء على نحو الدور ، فلم يعلم تفسير يتّضح به المعنى.

وأمّا بحسب موارد الاستعمال فمختلف ، حيث إنّه قد يستعمل ويراد منه القبال ، مثل قوله عليه‌السلام في باب القنوت : «ثمّ يرفع يديه بحيال وجهه» (٣).

وقد يستعمل ويراد منه المقابلة لطرف اليمين واليسار كما في الخبر الوارد في باب السجود : «يضع كفّيه في حيال وجهه» (٤).

وأمّا في لسان أهل عصرنا هذا فما عثرنا على شي‌ء في موارد استعمالاتهم ، إلّا استعماله في مثل الشطّ إذا امتلأ إلى حدّ لو تجاوز عنه فيخرب البنيان فيقال : امتلأ من الماء إلى حياله ، فحينئذ لم يتّضح للّفظ معنى مبيّن ولم يستقرّ ظهوره في معنى المقابل ، بل الظاهر منه في الرواية هو الأعمّ ، حيث إنّه

__________________

(١) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٠.

(٢) مرّ آنفا.

(٣) وسائل الشيعة : ٦ / ٢٨٢ الحديث ٧٩٧٢.

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ٤٦١ الحديث ٧٠٧٨.


استعمل في مقابل من يقف على جناحي الباب ممّن لا يشاهد من في المسجد من المأمومين ، لا أن يكون المراد خصوص بعض الصفّ المنعقد في مقابل الباب ، وإلّا فلو كان المراد به ذلك فلا معنى لاستثنائه عن قوله عليه‌السلام : «وإن كان بينهم سترة أو جدار فليس تلك بصلاة لهم» (١) لدخول من كان بحيال الباب عن بعض الصفّ المنعقد في قباله في من لا يكون بينه وبين الإمام حائل ، فتأمّل!

نعم ؛ بناء على أن يكون استثناء عن قوله عليه‌السلام بعد ذلك من حكم المقاصير وهو قوله عليه‌السلام : «وليس لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة» (٢) بأن يكون المراد استثناء خصوص من كان في مقابل باب المقصورة دون غيرهم ، يتمّ الدعوى.

ولكنّه أوّلا : خلاف الظاهر وبعيد جدّا ولا دليل على ارتكابه.

وثانيا : على فرض تسليمه إنّما يتمّ لو فرض أنّه كان للمقصورة باب في ذلك الزمان من المسجد ، وقد تقدّم أنّ المعهود منها كون بابها من خارج المسجد وأنّ الإمام كان يدخل فيها منه.

وذلك لأنّهم أبدعوها مخافة من المأمومين في المسجد ؛ لأن لا يصنع بهم ما اصيب بمولى الموالي عليه‌السلام ، فكانوا يدخلونها من الخارج بلا أن يراهم المأمومون وكان المكبّر يخبرهم به ، كما أنّه رأينا المقاصير على هذا الأساس في الساتر في مساجد خلفاء بني العبّاس بعد ما تفحّصنا عنه.

والحاصل : لا يمكن الاعتماد على الاستدلال المزبور للحكم المذكور ،

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) مرّ آنفا.


بل الظاهر الاكتفاء بالمشاهدة من أحد الجوانب الثلاثة ولو لمن يشاهد الإمام كذلك ، وذلك ؛ لأنّه مضافا إلى ما تقدّم أنّ قوله عليه‌السلام : «وإن كان بينهم سترة أو جدار» وفي بعض النسخ بالفاء بدل الواو ، يكون ظاهرا في بيان حكم الحائل على نحو ما بيّن قبله حكم البعد من قوله عليه‌السلام : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بإمام» (١) إلى آخره ، ويستفاد منه أحكام ثلاثة :

أحدها : عدم البعد بين الإمام وبين من يكون خلفه من الصفّ الأوّل.

ثانيها : اعتبار عدم البعد بين كلّ صفّ والصفّ السابق عليه بالمقدار المزبور بالإضافة إلى الصفوف اللاحقة ، وهما يستفادان من منطوق الرواية.

ثالثها : اعتبار عدم البعد بين المأموم وغيره من المأمومين من طرفي اليمين واليسار إذا كان بينه وبين الصفّ السابق عليه أزيد ممّا يتخطّى ، وهذا يستفاد من لازم الرواية.

وبعبارة اخرى : يستفاد من الرواية من جهة اعتبار عدم البعد أنّه يعتبر عدم البعد بمقدار ما لا يتخطّى من جميع الجوانب ، وأنّه يكفي الاتّصال بالإمام أو المأموم المقتدى به عن أحد الجوانب الثلاثة ، فحينئذ قوله عليه‌السلام في حكم الحائل : «فإن كان بينهم سترة أو جدار» أيضا يكون تابعا لسابقه ، وأنّه لو كان الحائل بين المأموم والإمام في الصفّ أو بينه وبين غيره من المأمومين في الصفوف اللاحقة ما يكون حائلا يمنع المشاهدة من جميع الجوانب الثلاثة ، فصلاته ليست بصلاة ، فيستفاد منه اعتبار عدم الحائل وكفاية المشاهدة من إحدى الجوانب.

هذا ، مضافا إلى ما ورد من عدم البأس بالصلاة بين الأساطين عن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ و ٤١١ الحديث ١١٠٤١.


جماعة (١) ، فإنّه بإطلاقه يشمل ما إذا كانت الاسطوانة حائلا بين المأموم وقدّامه ، ولكنّه يشاهد الإمام من طرف اليمين أو اليسار.

فتلخّص : أنّ حكم شرطيّة عدم الحائل ومانعيّته ووجود الحائل من الجهة الّتي نحن فيها من حيث الكيفيّة ، حكم مانعيّة البعد وكيفيّة اعتبار عدمه ، فكما أنّه يكتفى في صدق عدم البعد تحقّق عدم ما لا يتخطّى من طرف القدّام أو اليمين أو اليسار ، ويستفاد ذلك من الرواية مجموع دلالتها المطابقي متضمّنة بالالتزامي ، وكذلك بالنسبة إلى عدم الحائل واعتبار المشاهدة ؛ يكتفى به عن إحدى الجوانب الثلاثة ، كما لا يخفى ، ويستفاد هذا من الرواية أيضا.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه أحسن وأجاد ما عنون في «التذكرة» في حكم من يقتدي خارج باب المسجد بمن فيه ، من المسائل الثلاث :

الاولى : من يقتدي خارج باب المسجد إذا كان الباب على خلاف القبلة قال : تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف قدّامه ، وتصحّ صلاة من على جانبيه ؛ لكونه يشاهد من يشاهد الإمام ولو بالواسطة من اليمين أو اليسار.

الثانية : من يقتدي خارج الباب الّذي في طرف اليمين فإنّه أيضا تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف اليسار.

الثالثة : من يقتدي من الخارج من طرف اليسار فهو أيضا تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من اليمين ، فتأمّل جيّدا! (٢)

__________________

(١) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٠.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٢٥٨.


المسألة السابعة : من كان في الصفوف اللاحقة على وجه كان بينه وبين الإمام بعد يمنع عن الاقتداء لو لا اتّصاله بالصفّ المتقدّم عليه إذا كان مشاهدا لمن يتّصل به من طرف قدّامه أو يمينه أو يساره ، فقد عرفت بأنّه تصحّ صلاته. ولو كان بينه وبين الإمام حائل يمنع المشاهدة.

وأمّا لو لم يكن مشاهدا لمن يتّصل به ، بل كان بينه ومن يتّصل به حائل يمنع المشاهدة ، ولكن مشاهد للإمام الّذي اقتدى به مع فرض تحقّق البعد بينه وبين الإمام ، فهل تكفي هذه المشاهدة أيضا ، أو تعتبر مشاهدة من يتّصل به من المأمومين الّذي كان به ارتفع المنع عن البعد؟

الأقوى الثاني ؛ وأنّه لا يكفي مجرّد مشاهدة الإمام مطلقا ، وذلك لما عرفت من قوله عليه‌السلام في حكم الحائل : «فإن كان بينه وبين الإمام سترة أو جدار» .. إلى آخره يكون تابعا في جميع ما يعتبر لصدر الرواية وهو قوله عليه‌السلام : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام قدر ما لا يتخطّى» (١) فكما أنّه من جهة البعد اعتبر عدم البعد بين المأموم وبين من يتّصل به من أحد الجوانب في الصفوف اللاحقة ، فكذلك مجموع ما في الصدر قد جمعه في الذيل فقال عليه‌السلام : «إن كان بينهم وبين الإمام سترة أو جدار» فيرجع محصّل مفاد الذيل إلى أنّه يعتبر عدم الحائل على نحو اعتبار عدم البعد ، كما لا يخفى.

وبعبارة اخرى ؛ يستفاد من اعتبار عدم الحائل بجملته مجموع ما ذكر في بيان حكم ما لا يتخطّى بتلك العبارة الّتي بمنزلة التفريع على ما تقدّم ، خصوصا على نسخة ضبطت «بالفاء» أنّه يعتبر عدم الحائل بين المأموم والإمام أو من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩.


يشاهد الإمام من الجهة الّتي كان المأموم متّصلا به بلا واسطة أو مع الواسطة لا مجرّد عدم الحائل مطلقا ولو لا من هذه الجهة ، فيكون مسألة عدم البعد وعدم ما لا يتخطّى من قبيل المقدّمة لاعتبار عدم الحائل.

ومن هنا ظهر فساد توهّم أنّ كلّا من البعد والحائل مانع مستقلّ ، وليسا يرجعان إلى أمر واحد ، والمفروض فقدهما في المقام نظرا إلى أنّه يكفي في رفع الأوّل منهما أن يكون المأموم مشاهدا للإمام أو من يشاهده وهو حاصل في المقام باعتبار كون المأموم مشاهدا للإمام ، وفي رفع الثاني أن يكون المأموم متّصلا بالإمام أو بمن هو بينه وبين الإمام ولو بألف واسطة ، وهو أيضا حاصل باعتبار كونه متّصلا بمن يكون بينه وبينه الحائل المفروض ، وعلى هذا فلا مانع من صحّة الصلاة في الصورة المفروضة.

وجه الدفع : أنّ المستفاد من الرواية اعتبار عدم الحائل بين المأموم والإمام أو من يتّصل به بالإمام من الجهة الاتّصاليّة لا مطلقا ، والمفروض في المقام وجود الحائل من تلك الجهة ومشاهدة الإمام من غيرها لا يفيد شيئا ، كما لا يخفى.

الشكّ في وجود الحائل

الثامنة : إذا شكّ المأموم في وجود الحائل فتارة يكون ذلك قبل اشتغاله بالصلاة وقبل الاقتداء ، واخرى ما يكون حادثا في الأثناء ، فهل يصحّ علاجه بالأصل أم لا؟

قد يقال : نعم مطلقا إذا كان هنا حالة سابقة عدميّة ، كما يجري الأصل


بالنسبة إلى سائر ما يعتبر في الصلاة من الشرائط والموانع إذا كانت له حالة سابقة ، مثل الطهارة الّتي كانت متيقّنة سابقا ثمّ شكّ فيها قبل الصلاة أو في أثنائها فيستصحب بقاءها ، وكذا فيما لو كان في أوّل الدخول في الصلاة مستقبل القبلة وشكّ في انحرافه عنها في أثناء الصلاة بلا إشكال في أنّه يجوز التمسّك بالاستصحاب ، وكذلك لو كان في السابق غير مصاحب لما لا يؤكل لحمه ، وشكّ بعد ذلك قبل الشروع في الصلاة أو في الأثناء في طروّ ذلك عليه ، فالمقام أيضا كذلك لا مانع من الشكّ بالاستصحاب للحكم بعدم وجود الحائل ، سواء كان شكّه فيه قبل الصلاة أو في أثنائها.

هذا ؛ ولكن الظاهر أنّ المقام ليس من قبيل ما ذكر من الأمثلة حيث إنّها بنفسها متعلّقة للحكم الشرعي ، فإذا احرز لها الحالة السابقة فببركة الأصل أمكن علاج الشكّ فيها بخلاف المقام ، فإنّ مسألة الحائل واعتبار عدمه بين الإمام والمأموم من قبيل العناوين البسيطة الّتي انتزع من المركّب من أمرين ، ويكون نظير المسألة السابقة فيما إذا شكّ في إدراك ركوع الإمام ، وقد بينّا هناك أنّ جريان الأصل في أمثالها ممنوع ، وأنّه لا مجال لأن يقال : إذا أحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان ، والجزء الآخر يحرز بالأصل ، فبضمّهما احرز الموضوع بتمامه ، لما تقدّم من أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان الجزءان بأنفسهما موضوعا والأثر يكون لهما لمحض اجتماعهما في الزمان.

وأمّا لو كان الأثر للعنوان المنتزع عنهما مثل الحال ونحوه فلا يجري ما ذكر ، بل يكون الأصل بالنسبة إليه مثبتا ، وهكذا ما نحن فيه ، حيث إنّ الأثر ليس لعدم الحائل بين الإمام والمأموم ، بل الظاهر من قوله عليه‌السلام في صدر الرواية :


«إن كان [بينهم سترة أو جدار]» ـ الّذي يكون مسألة الحائل حاله حال عدم البعد ، وحكمه يستفاد من الصدر ولا مجال لتوهّم استقلال الثاني وكونه بنفسه متعلّقا للحكم ـ أنّه لا بدّ وأن تكون الجماعة في حال عدم الحائل فحينئذ إجراء الأصل في الحائل ، لا ينفع بالنسبة إلى الحالة المذكورة ولا يحرزها.

إلّا أن يقال مثل ما أفاده شيخنا استاد الأساطين قدس‌سره في تلك المسألة من أنّ التعبير بالقبليّة والحالة وأمثالهما من باب سهولة التعبير ، وليس لها خصوصيّة في الحكم ، بل تمام المناط صرف الاجتماع في الزمان وأنّ منشأ النزاع [في] تلك العناوين هو متعلّق الحكم.

فعلى هذا ؛ لا مضايقة في إجراء الأصل خصوصا في مثل التعبير بلفظ الحال ، حيث إنّ التعبير به من باب ضيق العبارة ، وأنّه لا يمكن التعبير بالعنوان الأوّلي ـ وهو اجتماع الجزءين في الزمان ـ بغير لفظ الحال ونحوه ، كما هو المستظهر في المقام أيضا إذ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «إن كان بينهم» .. إلى آخره هو اجتماع الأمرين في الزمان ، ولا لفظ يحكي عن هذا المعنى غيره.

لا بأس بالحائل بين الإمام والنساء المأمومات

هذا كلّه في أصل اشتراط عدم الحائل وما يتفرّع عليه ، ثمّ لا ينبغي التأمّل في أنّه إنّما يجري بالنسبة إلى الرجال ، وأمّا لو كان المأمومون النساء فلا يعتبر الشرط المزبور ولا بأس بالحائل بينهنّ والإمام ، إذا كان رجلا.

وذلك ؛ لأنّه مضافا إلى عدم جريان ما ذكرنا في مسألة جماعة الرجال بالنسبة إليهم رأسا من أنّه اعتبار هذا الشرط مرجعه إلى اعتبار أمر عرفيّ ، بحيث


يوجب الحائل تعدّد المجلس ولا يصدق الجماعة حينئذ ، والشارع في اعتباره هذا الشرط ما أعمل محض التعبّد ، بل أجرى ما هو المعتبر عند العرف.

ومن المعلوم ؛ أنّ ما ذكر إنّما يجري بالنسبة إلى مجالس الرجال ومجامعهم ، وأمّا مجامع النساء مع الرجال فلا يعتبر ذلك عند العرف أيضا ، بمعنى أنّ وجود الحائل بينهم وبين الرجال لا يضرّ بوحدة المجلس ، بل بناؤهم على إيجاده في المجلس الواحد الّذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فليس ذلك إلّا من جهة ما ذكرنا من أنّ وجود الحائل لا يرفع عنوان وحدة المجلس ، كما لا يخفى.

فيصير ذلك قرينة عرفيّة على اختصاص الأدلّة الّتي يستفاد منها الشرط المزبور بالرجال ، حيث إنّ الحكم بتعميمها من جهة الإجماع على عدم الاختصاص كليّا ، أو للقطع باشتراك النساء مع الرجال في كلّ حكم ، إنّما يكون إذا لم يكن في البين قرينة قطعيّة وما يقرب منها تدلّ على الاختصاص ، وفي المقام لا إشكال أنّ الارتكاز المزبور هو قرينة على التخصيص ، وأنّ قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : «فإن كان بينهم» .. إلى آخره ، لا يعمّ النساء ، [مع] أنّه دلّت الأدلّة الخاصّة على عدم اعتبار الشرط المزبور بالنسبة إلى المرأة ، وهي الرواية المرسلة (١) المتلقّاة بالقبول عند الأصحاب ، والإجماع المنقول أو المحصّل ، حيث لم يظهر في المسألة خلاف إلّا من الحلّي قدس‌سره (٢) بناء على أصله من عدم الاعتناء بأخبار الآحاد مطلقا.

بقي الكلام في موضوع المسألة وهو : أنّ الحائل بأيّ مقدار منه لا يضرّ؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩.

(٢) السرائر : ١ / ٢٨٩.


الّذي يظهر من كلمات الأصحاب قدس‌سرهم أنّه إذا كان بحيث لا يوجب أن يكون المأمومون أجانب عن الإمام رأسا ، بأن يكون الحائل ثخينا جدّا كبعض الجدران الّتي فيها أسطوانة وأمثالها ، بل لا بدّ وأن يكون بحيث يكونون مطّلعين ـ أي المأموم والإمام ـ في الجملة عن حال الآخر ، بأن يكون بينهم حائطا صفيقا أو أمرا محدثا كما هو المعمول.

ولقد أجادوا في ما استظهروا وأفادوا ، لأنّ ما ذكرنا في الاعتبار العرفي لا يستفاد منه اغتفار الحائل أزيد من ذلك ، كما أنّ المرسلة المشار إليها فيها لفظ «الحائط» وهو غير الجدران ، بل هو مثل الحفاظ الّتي يحدث في حوالي البساتين غالبا ، فالمسألة لا غبار عليها إن شاء الله تعالى ، ولا مجال لتزلزل [صاحب] «الجواهر» (١) قدس‌سره أيضا ، والله العالم.

اشتراط عدم البعد بين الإمام والمأموم

الثاني من الشرطين اللذين مرجعهما إلى اعتبار أمر عرفي في الجملة هو مسألة اعتبار عدم البعد بين الإمام والمأموم ، أصل الشرط لا إشكال فيه ، بل المسألة إجماعيّة في الجملة ، بل الكلام في تحديده فإنّها من هذه الجهة من المشكلات ، بمعنى أنّها نظير ما في مسألة المسافر الّذي يرجع ليومه إلى محلّه أنّه مع وجود الأخبار المعتبرة الواضحة الدلالة فيها الأصحاب اضطربوا في المسألة ، وأحالوا تحديد الموضوع إلى العرف ، فهكذا في المقام من أنّه مع وجود

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٤ ـ ١٦٥.


المدرك الصحيح ـ وهو رواية زرارة المتقدّمة (١) واضحة الدلالة ، حيث إنّه حدّد فيها البعد بما لا يتخطّى ـ الأصحاب كأنّهم أعرضوا عنها وأرجعوا الأمر إلى العرف ، مع أنّه لا وجه له ولا عذر لهم في ذلك.

وأعجب من ذلك تعبير بعضهم في المسألة بالاستبعاد ، مع أنّه لا محلّ له أصلا ؛ ضرورة أنّ المقام ليس إلّا كسائر التحديدات الشرعيّة حسبما تقدّم ، وليس أمرا حادثا غريبا مضافا إلى انسداد باب العلم إلى ملاكات الأحكام بالنسبة إلينا.

وبالجملة ؛ الظاهر أنّ نظرهم في ذلك ـ أي إرجاع التحديد إلى العرف وعدم التزامهم بما يظهر من الرواية ـ إلى تحكيم ما في ذيل الرواية على بعض النسخ على صدرها ؛ لمكان التعبير في الذيل بلفظ «ينبغي» الظاهر في الاستحباب ، فيستفاد منه أنّ ما في الصدر من أنّه لا يكون بين الإمام والمأموم مقدار ما لا يتخطّى ، المراد به كراهة البعد بهذا المقدار ، لا أن يكون حكما إلزاميّا.

ولعلّ استبعاد بعض الأعاظم أيضا يرجع إلى ذلك ، فاستبعد أن يكون الأمر بالعكس ، ويكون الصدر شاهدا على الذيل ، وإلّا فشأنهم من رجوع الاستبعاد إلى أصل تشريع الحكم ، كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ ما ذكروا إنّما يتمّ بناء على أن تكون معارضة بين الصدر والذيل ، مع أنّه ليس كذلك أصلا.

وذلك ؛ لأنّه أمّا الصدر فهو راجع إلى بيان حكم كلّ من الإمام والمأمومين بأنفسهم ، من حيث ما يعتبر بينهم من المقارنة والاتّصال ، وليس متعرّضا لما بين الصفوف لأمرين :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤١.


أحدهما : أنّه قوله عليه‌السلام : «ما لا يتخطّى» من جهة كونه نكرة في سياق النفي يدلّ على عدم إمكان التخطّي كليّا ومن المعلوم أنّ ذلك يصير أزيد من مقدار ذراع الشاة حيث إنّ الخطى المعمولة تكون أزيد من ثلاثة أرباع الذراع ـ أي مع احتساب محلّ القدمين ـ فحينئذ ما لا يتخطّى أبدا لا بدّ وأن يكون أزيد من الذراع.

ثانيهما : أنّه لا إشكال في أنّ الحكم المزبور مرعيّ بالنسبة إلى جميع حالات المأمومين ، مع إمامهم الّتي منها حال سجودهم ، ولا يعقل التفكيك بينها ، ففي هذه الحالة أيضا البعد بين الإمام والمأموم وبين أنفسهم مغتفر ، بمعنى أنّه لو كان بين مسجدهم ومحلّ قدم الإمام أو المأمومين أزيد من الذراع ، ولا يمكن أن يتخطّى ، فالجماعة غير متحقّقة لوجود مانع البعد.

هذا بالنسبة إلى الصدر ، وأمّا الذيل فالظاهر منه أنّه روعي التحديد المزبور الّذي قليل جدّا بالنسبة إلى الأوّل ، حيث إنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان» (١) هو اتّصال مسجد المأموم بموقف الإمام وقدمه ، وهكذا المأمومون بالنسبة إلى أنفسهم ، وأين ذلك واغتفار المقدار من البعد؟ [فإنّ] المستفاد من الصدر إنّما يكون موضوع هذا التحديد بين الصفوف ، ولا ربط له بنفس الإمام والمأموم ، والمأمومين بينهم ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «وينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة» (٢) .. إلى آخره ، فعلى هذا ؛ يختلف الصدر والذيل موضوعا وحكما.

والأوّل ؛ لما تبيّن من الاختلاف الفاحش بين التحديدين ، وكون المحدود

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٨.


هو نفس الإمام والمأموم.

والثاني ؛ فلأنّ الصدر ظاهر في الوجوب ، بل التشديد في الحكم ، والذيل ظاهر في الاستحباب. كما استظهروا أيضا ، فارتفعت المعارضة من البين بعون الله تعالى ، بل يقرب التحديد المزبور المستفاد من الصدر إلى التحديد العرفي أيضا.

مع أنّه لا نستوحش من عدم اتحادهما واختلاف العرف والشرع في المسألة أصلا لو لم يرجع إليه ، لما أشرنا [إليه] من أنّ المسألة بخصوصيّاتها ـ وهي كيفيّة صدق الجماعة ـ نظر العرف أجنبيّ عنها ؛ لكونها مفهوما لها مصاديق مختلفة بحسب الأمكنة والدواعي الخارجيّة وغيرها ، فحينئذ طريق إحرازها وأنّها على أيّ نحو اعتبر يتوقّف على بيان الشرع لا غير.

فاتّضح ـ بعون الله تعالى ـ أنّ المسألة لا غبار عليها أصلا ، وأنّ ما أفاده في «الجواهر» (١) في المقام لا وجه له ، من أنّ الرواية على ما يظهر من صدرها معرض عنها ، وأنّه يلزم رفع اليد عنه بذيلها ، وأنّه وردت رواية اخرى منطبقة على مضمون الذيل ، شاهدة على ما استفاده من الرواية الاولى ، وأنّه يلزم في مثل الموارد الرجوع إلى العرف ، فإنّه أمّا مسألة الإعراض فهي دعوى عجيبة ، حيث إنّ التزامهم على خلاف ما يظهر من صدر الرواية ليس من جهة المناقشة في سندها ، بل من جهة التصرّف في دلالتها وجعل ذيلها الظاهر في الاستحباب مع اشتماله على لفظ «ما لا يتخطّى» أيضا ، كما في الصدر ، وأنّ ما يستفاد منه هو الاتّصال الحقيقي الّذي لا يمكن اعتبار القرب أزيد منه ، فلا محيص من حمله

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٧١.


على الاستحباب ، فجعلوه قرينة على الصدر وأنّ المراد بما لا يتخطّى فيه أيضا ما هو المراد به في الذيل من الاتّصال الحقيقي ، فأنكروا لذلك استفادة الحكم الإلزامي والعزيمة من الرواية.

مع أنّك قد عرفت فساد هذا الاستظهار جدّا ، وأنّه لا ربط للصدر بالذيل ؛ لاختلاف موضوعهما.

وكيف كان ؛ لا إعراض في البين أصلا ؛ وأمّا وجود رواية شاهدة للاولى وهي صحيحة ابن سنان (١) فلا أصل لهذا الكلام أيضا ؛ إذ لا ربط لها بالمقام ، بل هي في مساق سائر الروايات الواردة بمضمونها في باب القبلة راجعة إليها ، والمراد بلفظه فيها الارتفاع الّذي قدّام المصلّي ، وأمّا مسألة الرجوع إلى العرف فقد عرفت فساده.

ثم إنّ هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى البعد الّذي بين الإمام والمأمومين وبين أنفسهم في الصفوف اللاحقة ، فقد عرفت ظهور الرواية في حكمه ، وأمّا الكلام بالنسبة إلى أشخاص الصفّ الواحد الّذي حكمه المستفاد من الدلالة الالتزاميّة للرواية كما تقدّم ، ومعلوم أنّ البعد بالنسبة إليهم لا بدّ أن يلاحظ من طرف العرض.

فحينئذ ؛ هل يستخرج حكمهم من الرواية أيضا أم لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في هذه الجهة أيضا ، حيث إنّه لمّا كان يستفاد أصل حكمهم من لازم الرواية ، فهكذا يثبت لها ما يتفرّع عليه ، فما يثبت للصفّ المتقدّم والمتأخّر فكذلك بالنسبة إلى الصفّ الواحد فيعتبر البعد بينهم بمقدار ما لا يتخطّى بالنسبة إلى وسط أحوالهم وهو حال القيام أو القعود ، ولا يلزم الدقّة فيه أزيد من هذه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٤٠.


الجهة بأن يلاحظ حال سجودهم أو غيره ، بل يتسامح فيه ، إذ ليس بناء الأحكام على الدقّة العقليّة مطلقا.

إحرام البعيد قبل القريب في الجماعة

بقي الكلام بالنسبة إلى إحرام البعيد قبل إحرام القريب الّذي به يتحقّق الاتّصال المعتبر ، فهل يعتبر تأخّره عنه ، أم لا ، بل يكفي نفس تهيّؤ القريب وإشرافه على الدخول في الجماعة؟

الأقوى الثاني ، نظرا إلى أنّه مضافا إلى عدم إمكان حصول الترتيب بين المقدّم والمؤخّر والقريب والبعيد عادة ، خصوصا في الجماعات العظيمة وما فيها الزحام ، فإنّ ذلك ـ أي اعتبار الترتيب في الإحرام ـ أمر عسر حرجيّ [على] أنّه قامت السيرة عليه ، حيث إنّه من عصر المعصوم عليه‌السلام إلى الآن كان البناء في الجماعات دخول اللاحق في الجماعة بتهيّؤ السابق ولم يثبت أنّهم كانوا ينتظرون حتّى يحرم القريب.

نعم ؛ يعتبر أن يكونوا مشرفين على الدخول والإحرام للصلاة ولا يكفي مطلقا انعقاد الصفوف ، ولو كانوا مشتغلين بالتكلّم ونحوه ، فتأمّل!

ثمّ إنّه نقل عن العلّامة البهبهاني قدس‌سره وبعض آخر أنّهم استشكلوا في جواز أن يكون الصفّ اللاحق أطول من السابق (١) ، بحيث يكون البعد الّذي بين ما زيد من المتأخّر وبين الصفّ المتقدّم زائدا على المقدار المغتفر من البعد ، وذلك للجمود على ظاهر الرواية المتقدّمة ، حيث نطقت بأنّه إذا كان البعد بين الإمام

__________________

(١) نقله صاحب جواهر الكلام : ١٣ / ١٧٩ ، مفتاح الكرامة : ٣ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤.


والمأمومين أو الصفوف مقدار ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بصلاة (١).

وأنت خبير بفساده ؛ لما تقدّم من المدلول الالتزامي للرواية ، وحاصله : أنّ البعد المزبور مانع إذا كان بين المأموم ومن يتّصل به بالإمام لا مطلقا ، والمفروض أنّ أشخاص الصفّ المتأخّر كلّهم متّصلون وليس بينهم الفصل المضرّ.

هذا ؛ مع أنّه ولو سلّمنا عدم الاكتفاء بالاتّصال من طرف العرض أنّه لا يصدق البعد المضرّ في المثال ، حيث إنّ الصفّ عبارة عن مجموع ما يكون بين مبدئه ومنتهاه ، فإذا لم يصدق البعد المضرّ بالنسبة إلى قطعة منه ، والصفّ السابق لا يصدق بالنسبة إلى مجموعه ، فلا يحسب القطعة الزائدة من اللاحق على السابق صفّا مستقلّا ، بل هي بعضه ، كما لا يخفى.

والقسم الثاني من شرائط الجماعة أيضا أمران :

الأوّل : أنّه يعتبر عدم علوّ مكان الإمام ومحلّ صلاته على محلّ المأموم ، والدليل عليه موثّقة عمّار (٢) الّتي لا مجال للمناقشة في سندها أصلا وإن كانت من حيث المتن والدلالة مضطربة جدّا.

ولا يخفى أنّه من سوء تعبيرات عمّار كما يكون كذلك أكثر رواياته ، مع ما فيها في المقام من اختلاف النسخ في فقرة منها وهي قوله عليه‌السلام : «وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ ، إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» (٣) .. إلى آخره ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ وفيه : تلك بدلا من : ذلك.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤٢.


فإنّها رويت على وجوه أربعة ، كما نقلها في «الجواهر» (١).

وكيف كان ؛ فالّذي ينبغي أن يقال : إنّه لا يجوز العلوّ أزيد من مقدار الشبر ، وأنّه لو كان مكان الإمام مرتفعا أزيد تبطل الصلاة ، وذلك ؛ لأنّ القدر المتيقّن من الرواية والمجموع المتحصّل من تمام النسخ المنقولة اعتبار عدم العلوّ بالمقدار المزبور ، وأنّ الزائد على الشبر مانع ، وأمّا بالنسبة إلى الشبر وأقلّ منه فمن الرواية لا يستفاد شي‌ء ؛ لإجمال الفقرة المذكورة من جهة الاختلاف المزبور ، مع أنّ بعضها لا يستقيم أصلا ، كما أنّه بالنسبة إلى الجملة المتقدّمة على محلّ الخلاف بناء على أن يكون بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ ، فإنّ مثل هذا التعبير بعيد عن ساحة المعصوم عليه‌السلام ، خصوصا من جهة التعبير بالإصبع حيث إنّ الأقلّ من عرض إصبع لا يناسب المقام ، وإن كان توهّم بعض [أنّ] المراد به طول الإصبع (٢) ، وهو كما ترى.

مضافا إلى أنّه لفظة «إن» ليست معلومة أنّها وصليّة أو شرطيّة ، مع أنّه على الشرطيّة ـ كما هو الأظهر ـ لا جواب لها ، فحينئذ مقتضى الصناعة أن يقال : لا بأس بالارتفاع الأقلّ من الشبر نظرا إلى إطلاق أدلّة الجماعة ، لو كان إطلاق يتمسّك به بالنسبة [إلى] الشكّ في الشروط الغير العرفيّة ، وإلّا فمقتضى قاعدة الاشتغال الّتي أشرنا إليها غير مرّة ، الاحتياط.

وأمّا الزائد على الشبر فلمّا كان القدر المتيقّن الّذي يستفاد من الرواية هو الشبر ، بل الأقلّ فهو مضرّ يبطل الجماعة ، حيث إنّ مقتضى صدر الرواية أنّه لا

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٧.

(٢) التنقيح الرائع : ١ / ٢٧١ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٩.


يجوز أن يكون موضع الإمام أرفع من المأموم مطلقا إلّا بالمقدار الّذي استثني ، وقد عرفت أنّ القدر المتيقّن هو ما دون الشبر ، فحينئذ بالنسبة إلى الشبر وما زاد عليه لا ينبغي التأمّل في عدم جوازه حسبما هو المستفاد من مجموع الرواية والأصل أيضا.

هذا كلّه ؛ في العلوّ الدفعي والتسريحي بل التسنيمي الّذي هو كصفحة الجبل الملحق به ، وأمّا في الانحداري فلا بأس به ، كما هو صريح الرواية.

هذا ؛ ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما البحث في عكس المسألة ، وهو ما لو كان مكان المأموم أرفع من الإمام ، فهو في الجملة أيضا ممّا لا ريب في اغتفاره ، بل ولو كان كثيرا كما هو أيضا صريح الرواية ، ولكنّ الإشكال في حدّ الكثرة المغتفرة ، فإنها ربّما تبلغ إلى حدّ يضرّ الوحدة العرفيّة المعتبرة في صدق الجماعة ، فهل يلتزم باغتفارها عملا بإطلاق الدليل أو لا؟ مجال التأمّل ـ بل ولو لم تبلغ إلى الحدّ المزبور ـ واسع ، والاحتياط في المقام لا ينبغي تركه ، والله العالم (١).

متابعة المأموم الإمام في الجماعة

الأمر الثاني : الّذي يمكن عدّه شرطا عرفيّا أيضا هو وجوب المتابعة ، فاعتبار متابعة المأموم للإمام في الجملة ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الإشكال في أصل كيفيّتها وبعض صغريات المسألة ، فينبغي أوّلا البحث في مدرك المسألة ودلالتها حتّى يتّضح الأمر.

__________________

(١) ولمّا وصل التحرير إلى هنا توفّيت والدتي رحمها الله وكان ذلك في عشر من ذي القعدة ٤٧ [ه ق] ، «منه رحمه‌الله».


فنقول ـ ومن الله التوفيق ـ : إنّ الأصل في ذلك النبويّ المتلقّى بالقبول عند الأصحاب وعلمائنا ـ قدّس الله أسرارهم ـ على اختلاف ما فيه من النسخ ، حيث إنّه روي كذلك على رواية أنّه «إنما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به» (١) وفي اخرى اضيف إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا» (٢) وفي ثالثة اضيف إليها أيضا : «وإذا كبّر فكبّروا» (٣).

فالبحث يقع أوّلا في معنى المتابعة وأنّها كيف تتحقّق ، هل يعتبر تقدّم الإمام زمانا في كلّ ما يصدر عنه على المأموم ، أم يكفي عدم تأخّره عنه؟ بحيث يكتفى بمقارنة كلّ ما يصدر عنهما زمانا.

وثانيا : في أنّه على أحد المعنيين هل يعمّ اعتبار ذلك بالنسبة إلى الأفعال والأقوال مطلقا ، أو يختصّ بالاولى ، أو يعمّ الثانية أيضا في الجملة كما بالنسبة إلى الأقوال المسموعة؟

ونقول : أمّا الكلام بالنسبة إلى صدر الحديث ـ وهو مسألة الائتمام والاقتداء مطلقا مع قطع النظر عمّا في ذيله من المثال ـ أنّه تارة ؛ يقع في الأفعال الصادرة عن الإمام بلا أن يكون شركة بينه وبين المأموم. واخرى ؛ في الأفعال المشتركة بينهما ، أمّا بالنسبة إلى الاولى فلا خفاء في أنّه لمّا كان إيجاد الفعل بيد الإمام فلا بدّ وأن يتبعه المأموم في أصل إيجاد الفعل ولا تصل النوبة إلى البحث في كيفيّة الصدور وأن يقال : إنّه من جهتها يتبعه ، إذ المفروض أنّه لا موضوع في

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٢٥ الحديث ٤٢.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٦ الحديث ٨٤٦ ، بحار الأنوار : ٨٠ / ٣٠١ الحديث ٢.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ١٨ باب ائتمام المأموم بالإمام.


البين حتّى تعرضه الأحوال المختلفة ، فلا محيص حينئذ من اتّباعه في أصل الوجود ، ولازم ذلك أن يتأخّر عنه في الإيجاد.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني ؛ فلا يعتبر ذلك حيث إنّ المفروض اشتراك الإمام والمأموم في أصل الإيجاد ، فتنحصر حينئذ المتابعة في الكيفيّة فقط ، ومن المعلوم أنّه يكفي في ذلك عدم تقدّم المأموم في الإيجاد ، بل إذا أوجده مقارنا يصدق ذلك أيضا.

هذا ؛ هو مقتضى الصدر ، ولكن قد يقال : إنّ التفصيل وإن كان في حدّ نفسه تامّا إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنه لما ذكر في ذيل الحديث ؛ لمكان أنّ الأمثلة المذكورة لمّا كانت ذكرت على نحو القضيّة الشرطيّة المؤدّاة بصيغة الماضي الدالّة على النسبة التحقيقيّة ، فيلزم تقدّم أفعال الإمام على المأموم مطلقا ، إذ النسبة التحقيقيّة الّتي هي مدلول الشرط ؛ صدقها يتوقّف على ذلك ، أي تقدّم الشرط على الجزاء زمانا.

هذا ؛ ولكن أصل التفصيل وهكذا الإشكال عليه فاسد ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم صدق التبعيّة في الوجود إلّا مع التأخّر الزماني بين التابع والمتبوع إنّما يتمّ لو انحصر المترتّب به ، مع أنّا نرى خلافه بالوجدان في التكوينيّات ، حيث إنّه لا إشكال في الترتّب بين العلل ومعلولاتها الخارجيّة وصدق تبعيّة كلّ موجود بالنسبة إلى معدّاتها ، بل هي أظهر التبعيّة ، مع أنّه لا تخلّل بينها زمانا أصلا ، بل في الخارج يتحقّقان في عرض واحد ، وإنّما الترتّب بينهما والتبعيّة رتبيّة ، فهكذا نقول بالنسبة إلى تلك القضيّة الشرعيّة ، وأنّه لا يتوقّف صدق الائتمام وتبعيّة المأموم على صدور الفعل عن الإمام سابقا في الخارج ، بل يكفي فيما إذا كان


مستند إيجاد المأموم إيجاد الإمام ذاك الفعل ؛ إذ ليس ذلك أزيد من العلل والمعلولات في التكوينيّات ، فيصدق التبعيّة (الائتمام) والاقتداء ، ولو كان الإيجادان مقترنين زمانا ، وتكون العليّة والمعلوليّة محفوظة ، بأن يكون استناد فعل المأموم فعل الإمام ، كما إذا علم وأحرز أنّه سيوجد الإمام الفعل الفلاني فشرع المأموم بإيجاده أيضا مقارنا له.

فعلى هذا ؛ لا فرق بين القسمين ، ولا دلالة لصدر الرواية إلّا على لزوم حفظ الائتمام وأنّه لا يجوز أن يسبق المأموم الإمام ويتقدّم عليه مطلقا.

وأمّا الثاني ؛ وهو مسألة استفادة لزوم حفظ الرتبة الزمانيّة بين فعلها عن ذيل الرواية فمنشؤه توهّم دلالة القضيّة الشرطيّة على الزمان ، وأنّه لمّا كان الشرط فعلا ماضيا فلا بدّ من تحقّقه قبل تحقّق الجزاء ، ولكنّا قد حرّرنا فساد ذلك في بحث الاصول ، وأنّه لا دلالة للفعل على الزمان أصلا.

نعم ؛ الزمان من اللوازم العقليّة للأفعال ، مثلا : الفعل الماضي لمّا كان دالّا على النسبة التحقيقيّة فلازمه وقوعه في الماضي ، وهذا ليس إلّا في القضايا الخبريّة.

وبالجملة ؛ القضايا الشرطيّة مسوقة لبيان الارتباط بين الشرط والجزاء فقط ، وليست إناطة من حيث الزمان في البين ، فحينئذ يجري هنا مثل ما تقدّم من أنّه لا يعتبر في الشرط والجزاء أيضا إلّا حفظ الرتبة بينهما ، بأن يكون مستند وجود الجزاء وجود الشرط.

ومن المعلوم ؛ أنّ ذلك يصدق ولو اقترنا زمانا ، ولكن كانت جهة العليّة والمعلوليّة محفوظة ، وهذا سرّ ما بنينا في باب الشروط مطلقا ، بل هو المتسالم


عند الأصحاب أيضا من أنّه لا يعتبر تحقّق الشرط قبل المشروط زمانا ، بل يمكن إيجادهما مقارنا كما في مسألة شرطيّة الوقت للصلاة حيث إنّه يجوز الدخول فيها ، ولو في الآن الأوّل الحقيقي للوقت ؛ مثل زوال الظهر.

وعلى هذا ؛ تتطابق القضيّة الشرطيّة الّتي في ذيل الرواية مع ما في صدرها ، وأنّه لا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا ركع فاركعوا» (١) .. إلى آخره ، إلّا أن يكون مستند ركوع المأموم ركوع الإمام وتبعيّته فلا يجوز تقديمه عليه ، وأمّا أنّه يعتبر تأخّره عنه فلا دليل عليه ، فصدر الرواية وذيلها متوافقان ، كما أنّه لا دليل عقلا أيضا على اعتبار التأخّر.

وأمّا ما يستدلّ له بما دلّ على اعتبار التأخّر بالنسبة إلى تكبيرة الاحرام ففيه ـ مع ما في دلالته بالنسبة إلى نفس تكبيرة الإحرام كما ستعرف ـ : أنّه لا مجال لمقايسة الأفعال بها ، حيث إنّه لو سلّمنا فيها فإنّما هو لعدم انعقاد الجماعة بعد ، فما لم يحرز تلبّس الإمام بالصلاة خارجا ولم يدخل فيها لم يصدق الاقتداء.

ولا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الدليل على التكبيرة ذيل هذه الرواية العامّية ، كما أشرنا إليها (٢) ، وأنّه مشتمل عليها على بعض النسخ ، أو الدليل الآخر.

ودعوى أنّه بناء على الأوّل واستفادة اعتبار التأخّر من ذيل الرواية ـ لا محيص من الالتزام به بالنسبة إلى الأفعال أيضا ، لأنّ مساق الرواية واحد ـ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٠ / ٣٠١ الحديث ٢ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٢٠١ ، رياض المسائل : ٣ / ٣٧.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١٨ ، راجع! الصفحة : ١٧٧ من هذا الكتاب.


فاسدة ، لأنّه أوّلا ؛ الرواية على ما رواها أصحابنا (١) غير مشتملة على هذا الذيل إلّا نادرا ، وثانيا ؛ لما عرفت من الفرق ، فتأمّل!

هذا حال الأفعال وحكمها وأمّا الأقوال ؛ فالظاهر أنّ فيها التفصيل ، أمّا بالنسبة إلى تكبيرة الإحرام فقد استدلّ على اعتبار التأخّر فيها وأنّه لا يجوز التقديم بل ولا المقارنة ، برواية «قرب الإسناد» قال عليه‌السلام فيها : «لا يكبّر إلّا مع الإمام فإن كبّر قبله أعاد» (٢) وهذه الرواية وإن كانت مشتملة على ما هو خلاف الإجماع ظاهرا من جهة أنّ التكبيرة قبل الإمام توجب عدم انعقاد الجماعة لا بطلان أصل الصلاة حتّى تجوز الإعادة.

ولكن هذه الجهة لا تضرّ بها ، إذ كثيرا ما تكون رواية معرض عنها بالنسبة إلى بعض فقراتها ، ولا يوجب سقوطها عن الاعتبار رأسا ، بل لا يزال بناؤهم على التمسّك بأمثالها.

نعم ؛ إنّما الإشكال في دلالتها ، فإنّها بظاهرها ليست دلالتها أزيد ممّا تقدّم في الرواية العاميّة ، وأنّه لا يجوز تقدّم تكبير المأموم على الإمام.

وأمّا حديث «المحاسن» المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ ظاهره يقتضي ذلك لمكان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وإذا قال إمامكم : الله أكبر ، فقولوا : الله أكبر» (٣) إلّا أنّ استفادة الحكم الإلزامي منه مشكل ، لا لاشتمال الحديث على الأحكام الغير الإلزاميّة ، إذ ذلك لا يوجب رفع اليد عن سائر فقرات الحديث إذا كانت ظاهرة في الإلزام ،

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ١٣ / ٢٠١.

(٢) قرب الإسناد : ٢١٨ الحديث ٨٥٤ ، وسائل الشيعة : ٣ / ١٠١ الحديث ٣١٣٣.

(٣) أمالي الصدوق : ٢٦٥ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٤٢٣ الحديث ١١٠٧٥ ، وفيه : المجالس بدلا من : المحاسن.


بل لأنّ الظاهر منه صدرا وذيلا أنّه مسوق لبيان الأحكام الاستحبابيّة مطلقا ، فحينئذ لا دليل نقلا يقتضي اعتبار تأخّر تكبيرة المأموم عن الإمام ، وعدم الاكتفاء بتلبّسه بها.

نعم ؛ نظرا إلى الشبهة العقليّة وأنّه ما لم يصدر التكبيرة عنه لم يتحقّق الإمامة بعد ـ ولعلّ لذلك أفتى جماعة من الأساطين باعتبار التأخّر للاحتياط شديدا (١) ـ عدم [جواز] شروع المأموم بالتكبيرة إلّا بعد شروع الإمام بها ، والأولى منه عدم إتيانه بها إلّا بعد فراغه عنها ، والله العالم.

هذا ؛ بالنسبة إلى تكبيرة الإحرام. وأمّا بالنسبة إلى سائر الأقوال فقد اتّضح حكمها منها ، وأنّه لا بأس بتقدّم المأموم الإمام بالنسبة إليها ، إذ لا دليل على المنع بل السيرة وغيرها مثل رواية الحلبي الّتي مضمونها : أنّه إذا كان الإمام يطيل في تشهّده لا بأس للمأموم أن يخفّف ويسلّم (٢) ، يدلّ على الجواز ، وليس شي‌ء يقتضي من الشبهة الجارية في التكبيرة للافتتاح ، حملها على ما إذا كان ذلك لحاجة ، أو أنّ المراد أن يقصد المأموم الانفراد وأمثال ذلك ، ممّا هي مخالفة للظاهر.

التأخّر كثيرا في الائتمام

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى تقدّم عمل المأموم على الإمام ، وأمّا من حيث التأخّر فهل يجوز ذلك زائدا عمّا يصدق عليه البعديّة عرفا ، أم لا؟

ثمّ إنّه بناء على عدم الجواز هل تبطل الجماعة به أم لا؟ المسألة في غاية

__________________

(١) مفاتيح الشرائع : ١ / ١٦٢ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٢٠٨ ، رياض المسائل : ٣ / ٣٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٣ الحديث ١١٠٤٨.


الإشكال والاضطراب ، حيث إنّ المنقول عن الشهيد قدس‌سره أنّه لا يفوت القدوة بفوات ركن أو ركنين عندنا (١) ، مع أنّه ـ كما ذكروا ـ بناء المشهور على التفصيل في المسألة ، من حيث عدم البأس بالتأخّر في الجملة ، وحرمته إذا كان فاحشا ، وكونه موجبا للبطلان إذا بلغ إلى مثابة يضرّ بصدق المتابعة عرفا.

والتحقيق : أنّه أمّا بالنسبة إلى الركوع مطلقا عدم جواز التأخير ؛ لما دلّ عليه الروايات الكثيرة ، مثل ما في «الدعائم» (٢) وصحيحة معاوية بن عمّار (٣) وصحيحة زرارة (٤) الّتي مضمونها بجملتها : أنّه إذا لم يمهله الإمام القراءة يؤخّرها ويدرك الركوع ، وهكذا السورة.

ومعلوم ؛ أنّه ما لم يكن إدراك الركوع واجبا شرعا لم يجز ترك السورة لأجلها ؛ إذ هو ليس أمرا مضطرّا إليه خارجا ، وحملها على خصوص الركوع الأوّل حتّى يدرك ركعة من صلاة الإمام لا دليل عليه ، ولا وجه له أصلا ، كما لا يخفى.

وأمّا مسألة الشرطيّة بالنسبة إلى الأفعال ـ ركوعا كان أو غيره لنفس الصلاة بمجموعها أو الجزء الفائت حتّى يوجب عدم إدراكه بطلان خصوصه ـ لا دليل عليه أصلا ، خصوصا الأخير ، حيث إنّه مع عدم كون الجماعة بالنسبة إلى الصلاة من قبيل الاستغراقي الانحلالي ؛ بل هي من قبيل العامّ المجموعي ، فحينئذ فهذا الاحتمال ساقط رأسا ، مضافا إلى وجود الدليل على عدم اعتبار

__________________

(١) البيان : ١٤٤ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ٢٢٤ ، مع اختلاف يسير.

(٢) دعائم الإسلام : ١ / ١٩١ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٨٩ الحديث ٧٣٣٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٨ الحديث ١٠٩٧٨ ، وفيه : معاوية بن وهب.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٨ الحديث ١٠٩٧٧.


الإدراك مطلقا ، كما يستفاد ذلك من بعض الفروع المتسالم عندهم ، كما دلّ الدليل عليه أيضا ، مثل ما إذا سبق المأموم الإمام في الركوع عمدا فيجب البقاء عليه حتّى يلحقه الإمام ومثل ما بنوا عليه في صلاة الجمعة من أنّه في حال السجود لو لم يمكنه أن يقوم مع الإمام وبقي على حاله حتّى فرغ الإمام من الركعة التالية ولحقه في سجود الثانية يقتدي به في السجدة الّتي بيده ، ويجعلها الاولى لنفسه ، فيحسب ذلك له ركعة تلفيقيّة.

ومعلوم ؛ أنّ لازم ذلك فوات ركنين له ، من سجدتي الركعة الاولى والركوع الثاني ، فإذا كان المفروض بقاء القدوة بعد ، فحينئذ أي التأخّر الفاحش يبقى حتّى يكون موجبا لبطلان الجماعة أو أصل الصلاة؟ وشيخنا قدس‌سره لمّا رأى أنّه لا يمكن الالتزام بأحدهما فعدل ، وجعل التبعيّة شرطا للجزء ، وقد عرفت أنّه غير معقول.

مضافا إلى أنّه دلّ الدليل على عدمه ؛ لما سمعت فيما لو تقدّم على الإمام في الركوع يلزم البقاء حتّى يلحقه الإمام ، فلو كان الجزء المسبوق به باطلا فما معنى لزوم البقاء؟

وبالجملة ؛ فالاحتمالات الثلاثة بأن تكون التبعيّة شرطا لأصل الصلاة ، أو للجماعة ، أو للجزء فقط ؛ باطلة ، لما تقدّم ، مضافا إلى ما سمعت من دعوى الشهيد الإجماع على عدم فوات القدوة بفوات ركن أو ركنين (١) ، فلا يبقى إلّا احتمال رابع ـ كما وقع في كلام الشيخ قدس‌سره أيضا ـ وهو أن يكون لزوم الاتّباع وعدم

__________________

(١) البيان : ١٤٤ ، الدروس الشرعيّة : ٥٧ ، مع اختلاف يسير.


التخلّف بالسبق أو التأخّر زائدا عمّا يغتفر عرفا حكما تعبّديا (١) ، وهو الحقّ.

وذلك : لما تقدّم في أوّل الباب من أنّ الأصل في المسألة هو النبويّ (٢) ، وهو لا يدلّ على أزيد من ذلك ، ولا يستفاد منه الشرطيّة أصلا ، لأنّه وإن بنينا في محلّه من أنّ الأوامر والنواهي الواردة في الماهيّات المركّبة منقلبة عمّا هو الأصل فيها من الدلالة على الحكم النفسي ، بل ظاهرها الشرطيّة والمانعيّة فيها. إلّا أنّ ذلك إنّما يكون فيما إذا كان الحكم والأمر والنهي متعلّقا ابتداءً بشي‌ء في مركّب عباديّ أم معاملي ، والمقام ليس كذلك ، بل الأمر الأوّلي هو نفس الائتمام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا ركع فاركعوا» (٣) .. إلى آخره ؛ من توابع الأمر الأوّل ، ولا يستفاد منه إلّا لزوم هذا الأمر ، أي المتابعة في الجملة ، وعدم التخلّف عن الإمام بالسبق أو التأخّر الفاحش ، فهذا نظير توابع التبعيّة ، حيث إنّه إذا تحقّقت المتابعة فنفسها تقتضي العمل بآثارها ، ومع ذلك فإذا ورد أمر أو نهي عليها لا تكون هي تكاليف نفسيّة ، بل من قبيل الإرشاد إلى ما تقتضيها نفس المتابعة ، فلا يترتّب عليها ما يترتّب على الأوامر والنواهي النفسيّة أي المنشأة ابتداءً ، فتأمّل!

فالحاصل : لا دليل على اشتراط المتابعة أصلا ، بل قد سمعت أنّ الدليل على خلافه ، وغاية ما دلّ عليه الدليل ـ وهو النبوي ـ كون لزوم المتابعة واجبا نفسيّا وحكما تعبديّا ، فحينئذ التخلّف عن الإمام بأيّ مقدار يكون لا يضرّ بالصلاة أو الجماعة بوجه ، كما عليه أساطين الفقهاء أيضا.

__________________

(١) المبسوط : ١ / ١٥٩.

(٢) تقدّم في الصفحة : ١٧٧ من هذا الكتاب.

(٣) سنن ابن ماجه : ١ / ٢٧٦ الحديث ٨٤٦.


بقي الكلام في أنّ اقتضاء هذا الحكم التعبّدي هل هو بطلان أصل الصلاة ، أو الجزء فقط لو خولف ، لكون الجزء الّذي سبق به أو تأخّر منهيّا عنه ، أم ليس اقتضاؤه ذلك؟

قد يتوهّم أنّ المقام لمّا كان من باب الضدّ وأنّ التقدّم أو التأخّر لمّا يوجب فوت الواجب الّذي هو الاتّباع ؛ فمقتضى القاعدة بطلان العمل.

وفيه : أنّ ذلك أوّلا اجتهاد في مقابل النصّ ، لما تقدّم ممّا يدلّ على أنّهما لا يضرّان بشي‌ء.

وثانيا : أنّ المقام موضوعا خارج عن مسألة الضدّ رأسا ؛ لما حرّرنا في محلّه من أنّ ضابطه أن يكون فعل أحد الضدّين والاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الآخر ، وهذا مفقود هنا ، لمكان بقاء القدرة على الاتّباع فيما إذا تقدّم ، بأن يأتي بما تخلّف عنه ثانيا ، وفيما لو تأخّر أصلا لا يصدق المضادّة ؛ إذ المفروض فوات المتابعة ، فلا مضادّة بالنسبة إلى الفعل الّذي يأتي به الآن مع المتابعة الفائتة.

نعم ؛ بالنسبة إلى ما إذا تقدّم ، لمّا كان الدليل الشرعي قائما على عدم الرجوع والاكتفاء به ؛ فلذلك لا يقدر على الإتيان ثانيا ، وهذا من الغرائب لو كان ذلك وجه عدّ المقام من باب الضدّ.

وبالجملة ؛ خروج المقام عن مسألة الضدّ واضح ، ضرورة أنّه إنّما يكون إذا كان الأمران المكلّف بهما زمانا في عرض واحد ، ولا إشكال أنّ ما نحن فيه من هذه الجهة طوليّان ، فعلى هذا ؛ لا يترتّب على التقدّم أو التأخّر سوى الإثم إذا تعمّد فيهما.


هذا كلّه بالنسبة إلى أصل المسألة ؛ بقي الكلام في الفروع الّتي تترتّب عليها ، فإنّه إذا فرضنا أنّه أثم وتقدّم أو تأخّر ، فحينئذ أيّ شي‌ء وظيفته؟ أمّا بالنسبة إلى التأخّر فلا يترتّب عليه شي‌ء ، سوى أنّه يجب عليه المبادرة باللحوق آنا فآنا ، وإنّما الإشكال فيما لو تقدّم ، فهل يجب عليه العود واللحوق بالإمام بالنسبة إلى الجزء الّذي تخلّف عنه ، أم لا ، بل يبقى على حاله حتّى يلحقه الإمام؟

الظاهر أنّه يختلف الحكم في ذلك من حيث العمد والسهو كما عليه جلّ الفقهاء حسبما استظهروا من الأدلّة ، وذلك ؛ أنّه أمّا إذا تقدّم عامدا ـ كما إذا سبق الإمام في رفع رأسه عن الركوع أو السجود ـ فيجب عليه أن يستمرّ على حاله حتّى يلحق الإمام ولا يجوز له العود ، وأمّا لو كان ساهيا فيجب عليه العود واللحوق بالإمام والرفع معه ثانيا.

هذا ما عليه الفتوى ، ولكنّ الإشكال في استفادة هذا التفصيل من أخبار الباب ، فإنّها بظاهر [ها] متباينة ، حيث إنّ جملة منها كرواية عليّ بن يقطين (١) والفضيل (٢) وخبر الأشعري بظاهرها (٣) مطلقة تدلّ على لزوم العود إذا تخلّف ، ورواية اخرى لغياث بن إبراهيم (٤) تقتضي عدم العود ، ولزوم البقاء على حاله مطلقا حتّى يلحقه الإمام ، فهي بظاهرها متعارضة مع الطائفة الاولى.

ولكن الإنصاف أنّه ليس لهذه الرواية كمال ظهور في الإطلاق ، بل الظاهر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩١ الحديث ١٠٩٨٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٠ الحديث ١٠٩٨٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٠ الحديث ١٠٩٨٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩١ الحديث ١٠٩٨٧.


منها بقرينة قوله عليه‌السلام : «إذا أبطأ الإمام» هو العمد حيث المستظهر منها أنّه كان المأموم يزعم ويعتقد أنّ الإمام الآن يرفع رأسه لتماميّة ذكره الّذي كان عادته الإتيان ، فرفع المأموم رأسه عمدا معتقدا أنّ الإمام أيضا يلحقه ، ولكن تخلّف زعمه وأبطأ الإمام ، فحينئذ تصير هذه الرواية ظاهرة في العمد ، فيقيّد بها إطلاق الطائفة الاولى ، مضافا إلى انصرافها بنفسها أيضا إلى السهو لاستبعاد التعمّد بذلك عن المأمومين مع بنائهم على الائتمام والاقتداء.

وبالجملة ؛ فما ذكرنا (١) يمكن أن يكون وجه ما بنى عليه الأصحاب قدّس الله أسرارهم ، ومع الغضّ عن ذلك فنقول : إنّ دعوى الإجماع على هذا التفصيل في المسألة قريبة جدّا ، لأنّه فتوى أساطين الفقهاء وأئمّتهم قديما وحديثا (٢) ، والمخالف جماعة شاذّة من متأخّري المتأخّرين (٣) ، فحينئذ ببركته لا محيص عن رفع اليد عن إطلاق الطائفة الاولى ، فتنقلب النسبة قهرا وإلّا لا يبقى لها مورد لو بني بقاؤها على ظهورها وتقديم رواية غياث عليها تصير مختصّة بغير العامد فيخصّص بها رواية غياث فتصير النتيجة كالأوّل ، فعلى كلّ حال ؛ لا محيص عمّا هو المشهور في المسألة ، فتدبّر!

__________________

(١) من استظهار العمد عن رواية غياث واختصاص الروايات الاولى بالساهي حيث إنّه استفادة العمد منها ببركة ترك الاستفصال ، وهو إنّما يفيد إذا لم يكن في البين انصراف يوجب التخصيص ، وقد أشرنا إلى وجهه ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٢) السرائر : ١ / ٢٨٨ ، ذكرى الشيعة : ٤ / ٤٤٥ ، البيان : ١٣٨ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٢١٢.

(٣) الحدائق الناضرة : ١١ / ١٤٢.


فروع :

ثمّ إنّ هنا فروعا :

الأوّل : قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنّه عدم الفرق بين أنحاء التقدّم على الإمام من أن يتقدّم عليه بالرفع عن الركوع أو السجود ، أو يتقدّم بالوضع والهويّ لهما ؛ لوجود الأخبار بالنسبة إلى كليهما ، ودلالة بعضها على الأوّل والآخر على الثاني (١) ، مضافا إلى عدم القول بالفصل في المسألة ، كما لا يخفى فحينئذ إذا كان التقدّم عمديّا يجب الاستمرار وعدم العود مطلقا وإن كان عن سهو يجب العود ومتابعة الإمام.

الثاني : لو تخلّف فلم يستمرّ فيما إذا سبق بالنسبة إلى الركوع أو السجود عمدا فرجع وأعادهما مع الإمام تبطل الصلاة للزيادة عمدا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون أتى بالذكر أوّلا أو لم يأت ، غايته من الجهتين في الثاني تبطل فتبطل صلاته ، سواء أعاد أم لم يعد.

الثالث : لو تخلّف في صورة السهو الّذي يجب عليه العود ولم يرجع فالظاهر أنّه لا يترتّب على ذلك سوى الإثم ، لما تقدّم أنّ ذلك ليس يجب إلّا للمتابعة الّتي وجوبها ليس شرطيّا ، وأمّا الركوع والسجود فقد تحقّقا ولا فرق بين أن يكون آتيا بذكر الواجب فيهما أم لم يأت به ، بأن تركه سهوا أيضا ، أمّا أصل عدم البطلان مع أنّه ترك واجبا فلما عرفت من أنّ المتابعة واجب نفسيّ ، تركها لا يوجب إلّا الإثم ، والمفروض أنّ وجوب الرجوع هنا لا يجب إلّا لذلك ، وإلّا فالواجب من الركوع أو السجود قد اتي به وهو الّذي تحقّق أوّلا ، فحينئذ ولو كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٠ الباب ٤٨ من أبواب صلاة الجماعة.


ذكرهما فالترك أيضا لا يضرّ بشي‌ء ، لأنّ الرفع تحقّق سهوا ، فهكذا الذكر الواجب ، فلا يجب العود لتداركه ؛ إذ بعد البناء على تحقّق الركوع والسجود فلا يبقى مجال لتداركه.

ومن هنا نقول : إنّه ولو عاد ولحق بالإمام لا يجوز له الإتيان بالذكر في الركوع أو السجود الثاني بقصد الورود والوظيفة الواجبة ؛ لمكان فوات محلّه ، وهذا الّذي يأتي به ثانيا ليس ركوعا صلاتيّا بل لحصول المتابعة.

ودعوى أنّ الشارع نزّل الركوع أو السجود الأوّل منزلة العدم أو جعلهما بمنزلة ركوع واحد مستمرّ ؛ باطلة ، إذ دون إثباتهما من الأخبار خرط القتاد ، حيث إنّها لا تدلّ إلّا على وجوب العود ولو كان ورد ذلك بلفظ (يعود [في] ركوعه أو سجوده) ولكن مع ذلك استفادة التنزيل منها في غاية الإشكال ، وصرف التسمية لا يدلّ على ذلك ، كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّه لا إشكال في أنّه لو شرع المأموم بالعود والإمام في إتيانه رفع رأسه ، لا يجوز له الإتيان بالركوع أو السجود ثانيا لتدارك الذكر الفائت ، ولا يضرّه فوته أصلا ، فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه لو أتى به يأتي بقصد الذكر المطلق.

ثمّ إنّه لا فرق في ما ذكرنا ـ من أنّه لو تقدّم على الإمام في الركوع من وجوب الاستمرار لو كان عن عمد ووجوب الرفع عنه والإعادة مع الإمام ثانيا وأنّه في الصورة الثانية لو لم يرجع وترك المتابعة لا يترتّب عليه سوى الإثم ـ بين أن يكون الإمام فارغا من قراءته أو لم يكن كذلك ، بل كان في أثنائها.

وذلك : لأنّه على كلّ تقدير حينئذ ما ترك إلّا متابعة الإمام في تمام القيام ،


وهو لا يخلو إمّا أن يكون واجبا نفسيّا حال القيام كما هو الأقوى والمشهور أيضا ، وإمّا أن يكون شرطا للقراءة ويعتبر في حالها ، ومن المعلوم ؛ أنّ ترك شي‌ء منهما لا يوجب بطلان الصلاة على الأوّل ، فلما تقدّم من أنّه إذا لم يكن شي‌ء واجبا شرطيّا للصّلاة أو الجماعة تركه لا يضرّ بأحدهما.

هذا ؛ مضافا إلى أنّه إنّما يثبت بالدليل وجوب القيام وجوبا نفسيّا حال القراءة إذا كان المصلّي بنفسه يقرؤها ، وأمّا إذا كان غيره متحمّلا لها فمجال المناقشة في وجوبه حينئذ واسع.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّه قد تحقّق أنّ الإمام كما يتحمّل نفس القراءة عن المأموم هكذا يتحمّل عنه كلّ ما يكون شرطا لها من الطمأنينة والاستقرار وغيرهما.

فعلى هذا ؛ لا يبقى وجه لبطلان صلاة المأموم أصلا ، سواء كان تركه للمتابعة في أثناء قراءة الإمام عن عمد ، بأن ركع قبله عمدا ، أو كان عن سهو ، أو لا ولكن لم يعد ولم يرجع حتّى تحصل المتابعة بل استمرّ على حاله.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أتى به في «العروة» في المسألة ، فإنّه فصّل بين الفرعين واحتاط في بطلان الصلاة في الصورة الثانية ، وفي الاولى قال بأنّه الأقوى على ما يستفاد من عبارته مع ما فيها من الاندماج (١).

وجه الفساد : قد عرفت أنّه على كلّ من القولين في مسألة القيام تركه لا يضرّ شيئا ، مضافا إلى أنّه ما عرفنا وجه التزامه بالتفصيل ، فإنّه إذا كان المفروض

__________________

(١) وفي «النجاة» (وسيلة النجاة : ١ / ٢٥٥ المسألة ٩) تعرّض لهما أوضح ممّا في «العروة» (العروة الوثقى : ١ / ٧٨٦ المسألة ١٢) ، «منه رحمه‌الله».


أنّ المتابعة ولو كان استمرار تركها مستندا إلى الاختيار والعمد ، فحينئذ بناء على الالتزام بالبطلان الفرق بين الصورتين لا مجال له ، كما هو واضح.

نعم ؛ قد يقال : إنّ الوجه في بطلان الصلاة في الصورة المذكورة إنّما هو لفوات الترتيب تعمّدا نظرا إلى أنّه لا إشكال في أنّ محلّ الركوع بعد القراءة ، فلو قدّمه عليها تبطل الصلاة ، فهكذا بالنسبة إلى ما هو بدل القراءة فيعتبر فيها الترتيب أيضا ، ولمّا كان قراءة الإمام بدلا عن قراءة المأموم فلا يجوز له تقديم ركوعه على قراءته أيضا ؛ لاقتضاء التنزيل ذلك ، وإلّا تبطل الصلاة ، كما لو أتى به قبل أن يتمّ قراءة نفسه في صورة الانفراد.

هذا غاية ما يمكن أن يكون مدركا للفتوى المذكورة ، ولكنّه بناء على تماميّته مختصّ بما لو تعمّد في التقدّم من أوّل الأمر لا في الصورة الاولى ، وهو ما لو كان حدوث التقدّم سهويّا ، ولكن كان بقاؤه عمديّا ، حيث إنّ المفروض أنّ فوات الترتيب حينئذ وقع من غير اختيار ، ووجوب العود إنّما هو للمتابعة لا لحفظ الترتيب ، وقد عرفت أنّ تركها لا يوجب إلّا الإثم ، فالاحتياط في هذه الصورة ليس له وجه أصلا ، مضافا إلى عدم تماميّته في حدّ نفسه.

وذلك ؛ لأنّ هذا الوجه مبنيّ على مقدّمات ثلاثة ، واثنتان منها ـ وهما وجوب الترتيب بين القراءة والركوع ، وكون قراءة الإمام بمنزلة قراءة المأموم ـ وإن كانتا تامّتين ، ولكن الإشكال في الثالثة ، وهي لزوم الترتيب بين ما هو بدل القراءة والركوع أيضا ، ومجال منعها واسع ؛ لأنّ غاية ما يقتضيه دليل التنزيل أنّ قراءة الإمام تجزي عن قراءة المأموم وأنّها بدل عن قراءته ، وأمّا أنّها منزّلة منزلتها في جميع الجهات حتّى في لزوم الترتيب بينهما فليس له عموم بهذه


الدرجة ، كما هو واضح ، فلا يبقى إلّا لزوم المتابعة ، وقد عرفت أنّها لا تقتضي شيئا.

وبالجملة ؛ فهذا الوجه أيضا لا يثمر شيئا ، وهكذا ما أشار إليه في «العروة» الّذي يصير في الحقيقة وجها ثالثا ، وهو أنّ التقدّم في أثناء قراءة الإمام لمّا يوجب فوات القراءة بنفسها وبدلها عمدا فلذلك تبطل الصلاة.

وفساد ذلك يظهر ممّا ذكرنا في الوجه الأوّل ، حيث إنّ فوت القراءة ببدلها إنّما يتوقّف على أن يكون قيام المأموم معتبرا عند قراءة الإمام ، وإلّا فلا بدليّة ، وقد عرفت عدم تماميّة ذلك وأنّ الإمام يتحمّل قراءة المأموم بما لها من الشرائط ولذلك يجوز له جرّ رجليه عند قراءته مع أنّ الاستقرار شرط فيها.

فعلى هذا ؛ مقتضى القاعدة في الفروع المتقدّمة ما ذكرنا ، وأنّه لا فرق في التقدّم بين أن يكون قبل تماميّة قراءة الإمام أو بعدها.

ما هو مقتضى القاعدة في المتابعة؟

ثمّ إنّه ظهر من مطاوي ما ذكرنا ما هو الأصل في المسألة ، وأنّ مقتضى القاعدة في صورة التقدّم على الإمام في الركوع أو السجود فيما إذا كان عن سهو ويجب فيه العود ، أيّ شي‌ء هو؟ وقد أشرنا إلى أنّ الركوع هو الّذي يتحقّق أوّلا ، والثاني لا يجب إلّا للمتابعة ، فليس هو ركوعا ولا كلاهما ركوعا واحدا ، فكأنّه استمرار للأوّل ، وذلك ؛ لأنّه ليس لنا دليل يقتضي جواز الرجوع ووجوبه في صورة السهو إلّا الأخبار الخاصّة المتقدّمة وشي‌ء منها لا يدلّ على أحد الوجهين ، حيث إنّ أصرحها هي رواية الأشعري لاشتمالها على قوله عليه‌السلام : «يعيد


ركوعه معه» (١) ، وهذا لا يدلّ على أنّ ما وقع أوّلا هو فعل لغو ، وهو ليس بركوع أو أنّه والثاني الّذي يأتي به ، كلاهما بمنزلة ركوع وكأنّ الفصل لم يقع ، بل غاية مدلول ذلك وجوب إعادة الركوع للمتابعة.

وبعبارة اخرى : ليس مدلول تلك الأخبار إلّا حكم نفسيّ تعبّديّ لا نفي عنوان الركوع أو السجود عن فعل المكلّف (المأموم) فيما إذا تخلّف عن الإمام ، وهكذا قد تبيّن أنّ صدق هذه العناوين على فعل المأموم وصحّتها لا يتوقّف على فراغ الإمام من قراءته ، فحينئذ مقتضى القاعدة إنّما يصدر عن المأموم ويصلح أن يكون ركوعا أو سجودا ، وقوعهما وتحقّقهما سواء كان قبل فعل الإمام أو بعده.

فعلى هذا ؛ في الفروع المتقدّمة ـ أي إذا فرضنا أن يكون ذكره الواجب في الركوع الّذي يأتي به أوّلا أو السجود كذلك فات سهوا ـ فلا يبقى محلّ لتداركه حتّى يقال : إنّه يأتي به في الركوع أو السجود الّذي يعيدهما ، لأنّ المفروض أنّهما ليسا فعلا صلاتيّا ، ولا يضرّ فوت الذكر حينئذ شيئا ، ولذلك لو اتفق أنّه إذا شرع المأموم بالعود والإمام رفع رأسه منهما فلا يجوز له أن يأتي بهما ، ولا يضرّه ترك الذكر شيئا قطعا.

الأفعال المختصّة بالإمام في الجماعة

هذا تمام الكلام في الأفعال الّتي يشترك المأموم فيها مع الإمام ، وقد اتّضح حالها بحمد الله تعالى وهو وليّ التوفيق ، وأمّا بالنسبة إلى الأفعال الغير المشتركة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٠ الحديث ١٠٩٨٣.


والمختصّة بالإمام ، فهل يجري دليل المتابعة فيها أيضا ، أم لا؟

فنقول : إنّ الأفعال المختصّة به على أقسام ؛ فإمّا أن يكون ما يأتي في خارج الصلاة ، وإمّا أن يأتي بها في أثنائها ، وهذا لا يخلو عن وجوه ، فإمّا أن يكون فعل يعدّ زيادة يوجب بطلان صلاة الإمام مطلقا ، أو ليس كذلك ، بل إبطاله مختصّ بما لو أتاه تعمّدا.

ثمّ إنّ ذلك تارة يكون فعلا صلاتيّا مشتملا على زيادة ، واخرى ليس كذلك.

أمّا القسم الأوّل ؛ وهو كسجدة السهو الّتي يأتي بها الإمام بعد الصلاة لحصول موجبها عنه في أثنائها ، فهذا لا إشكال في عدم وجوب المتابعة فيها لعدم الدليل.

وتوهّم جريان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به» (١) .. إلى آخره ؛ فيها ، كما ترى.

وأما في صور القسم الثاني ؛ ففي الاولى منها فالحكم واضح أيضا ، وهو مثل ما إذا زاد الإمام ركوعا في صلاته ، وفي الثانية منها أيضا بديهيّ أنّه لا يجب على المأموم متابعة الإمام ، وهو كما إذا كان الإمام يأتي بسجدة واحدة زائدة سهوا ، أو تشهّد كذلك ، حيث إنّ هذه الزيادة بالنسبة إلى الإمام وإن كانت سهويّة ولكنّها بالنسبة إلى المأموم ـ المفروض أنّه لو أتى بها كانت عمديّة ـ لا دليل على اغتفارها.

وذلك ؛ لأنّه أمّا الأدلّة العامّة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما جعل الإمام إماما». إلى آخره ، فهي ليست بمشرّعة حتّى تكون حاكمة على أدلّة الزيادة ، بل غاية

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٦ الحديث ٨٤٦.


مدلولها أنّه يجب المتابعة بالنسبة إلى الأفعال الصلاتي الّتي هي وظيفة المأموم أيضا فيتبعه فيها.

وأمّا الأخبار الخاصّة المتقدّمة الدالّة على وجوب العود فيما إذا تقدّم على الإمام فهي إنّما تدلّ على اغتفار الزيادة في الصور المذكورة فيها من التقدّم في الركوع أو السجود لا مطلق الزيادة ، فهي أيضا ليست بمشرّعة حتّى تثمر بالنسبة إلى أمثال ما نحن فيه ، كما لا يخفى.

وأمّا الصورة الثالثة ؛ وهي مثل ما إذا كان الإمام يأتي بتشهّد زائد سهوا أو يأتي بقنوت كذلك ، أو كان جزءا واجبا على الإمام فقط دون المأموم ، كما إذا كان المأموم مسبوقا ، بأن كانت له الركعة الاولى أو الثالثة ، وللإمام الثانية أو الرابعة ، فهنا قد يكون خفاء في المسألة من حيث إنّ لزوم المتابعة يقتضي أن يقف المأموم مع الإمام في حال ثبوته ، وهكذا أن يجلس معه في حال التشهّد ؛ لأنّ المفروض أنّه فعل صلاتيّ من حيث إنّه إمّا قيام طال لاشتغال الإمام بالقنوت ، وإمّا جلسة الاستراحة ، وإن لم يكن بخصوص عنوان التشهّد أو القنوت فعلا صلاتيّا ، أمّا بالنسبة إلى كلتيهما كما في صورة سهو الإمام ، وأمّا بالنسبة إلى المأموم خاصّة كما إذا كان مسبوقا ، ولكن من حيث إطالة القيام أو جلسة الاستراحة فعل لهما ، بحيث لا يجوز للمأموم التخلّف عن الإمام مطلقا ، فلذلك قد يستشكل ويتوهّم أنّه يجب على المأموم متابعة الإمام فيهما وإن لم يجز عليه نفس الفعل.

هذا ، ولكنّه فاسد حيث إنّه تقدّم أنّ القيام وهكذا الجلوس الّذي فعل صلاتي أنّهما هما في الجملة لا مطلقا بحيث يكون القيام الّذي يأتي به الإمام من


أوّله إلى آخره فعلا صلاتيّا يجب على المأموم من هذه الجهة أيضا ، بل عدم جواز رفع يد المأموم عنه إنّما يكون لعدم جواز تقدّمه على الإمام إلى الركوع وهكذا من الجلوس إلى القيام.

فعلى هذا ؛ لا يبقى شي‌ء يدلّ على لزوم المتابعة في هذه الصورة ، لأنّه أمّا الأدلّة العامّة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما جعل الإمام» (١) .. إلى آخره ، فقد عرفت أنّها مختصّة بالأفعال المشتركة كما يظهر من صدرها وذيلها ، وأمّا غيرها فالمفروض فقده ، فحينئذ لا يجوز على المأموم في الفروع المذكورة مطلقا التقدّم على الإمام في الركوع أو القيام من جلوس ، وأمّا متابعته في نفس الأفعال فلا.

نعم ؛ بالنسبة إلى المأموم المسبوق وأنّه هل يجب عليه الجلوس في حال تشهّد الإمام منفرجا أو غيره؟ وردت روايات خاصّة (٢) يأتي البحث فيه في أحكام الجماعة إن شاء الله تعالى.

شرائط الإمام

البحث الرابع : في شرائط الإمام وهي امور :

الإسلام والإيمان ، فهما ممّا لا كلام فيهما موضوعا وحكما أصلا.

ثالثها : طهارة المولد ، وهي أيضا في الجملة ممّا لا إشكال ، فإنّ الأخبار وإن لم يرد فيها إلّا مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ خلف ابن الزنا» (٣) إلّا أنّه لا يبعد أن

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٩٢ الباب ٤٩ و ٤١٦ الباب ٦٦ من أبواب صلاة الجماعة.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٢١ الحديث ١٠٧٨٤ مع اختلاف يسير.


يكون المراد بها من لم يعرف حاله ، كما فهم الأصحاب كذلك أيضا ، فحينئذ لا يجوز الصلاة خلف مجهول الحال إذا لم يكن في البين أصل أو أمارة بهما يحرز حاله ، فتأمّل!

رابعها : العدالة ويقع فيها البحث من جهات :

الاولى : أنّه هل المستفاد من الأخبار اشتراطها ، أو مانعيّة الفسق ، أو الاقتراف في المعاصي ونحوهما؟ الأقوى الأوّل ، كما عليه المشهور ، بل كاد أن تكون المسألة إجماعيّة.

وذلك ؛ لأنّه وإن كان في جملة من الأخبار ورد أنّه : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته (١)» (٢) أو أنّه : «قدّموا خياركم» (٣) ونحوهما (٤) ، إلّا أنّه مضافا إلى أنّ المراد بأمثالها أيضا أن يكون موثوقا به في عمله ومتديّنا فيه ، رواية سماعة (٥) الّتي في غاية الاعتبار صريحة في اشتراط العدالة ، وهكذا الإجماعات المنقولة بحدّ الاستفاضة الّتي هي كاف في المسألة ، فتأمّل! بل ولو بني على اعتبار رواية

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٠٩ الحديث ١٠٧٥٠.

(٢) وهي وإن كانت في ذيلها ما يشعر بكون المراد بالعدل في مقابل الإمام الّذي يكون من العامّة إلّا أنّ صدرها مطلقة في أنّ الإمام يعتبر فيه العدالة منّا أو من غيرنا كما فهم الأصحاب كذلك أيضا.

مضافا إلى أنّ الشيخ رحمه‌الله في تهذيبه نقل رواية صريحة في المطلوب (تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٩٣ الحديث ٧٥٥) وقد نقله شيخنا قدس‌سره دلالتها وإن ناقش في الأولى وكذلك الثانية ، بل قوى أنّه في الأخبار ليس ما هو يصرّح بالعدالة ، فراجع! (كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٥٠ و ٢٧٤) «منه رحمه‌الله».

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧٠.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٣ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧٢.


السيّاري (١) يستفاد منها فوق العدالة ، كما لا يخفى.

الثانية : الأقوى أنّ العدالة شرط في الإمام بالنسبة إلى المأمومين لا نفسه ، لأنّها أمر راجع إليهم ولا ربط [لها] بوظائف الإمامة أصلا ، وإنّما يكون في الجماعة ما هو قوام بالنسبة إليه أن يقف في محلّ يمكن للمأمومين أن يأتمّوا به وإلّا فسائر الجهات من شرائط الإمامة والجماعة راجعة إليهم ، فلو لم ير الإمام نفسه عادلا لا بأس عليه بأن يعرض نفسه للجماعة ، ولذلك بناؤهم الالتزام بتحقّقها مطلقا ، حيث لم يثبت أن يشكل أحد في جواز رجوع الإمام إلى المأمومين في شكوكه في الصلاة ، إذ لا يرى نفسه عادلا ، وهكذا في صلاة الجمعة الّتي يكون العدد فيها معتبرا ففيما إذا كان الإمام أحد السبع الّذين بهم يتحقّق شرط الجمعة ؛ فلو لم يكن الإمام يرى نفسه ليس يلتزم أحد بعدم تحقّق الجمعة حينئذ لفقد الشرط ، وغير ذلك من آثار الجماعة.

فمنها يستكشف أنّ العدالة شرط راجع إلى المأمومين ، ويكون أمرا إحرازيّا لا واقعيّا حتّى لو لم يكن في الواقع محقّقا يضرّ بصلاة الإمام أو المأمومين ، كما يدلّ على ذلك ظواهر أدلّة المقام مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق به» (٢) حيث جعل الوثوق به تمام الموضوع ، وكذلك قصّة الصلاة وراء اليهودي من خراسان إلى الكوفة ، كما في رواية ابن أبي عمير (٣) ، صريحة في المطلوب.

وبالجملة ؛ مضافا إلى أنّ الأصل في أمثال المقامات ـ كما سنشير إليه ـ أن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٦ الحديث ١٠٧٧٥ و ٣٤٩ الحديث ١٠٨٧٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧١ ، وفيه : من تثق بدينه.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٧٤ الحديث ١٠٩٤١.


يكون الشرط إحرازيّا لا واقعيّا أنّ الأدلّة الخاصّة في المقام مساعد مع الجهتين : إحداهما : عدم اعتبار العدالة بالنسبة إلى صحّة صلاة الإمام وتحقّق الجماعة ، بل إنّما هي شرط بالنسبة إلى المأمومين.

ثانيتهما : الّتي هي لازم الاولى تقريبا عدم الاشتراط بالنسبة إليهم واقعيّا ، بل شرط إحرازيّ ، لما سمعت من الوجوه ، خصوصا مرسلة ابن [أبي] عمير (١) الّتي بمدلولها شاهدة للثانية ، وببركة ترك الاستفصال للاولى ، فتأمّل!

وأمّا رواية السيّاري (٢) الّتي قد يتمسّك بها لإثبات العدالة الواقعيّة ، فهي ـ مع الغضّ عمّا في سندها ـ رواية مجملة لا يستظهر منها شي‌ء ؛ لمكان أنّ روايته الاولى يستفاد منها اعتبار أمر فوق العدالة ، ولا يلتزم به أحد ، والثانية مجملة رأسا ، لأنّه لم يعلم المراد به بقوله عليه‌السلام : «إن كانت قلوبهم واحدة فلا بأس» أيّ شي‌ء هو؟

هذا كلّه ؛ مع أنّ صلاة الجماعة الّتي ورد الترغيب بها كثيرا غاية الكثرة لا تناسب اشتراط هذا الأمر فيها واقعا لأنّه نادر جدّا أحد يرى نفسه عادلا بينه وبين الله ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه وقع لصاحب «الجواهر» قدس‌سره في المقام كلام لا يخلو من الغرابة ، فإنّه حيث سلّم عدم اعتبار العدالة الواقعيّة في الإمام لعدم كون الإمامة من المناصب الّتي يعتبر فيها العدالة ولا يجوز للفاسق القيام عليها ، قال : بل وكذلك مسألة الإفتاء فلا يعتبر في المفتي أيضا العدالة حتّى فيما لو حصل للمستفتي الظنّ

__________________

(١) مرّت آنفا.

(٢) مرّت آنفا.


بصدق إخباره يجوز تقليده ، وإن كان فاسقا (١).

وجه الغرابة : أنّه أيّ منصب أعظم من مسألة تولّي الإفتاء؟ مع أنّه قال عليه‌السلام لأبان : «اجلس أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» (٢) حيث خصّ عليه‌السلام هذه الوظيفة بمثل أبان.

وأظهر منه ما في «الاحتجاج» عن «تفسير العسكري عليه‌السلام» (٣) ، بل المستفاد من الأوصاف الأربعة المذكورة فيها كون العدالة [شرطا].

هذا كلّه ؛ مع أنّه ليس لنا إطلاق أصلا يمكن التمسّك به في باب التقليد بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن كما لا يخفى.

وهكذا مسألة القضاء فإنّه مضافا إلى كونه منصبا يستفاد من مقبولة عمر ابن حنظلة (٤) صدرا وذيلا أنّ اعتبار العدالة أمر مسلّم ، وهكذا يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ» (٥).

وأمّا باب الشهادة ، فهي لمّا كان من صغريات قاعدة الإحراز فالمناط فيها العدالة الظاهريّة.

توضيح ذلك : أنّه في الموارد (٦) الّتي اعتبر إحراز العدالة وغيرها من

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٨.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣١٥ الحديث ٢١٤٥٢ ، وفيه : اجلس في مسجد المدينة.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٧ الحديث ١٠٧٧٧.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٧ الحديث ٣٣٠٩١ ، وفيه : أو وصيّ نبيّ.

(٦) ما أفاده هنا ـ دام ظلّه ـ وإن أصرّ عليه في موارد اخر أيضا إلّا أنّه من حيث الكبرى والصغرى لا يخلو عن التأمّل كما يظهر بالمراجعة إلى كلمات الأصحاب في مظانّها ، فتدبر! ـ


العناوين مثل المصلحة في التصرّف في مال الصغير أو المسافة في توجّه تكليف القصر ؛ نظر المحرز يكون تمام الموضوع في إثبات الحكم المترتّب على تلك الامور ، لأنّه إذا اوكل عنوان إلى شخص وخوطب به فلازم ذلك عرفا أن يكون إحرازه لذلك العنوان موضوع الحكم ومنشأ الأثر.

ومنها ؛ مسألة عدالة الشهود المستفاد من قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (١) وغيره ، فالمناط فيها العدالة عند المطلّق ، سواء كان هو الزوج أو الوكيل المفوّض إليه ، فلو كان الشهود عنده عدولا يكفي ، ولو لم يحرزه الزوج بنفسه ، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، غايته أنّ هنا الأخبار الخاصّة مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق به» (٢) موافقة أيضا لما تقتضيه القاعدة في أمثاله.

وبالجملة ؛ في الموارد المذكورة لمّا كان اعتبار العناوين مثل العدالة والوثوق والمصلحة ونحوها بما لها من الواقع يوجب الهرج والمرج ولا تستقرّ الامور أصلا ؛ فهي بنفس إحرازها تكفي وتترتّب الآثار عليها مطلقا.

ومن العجب أنّ في «الجواهر» ألحق مسألة الشهود في الطلاق إلى باب

__________________

ـ والظاهر أنّ الأمر مسلّم عندهم بالنسبة إلى باب متولّي الأوقاف وهكذا في باب الأولياء ، وإن عثرنا على مورد نقض بالنسبة إليهم ، فإنّ ظاهر الأصحاب فيما لو زوّج الوليّ الصغيرة من به أحد العيوب السبعة مع العلم والمصلحة أنّه إذا كبرت لها الخيار ، وأمّا في باب الشهود في الدعاوي والمرافعات فبناؤهم مطلقا على أنّه إذا تبيّن فسق الشاهدين نقض الحكم.

مع أنّه يمكن تقريب ما أفاده ـ دام ظلّه ـ بالنسبة إليه أيضا ، حيث إنّه أو كل عنوان أمر عدالة الشهود إلى شخص وهو الحاكم ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(١) الطلاق (٦٥) : ٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧١ ، وفيه : من تثق بدينه.


المناصب واعتبر فيها العدالة الواقعيّة (١) ، مع أنّه أنكرها في المفتي مطلقا (٢) ، كما سمعت والله العالم.

حقيقة العدالة

الجهة الثالثة : في حقيقة العدالة ، وقد نقل فيها أقوال ثلاثة : من كونها الملكة الباعثة على ترك المعاصي أو نفس ترك المعاصي ، ولو لم تكن عن ملكة ، أو الملكة الملازمة مع تركها فعلا.

فهذه الأقوال الثلاثة هي الّتي يمكن عدّها اختلافا وقولا في حقيقة العدالة ، وأمّا القولان الآخران فالظاهر أنّهما ليسا اختلافا فيها ، كما استظهر كذلك شيخنا قدس‌سره ، وغيره من كلماتهم (٣).

من أنّها هي الإسلام ، أو مطلق حسن الظاهر ، إنّما هما اختلاف في طريق العدالة ، كما يدلّ عليه كلمات القائلين بهما ، ففيها شواهد على أنّ من عبّر عنها بهما فليس مراده أنّ حسن الظاهر أو ظهور الإسلام هما نفس العدالة.

هذا ؛ بل نقول : إنّ الأقوال الثلاثة الاولى أيضا راجعة إلى واحد ، وإنّ العدالة ليست إلّا الملكة الباعثة على ترك المعاصي فعلا ، لا أحدهما فقط ، وليس أحد من أصحابنا يلتزم بالتفكيك ، وذلك لأنّه ما أظنّ أحدا يلتزم بأنّ من له ملكة العدالة ولم يكن فعلا مجتنبا عن المعصية باقيا على عدالته ، وهكذا عكسه.

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٩.

(٢) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٨.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٤٨.


فأيضا لا يلتزم أحد بأنّ من لم يكن ذا ملكة ولكن اتّفق أنّه ترك المعاصي برهة من الزمان إما لعدم المقتضي لها أو لوجود الموانع ؛ أنّه عادل ، فمن هنا يستكشف أنّ من عبّر عن العدالة بأحد الأمرين فليس بناؤه على التفكيك ، بل إنّما عبّر بأحد المتلازمين أو وقعت المسامحة في التعبير.

وبالجملة ؛ فالظاهر أنّ العدالة عند الجميع هي عبارة عن كلا الأمرين ، من الباعث ، وهو الملكة ، والمنبعث ، ولا يكتفى بأحدهما.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ صدور المعصية لمّا لا يضرّ بالملكة إذا تعقّبت بالتوبة فيمكن الالتزام بالتفكيك والبناء على أنّ العدالة هي نفس الملكة ؛ ففيه أنّه لا إشكال في أنّ التوبة توجب عدم مضرّيّة المعصية ، وإلّا فما لم يتب العدالة زائلة ، وأمّا إذا تاب فلمّا يصدق الترك فعلا فمحكوم بالعدالة فعلا ، ولكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان تركه سابقا مستندا إلى الملكة ، فالأمران من كلا الطرفين متلازمان ، كما لا يخفى.

فعلى هذا ؛ العدالة عبارة عن قوّة نفسانيّة باعثة للملازمة على التقوى الموجبة للاجتناب عن محارم الله ، والقيام بأوامره عادة ، واحترزنا بالأوّل عن أنّها ليست صرف الاجتناب ، كما أنّه من القيد الثاني يستفاد لزوم الاجتناب عن المعصية فعلا ، وأردنا من الثالث الاحتراز عمّا يصدر عن العباد في بعض الأوقات ما هو الخارج عن العادة البشريّة بحيث يحتاج إلى إكمال نفس فوق العادة يقرب إلى افق العصمة حتّى يحترز الشخص عمّا يتقدّم إليه مثل ما وقع من السؤال والجواب بالنسبة إلى المقدّس الأردبيلي قدس‌سره (١).

__________________

(١) روضات الجنّات : ١ / ٨٩ و ٩٠.


فهنا امور أربعة من أنّ القوّة الّتي تعتبر هي القوّة العادية لا ما يقرب إلى افق العصمة ، وأنّ الامور الّتي لا بدّ من أن يجتنب عنها هي أيضا تكون من الامور (١) العادية بحيث يمكن التحرّز عنها لنوع الناس.

وهذان الأمران وجههما واضح ، ضرورة أنّ العدالة هي الأمر الّذي تعمّ به البلوى كما وردت من الترغيبات الكثيرة بالنسبة إلى صلاة الجماعة وكذلك أمر محتاج إليها بالنسبة إلى سائر المقامات لباب الشهادات للمرافعات والطلاق وغيرها ، فحينئذ لا يمكن أن تكون هي أمرا وجودها كالعنقاء ، بل لا بدّ وأن تكون أمرا تناله اليد غالبا ، فهي من حيث الباعث والمنبعث لا مجال لاعتبارها أزيد ممّا هو مجرى العادة ، بأن تكون المعصية ناشئة عن الدواعي العادية ، فحينئذ يضرّ بالعدالة وإن لم يوجب زوال الملكة ، لأنّها بمرّة واحدة من المعصية لا تزول ، وإلّا جعل العدالة مركّبة من أمرين غلط ، بل تكون هي الملكة فقط.

الأمر الثالث : مسألة اعتبار وجود الملكة فعلا بحيث تزول بالمعصية.

والرابع : أنّها تعود بالتوبة ، فهي توجب بقاء عدالة من كان مسبوقا بالملكة لا مطلقا ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : «التائب عن الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ناظر إلى ذلك أيضا.

وبالجملة ؛ فعلى الملازمة الّتي ادّعيناها بين الملكة والاجتناب الفعلي في حقيقة العدالة وحملنا عليها كلمات الأصحاب أيضا ، فالنزاع في أنّها هي الملكة

__________________

(١) وإن كانت المعصية مطلقا توجب زوال العدالة وإن لم تضرّ بالملكة ، وكذلك لا بدّ من التوبة ، كما هو واضح ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٦ / ٧٤ الحديث ٢١٠١٦ و ٧٥ الحديث ٢١٠٢٢.


الباعثة أو الاجتناب المنبعث عنها يكون بحثا علميّا ، ولا يترتّب عليه أثر عملي.

ثمّ إنّ البحث في استفادة ما ذكرنا من الأدلّة ، فنقول ـ ومن الله التأييد ـ : إنّ الأقوى والأظهر من الأدلّة بالنسبة إلى ما نحن فيه هو رواية عبد الله بن أبي يعفور (١) الّذي هو من أجلّاء الأصحاب ، وقد ورد توصيفه عن المعصوم بما لا يرد لغيره (٢).

وكيف كان ؛ لا مناقشة فيها سندا أصلا ، ودلالتها على المطلوب واضحة المطلوب ، وذلك ؛ لأنّ ظاهر السؤال عن الراوي في صدرها أنّه «بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين؟» .. إلى آخره ، هو السؤال عن «ما» الحقيقيّة على اصطلاح أهل المعقول والاستعلام عن حقيقة المفهوم ، فأجاب عنه الإمام عليه‌السلام أوّلا : «بأن تعرفوه بالستر والعفاف».

ومن المعلوم ؛ أنّ المراد بالستر في المقام ليس الاستتار الظاهري ، بل المراد منه هي الحالة النفسانيّة الّتي يعبّر عنها بالحياء الّذي إذا وجد في العبد يستحيي من الله تعالى فيجتنب عمّا يسخطه ، كما يدلّ على ذلك ما أردفه بقوله عليه‌السلام : «والعفاف» فهذه هي الّتي نعبّر عنها بالملكة ، ثمّ قال عليه‌السلام وعطف عليه قوله : «وكفّ البطن والفرج» والبطن في هذا تتمّة لما سبق ، وأنّه مضافا إلى الصفة النفسانيّة الباعثة على ترك المناهي يعتبر عدم صدورها فعلا اختياريّا ، بأن يكفّ جوارحه عن المحرّمات ، فدلالة هاتين الفقرتين على المطلوب واضحة ، ولا يحتاج إثباته واستظهار أنّ في العدالة يعتبر الأمران إلى مئونة زائدة وتطويل بلا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٢) جامع الرواة : ١ / ٤٦٧.


طائل ، كما صنعه الشيخ قدس‌سره في المقام (١).

ثمّ إنّه عليه‌السلام ما اكتفى بذلك ـ أي بيان حقيقة العدالة وما هو محقّق لها واقعا ـ بل بيّن علامة لها إمّا من جهة اشتمال السؤال عنها أو أنّه عليه‌السلام بنفسه أبدع فقال : «وتعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار» (٢) أي يعرف الأمران بذلك ، فهذه علامة للمعرّف ولا ربط له بالمعرّف أصلا حتّى يشكل الأمر من جهة كونها مخالفة لما ذكره عليه‌السلام أوّلا ، أو غيرها ، كما قد يتوهّم.

هذا تمام الكلام في حقيقة العدالة ، وأمّا مسألة اعتبار المروّة وعدمها فسيأتي البحث فيها.

تحديد الكبائر وبيان الإصرار على الصغائر

بقي الكلام في تحديد الكبائر الّتي انيطت العدالة بالاجتناب عنها ، ولقد أحسن شيخنا قدس‌سره في تحقيق هذه المسألة ، حيث جعل الضابط لها أحد الوجوه الخمسة (٣) فهي الّتي تسلم عن الإشكال طردا وعكسا ، إذ من تقدّم عليه اكتفى ببعضها فحينئذ أورد بعدم الجامع أو عدم المانع (٤) ، فهو إذا جعل جميع الخمسة الّتي ثلاثة منها يرجع إلى تعيّنها بالنصّ الصريح ، وواحدها بحكم العقل ، والآخر بالاستفادة من الدلالة الالتزاميّة من النصّ وهو ما ورد النصّ بعدم قبول شهادة من ارتكبه ، أو عدم جواز الصلاة خلفه وغير ذلك ممّا يعتبر فيه العدالة ، حيث إنّ ذلك

__________________

(١) المبسوط : ٨ / ٢١٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.

(٤) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.


من قبيل عكس النقيض يكشف عن أنّ العمل الّذي ارتكبه يضرّ بالعدالة فيعتبر عدمه فيها.

ومن المعلوم ؛ أنّه حينئذ لا يرد شي‌ء على التحديد كما هو واضح ، فلقد أجاد قدس‌سره حيث رفع الإشكال والاختلاف رأسا (١).

وإنّما الإشكال في تحديد الإصرار بالصغيرة الّتي هي أيضا تضرّ بالعدالة وتعدّ من الكبائر ، كما نصّ عليه الأخبار (٢) ، فهل يعتبر في تحقّق الإصرار تكرّر الفعل خارجا ، بأن يكون باقيا على معناه العرفي ، أو يتحقّق بصرف العزم على التكرّر ، أم يكفي عدم تعقّب الصغيرة بالندم والتوبة؟ فهذه هي الوجوه المحتملة ، والّذي يبدو في النظر هو الاحتمال الأخير لأنّ ترك التوبة معصية فيتحقّق الإصرار بنفسه إذا لم يتعقّب المعصية به.

ولكنّ الإشكال في أنّ وجوب التوبة بحكم العقل أو الشرع ، وليس للشرع تصرّف فيه ، وقد جعلنا في محلّه الضابط للأحكام العقليّة المستقلّة أنّه كلّما كان الحكم منجعلا بالذات ، بحيث كان سائر التكاليف بالنسبة إليه غيريّا ولولاه لم تجب كباب الإطاعة ، حيث إنّها أمر عقليّ لزوم امتثال التكاليف يتوقّف عليها وحكم العقل بها ، ولذلك لا يترتّب عليها من الثواب والعقاب سوى ما يترتّب على نفس التكليف الممتثل وتركه ، فمثل ذلك من الأحكام العقليّة الّتي منجعلة بالذات ، نظير حجيّة القطع وتعلّق الحكم الشرعي بها غير معقول.

فحينئذ مسألة لزوم التوبة إن كانت من شئون الإطاعة ، كما هو الظاهر ،

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٢٩ الحديث ٢٠٦٦٠ و ٣٣١ الحديث ٢٠٦٦٣ ، و ٣٣٥ الحديث ٢٠٦٧٤.


حيث إنّها إمّا من جهة حطّ الذنب السابق بها ، وإمّا من جهة الرجوع بها إلى الطاعة ، حيث إنّ بالمعصية خرج عنها ، وكلاهما من سنخ الإطاعة ولا يترتّب لا على الأوّل ولا على الثاني عقاب على تركه سوى ما يترتّب على الذنب الصادر أوّلا.

وأمّا الاحتمال الثالث بأن تكون التوبة بنفسها مطلوبة حتّى يجب تعبّدا ، فلا دليل عليه.

وبالجملة ؛ فتصير التوبة من المستقلّات العقليّة ، لا من قبيل الصدق الّذي قابل لأن يتعلّق به التكليف المولوي ، فعلى هذا ترك التوبة عن الصغائر ـ لو سلّمنا أنّه يلزم ذلك ـ مع أنّ فيه ما سيجي‌ء من أنّه لا عقوبة على الصغائر يشكل كونه معصية حتّى يصدق الإصرار به الّذي هو المدّعى ، إلّا أن يقال : إنّ صدق الإصرار به لا يتوقّف على كون الترك بنفسه معصية ، بل يكفي لصدقه إمّا استكشافه عن بناء التارك على الاستمرار على المعصية الّتي أتى بها ، وإمّا لتركه ما يستحسنه العقل ويلزم من الرجوع إلى المولى بالتوبة بعد الانقطاع عنه ، فتأمّل!

هذا ؛ مضافا إلى أنّه جملة من الأخبار نطقت بلزوم التوبة من الصغيرة وأنّ تركها إصرار (١) ، حيث إنّ بعضها وإن كان ظاهرها الاختصاص بالكبيرة ، ولكن بعضها مطلقة دالّة على أنّ ترك التوبة إصرار على المعصية ، كما أنّ فعلها ترك الإصرار ، فحينئذ يتحقّق الوجوب الشرعي للتوبة عن الصغائر.

ولكن الإشكال أوّلا : في استلزام الصغائر العقاب حتّى يلزم التوبة ، مع أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٣٧ الباب ٤٨ من أبواب جهاد النفس.


قال الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١).

وثانيا : قد عرفت أنّ ملاك التوبة هو الأمر العقلي الّذي يرجع إلى شئون الإطاعة ، فلا موقع لتعلّق التكليف المولوي به لكونه تحصيلا للحاصل ، فلا بدّ من حمل الأخبار الدالة على لزوم التوبة (٢) على الإرشاد (٣).

ثمّ إنّه يقع الكلام في صدق الإصرار عرفا وأنّه لا بدّ من تكرّر الفعل في الخارج أم يكفي العزم على التكرّر؟

ثمّ إنّ ذلك هل يعمّ العزم على الأعمّ من المعصية الاولى وغيرها ، أو يختصّ بالعزم على الإتيان بنوع المعصية الاولى؟ قد جعل شيخنا قدس‌سره المدار على الأعمّ (٤) ، مع أنه لا يخلو عن الإشكال ، وبالجملة ؛ أصل المسألة بعد يحتاج إلى التأمّل ، والله الهادي.

اعتبار المروءة في العدالة

بقي الكلام في مسألة المروّة وأنّها هل تعتبر في العدالة ثبوتا أم لا؟ وهذا الأمر اعتباره يظهر من كلمات المتأخّرين (٥) ، وأمّا الّذي عليه المتقدّمون فهما

__________________

(١) النساء (٤) : ٣١.

(٢) والّذي يسهّل الخطب ؛ أمّا بالنسبة إلى الشبهة الاولى أنّ التكفير لا يلازم عدم العقاب ، إذ من يطمئنّ بنفسه أنّه يجتنب الكبائر ، وأمّا بالنسبة إلى الثانية ؛ فإنّ عدم وجود الملاك الشرعي للتوبة لا ينافي كون تركها إصرارا تعبّدا ولو لم يكن معصية ، فلا مجال لرفع اليد عن الأخبار ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٣) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٣٧ الباب ٤٨ من أبواب جهاد النفس.

(٤) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦ و ٢٧٠.

(٥) ذخيرة المعاد : ٣٠٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٣٠١.


الأمران اللذان تقدّما من الملكة والاجتناب عن الكبائر (١).

وكيف كان ؛ الشأن في استظهارها من الأدلّة ، وأنّها هل يعتبر في مرحلة الكاشف ، أو هو والمنكشف ، أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه واستفادة بعض السادة الأجلّة إيّاها من رواية عبد الله بن أبي يعفور (٢) ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو البحث عن حقيقة العدالة في مرحلة الثبوت.

وأما المقام الثاني ؛ وهو مرحلة الإثبات وما هو الكاشف عن العدالة ، فنقول : إنّه قد تقدّم في صدر البحث قد يظهر من بعض عبارات القدماء كالشيخ رحمه‌الله أنّ العدالة ثبوتا وإثباتا بمعنى واحد ، وأنّه ليس عبارة إلّا عن حسن الظاهر وعدم ظهور الفسق (٣).

بل قد يستظهر من بعض كلماته : أنّ الأصل في كلّ مسلم هو العدالة ، لأنّها ليست عبارة إلّا عن الإسلام (٤).

ولكنّك قد عرفت في المرحلة الاولى أنّه ليس الأمر كما توهّم ، بل في عباراتهم ما يكون شواهد (٥) أنّ العدالة هي الملكة ، وأنّه لا بدّ من الاجتناب من الكبائر أيضا ، كما هو مذهب الجلّ بل الكلّ ، وإنّما مرادهم في ما ذكر هو في مرحلة الكاشف ، وأنّ الطريق إلى العدالة ليس إلّا حسن الظاهر مثلا وعدم ظهور

__________________

(١) المبسوط : ٨ / ٢١٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٣) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٤) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٥) أحسن ما يكون من الشواهد هو الّذي أوردها قدس‌سره في «الجواهر» في كتاب الطلاق (جواهر الكلام : ٣٢ / ١٠٨ ـ ١١٢) ، «منه رحمه‌الله».


الفسق ، وأنّ إحراز الاجتناب عن الكبائر أو غيرها ممّا سنذكر ، لا يعتبر في إثباتها.

وبالجملة ؛ ينبغي البحث هنا في مفاد الأدلّة أيضا لكونها متكفّلة لهذه المرحلة أيضا.

أمّا جملة من الأخبار بل كثير وإن كانت توافق ما بنى عليه شيخ الطائفة قدس‌سره (١) ، مثل قوله عليه‌السلام : «من صلّى الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير» (٢) أو «فظنّوا به خيرا وأجيزوا شهادته» (٣).

وقوله في رواية اخرى أنّه يقول عليه‌السلام : «إذا كان الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه» (٤) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة (٥) الظاهرة في ما ذكر ، بل في النبوي أنّه : «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء [والأوصياء عليهم‌السلام(٦).

ولكن لا بدّ من الخروج عن هذه الإطلاقات لظاهر رواية ابن أبي يعفور وغيره ، حيث إنّ ذيله بل وما قبله ، وهو قوله عليه‌السلام : «ويعرف ذلك باجتناب الكبائر التي أوعد» (٧) وقوله عليه‌السلام : «والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه بحيث لا يجوز التفتيش [عنه] وإذا سئل عنه [في قبيلته و] محلّته قالوا : إنّا لا نعرف منه إلّا

__________________

(١) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٨٦ الحديث ١٠٦٧٨ ، مع اختلاف يسير.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩٥ الحديث ٣٤٠٤٣ مع اختلاف.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٩ الحديث ١٠٧٨١ ، مع اختلاف يسير.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٣ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة.

(٦) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩٥ الحديث ٣٤٠٤٤ وهو عن الصادق عليه‌السلام.

(٧) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢ ، مع اختلاف يسير.


خيرا» (١) .. إلى آخره ؛ لأنّه بعد أن بيّن الإمام عليه‌السلام حقيقة العدالة فذكر له طريق إثباتها أيضا بما ذكر من الفقرتين بإحراز الاجتناب عن المعاصي وستره عيوبه ، وهكذا غيرها من الأخبار الّتي دالّة على اعتبار الإحراز.

فمن هذه الجهة لا إشكال في المسألة ، إنّما الكلام في أنّ الإحراز اعتباره من باب التعبّد أم من جهة الوثوق؟

وبعبارة اخرى : أنّه مضافا إلى إحراز الاجتناب والستر هل يعتبر حصول الوثوق والظنّ بوجود الملكة أيضا؟ أمّا بالنسبة إلى المقام وعدالة الإمام فالظاهر أنّه يعتبر ذلك ؛ لدلالة قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» (٢) ونحوه (٣) فحينئذ مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد أيضا تقييد الإطلاقات الثانية الّتي ظاهرها الاكتفاء بالإحراز.

نعم ؛ يمكن الدعوى بأنّ مثل هذه الرواية ليست في مقام التقييد ، بل ناظرة إلى التوسعة في باب الجماعة وأنّه يكفي فيها الوثوق بالأمانة ، ولكنّ هذا احتمال لا يوجب رفع اليد عن مقتضى الصناعة.

ثمّ إنّه إذا ثبت ذلك في باب الجماعة يثبت اعتباره في سائر المقامات أيضا لعدم التفصيل في حقيقة الجماعة ، كما لا يخفى.

وبالجملة ؛ فهنا ثلاث درجات بل أزيد من حيث الإطلاق والتقييد ، مقتضى الصناعة والجمع بينها هو أنّه بالنسبة إلى مرحلة الإثبات للعدالة لا بدّ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢ ، مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧١.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٣ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة.


إحراز الاجتناب عن المعاصي وستر العيوب وحصول الظنّ والوثوق.

بقي الكلام في أنّه هل يكتفى في ثبوت العدالة بالفعل ، كما لو رأى أنّه يقتدي عادلان بشخص ، أم لا بدّ من الإشهاد والتعديل باللفظ؟

أمّا بالنسبة إلى المقام ـ أي عدالة الإمام ـ فالأقوى أنّه يكفي العمل والفعل إذا أوجب الوثوق ، ولا فرق بينه وبين القول ، حيث إنّه قد عرفت أنّ ما يعتبر هنا بالأخرة هو الوثوق والظنّ ، فحينئذ لا وجه للاختصاص بسبب دون آخر ، ولكن يشكل الأمر بالنسبة إلى سائر الأبواب كالشهادة ، حيث إنّ ظاهر أدلّتها ولزوم تصديق العادل تصديقه في شهادته وقوله ، كما أنّ أخبار العادل الّذي يلزم تصديقه ظاهرها التلفّظ فآية النبأ (١) لا تدلّ على أزيد من لزوم تصديق النبأ الّذي لا يشمل الفعل.

وأمّا مسألة تعديلات أهل الرجال وتصديق الرواة ففيه بحث عظيم ، والّذي ثبت في وجه حجيّة تعديلاتهم هو كونها من باب الظنون الاجتهادية ، ولا ربط له بمسألة الشهادة.

وبالجملة ؛ أدلّة باب الشهادة قاصرة لأن تشمل التصديق والتعديل الفعلي ، فلذلك تسرية الحكم ممّا نحن فيه إلى سائر الأبواب ممنوع ، إذ مثل ما ورد هنا من أنّه : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته» (٢) لم يرد في سائر الأبواب حتّى يكتفى فيها أيضا بكلّ ما يحصل الوثوق ، وغاية ما تثبت من الاشتراك بين عدالة المقام وسائر المقامات هو أنّها من حيث الحقيقة واحدة ، ولا فرق فيها من

__________________

(١) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٠٩ الحديث ١٠٧٥٠.


حيث إنّها هي الملكة الباعثة على ملازمة التقوى مطلقا ، وأمّا من حيث الطريق وأنّها تثبت بالوثوق مطلقا فلا ، فتختصّ العدالة الثابتة بالفعل بهذا الأثر فقط ، وهو جواز الجماعة ، خلفه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى بوجود دليل في باب الشهادات بكونها تثبت بكلّ ما ينبئ عن الواقع ويكشف عن العدالة وغيرها من الامور ، فتأمّل!

ثمّ إنّه هل يعتبر المروّة في باب العدالة أم لا ، من حيث الكاشف أو المنكشف أيضا؟ هذا الأمر في المقام من المشكلات ، وذلك : لأنّ اعتبارها قد وقع في كلمات المتأخّرين (١) ولم يظهر من القدماء اعتبارهم ذلك في مفهوم العدالة ، مع أنّ الظاهر عدم مساعدة دليل لما عليه المتأخّرون.

نعم ؛ ذكر في ذلك وجها السيّد الجليل محمّد باقر الأصفهاني قدس‌سره في كتابه «الفقه» (٢).

وحاصله : أنّ ظاهر الفقرة الّتي في ذيل حديث ابن أبي يعفور (٣) من أنّه : «والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه» .. إلى آخره ، هو مطلق العيوب أعمّ من العيوب الشرعيّة والعرفيّة ، حيث إنّ عدم الاجتناب عمّا هو قبيح عند الناس من مثل الأكل في السوق ونحوه يكشف عن أنّ الشخص ليس مالكا لنفسه بحيث تقاوم في مقابل مشتهياتها سرّا وعلانية.

فمن هنا يستكشف إنّا أنّ المروّة معتبرة في حقيقة العدالة وأنّ الستر

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٠٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٣٠١.

(٢) لم نعثر على هذا الكتاب.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.


والعفاف الّذي يكون في صدر الرواية هو الستر والعفّة عن مطلق العيوب ، فعلى هذا تعتبر المروّة في كلا المقامين.

وناقش فيه شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأنّ المراد من الستر والعفاف ـ حسبما تقدّم ـ لمّا كان الاستحياء في مقابل المناهي الشرعيّة والعيوب المأثورة لا مطلقا فيكشف من ذلك لمّا عدم اعتبار غير العيوب الشرعيّة بالنسبة إلى مرحلة الإثبات (١) أيضا.

ولكن الإنصاف بطلان هذه المناقشة حيث إنّ ما أفاده السيّد من أنّ الملكة لو كانت محقّقة فلا يفرق بين العيوب الشرعيّة والعرفيّة ، بل لمّا كانت القوّة العقليّة صارت كاملة فتقاوم في مقابل جميع المشتهيات مطلقا ، وإلّا فلا يمكنه الاجتناب مطلقا (٢) ، في كمال المتانة.

مضافا ؛ إلى عموم اللفظ ، بل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في لفظ الستر تخصيص بلا وجه ، فحينئذ الأقوى ما بنى عليه المتأخّرون ، وأنّ العدالة عبارة ممّا تقدّم في المقام الأوّل والمروّة ، وبالنسبة إلى عالم الكاشف أنّه لا بدّ من استكشاف وجود اللجام الإلهي للشخص ، بحيث يردعه عن الإقدام إلى المشتهيات النفسانيّة المخالفة للشرع والعرف بإعانة الله تعالى وهو وليّ التوفيق.

هذا تمام البحث في العدالة ، ولم يبق من شرائط الإمام أمر يحتاج إلى البحث فيه ، إذ الذكوريّة في الجملة والبلوغ واضحان حكما وموضوعا.

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٥٤٨.

(٢) لم نعثر عليه كتابه.


أحكام الجماعة

بقي امور راجعة إلى أحكام الجماعة نذكرها في طيّ مسائل :

الاولى : الأقوى جواز الانفراد في أثناء الجماعة مطلقا ، لأنّه مضافا إلى أنّه موافق للأصل ، إذ لا يتصوّر محذور له بعد أن كانت الجماعة من قبيل العامّ الاصولي لا المجموعي ، حيث إنّ الصلاة مركّب تدريجي ، فهكذا الجماعة شرّعت بالنسبة إليها وليست أمرا يوجب التنويع حتّى يلزم محذور من هذه الجهة أيضا ، بل هي من الخصوصيّات الخارجة عن حقيقة الصلاة وتوجب زيادة الفضل بالنسبة إليها كالمسجديّة ونحوها.

وبالجملة ؛ فالأصل يقتضي جواز قصد الانفراد وتدلّ عليه الروايات (١) مثل : ما ورد في جواز التقدّم على الإمام في التشهّد الأخير ؛ والخروج عن الصلاة بالسلام إذا كان الإمام يطيل تشهّده ، حيث إنّه وإن لم يكن فيها لفظ الانفراد ، ولكن من المعلوم انطباق هذا العنوان على الفعل المذكور قهرا ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى جملة من العناوين في كثير من الموارد ، كما في مسألة الفسخ بالفعل ، وهكذا المعاطاة ومسألة الرجوع في العدّة بالفعل وغيرها من الأمور.

فجميع هذه الموارد ترتضع من ثدي واحد ، بمعنى أنّه إذا كان يؤتى بهذه الأفعال عن قصد واختيار ينطبق عنوان الفسخ والبيع والرجوع عليها قهرا ، بلا احتياج إلى قصد العناوين بخصوصيّاتها ، فهكذا في المقام ؛ لأنّ الخروج عن الصلاة بالسلام قهريّ فالانفراد يتحقّق تكوينا ، فدلالة الرواية على المدّعى واضحة ، من جواز الانفراد اختيارا في جميع الأحوال ، غاية الأمر أنّ في سائر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٣ الباب ٦٤ من أبواب صلاة الجماعة.


الموارد صرف التقدّم والتأخّر بلا قصد الانفراد لا يكفي ، إذ المفروض عدم الخروج عن الصلاة بهما حتّى يكون انطباق العنوان قهريّا ، كما في تلك الصورة.

هذا ؛ فيما إذا عرض له القصد في الأثناء ، أو كان قاصدا من أوّل الصلاة لا على نحو التحديد ، وأمّا لو كان قصده ذلك من الأوّل بنحو يرجع إلى التحديد والتقييد فلا تخلو عن الإشكال ؛ للشكّ في مشروعيّة الجماعة كذلك ، فالاحتياط أن يأتي فرادى من أوّل الأمر.

الثانية : الظاهر أنّه لا إشكال في مشروعيّة الجماعة ابتداءً واستدامة بأن يأتي بعض صلاته منفردا ثمّ يقصد الائتمام من أثنائها ، لما عرفت من الأصل في الجماعة وكيفيّة تشريعها ، فعليه لا فرق بين الصورتين من أن يأتي جماعة الجزء الأوّل من صلاته أو الجزء الآخر منها ، ولما هو مقتضى الدليل الدالّ على جواز الاقتداء في بقيّة الصلاة إلى إمام آخر ، إذا عرض له العذر في الأثناء ، حيث يكون عليه أن يعيّن إماما آخر من المأمومين أو من الخارج.

فلو نوقش بأنّ الأوّل لا ربط له بالمقام ، إذ الإمام اللاحق لمّا كان من جزء الجماعة مع أنّ صلاتهم بمنزلة صلاة واحدة فكأنّ إمامته كانت من أوّل الأمر فلا يصير دليلا لما نحن فيه.

الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الإمام الثاني شخصا خارجيّا هي عين ما نحن فيه ، إذ المفروض أنّه مع إمكان قصدهم الانفراد والإتيان ببقيّة الصلاة منفردا يجوز لهم الاقتداء بالنسبة إليها بإمام آخر اختيارا ، فالمسألة من حيث الدليل لا إشكال فيها ، ولكن لمّا لم يثبت ذهاب الأساطين إليها فالاحتياط لا ينبغي تركه.

الثالثة : صلاة المعاداة لا تخلو عن صور ، فإمّا أن يكون المنفرد ـ أي الّذي


أتى بصلاته كذلك ـ يعيد بأن يصير إماما أو مأموما ، وإمّا أن يكون من أتى بصلاته جماعة يعيدها على أحد الوجهين ، وإمّا أن يكون من أتى بها إماما يريد أن يعيد بأحد الوجهين أيضا ، فالصور ستّ.

فالظاهر ؛ أن الإعادة في جميعها مشروعة ؛ لإطلاق دليلها إلّا فيما إذا كان المعيد إماما كان أتى بصلاته أوّلا أيضا كذلك ، لأنّ في شمول الدليل له تأمّل ، ولكنّ الرواية الّتي مضمونها أنّه ورد شخص في المسجد للجماعة مع أنّها انتهت فقال عليه‌السلام : من يتصدّق على هذا الرجل بأن يعيد صلاته جماعة (١) مع أنّ فيهم من هو شأنه الإمامة مشعر بجواز إعادة للإمام مطلقا.

وبالجملة ؛ ينبغي رعاية أخبار الباب (٢) ، فتدبّر فيها!

الرابعة : المأموم المسبوق بركعة أو ركعتين أو أزيد يجعل الركعات الأخيرة للإمام أوّل صلاة نفسه ، فيأتي فيها بالقراءة كما هو المعروف عندنا بلا كلام ، إنّما الاشكال في أنّه إذا لم يمهله الإمام لإتمام القراءة والسورة ودخل في الركوع يجوز له إتمامها ثمّ اللحوق به ولو بعد الركوع ، أم عليه أن يقطعهما ويتركهما فيدرك ركوع الإمام؟

الأقوى الثاني ؛ لأنّه قد تقدّم في صدر الباب في ما يدرك به الجماعة أنّ المستفاد من أدلّة الباب أنّ للركوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء خصوصيّة بها يجب ادراكه مع الإمام ولا يجوز تأخيره عنه ، فهكذا في المقام وإن كان التزاحم بين واجبين وهما القراءة والمتابعة ، إلّا أنّ مذاق الفقاهة يقتضي ترجيح الثانية ،

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٩٥ الحديث ٧٣٤٥.

(٢) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٩٥ الباب ٤٣ من أبواب صلاة الجماعة.


مضافا إلى دلالة بعض الأخبار عليه أيضا كالمنقول عن «الدعائم» (١) وصحيحة معاوية بن وهب (٢).

__________________

(١) دعائم الإسلام : ١ / ١٩١ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٨٩ الحديث ٧٣٣٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٨ الحديث ١٠٩٧٨ ، إلى هنا تمّت الرسالة.


رسالة الخمس



بسم الله الرحمن الرحيم

خمس أرباح المكاسب

ممّا يجب فيه الخمس ؛ أرباح المكاسب وبقيّة الاستفادات الحاصلة من التكسّبات ، بعد إخراج مئونة السنة منها.

وهنا مسائل ؛ الاولى : في أنّه بعد ظهور الربح يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة ، وبعد فرض تعلّقه بالعين يكون على نحو الحقيّة أم على نحو الملكيّة والاشتراك؟ فإذا وقع معاملة على ما تعلّق به الخمس ؛ هل تكون صحّته مراعاة بإخراج الحقّ منه ، أو يكون صحيحا ، لكن جواز التصرّف للمشتري مراعى بإخراج الحقّ؟

ثمّ بعد فرض كونه على نحو الملكيّة والاشتراك ؛ هل يكون المالك مأذونا شرعا في التصرّفات الواردة على مقدار الخمس ، فإذا باع ما تعلّق به الخمس كان ما قابله من الثمن خمسا ، ويكون مأذونا في التصرّفات في بدله إلى أن ينقضي الحول ، أم يكون المعاملة الواقعة على مقدار الخمس فضوليّا يتوقّف صحّته على إذن الحاكم؟

ثمّ بعد ذلك ، إن ظهر ربح بين المعاملات الواقعة عليه ، يكون من المالك أو من أرباب الخمس؟

الثانية : هل يعدّ من المئونة الّتي تعلّق الخمس بعد إخراجها ، جبران


الخسران الّذي وقع على المالك في الحول أم لا؟

وعلى فرض الجبران ؛ هل يفرق بين أن يكون الخسران في المادّة الّتي حصل منها الربح ، كما إذا كان الربح من تجارة ثمّ وقع الخسران على هذه التجارة ، وبين أن يكون الربح في مادّة ثمّ وقع الخسران على غيرها ، سواء كان مشتركا معها في النوع ، كما إذا وقع الخسران في تجارة اخرى ، أو لم يكن مشتركا معها في النوع ، كما إذا وقع أحدهما في التجارة والآخر في الزراعة ، سواء كان مشتركا في الجنس أم لا ، أو كان الخسران هدم الدار ـ مثلا ـ والربح في التجارة؟

الثالثة : المساكن والمناكح والمتاجر الّتي أحلّ الخمس فيها للشيعة ؛ هل يختصّ بما إذا كان الانتقال من أهل السنّة ، أو يعمّها وما كان من الكفّار أيضا؟

هل يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة؟

أمّا الاولى : فاعلم! أوّلا أنّ وقت ظهور الربح الّذي يعتبر في تعلّق الخمس هو بعد انقضاء الحول ، كما يظهر من الأخبار الّتي دلّت على وجوب الخمس بعد إخراج مئونة السنة (١) ، فإنّ الحال غالبا عدم تعيّن مقدار الربح الّذي يكفي مئونة السنة وزاد عنها إلّا بعد انقضاء الحول ، بل الأغلب عدم حصوله قبل تمامه أيضا.

نعم ؛ لو حصل له في أثناء الحول ربح يقطع بكفاية مئونة السنة مع الزيادة ، فعليه أن يردّ الخمس إن لم يحتمل طروّ الخسران له لا يزيد الزائد عن جبره ، فإن احتمل ؛ فذلك الموضع الّذي فيه يتوسّع وقت الخمس فيصبر حتّى ينقضي الحول وينكشف الحال.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٩٩ الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس.


فانقدح بذلك أنّه لا إشكال في التصرّفات الّتي تقع عن المالك في الأرباح في أثناء السنة ، بناء على عدم حصول ربح يقطع بزيادته عن مئونة السنة ، لعدم تعلّق الخمس بماله في أثناء الحول [السنة].

ثمّ بعد وصول وقت التعلّق فهل يتعلّق بالعين على نحو الحقيّة أو على نحو الملكيّة ، بعد الفراغ عن عدم تعلّقه بالذمّة ، لبعد دلالة الأخبار عليه؟ فظاهر قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) (١) هو كونه على نحو الملكيّة ، لظهور «اللام» فيه ، لكن يعارضه ظهور أنّ تعلّق الحكم بالموضوع في حال ثبوت الموضوع وبقاء عنوانه كما كان قبله ، فإنّه بناء على الأخذ بما أفاده «اللام» من الملكيّة يكون مفاد الآية : أنّ ما ملكتموه غنيمة ينتقل خمسه من ملككم إلى ملك الله ورسوله ، فالموضوع لوجوب الخمس هو ملك الناس ، وبعد تعلّق الحكم لا يكون وصف الموضوع باقيا ، وهو خلاف ما هو ظاهر حال الحكم مع موضوعه ، ولا يعتدّ بما خرج عن هذه القاعدة ، كسوّدت الأبيض وأغنيت الفقير وغيرهما ، لقلّته ولوجود القرينة.

ثمّ بعد تعارض الظهورين لا يبعد تقدّم ظهور حال تعلّق الحكم بالموضوع ، ويحمل على أنّ التعلّق بنحو الحقيّة ، فإنّ مفاد الآية حينئذ : أنّ ما ملكتموه غنيمة فإنّه يتعلّق لله وللرسول حقّ عليه ، كان ذلك الحقّ بمقدار خمسه في حال كونه ملكا لكم ، وبعد منع الرجحان وتساقط الظهورين بالمعارضة فالمرجع هو الأصل ، فيستصحب بقاء ملكيّة المالك ، وثمرة كون تعلّقه على نحو الحقيّة هو صحّة التصرّفات وعدم كون العقد الواقع عليه فضوليّا.

__________________

(١) الأنفال (٨) : ٤١.


نعم ؛ لزومه مراعى على أداء حقّ من له الخمس أو إجازته ، ودعوى إجازة الشارع للتصرّف في هذا المال وانتقال الخمس ـ سواء كان ملكا أو حقّا ـ إلى الذمّة ، غير بيّن البرهان.

نعم ، يمكن الاستدلال عليه برواية أبي يسار الدالّة على تصرّفه في الغوص الّذي أخرجه من البحر ببيعه ، ولذا جاء بثمنه إلى الإمام عليه‌السلام (١).

إلّا أنّ احتمال استجازته من الإمام عليه‌السلام قبل البيع ، أو اختصاص الإجازة العمومي ـ على فرض دلالتها ـ بما يغوص من الجواهرات ؛ لتعسّر إخراج خمسه قبل البيع ، أو عدم تعيّن صحّته قبله ، يبعّد الاستدلال به على ما نحن فيه.

والتمسّك برواية القصب (٢) أضعف ، لقوّة احتمال كون البيع في أثناء السنة وقبل تعلّق الخمس به.

والحاصل : أنّه لا يبعد القول بأنّ الخمس أيضا حقّ يتعلّق بأرباح المكاسب وغيرها ممّا يجب فيه الخمس كالزكاة ، ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ما ذكر ـ الرواية الواردة في من أخرج ركازا فباعه بدراهم وشياه (٣) .. إلى آخره ، فإنّ حكمه عليه‌السلام بصحّة المعاملة واستيفاء الخمس من الثمن الّذي أخذه البائع ظاهر في أنّه على نحو الحقيّة ، وإلّا فاللازم أخذ مقدار الخمس من عين الركاز.

واحتمال انتقال البائع الخمس إلى الذمّة قبل البيع ؛ مندفع بظهور حاله في القصد إلى عدم إخراجه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٨ الحديث ١٢٦٨٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠٤ الحديث ١٢٥٨٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٩٧ الحديث ١٢٥٧٥.


وعلى أيّ حال ؛ فبناء على كون الخمس حقّا متعلّقا بالمال يكون مانعا عن نفوذ التصرّفات الواقعة عليه ما دام الحقّ باقيا ، فلو أوقع المالك على ماله الغير المخمّس عقدا مع تضييق وقت إخراج الخمس وعدم نقله إلى الذمّة ـ بناء على جوازه ـ فتكون صحّة ذلك العقد مراعاة بإخراج الخمس عنه [قبل العقد] ، فلو أخرج كان صحيحا وإلّا لبطل ، فلو وقع على هذا المال عقد واحد من المالك ثمّ أخرج الخمس عنه أو وقع عليه عقود مترتّبة ثمنا ومثمنا ، ثمّ أخرج خمسه فمقتضى القاعدة كون العقود باطلة.

أمّا الصورة الاولى ؛ فلأنّ وقوع العقد حين تعلّق الحقّ غير مجد ، وبعده لم يقع عقد آخر ، فهو كما إذا باع الشي‌ء المرهون ثمّ فكّ رهنه.

وأمّا الصورة الثانية ؛ فيضاف إلى هذه الجهة من وجود المانع عدم المقتضي أيضا بالنسبة إلى العقود اللاحقة ، وهو ملكيّة الناقل والبائع.

ولكن يمكن أن يقال بصحّة العقود الواقعة عليه ونفوذها بعد إخراج خمسه مهما كانت بمقتضى الرواية الواردة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لا يحلّ لأحد أن يشتري من مال (١) الخمس شيئا حتّى يصل إلينا حقّنا» (٢).

ورواية اخرى لأبي عبد الله عليه‌السلام : «لا يعذر عبد اشترى من مال (٣) الخمس شيئا أن يقول : يا ربّ! اشتريته بمالي ، حتّى يأذن له أهل الخمس» (٤).

وتقريب الاستدلال يتوقّف على مقدّمات :

__________________

(١) لم ترد في المصدر : مال.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٤ الحديث ١٢٥٤٣ ـ ١٢٥٥٠.

(٣) لم ترد في المصدر : مال.

(٤) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٢ الحديث ١٢٦٧٤.


الاولى : لا ريب أنّ أمر البيع أمر شرعيّ يجوز للشارع أن يتصرّف فيه كيف شاء ، بمعنى أنّه يمكن له أن يمضي البيع الّذي لم يكن جامعا للشرائط ، كيف؟! ومن يجعل شيئا شرطا أو مانعا يمكنه إلغاء شرطيّته ومانعيّته مهما شاء.

الثانية : انحصار المانع من نفوذ هذا البيع كونه متعلّقا للخمس ، غاية الأمر تارة يكون هو فقط ، واخرى يتولّد منه عدم المقتضي أيضا.

الثالثة : أنّ المراد من الحلّيّة في قوله عليه‌السلام : «لا يحلّ» هي الحلّيّة التكليفيّة ، ومن «الاشتراء» هو التصرّف في المال الّذي أخذه من البائع ، فحرمة التصرّف فيه تدلّ على عدم نفوذ بيعه فعلا ، وظاهر أنّ المراد ليس هو إنشاء نقل الملكيّة ، وإلّا لم يكن فيه عقاب حتّى لا يكون المشتري معذورا عند الله.

فبعد هذه المقدّمات نأخذ بإطلاق الخبرين ونقول : إذا وقع عقود مترتّبة أو عقد واحد على هذا المال الّذي لم يؤدّ خمسه ، فحلّيّة تصرّف كلّ واحد منهم موقوف على أداء الخمس ، من دون توقّف على شي‌ء آخر ، كما هو قضيّة جعل حرمة التصرّف مغيّاة بعدم وصول الحقّ إلى أهله ، فجوازه حاصل عند حصول غاية الحرمة ، ومقتضى حلّيّة التصرّف للمشتري الثاني ـ مثلا ـ هو انتقاله إلى ملكه بالعقد الّذي وقع عليه قبل إخراج الخمس ولازمه إلغاء بعض شرائط البيع ، وهو جائز للشارع ، كما عرفت ، ولازم الطريق حجّة ، فتأمّل!

وممّا يمكن الاستدلال به على كونه على نحو الحقيّة ، هو الرواية الّتي سئل عن المعصوم عليه‌السلام : عن بستان صرف بعض فاكهتها في مئونة عياله وباع بعضها ، فقال عليه‌السلام : «ما بعت منه فخمّسه!» (١) ؛

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠٤ الحديث ١٢٥٨٨ ، نقله بالمعنى.


فإنّه لو كان الخمس متعلّقا بالعين فحينئذ للإمام عليه‌السلام أن يسأل ويقول : فما تفعل بالخمس إذا تريد البيع؟ فعدم سؤاله يدلّ على جواز بيعه ، وهو يدلّ على أنّ الخمس يكون على نحو الحقيّة.

واحتمال أن يكون صحّة البيع في هذه الموارد بسبب إمضائه وإجازته عليه‌السلام ؛ مدفوع بأنّ الظاهر تسليم صحّة العقود الّتي وقعت على هذه الأموال ، ولذا اطلق على ما يكون بإزائها الثمن ، والظاهر أنّها ثمن بمجرّد وقوع العقد عليها ، لا أنّها تصير ثمنا بعد إجازته.

ثمّ بعد ذلك يحتمل أن يكون البيع صحيحا من أوّل الأمر ولم تتوقّف صحّته على إجازته ، ويحتمل أن يكون صحّته موقوفة على إجازته ، لكون المال متعلّقا لحقّه ، كما في حقّ الرهانة وأمثالها ، والظاهر من الأدلّة ـ كما عرفت من إطلاق لفظ «الثمن» على ما يقابل المال الخمسي وغيره ـ هو صحّة البيع وحصول الانتقال بمجرّد وقوع العقد.

ثمّ مع تسليم صحّة العقد ؛ هل ينتقل العين الخمسي إلى المشتري متعلّقا للحقّ ، أو ينتقل الحقّ منها إلى الثمن؟ وجهان : من دلالة الأخبار (١) على حرمة تصرّف المشتري قبل وصول الخمس إلى أهله ، وهو علامة بقاء الحقّ متعلّقا عليه ؛ ومن إمكان انتقال الحقّ [إلى] الثمن ، وكون حرمة تصرّفه تعبّدا.

ويدلّ على ما قلنا أمرهم عليهم‌السلام بإخراج الخمس من الثمن في بعض الأخبار (٢) ، واحتمال أن يكون المراد من الثمن القيمة ، فيدلّ على جواز إخراج

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٤ الحديث ١٢٥٤٣ و ١٢٥٤٤ و ٤٨٧ الحديث ١٢٥٥٠ و ٥٤٢ الحديث ١٢٦٧٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٩٨ الحديث ١٢٥٧٥.


الخمس من قيمة ما تعلّق به ، لكون الغالب مطابقة الثمن للقيمة الواقعيّة خلاف الظاهر.

وكيف كان ؛ فهل كون تعلّق الخمس بالمال ـ سواء كان على نحو الحقيّة أم على نحو الملكيّة ـ على نحو الإشاعة ، أم [على] ؛ نحو الكلّي في المعيّن؟

فعلى الأوّل ؛ لا يجوز للمالك التصرّف في المال المتعلّق للخمس بوجه.

وعلى الثاني ؛ يجوز له التصرّف إلى أن يبقى بمقدار الخمس منه ، وجهان ؛ من أنّ الأصل جواز تصرّف كلّ أحد في ماله ، فيختصّ المنع بالمقدار المتيقّن وهو مقدار الخمس ، ومن ظهور لفظ الخمس ـ الّذي هو أحد الكسور ـ في الإشاعة.

والأقوى هو الثاني ؛ نظرا إلى الروايات الدالّة على حرمة التصرّف (١) ، فكلّ جزء من أجزاء المال المتعلّق للخمس ممّا لا يعذر الله المالك أن يشتري به شيئا حتّى يصل مالهم إليهم عليهم‌السلام.

ثمّ على فرض كونه من قبيل الكلّي في المعيّن ، فيجوز للمالك التصرّف إلى أن يبقى منه مقداره ، ولا يحتاج إلى قصد إخراج الخمس من الباقي ، كما هو قاعدة هذا الباب ، فما ذكره السيّد قدس‌سره في موضعين من كلامه في «العروة» من تقييد جواز التصرّف بصورة القصد بأداء الخمس من الباقي (٢) ، لا نعرف له وجها ، فتدبّر!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٤ الحديث ١٢٥٤٣ و ١٢٥٤٤ و ٤٨٧ الحديث ١٢٥٥٠ و ٥٤٢ الحديث ١٢٦٧٤.

(٢) العروة الوثقى : ٢ / ٣٩٩ المسألة ٧٦ ، و ٤٠١ المسألة ٨٠.


ما هو المراد ممّا احلّ فيه الخمس للشيعة؟

وأمّا المسألة الثالثة (١) ؛ فمجمل القول فيها : أنّ الأخبار الواردة في باب الخمس على ثلاثة أقسام :

منها : ما يدلّ على أصل مشروعيّته (٢).

ومنها : ما يدلّ على عدم تحليله مطلقا صريحا (٣).

ومنها : ما يدلّ على التحليل (٤).

وطريق الجمع بينهما حمل ما دلّ على التحليل على المناكح والمساكن والمتاجر الّتي وقع في أيدينا من الكفّار ومن لا يعتقد الخمس ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ أصل مصبّ أخبار التحليل هو هذا المورد ولا يحتاج إلى الجمع أيضا.

لا إشكال في تحليل ما وقع في أيدينا من أهل السنّة ، فهل يختصّ التحليل بهم أو يعمّهم والكفّار الّذين لا يعتقدون أصل الإسلام أيضا ، وأيضا هل يختصّ التحليل بما إذا وقع منهم أو يعمّه وما إذا حصل الاشتراك بيننا وبينهم في ما يجب في سهم الخمس؟

الأقوى ؛ ثبوت التحليل في الصورتين ، نظرا إلى التعليل الّذي ذكره عليه‌السلام في ذيل بعض أخبار التحليل ، مثل الخبر الّذي سئل عليه‌السلام فيه عن أرباح المكاسب

__________________

(١) لا يخفى أنّ المصنّف رحمه‌الله ما راعى الترتيب في ذكر المسائل ، والمسألة الثانية تأتي في الصفحة : ٢٣٨ من هذا الكتاب.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٣ الحديث ١٢٥٤١.

(٣) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٤ الحديث ١٢٥٤٣ و ١٢٥٤٥.

(٤) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٣ الباب ٤ من أبواب الأنفال.


الّتي تقع في أيدي الشيعة ، قال عليه‌السلام : «ما أنصفناهم إن كلّفناهم ذلك اليوم» (١) دلّ على أنّ كلّ مورد يكون عدم تحليل الخمس فيه خلاف المرحمة واللطف القديمة الّتي كانت منهم عليهم‌السلام بالنسبة إلى شيعتهم كان الخمس فيه محلّا.

فإذن ؛ المعادن الّتي كانت في أيدي الكفّار ولا يؤدّون خمس ما أخرجوا منها ، فإمّا أن يمنعوا الشيعة من المعاملة معهم أو يكلّفوهم بالأداء من مالهم أو أحلّوا لهم.

ولا ريب أنّ كلا الشقّين الأوّلين خلاف اللطف والمرحمة ، فتعيّن الشقّ الثالث ، وكذا إذا كان أرضا مشتركا بين الاثنين ، فباع أحدهما سهمه من ذمّيّ ولم يقدر أهل الإسلام بأخذ خمسها منه ، فإذن لا بدّ إمّا من حكمهم بعدم جواز تصرّف المسلم في سهمه المشترك مع مقدار الخمس ، أو أداء الخمس من ماله أو إحلالهم عليهم‌السلام الخمس له ، وظاهر أنّ الأوّلين خلاف مرحمتهم ، فتعيّن الثالث.

وهل يختصّ التحليل في باب الخمس بالمواضع الثلاثة المذكورة أو يعمّها وسائر موارد الخمس ، نظرا إلى إطلاق بعض الأخبار؟

الأقوى هو الأوّل ، وبيانه يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّه إذا ورد عامّ واحد وخاصّ متعدّد فالظاهر عرض هذه الخاصّات أجمع على العامّ ، وتخصيص حجّته بما عداها لو لم يلزم تخصيص الأكثر أو إلغاء العامّ بالكليّة ، وإن لزم ذلك عمل بينهما عمل التعارض ، ولا يجوز أن يعرض على العامّ بعض الخاصّات متقدّما حتّى تنقلب النسبة مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه.

وأمّا إذا ورد عامّان متعارضان في بادي النظر ، وورد ما هو أخصّ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٥ الحديث ١٢٦٨٠ ، وفيه : ما أنصفناكم إن كلّفناكم.


أحدهما ، فالظاهر تخصيص هذا العامّ أوّلا بهذا الخاصّ ، ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين العامّ الآخر والعمل بمقتضاه. كيف كان ؛ لأنّ الدليل لا يعارض الآخر ما لم يستقرّ حجّيته من جميع الجهات ، والعامّ الّذي ورد في مقابله خاصّ لم يكن حجّة في مقدار الخاصّ أصلا ، فكيف يمكن أن يعارض الدليل الآخر المستقرّ حجيّته في كلّ الأفراد؟ كيف ولا يمكن عمل التعارض بينهما مع عدم استقرار ظهوره وحجيّته؟ فحينئذ بعد تخصيص أحد العامّين بالخاصّ الوارد في مقابله كثيرا ما ينقلب النسبة بينهما إلى العموم والخصوص المطلق ، فتنحصر حجيّة العامّ الآخر في غير مورد هذا العامّ بعد التخصيص بصيرورته أظهر ، بل نصّا في بعض المقامات بعد التخصيص في الأفراد الباقية تحته ، فلا يعارضه ظهور العامّ في هذه الموارد.

إذا عرفت ذلك ؛ فنقول : الأخبار الواردة في هذا الباب على ثلاثة أنحاء :

منها : ما يدلّ على عدم التحليل مطلقا ، كما في رواية عليّ بن راشد : قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك ، فقال لي بعضهم : وأيّ شي‌ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه.

فقال عليه‌السلام : «يجب عليهم الخمس».

فقلت : ففي أيّ شي‌ء؟

فقال عليه‌السلام : «في أمتعتهم وصنائعهم».

قلت : والتاجر والصانع بيده؟

قال عليه‌السلام : «إذا أمكنهم بعد مئونتهم» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠٠ الحديث ١٢٥٨١.


ومثلها غير واحد من الروايات (١).

ومنها : ما يدلّ على التحليل في موضع خاصّ ، وهو المناكح والمساكن والمتاجر إذا وقع في أيدي الشيعة ممّن لا يعتقد الخمس من الكفّار أو العامّة ؛ فمنها : رواية يونس بن يعقوب ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من القمّاطين ، فقال : جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعرف (٢) أنّ حقّك فيها ثابت ، وأنّا عن ذلك مقصّرون.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» (٣).

والظاهر ؛ أنّ المراد من «ذلك اليوم» وقت تسلّط الكافرين والغاصبين ، حيث يعملون بالتقيّة ، ويحتمل أن يكون المراد يوم القيامة أيضا ، لكنّه بعيد ، وفي معناها غير واحد من الأخبار (٤).

ومنها : ما يدلّ على التحليل مطلقا ، كرواية حكيم ، مؤذّن بني عيس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (٥) قال : هي والله الإفادة يوما فيوما (٦) ، إلّا أنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» (٧).

__________________

(١) انظر! وسائل الشيعة : ٩ / ٤٩٩ الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس.

(٢) في المصدر : نعلم.

(٣) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٥ الحديث ١٢٦٨٠.

(٤) انظر! وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٣ الباب ٤ من أبواب الأنفال.

(٥) الأنفال (٨) : ٤٧.

(٦) في المصدر : يوما بيوم.

(٧) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٦ الحديث ١٢٦٨٢.


وفي معناها أخبار متعدّدة (١).

فنقول : القسم الأوّل مع القسم الأخير متعارضان ، والقسم الأوسط يخصّ القسم الأوّل في الموارد المذكورة ، فتصير نسبته مع الأخير عموما مطلقا ، فيخصّص به عمومات التحليل وتقيّد إطلاقاته.

ثمّ إذا عرفت كيفيّة الجمع بين الأخبار ، وكيفيّة الاستدلال بها لحلّ المناكح والمساكن والمتاجر على الوجه الأحسن تعرف أنّه لا حاجة إلى الاستدلال بمرسلة «عوالي اللآلي» الّتي استدلّ بها الشيخ قدس‌سره في المواضع الثلاثة ، وهي على ما حكاه في مسألة حلّ المناكح من خمسه عن «عوالي اللآلي» قال : سئل الصادق عليه‌السلام ، فقيل له : يا ابن رسول الله! ما حال شيعتكم في ما خصّكم الله به إذا غاب غائبكم واستتر قائمكم؟

فقال : «ما أنصفناهم إن أخذناهم (٢) ، ولا أحسنّاهم (٣) إن عاقبناهم ، بل نبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم (٤) ونبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم ، ونبيح لهم المتاجر ليزكوا أموالهم» (٥).

مع إمكان أن يناقش فيه تارة بإرساله ، واخرى بأنّ سياقه يأبى عن حمله على خصوص هذه الثلاثة بالمعنى الّذي ذكرناه وهو ما إذا وقع في أيدينا عن يد من لا يعتقد الخمس ، لأنّ تحليل هذه الثلاثة لا يختصّ بحال الحضور حتّى

__________________

(١) انظر! وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٣ الباب ٤ من أبواب الأنفال.

(٢) في المصدر : إن واخذناهم.

(٣) في المصدر : ولا أجبناهم.

(٤) في المصدر : عبادتهم.

(٥) عوالي اللآلي : ٤ / ٥ الحديث ٢ ، مستدرك الوسائل : ٧ / ٣٠٣ الحديث ٨٢٧٢.


يتوحّش السائل الشيعي بعد الغيبة ويسأل عنه بخصوصه ، بل ظاهره السؤال عن مطلق الخمس ، فإنّه لمّا شاهد السائل أنّ الشيعة مرسلون خمسهم في حال الحضور بخدمتهم ، أو يعيّنون الوكيل لأخذه فصار بصدد تعيين تكليفهم في حال الغيبة ، فتحليل الإمام عليه‌السلام يرجع إلى كليّة الخمس ، لا خصوص المناكح والمساكن والمتاجر بالمعنى الّذي ذكرناه.

وقلّ العامل بهذا الحديث ، فطرحه وفاقا «للتذكرة» (١) لا يخلو عن قوّة ، مضافا إلى ما حكي أنّ «الحدائق» لم يذكره أصلا مع جمعه لأخبار الخمس مستوفى ، وراجع فتدبّر!

تتميم : قد يتوهّم في إباحتهم الخمس للشيعة إشكالان :

أحدهما : أنّ الخمس بتمامه ليس حقّا لهم ، بل نصفه حقّهم ونصفه الآخر حقّ للسادات ، فكيف يبيحون الخمس أجمع؟

ويمكن دفعه تارة بأنّ تمامه لهم والسادات جميعا عيالهم ، كما يشهد به بعض الأخبار (٢) ، وقد خصّ نصفه بهم موهوبا منهم عليهم‌السلام.

واخرى ؛ بأنّه على فرض كون نصفه مختصّا بالسادة ، لهم الولاية المطلقة للتصرّف في أموال الناس جميعا ، وكيف بالسادة؟! فإنّهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم.

ثانيهما : أنّه كيف تنطبق هذه الإباحة للشيعة مع القواعد؟ من وجوه :

الأوّل : أنّ الإباحة لا تفيد الملكيّة ، مع دعوى الإجماع على أنّ الشيعة

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٥ / ٤٤٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٥١٨ الحديث ١٢٦١٨.


يصيرون مالكا في الموارد المذكورة ، ولذا يجوز لهم الوطء والعتق والبيع.

الثاني : أنّ الإباحة والتمليك يستدعي لا أقلّ وجود الملك ، مع أنّه لا شي‌ء منهما في زمن الأئمّة عليهم‌السلام حتّى يصحّ التمليك.

الثالث : أنّه على فرض صحّة التمليك فهو ليس للأفراد ، بل بعنوان الشيعة ، كملك المفتوح عنوة الّذي هو ملك لعنوان المسلم ، فلا يجوز تصرّف كلّ أحد بنفسه فيه ، بل يجب أن يجمع في بيت المال ، ثمّ يصرف بإذن الحاكم في مصالح الشيعة.

وأنت خبير بأنّه بعد دلالة الأخبار على أنّ الخمس متعلّق بالأموال على نحو الحقيّة لا وقع لواحد من الإشكالات ، وقد عرفت أنّ الأقوى نفوذ التصرّفات الواقعة على المال المخمّس قبل الإخراج ، غاية الأمر حرمة التصرّف للمشتري قبل وصول الحقّ إليهم ، فمعنى تحليلهم عليهم‌السلام ؛ إغماضهم عن حقّهم فيحلّ به التصرّفات قبل الوصول ، مضافا إلى أنّ معنى تعلّق حقّهم بالمال أنّهم مختارون وحريّون بتملّك خمس هذا المال ، ومعنى تحليلهم عليهم‌السلام ، إذنهم للشيعة بتملّك سهمهم ونقل هذا الاختيار إليهم.

نعم ؛ لو استفيد من الأخبار كون الخمس ملكا لهم وكونهم شركاء مع المالك (١) ـ كما هو المشهور ـ يشكل دفع الإشكالات.

لكن يجاب تارة ؛ بأنّ هذا نحو تمليك خاصّ للشيعة ورد به النصّ الخاصّ (٢) فلا يلزم أن ينطبق على القواعد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٨٣ الباب ١ من أبواب ما يجب فيه الخمس.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٩ / ٥٤٣ الباب ٤ من أبواب الأنفال.


واخرى ؛ بكونه دفعا ، لا رفعا ، بمعنى أنّ الله تعالى لم يكلّف الشيعة بالخمس في هذه الموارد من أوّل الأمر ، وغير ذلك من الأجوبة المذكورة في المفصّلات.

هل يجبر الخسران الوارد على المالك في الحول من الربح؟

الثانية من المسائل الّتي ذكرناها في صدر البحث هو أنّ الخسران هل يجبر بالربح مطلقا أو يفصّل؟

لا إشكال في جبر خسران تجارة واحدة بربحها ، فهل يجبر خسران إحدى التجارتين بربح اخرى؟ بل وهل يجبر خسران ضيعته كالزراعة بربح التجارة مثلا؟ بل وهل يجبر الخسران الواقع على المالك ولو لم يكن في كسبه ، كهدم داره وموت دابّته من الربح الحاصل من استفاداته أم لا؟

لا إشكال أنّه لو أخذنا في عنوان ما يجب فيه الخمس من الأرباح هو أرباح الاكتسابات ، لا يجوز جبران الخسران الوارد على المالك عن غير طريق الاكتساب ، لصدق حصول الربح من الاكتساب مع هدم داره ، ولكن لو جعلنا العنوان هو مطلق الفائدة ، كما هو مضمون بعض الأخبار (١) والمعنون في كلمات الأخيار ، وحمل ما ورد منها في تقييد الربح بالاكتساب بذكرها من باب المصداقيّة ، لكونها أغلب أفراد ما يفيد.

فيمكن القول بملاحظة الفائدة بعد جبر الخسارة عن أيّ جهة كانت ، فإنّ الملحوظ حينئذ فائدة سنة المالك ، ومعنى الفائدة في السنة هو ما يحصل له فيها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠٣ الحديث ١٢٥٨٥.


زائدا على ما يملكه في السنة السابقة وبعد حصول مائة درهم من الاكتساب ، وموت دابّة له يوازي قيمتها هذا المقدار لم يصدق أنّه حصل له الفائدة في هذه السنة ، بل يصدق لم يقع عليه ضرر.

نعم ؛ ذكر السيّد قدس‌سره في «العروة» أنّه لا إشكال في عدم جبران الخسارة الّتي كانت من قبيل هدم الدار وموت الدابّة ، وأمّا الخسران الوارد في إحدى التجارتين الأحوط عدم الجبران بربح الاخرى وإن كان الجبران لا يخلو عن قوّة ، وكذا نفى الإشكال عن جبران خسران التجارة بربحها (١).

أقول : لو اخذ في العنوان وجوب خمس الزائد عن ربح الاكتساب فإمّا أن يؤخذ بنحو العموم المجموعي فمعناه ربح جميع الاكتسابات في السنة فلا إشكال في جبران خسارة إحدى التجارتين بربح الاخرى ، لأنّه مع عدم الجبران لا يصدق ربح الاكتسابات.

وإمّا أن يؤخذ بنحو العموم الاستغراقي في ربح كلّ استفادة بخصوصه موردا للخمس ، فمقتضاه عدم جبران خسران التجارة بربحها أيضا ، لأنّه يصدق أنّه ربح من اكتسابه الفلاني كذا وكذا.

ولو أخذ في العنوان خمس الفوائد ـ كما أنّه ليس ببعيد ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار الدالّة على وجوب الخمس في الجائزة والهديّة والصدقة (٢) ـ فإنّها لا تعدّ اكتسابا على الأقوى ، فإنّه طلب المال من حيث الماليّة وطلب الرزق مثلا ،

__________________

(١) العروة الوثقى : ٢ / ٣٩٧ و ٣٩٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٩ / ٥٠١ الحديث ١٢٥٨٣ ، و ٥٠٣ الحديث ١٢٥٨٥ ، و ٥٠٤ الحديث ١٢٥٨٨ ، و ٥٠٨ الحديث ١٢٥٩٦.


ولذا لا يعدّ صيد السلطان اكتسابا ، بل هو فائدة ، فلا يبعد القول بجبر كلّ خسران ورد على المالك من أيّ جهة كان ، لعدم صدق حصول الفائدة مع الخسارة ، كما مرّ ، فتأمّل!

ثمّ إنّه لا إشكال في خروج الميراث إذا لم يكن ممّا لا يحتسب عن عنوان الفائدة فلا يجب فيه الخمس ، لأنّه يعدّ مال المورّث مال الوارث طولا بل يعدّ وجود المورّث مانعا عن إجراء آثار الماليّة ولم يعدّ انتقاله إليه فائدة ، فالأظهر عدم وجوب الخمس في الميراث ، وفاقا «للتذكرة» (١).

نعم ؛ استثنى بعض الأصحاب فيما إذا كان الميراث ممّن لا يحتسب (٢) ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضا (٣).

وأمّا ما زاد عن المئونة من الزكاة والخمس وأمثالهما ؛ فالظاهر عدم وجوب الخمس فيه ، لعدم عدّه فائدة ، لأنّ الفائدة ما حصل ولم يكن شي‌ء بإزائه ، كالزائد على رأس المال في التجارة والهديّة وأمثالهما.

وأمّا الخمس والزكاة ؛ فكأنّهما طلب ودين من المستحقّ على المالك فأدّاه بتعيّنه في ذلك المستحقّ فهو حقّه الثابت في ذمّة المالك قد أدّاه ، وليس شي‌ء ولم يكن بإزائه شي‌ء حتّى تعدّ فائدة ، فهو كما إذا كان له في ذمّته دين وقد استقرضه منه.

وبعبارة اخرى : الزكاة إذا نسبت إلى نوع الفقراء كانت فائدة ، لأنّه لم يكن

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٥ / ٤٢١.

(٢) جواهر الكلام : ١٦ / ٥٦ ، العروة الوثقى : ٢ / ٣٨٩ المسألة ٤٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٩ / ٤٩٩ الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، انظر! جواهر الكلام : ١٦ / ٥٦.


بإزائها شي‌ء ، ولكنّ النوع ليس قابلا لأخذ الزكاة ، وإذا نسبت إلى الشخص عدّت من قبيل استيفاء الحقّ والطلب ولم تكن فائدة يجب فيها الخمس كنفس الدين ، فتأمّل جيّدا!

وبالجملة ؛ فالأظهر جبران المال الفائت وكلّ خسران وارد على المالك في كلّ معاملة بالأرباح واعتبار الخمس ممّا بقي بعده ، لما عرفت من ظهور النصوص والفتاوى في كون موضوعه مطلق الفائدة لا الفائدة المقيّدة بكونها من الاكتساب والاستفادة.

مسألة : لا خلاف في اعتبار الخمس في الأرباح والفوائد بعد إخراج مئونة الشخص ، ومئونة التحصيل مقوّمة لأصل عنوان الفائدة ، فقبل إخراجها لا يسمّى الحاصل فائدة ، وهذا ظاهر ، ولذا لا خلاف في أنّ المراد بالمئونة هي مئونة السنة ، لأنّها المتبادر عند إطلاقها ، ويشهد لذلك قولهم : كسب فلان لا يفي بمئونته ، مضافا إلى دعوى الإجماع من غير واحد ، إنّما الإشكال والخلاف في جهتين :

إحداهما : في بيان المراد [من السنة] هل هي شمسي أو قمري؟

والاخرى : في بيان المراد من المئونة ، هل المراد منها مقدارها ولو تبرّع بها متبرّع ، أو قتّر على نفسه ، أو أخرج من ماله الآخر ، أو المراد منها ما يصرفه فعلا في مخارجه ، فلا يجب له في الصورة المذكورة شي‌ء؟

ولا بدّ أوّلا من بيان الأصل في المسألة ، ثمّ بيان ما هو ظاهر الأدلّة.

فنقول : أمّا الأصل العقلي فهو البراءة في الجهتين ، لدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين وهو جعل المئونة مقدارها ، والسنة شمسيّة ، فتأمّل!


وأمّا الأصل اللفظي ؛ فبملاحظة عمومات وجوب الخمس وعدم العفو عنه ، لو اجمل المخصّص والمقيّد يرجع إلى الإطلاق والعموم ، ويؤخذ بالقدر المتيقّن من المخصّص والمقيّد ، ومقتضاه جعل السنة قمريّة ، والمئونة شخصيّة وما تصرف فعلا.

هذا مقتضى الأصل اللفظي ؛ لكنّ الظاهر من السنة في المقام هو السنة الشمسيّة ، لأنّ المقام ؛ مقام تعيين مئونة السنة وإخراجها ، والمعتبر فيه اعتبار السنة تماما ، واعتبار القمريّة منها يفضي إلى إلغاء العشرة (عشرة أيّام) من السنة ، مع أنّه لا وجه له ، واعتبار الشمسيّة ربّما يفضي إلى عدم وجوب الخمس الذي يجب لو اعتبرت السنة قمريّة ، كما إذا حصل له فائدة زادت مقدار المئونة ، ولم يظهر خسران حتّى مضيّ الحول القمري. ثمّ قبل إتمام السنة الشمسيّة ظهر خسران لا يزيد الربح الباقي عن جبره ، وقد يكون بالعكس ، كما إذا حصل بعد مضيّ القمري وقبل إتمام الشمسي ربح يزيد عن المئونة ، ولاعتبارها ثمرات اخر تظهر بالتأمّل!

وأمّا الثاني : فقبل بيانه لا بدّ من تقديم أمر وفرع يرتبط بالمقام ، وهو أنّه لو كان له مال آخر لم يتعلّق به الخمس أصلا أو تعلّق وأخرجه ، فهل يعتبر حينئذ إخراج المئونة من الربح أو منه أو منهما؟ وجوه : أقواها أقدمها إلّا فيما لو كان المال الآخر معدّا للصرف في المئونة وكان ممّا يعتاد صرفه في المئونة.

قال العلّامة الأنصاري في تحقيق المسألة : إنّ المال الآخر تارة يكون من رأس المال وإن لم يكن فعلا ممّا يتّجر به ، فلا إشكال في عدم احتساب الربح منه.

واخرى لم يكن منه ، لكن لم يعتد صرفه في المئونة كالدار والأرض ،


واخرى لم يكن منه ، لكن لم يعتد صرفه في المئونة كالدار والأرض ، فحكمه كالقسم الأوّل.

وثالثة : يكون ممّا اعتيد صرفه في المئونة كالزائد من الحنطة والدراهم المهيّأة للمئونة في السنة السابقة ، فلا إشكال في اعتبار المئونة منه ، ووضع ما زاد من المئونة عنه من الربح وإخراج الخمس من الباقي.

ورابعة : لم يكن المال الآخر داخلا في واحد من العناوين ، بل تارة ؛ منه إخراج المئونة ، واخرى ؛ لم يتّفق كالمال المقترض مثلا.

قال قدس‌سره : ففي عدم اعتبار الخمس منه إشكال ؛ لاحتمال كون تعيين المئونة الربح في الأخبار مبنيّا على الغالب ، من الاحتياج في أخذ المئونة منه.

لكن يمكن منعه أوّلا بمنع الغلبة ، واخرى بمنع كونه بحيث يصير سببا لخروج المورد من تحت الأدلّة ، فالقول باعتبار المئونة من الربح فقط معه لا يخلو من قوّة ، فتأمّل جيّدا! (١)

__________________

(١) السرائر : ١ / ٤٨٦.



رسالة الوقف



الكلام في القبض في الوقف

قال في «الشرائع» : (فلا يلزم إلّا بالإقباض) (١). (٢)

ونقول ـ بعونه تعالى وهداية أوليائه عليهم‌السلام ـ : فيه جهات من الكلام من حيث الحكم التكليفي والوضعي وموضوعه وغيرها.

الاولى : في معنى القبض كلّيا من حيث كونه هو الأمر العدمي ـ وهو التخلية ورفع اليد وأمثالهما ـ أو لا ، بل يشمل الأمر الوجودي أيضا؟

لا إشكال في أنّ حقيقة القبض لا يتحقّق فيما لو اعتبر (٣) ب «رفع اليد عن الشي‌ء» ، كما في القبض المعبّر [به] في البيع والهبة والرهن وغيرها ؛ إذ هو مساوق للتسليم والأداء اللذين [هما] عبارتان عن التخلية وجعل الشي‌ء تحت استيلاء الغير ، كما عبّر بلفظهما في أكثر من هذه المقامات ، منها ما نحن فيه حيث عبّر في أخبار الوقف بلفظ التسليم (٤).

نعم ؛ قد يكتفى بالأمر العدمي كما بالنسبة إلى الحكم التكليفي مثل باب

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٢.

(٢) ولذا بني على أنّ رضا المالك بكون المال تحت يد الغاصب لا يخرج يده عن الضمان إلّا أن يوكّله في القبض من قبل نفسه أيضا ؛ إذ يده كدونه اقتضت الضمان ، فلا تثمر صيرورتها الآن أمانيّة ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٣) كذا ، والصحيح : عبّر.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨١ الحديث ٢٤٣٩٩.


الغصب ، حيث إنّ الحرمة لمّا كانت ناشئة من قبل وضع اليد على مال الغير فترتفع برفع اليد عنه ، ولكن هنا أيضا الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ لا يرتفع إلّا بتسليم المال إلى صاحبه وإيصاله إليه ، حيث إنّ الغاية المأخوذة في قاعدة اليد هي الأداء.

وبالجملة ؛ تختلف المقامات من حيث ارتفاع الحكم التكليفي والوضعي بالاكتفاء بالأمر العدمي أو الاحتياج إلى الوجودي أيضا ، ولكن كلّما اعتبر القبض لا بدّ من الأمر الوجودي ، ففي باب الضمانات مطلقا ، الحكم التكليفي يرتفع بمجرّد رفع اليد عن المال المضمون ، ولكنّ الحكم الوضعي لا يرتفع إلّا بعد تسليم المال إلى صاحبه ووصوله إليه ، فهنا محلّ التفكيك بين الحكمين ومنه يقع التفكيك بين الأمرين أيضا بحيث لو رفع الغاصب يده عن المال المغصوب وتاب فلا عصيان عليه ؛ لارتفاع موضوع الحرمة الّذي هو التصرّف في مال الغير المستفادة من الأدلّة كقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرئ [مسلم] إلّا بطيب [من] نفسه» وأمثاله (١).

الثانية : في موضوعه ؛ لا خفاء في أنّه أيضا يختلف بحسب الصغريات ، أمّا في مثل المنقولات بالظاهر إنّه يتوقّف على الإيصال واستقرار العين تحت يد القابض الّتي هي كناية عن الاستيلاء الخارجي ، وليس المراد بها الجارحة المخصوصة ، كما حقّقنا ذلك في بحث الغصب ، فما لم تقع الأشياء المنقولة تحت استيلاء القابض خارجا عرفا ، لا يصدق القبض حينئذ وأنّ العين مقبوضة

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٨ و ٢ / ١١٣ الحديث ٣٠٩ ، و ٢ / ٢٤٠ الحديث ٦ و ٣ / ٤٧٣ الحديث ٣.


بالضرورة ، وهذا هو المراد من الأمر الوجودي المعتبر في مفهوم القبض ، هذا في المنقول.

وأمّا غيره ؛ فهو على قسمين ؛ فإمّا أن يكون ممّا له الحرز ، كالدار الّتي لها المفتاح ، أو البستان كذلك ، وإمّا ليس كذلك ، كالأراضي المتّسعة.

أمّا في الأوّل ؛ فقبضه وجعله تحت استيلاء القابض إنّما يكون بتسليم الحرز والمفتاح إليه ، إذ نفس المبيع أو العين الموقوفة وإن لم يكن قابلا لأن تقع تحت اليد إلّا أنّه لمّا كان ما يحرزه وما هو بمنزلة نفس العين قابلا لذلك ، فقبضها عرفا إنّما يكون بقبضه وجعله تحت الاستيلاء الّذي هو أمر اعتباري لا بدّ له من كاشف وطريق ليس في ما نحن فيه إلّا ذلك.

وأمّا القسم الثاني ؛ فهو وإن لم يكن له طريق مبرز قطع علاقة البائع أو الواقف عن العين المبيعة أو الموقوفة ، وحدوث العلاقة للغير بالنسبة إليها وصيرورته تحت استيلائه كالاوليين ، إلّا أنّه لا إشكال أنّ هنا أيضا لا بدّ من مبرز ذلك بأيّ نحو يمكن ؛ لما هو المسلّم من الكبرى الكلّي أنّ في الأمور المشتركة والمشتبهة خارجا لا بدّ من ترتيبها بحيث بها ترتفع الشبهة ويتشخّص الأمر ، فهنا لمّا كان الأمر كذلك ، بمعنى أنّه لم يتبيّن خروج العين الموقوفة ـ كالآبار أو الأراضي المتّسعة ـ أنّها خرجت عن استيلاء الواقف ودخلت تحت استيلاء الموقوف عليهم ـ الّذي هذا معنى القبض المفروض اعتباره مطلقا ـ فلا محيص عن إيجاد المبرز بما أمكن ، ولو بأن يجتمعا عند الموقوفة ، وبعده يبقى الموقوف عليه أو وليّه ويخرج الواقف وهكذا البائع والمشتري وغيرهما ، أو بأمثال ذلك ممّا يرتفع به الترديد ويصدق القبض عرفا.


فالحاصل ؛ أنّ في جميع المقامات الثلاثة لا بدّ من إعمال ما ذكرنا ، حيث إنّه مقتضى الدليل حسب ما عرفت ، ولو شكّ فيها مقتضى الأصل أيضا عدم الاكتفاء بأقلّ ما ذكرنا في القبض ؛ إذ الأصل الموضوعي وإن لم يكن في البين لكون الشكّ في مفهوم اللفظ ، ولا أصل يجري فيه ، لعدم أثر شرعي له ، والمصداق أيضا لا مجرى له ، لكون أمره دائرا بين المقطوع عدم تحقّقه والمتيقّن وجوده ، كما في نظائره من الشبهات المفهوميّة كاليوم والليل ، والكرّ والعدّة ونحوها ، وقد أوضحنا ذلك في بحث الاصول أيضا إلّا أنّ الاصول الحكميّة الجارية في هذه المقامات عند الشكّ كأصالة عدم تحقّق الوقف أو الانتقال تقتضي ما ذكرنا.

نعم ؛ فيما إذا كان المتولّي نفس الواقف فالظاهر أنّه حينئذ لا يحتاج إلى المبرز مطلقا بل ، يكفي القصد ونيّة تبدّل اليد المالكي بعنوان التولية.

الثالثة : في حكم القبض من حيث كونه شرط صحّة الوقف أو لزومه ، وقد وقع الخلاف في ذلك ، ولكنّه يمكن الجمع بين الكلمات بحمل كلام من اعتبره من حيث اللزوم على الصحّة الفعليّة لمكان أنّه متلازم معها ولا ينفكّ اللزوم في العقود اللازمة على الصحّة الفعليّة فلذلك عبّر باللازم ، فحينئذ ارتفع الخلاف إذ من يراه شرطا للصحّة لا ينكر صحّة التأهليّة للوقف أيضا عند إجراء الصيغة له إلى أن تقبض ، كما أنّه جمع بذلك أيضا بين الكلمات في نظائر الباب كالرهن والهبة وغيرهما.

وبالجملة ؛ هذا الجمع حسن لو لم يعارضه صريح الكلمات ، والظاهر أنّه كذلك ، بل ظاهرهم الإتقان على توقّف الصحّة الفعليّة عليه.


وكيف كان ؛ ينبغي التكلّم في ما تقتضيه أدلّة الباب ، فنقول ـ بعونه تعالى جلّ شأنه وتوجّه أوليائه ـ : ثمّ إنّه تارة يقع الكلام في الأدلّة الخاصّة وما تقتضيه أخبار الباب ، واخرى في الأدلّة العقليّة ومقتضى القواعد ، وقبل الشروع في البحث لا بدّ أن يعلم أوّلا أنّ المتسالم عندهم بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض إمّا من جهة كونه عقدا جائزا فيبطل بموت المتعاقدين ، وإمّا من عدم وقوعه رأسا ؛ لعدم اجتماع شرائطه.

وثانيا : لا إشكال أنّ العقود جائزا كان أو لازما بحدوثها يؤثّر أثره الأبدي ، ولذلك إبطال هذا الأثر يتوقّف على الرجوع عن مضمونه بأخذ العين الّتي تعلّق بها العقد وردّها ، كما في المعاطاة ، أو الفسخ كما في العقود الجائزة أو اللازمة ، وإلّا فلا ينحلّ العقد ولو ندم بعد حين ، فكلّ عقد وقع صحيحا مطلقا حلّه وإبطال أثره لا يمكن إلّا بأحد الأمرين : بالرجوع إلى العين بقصد الفسخ ، أو إنشائه ، ولا ثالث لهما ، كما هو واضح.

إذا تبيّن ذلك فنقول : أمّا الأدلّة الخاصّة ؛ فمنها أخبار باب الصدقة (١) ، حيث إنّ بناءهم على العمل بها في باب الوقف (٢) ، إمّا من جهة شمولها له لفظا كما هو الظاهر ؛ لورود هذه اللفظة في نفس أخبار الوقف أيضا ، وإمّا لإلحاقه بها مناطا.

فعلى كلّ حال ؛ يجرون أحكام الصدقة هنا إلّا ما خرج ، وقد ورد في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧١ الباب ١ من أبواب الوقوف والصدقات.

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢.


أخبار الصدقة أنّه لو مات المتصدّق قبل التسليم فهو ميراث (١).

ومن المعلوم ؛ أنّ العناية الّتي في هذا التعبير تقتضي كون القبض شرطا للصحّة بالمعنى الّذي ذكرنا ، وبه جمعنا بين الكلمات ، وهي الصحّة الفعليّة حيث إنّ الميراث هو الّذي ينتقل عن المتصدّق بلا واسطة إلى الوارث ، ولو كان هو شرطا لا للّزوم وكان العقد من العقود الجائزة صحّ ، فلا بدّ وأن يقول عليه‌السلام : إنّ المال بالموت ينتقل إلى الوليّ والمورّث للانفساخ ، ثمّ إلى الوارث ، لما عرفت أنّ الوقف بناء على الشرائط لزومه بالقبض يكون من العقود الجائزة.

وبالجملة ؛ طبع هذه القضيّة يقتضي أنّ بالموت ينتقل المال إلى الورثة ويكون كسائر أموال الميّت ولم يخرج عن كيسه أصلا ، كما عبّر بمثله في نظائر المقام مثل ـ على ما ببالي ـ ما ورد في الوصيّة الزائدة على الثلث (٢) أنّه كسبيل ماله يستكشف في المقام أنّ المال على حاله ولم يخرج عن ملك الميّت أصلا لبطلان العقد.

ومنها ؛ ما ورد في خصوص باب الوقف ممّا يدلّ على اعتبار القبض وهو رواية صفوان ، ففيها : سألته عن الرجل يوقف (٣) الضيعة ثمّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : «وإن كانوا كبارا ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها» (٤).

فيستفاد من مفهوم جواز الرجوع بالبدو قبل القبض أيضا أنّه شرط للصحّة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٨ الحديث ٢٤٣٩٢ و ١٨٠ الحديث ٢٤٣٩٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٥ الباب ١١ من كتاب الوصايا.

(٣) في المصدر : يقف.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٠ الحديث ٢٤٣٩٥.


وأنّه لولاه فكأنّه ما وقع عقد ، لما عرفت من أنّ البداء والندم بالنسبة إلى إبطال المعاملة لا يثمر شيئا ، ولو كان العقد جائزا حيث إنّ بحدوثه أثّر أثره فارتفاعه متوقّف على الفسخ الّذي به ينحلّ ، مع أنّ ظاهر المفهوم المزبور عدم الاحتياج إليه ، وجواز الرجوع بصرف البدو ، فتأمّل.

وأيضا ورد في ذيل رواية اخرى : «فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز» (١) لأنّ الوالد هو الّذي يلي الأمر حيث إنّه لمّا كان الجواز بمعنى النفوذ المساوق للصحّة ، وقد علّق ذلك بقبض الوالد فيستكشف منه أنّ الجواز موقوف على القبض ، هذا مقتضى الأدلّة الخاصّة.

وأمّا قواعد الباب الّتي ليست قاعدة في البين إلّا (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) وأمثاله (٣) لعدم عمومات نفس باب الوقف في مقام تشريع السبب ، مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، فمقتضاها أنّ القبض شرط اللزوم ؛ لمكان أنّ هذا العموم ـ أي وجوب الوفاء بالعقد ـ وإن كان قد خصّص ، إلّا أنّه لمّا كان الأمر مردّدا من حيث تخصيص أدلّة القبض جميع مراتب عقد الوقف حتّى صحّته الّذي مقتضاه عدم لزوم الوفاء ولو كان العقد باقيا ولم يرفع بالفسخ ، أو بعض مراتبه وهو اللزوم بعد الفسخ ، فالقدر المتيقّن من هذا التخصيص هو الأخير ، بمعنى أنّه بعد ما كانت الأدلّة شاملة للعقود الجائزة قطعا ؛ لأنّها عقد ومصداق ، فعلى هذا العقود اللازمة أيضا داخلة في الأدلّة ، وما دام موضوعها باقيا يجب

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٨ الحديث ٢٤٣٩٢.

(٢) البقرة (٢) : ٤٠ ، الرعد (١٣) : ٢٠ ، النحل (١٦) : ٩١.

(٣) المائدة (٥) : ١.


الوفاء بها ، فهي بمرتبة يجب الوفاء بها ، ولها اللزوم الموقّت ، والعقود اللازمة بجميع مراتبها يجب الوفاء بها ، كما أنّ العقد الباطل بكلّ مرتبة منه غير مشمول لها ، فحينئذ إذا بني على التخصيص القدر المتيقّن منه هو تخصيص بعض المراتب ، حيث إنّ اللزوم هو قول الصحّة ومشتمل عليها ، ومقتضى ذلك صيرورة العقد من العقود الجائزة لا بطلانه ، إن لم يقبض من أصله.

ولمّا كان المخصّص منفصلا فلا يوجب إجمال العامّ أيضا ، حتّى يسقط عن الاعتبار من هذه الجهة ، فإن لم تتمّ الأدلّة الخاصّة وأمكن المناقشة فيها فالمرجع هذه القاعدة الّتي تبيّن كون مقتضاها كونه شرطا (١) لا للّزوم ، وليس هنا دليل خاصّ يدلّ عليه ، وإن كان قد توهّم ذلك بالنسبة إلى الرواية الاخرى الواردة في خصوص المقام ، وهي رواية العمري حيث إنّ فيها : «فصاحبه فيه بالخيار» (٢) .. إلى آخره ، فقد استظهر من لفظة «الخيار» كونه من العقود الجائزة.

ولكن هذا واضح الفساد ؛ ضرورة أنّ المراد من الخيار في المقام ـ كما في سائر المقامات ، مثل قوله في بيع ما يملك وما لا يملك أو غيره (٣) : إن شاء أخذ وإن شاء ترك ـ الاختيار ، وجواز رفع اليد عن المضمون لا الخيار الاصطلاحي ، فهذه الرواية وإن لم تكن دليلا لنا كسائر الروايات ، ولكن كونها دليلا للخصم أيضا ممنوع.

وأمّا مقتضى الأصل في المقام ؛ فقد تقدّم أنّه وإن لم يكن أصل موضوعيّ

__________________

(١) كما مال إليه في «الجواهر» ويلوح منه ما بيّنا (جواهر الكلام : ٢٨ / ١٠) فراجع وتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨١ الحديث ٢٤٣٩٩.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٣٩ الباب ٢ من أبواب عقد البيع وشروطه.


ولكن مقتضى الأصل الحكم بعدم تحقّق الوقف.

هذا ؛ ثمّ إنّه بناء على كون القبض شرطا للصحّة ـ كما هو الظاهر ـ هل هو كاشف أو ناقل؟ وهنا يقع الكلام في مقامات من حيث إمكان أصل الكشف ومقتضى القواعد والأدلّة الخاصّة وأخبارها.

أمّا المقام الأوّل ؛ فقد حقّقنا البحث فيه في باب البيع ومن أراد التفصيل فليرجع إليه ، وحاصل الكلام في ذلك : أنّه إن بنينا على كون الأسباب الشرعيّة من قبيل التأثير والتأثّرات الخارجيّة ، فالحقّ أنّ الكشف بجميع المعاني لا يعقل ، لا في مسألة إجازة الفضولي في البيع ، ولا في القبض بالنسبة إلى المقام وسائر المقامات ؛ لاستحالة تحقّق الشي‌ء سابقا مع عدم تماميّة علّته وتأخّر معدّاته وأسبابه عن وجوده ، فعلى هذا ؛ الشرط المتأخّر لا معنى له ، لا على ما ذهب إليه [صاحب] «الفصول» من جعل الشرط هو تعقّب الأمر بوجود الشرط كلّما كان (١) ، ولا على ما ذهب إليه المشهور ، كما هو واضح.

وإن بنينا على كونها من قبيل الامور الاعتباريّة وأنّ أمرها موقوف على الاعتبار وتابع للكيفيّة ، فحينئذ لا إشكال في تصوير الشرط المتأخّر وإمكان تأثير المتأخّر في المتقدّم ، وذلك لأنّه على هذا ؛ كلّ ما اقتضاه الاعتبار والجعل الّذي تكون المصلحة فيه نظير الاعتباريّات الخارجيّة كالقيام للتعظيم أو التوهين ونحوهما.

وبالجملة ؛ بناء على اعتباريّة الأسباب فلا فرق في الشرط المتقدّم والمقارن والمتأخّر ، فكما أنّ للمعتبر أن يجعل وجود شي‌ء مقارن للمشروط فيه

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧٣.


شرطا وسببا لتحقّقه ، كذلك له أن يعتبره مقدّما أو مؤخّرا ، كما يكون في باب الاستصحاب ، فيما لو فرضنا كان يقينا سابقا وعمل بمقتضاه ، ثمّ بعد الخروج عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى ما عمل حدث الشكّ ، كذلك فلا إشكال أنّ دليل الاستصحاب الّذي موضوعه الشاكّ حينئذ يجري ، مع أنّ اليقين كان سابقا.

وبعبارة اخرى ؛ كلا العنوانين لهما المدخليّة في ثبوت الحكم الشرعي ، مع أنّه فصّل بينهما ورتّب الأمر على العمل السابق ، وليس ذلك إلّا لكون ظرف الجعل فعليّا والمجعول ظرفه سابق ، لوجود المصلحة في الإنشاء بهذه الكيفيّة ، والاعتبار كذلك ، فهو ليس تابعا لوجود المصلحة في ما تعلّق به الحكم ، فعلى هذا يمكن الالتزام بالكشف وتأثير الأمر المتأخّر في ما حصل سابقا ، أي يتمّ الشرط المتأخّر ولا محذور فيه.

ولمّا كان التحقيق كون الأسباب الشرعيّة من قبيل الثاني ؛ لعدم تعقّل التأثير الخارجي الحقيقي فيما لو كان المؤثّر أمرا تدريجيّا بحيث يتوقّف تحقّق الجزء اللاحق على انعدام الجزء السابق ، وإلّا يلزم أن يؤثّر المعدوم ، فأمكن الالتزام بالكشف الحقيقي والبناء على تحقّق مضمون المشروط فيه سابقا ، إذا تحقّق الشرط لاحقا ؛ لكون شرطيّته من باب الاعتبار ، ولا مانع عقلي (١) من ذلك ، ولا دليل على استحالته ، فيصير هذا الحكم مقتضى القاعدة ، بحيث لو لم

__________________

(١) كيف لا يكون المانع العقلي ، مع أنّه يلزم تقدّم المعلول على العلّة ، حيث إنّه للشرط المتأخّر له الدخل إمّا في الإنشاء أو في المنشأ ، فعلى الأوّل الإنشاء لا يكون فعليّا ، وعلى الثاني المنشأ لا يكون كذلك ، وإن أجاب عن ذلك ـ دام ظلّه ـ بأنّ هذه المحذورات بالنسبة إلى الأسباب الخارجيّة ، ونقض بمثل باب الوصيّة الّتي التأثير معلّق على الموت ، ولكن مع ذلك كلّه بعد محلّ التأمّل واسع ، وباب الوصيّة غير المقام ، كما لا يخفى ، «منه رحمه‌الله».


يعارضه الدليل ووافقه القواعد بما يلتزم به ، ولا يختصّ ذلك بباب البيع والإجازة لورود الأخبار الخاصّة فيها ، كما توهّم.

أمّا المقام الثاني ؛ فبعد أن اتّضح في المقام الأوّل إمكان الشرط المتأخّر والكشف الحقيقي ، بمعنى أن يكون التأثير بتمامه لنفس العقد الواقع سابقا مع اشتراط الإجازة أو القبض في المقام لو كنّا والجمود بظاهر عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) لكان المقتضى الحكم بالكشف الحقيقي على المعنى الّذي التزم به [صاحب] الفصول قدس‌سره وهو أن يكون الشرط هو تعقّب الإجازة أو القبض (٢).

فحينئذ كلّ ما تحقّق الشرط في الخارج يجب الالتزام بمضمون العقد الّذي إطلاقه يقتضي التأثير من حين وقوعه ، وكذا إذا علم بتحقّق الشرط في ما سيأتي ولو لم يتحقّق فعلا ، والوجه في كون ذلك هو مقتضى عموم الدليل هو عدم لزوم التخصيص فيه على هذا أصلا ولو من زمان حصول العقد إلى لحوق الإجازة أو القبض ، بل يجوز التصرّف في هذا البين بخلاف معنى المشهور ، حيث إنّه يلزم عليه التخصيص بهذا المقدار.

ولكن لمّا كان المعنى المزبور خلاف ما يستفاد من ظاهر أخبار الشرط ومعاقد الإجماعات ، حيث إنّ ظاهرها كون الإجازة وغيرها من الشروط بوجودها الخارجي معتبرا في تأثير العقد ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بتخصيص العموم بهذا المقدار.

والحكم بالكشف ؛ إذا تحقّق الشرط في الخارج ، بتقريب أنّه بعد أن أمكن

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) الفصول الغرويّة : ٧٣.


الشرط المتأخّر وتأثير اللاحق في السابق ، فحينئذ نقول : إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى العقد هو أن يؤثّر من حين تحقّقه ، وهذا مضمونه ، غايته أنّه قيّد ذلك واشترط بالإجازة أو القبض ، فإذا تحقّق الشرط بمقتضى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يكون تأثير العقد من وقوعه من حيث انتقال العين وما لها من التوابع.

والالتزام بالنقل لمّا يستلزم تخصيصه ، فأصالة عدمه يردّه فيتعيّن الكشف كما لا يخفى ، فتأمّل.

المقام الثالث ؛ في ما يستظهر من الأدلّة الخاصّة ، أمّا خصوص أخبار الباب ؛ فالإنصاف أنّها تناسب الأمرين وتجتمع مع الكشف والنقل.

نعم ؛ وردت في باب الهبة روايات مفادها أنّه ما لم تقبض فلا هبة (١) فظاهرها نفي الحقيقة رأسا إذا لم يقبض ، ويكون نظير ما قلنا في المشتقّ حيث إنّه نفى الجري والاتّصاف ما لم يتحقّق الشرط ، ولا ريب أنّ الهبة من مصاديق الصدقة فكلّما يكون الحكم لجنس الصدقة ، والمفروض أيضا تسالم الأصحاب من إجراء حكم الصدقة في الوقف ، بل عدّه منها فحينئذ ؛ بناء على التعدّي من الهبة إلى الصدقة (٢) ومنها إلى الوقف ـ كما هو التحقيق ـ فلا محيص من تخصيص القاعدة المستفادة من عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بالأخبار المذكورة ، والله العالم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٣٢ الباب ٤ من كتاب الهبات.

(٢) بل يمكن أن يستفاد من بعض أخبار الصدقة حيث إنّ ظاهر ما وردت فيها من أنّها ميراث إذا لم يقبض أنّه لم تخرج عن الملك رأسا ، «منه رحمه‌الله».


من هو القابض في الوقف؟

الجهة الرابعة في القابض ؛ لا إشكال أنّ في الأوقاف الخاصّة القابض هو الموقوف عليهم ، إنّما الكلام في أنّه هل يلزم قبض الحاضرين والموجودين بأجمعهم ، أو يكفي قبض بعضهم؟

الأقوى أنّه يكفي قبض البعض ، وذلك لأنّه بالنسبة إلى القبول وإن بنينا على لزوم قبض الجميع إلّا أنّه كان وجهه فيه ما يستفاد من قضيّة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث إنّها لمّا كانت في مكان «اوفوا بعقودكم» فهذه الإضافة لا تتحقّق إلّا بقبض الجميع ، فلولاه فإنّما يصدق العقد بالنسبة إلى من قبض.

وهذا بخلاف المقام ؛ لعدم كون دليل القبض أدلّة العقد ، بل الأدلّة الخاصّة ، كما تقدّم ومن المعلوم ؛ أنّ غاية ما يستفاد منها اعتبار القبض على نحو صرف الوجود الّذي ينطبق على البعض ، وما كان فيها ما يدلّ على اعتبار قبض جميع الموقوف عليهم ، فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه يكفي القبض في الجملة ، كما هو الموافق للأصل أيضا ، فتأمّل! فإنّه إن استظهر من الأدلّة إضافة القبض إلى الموقوف عليهم ، فهذا ينصرف إلى قبض الجميع.

وأمّا في الأوقاف العامّة سواء كان الوقف على الجهة ، كالمسجد والقنطرة ، أو على الطبيعة والأشخاص ، فلا بدّ من قبض الحاكم أو قيّمه ، أو متولّي الوقف وناظره ، أي كلّ من له التصرّف فيه ولا يكفي فيها قبض الأشخاص ومصاديق الطبيعة.

نعم ؛ في مثل وقف المسجد والمقبرة يكفي في تحقّق القبض بالنسبة إليها


أن يصلّي أحد المسلمين فيها أو يدفن حسبما ادّعي في ذلك من الإجماع (١).

هذا لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في مناقشة لصاحب «الجواهر» قدس‌سره في المقام من حيث الاكتفاء بقبض المتولّي ، وحاصلها : أنّه لم يدلّ على وجود مثل هذه السلطنة له دليل ، إذ ذلك يستلزم الولاية على الموقوف عليهم الّتي هي منحصرة بالوليّ العامّ وهو الحاكم ، وكونه ناظرا ووليّا على الوقف لا يستلزم الولاية عليهم ، بل ثبوت ولايته عليه يتوقّف على تماميّة الوقف ، والمفروض توقّف ذلك على القبض ، فكيف يمكن أن يجعل قبضه من متمّماته ويكتفى به (٢).

وفيها : أنّه بعد أن لا إشكال في أنّ اعتبار باب الوقف إنّما هو من حيث التفكيك بين أنحاء السلطنة والحقوق الّتي للمالك بالنسبة إلى العين ، فلا يبقى مجال لهذه المناقشة.

توضيح ذلك : أنّ للمالك السلطنة على المال ، ومنها ينتزع عنوان الملكيّة ، كما أنّه بذلك [له] التصرّف فيه بأيّ نحو شاء ، وله النظارة عليه بما أراد ، وإذا فرضنا أنّه يفكّك بين هذه الجهات وله ذلك بحيث إمضاء الشارع أيضا ، مضافا إلى اعتبار العقلاء بأن يجعل ملكيّة عينه لشخص واختيارها لشخص آخر ، بأن يحرّم من حوّل ملكيّتها إليه عن التصرّفات رأسا ، ويستقلّ غيره فيه ، كما أنّ له أن يجعل ما لنفسه من النظر الاستصوابي والإشرافي على المال الثالث ، فيعبّر عن الأوّل بالموقوف عليه ، وعن الثاني بالمتولّي أو الناظر ، وعن الثالث بالمشرف أو المستصوب ، فكلّ منهم قائم مقام المالك من جهة ، فحينئذ لمّا كان لكلّ من

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٩ / ٢٨.

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٤ و ٢٥.


هؤلاء حقّ في المال وإن لم يكن لبعضهم التصرّف فيه على نحو الاستقلال ، فيكفي قبض كلّ منهم إذا كان له التصرّف فيه ، فيصير قبضه قبضا للوقف ، ولمّا كان غاية ما يستفاد من الأدلّة اعتبار القبض في الجملة لا شخص خاصّ ، فلا مانع من الاكتفاء بقبض المتولّي وكلّ من قام مقامه ، فتأمّل! فإنّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ موقوف على عدم ظهور الأدلّة وانصرافها إلى قبض الموقوف عليهم ، مع أنّ إنكاره مشكل مضافا إلى أنّ عمدة نظر صاحب «الجواهر» قدس‌سره فيما لو جعل المتولّي قيّما لخصوص القبض لا أن يكون متولّيا وناظرا على الوقف ، مع أنّ مقتضى البيان المذكور الاكتفاء بقبضه أيضا ، كما صرّح بذلك قدس‌سره (١) إذا اشكلت عليه ، وهو كما ترى ، ولعلّه يأتي الكلام في هذه الفروع مزيدا على ذلك إن شاء الله تعالى.

شرائط الموقوف

المبحث الثالث : في شرائط الموقوف ، وهي أربعة : أن تكون عينا مملوكة ينتفع بها مع بقاء عينها ، ويصحّ إقباضها ، هذه الامور لا كلام في اعتبارها في الجملة ، وإنّما الكلام في الشرط الرابع ، حيث فرّعوا عليه امورا يجمعها عدم صحّة الوقف الكلّي ، وذكروا لذلك وجوها كلّها ضعيفة.

والتحقيق ؛ أن يقال : إنّه لمّا لا اشكال في أنّ القبض لا بدّ وأن يتعلّق بما ورد عليه العقد لا ما مغايره ، فحينئذ إذا فرضنا كون العقد واقعا على الكلّي الّذي غير قابل للتحقّق إلّا في ضمن الفرد ، فيكون القبض تعلّق بالفرد الّذي هو المتشخّص

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٦٥ و ٦٦.


بخصوصيّته الفرديّة فيلزم أن يكون المقبوض غير مورد العقد ، وهذا لا ينافي كون الفرد عين الكلّي حيث إنّه مع ذلك في الجملة المغايرة محفوظة ، ولذلك لا يملك الكلّي ما لم يتشخّص ، سواء كان في البيع أو في مثل الزكاة الّتي تتعلّق بالمال ، فالفقير لا يملك شيئا ما لم يتعيّن.

وبالجملة ؛ لا بدّ في الكلّي من أنّ يتشخّص نحو تشخّص حتّى يتعلّق به علقة الكليّة وغيرها ، فمن ذلك يستكشف أنّ الكلّي بما هو غير قابل لأن يتعلّق به الإيجاب والقبول ، وبينه وبين الفرد نحو مغايرة ، ولذلك لا يكتفى به في ما يعتبر القبض فيه في أبواب المعاملات من الرهن والهبة وغيرهما سوى باب الصرف ، وله خصوصيّة قد أشرنا إليها في محلّه ، وإلّا فمطلقا كان أو غيره لا يجوز كون الثمن كليّا ، وما ذكرنا هو سرّه ، حيث إنّ في هذه المقامات لمّا كان لا بدّ وأن يكون الثمن والعوض نقدا ولا يصدق ذلك على الكلّي لمكان أنّه ما لم يتشخّص لا يملك ، فلذلك التزموا بعدم الاكتفاء به ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ.

وفيه ما لا يخفى ؛ حيث إنّ ذلك مبنيّ على عدم وجود الطبيعي في الخارج والمغايرة بين مصاديقه ونفسه ، مع أنّ كليهما خلاف التحقيق ، وقد طعن ـ مدّ ظلّه ـ على المحقّق القمّي قدس‌سره لمّا عبّر عن الفرد بكونه مقدّمة للكلّي (١) مرارا من جهة أنّها مستلزمة للمغايرة ولا أقلّ من تخلّل «الفاء» في التحقّق بين المقدّمة وذي المقدّمة حتّى يصدق هذا المعنى ، والله العالم.

فروع

الأوّل : إنّه هل تجري الفضولي في الوقف أم لا؟ فيه تفصيل ؛ فإن قلنا بأنّ

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ / ٦٣.


الفضولي في البيع ونحوه على القاعدة وليس أمرا تعبديّا محضا ، كما هو الظاهر ، حيث إنّه لمّا كان بالإجازة العقد يضاف إلى المجيز فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيصير كسائر العقود الصادرة عن الأصيل ، وليس فيه أمر يخالف القواعد ، ولكن هذا مبنيّ على أن يكون الوقف من العقود حتّى يعتبر فيه البقاء لا الإبقاء ، حيث إنّه أمر حدوثيّ محض ، ولذلك لا يجري فيه الفسخ ونحوه ممّا يتوقّف على وجود أمر فعليّ حتّى ينحلّ ، وإن مال إلى جريانه فيه أيضا صاحب «الجواهر» في الطلاق (١) ، ولكن حقّقنا البحث فيه ومنعنا عن جريانه في الإيقاعات مطلقا ؛ لما أشرنا إليه من عدم اعتبار البقاء فيها حتّى تجري ما هو ملزومها.

وحيث قد بينّا في أوّل الباب أنّ الوقف من العقود ويعتبر فيه القبول ، فمن هذه الجهة لا يبقى فيه إشكال لمكان استكشاف بقائه منه اعتبارا ، وإن كان أمرا حدوثيّا حقيقة كسائر العقود.

ولكن يبقى إشكال من جهة اخرى وهي : أنّه لو كان الوجه في اعتبار القبول فيه هي الإجماعات وإطلاق معاقدها فلمّا كان يثبت بها اللوازم أيضا الّتي منها وجود الفعلي للعقد ولا بدّ من إحرازه في المقام فيتمّ الأمر ، وأمّا إن كان دليل اعتباره الأصل كما كان ذلك هو الوجه في اعتبار القبول بالنسبة إلى الأوقاف العامّة ، فحينئذ يشكل الأمر من جهة عدم ثبوت اللوازم به وهو الوجود الفعلي له.

وبالجملة ؛ فلو كان إشكال في المسألة من هذه الجهة والظاهر أنّه لا يدفع عنه ، وأمّا مسألة قصد القربة فلا إشكال فيه لأنّه نمنع أوّلا اعتباره في مطلق

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٢ / ٣.


الوقف بل إنّما يعتبر بالنسبة إلى المعدّ منه للخيرات لا كالوقف على الأولاد حيث إنّ الارتكاز في أمثاله هو التمليك ورعاية الأولاد ، وثانيا ؛ أنّه حين الإجازة لا مانع من قصده القربة ، كما لا يخفى.

الثاني : يجوز وقف المشاع كما هو المشهور ، وإن كان قد يشكل فيه من حيث كون المشاع ملزوما للقسمة ، فينافي التأبيد المعتبر في الوقف ؛ لمكان أنّه عند القسمة لا بدّ من التبادل فيملّك كلّ من الشريكين حصّته في كلّ جزء إلى الآخر في مقابل تمليكه حصّته فيه ، والتبادل ينافي الوقفيّة بالضرورة.

فعلى هذا في وقف المتاع لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن يبنى على عدم كون مثل هذا المشاع ملزوما للقسمة ، أو عدم مقتضى (١) مثل هذا الوقف التأبيد.

ولكن هذا يتوجّه لو كان اعتبار القسمة هو التبادل وهو خلاف التحقيق ؛ حيث إنّ اعتبارها هو التميّز ، وجمع ما هو المبسوط ، فكأنّ ملك كلّ الشريكين وحصّتهما كان منبسطا في تمام العين فبالتقسيم تجمعها في طرف ، ويتميّز ما هو المخلوط ، فحينئذ ليس شي‌ء في البين ينافي التأبيد.

الثالث : وقع الخلاف في جواز وقف من ينعتق على الموقوف عليه ؛ والأقوى الجواز ، وذلك لأنّ الاحتمالات المتصوّرة فيه ثلاثة : عدم صحّة الوقف ، صحّته وعدم تحقق العتق ، صحّته والانعتاق.

أمّا الأوّل ؛ نظرا إلى أنّ الوقف لمّا كان التأبيد في حقيقته مأخوذا ، والمفروض أنّه لا يمكن في المقام ، حيث إنّ مقتضى دليل العتق وعمومه انعتاق

__________________

(١) كذا ، والأحسن : اقتضاء.


الوقف بالانتقال إلى الموقوف عليه فيكون باطلا.

أمّا الثالث ؛ فلأنّه الجمع بين الدليلين غايته أنّ جهة التأبيد في مثل هذا الوقف مفقودة ، فيصير من قبيل الوقف الّذي لا يستعدّ في حدّ نفسه إلّا للبقاء مدّة لا أبدا ، فلمّا كان الأمر دائرا بين رفع اليد عن أصل أحد دليلي الوقف والعتق أو هذا الشرط فالثاني متعيّن ، لما عرفت من أنّه بعد انقطاعه ليس من جهة شرط ونحوه حتّى ينافي حقيقة الوقف ، بل من قبيل الوقف الّذي في حدّ ذاته قاصر عن البقاء أبدا ، فلا يصير ذلك مانعا من وقوع الوقف أو العتق ، ولا أحدهما عن الآخر ، بعد أن عمل بمقتضى كلّ منهما.

وأمّا الثاني الّذي هو الحقّ ؛ فلأنّ الأمر لمّا كان دائرا بين التخصيص والتخصّص والثاني هو المتعيّن فتكون النتيجة ما قوّيناه ؛ لمكان أنّه لو قدّم الوقف عملا بعموم السلطنة ، ودليل «اوفوا» فلا يبقى حينئذ موضوع للانعتاق ؛ حيث إنّ ظاهر أدلّته هو انعتاق المملوك الطلق ـ أي الخالص ـ ولو قدّم دليل العتق يكون تخصيصا لأدلّة السلطنة وغيرها.

ولا ريب أنّ تخصيصه له يتوقّف على عدم جريان تلك الأدلّة ، فيستلزم الدور ، كما في كلّ ما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص ، ومن ذلك ظهر ضعف الوجهين الآخرين ، أمّا الأوّل فواضح ؛ ضرورة أنّ عدم صحّة الوقف فرع وجود المانع ، وقد علمت عدم وجود شي‌ء قابل للمنع عنه ، وهكذا الأخير حيث إنّ رفع اليد عن مقتضى عقد الوقف وهو التأبيد يتوقّف على قصوره في نفسه على التقريب المذكور وهو يتوقّف على حصول الانعتاق ، وعلى ما ذكرنا ليس له موضوع كما لا يخفى.


شرائط الواقف

المبحث الرابع : في شرائط الواقف ، وفيه مسائل :

الاولى ، لا إشكال في أنّ للواقف أن يجعل النظارة ـ التي حسب اصطلاحهم بمعنى تولية الأمر ـ لنفسه كما له أن يجعلها لغيره ، لما تقدّم من أنّ الوقف اعتباره هو البسط فما كان للمالك من الاعتبارات والعلقة من الملكيّة والسلطنة والنظر على العين ، وكانت مجتمعة فيها ، فعند الوقف تبسط هذه الأمور ويجعل كلّ واحد من هذه الشئون لأحد ، كما له أن يجعلها لواحد فكذلك له أن يجعل هذا المقام لنفسه ، فكأنّه من أوّل الأمر لا يسلب هذه المرتبة من العلاقة والشأن عن نفسه فحينئذ لا مانع من ذلك ، كما يوافقه العمومات أيضا (١).

نعم ؛ وقع الإشكال والخلاف في أنّه هل له أن يجعل الحقّ لنفسه كما لغيره من النظّار ، أم لا؟ فمنعه بعض نظرا إلى أنّ ذلك يكون وقفا على النفس (٢) الّذي لا ريب في بطلانه ، ولكنّ الأقوى عدم الإشكال من هذه الجهة أيضا ، حيث إنّ حقّ النّظارة والتولية اعتباره الجعل وحقّ العمل ، فكأنّه استثناء عن الوقف الّذي يجوز ذلك في الجملة كما يدلّ عليه عموم «النّاس» (٣) ، و «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (٤).

فبالنسبة إلى ما لو كان الواقف هو الناظر بنفسه أيضا. لمّا كان اعتباره ما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الباب ٢ من أبواب الوقوف والصدقات.

(٢) السرائر : ٣ / ١٥٦.

(٣) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦.


ذكر ، وخارجا عن حقيقة الوقف يجوز ذلك ، والله العالم.

الثانية : لا يعتبر في المتولّي العدالة ، بل ولا الإسلام وإن زعمه جمع ، وذلك لأنّ منشأ توهّم اعتبارها كون النظارة والتولية من باب الولاية ، فحيث كانت شرافة هذا المنصب تنافي الفسق والكفر (١) ، كما زعموا ذلك في كثير من الموارد كالوصيّ والمقسّم وأمثالهما ، فمنعوا عنهما واعتبروا ما هو مشروط في الأولياء ، لكن لمّا كان المبنى فاسدا فلا وجه للمنع المزبور ، حيث إنّ النظارة اعتبارها هو الولاية على الأمر من الجمع والتقسيم وغير ذلك ، كلّما كان شأن المباشرين من الترتيب والتنظيم.

ويدلّ على هذا المعنى التوقيع المبارك مضمونه : «وأمّا ما سألت من أمر الرجل الّذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها» (٢) .. إلى آخره.

وبالجملة ؛ قد عرفت أنّ عنوان التولية هو الشأن الّذي لنفس الواقف من الاختيار على المال فحين الوقف وبسطه شئونه يجعل شأنه هذا لمن يريد ، وليس له المنصب حتّى أمكنه جعل الولاية ، فيقال : ليس للفاسق و [لا] للكافر تولّي هذا الأمر أصلا ، مضافا إلى استلزامه السبيل ، فإنّ ذلك ممتنع بالنسبة إلى من لا ولاية له ، وهكذا باب الوصيّة وأمثالها ، فلا وجه للتوهّم المزبور ، ولا غبار في المسألة إن شاء الله تعالى.

الثالثة : الناظر إذا قبل ؛ يلزم عليه ، كما هو مقتضى عموم (أَوْفُوا

__________________

(١) إن لم يكن بالنسبة إليه اجماع ، فراجع! «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨١ الحديث ٢٤٣٩٩.


بِالْعُقُودِ) (١) ، إذ لا إشكال في أنّ الناظر والمتولّي أيضا طرف للعقد كالموقوف عليه ، ولا فرق بين هذا العقد وسائر العقود إلّا أنّ لذلك يمكن تصوير أطراف ، كما تقدّم حيثيّة اعتباره ، ولو سلّمنا المناقشة فيه من جهة عدم كونه طرفا حقيقيّا للعقد ، فنقول : لا أقلّ من كون اعتباره اعتبار الشرط ونحوه ، فكيف كان له تعلّق بالعقد فيشمله العموم.

نعم ؛ لو لم يجعل له حقّ فله أن يأخذ أجرة مثل عمله عن الوقف لا لاحترام عمله وتضمين الواقف ، كما قد يتوهّم ، لفساد ذلك ، حيث إنّ المفروض أنّ عمله إنّما يكون بأمر الواقف ، ولا ربط له بالموقوف عليهم الّذين العين انتقل إليهم ، ولا أمر صدر عنهم فيكون عمله بالنسبة إليهم كمن أقدم على عمل لشخص مجّانا ، بل لأنّه عند القبول لمّا كان قبل العمل الجامع بين كونه مجّانا وغير مجّان ـ كما يقتضيه إطلاق الإنشاء والإيجاب ما لم يصرّح الموجب بشي‌ء ـ فله أن يختار كلّا من الفردين ، فتأمّل! فإنّه ربما يكون الموجب والقابل غافلا عن هذه الجهة رأسا مضافا إلى كون ذلك منافيا لما اختاره ـ مدّ ظلّه ـ من اعتبار حقّ التولية والنظارة ، كما سنشير إليه.

الرابعة : الظاهر ؛ أنّ حقّ النظارة اعتباره من باب الوظيفة ، وأنّه يكون من قبيل المستمرّي والمصرف ، لا أنّه من باب الاجرة والجعل في مقابل العمل ، بمعنى أنّ طبعه الأوّلي لا يقتضي ذلك وإن أمكن الجعل بعنوان الأجرة أيضا ، ولكنّ الغرض غالبا ليس إلّا كونه من جملة المصارف قد استثني من الوقف للعنوان المزبور ، ولو بأن يصير داعيا على قيام الناظر وما يلحقه على وظيفته.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.


وعلى كلّ تقدير تظهر الثمرة في أنّه على الأوّل لو انكشف العين الموقوفة مستحقّا للغير ، وقد كان الناظر لم يأخذ حقّه فليس على الواقف شي‌ء ، بل ولو أخذ وكانت العين باقية يجب ردّها إلى مالك العين ، فلو كان عمل بوظيفته ليس له أن يطالب الواقف اجرة حيث إنّه لا ربط له بعد الانكشاف إلّا من جهة غروره.

فيمكن أن يقال بمقتضى قاعدة الغرر ، له الرجوع ، وله مطالبة اجرة المثل ، بخلاف الثاني ، فعليه مطالبة اجرة المثل وليس له إعادة ما اخذ.

الخامسة : إذا اعتبر الواقف العدالة في الناظر فهل ينعزل بخروجه عن الوصف وفسقه أم لا؟ وهذا على قسمين : فتارة يعيّن شخصا خاصّا مع اشتراطه وصف العدالة فيه ، واخرى لا بل يجعل الأمر للعنوان ، لا إشكال في انعزاله على كلّ تقدير بزوال الوصف.

إنّما الكلام في أنّه هل يلزم حينئذ على الحاكم أن ينضمّ إليه عادل أو يجعل شخصا آخر وليّا على الوقف مستقلّا أم لا؟

الظاهر ؛ أنّ الحكم بذلك ـ أي لزوم أحد الأمرين ـ يتوقّف على إحراز نظر الواقف من حيث تعدّد المطلوب ، وأنّه أراد أن يتولّى هذا الشخص إذا كان عادلا ، وإلّا فشخص آخر ، وهكذا في الصورة الثانية أراد الناظر لوقفه ، فإن أمكن العادل فهو ، وإلّا فغيره.

فعلى هذا ؛ يلزم على الحاكم تعيين شخص آخر ، وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان منظوره وحدة المطلوب فلا.

ثمّ إنّ ولاية الحاكم في أمثال هذه المقامات من باب عدم لزوم نقض الغرض وحفظ مصلحة الوقف حسبما عمّمنا دائرة الولاية ، وبنينا على أنّ كلّ ما


يتولّاه حكّام الجور من العزل والنصب وغيرهما بمناط عدم الردع مشروع لحكّامنا أيضا.

ومن ذلك نقول : لو رأى الحاكم المصلحة في عزل الناظر المنصوب لخيانته أو يضمّ إليه آخر ؛ له ذلك إن لم يكن الواقف حين العقد لم يعلم بذلك ، ولم يوقف على نحو الإطلاق ، والناظر كذلك فإنّ الأقوى أنّ له ذلك بأن يجعل الناظر مختارا فيفعل كيفما شاء ، ما لم يضرّ بحقيقة الوقف ، ولم يناف التسبيل والله العالم.

السادسة : لو جعل الناظر اثنين فمات أحدهما فهل يلزم ضمّ آخر إليه من قبل الحاكم أم يستقلّ الثاني؟ أو اشترط العدالة فيهما ففسق أحدهما.

الاحتمالات المتصورة ثبوتا لا يخلو عن وجوه : فتارة ؛ يجعل النظارة للجامع بين الشخصين بحيث ينطبق على أوّل الفردين.

واخرى ؛ يجعلها لهما على نحو الشريك.

وثالثة ؛ يجعل لهما على نحو الاستقلال بأن يكون كلّ منهما ذا النظر التامّ.

ورابعة ؛ يجعلهما كذلك إلّا أنّه يشترط في تصرّفهما نظر الآخر.

والفرق بين الوجوه الأربعة ؛ في أنّه على الثاني جميع التصرّفات يتوقّف على نظر كليهما ، ولا ينفذ أيّ تصرف كان منهما إلّا بتصويب الآخر ، حيث إنّهما بمنزلة متولّ واحد ، فلا يجوز لأحدهما أن يسبق إلى عمل إلّا أن يجيز الآخر.

وعلى الثالث : يكون لكلّ منهما التصرّف ، فلو سبق أحدهما إلى عمل ينفذ ، وليس للآخر المنع أصلا.

نعم ؛ ما لم يختم الأمر يجوز للآخر المزاحمة فيما بقي من العمل ، ولو تشاحّا ينتهي الأمر إلى الحاكم.


وعلى الرابع : ليس لأحدهما التصرّف إلّا برضى الآخر وإذنه ، وإن كان له الاستقلال ، ولكن مشروط بنظر الآخر حتّى في مقدّمات العمل ، وعلى الأوّل كذلك أي لكلّ منهما الاستقلال لانطباق الطبيعة ، على أوّل الأفراد ولا يشترط بشي‌ء.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى عالم الثبوت ، وأمّا من حيث الإثبات يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاق الجعل يشمل الصورة الثالثة ، وأنّ ظاهره كونهما مستقلّين ، فعلى هذا إذا مات أحدهما أو فسق لا يلزم الضمّ إلى الباقي ، ولكن بناء على استظهار الشريك أيضا لا يمكن الحكم القطعي بلزوم الضمّ حيث إنّ ذلك يتوقّف على إحراز تعدّد المطلوب وأنّ الواقف أراد مطلق الاثنين ، وهو خلاف الظاهر بل الظاهر ؛ وحدة المطلوب وأنّ إرادته ما تعدّى عمّا عيّنهما إلى غيرهما ، وهذا لا ينافي بقاء الباقي والواحد الآخر على نظارته وولايته ، وإن كان قد يقال : إنّه بناء على وحدة المطلوب يلزم زوال نظارته أيضا لفقد الجزء المراد كما قالوا بمثله في الوصيّين ، ولكن هذا مدخول ، حيث إنّ الظاهر من هذه الجهة هو تعدّد المطلوب بأن يجعل الناظر كليهما ما داما موجودين وأحدهما إذا فقد الآخر.

وكيف كان ؛ الالتزام بالضمّ يحتاج إلى الدليل الّذي لم يثبت لنا ، مع أنّ الأصل أيضا بقاء الآخر على ما كان عليه من النظر ، وهكذا في باب الوصيّ فتأمّل!

السابعة : إذا لم يعيّن الواقف ناظرا فهل ولايته تبقى له ، أو تكون للموقوف عليه أو للحاكم؟ قد يتوهّم ـ بناء على ما ذكرنا من أنّ للواقف بسط شئونه وجمعه ـ أنّه حينئذ لمّا لم يعيّن ناظرا فيبقى هذا الشأن لنفسه حيث لم يسلب عن نفسه.


ولكنّه ؛ مدفوع من جهة أنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة إلى أوّل الأمر الذي تكون هذه الشئون جميعها له تبعا لمالكيّته ، وإذا فرضنا أنّه سلب العلقة الأصليّة عن نفسه ، وجعلها لغيره بلا نظر إلى شئونه الاخر ، فهي أيضا تسلب عنه لكونها تابعة للملكيّة الزائلة.

فمن ذلك ، يظهر أنّ الأقوى هو القول الثاني ، ضرورة أنّ إطلاق النقل يقتضي انتقال جميع الشئون الّتي للمالك إلى المنتقل إليه تبعا لانتقال الملكيّة إليه ، ولكن هذا لا مطلقا ، بأن يكون للمنتقل إليه الفعلي والموقوف عليه الموجود تمام السلطنة على العين ولو استلزم التصرّف في المنافع وحقوق البطون اللاحقة ، لمكان أنّ ذلك مقتضى الانتقال المطلق.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ؛ هل الملكيّة تكون تقطيعيّة ـ كما هو المفروض في الوقف ـ على البطون فحينئذ تصير السلطنة والنظارة أيضا منقطعة كما هو مقتضى التبعيّة ، فليس للبطن الأوّل النظارة على الملك إلّا بالنسبة إلى زمانهم ، وأمّا بالنسبة إلى البطون اللّاحقة فليست تصرّفاتهم نافذة أصلا.

نعم ؛ لو اقتضت المصلحة ذلك أي تصرّفا في العين بحيث يشمل حقّهم للحاكم أن يلي الأمر حينئذ لإطلاق ولايته.

وبالجملة ؛ ولاية أمر الوقف في كلّ زمان للموقوف عليهم الموجودين فيه لا للحاكم ، ولا للواقف هكذا ينبغي أن يحرّر المقام والله وليّ الإنعام.

شرائط لموقوف عليهم

المبحث الرابع : في شرائط الموقوف عليهم الّذي يعتبر فيهم المعلوميّة ،


إنّما الإشكال في ما اشترطوا فيهم من أنّه لا بدّ وأن يكونوا عند العقد موجودين ، فينقض ذلك بامور ، وقبل الخوض في المقصد ينبغي ذكر صور المعدوم.

أحدها : المعدوم الّذي ليس قابلا للوجود رأسا ، بحيث يستحيل أن يوجد عادة ، وليس له اقتضاء الوجود أصلا.

ثانيها : ما ليس بموجود فعلا إلّا أنّ له اقتضاء الوجود كالوقف على أولاد الأولاد مع عدمهم الآن ، ولكن آباؤهم موجودون.

ثالثها : الوقف على المعدومين تبعا لهم على الموجودين.

أمّا الصورة الاولى ؛ فالظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه لا يصحّ الوقف ، ووجهه واضح حيث أنّه لمّا كان الوقف اعتباره التمليك ، فكما أنّه لا بد له من مملّك ومملوك ، فكذلك لا بد له من المتملّك ، والمعدوم المطلق ليس قابلا له بحيث يصير أوّلا وبالذّات معروضا لهذا الوصف ، ولا يعتبره العقلاء لذلك كما لا يخفى.

وأمّا الصورة الثانية ؛ فهكذا فإنّه وإن كان مقتضى الوجود لهم محقّقا إلّا أنّه مع ذلك ؛ المعدوم ليس قابلا للتملّك ، وصرف الاقتضاء له ليس محلّا لاعتبار العقلاء.

ثمّ إنّه تارة ينتقض هذه الصورة بباب المنافع ، حيث إنّها مع عدم تحقّقها فعلا يعتبرون لها الوجود ، ولذلك تؤجر بل تباع ، كما في بيع الأثمار ، وتضمن في المنافع الغير المستوفاة ، مع أنّه لا فرق بين المملوك والمتملك من هذه الجهة أي لا بدّ فيهما من الوجود.

وفيه ؛ إنّه كمال الفرق بين باب المنافع والمقام ، حيث أنّ فيها لوجود


المقتضي ـ وهو العين القابلة لخروج المنافع والثمرة عنها كالدار ، والأشجار المثمرة ونحوهما ـ العقلاء يعتبرون لها الوجود بحيث يرون المالك للعين مالكا لها فعلا بل يبذلون بإزائها المال ، بخلاف المقام فإنّه بوجود الآباء والامّهات لا يعتبرون الوجود الفعلي للأولاد ، كما لا يخفى.

واخرى ؛ بالوقف على البطون اللاحقة الغير الموجودة فعلا فكيف يعتبر الملكيّة الفعليّة لهم عند انقراض البطن الأوّل أو عدمه مع اعتبار شريكهم لهم بعد بالوجود؟ فلو كان وجه المنع في المعدوم الابتدائي عدم قابليّته للتملّك فهذا المناط بعينه جار بالنسبة إليهم وكونهم تبعا ، لا يندفع به الإشكال ، ضرورة أنّ المفروض اعتبار تملّك العين لهم في زمان وجودهم الآن ، فالتبعيّة (١) أيّ ثمرة لها في ذلك؟

هذا ؛ ولكن يمكن دفع ذلك أيضا بمنع كون التمليك بالنسبة إلى المعدوم فعلا متجزّئا.

توضيح ذلك : أنّه إمّا بناء على عدم كون الوقف تمليكا بل إيقافا ، والتمليك إنّما يتعلّق بالمنافع كما قوّيناه واختاره في «العروة» أيضا (٢) ، فلأنّه لمّا كانت المنافع وجودها تدريجيّا بحيث تمرّ مع الزمان وتتقطّع به ؛ فحينئذ يعتبر لها وجودات متباينة ، فبالنسبة إلى كلّ قطعة من الزمان لها وجود غير الوجود السابق ، فإذا اضيفت المنافع ـ الّتي اعتبارها كذلك ـ إلى الطبقات المتعاقبة وانتقلت إليهم فتكون حينئذ تمليكات متعدّدة بتعدّد الطبقات.

__________________

(١) بل يمكن منع معنى التبعيّة هنا خصوصا في الوقف الترتيبي أصلا ، «منه رحمه‌الله».

(٢) العروة الوثقى : ٢ / ٥٧٤.


ومن المعلوم ؛ أنّ لازم ذلك هو تعليق تمليك كلّ طبقة إلى وجودهم ، وتكون هذه حقيقة الوقف الترتيبي ، بأنّه يكون التمليك إلى كلّ بطن مشروطا بمجي‌ء زمانهم ووجودهم ، بل يكون كذلك بالنسبة إلى المعدومين المشاركين مع الموجودين بعد وجودهم ، غايته أنّه بالنسبة إليهم توسعة وتضيّق في تمليك واحد ، فهما يختلفان باختلاف مراتب الطبقات كثرة وقلّة.

وبالجملة ؛ فليس على هذا تمليك متجزّئ مع فقد المتملّك ، بل [يكون] التنجيز فقط بالنسبة إلى البطن الموجود ، وبالنسبة إلى غيره تعليق ولا يضرّ هذا بشي‌ء حيث إنّ القدر المتيقّن من الإجماع المانع عن التعليق إنّما هو في الوقف الابتدائي وبالنسبة إلى الطبقة الاولى.

وأمّا بالنسبة إلى الطبقات اللاحقة فلا مانع ، لا شرعا ولا عقلا ، حسبما هو التحقيق من أنّ التعليق في العقود لا استحالة لها.

وأمّا بناء على كون الوقف تمليكا كما ينسب إلى المشهور فنقول : إنّه وإن كانت العين ليس لها وجود تدريجيّ ، حتّى يجري فيها التقطيع ، بل وجودها قارّ والزمان يمرّ عليها فلذلك يصير التمليك المتعلّق بها أيضا من الامور القارّة لا يعقل التقطيع فيها ، إلّا أنّه لمّا لا إشكال في أنّ التمليك الواحد يمكن تصوير المراتب له حيث إنّه قد لا يكون للملكيّة أمد فهي المطلقة ، وقد يكون لها الأمد وهي تختلف بحسب اختلاف الاعتبار ، إذ حقيقة التمليك ليس إلّا أمرا اعتباريّا ، فهو تابع لكيفيّة الاعتبار الّتي في باب الوقف تمليكات على البطون المتعاقبة ، غايته أنّه بالنسبة إلى البطن الأوّل الموجود متنجّز ، وبالنسبة إلى البطون اللاحقة معلّق في الحقيقة على وجودهم ، وقد تقدّم أنّ هذا التعليق لا يضرّ بشي‌ء.


فالحاصل ؛ أنّه كمال الفرق بين الوقف على المعدوم ابتداء ، وما إذا كان كذلك بعد الوقف على الموجود ومترتّبا عليه ، حيث إنّ في الأوّل التنجّز ، بل لا بدّ من التعليق الموجب للبطلان بخلاف الثاني الّذي لا يضرّه التعليق ، فلا مجال للمقايسة ، فتدبّر!

وثالثة : ينتقض بمسألة الوقف على الطبيعة الغير الموجود لها فرد فعلا حين إجراء العقد.

وفيه ؛ أنّها لو كانت ممّا لا يتحقّق لها مصداق أصلا كالوقف على طبيعة العالم بما كان وما يكون ، وما هو كائن (١) فهذا باطل بلا كلام ، ولو كانت ممّا يمكن أن يوجد لها مصداق كالوقف على العالم ؛ فهذا وإن لم يكن له فرد فعلا إلّا أنّ إمكان تحقّقه له وقابلية تحقّق الطبيعة يوجب اعتبار الوجود لها عند العقلاء فعلا ، ولا يتوقّف ذلك على وجود الفرد الفعلي لها كما لا يخفى ، فتأمّل!

ثمّ إنّه إذا انضم المعدوم إلى الموجود فهل مقتضى القاعدة بطلان الوقف مطلقا ، أو يصحّ بالنسبة إلى الموجود ، أو التفصيل بين الوقف الترتيبي والتشريكي؟

المشهور : البطلان بالنسبة إلى الجميع في الوقف الترتيبي ، وأمّا في التشريكي فقد أسند في «الجواهر» صحّته إلى الأكثر (٢).

ولكنّه يمكن الالتزام بالوجه الثاني مع التفصيل بين ما لو كانت الطبقة الاولى المعدومة يفرض لها الانقراض على فرض وجودهم فيصحّ حينئذ ، وما لم

__________________

(١) مستثنى منه صاحب الزمان أرواحنا له الفداء «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٨.


يفرض لها الانقراض فيبطل حتّى بالنسبة إلى الموجودين.

توضيح ذلك ، التفصيل مبناه مسألة تحليل الإنشاء والمنشأ والبناء على استظهار تعدّد المطلوب ولكن ضيق المجال لم يسعني أن أذكر الوجه فيه مع ما أفاد ـ دام ظلّه ـ من الوجوه المختلفة والفروع الكثيرة في المقام والله الموفّق.

الوقف على المملوك

وأمّا الوقف على المملوك ؛ فالّذي عليه الأصحاب بطلانه مطلقا بناء على عدم تملّك العبد شيئا وعدم انصرافه إلى مولاه ، ومع قطع النظر عن ذلك فنقول بعد الاستعانة به تعالى : أمّا بناء على كون حقيقة الوقف هو الإيقاف بالنسبة إلى العين والتمليك ، إنّما هو من حيث منافعه فيمكن أن يقال : مقتضى القاعدة صحّة الوقف من جهة أنّ العبد وإن لم يكن قابلا لتملّك المنافع ، إلّا أنّه لا قصور فيه من حيث صيرورته مصرفا له ، نظير سائر الأوقاف على المصارف ، غايته أنّ فيها على حسب أصل الوقف واعتبار الواقف ، وفي المقام من حيث تصوّر المقتضي نفسه بحيث لولاه كان مقتضى الإطلاق التملّك الحقيقي للمنفعة ، فهذا يكون من قبيل إطلاق اليد على عين حيث إنّها مقتضى الملكيّة المطلقة لصاحبها ، وإذا انتفاها ذو اليد فتصير يده عليها أمانيّة ، وإذا نفاها أيضا فلا يحكم بغصبيّته ، ولا يجوز أخذها منه إلى أن يصل حتّى يثبت كون يده عدوانيّا.

فهذه مراتب لليد ، بحيث زوال اعتبار مرتبتها السابقة لا يستلزم زوال أثارها اللّاحقة ، فكذلك في ما نحن فيه لمّا كان لتملّك المنفعة مراتب من تملّك نفسها أو الانتفاع بها إلى أن يصير الشخص مصرفا لها بحيث لم يكن له تصرّف


فيها أصلا ، بل كان من قبيل الصغير الّذي يصرف له غيره.

فحينئذ ؛ كلّ مرتبة منها لم يمكن أن يتحقّق إمّا كقصور في المقتضي ، أو لوجود المانع فينتهي الأمر إلى الأخرى ، وهنا لمّا كان المفروض عدم إمكان تملّك العبد فيصير مصرفا له لعدم مانع عنه أصلا.

وأمّا بناء على كون حقيقته هو التمليك كما هو ظاهرهم ، خصوصا في الأوقاف الخاصّة ، فبناء على كون الملكيّة من الامور الغير القارّة التدريجيّة فالوقف على الطبقات إنّما هي ملكيّة واحدة لجميعها من قبيل تمليك المنافع ، كما مال إليه بعض فالتزموا بالتقطيع في الملكيّة (١) ، فحينئذ لو كان الوقف على العبد من حيث كونه إحدى الطبقات ، فلمّا ليست له ملكيّة مطلقة للعين بل عنوانه عليها من قبيل الشركة الطوليّة ، والأدلّة المستفادة منها حجره ؛ منصرفة عن مثل هذه الملكيّة فيمكن الحكم بصحّة الوقف أيضا.

نعم ؛ بناء على كون الملكيّة مطلقة ، كما هو التحقيق فلمّا تصير حينئذ تملّكه للعين مطلقة ، وإن لم يكن له عليها سلطنة تامّة ، من حيث تعلّق حقّ بقيّة الطبقات بها فالأدلّة حينئذ ليست قاصرة عن الحجر عنها ، فيشكل الأمر ولا محيص عن الحكم بالبطلان.

هذا ؛ ولكن يمكن تصحيحه على هذا أيضا بأن يقال : لمّا لا إشكال في أنّ مقتضى التملّك بالنسبة إلى العبد موجود ، كما هو ظاهر أدلّة حجر العبد مثل قوله : (العبد وماله لمولاه) (٢) حيث إنّ ظاهر مفاده أنّ له المال ، ولكن هو وماله

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٩.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ١٨ / ٢٥٧ الحديث ٢٣٦٢١.


لمالكه ، فيكون تملّك العبد ممّا اقتضاؤه تامّا؟ ، والمانع يمنع عنه دواما ، ويكون من قبيل انتقال المال عن المورّث إلى الوارث قهرا.

فعلى هذا ؛ لا مانع من تأثير عقد الوقف والحكم بصحّته ، غايته أنّه لمّا لم يكن المحلّ قابلا لأعلى مرتبة التملّك فالعقد يؤثّر بمقدار ما يكون في المحلّ من القابليّة ، وليس في المقام إلّا الملكيّة الاقتضائيّة ، ثمّ بعد تحقّق الوقف ووقوعه بمقتضى عمومات التملّك لمال العبد ينتقل إلى مالكه ، ويصير وقفا عليه قهرا من قبيل الانتقال بالإرث.

ولا يتوهّم ؛ أنّ ذلك مخالف لمقتضى العقد حيث إنّ المقصود به تملّك العبد ووقوع الوقف عليه ، لأنّه قد أشرنا أنّ هذا الانتقال ليس من أثر العقد ، بل هو يقع على ما هو قصد ، وإنّما الانتقال من آثار تملّك العبد له لقصوره أن يتملّكه دائما.

ثمّ إنّه بناء على الصحّة هل يتوقّف صحّة قبول العبد على إذن مولاه أم لا؟ الأقوى لزوم الإذن ، وتوهّم أنّ اختيار تكلّمه بيده بالضرورة والسيرة المستمرّة ، ـ ومن المعلوم أنّ القبول منه فلا يتوقّف على إذن المولى ـ فاسد لما ذكرنا في محلّه من أنّ غاية ما قامت السيرة على ذلك تنطّقه وتكلّمه من حيث إظهاره لما في ضميره.

وأمّا لو كان مشتملا على أمر زائد عليه ويعدّ من التصرّفات فليس للعبد ذلك ، بل يتوقّف على إذن مولاه ، ولذلك لا يجوز أن يوكّل عن الغير ولو في إجراء الصيغة فقط ، والقبول في المقام من هذا القبيل لا ممّا اضطرّ إليه من إظهار ما في ضميره ، كما لا يخفى.


الوقف على الحربي

وممّا يتفرّع على شرائط الموقوف عليه من حيث قابليّته للتملّك ؛ الوقف على الحربي فقد وقع فيه الخلاف ، وكلّ تمسّكوا بوجوه ضعيفة لا تثمر شيئا وسنشير إليها.

والتحقيق : هو أن يبحث في العمومات المتكفّلة لبيان الأسباب والمسبّبات ، أمّا عموم : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (١) ، فالحقّ أنّه لا ينفع شيئا حيث إنّه لبيان حكم الوقف الفارغ وقفيّته كسائر العمومات المتكفّلة لبيان حكم عنوان وقع خارجا ، مثل : «اقض ما فات كما فات» ونحوه (٢) ممّا يكون متكفّلا لكيفيّة العمل والوظيفة.

وبالجملة ؛ فمفاد مثل هذه العمومات ونسبتها إلى ما رتّبت عليه ؛ نسبة الحكم والموضوع ، وليست في مقام بيان أصل السبب أصلا.

وأمّا العمومات المتكفّلة لحكم الأسباب مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) فهو وإن كان من حيث حكم السبب تامّا ، إلّا أنّه أيضا لمّا لم يكن مشتملا على بيان قابليّة المحلّ وإثباتها فهو أيضا لا يثمر.

حيث إنّ المفروض أنّ الشكّ في المقام ؛ في قابليّة الحربي لأن يوقف عليه من حيث تملّكه أو كونه مراد بالنسبة إليه ونحوهما ، فحينئذ العمومات المتكفّلة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦ و ٢٤٣٨٧.

(٢) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٣٥ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

(٣) المائدة (٥) : ١.


للأسباب إذا لم تؤثّر فلا محيص عن الحكم بالبطلان لما هو الأصل ، والمفروض فقدان أصل يحرز به القابليّة أو يتكفّل حكم المسبّب ، نظير (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) فيكون الأصل العملي المقتضي للفساد هو المحكّم.

فإن تمّ ما ذكرنا فيتمّ ما ذهب إليه المشهور ، وإلّا فالوجوه الاخر ، فالإنصاف أنّها غير تامّة ، كما أفاده في «الجواهر» (٢).

مع أنّه لو سلّمنا كون الوقف عليه مرادا له فلذلك يصير بنفسه منهيّا عنه ، حيث إنّ المفروض كونه مقدّمة لذلك العنوان ، فقهرا النهي المتعلّق بذي المقدّمة يسري إليها ، إلّا أنّه لمّا كان هذا النهي نفيا محضا ، وليس إرشادا ومشتملا على وضع أصلا ، فلا يقتضي فساد الوقف من وجه.

وأمّا مسألة قصد القربة ؛ فلا دليل على اعتبارها رأسا حتّى ينافيها ، فتأمّل! فإنّه ولو سلّمنا ذلك ـ أي عدم اعتبار القربة مطلقا ـ فلا أقلّ من اعتبار الرجحان فيه ، كما في مطلق الصدقة ، والنهي يضادّه بلا كلام والله وليّ الإنعام.

ثمّ إنّه إن بنينا على صحّة الوقف على الحربي لما كان يقع التعارض بين دليل الوقف والدوام المعتبر فيه (٣) ، وأدلّة : أنّ ماله في‌ء للمسلمين (٤) ، وتكون النسبة عموما من وجه فيشكل الأمر حينئذ.

والإنصاف ؛ أنّه لا إشكال في المسألة من هذه الجهة عندنا بحمد الله تعالى أصلا وذلك ؛ لأنّه بناء على كون حقيقة الوقف إيقافا لا تمليكا للعين ، فمعلوم أنّه

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٨ / ٣٠ و ٣١.

(٣) الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١٩٣ و ١٩٤.

(٤) جواهر الكلام : ٢٨ / ٣١.


بالنسبة إلى العين مقتضى تملّك المسلم لها لمّا لم يكن محقّقا فلا تعارض بين الدليلين.

وأمّا بالنسبة إلى المنافع وإن كان التحقيق فيها ما سنشير إليه ولكن مع الغضّ عنه ، نقول : لا مانع من الالتزام بأنّه كلّما يستحقّ منها فيأخذها المسلمون أيضا [و] يتملّكون عنها شيئا فشيئا ، بحيث يكون هو مقتضيا ومعدّا لتملّكهم ، وكونه مخالفا لغرض الواقف ، مضافا إلى كونه مخالفا لداعيه ، فقصور نفس المحلّ وعدم قابليّته أوجب ذلك ، كما لا يخفى.

وأمّا بناء على كونه تمليكا ؛ فعلى هذا المبنى الّذي هو المشهور فقد توهّم وقوع التعارض بين أدلّة الوقف وأدلّة الفي‌ء ، ومن الواضح أنّ ذلك يتمّ لو اجري في المقام أدلّة الفي‌ء فيجوز للمسلمين تملّك العين.

مع أنّه ممنوع ؛ حيث أنّ أدلّة الفي‌ء إنّما تجري بالنّسبة إلى الملك الطلق الّذي لا مانع من تملّكه ، ودليل الوقف لو اجري لا يبقي الموضوع لها ، فإن اجري أدلّة الفي‌ء لا بدّ من تخصيصه مع بقاء موضوعه فيكون من باب دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص ، فلا محيص عن تقديم أدلّة الوقف ، فانقدح أنّه لا تعارض بين الدليلين على هذا أيضا ، حيث إنّه يتوقّف على تساوي نسبتهما إلى المورد ، وليس هنا كذلك فتأمّل!

بقي الكلام بالنسبة إلى المنافع على المبنى المذكور فهل يجوز تملّكها عنه بعنوان الفي‌ء على ما احتملنا فيما تقدّم قريبا ، أم لا؟

الأقوى ؛ أنّه لا يجوز مطلقا وتحقيق ذلك يتوقّف على ذكر امور :

أحدها : أنّه قد أوضحنا في طيّ بحث البيع أنّ العين المسلوبة السلطنة عنها


من الشخص مطلقا بحيث لم يكن له عليها سلطنة من جهة أصلا ، لا يعتبر لها لهذا الشخص ملكيّة عند العقلاء ، ولذلك لا يجوز له ترتيب آثار الملكيّة عليها من البيع وغيره ، كما أنّ السلطنة على الشي‌ء من جميع الجهات ؛ كأن يكون له بيعه وتلفه بأيّ نحو شاء ملزوم للملكيّة ، وبذلك قد صحّحنا مسألة بيع المعاطاة ؛ حيث إنّ البائع لمّا سلّط المشتري على أنحاء السلطنة على العين فقد سلّطه على الملازم للملكيّة.

ثانيها : أنّ من العقود ما تكون الملكيّة من نتائج نفسها كأكثرها مثل البيع والصلح وغيرهما ، ومنها ما لا تكون هي ترتّب على نفسها ، بل الملكيّة ملازمة لما يترتّب عليها بالواسطة كما في المعاطاة على التحقيق ، فإنّها ليست أوّلا تفيد التمليك والتملّك في عقد البيع المصطلح والهبة ، حيث أنّ مفاد نفسها النقل والانتقال ، بل لمّا كانت مفادها التسليط المطلق الّذي ملزوم للملكيّة فلذلك قد تكون تفيد الملكيّة.

ثالثها : قد أثبتنا في أوّل الباب أنّ الوقف من حيث المنافع ليس مفاده التمليك لها ، بل إنّما هو إطلاق المنفعة وجعلها تحت سلطنة الموقوف عليه ، كما يقتضيه لفظ «التسبيل» في أدلّته ، فحينئذ لا يختلف معناه بالنسبة إلى المقامات في الأوقاف العامّة والخاصة ، والوقف للمصرف فإنّه في جميعها هو إطلاق المنفعة ، وإلّا فلو فسّرنا «التسبيل» بالتمليك يلزم الاختلاف في معنى الحديث بالنسبة إلى تلك الموارد ، مع أنّ ميثاقه واحد ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه الامور فنقول : لا إشكال في أنّه ليس للحربي السلطنة المطلقة على منافع الوقف ، بل لمّا كان للمسلمين أن يأخذوها عنه ويتملّكون ،


وليس له أن يمنعهم عنه ، فمن هذه الجهة تنتقض سلطنته فتخرج عن قابليّته لأن يصير مالكا لها.

وقد تبيّن أنّ حقيقة الوقف أيضا ليست التمليك بالنسبة إلى المنافع بل هي التسبيل الّذي له أرض عريضة يجتمع مع الملكيّة لعينها وملك الانتفاع والمراتب النازلة عنها ، فحينئذ ينحصر مصداق التسبيل بالنسبة إلى ملك الانتفاع لقصور المحل وعدم الاقتضاء فيه ، كما قد يكون كذلك بجعل الواقف فيكون الوقف على الحربي كأنّه من أوّل الأمر وقف عليه ، بأن ينتفع منه لا أن يملك منافعه ، ولو نوقش في ذلك أيضا يكون ممّا هو المصرف له.

فعلى كلّ تقدير ؛ التسليط المطلق الملزوم للملكيّة لمّا لا يمكن بالنسبة إليه فلا يصير مالكا لعين المنافع.

وعلى هذا ؛ لا تجري أدلّة الفي‌ء ، إذ مفادها جواز تملّك مال الحربي ، ولم يثبت إطلاقها حتّى يشمل الحقّ له ، أو المال الّذي هو مصرف له بلا سلطنة له عليه أصلا ، كما هو المفروض ، فتدبّر!

فتحصّل من ذلك كلّه : أنّه بناء على صحّة الوقف على الحربي ، أدلّة الفي‌ء على كلّ حال غير جارية مطلقا من حيث المنافع أو العين ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ ولكن بعد يحتاج إلى التأمّل في المباني المذكورة والمراجعة إلى أدلّة الفي‌ء حتّى يتّضح الأمر ، والله العالم.

الوقف على الذمّي

وأمّا الوقف على الذمّي فظاهر المشهور فيه على الجواز ، بل كاد أن تكون


المسألة إجماعيّة ، والفرق بينه وبين الوقف على الحربي أنّه شبهة عدم القابليّة من الجهة الّتي المشهور منعوا عنه فيه ؛ هنا غير جارية وهي مسألة تملّكه ، ضرورة أنّ الذمّي مالك لما تحت يده مطلقا ، فحينئذ العمومات بالنسبة إليه لا مانع من جريانها.

نعم ؛ بناء على ما استشكلنا من أنّه يحتمل أن يكون منشأ عدم القابليّة كون الوقف عليه موادّة وبرّا ، فعدم جريانه هنا مبنيّ على عدم حرمة الموادّة ونحوها مع الذمّي ، وجواز الإحسان والبرّ إليه كما لا يبعد ، وإلّا فلا فرق بينهما كما لا يخفى.

الوقف على الكنائس

وأمّا الوقف على الكنائس والبيع ونحوهما ، وإن أمكن أن يقال : لا بأس به من حيث الموادّة وغيرها من الوجوه المتقدّمة ، أو لم يقصد به الإعانة والترويج ؛ إلّا أنّه لمّا كان أصل هذا الفعل محرّما على المسلم لكونه ترويجا للباطل ، ولا ينافي ذلك جواز إبقائه بمقتضى شرائط الذمّة كما هو واضح ، فيكون أصل المصرف حراما ، فيصير من قبيل ما تعلّق النهي بنتيجة المعاملة الكاشفة عن عدم إمضاء السبب ، فيبطل الوقف من هذه الجهة بلا كلام.

ومن هنا ؛ ظهر حكم الوقف على كلّ مصرف محرّم من الوقف على قطّاع الطريق وشارب الخمر ومعونة الزناة وأمثال ذلك ، ممّا يكون أصل الصرف منهيّا عنه ، فهذا هو سرّ منع الأصحاب عن الوقف لأحد هذه الوجوه ، وحكمهم


ببطلانه (١) ، ولو كان الوقف للكنائس أو الكتب الضالّة من الكفّار فالظاهر أنّه لا إشكال في صحّته لما هو مقتضى التقرير ، والإشكال فيه من جهة قصد القربة ونحوها ، كما ترى.

وإنّما الكلام فيما لو وقف الحربي على مثله فهل يجري فيه الوجوه المتقدّمة من الموادّة وغيرها أم لا؟ لا ريب في أنّه مبنيّ على أن يكون النهي عن الموادّة عامّا يشمل المسلم والكافر من جهة كونهم معاقبون على الفروع أيضا ، أم يخصّ المسلم؟ والظاهر ذلك حيث إنّ مقتضى المناسبة والاقتران هو النهي عن قرب المسلم للكافر وموادّته حتّى لا يتخلّق بأخلاقه ويتأثّر هو عن هذا الانزجار أيضا ، فينتهي عن عمله ويميل إلى الإسلام.

هذا تمام الكلام في جملة من شرائط الموقوف عليهم ومهمّاتها والله العالم بالأحكام.

تعيين مدلول العنوان في الموقوف عليهم

ثمّ إنّه ؛ جرى في المقام وكذلك في باب الوصايا وأمثالهما دأبهم في البحث عن بعض العناوين الواقعة موضوعا للعقد ، كعنوان الفقير والجيران والمسلم وغيرها ، وأنّ مدلولها أيّ شي‌ء؟ فهل ينصرف الفقير ـ مثلا ـ إلى الفقير من نحلة الموصي والواقف أم يعمّ؟

مع أنّ هذه كلّها مفاهيم عرفيّة ليس شأن الفقيه البحث عنها ، لعدم كونها

__________________

(١) ومن هنا ظهر حال ما لو كان الوقف على الحربي بحيث يكون مصرفا له ، فإنّ فيه يجري هذا الإشكال أيضا ، كما لا يخفى ، «منه رحمه‌الله».


موضوعا تامّا للأحكام الكلّيّة ، بل إنّما تنتج حكما جزئيّا ، وشأن المجتهد البحث عن الموضوعات الّتي تنتج حكما كلّيّا ، أي ما رتّبه الشارع عليها ؛ كالركوع والسجود والصعيد وأمثالها.

ومن المعلوم ؛ أنّ تلك المفاهيم ليست كذلك ، بل نتيجة البحث فيها انطباق الكبرى الكلّي عليها ، كعمومات الوقف في المقام.

فكذلك قد يقال : إنّ وجه اعتبار قول الفقيه في أمثالها إنّما هو من باب اعتبار قول أهل الخبرة من جهة كون الفقيه مشخّصا لمصاديق تلك المفاهيم كما في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة.

ولكن يقع إشكال آخر حينئذ من جهة اخرى ، حيث إنّه على هذا لا بدّ وأن يتعدّد الفقيه المشخّص لعدم اعتبار قول الواحد في الموضوعات ، مع أنّ السيرة الاكتفاء بقول الفقيه الواحد ، كما أنّه لا يزال يستفتون عن العلماء والفقيه عن الامور المذكورة ومفاهيمها بلا احتياج إلى تعدّدهم أصلا ، فهذا لا يحسم مادّة الإشكال ، فلا بدّ وأن يكون وجه آخر ، وتنقيحه يحتاج إلى ذكر مقدمة.

وهي : أنّه قد حقّقنا في بحث اعتبار قول أهل الخبرة أنّ حصول هذه الملكيّة والخبرويّة في أمر تكون من جهة كثرة ممارسته في الامور المحسوسة واستقراء النظائر ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى تقويم الأبنية والدور واعتبار قول مقوّميها.

واخرى تكون من جهة الحدس وإعمال النظر في الامور الخفيّة الغير الراجعة إلى الحس ، كما يمكن أن يكون من هذا القبيل مسألة تقويم الجواهر واللآلي ، فهذا لا خفاء في أنّ وجه اعتبار قول أهل الخبرة يمكن أن يكون من أحد الوجهين :


أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل ، فلمّا كان القول يرجع إلى الإخبار عن الخارج والأمر الحسّي بحيث لم يكن للرأي فيه دخل أصلا فيجري فيه حكم سائر موارد الإخبار عن الموضوعات الخارجيّة.

وأمّا في القسم الثاني ؛ فلا إشكال أنّ وجه الحجيّة فيه إنّما هو مسألة الرأي والنظر بحيث يكون القول طريقا إلى الرأي الّذي هو طريق إلى الواقع ، بخلاف الأوّل الّذي ليس القول إلّا طريقا بلا واسطة إلى الواقع ، ففي هذا القسم للرأي كمال المدخليّة.

فبناء على جريان هذا التفصيل في مسألة أهل الخبرة ـ كما هو التحقيق ـ فلمّا يصير مناط حجيّة قولهم في القسم الثاني ما هو المناط في باب حجيّة قول المجتهد للمقلّدين ، وليس هو إلّا حكم العقل برجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم به بحيث يكون ذلك ارتكازيّا لكلّ أحد ، فكذلك يكون قوله ورأيه في المقام للمختبرين حجّة كما في قول المجتهد للمقلّدين.

إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّه لا إشكال في أنّ مسألة تشخيص المفاهيم المذكورة ليست من قبيل الامور المحسوسة بل لمّا كان يرجع إلى تمييز ما هو المفهوم العرفي للألفاظ المذكورة وتشخيص الظهورات فيها ، بحيث يكون للنظر والرأي كمال المدخليّة لها ، ولا يمكن حصول ذلك للعوام من الناس ، ولو كانت المفاهيم عرفيّة ، كما ربّما يكون هكذا في موضوعات الأحكام الكلّيّة كالصعيد ونحوه ، حيث إنّه وإن كان معنى لغويّا ومفهوما عرفيّا ، ولكن مع ذلك لمّا كان فيه خفاء ومنشأ للاشتباه ، بحيث لا يمكن رفعهما وتشخيص المدلول الحقيقي إلّا بإعمال الفكر والرويّة فينحصر ذلك بالفقيه ويصير من شئونه ، فإذا انتهى الأمر


إلى ذلك ، فيصير قوله حجّة على غيره ، لما عرفت من الارتكاز وبناء العقلاء ، ولا يحتاج إلى التعدد أيضا إذ المفروض عدم رجوع الأمر إلى باب الشهادة ، بل صيرورته من قبيل الفتوى.

وعلى هذا أيضا ؛ يترتّب ثمرة اخرى من حيث جواز حكم الفقيه وقضاء المجتهد برأيه ، بناء على كون وجه حجيّة قوله هو ذلك لا من باب الشهادة لجواز أن يحكم القاضي برأيه في المرافعات بخلاف مسألة الشهادة ، إذ ليس ما يراه الشاهد حجّة على الغير ، كما لا يخفى.

وبالجملة ؛ فالتحقيق حجيّة رأي الفقيه ونظره في موضوعات الأحكام مطلقا كما هو المعروف ، سواء كان منتجا للحكم الكلّي أو الجزئي وكلاهما من واد واحد ، وهو أنّه لمّا كان على كلّ حاكم تشخيص موضوع حكمه ؛ فعلى الفقيه ذلك أيضا ، فلا فرق في الموضوعات المستنبطة بين الكلّيّة والجزئيّة فتدبر!

تفسير عناوين الموقوف عليهم

إذا اتّضحت الكبرى بعونه سبحانه وتعالى فينبغي البحث عن بعض الصغريات الّتي وقع الكلام فيها.

منها : لفظ الفقراء ، حيث إنّه مع كونه عامّا يشمل كلّ فقير من أيّ قوم ونحلة المتسالم عندهم انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، ولم يدّعوا ذلك في لفظ المسلمين وبني آدم وأمثالهما ، مع أنّ الظاهر وجود وجه الانصراف فيها أيضا ، فيمكن أن يكون الفرق من جهة أنّ جميع هذه الألفاظ وإن كانت من حيث وضعها مطلقة ومقتضية للتعميم ـ إلّا أن يمنع عنها الانصراف الّذي من قبيل التقييد ـ إلّا


أنّه لا إشكال في جهة فرق بين نفقة الفقير وغيره كالمسلمين ، حيث إنّ الفقير ليس تحته نوع أو صنف أخصّ بحيث يكون للمتكلّم العدول عنه ، والتعبير به ـ بل لو أراده ـ فلا بدّ له من تقييد نفس اللفظ بالعنوان الأخصّ كالمؤمن أو العالم وأمثالهما ، وهذا بخلاف لفظ المسلمين ، فلمّا يكون تحته نوع خاصّ كالمؤمنين بحيث له التعبير عنه لو أراده ، فلم يحتج إلى التعبير به مقيّدا.

فعلى هذا ؛ اللفظان وإن كانا مشتركين في وجه الانصراف ـ وهو الاسترحام والرّأفة إلى من يصلح لهما الّذي هو فقراء نحلة نفس المتكلّم والواقف ـ ولكنّ العدول عن لفظ في مثل المسلم والتعبير به يكشف عن إرادته العام ، فيصير هذا مانعا عن المانع وهو الانصراف ، فاللفظ يبقى على ظهوره الأوّلي من الإطلاق.

وأمّا في لفظ الفقراء والعالم وغيرهما فلا مانع عن الانصراف ، فلمّا لم يكن ، ويحتمل اعتماد المتكلم عدم تقييده بهذا الانصراف فالمانع على حاله باق ولم يؤثّر الإطلاق المقتضي الوضع ، فتأمّل!

ومنها : لفظ المؤمن لا إشكال أنّه وإن كان ظاهرا فيمن يعتقد بالأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ، ولكن ليس بحيث لم يكن قابلا للمناقشة والتأمّل ، بل الاصطلاح فيه في الجملة أيضا مختلف فيه قديما وحديثا ، وهكذا لفظ الشيعة فقد وقع الخلاف فيه أيضا أنّه هل ينصرف إلى المعتقدين بإمامة اثني عشر أو يعمّ سائر أصناف الإماميّة فلا بدّ وأن يلاحظ حال الواقف ومعتقده أوّلا ، بل يؤخذ مطلقا بما هو معنى اللفظ واقعا.

وتنقيح البحث في ذلك : هو أنّه إن قلنا : إنّ إطلاق هذه الألفاظ واستعمالها


في غير معناها الأصلي للاعتقاد المستعمل كونه هو المعنى الحقيقي الأوّلي كاستعمال طائفة الإسماعيليّة لفظ المؤمن فيمن يعتقد بأنّه إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام من قبيل الخطأ في التطبيق ، ونظير الشبهة المصداقيّة في ما يوجّه أحد حكمه إلى العنوان وطبّقه على شخص متّصف بنقيضه معتقدا بأنّه موصوف به كالآمر والمجيز بدخول العادل داره وتصريحه بدخول زيد معتقدا بأنّه منهم مع كونه فاسقا واقعا ، أو ليس من هذا القبيل بل من باب استعمال اللفظ وإطلاقه على معنى يعتقد أنّه المعنى الحقيقي بحيث لم يكن من باب تطبيق العنوان عليه بل من تطبيق اللفظ على الموضوع له بلا رعاية واسطة وعنوان في البين؟

فإن بنينا على كونه من الأوّل فلا محيص عن حمل اللفظ على الموضوع له الأصلي مطلقا بلا رعاية حال الواقف ، كما هو الضابط في كلّ ما يكون من الخطأ في التطبيق ، وقد عنونوه في مسألة تعارض الوصف والإشارة.

وإن قلنا : إنّه من الثاني فلا بدّ أن يحمل على معتقد الواقف عملا بمقصوده.

والظاهر ؛ أنّه من هذا القبيل حيث إنّ احتمال المعنى الأوّل بعيد هنا ، إذ لازمه أن يكون المتكلم أراد الموضوع له الأصلي أوّلا ، ولو إجمالا ثمّ أراد ما هو معتقده من معنى اللفظ والنقل منه إليه حتّى يقال : إنّ هذا انتقاله لما كان من الخطأ في التطبيق فلا يرتّب عليه الأثر ، مع أنّه ليس كذلك بل المستعمل لا يرى للفظ معنى ، سواء معتقده ، ولا يحتمله أصلا فيطبّق اللفظ عليه من أوّل الأمر.

فعلى هذا ؛ لا وجه لما قوّاه في «الجواهر» في المقام قدس‌سره (١) ، بل عليه في الحقيقة هو الأخذ بتنقيص مقصود الواقف ، كما لا يخفى فتأمّل!

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٣٨ و ٣٩.


وأمّا الشيعة ؛ فهي وإن كانت في عصرنا تنصرف إلى الفرقة الناجية من الإماميّة ، وليست باقية على ما لها من المعنى في الصدر الأوّل وهو مطلق من شايع عليّا عليه‌السلام وقدّمه على غيره ، ولكن يقع الكلام فيها أيضا من حيث إنّه تنصرف إليهم مطلقا ولو كان الواقف من غيرنا من فرق الشيعة أو لا ، بل فيه من الجهة المذكورة ينصرف إلى أهل نحلته.

وما يوضح البحث هو أنّه : لو كان الوجه في الإطلاق (١) المزبور هو الانصراف لا النّقل عن معناه الأصلي فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه من كلّ طائفة يصدر ؛ يحمل على معناه العامّ لما بيّنا في لفظ المسلمين ، فهنا أيضا لأجل وجود نوع الأخصّ تحت لفظة الشيعة ، فالعدول عنه والتعبير بها يكشف عن إرادة المعنى العامّ وتصير قرينة عليها ، فيمنع عن تأثير الانصراف الناشئ عن النفقة والاسترحام ، أو لا أقلّ من أن يزاحمه فيؤثّر ما هو المقتضى لطبع اللفظ من الإطلاق ، ولو كان سبب ظهورها ودلالتها على المعنى المصطلح فعلا هو كثرة الاستعمال والإطلاق أو النقل بحيث صار المعنى الخاص بمعنى الوضع الثانوي ؛ فحينئذ لا محيص عن حمله عليه عن كل طائفة يصدر سواء كانت من الفرقة المحقّة أو سائر الفرق ، ضرورة أنّ اللفظ يحمل على المعنى الموضوع له ولا اختصاص له بنحلة دون نحلة.

ولمّا كان الظاهر هو الاحتمال الثاني فلا بد من العمل بما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، سواء كان الواقف من الفرقة المحقّة للشيعة أو غيرها ، فهكذا ينبغي تحرير المقام كما لا يخفى والله العالم.

__________________

(١) ظهوره في المعنى الخاص ، «منه رحمه‌الله».


ومنها : ما لو انتسب إلى محلّ ـ كالعالم النجفي ـ فالحكم حينئذ معلوم ، إلّا أنّه قد يقع الإشكال فيما لو لم يكن الموقوف عليه موجودا بل يكون ذلك وقفا على المعدوم فيبطل ، أو يصحّ ويحمل على تعدد المطلوب كما مال إليه بعض من عاصرناهم (١) أو لا؟

والتحقيق أن يقال : إن جعلنا العنوان المأخوذ في حيّز العقد عنوانا مشيرا كقول القائل : «أكرم من في الصحن» بأن يكون اللفظ إشارة إلى العالمين الموجودين في النجف بأشخاصهم ؛ فهذا يكون من باب الوقف على المعدوم ، ولا مجال للحمل على تعدّد المطلوب بأن يصرف الوقف إلى غير العلماء من أهل النجف ، إذ لا معنى له بالنسبة إلى الأشخاص.

وإن جعلنا نفس العنوان موضوعا فحينئذ إن قلنا بأنّ العناوين الكليّة وإن لم تكن لها أفراد فعليّة ، ولكن كانت قابلة لأن تتحقق لها الأفراد ، فهذا يعتبر لها الوجود فعلا كما بنينا عليه سابقا فيصحّ الوقف ، ولا بدّ أن يحفظ الثمرة إلى أن يوجد الأفراد ولا سبيل إلى الصرف في غيرهم ما لم يوجد ، ولضرورة أنّه ينافي اعتبار الوجود الفعلي للعنوان ، وإن لم نبن على ذلك ، فحينئذ يجري كلام الحمل على تعدد المطلوب وعدمه من حيث الصرف في علماء غير النجف لا في فقرائه مثلا ، كما لا يخفى.

ومنها : لفظ الجيران ؛ فقد وقع الخلاف فيه من حيث حمله على المعنى العرفي أو على المعنى الشرعي ، ثمّ بالنسبة إليه أيضا يكون الخلاف ، كما سنشير إليه.

__________________

(١) لم نعثر على هذا القول.


لا إشكال أوّلا ؛ أنّ بالنسبة إلى معناه العرفي ليس له مفهوم معيّن بل هو يختلف من حيث الموارد جدّا ، إذ اعتبار الجار في العقود الصغيرة غير اعتباره بالنسبة إلى الدور الواقعة في الشوارع والجوادّ العظيمة ، كما أنّ اعتباره من حيث نفس الدور من جهة الصغر والكبر يختلف كثيرا ، فحينئذ اجتماعه مع التحديد الشرعي ـ وهو أربعين ذراعا وتصادقهما ـ نادر غايته ، فلذلك يشكل الأخذ بالحدّ الشرعي وطرح المعنى العرفي رأسا.

إلّا أن يقال : إنّه من هذا الاختلاف الكثير في المفهوم العرفي ومصاديقه نشأ التحديد الشرعي ، كما في غيره من الموارد ، فإنّ الشارع العالم بالواقع لمّا رأى الاختلاف فقد حدّد وعيّن المصداق الواقعي.

ثمّ إنّه بالنسبة إلى التحديد الشرعي أيضا ؛ يقع البحث في أنّه [هل هو] إخبار عن الواقع وتعيين لما هو المصداق الواقعي ، حيث إنّه ما من مفهوم إلّا له مصاديق مشكوكة حتّى بالنسبة إلى نفس الواضع من حيث الشكّ في حدّ المفهوم المسمّى بالشكّ في الصدق الملحق بالشبهة المفهوميّة ، فلذلك ؛ الشارع العارف بالواقع يعيّن ماله من الحدّ الواقعي ، أم لا ، بل هو تنزيل شرعي كسائر التنزيلات ولا نظر إلى الواقع أصلا؟ وقد التزم بذلك بعض من عاصرناه قدس‌سره فقال : على هذا لا مجال للأخذ بالتحديد الشرعي في غير الآثار الّتي نفس الشارع رتّبها على الموضوع (١) مثل ما ورد في رعاية حقّ الجار وغيره (٢).

وفيه : أوّلا : أنّ الظاهر من هذا التحديد ـ كما في غيره من الموارد ، مثل

__________________

(١) لم نعثر على هذا القول.

(٢) وسائل الشيعة : ١٢ / ١٢٨ الباب ٨٧ من أبواب أحكام العشرة.


الكرّ والسفر وحدّ الوطن ـ هو الإخبار عن الواقع والتعيين للمصداق ، فحينئذ لا فرق بين الآثار الشرعيّة الّتي رتّبها الشارع وما رتّبها المكلّفون ، كما لا يخفى.

وثانيا : مع تسليم المعنى الثاني بأن يكون تعبّدا محضا لا وجه لانصرافه إلى ما ذكر من الآثار بل يشمل كلّ ما وقع اللفظ موضوعا للأمر الشرعي ، كما في المقام حيث إنّ ببركة تحديد الشارع يتعيّن موضوع (أَوْفُوا) .. إلى آخره.

نعم ؛ لا بدّ حينئذ من التفصيل بين الشك في الزيادة على ما حدّده الشارع ونقصانه فإذا اقتضى التحديد العرفي مثلا (١).

هذا كلّه ؛ فيما إذا احرز كون نظر الواقف إلى الموضوع الواقعي ، لا للفظ واستعماله في المفهوم العرفي بلا أن يرى له حدّا خاصّا ، وإلّا فالمناط ما هو منظوره ، ولا وجه لانصرافه إلى غيره سواء كان تحديدا حقيقيّا شرعيّا ، أو مفهوميّا عرفيّا لأنّ الوقوف تابعة للقصود ، وقد تقدّم الوجه فيه أيضا وكيف كان ؛ مسألة جريان التحديد من الخارج إنّما يكون عند الاشتباه وإطلاق المراد.

ثمّ إنّ المناط في التحديد الشرعي بناء على المصير إليه كما هو التحقيق ما عليه المشهور من أربعين ذراعا (٢) لأربعين دارا وإن كان ذهب إليه بعض (٣) ، ولكنّه شاذّ والأخبار الواردة عليه معرض عنها (٤).

ويؤيّد الأوّل ؛ ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ أنّه لا خفاء في أنّ لفظ «الجيران»

__________________

(١) العبارة هنا غير وافية ، ونقصانها من أصل الرسالة.

(٢) ولكن إلى الآن مدركه لم يظهر لنا وإن قال الشهيد الثاني قدس‌سره : له مدرك ضعيف ، فحينئذ يلزم المراجعة إن شاء الله ، «منه رحمه‌الله» ، مسالك الإفهام : ٥ / ٣٤٣.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٥ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٤١ و ٤٢.

(٤) وسائل الشيعة : ١٢ / ١٣٢ الباب ٩٠ من أبواب أحكام العشرة.


مفهومه يختلف بالإضافة كما في لفظة «عند» الواردة في بعض المقامات مثل المبيت عند عليّ عليه‌السلام .. إلى آخره ، حيث إنّ من كان في الحرم الشريف يكون عنده بالنسبة إلى من في الصحن ، كما أنّ من في الصحن يصدق أنّه عنده بالنسبة إلى من في خارج الصحن ، وهكذا من كان في البلد يصدق عليه المفهوم بالنسبة إلى من في خارجه ويكون من هذا القبيل لفظ الجيران فمن في العقد جار مطلقا ، ومن كان في المحلة جار فيها ومن كان في البلد جار مع الإنسان فيه وهكذا إلى ما فوق.

ثمّ إنّ الّذي يصدق مطلقا بين المراتب هو الّذي جار في العقد ، بحيث يكون القدر المتيقّن منه ما يكون الفصل بينه وبين الشخص أربعين ذراعا فحينئذ إذا عبّر الواقف باللفظ المطلق فمقتضى القاعدة حمله على معناه الإطلاقي أي ما يكون جارا على كلّ حال ، فإلى ذلك يرجع التحديد الشرعي أيضا بلا إعمال تعبّد خاصّ في البين ، كما أنّه على هذا لا يلزم طرح الروايات الدالّة على التحديد بأربعين دار ، إذ لا ريب في الصدق عليها بالنسبة إلى بعض المراتب وإن لم يصدق مطلقا.

ثمّ إنّه بناء على الأخذ بالذراع فقد يقع الشكّ في مثل ما لو لم تكن الدار الأخيرة بتمامها داخلة في الحدّ بل بجزء منها ، فهل يسري الحكم إليها حينئذ أم لا ، بل محكومة بالأصل؟

الأقوى : دخولها إذا كان بمقدار يصدق لا أن يكون قليلا بحيث يلحق بالعدم ، وذلك لأنّه لا إشكال في الفرق بين بعض الألفاظ مع بعض الاخر من حيث إضافتها إلى أمر ، فمثل قول القائل : إذا مسحت الدار أو ذرعتها ظاهر في


الجميع ، ومثل : إذا مسست الدار أو دخلتها لو لم يكن ظاهرا في البعض لا أقلّ من كونه أعمّ منه والجميع.

ومن الواضح ؛ أنّ التعبير عن الحكم المزبور بقولهم : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا من قبيل الثاني ، فحينئذ ما تكون بعضها داخلة ملحقة بما هي بتمامها في الحدّ إذا كان يصدق الدخول عرفا كما أشرنا ، فافهم!

ثمّ إنّ هنا فروعا اخر ، والحقّ ما بنى عليه في «الجواهر» قدس‌سره (١) والله العالم!

حكم الشكّ في عنوان من عناوين الموقوف عليهم

بقي في المقام حكم الشكّ وأنّ مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى تلك الموارد أيّ شي‌ء؟ ونذكر ذلك في طيّ أمرين :

الأوّل : أنّه إذا شكّ في مثل لفظة «الشيعة» أنّها قد استعملت في الوقف بعد حجر معناها الأوّل أو قبله ، فحينئذ أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل وإن لم تجر لكونها لا تثبت تأخّره عنه ، ولكنّ الحقّ ـ كما عليه جمع ـ عدم مانع لجريان أصالة عدم النقل وإن كان قد يتوهّم أنّها مثبت أيضا فلا يجري.

وأنت خبير ؛ بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو بنينا على أنّها من الاصول التعبّدية ومن مصاديق الاستصحاب ، ولكنّ التحقيق أنّها من قبيل أصالة عدم القرينيّة والأمارات الجارية في الألفاظ ، وعليه بناء العقلاء ، ولذلك قد يعبّر عنها بتشابه الأزمان.

وبالجملة ؛ لا ربط لهذا الأصل بالاستصحاب بل أمارة عقلائيّة بحيث

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤١ ـ ٤٣.


يكون مثبتها أيضا حجّة فحينئذ ببركتها يحكم بتأخّر النقل عن الاستعمال ويؤخذ بلازمه ، فتأمّل!

الثاني : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في الموارد المذكورة ، كما إذا شكّ اختصاص لفظ بالفرقة المحقّة ، أو يعمّ غيرها ، فحينئذ قد يشكل في جريان أصالة عدم الوقف على الزائد ، نظرا إلى معارضتها بأصالة عدم وقف الحصّة الزائدة المشكوكة على من تيقّن دخولها في العنوان.

مثلا : إذا فرض كون منافع الوقف تبلغ خمسين تومانا ، ومعلوم كون ثلثين منها للفرقة المحقّة ، فإذا شكّ في البقيّة فالأصل عدم كونها لهم لأصالة عدم الوقف عليهم من العين بمقدار ما يقابله ، ولازم ذلك التشريك.

ومن الواضح ؛ أنّه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقام ، بل سيّال في مقامات كثيرة ، كما في باب الإرث إذا شكّ في وجود وارث آخر غير المعلومين الحاضرين ، ولمّا كان مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في انحصار الحقّ على المعلومين وعدمه.

فالتحقيق ؛ في دفع الإشكال أن يقال : إنّ الموضوع على هذا يصير مركّبا لا بسيطا ، حيث إنّ موضوع الوقف بناء على الاختصاص ـ مثلا ـ هو الفرقة المحقّة الّتي لم يكن معهم غيرهم ، وفي الإرث الانحصار إنّما يثبت للورّاث الموجودين إذا لم يكن معهم غيرهم ، وهكذا الموارد فتكون من الموضوعات المركّبة الّتي أحد جزأيه يحرز بالأصل والآخر بالوجدان ، فالمحرز بالأصل في هذه المقامات هو العقد السببي ، إذ ببركة أصالة عدم الوقف على غير الموجودين المعلومين يثبت ، والمفروض أنّ جزء الآخر محرز بالوجدان فيرتفع الإشكال بحذافيره فتأمّل! والله العالم.


فروع :

لو وقع الوقف على مصرف كالمسجد والقنطرة فاندرسا بحيث لم يكن صرفه إليهما فهل يبطل الوقف من حين الاندراس ويرجع إلى ورثة الواقف ، أو لا بل يبقى على حاله فيصرف في مسجد آخر أو قنطرة اخرى ممّا يكون الأقرب إلى نظر الواقف ، أو يصرف في مطلق البرّ؟ وجوه بل أقوال.

ونظير هذا الاختلاف وقع في الوقف المنقطع الآخر ، إلّا أنّ المشهور فيه ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ ليس ما هو المشهور في المقام ، وهو الوجه الثالث.

والفرق فيه ؛ من حيث أنّ في المقام ، [يكون] المانع من جهة اندراس رسم مصرف التسبيل والثمرة ، وهناك اندراس مصرف نفس العين ، وعدم وجود من يتلقّى الوقف ، إمّا لعدم تعيين الواقف أو لغيره.

وكيف كان ؛ مبنى الإشكال في المقام هو أنّه بعد فرض استفادة الدوام من الوقف إمّا لجعله إيقافا كما هو التحقيق ، خصوصا في الوقف على الجهة ، أو لكون نفس الوقف للدوام ، بناء على كونه تمليكا ، بحيث يكون كالحجر الموضوع في مكان المقتضي بطبعه الدّوام ، فهل اندراس رسم المصرف قابل للمنع عن هذا الاقتضاء وقاصر لطبع الوقف حتّى يوجب ذلك بطلانه من حين طروّه أم لا ، أو يفصّل بين ما هو القابل للدوام والبقاء عادة ، وما ليس قابلا له فيلتزم فيه بالبطلان ، ولو لم يلتزم به مطلقا؟ نظرا إلى جعل الوقف كذلك كاشفا عن عدم الإخراج المطلق ، ولمّا لم يبرز الواقف ما نواه فلا يضرّ شيئا من جهة عدم التأبيد.

والجهة الاخرى من الإشكال [الّذي] يكون في المقام وهو أنّه بعد البناء


على إبقاء الوقف وصحّته هل اعمل تعبّد في المقام من جهة مصرف هنا أيضا كما في باب الوصيّة بأن يتعدّى منه إلى هنا أم لا ، بل حينئذ يعمل على مقتضى القواعد من رعاية ما هو الأقرب إلى غرض الواقف؟

والأقوى في الجهة الاولى ؛ ما عليه المشهور حيث أنّ مقتضى طبع الوقف الدوام ، ضرورة أنّ المالك حين وقفه يقطع نظره عن العين كليّا ويخرجه عن ملكه رأسا ، بحيث لا يرى لنفسه ولا لمن يتعقّبه بالنسبة إليها علاقة أصلا ، فحينئذ هذه الغلبة والظّهور تصير مرتّبة على كون ارتكازه من حيث المصرف الّذي يعيّنها هو تعدّد المطلوب ، وأنّه لو انقرض المصرف يصرف في غيره ، ولا يختصّ به حقّ يستلزم ذلك بطلانه عند الاندراس ورجوع العين إلى ملك وارثه مثلا.

فعلى هذا ؛ لا وجه للتفصيل بين ما هو القابل للدوام والبقاء عادة ، وما ليس قابلا له ، إذ ما يقتضيه طبع الوقف لا يفرّق فيه ، والقرينيّة جارية مطلقا.

ومن ذلك ظهر أنّ مقتضى القاعدة ـ حيث أحرزنا من الوقف ـ تعدّد المطلوب هو رعاية غرض الواقف في المصرف ، وأنّه لا بدّ من تقديم الأقرب فالأقرب ولا يجوز العدول المتباين ، كما يكون كذلك مسألة مطلق البرّ بالنسبة إلى الوقف على المسجد ونحوه ، فحينئذ عند اندراس المسجد المعيّن لا بدّ من صرف الوقف في مسجد آخر ، إن كان قريبا بالنسبة إلى المسجد الأوّل مكانا أو الجهات الاخر ، وإن لم يكن ففي مكان آخر ولو كان بعيدا عن الأوّل ، حيث أنّ ذلك وإن كان من مصاديق الخير إلّا أنّه لمّا يحتمل كون منظوره خصوص هذا الخير فلا بدّ من رعايته حتّى الإمكان ، إلّا أن يدّعى أنّ المستفاد من الروايات الّتي أشرنا إليها لمّا كانت الضابطة الكليّة من حيث إنّ الشارع تكفّل تعيين


مصداق المصرف في أمثال هذه المقامات فيستكشف منه إلقاء الخصوصيّة ، وأنّه لا يجب رعايتها.

ولكنّ الكلام في الاستظهار المذكور أوّلا في نفس موردها ، وثانيا في جواز التعدّي عنه ، حيث أنّ الخبر الأوّل (١) فيما لو كان أحد وجوه الوصيّة معلوما والجهل بالنسبة إلى الوجوه الاخر ، لا فيما لم يكن أصل المصرف معلوما كما هو محلّ الكلام.

فحينئذ يمكن أن يقال بالنسبة إلى الوجوه الاخر : لمّا كان من باب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وهو مطلق البرّ أو برّ خاصّ ، فالإمام عليه‌السلام حكم بمقتضى القاعدة على الأخذ بالأقلّ المتيقّن فتأمّل! فإنّ الرواية مطلقة ولا اختصاص لها بهذه الصورة ، بل تشمل ما يكون الحكم المذكور فيه مخالفا للقاعدة حيث مقتضاها في المتباينين القرعة.

وأمّا الثاني : يمكن أن يكون الإمام عليه‌السلام لمّا استكشف اشتغال ذمّة الموصي بمظالم العباد فأمر عليه‌السلام بالتصدّق عنه لذلك ، وإلّا فمقتضى القاعدة صيرورة المال للورثة إذا لم يف بموصى له ، إلّا ان يقال : إنّ هذا المعنى خلاف ظاهر إطلاق الحديث فلا بدّ من حمله على الحكم بتعدّد المطلوب من جهة أنّ باب الوصيّة لمّا كان من قبيل الوقف ومقتضى طبعها الخروج القطعي عن ملك الموصي فإذا لم يف بالموصى به فيصرف في محلّ آخر عيّنه الإمام عليه‌السلام ، فحينئذ يمكن أن يصير دليلا لما نحن فيه ، ولكن بعد مجال التأمّل واسع والله العالم.

__________________

(١) على الترتيب المذكور في الجواهر : (٢٨ / ٤٦) ، «منه رحمه‌الله».


الفرع الثاني :

في «الشرائع» : ولو وقف على وجوه البرّ واطلق ، صرف في الفقراء والمساكين (١) .. إلى آخره.

لا يخفى : أنّ فيه من البحث جهات : الاولى : أنّه هل البرّ يعمّ مطلق الفعل ولو كان مباحا ، أو لا بدّ فيه من وجود الرّجحان ، ثم بناء على اعتبار الرّجحان هل يعمّ الرجحان المقدمي ، أو الّذي يلزم الرجحان بما يكون ذاتا كذلك.

ثمّ إنّه في الراجح ؛ هل يعتبر أن يكون قريبا أم لا؟ وتكون جهات اخر تظهر في طيّ البحث فنقول بعونه تعالى : أمّا الكلام في الجهة الاولى فيمكن الدعوى قريبا بأنّ لفظ «البرّ» المرادف للخير منصرف إلى الفعل الّذي فيه جهة رجحان ولا يعمّ المباح.

وبعبارة اخرى : أنّ ظاهره يأبى شمول ما ليس مبغوضا فقط ، بل البرّ يطلق على ما يكون مضافا عليه راجحا ومحبوبا ، كما أنّ الظاهر خروج القسم الثالث عن عنوان البرّ وهو الملازم ، مثل أن يعطى مال من يترك الصلاة الملازم اتّفاقا إيجادها فعلا واجبا ، مثل «الإزالة» فالبرّ منصرف عن مثل هذا الإعطاء أي في مقابل ترك الصلاة مع كونه حراما ذاتا ، وذلك لعدم سراية العنوان عن الملازم إلى الملازم.

فيبقى الكلام بالنسبة إلى القسم المتوسط ، فهل يصدق البرّ على الأفعال المقدميّة أم لا؟ كمن يعطي المال إلى الحاكم الجائر ليسلم من ضرره على نفسه أو عرضه ، وهذا على قسمين :

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٥.


فتارة ؛ يقصد بالإعطاء التوصّل به إلى ذي المقدمة الّذي هو الرّاجح بحيث يجعله نفسه وجهة لعمله ، ولا يجعل المقدمة إلّا طريقا للوصول إليه ؛ فهذا لا إشكال فيه وملحق بالأوّل ، حيث إنّ المفروض أنّ المقصود في نفسه راجح ذاتا فعلا.

واخرى : يقصد عنوان نفس المقدّمة ، كما إذا لم يجعل في المثال قصده متوجّها إلى ذي المقدّمة ولو كان يعلم أنّ من فوائده سلامة نفسه وعرضه عن شرّ المعطى عليه قهرا ، فهنا يشكل شمول البرّ لهذا الفعل من حيث دعوى انصرافه إلى غيره ، ولكن لا يبعد الشمول ، إذ ترتّب ذي المقدّمة الّذي حسن بل راجح في نفسه قهريّ ، فالمقدّمة أيضا يصير محسّنا ، غايته أنّ حسنه غيريّ لا نفسي ، ولا سبيل إلى دعوى انصراف اللفظ إلى الثاني.

نعم ؛ بناء على اعتبار القربة حينئذ قد يستشكل كما في كلّ عبادة وعمل قربيّ ذات مقدمة فينكر الإجزاء بقصد القربة بالنسبة إلى المقدمة ، بل صيرورته قريبا يتوقّف على قصد التقرّب في نفس ذي المقدمة ، نظرا إلى أنّ الإطاعة لمّا كانت من المطاوعة التي هي عبارة عن جعل العبد إرادته مطاوعا وتبعا لإرادة المولى ؛ فلا بدّ من حفظ جهة المشابهة والمماثلة بين الإرادتين ، فحينئذ لا يبقى المجال لقصد التقرّب بالنسبة إلى المقدّمة ، إذ المفروض عدم تعلّق إرادة المولى بها إلّا تبعيّا ، وجعله وصلة لذي المقدمة التي هي عباديّ ، فلا معنى لجعلها العبد مرادا مستقلّا بحيث يتقرّب بنفسها.

ولكن نحن لمّا أبطلنا هذا الأساس في محلّه ، حيث إنّ الأحكام والإرادات مطلقا كلّها مرجعها إلى المقدميّة الّتي هي استراحة النفس في هذه النشأة أو


النشأتين ، فحينئذ يلزم عدم جواز قصد التقرّب بجلّ العبادات وغيرها على التفصيل المذكور في محلّه ، فنحن في سعة عن هذه الجهة ، فيبقى الإشكال في الانصراف المذكور ولا يبعد إنكاره فتأمّل! فالظاهر ؛ أنّه لا ربط لهذا الإشكال إلّا بالمقام.

وأمّا الجهة الثالثة وهي : أنّه لا بدّ أن يتقرّب الصارف والمباشر في عمله أم لا ، بل يكفي الرجحان الذاتي للمصرف؟ إثبات اعتبار ذلك يتوقّف على الاستظهار من كلام الواقف أنّه قصد الحسن الفاعلي للفعل ، وهذا لمّا يتوقّف على إتيان الفعل لحسنه ، وإلّا فمطلق صدور الفعل الحسن عن الشخص لا يتّصف موجده بالحسن ، بل هو موقوف على قصده إصدار الفعل كذلك ؛ فلا بدّ أن يتقرّب فيه الفاعل ، وأمّا نفس عنوان البرّ والفعل الخير فلا يتوقّف على ما ذكر كما لا يخفى ، فإن تمّ الاستظهار المزبور فلا بدّ منه وإلّا فلا ، والله العالم.

الفرع الثالث :

في «الشرائع» : وكذا لو وقف على غير معيّن كأن يقول على أحد هذين إلى آخر (١) أي يبطل.

وهذا يمكن على أقسام : فتارة يقصد أحدهما معيّنا ولكنّ الصيغة يجريها كذلك ، وهذا لا مانع عن صحّته ، غايته أنّه لو بقي على الجهالة للتالي ينتهي الأمر إلى القرعة للتّعيين ، والقابل في هذه الصّورة هو الوليّ في الأوقاف العامّة ، أو على غير البالغ ، وأحد الطرفين أصالة ونيابة في الأوقاف الخاصّة لمن هو الموقوف عليه واقعا ، أو يقبل كلاهما رجاء.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٦.


وكيف كان ؛ لا إشكال في المسألة من هذه الجهة وإنّما الكلام من حيث الترديد المفروض عدمه واقعا ، وإنّما يكون الترديد صورة وهو لا يضرّ شيئا ، والإجماع المدّعى على البطلان في الصورة الآتية لا يكون هنا ، فتأمّل!

واخرى : لا يقصد المعيّن أصلا بل يجعل الوقف على الأحد بعنوانه الفردي ، بحيث يكون قابلا للانطباق على كليهما ، ولكن لا من جهة كونهما تحت الجنس ، لأنّه لم يقصد جنس «الأحد» ، بل اريد النكرة المعبّر عنها بالفرد المنتشر ، فحينئذ الانطباق على كلّ منهما إنّما هو من جهة كونه إحدى الخصوصيّتين المرادة على سبيل البدل ، فهنا الظاهر قيام الإجماع على البطلان.

وأمّا ما ذكر من الوجه من أنّ الوقف عرض فلا بدّ له من جوهر معيّن ، يرد عليه فلا يتمّ ، بل هو من قبيل الاستحسانات ، والنكتة بعد الوقوع ـ حيث إنّها أوضحت في محلّها ـ أنّ حال عناوين العقود والإيقاعات حال الوجوب ، فكما أنّه يمكن فيه الترديد في متعلّقه فهكذا فيها ، ولذلك ورد في الشرع كثيرا كما في نكاح إحدى المرأتين ، أو طلاق إحدى الزّوجتين (١) ، أو الوصية بعتق أحد العبدين (٢) بل في العتق التخييري ـ على ما حكي أيضا ـ ورد (٣) ، وكما في بيع الصبرة (٤) حسبما نشير إليه وغير ذلك من الموارد ، مع أنّه لو لم يكن معقولا لا معنى لوقوعها في الشرع فتأمّل!

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٢٥ / ١٨١ ، وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٩٧ الباب ٢٠ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد و ٢٢ / ٣٧ الباب ١٥ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٤٠٨ الباب ٧٥ من كتاب الوصايا.

(٣) جواهر الكلام : ٣٤ / ١٢٥ ، وسائل الشيعة : ٢٣ / ٩٣ الحديث ٢٩١٧٧.

(٤) جواهر الكلام : ٢٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٥٤ الباب ١٢ من أبواب عقد البيع.


وثالثة يقصد الأحد بعنوان الجنس بأن يكون الأحد محدّدا للموقوف عليه لا أن يكون عنوانا له كما في النّكرة.

وبعبارة اخرى : الفرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة هو الفرق بين مطلق الجنس والنكرة ، من أنّ الخصوصيّة داخلة فيها بخلاف الجنس ، فلا يراد منه إلّا الطبيعة الصرفة ، ولذلك في موارد التكليف في النكرة لو قصد الخصوصيّة يتحقّق الامتثال ولا تشريع ، بخلاف ما لو كان المكلّف به الجنس ، فقصد الخصوصيّة تشريع موجب لبطلان العمل.

وكيف كان ؛ الأحد إمّا أن يعتبر لا بشرط ، وإما بشرط [لا] بحيث يكون لو انضم إليه آخر لا ينقلب العنوان أو ينقلب ، كما في بيع الصبرة حيث أنّ بيع صاع منها لمّا كان اعتبر بشرط لا ، فذلك لو سلّم إلى المشتري صيعانا لا يتملّك إلّا أحدها ، مع أنّه لو كان لا بشرط لا بد أن يتملّك جميعها ، حيث إنّ الواحد الجنسي في جميعها محفوظ.

وبالجملة ؛ لا ينبغي التأمّل في الصحّة في هذه الصّورة مطلقا كما سلّمه في «الجواهر» (١) أيضا ، لعدم قيام الإجماع المحقّق في الصورة السابقة هنا ، والإمكان العقلي قد عرفته فيها ، فهنا بطريق الأولى كما لا يخفى.

الرابع : لو وقف على من كان قريبا إليه من الناس ، لا إشكال أنّه يشمل إلى الطبقة الرابعة من الأقارب ، أي من كانت الواسطة بينه وبين الواقف ثلاثة ، كما لو كان من أولاد حفيدة عمّه ، وإنّما الكلام في الطبقة الخامسة ، حيث إنّ الإشكال في شمول العنوان لها عرفا ، ويكفي في الحكم بالعدم الشك في شمول اللفظ ،

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٩.


لأصالة عدم الوقف على الزائد عن المتيقّن كما تقدم تنقيح هذا الأصل.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى غير الأولاد والآباء ، فيشمل لفظ القريب لها ولو تحقّق مائة واسطة ، كما هو واضح.

الخامس : ولو وقف على أقرب النّاس إليه ففيه جهتان من الإشكال : الأولى : أنّ المناط هو الأقرب حال الوقف أو مطلقا ، فإن كان الأوّل فحينئذ يقع الوقف بالنسبة إلى من كان موجودا منهم حال الوقف على الترتيب في باب الإرث ، فإذا انقرضوا فيصير الوقف حاله حال منقطع الآخر ولا ينتقل إلى الأقرب بعدهم ، إذ المفروض اعتباره كذلك ، والوقوف على حسب ما يوقفها أهلها.

نعم ؛ لو كان الملحوظ الأقرب مطلقا فحينئذ عند الفرائض ؛ كلّ طبقة ينتقل إلى من هو الأقرب بعدهم ، فعلى هذا لو كان شاهد أو قرينة يدلّ على الثاني فيؤخذ بها ، ولو لم يكن وشكّ فمقتضى الأصل الحكم بالأوّل كما عرفت.

الثانية : هل يلزم مراعاة الوصف التفصيلي مطلقا بحيث لا يصرف الوقف على الطبقة الأخيرة التي ليس بعدها قريب ، بل كليّا يحفظ طبقة ؛ بعد من يصرف فيهم حتّى يتحقّق معنى الأقربيّة الفعليّة ، أو لا يلزم ذلك ، بل ولو لم يكن إلّا طبقة واحدة ولو كانت أخيرة [يكون] ؛ الوقف لهم؟ وهذا نظير الأكبر المعتبر في مستحقّ الحبوة ، وكذلك الأعلم في التقليد مثلا ، فوقع الإشكال فيهما أيضا ، ومنشأ الكلّ أنّ المراد بالوصف التفصيلي في هذه المقامات الأفضليّة الفعليّة ، أو المراد عدم وجود من هو أكبر ، أو أعلم أو أقرب ، لا أنّ الوصف مناط مطلقا.

لا خفاء ؛ أنّ الجمود على ظاهر اللفظ يقتضي الأوّل ، ولكن لمّا كان الارتكاز العرفي على الثاني ، حيث إنّه معلوم أنّ المراد أنّه ما دام الأفضل والأكبر


في الأولاد ، أو الأعلم في مسألة التقليد موجودا لا يعطى الحبوة ولا يرجع في التقليد إلى غيره ، فلذلك لا بدّ من العدول عمّا يقتضيه الظاهر ، فهكذا هنا حيث أنّ المتبادر أنّه ما يكون الأقرب لا يعطى الوقف إلى غيرهم كما لا يخفى.

بقي شي‌ء وهو : أنّه هل المناط في الأقرب مطلقا ما هو المناط في باب الإرث ، بحيث لا يلاحظ معنى العرفي له أصلا بل المتبع ما عيّنه الشارع؟ أمّا فيما لا اختلاف بينهما كما هو الأغلب فإنّ في المتقرّب بالأبوين وتقديمه على المتقرّب من أحدهما ، كما أنّ الشرع قدّمه وجعله أقرب ، والعرف يساعده أيضا ، فلا بحث ، وإنّما الإشكال فيما لا يساعد كما في ابن عم الأبوين ـ مثلا ـ على العمّ الأبي فإنّ الظاهر أنّ العرف فيه يقدّم العمّ.

فقد يتوهّم ؛ أنّ الوجهين مبنيّان على أنّ تقديم الشارع وتصرّفه في أمثاله هل يكون من باب التعبّد أو تعيين للمصداق وإخبار عن الواقع ، حيث إنّ مفهوم الأقرب لمّا كان له واقع فالشارع بقوله : (أُولُوا الْأَرْحامِ) (١) وغيره كشف عن الواقع وأخبر عن معنى الحقيقي للفظ؟

فعلى الأوّل : فلا مجال للتعدّي ولا محيص عن الوقوف على مورد النصّ كما هو الأصل في مطلق باب التعبّدات ، بخلاف الثاني فلمّا يصير عليه بيان الشارع ضابطا كليّا فيكون المناط مطلقا ما عيّنه من الأقرب.

ولكن تقدّم منّا ؛ أنّ هذا يتمّ بناء على أن يكون ما في نظر الواقف من المعنى العرفي للفظ من باب الشبهة في المصداق والخطأ في التطبيق ، بحيث ما أراد من لفظ الأقرب إلّا ماله من المعنى الواقعي ، غايته أنّه خطأ طبّقه على ما يراه

__________________

(١) الأنفال (٨) : ٧٥.


مصداقا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان من باب الخطأ في حدّ مفهوم اللفظ ـ كما هو الحال في أمثال المقامات ـ فالبيان الشرعي أيضا لا يوجد لصرف اللفظ عمّا هو الظاهر فيه بزعم المستعمل إلى المعنى الشرعي ، بل يكون حاله حينئذ حال ما لو كان ما قرّره الشارع من الأعمال تعبّديا فعلى هذا ، التفصيل المذكور لا ينفع بالنسبة إلى أمثال المقام بل المتّبع مطلقا منظور العامّة ومقصود الواقف يكون صحيحا ، والله العالم.

السادس : لو كان لفظ «الوقف» إنّه : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، هل تقتضي ظاهر هذه العبارة التشريك أو الترتيب؟ الّذي أفتى به جماعة من الأساطين ممّن عاصرناهم هو الأوّل (١) ، وهو الأقوى وذلك بوجهين :

أمّا أوّلا : فلأنّ الأمر دائر بين أن تكون عبارة الذيل وهي قوله : (نسلا بعد نسل) قيدا للأولاد ، أو لكلمة «وقفت» ، فعلى الأوّل الّذي مقتضاه التشريك ، حيث إنّه حينئذ يصير بيانا للأولاد ، والمراد بها جميع الطبقات ، يلزم تقييده فقط ، ويبقى جملة «وقفت» على إطلاقها ، ولا يلزم فيه تقييد إذ بإنشاء واحد أوقع الوقف على الجميع ، بخلاف ما لو حملناه على الترتيب فلا محيص حينئذ عن جعل القيد قيدا لوقفت ، بحيث يكون الوقف على كلّ طبقة من الأولاد مترتّبا على الطبقة السابقة ، وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون إنشاؤه مترتّبا ، وهذا يلزم تقييد لفظة الأولاد أيضا وحملها على الترتيب ، فكما أنّ الإنشاء لا يعقل أن يتعلّق بالطّبقات المتعاقبة على نسق واحد ، فهكذا لفظ الأولاد قهرا يقيّد ، ولا يمكن إرادة المجموع منه فحينئذ يصير المقام من قبيل دوران الأمر بين تقييد الهيئة

__________________

(١) انظر! الحدائق الناظرة : ٢٢ / ١٧٢ و ١٧٣.


حتّى يلزم تقييدان ، أو المادّة فقط حتّى لا يكون إلّا تقييدها ، ومن المعلوم ؛ أنّ الثاني مقدّم ، فكذلك هنا يتعيّن الأوّل المستلزم للتشريك كما عرفت.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا إشكال في أنّ لازم الترتيب إرادة إنشائيّات متعدّدة على نحو الإجمال من «وقفت» بحيث يكون بالنسبة إلى الطبقة الاولى الموجودين [حال] الإنشاء منجّزا ، وبالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة معلّقا ، كلّ طبقة على انقراض الاخرى ، غايته أنّ هذا التعليق لمّا كان متعيّنا لا يضرّ ، وقد تقدّم شرح ذلك.

وأمّا التشريك ؛ فليس لازمه إلّا الإنشاء والتمليك ، الواحد بالنسبة إلى جميع الطبقات ، لأجل أنّ المفروض عدم اعتبار الترتيب بين الموقوف عليهم ، بل يكون حينئذ كلّما يوجد من أشخاصهم ينبسط الوقف ويتحقّق الموضوع للتملّك ، فعلى هذا ؛ يصير من باب دوران الأمر بين التنجيز والتّعليق ولا ريب في أنّ الأوّل متعيّن.

هذا ؛ بناء على التحقيق من كون الوقف من قبيل الملكيّة وأنّه من الامور القارّة والمالك له يختلف ويتعدّد بالنسبة إلى اختلاف الزمان حسب اعتبار الواقف ، كما اعتبر الشارع مثله في الإرث أو عدم كون الوقف تمليكا رأسا بل إيقاف.

وأمّا بناء على أنّ الوقف تمليك والملكيّة من الامور التدريجيّة وإن كان لا يلزم التّعليق حينئذ حتّى بالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة ، بل يكون نظير المنافع التدريجيّة التي يتملّك كلّ أحد منفعة زمان ، ويمكن تمليكها بإنشاء واحد يتجزّى إلى الطبقات اللّاحقة ، إلّا أنّه تقدّم فساد هذا المبنى ، والله العالم.


شرائط الوقف

المبحث الخامس : في شرائط الوقف :

الأوّل : التأبيد وهو بمعنيين : أحدهما التأبيد باعتبار دوام العين بأن لا يؤقّته ما دام العين باقية ، بل يطلق على طبيعتها ، والآخر باعتبار الموقوف عليه بأن لا يقيّد الوقف على طبقة إذا انقرضوا لم يعلم حال الوقف بعده.

وبعبارة اخرى : عدم اختصاص الوقف بالطبقة التي تنقرض ، وهذا يقع الكلام فيه في الفرع الآتي ، والكلام الآن في القسم الأوّل وله صور :

فتارة ؛ يعبّر بلفظ الوقف ويؤقّته قصدا وإنشاء ، واخرى يؤقّته لفظا لا قصدا ، وثالثة : بالعكس ، ورابعة : يعبّر بلفظ الحبس ويقصد به الوقف ولا يؤقّت ، وخامسة : يؤقّت ، وسادسة : يعبّر بلفظ الحبس ولا يؤقّت.

أمّا الصورة الاولى ؛ فيمكن أن يقال : قدر المتيقّن من معاقد الإجماعات بطلانه كما يقول : وقفت الدّار الفلانيّة إلى خمسين سنة ، بحيث يقصد في عالم إنشائه وقصده أيضا هذا المعنى ، فإنّ المستظهر من الكلمات كافة بحيث لم يكن خلاف أصلا ، أو كان ولا يعتدّ به ، أنّ في هذه الصورة لا يقع وقفا ولا حبسا ، حيث أنّ المفروض عدم قصده إلّا الوقف الّذي لمضادّته ذاتا مع التوقيت لا يقع ، وأمّا الحبس فما قصده رأسا.

ثمّ إنّ الّذي يستفاد من الإجماع في هذه الصورة مضادّة حقيقة الوقف للتّوقيت ، وأمّا الصورة النافية فقد يتبادر في النظر صحّتها من جهة عدم دخولها في معقد الإجماع المزبور ، حيث إنّ المتيقّن منه ما تكون الامور الثلاثة مجتمعة ،


والمفروض هنا فقد القصد الّذي هو أهمّها ، وإنّما عبّر بالتوقيت من جهة غفلة أو خطأ ونحوهما ، فغايته أنّه يصير هذا القيد لغوا لا يؤثّر شيئا.

ولكنّ التحقيق بطلانها أيضا من جهة دخولها في كبرى إجماع آخر ، وهو أنّه لا بدّ وأن يكون العقد بألفاظ صريحة بحيث يعلم المخاطب بما خوطب به ، ومعلوم ؛ أنّ لفظ الصريح في باب الوقف هو أن لا يكون مقيّدا بالزمان ، فلو اقرن به يوجب ذلك قلب ظهور اللفظ فلم يعلم المخاطب بم خوطب من جهة المعنى المراد من الإنشاء ، فلو لم تتمّ هذه الجهة فالإنصاف أنّه لا إطلاق للإجماع المزبور حتّى يشمل هذه الصورة.

وأمّا الصورة الثالثة : فالظّاهر فيها الفساد أيضا ، نظرا إلى أنّ المفروض عدم قصد الوقف إلّا مؤقّتا وهو يضادّ ذات الوقف ، فحينئذ لو حملناه على الصحّة من جهة الإطلاق لفظا ، مع أنّ العقد تابع للقصد فيكون من باب ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

نعم ؛ لا يبعد أن تكون هذه المسألة من قبيل ما هو المتسالم عندهم ظاهرا في باب النّكاح ، من أنّه لو نسي الأجل ينقلب دائما ، بحيث لو قلنا أنّها تتمّ على القاعدة وليست تعبديّا محضا ، فيمكن أن يقول به هنا ، ونحن قد بنينا في تلك المسألة على القاعدة نظرا إلى أنّ النكاح الدائم والمنقطع ليسا حقيقتين متباينتين ، بل الجامع بينهما حقيقة واحدة وهي العلقة الزوجيّة ، فلو اقترنت بالأجل يتحقّق فرد منه وهو المنقطع ، وإلّا فعلى مقتضى طبعها باقية ، حيث أنّ الزّوجيّة من قبيل الملكيّة التي مقتضى طبعها البقاء ، بحيث لا يزول إلّا بقسر القاسر كالحجر الموضوع على الأرض ، وليست قوامها بالقصد حتّى لو لم يقصد


الدّوام فلا توجد ، فحينئذ القدر المتيقّن من الأدلّة التي ثبت ، هو كون الإنشاء اللّفظي قابلا لأن يمنع عن تأثير ملك العلقة على مقتضى ذاتها ونشكّ في أنّ القصد قابل لأن يمنع عنها أم لا ، فالأصل عدمه.

فعلى هذا الأساس ؛ بعونه تعالى قد أتممنا تلك المسألة وحقّقنا أنّه ليس مبناها الإجماع التعبّدي فهنا أيضا نقول بمثله من جهة أنّ طبع الوقف يقتضي الدّوام ، بحيث يكفي في تحقّقه ـ كالنكاح ـ القصد لأصل حقيقته ، ونشكّ في أنّ قصد التوقيت يمنع عن تحقّقها ، فمقتضى الأصل الحكم بعدمه.

وأمّا الإجماع المزبور فقد عرفت أنّ المتيقّن منه هو ما لو كان الزّمان داخلا في حيّز الإنشاء لفظا ، فحينئذ ليس شيئا ظاهرا يقتضي بطلان هذه الصّورة.

هذا ، ولكنّه لا خفاء في الفرق بين المقام وباب النّكاح من جهة أنّ فيه ثبت اتّحاد نوعين منه ، وأنّ حقيقتهما فاردة ولا يميّز بينهما إلّا بالحدّ كالخطّ القصير والطويل ، بخلاف مسألة الوقف حيث لم يثبت له إلّا نوع واحد وهو المؤبّد ، وأمّا الجامع بينه والمؤقّت فلم نحرزه ، بل أحرزنا خلافه ، وأنّ المؤقّت منه باطل ، فحينئذ لا يبقى المجال لمقايسة ما نحن فيه بمسألة النكاح ، لأنّ المفروض أنّه لم يقصد إلّا الباطل منه ، الغير القابل للانطباق على حقيقته ، فالحق في هذه الصورة ما عليه المشهور.

نعم ؛ هل يمكن الإلزام بوقوعه حبسا في هذه الصورة أو السابقة بعد بطلان احتمال وقوعها وقفا أم لا؟ قد يحتمل ذلك نظرا إلى أنّ الوقف قوام حقيقته بأمرين ؛ الإخراج والتحبيس ، فليس أمرا بسيطا محضا ، فإذا بني على عدم تحقّق جهة إخراجه لفقد شرطه فلا مانع للحكم بتحقق الجهة الاخرى وهو


التحبيس ، نظير ما يقال في الأمر : أنّ بنسخ مرتبة خاصّة من الطلب لا يرتفع جميع مراتبه.

هذا ؛ ولكنّه مبني على إحراز تعدّد المطلوب في تلك الموارد وهو في غاية الإشكال كما لا يخفى ، ويتمسّك لذلك بصحيحي ابن مهزيار (١) وابن الصفّار (٢) ، مع أنّه لا دلالة لهما على ما ادّعي أصلا.

أمّا الأوّل ؛ قلت : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام فكتب عليه‌السلام : «هكذا هو عندي» (٣).

فهو مجمل لا دلالة له ، وإنّما يشرحه الصحيح الآخر ، مع أنّه لو كان المراد التمسّك بجزء الأوّل منه بحمل المؤقّت فيه على المؤقّت بالمعنى المزبور ، فما معنى الجزء الأخير منه؟ وعليه لا محيص عن حمل غير المؤقّت فيه على المؤبّد ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام ببطلانه وهو فاسد ، بل لا سبيل إلى هذا المعنى بالضرورة.

فحينئذ ؛ لا بدّ أن يرجع في تفسيره إلى الصّحيح الآخر ، وهو عن [ابن] الصفّار.

قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان مؤقّتا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.


فهو صحيح ممضي ، وقال قوم : أنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، قال : وقال آخرون : هو مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والّذي هو غير مؤقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الّذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، إن شاء الله» (١).

مع أنّك ترى لا مساس لهذه الرّواية ولا تعرّض فيها للمؤقّت بمعنى توقيت الوقف زمانا كما هو محلّ البحث ، هل هو بمعنى آخر الّذي يثمر في المسألة الآتية التي هي معركة آراء ، فمنها أيضا ؛ يظهر المراد من الصحيح الأوّل الذي لا ربط له بما نحن فيه كما سمعت فتأمّل! واستقم! والله العالم.

وأمّا الصورة الرابعة : فهو مبنيّ على مسألة اعتبار الصراحة في ألفاظ العقود في نفسها لا بالقرائن ، فإن قلنا أنّها تصير صريحة في الوقف فيقع العقد وقفا ، وإلّا فلا ، ومن غير هذه الجهة لا إشكال فيها كما لا يخفى.

وأمّا [الصورة] الخامسة : فباطلة لأنّه مضافا إلى جريان المانع المزبور فيه قد عرفت أنّه في حدّ نفسه ليس قابلا لأن يقع وقفا إجماعا ولا حبسا ، لكون المفروض إرادة معنى الوقف المباين معه ولا جامع لهما.

وأمّا [الصورة] السادسة : فأيضا باطلة كما يظهر من السابقة ، نعم لو أراد معنى الحبس فيها لا الوقف يمكن البناء على صحّته حبسا إن لم يعتبر التّوقيت في حقيقته ، فتأمّل جيدا! والله الهادي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٥.


الثاني من شرائط الوقف ؛ عدم التعليق ؛ وهذا شرط معتبر في مطلق العقود ، ولكن ليس وجهه عدم إمكانه عقلا كما تقدّم منّا بطلان توهّمه ، لعدم كون أسباب العقود مؤثّرات خارجيّة ، بل هي امور اعتباريّة تأثيرها تابع لكيفيّة اعتبارها ، وإنّما الدّليل عليه الإجماع كما اعترف شيخنا قدس‌سره به (١).

ثمّ إنّ التعليق على أقسام ثلاثة : أحدها : ما لو كان المعلّق عليه أمرا محقق الوقوع.

ثانيها : ما كان مقطوعا عدم تحقّقه فعلا وإن كان يحتمل وقوعه بعد.

ثالثها : ما كان مشكوك الوقوع.

أمّا القسم الأوّل : فالظاهر أنّه لا إشكال في خروجه عن معقد الإجماع كما أنّه لا إشكال في دخول الثاني أي ما كان عدم تحقّقه فعلا مقطوعا به ، فإنّه القدر المتيقّن من مقصد الإجماع.

وإنّما الكلام في القسم الأخير والتعليق على الأمر المشكوك على صور ، فقد يعلّق نفس الإنشاء ، بأن يكون المعلّق على مجي‌ء الحاجّ مثلا الإرادة ، بحيث صارت هي منوطة ، وقد يعلّق المنشأ بأن تكون الإرادة مطلقا كما في تعليق الوقف على مجيئهم ، فيفرض أن يكون إنشاء الوقف فعليّا ، وإنّما علّق ظرف تحقّقه على الشرط ، وقد لا يكون أحد الأمرين بل يجعل المعلّق عليه داعيا على عمله ، وهذا نظيره في مسألة قصد المسافة قد تصوّرناه.

فتارة ؛ يجعل قصد سفره معلّقا على سفر زيد ، واخرى يجعله داعيا وعلّة لسفر نفسه.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٦٢.


فالقدر المتيقّن من هذه الصّور ؛ أنّ القسم الأوّل منها داخل في معقد الإجماع وملحق بالقسم الأوّل ، وأمّا الثاني ؛ فلم يظهر إلحاقه به ، حيث إنّه بمحض تعليق المنشأ مع عدم إناطة الإنشاء أصلا لا مجال لدعوى انعقاد الإجماع على بطلان العقد حينئذ ، إلّا أن يقال : لمّا كان نظر المجمعين إلى المسألة عدم إمكان التفكيك بين الأثر والمؤثّر فيشمل كلامهم لهذه الصورة.

ولكن يمكن الدعوى بخروج الصورة الاولى عن كلامهم لعدم جريان الشبهة المذكورة فيها ، فتحقق الجزاء والعقد بالنسبة إليها يتوقّف على ثبوت وجود الواقعي للمعلّق ، فإن انكشف وقوعه فيكشف عن وقوع العقد وإلّا فلا.

وأمّا الصورة الثالثة : فمعلوم أنّه لا محذور فيه أصلا فتصحّ بلا إشكال إذ المفروض عدم تعليق في البين ، ولذا بنينا في مسألة المسافر أنّه إذا كان قصده كذلك يجري عليه حكم السفر من أوّل الأمر ، هذا مجمل الكلام في المقام والتفصيل يطلب من محلّه.

فرع :

في «الشرائع» : لو جعله ـ الوقف ـ لمن ينقرض غالبا .. إلى آخره (١).

لا يخفى ؛ أنّه وقع هنا تقديم وتأخير في عبارة المحقّق قدس‌سره ، وكيف كان هذه هي المسألة المعروفة وهي الوقف المنقرض الآخر ، والإشكال فيها من جهتين :

إحداهما ؛ في وقوعه وقفا مؤقّتا أو حبسا ، أو بطلانه رأسا.

والاخرى ـ بناء على الصحّة بأحد الوجهين ـ فما يعامل به بعد انقراض الموقوف عليه.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٦.


أمّا الكلام من الجهة الاولى : فالذي يمكن أن يستظهر من كلماتهم من حيث المجموع ، عدم اعتبار الدّوام في حقيقة الوقف من هذه الجهة ، بل هي الجامع بين القصير والطويل على ما استظهره صاحب «الجواهر» قدس‌سره من عبارات القوم أنّه يقع وقفا في حكم الحبس ، والابتناء على الوجه الثاني من وقوعه حبسا كما يظهر من بعضهم (١) ، فحينئذ ؛ الحكم بذلك ـ مع أنّ المفروض ظهور الصيغة في إرادة معنى الوقف ـ مبنيّ على أحد الأمرين :

الأوّل : على ما ذكرنا سابقا واحتملناه في القسم الأوّل من الوقت بحمله على الحبس ولو أراد المالك الوقف من جهة الاستظهار وتعدّد المطلوب والأخذ ببعضه إذا لم يمكن الأخذ بتمام المفهوم.

الثاني : بأن يجعل ذلك ـ أي عدم ذكر بعض الطبقة ـ للموقوف عليه وجعل المصرف ممّا يتعرّض قرينته على إرادة الحبس من لفظ الوقف.

ثمّ إنّ حكمهم بالصحّة ـ مع أنّ لفظ العقد غير صريح ـ يجعل كاشفا عن عدم اعتباره في الحبس ويخصّص الإجماع عليه لسائر العقود ، أو يسلّم شمول الإجماع له ، ودخوله في معقده ، إلّا أنّه لمّا بنوا على صيرورة نفس اللفظ من جهة القرينيّة المذكورة صريحا ، حيث إنّ مناطه ليس إلّا أن يعلم المخاطب بم خوطب؟ وهذان الوجهان مع ما فيهما من الإشكال أصل مبناهما فاسد ، لكون الفرض خارجا عن محلّ النزاع ، وهكذا الاحتمال الأوّل لما تقدّم أنّ استفادة تعدّد المطلوب في غاية الإشكال ، كما أنّ احتمال البطلان رأسا أيضا لا وجه له ، فحينئذ يتعيّن القول بوقوعه وقفا ، إلّا أنّ الذي يبعّده أنّ المرتكز في الأذهان في

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٥٤ و ٥٥.


معنى الوقف هو الخروج الأبدي وقطع العلاقة عن الوقف رأسا.

ولكن ، يمكن حمله على الغالب في الأوقاف لا أن يكون المفهوم منحصرا به مطلقا.

ثم إنّ ممّا ذكرنا ظهر الأمر في الجهة الثانية أيضا في الجملة ، وأنّ احتمال الصرف في وجوه البرّ بعد الانقراض ـ كما احتمله بعضهم (١) ـ لا وجه له أصلا إذ هو يتوقّف على الخروج المطلق عن الملك فينحصر الأمر بأحد الوجهين الآخرين.

ولكنّه يتولّد حينئذ إشكال آخر وهو أنّه قد عرفت في مسألة ما لو بطل رسم الموقوف عليه ، وقد أشرنا هناك أنّ لها جهة اشتراك مع هذه المسألة ، أنّ بناء المشهور فيها هو صرف الوقف بعد الانقراض في وجوه البرّ مطلقا ، سواء كان الموقوف عليه ممّا هو القابل للبقاء ، أو من المنقرض عادة فيطالب الفرق بين المقامين.

ويمكن أن يكون الوجه فيه ؛ أنّ في تلك المسألة لمّا كان من ذكر المصرف الدائميّ ؛ يستكشف [منه] إرادة الواقف الإخراج بقول مطلق ، فحينئذ ؛ أمّا بناء على أنّ في الأوقاف العامّة تملّك المسلمين الوقف ، فالأمر واضح ، حيث إنّه يحكم بتمليكهم إلى الأبد ، وبناء على كونها إيقافا ـ كما هو التحقيق ـ فيكون المصرف المذكور قرينة على الإيقاف الأبدي ، لا في بعض الأزمان ، فلذلك استقرّ رأي المشهور هناك على ما ذكر ، بخلافه هنا.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يتمّ مطلقا بل لا بدّ من التفصيل بين ما كان المصرف ممّا لا ينقرض غالبا ، وما لا يكون كذلك ، مع أنّ في الفرق مطلقا يمكن

__________________

(١) غنية النزوع : ١ / ٢٩٩.


المناقشة في أنّ ذكر المصرف القابل للبقاء أيضا لا يصير كاشفا على الإخراج المطلق لمكان تقيّد الإنشاء وإرادة الوقف واقعا بالمصرف المعهود ، فحينئذ ولو اتّفق بطلان رسمه ، مع ذلك لا مجال لاستظهار الإرادة المطلقة ، فلا بدّ بعده من صرفه في وجوه البرّ أو الأقرب إلى غرض الواقف ، فعلى هذا يتعيّن الوجه الأوّل في دفع الإشكال على مسلك «الجواهر» من كون الوقف العامّ تمليكا للمسلمين ، والملكيّة لمّا كانت أمرا قارّا لا تدريجيّا ؛ فإذا تحقّقت تبقى على طبعها إلى الأبد (١) والله العالم ، هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية فقد عرفت في طيّ البحث أنّ احتمال صرف الوقف في المقام بعد الانقراض في وجوه البرّ لا مجال له ، إذ المفروض بطلان الوقف حينئذ ، وإنّما الأمر يدور بين رجوعه إلى ورثة الواقف حينئذ أو الموقوف عليه ، والأوّل منهما مبنيّ على أن تكون الملكيّة أمرا تدريجيّا نظير المنافع ، بحيث كان إضافة كلّ قطعة من هذه الامور التدريجية إلى طبقة تتوقّف على اعتبارها ، فحينئذ لمّا كان المفروض عدم اعتبارها إلّا بطبقة واحدة ، أو أزيد فلا وجه لانتقال الملك إلى ورثتهم ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى ورثة الواقف لما يقتضيه طبع الملك بعد انقضاء طرف الاعتبار.

وأمّا على ما هو التحقيق ؛ من كون الملكيّة من الامور القارّة بحيث إذا اعتبرت بإحداث العلقة بين شخص وشي‌ء ، فهي ثابتة على مقتضى طبعها بلا احتياج إلى مئونة زائدة فلا محيص عن الالتزام بالوجه الثاني ، حيث إنّ العلقة قد حصلت بين الطبقة الاولى والعين باعتبار الواقف ، فمقتضاها بقاؤها وعدم

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٤.


خروجها إلّا بسبب ، فالمفروض حينئذ إذا مات فيدخل في عموم ما تركه الميّت فهو لوارثه لوجود المقتضي وعدم المانع ، أمّا الأوّل فقد يثبت بهذا البيان ، وأمّا الثاني فلأنّ المانع لانتقاله إليهم لم يكن إلّا حياة المورّث التي زالت ، هكذا أفاد دام ظلّه ، ولكن لا يخفى انصراف أدلّة الإرث عن مثل هذا الملك.

ثمّ إنّ هذا كلّه ؛ كان البحث في المسألة على ما تقتضيها القواعد الأصليّة في كلا المقامين ، وفيها روايتان قد أشرنا إليهما سابقا ونقلناهما بعينهما :

أمّا الاولى منهما : فلمّا كانت مجملة فلا يمكن أن يستفاد منها شي‌ء ، بل هي الّتي أشير إليها في جزء الأوّل من الثانية بقوله : (روى) (١) إلى آخره ، فعلى هذا لا بدّ من البحث في الرواية الثانية.

فنقول : إنّ المحتملات فيها أنّه إمّا أن يكون للجزء الثاني منها مفهوم بأن يكون غير الموقّت مطلقا داخلا فيه ، سواء كان غير موقّت رأسا بأن لم يذكر المصرف أصلا ، أو ذكر ولكن كان من المنقرض ، بأن لم يذكر المصرف له إلى أن يرث الله فيكون القسم الثاني من غير المؤقّت داخلا في مفهوم الأوّل ، أو لم يكن له المفهوم ، فعلى الأوّل يدخل القسم الثاني من غير المؤقّت فيما هو الباطل المردود فحينئذ باطل من أصله أو من حين الانقراض يحتمل كلاهما.

وأمّا ترجيح الثاني : نظرا إلى ما ذكره في «الجواهر» قدس‌سره من قوله عليه‌السلام : «مردود على الورثة» (٢) فلا وجه له حيث إنّه لا ريب في دخول الغير المؤقّت بقول مطلق فيما يكون باطلا ، وهو باطل من الأوّل ، وحينئذ الجمود على ظاهر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٥٧ ، وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٥.


قوله : (باطل مردود على الورثة) غير ممكن ، فلا محيص عن حمله على البطلان بحيث لا ينافي هذه الصورة بأن يكون المراد من البطلان أعمّ من الحالتين.

وفي القسم الأخير ؛ لكون الصحّة والبطلان بعد موت الواقف صار محلّا للابتلاء ، فكذلك قال عليه‌السلام فيه : «إنّه يردّ على الورثة» ، فالمراد بالردّ ليس الردّ الملكي حتّى ينافي الصورة المذكورة ، فحينئذ تخرج الرواية من الجهة الّتي ذكرها في «الجواهر» عن قابليّة استفادة حكم صورة المنقرضة الاخرى عنها من البطلان رأسا أو من حين الانقراض.

ولكن يمكن استفادته من الجهة الاخرى وهي أنّه بناء على إرجاع الرواية الاولى إلى الثانية ، فلمّا كان فيها قوله عليه‌السلام : «جهل مجهول» (١) ذكر تعليلا لبطلان غير المؤقّت ، بحيث يدور الحكم مداره ، فبالنسبة إلى ما كان غير مؤقّت فصدق هذا الوصف عليه باطل من أصله ، وبالنسبة إلى المنقرض الآخر باطل من حينه لصدقه عليه حينئذ كما هو واضح.

وأمّا على الثاني : بأن لا تكون للجزء الثاني ، مع أنّه خلاف الظاهر ، فأيضا لا يفرق الحال حيث إنّه حينئذ وإن كان كلا القسمين من المؤقّت المحكوم بالصحّة ببركة جواب الإمام عليه‌السلام ، ولكنّه في الشقّ الأخير لمّا كان ينطبق عليه التعليل المزبور من حين انقراض الطبقة الاولى فتصير النتيجة مثل ما تقدّم ، فعلى كلّ تقدير مفاد الرواية تنطبق على القاعدة أيضا فتأمّل!

فرع آخر :

لو وقف على زيد ثمّ على عبيده ، ثمّ على الفقراء فهل يصحّ الوقف مطلقا؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.


أي من غير جهة الوسط ، فإنّ الظاهر أنّه لا إشكال عندهم في بطلانه بالنسبة إلى الوسط لعدم قابليّة العبد للتملّك ، ولكنّا قد قوّينا سابقا صحّته ، أو يبطل مطلقا أو يفصّل بين الأوّل والآخر.

والثاني مبنيّ على استفادة وحدة المطلوب من الوقف بحيث كانت الطبقات الثلاث مرتبطة عند الواقف في إنشائه ، وحينئذ فلمّا كان يبطل بالنسبة إلى الوسط يقينا فيلزم بطلانه رأسا ، ولكن لمّا كان هذا خلاف الظاهر فهذا الاحتمال لا وجه له ، وهكذا التفصيل فهو أيضا لا يتمّ ، إذ بعد استظهار تعدّد المطلوب وعدم توقّف صحّة اللاحق على السابق فلا وجه لبطلانه بالنسبة إلى الآخر ، حيث إنّ المفروض اجتماع شرائط الوقف في هذه الجهة ، فالأقوى صحّة الوقف بالنسبة إلى الطرفين وإن كان باطلا من حيث الوسط.

أقول : الإشكال في أنّ التفكيك كيف يعقل في عقد واحد بأنّ يؤثّر في الأوّل والآخر دون الوسط؟ وإن أجاب عن ذلك ـ دام ظله ـ بأنّ عدم تأثيره في الوسط من جهة المانع ، فهذا مرجعه إلى التعليق في العقد أي في المنشأ وإلّا فالإنشاء تامّ محقّق فتأمّل!

ثمّ إنّه : إذا بطل بالنسبة إلى الوسط فحينئذ ؛ هل ينتقل الوقف في هذه القطعة من الزمان إلى الواقف ، أو إلى ورثة الموقوف عليه الأوّل ، أو إلى الطبقة الأخيرة ، أو يصرف في وجوه البرّ ، أو الأقرب إلى غرض الواقف؟ وجوه :

أمّا الآخر فلا وجه له لما تقدّم ، وهكذا سابقه ، إذ الواقف اعتبر الطبقة الأخيرة بعد الوسط ، فيدور الأمر بين الأوّلين.

أمّا رجوعه إلى الواقف فيتوقّف على إحراز وحدة المطلوب من طرفه من


جهة اخرى ، وهي أنّه إذا بطل الوقف بالنسبة إلى الوسط فلا وقف ولا إخراج في زمانه ، ولمّا كان إحراز ذلك مشكلا فيتعيّن الوجه الثاني لما ذكرنا سابقا من أنّ لازم الملكيّة أن تكون أمرا قارّا ، فإذا عدمت لكلّ أحد ، فتنتقل بعده إلى ورثته ، بقي هنا فروع لم نتعرّضها لوضوحها ، والله العالم وهو وليّ التأييد.

الوقف على النفس

المبحث السادس : في الوقف على النفس وما يستتبعه ، نذكره في طيّ امور :

الأوّل : لا يخفى أنّ في الوقف على النفس جهات من الشبهة مصداقا وحكما ، أمّا الجهة الاولى لا إشكال أنّه إذا وقف على عنوان كلّي كالعلماء ونحوه ، وانطبق على نفسه لا يعدّ ذلك من الوقف على النفس ، لعدم صدقه عليه وانصراف الأدلّة الدالّة على بطلانه من الإجماع وغيره عنه ، وإنّما المصداق الواضح منه أن يقول : وقفت على نفسي.

ثمّ إنّه : ينبغي أوّلا البحث في ذلك من حيث مقتضى القاعدة فنقول بعونه تعالى : أمّا بناء على أن يكون الوقف هو التمليك ـ كما هو المشهور خصوصا في الأوقاف الخاصّة ـ فحينئذ إمّا أن يبنى على أنّ الملكيّة حقيقة واحدة وإنّما يثبت بالوقف وما ثبت للواقف من حيث أصله بالإرث أو غيره لا اختلاف بينهما ذاتا ، وإنما الاختلاف من حيث اللوازم والحدود.

وبعبارة اخرى : أنّها حقيقة بقوله بالتشكيك أوّلا ، بل هي حقائق متباينة وأن الّذي سببه الإرث أو التسرّي غير الّذي سببه الوقف ، فعلى الثاني : لا إشكال


في أنّ مقتضى القاعدة صحّة الوقف على النفس إذ لا يلزم تحصيل حاصل وغيره ، حيث أنّ المفروض زوال الملكيّة الأوّليّة الثابتة للواقف بالوقف ، وحدوث ملكيّة اخرى متباينة معها ، بحيث ليس له بعد أن يهبه أو يبيعه ، مع أنّه كان له ذلك قبلا.

ولكن لا ريب في بطلان هذا الاحتمال ، ضرورة ؛ أنّ الملكيّة ليست إلّا أمرا عرفيّا اعتباريّا ، وهي عبارة عن العلقة إلى صلة بين الشخص والمملوك لا اختلاف في حقيقتها.

فعلى هذا ينحصر بالأوّل وعليه إن قلنا بأنّ الملكيّة الحاصلة بالوقف ليست ذاتها تحدث به بل تحصيل حدّها به ، فعليه يصحّ الوقف إذ لا يلزم المحذور ، لأنّ المفروض أنّ الملكيّة الأصليّة للواقف شخص ، والذي تحصّل بالوقف شخص آخر.

ولكن لمّا كان هذا الاحتمال بعيدا لأنّ أسباب الملكيّة تتعلّق بذاتها لا بحدودها. فالحقّ : أنّه بناء على أن يكون مفاد الوقف التمليك ، بطلانه مطلقا.

وأمّا بناء على أنّ حقيقة الوقف هو الإيقاف ـ كما هو التحقيق ـ لا كلام فيه من حيث أصل العين ، والإشكال من حيث المنافع.

ولكن لا ريب في أنّها ليست مملوكة بالذات بل مملوكيّتها تابعة للعين ، ولذلك يمكن الدعوى بأنّه من جهتها أيضا لا محذور ، لأنّ تملّك المالك لها الّذي كان أوّلا ، قد زال بزوال العين ، وخروجها عن الملك بالوقف المفروض صحّته ، وإنّما تملّكه الآن تملّك جديد سببه الوقف ، غايته أنّه بقاء مستند إليه لا حدوثا ، وليس معنى تبدّل الملك إلّا الخلع واللبس ولو بقاء ، ولا يمكن أن يقال بمثله


بالنسبة إلى نفس العين حتّى يقال بصحّة الوقف ولو بناء على الملكيّة ، لأنّه بالنسبة إليها مقتضى البقاء موجود وهو الملكيّة الحادثة بسببها الأصلي ، وهذا بخلاف المنافع ، لزوال مقتضيها بسبب إيقاف العين المخرج عن الملك ، فتصير قابلة لتأثير سبب آخر فيها ، ولكن لمّا لم يتخلّل العدم بين تملّكها القديم والجديد فالسبب الجديد لا يؤثّر فيها إلّا بقاء.

ثمّ إنّ مع الغضّ عن ذلك وتسليم عدم صحّة اعتبار تملّك المنافع لهذه الشبهة أو غيرها ؛ فنقول : قد تقدّم في مسألة الوقف على العبد والحربيّ ، أنّه مع وجود المانع لتملّك العين ينصرف الوقف إلى المنافع ، ومع المانع لها ينصرف إلى الصرف ، حيث إنّ المانع يؤثّر بمقدار ما له الأثر ، فهكذا في ما نحن فيه ، فإذا كان المفروض صحّة الوقف بالنسبة إلى نفس العين ، فبالنسبة إلى المنافع إذا لم يمكن أن يتملّكها الموقوف عليه فقهرا يصير مصرفا له ، ويصير حاله حال المسجد أو القنطرة.

هذا كلّه ؛ على مقتضى القاعدة ، وقد اتّضح أنّه على مسلك التحقيق في باب الوقف لا مانع عنه ، بل يمكن تصحيحه على كلّ حال.

ولكنّ الّذي يظهر من إطلاق كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات بطلانه مطلقا ، حيث إنّه مع اختلافهم في المبنى تمليكا أو إيقافا أطلقوا الحكم ببطلان الوقف على النفس ولم يفصّل أحد ، والله العالم.

الأمر الثاني : أنّه إذا اعتبر الواقف انتفاعه من الوقف وما يستتبعه ، فهل يصح ذلك أم لا؟

وهنا صور ، فتارة ؛ يشترط ذلك في متن العقد على نحو الاستفتاء ، كما لو


اشترط أن يؤتي مقدارا من منافعه إلى مصرف الزكاة أو الخمس الّذي عليه ، وكان نظره إلى إخراج هذا المقدار عن أصل الوقف ، ويكون بالنسبة إليه مسلوب المنفعة ، هذا لا إشكال فيه ولا مانع عنه ، لعدم شمول معاقد الإجماعات له أصلا.

واخرى : يشترط ذلك على الموقوف عليه ، وهذا يكون على قسمين : فقد يشترط عليهم ببذل المقدار المعيّن من مال أنفسهم إلى ما يعيّنه من المصرف ، وقد يشترط ذلك عليهم من منافع الوقف ، والظاهر ، أنّه لا إشكال في هذه الصورة أيضا ، وأنّها تصحّ بكلا شقّيها ، وذلك لأنّه على كلّ شقّيه إلزام خارجي لا ربط له بمنافع الوقف ، وليس مصداقا لما هو محلّ البحث.

وإنّما الإشكال ؛ فيما لو أطلق وعيّن لنفسه مصارف من الوقف كأداء ديونه الإلهيّة أو الخلقيّة ، فالظاهر أنّ المنصرف إليه من مثل هذه العبارة اعتبار الوجوه المذكورة مصرفا فيصير مصداقا للوقف على النفس ، فإن بني على شمول إطلاق معاقد الإجماعات للصورة الاولى أي الوقف على النفس ، ولو على نحو المصرف ، فهذه الصورة أيضا تبطل ، إذ مرجع ذلك إليه.

والالتزام بالفرق بين أن يقول : وقفت على نفسي ، والعبارة المذكورة كما ترى ، فهذه الصورة أيضا حكمها واضح ، وتكون هنا بعض الصور الخفيّة غير ما ذكر.

منها : أنّه لو عيّن ظرف أداء الوجوه المذكورة بعد موته ، فقد يتوهّم خروجها عن محلّ النزاع أيضا ، نظرا إلى أنّ بالموت لمّا ينعدم الشخص عرفا فيخرج عن كونه وقفا على النفس ، والفرق بينه و [بين] حال حياته أنّ بالنسبة إليه باعتبار اشتغال ذمّته فعلا بالوجوه ، وكانت تأديتها إفراغا لها ، فيصير من


الوقف على النفس ، وهذا بخلاف [ما] بعد الموت إذ لا ذمّة هناك بل هي زالت تبعا لزوال الشخص ، وحكم الشارع بوجوب الأداء حينئذ أيضا تعبّد محض لا ربط [له] ببقاء الذمّة ، ولو بنينا وسلّمنا اعتبار بقائها أيضا فإنّما هو تنزيل من جهة خاصّة لا يترتّب عليه مطلق الآثار.

هذا غاية توجيه الفرق وأنت خبير بفساده ، أمّا أوّلا فلعدم انعدام الشخص وبقائه ببقاء نفسه الناطقة.

وثانيا : أنّ حكم الشارع ليس من باب التنزيل حتّى يتمّ ما ذكر ، وإنّما هو من باب اعتبار بقاء تلك الذمّة الثابتة حال الحياة ، بحيث يرى نفسها باقية ولا يرى فرقا بين الحالتين.

فعلى هذا لا يبقى مجال لما ذكر ، إذ [هذا] يصير من مصاديق الكبرى السابقة وهي الوقف على النفس ، لا أن يكون ممّا يرجع إليه منافعه ولو بوسائط.

ومنها : ما لو اشترط أداء ديونه الإلهيّة ؛ والظاهر أنّ ذلك أيضا بحكم الصورة السابقة وبقيّة الصور يظهر حكمها ممّا تقدّم.

الأمر الثالث ؛

قال في «الشرائع» : لو شرط عوده إليه عند حاجته صحّ الشرط وبطل الوقف .. إلى آخره (١).

قد حقّقنا سابقا أنّه لا بأس بتحديد الوقف بحيث لا يرجع إلى التوقيت وأخذ الزمان قيدا ، وهكذا يصحّ كلّ شرط لم يكن مرجعه إليه بل كان تحديدا للوقف أو الموقوف عليه ، فحينئذ يصحّ هذا الشرط أيضا ، والوقف على حاله لو

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.


كان المراد به أحد الأمرين المساوق لأخذ عنوان في الوقف ، لعموم أدلّة الشرط وخصوص الوقوف [تكون] على حسب ما يوقفها أهلها (١) والله العالم.

فروع :

الأوّل : قال في «الشرائع» : ولو شرط إخراج من يريد بطل [الوقف] (٢) ، ولو شرط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز (٣).

قد يشكل الفرق بين الفرعين في بادئ النظر ، ولكنّه هو التحقيق ، وهذا يظهر بعد الإشارة إلى أمرين.

الأوّل : قد أشاروا إلى الفرق بين باب المعاملات والأحكام في باب المفهوم من حيث كون إطلاق المعاملة يقتضي انحصار الملك إلى من انتقل إليه ، وعدم كونه بعد قابلا للنقل إلى الآخر ، وذلك لعدم كون العين الشخصي قابلة إلّا لتعلّق سلطنة واحدة مستقلّة بها ، بخلاف الأحكام ، فيمكن أن تجب الصلاة على زيد ، وهكذا على عمرو بوجوب آخر ، وكذلك إلى آخر أفراد المكلّفين.

الثاني : لا إشكال أنّ الشروط كليّا إنّما تؤثّر إذا لم يكن في مقابلها مقتض ، فهي إنّما تشرع في ظرف عدم الاقتضاء ، ولذا

بنينا في محلّه في «باب الشروط» إنّما يصح الشرط في مقابل الأحكام الاقتضائيّة ، وإلّا فباطل.

إذا ظهر ذلك فنقول : إنّ في الفرع الأوّل إذا كان المفروض أنّه وقف على عشرة نفرات ، وشرط أن يكون إخراج كلّ منهم عن الوقف بيده ، فلمّا كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦.

(٢) ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.


بمقتضى انطباق عنوان الوقف عليهم أوّلا صيرورة كلّ واحد منهم موقوفا عليه ، بحيث يكون الوقف بمقتضى عموم أدلّة اقتضائه بالنسبة إلى كلّ منهم تامّا ، فحينئذ لا يبقى موقع لتأثير الشرط لما تقدّم من أنّه إنّما يصحّ إذا لم يكن في البين مؤثّر ومقتض في الرتبة السابقة عليه.

وأمّا في الفرع الثاني : فلأنّه لمّا كان انحصار الوقف إلى من عيّنه في متن العقد لا يتمّ إلّا إذا سكت المتكلّم ولم يأت في كلامه تقييد ينافيه ، فحينئذ بمقتضى الأمر الأوّل يثبت الانحصار ، وأمّا إذا أتى بما ينافيه كما يكون له ذلك إذ حجيّة كلامه بعد سكوته وعدم الإتيان بما ينافي ظهور كلامه متّصلا أو منفصلا ، وإلّا فهو بمنزلة الشارح له ، ويصير مدلول المجموع هو الحجّة ، والمفروض أنّ فيما نحن فيه أتى متّصلا بما يدفع اختصاص الوقف عن جعلهم في مصبّ العقد ، فلذلك يثبت له الاختيار حسبما شرط بمقتضى عموم أدلّة الوقف وأنّه حسبما يوقفها أهلها (١) ، وعموم الشرط (٢) فتأمّل! فإنّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ في الفرع الثاني بعينه يجري في الأوّل ، فإنّ تماميّة العقد واقتضاءه بحيث يفيد التمليك للموقوف عليه أبدا يتوقّف على عدم اتّصال الشرط بالكلام ، وإلّا فلا اقتضاء له كذلك ولا تقدّم في البين لا رتبة ولا غيرها.

الثاني ؛ في «الشرائع» : لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيولد لم يجز وبطل الوقف (٣).

__________________

(١) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦.

(٢) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.


[هذا] إذا كان مرجعه إلى الانتقال عن موقوف عليهم إلى من سيوجد ، بحيث يكون الوقف بالنسبة إليهم تامّا أبديّا ، أو إلى أن يكون هو بنفسه ناقلا لأنّ كليهما خلاف مقتضى العقد ، والشرط لا يترتّب عليه مثل هذا الأثر ، لأنّه ليس شرعا كما هو واضح ، وأمّا إذا كان المراد به تحديد أمد الوقف أو الموقوف عليه فيصحّ ولا مانع عنه لما مرّ مرارا أنّ ذلك ليس تحديدا يضرّ بالوقف فلا بأس به ، والله العالم.

الثالث : وفيه أيضا : قيل : إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز له أن يشرك معهم (١) .. إلى آخره.

لا يخفى ؛ أنّه عند إجراء الوقف ، تارة : يجعل الوقف على أولاده الموجودين ويقيّده بهم بلا أن يكون نظره إلى غيرهم.

واخرى : يجعل موضوع الوقف عنوان الأولاد بلا تقييد بالموجودين.

فعلى الأوّل ؛ لا يجوز له الاشتراك أصلا إذ المفروض تخصيص الوقف بالحاضرين ، فالتعدّي خلاف أدلّة الوقف والتبديل ، وعلى الثاني ليس له عدم الاشتراك ، بل يلزم ذلك ويزيد أسهام الوقف بازدياد الأولاد ، كما هو [المستفاد من] عموم «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (٢).

فعلى كلّ تقدير ؛ قول القيل هذا لا يتمّ ويخالف القواعد ، فيمكن أن يكون نظر القائل عن الشيخ قدس‌سره ومن تبعه (٣) إلى بعض الأخبار الخاصّة في المقام (٤).

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الباب ٢ من أبواب وجوب العمل بشرط الواقف وعدم جواز تغييره.

(٣) جواهر الكلام : ٢٨ / ٨٠.

(٤) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٣ الباب ٥ من أبواب الوقوف والصدقات.


ولكن مجال المنع من حيث دلالتها أيضا واسع إذ هي جملة من الروايات التي أوردها في «الجواهر» (١) وليس فيها لفظ «الوقف» أوّلا ، إلّا أن تحمل الصدقة عليه ، ومعه أيضا لا يتمّ الاستدلال لأنّها بين مطلقات كخبر سهل الّذي مفاده جواز الاشتراك مطلقا (٢) ، وتقيّدات كذيل رواية ابن يقطين الّذي مفاده أنّه مع إبائه الصدقة وإقباضها لا يجوز الاشتراك (٣) ، فلا محيص عن حمل الأوّل على ما إذا لم يتمّ الوقف لعدم حصول القبض.

وأمّا رواية «قرب الإسناد» (٤) فهي لا ربط لها بالمقام أصلا ، بل مساقها مساق قوله : «أنت ومالك لأبيك» (٥) وأنّ للوليّ أن يتصرّف في منافع الوقف الّذي مال الصغار كيف شاء ، والله العالم.

الفرع الرّابع : في «الشرائع» : ولو وقف مسجدا صحّ الوقف ولو صلّى فيه واحد (٦) .. إلى آخره.

الكلام في القبض تقدّم في صدر الباب مفصّلا ، وقد حقّقنا هناك أنّه لا دليل على اعتباره في الصحّة أو اللزوم إلّا الإجماع الذي لا إطلاق له ، فكلّما شكّ يؤخذ بالقدر المتيقّن ، ولذلك اكتفينا بقبض المتولّي والناظر للوقف ، بل من يعيّنه الواقف له وبعض الأشخاص الموقوف عليهم ، وقلنا : إنّه فرق بين مسألة القبول

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٨٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٣ الحديث ٢٤٤٠١ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٨٠ ـ ٨١.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٣ الحديث ٢٤٤٠٠.

(٤) قرب الإسناد : ٢٨٥ الحديث ١١٢٦ ، وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٤ الحديث ٢٤٤٠٤.

(٥) سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٦٩ الحديث ٢٢٩١ و ٢٢٩٢ ، مسند أحمد : ٢ / ١٧٩ و ٢٠٤ و ٢١٤.

(٦) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧.


والقبض ، فلا يكتفى في الأوّل بقبول بعضهم ولا الطبقة الاولى ، بل يعتبر قبض الجميع بأنفسهم أو وليّهم ، وذلك لأنّ مقتضى العقد الذي عبارة عن الإيجاب والقبول ، المفروض انحلاله بعدد أشخاص المتعاقدين حتّى يصحّ أوفوا بعقودكم هو ما ذكرنا.

وهذا بخلاف القبض ، حيث إنّه لا يجري فيه الاعتبار المتقدّم بل هو حكم تعبّدي قام الإجماع عليه فيؤخذ بالقدر المتيقّن ، فلذلك يتمّ ما أفاده المحقّق قدس‌سره في المقام ، وأنّه يكفي في تحقّق قبض المسجد إقامة صلاة واحدة فيه ، وهكذا في المقبرة بدفن واحد من الموقوف عليهم إذ هو القدر المتيقّن من اعتبار القبض (١) ، فلا يرد ما أورده في «الجواهر» قدس‌سره (٢).

جريان المعاطاة في الوقف

ثمّ قال المحقّق قدس‌سره : ولو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن ولم يتلفّظ بصيغة الوقف لم يخرج عن ملكه (٣) إلى آخره.

ما ذكره قدس‌سره مبنيّ على عدم جريان المعاطاة في الوقف ، فعلى هذا ينبغي البحث فيها.

ولا يخفى أوّلا أنّ المحتملات في هذه العبارة خمسة :

الأوّل : أن لا يقصد بأمره وإجازته للناس للصلاة في المسجد الذي بناه

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٨٥.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٨.


سوى إقامة الصلاة فيها بلا نظر إلى حيث الوقف بأمره أو فعل المجاز أو غيره أصلا ، فلا إشكال في أنّه لا يحصل الوقف حينئذ ولا أظنّ أن يتوهّمه أحد.

الثاني : أن يقصد بإيجاد الطرف الفعل في الخارج الوقف ، ووقوعه إمّا بأن يجعله عن نفسه نائبا بحيث هو يقصد بذلك الفعل الوقف أو هو بنفسه يقصد ، ولكن يستند فعله إلى نفسه ، فهذه الصورة بكلا شقّيها تكون من مصاديق المعاطاة ، حيث إنّه بالفعل يقصد تحقّق المعاملة الخاصّة وهو الوقف.

فنقول : إنّ في باب المعاطاة مسلكين :

أحدهما : ما يظهر من كلمات شيخنا قدس‌سره إنّ صحّة المعاطاة على مقتضى القاعدة وإنّها مشمولة لأدلّة العقود ، حيث إنّها ليست إلّا عبارة عن العهود والبناء ، وأنّها أعمّ من أن يكون الدالّ عليها فعلا وعملا أو قولا ولفظا ، فحينئذ مقتضى القاعدة في المعاملات الّتي تحصل بالفعل مثل ما تحصل بالقول هو اللزوم ، وإنّما خرج عنها في العقود الفعليّة بالسيرة ، حيث إنّها قامت [على] كون العقد المعاطاتي جائزا فخصّصت بها أدلّة العقود ، ولذلك يكتفى بالقدر المتيقّن منها في موارد الشكّ وفي الزائد عليه ، الأصل اللزوم.

ثانيهما : هو اختصاص أدلّة العقود بالعقود اللفظيّة ، والبناء على أنّ المعاطاة خلاف الأصل ، وأنّ مشروعيّتها ببركة السيرة ، وعلى هذا تصير المعاطاة عكس الأوّل بمعنى أنّه لا يلتزم بها إلّا بمقدار دلّ الدليل عليه ، وأمّا في ما شكّ فيه ؛ فالأصل عدم مشروعيّتها.

إذا تبيّن ذلك ؛ فنقول : التحقيق جريان المعاطاة في الوقف على كلا المسلكين.


أمّا على الأوّل فواضح ، وكذلك على الثاني ، لما نرى بالوجدان من قيام السيرة على الاكتفاء بالمعاطاة في الوقف ، كما في حصر المساجد والفراش للمشاهد المشرّفة وغيرها من السراج والقناديل ونحوها ، وهكذا في وقف الطرق والشوارع والخانات ، بل والمساجد ، حيث إنّه لم يعهد إلى الآن أن يكون النّاس ملتزمين بإجراء العقد اللفظي في مثل هذه الامور ، بل يكتفون بإيجادهم الخارجي لها وإحداثها بلا مئونة اخرى قديما وحديثا ، إلّا أن يقال : إنّها من باب الوقف بالسراية وأنّ إجراء العقد في أصل الموقوفة يكفي في توابعها ، ولو لم تكن محدثة.

ولكنّا بعد تسليمه إنّما يتمّ بالنسبة إلى التوابع كحصر المسجد ونحوها ، وأمّا في الامور (١) الاستقلاليّة والابتدائيّة كالقناطر ونحوها ممّا مثّلنا ، فلا يتمّ كما هو واضح ، مع أنّه لم يعهد فيها إجراء عقد الوقف بل بناء العرف والمتشرّعة على الاكتفاء بصرف إيجادها الخارجي ، أو إيجاد فعل فيها كالمرور على القناطر.

وبالجملة ، لا مجال لمنع جريان السيرة في الوقف من بين المعاملات رأسا والالتزام بها في المحقّرات لكونها المقدار المتيقّن دون الامور الخطيرة واختصاصها بغيرها إذ لا خصوصيّة لها ، وأمّا عدم الاكتفاء بالمعاطاة في مثل وقف القرى والقصبات وأمثالها ، فليس من باب عدم اكتفائهم بالمعاطاة في أصل الوقف وعدم مشروعيّتها ، بل هو من جهة الاحتياط وتشديد الأمر كما يعملونه من جهة الامور الأخر أيضا ، كالإشهاد وتنظيم الأوراق وغيرهما.

__________________

(١) يمكن دعوى منع كون ما ذكر من الأمثلة من باب الوقف ، بل هي من قبيل الإباحة ويؤيّده إجراؤهم أحكام المساجد عليها في باب إحياء الموات ، فراجع وتأمّل! «منه رحمه‌الله».


فعلى هذا ، حال الوقف حال سائر المعاملات ، تجري فيه المعاطاة مطلقا كما ذهب إليه جمع (١).

وأمّا مقايسة المقام بباب النكاح كما يظهر من [صاحب] «جامع المقاصد» قدس‌سره (٢) فلا وجه له ، ضرورة أنّ في النكاح لا يجوز شرعا أصل الفعل الذي يقصد به العقد ، مثل القبلة والجماع ونحوهما ، بل بدون تحقّق النكاح في الرتبة السابقة حرام ولا سلطنة للشخص بالنسبة إليها ، والسبب إنّما يؤثّر إذا كان للفاعل عليه السلطنة ، فلذلك يفرق باب النكاح عن سائر المعاملات ، وهكذا ما يلحق بها من الإيقاعات كالطلاق.

الثالث : أن لا يقصد الواقف بالفعل الوقف بل يجعل إذنه طريقا إلى رضاه وقصده الوقف الاكتفاء بذلك ، والالتزام بوقوع الوقف في هذه الصورة مبنيّ على تحقّق المعاطاة بهذا المقدار وهو خلاف التحقيق ، حيث إنّها من الامور الإيقاعيّة والإنشائيّة ، فهي تحتاج إلى المبرز ولا تقع بصرف القصد ، فما يظهر من «المبسوط» (٣) ضعيف.

الرابع : أن يجعل صرف أمره بالدفن وإذنه في الصلاة كناية عن إيقاع الوقف فيصير بذلك عقدا لفظيّا لا معاطاتيّا ، والأقوى ؛ أيضا عدم الاكتفاء به ، وعدم وقوع الوقف حينئذ ، لأنّ المستفاد من معاقد إجماعاتهم في اعتبار اللفظ في العقود هو الألفاظ الصريحة لا غيرها.

__________________

(١) راجع! المكاسب : ٣ / ٩٥.

(٢) جامع المقاصد : ٩ / ١٢.

(٣) المبسوط : ٣ / ٢٩١.


هذه المحتملات الأربعة. أو الخمسة ، في عبارة المتن ، وقد عرفت أنّ التحقيق صحّة الوقف ووقوعه في الصورتين منها دون الثلاثة الاخر ، ولا يبعد أن يكون مراد المحقّق أحدها ، وكيف كان ؛ قد ظهر ما هو الحق ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ.

ولكن يمكن المناقشة ، لأنّه أوّلا : إنّ الاكتفاء بالمعاطاة في الوقف وجريانها فيه ينسب إلى أبي حنيفة (١) والقائل به منّا جماعة قليلة (٢).

وثانيا : قد ادّعى أنّ طبع الوقف يقتضي اللزوم وهو ينافي المعاطاة الّتي يقتضي طبعها الجواز.

وثالثا : لم تثبت السيرة الّتي ادّعاها ، فإنّ ما ذكر من النقوض والأمثلة يمكن الدعوى خروجها عن الوقف رأسا وأنّها من قبيل المباحات.

نعم ؛ بناء على الملك الأوّل في باب المعاطاة ، كما يظهر من الشيخ استاد الأساطين قدس‌سره في مكاسبه ميله إليه (٣) وهكذا السيّد في حاشيته (٤) لا مجال للمناقشة فيما أفاد أصلا ، والله العالم.

__________________

(١) المبسوط للسرخسي : ١٢ / ٣٥ و ٣٦.

(٢) انظر! المكاسب : ٣ / ٩٥.

(٣) المكاسب : ٣ / ٩٤.

(٤) حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١ / ٨١.


أحكام الوقف

المبحث السابع : في جملة من الأحكام.

[الاولى :] في «الشرائع» : الوقف [إذا تمّ زال عن ملك الواقف و] (١) ينتقل إلى ملك الموقوف عليه (٢) إلى آخره.

قد تقدّم الكلام من هذه الجهة في الفوائد الّتي ذكرها ـ دام ظلّه ـ في صدر الباب ، وحاصله : أنّ الأدلّة وإطلاقات باب الوقف مثل قوله عليه‌السلام : «حبّس الأصل وسبّل الثمرة» (٣) لا تقتضي أزيد من خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ، وأمّا دخولها في ملك الموقوف عليهم [فلا] ، بل يمكن الدعوى بأنّ ظاهر لفظ التحبيس خلافه.

وبالجملة ؛ مقتضى طبع الوقف والإيقاف هو التحبيس والتحرير ، ومن هنا قلنا : بأنّه لا فرق بين الأوقاف الخاصّة والعامّة والوقف على الجهات ، وأمّا بناء على كونه مقيّدا للملكيّة فيلزم التفكيك بين هذه الأنواع ، أو الالتزام بكون المالك في الوقف على الجهات ـ كالقناطر والمشاهد المشرّفة ـ هو المسلمون وهو كما ترى.

ضرورة ؛ أنّه خلاف ارتكاز الواقف فيها ، حيث إنّه لا يخطر بباله تملّكهم لها أصلا ، بل تمام نظره صرف الوقف في الجهات المذكورة وانتفاع المسلمين منها.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من جواهر الكلام : ٢٨ / ٨٨.

(٢) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٨.

(٣) مستدرك الوسائل : ١٤ / ٤٧ الحديث ١٦٠٧٤.


وأمّا أنّه لمّا لا يمكن أن يصير الملك بلا مالك فلا بدّ من الالتزام بتملّك الموقوف عليه ، وأمثاله من الوجوه ، فأيضا لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ الكلام أوّلا في تحقّق علقة الملكيّة بالوقف رأسا كما عرفت ، بل حال الوقف حال المباحات الأصليّة ، غايته أنّها قابلة للتملّك بأسبابه دون الوقف.

نعم ؛ إنّما يمكن أن يتمسّك به للدعوى المذكورة هو بعض الأخبار الّتي اطلق فيها لفظ «الصدقة» على الوقف ، كما في وقف الكاظم عليه‌السلام (١) ووقف أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) لمّا جاءه بعين [ينبع] البشير حيث إنّ لفظة «الصدقة» ظاهرة في التمليك والتملّك ، ولكنّه يتمّ لو لم يكن اللفظ مستعملا بعناية في تلك الأخبار ، بمعنى أنّ الوقف لمّا كان يفيد تمليك المنافع اطلق عليه لفظة «الصدقة» لكون العين بنفسها وإن لم تكن تدخل في ملك الموقوف عليه إلّا أنّها لمّا كانت ببعض مراتبها وهي منفعته قد دخلت في ملكه فصحّ إطلاق اللفظ عليه ، وأمّا من جهة أنّه بالوقف خرجت العين عن سلطنة المالك رأسا فهو مثل الصدقة.

والّذي يؤيّد كون الاستعمال على وجه العناية ما ذكرنا من أنّ الارتكاز في الأوقاف العامّة والوقف على الجهات ليس إلّا الإخراج ، وانتفاع الموقوف عليهم منها ، بلا نظر إلى التمليك أصلا ، مضافا إلى أنّه ليس للفظ «الصدقة» ظهورا تامّا فيما ادعي فتأمّل!

الثانية : قال في «الشرائع» : فلو وقف حصّه من عبد ثمّ أعتقه لم يصحّ ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٠٢ الحديث ٢٤٤٢٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٦ الحديث ٢٤٤٠٦.


إلى أن قال ـ ولو أعتقه الشريك مضى العتق في حصّته ولم يقوّم عليه (١) .. إلى آخره.

ما أفاده قدس‌سره في الفرع ؛ فعلى مسلكنا من عدم انتقال الوقف إلى ملك الموقوف عليه فلا محيص عنه بل هو التحقيق ، إذ لا عتق إلّا في ملك ، وأمّا على ما ينسب إلى المشهور من الانتقال فلا يتمّ ، إذ المفروض أنّ العبد صار ملكا للموقوف عليه بلا نقض فيه ، فيطبّق عليه كبرى العتق ، غايته أنّه ملك تقطيعيّ إلّا أن يدّعى انصراف قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عتق إلّا في ملك» (٢) عن مثل هذا الملك ، بل الظاهر منه هو المطلق ، بحيث لا يكون لأحد فيه ولو فيما يأتي ، خصوصا مع ما ورد في أخبار الوقف من أنّه لا تباع ولا توهب ، إذ نعلم بأنّهما من باب المثال والمراد عدم صحّة التصرّفات الناقلة بوجه أصلا.

وأمّا الفرع الثاني : فالتحقيق فيه ما أفاده في آخر كلامه وتردّد فيه (٣) ، وذلك لأنّه ليس لنا دليل منع عن أصل العتق الاختياري أو العتق بالسراية إلّا ما تقدّم من قوله عليه‌السلام «لا تباع ولا توهب ولا تورث» (٤) فتصير حاكمة على أدلّة الأسباب الاخر ، إذ لا خصوصيّة للامور المذكورة فتتعدّى إلى كلّ سبب ناقل ، اختياريّا كان أو قهريّا.

ولكن لمّا لا إشكال أنّه إنّما يتعدّى عن الامور المذكورة إلى كلّ ما هو من سنخه أي التصرّفات الناقلة في طرف وجود بقاء العين وعدم تلفه ، وأمّا في

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٨.

(٢) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٩٩ الحديث ٤ ، و ٣ / ٤٢١ الحديث ٣.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٨.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٦ الحديث ٢٤٤٠٦.


صورة تلفها فلا يجري الدليل المزبور ، ولذلك لو جنى مثل هذا العبد بما يوجب القصاص اقتصّ منه ، وإن لم يجز استرقاقه.

فمن هنا يثبت أنّه لو تعدّينا عن الامور المذكورة فإنّما ينبغي التعدّي إلى كلّ تصرّف ناقل في طرف وجود العين لا مع تلفها وما هو الملحق به.

إذا ظهر ذلك فنقول : إنّه لمّا لا إشكال في أنّ تحرير العبد وانعتاقه بمنزلة تلفه ، فلا يبقى له اعتبار ماليّة أصلا كسائر الأحرار ، ولذلك قد عبّر عنه في مسألة العتق بالسراية بأنّه قوّم عليه ، فإنّه لا خفاء في عناية هذا التعبير ، وأنّه لمّا أوجب تلف ماليّة العبد فعليه ضمانه وقيمته ، فعلى هذا يفرق باب الانعتاق عن سائر الأسباب وأنّه يكون في حكم التلف وعدم بقاء الموضوع ، ويخرج عن كونه مصداقا للتصرّفات الممنوعة عنها مما هي من قبيل البيع والهبة والإرث ، وإنّما العتق ابتداء مباشرة من قبلها ، وأمّا العتق القهري الحاصل بالسراية فهو خارج عنها ، فلا محيص عن الالتزام بحصول العتق في النقص الآخر من العبد الذي وقف.

المسألة الثالثة : في «الشرائع» لو جني عليه فإن أوجبت [الجناية] (١) أرشا فللموجودين من الموقوف عليهم .. إلى آخره (٢).

هنا جهات من الكلام ينبغي البحث عنها :

الاولى : في وجه اختصاص الأرش بالموجودين ، فقد قيل (٣) : إنّه لمّا كان من

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٢) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٩.

(٣) جواهر الكلام : ٢٨ / ٩٨.


قبيل المنافع ، ولا خفاء في أنّ منافع كلّ زمان مختصّة بالموجودين في ذاك الزمان ، فلذلك يختصّ الأرش بهم.

ولكن هذا الوجه لا يتمّ ، بل مقتضى القاعدة اشتراك الموجودين والمعدومين فيه ، وحال الأرش حال الدية مطلقا ، سواء كانت موجبة لنقص في العين أو زوال الوصف ، وذلك لأنّه أمّا في الأوصاف فلأنّها وإن لم يقابل بشي‌ء ولا يعتبر فيها البدليّة بل غايتها أنّها [موجبة ل] زيادة الرغبة في العين ونقصانها ، ولذا ينتقص قيمتها ويزيد ، ولكنّ العين لمّا كانت مشتركة بين جميع الطبقات بما لها الخصوصيّات ، بحيث يكون وجود وصف في العين يوجب قابليّتها لأن ينتفع منها بما لا يمكن الانتفاع عنها عند زواله ، بل يخرج عن تلك القابليّة ، فحينئذ يكون الطبقات كلّها مستحقّة للانتفاع عن القابليّة المفروضة ، وزوال الوصف يوجب الضرر على الجميع ، وخروج شي‌ء عن كيسهم ، فحينئذ كلّما يقوم مقامه ويوجب تدارك النقص لا بدّ وأن يدخل في كيسهم حتّى يصدق الجبر بالنسبة إلى الجميع.

ولمّا لا إشكال في أنّ مسألة الأرش ليس حكما تعبّديا محضا ، بل نعلم أنّ ملاكه ما ذكرنا من الجبر والتدارك ؛ فلا وجه لاختصاص الموجودين به بمحض كون الحكم تعبديّا ، وأمّا في نقص العين فممّا ذكرنا ظهر حاله ، وأنّ الأرش المأخوذ من جهته بالطريق الأولى لا بدّ وأن يشترك فيها جميع الطبقات ويجري فيه ما يجري في الدّية.

نعم ؛ على ما حقّقنا لا بدّ من التفصيل بين النقص والعيب المستمرّ إلى عصر الطبقات الاخر ، وغيره الّذي مختصّ بعصر الموجودين ، ففي الأوّل لا محيص


عما ذكرنا ، وفي الثاني هو لا يجري ، بل يختصّ الأرش بالموجودين إذ المفروض ورود الضرر عليهم فقط فتأمّل!

الجهة الثانية : في حكم الجناية الموجبة للقتل ؛ لا إشكال أنّه بناء على كون الوقف ملكا للموقوف عليه أنّ للموجودين القصاص وقتل الجاني وتعلّق حقّ البطلان اللاحقة به لا يمنع عنه ، إذ هذه الشركة طوليّ ، ومعناه أنّه في ظرف وجود العين الموقوفة وبقائه ووجود البطون اللاحقة يتعلّق حقّهم به ، والحقّ إنّما يثبت بطبيعة المولى ، والمفروض صدقها على الموجودين.

وأمّا بناء على عدم الملك ، والتحقيق من كون حقيقة الوقف هو الإيقاف ، فيمكن أن يدّعى أيضا بأنّ للموجودين القصاص ، حيث إنّه وإن لم يكونوا مالكين للرقبة إلّا أنّه لمّا كان جميع شئون السلطنة والمولويّة ثابتة لهم ، ويكفي ذلك لصدق أنّهم الموالي ، فينطبق عليهم كبرى أنّ القصاص بيد المولى.

ولو سلّمنا عدمه للمناقشة فيه بدعوى انصراف الأدلّة إلى مالك الرقبة ، فلا بدّ من الالتزام بكون الاقتصاص بيد الحاكم ، نظرا إلى عموم ولايته وأنّه لا يطلّ (١) دم المسلم.

نعم ، على هذا المبنى قد يستشكل في مسألة الأرش والدية لو انتهى الأمر إليهما ، حيث إنّهما بدل الماليّة والملكيّة ، والمفروض أنّ الموقوف عليهم ليسوا مالكين للمجنيّ عليه ، وأنّ هذه الاضافة مفقودة بالنسبة إليهما.

ولكنّك خبير بأنّ ذلك مبنيّ على باب الضمان ، وأنّ مورد قاعدة الإتلاف إنّما يكون إذا كان للتالف علقة وإضافة للغير ، وإلّا فلا يصدق قوله : «من أتلف

__________________

(١) أي لا يهدر.


مال الغير فهو له ضامن» (١).

مع أنّ هذا المبنى فاسد ، لأنّه نعلم بالوجدان أنّ الضمان إنّما جعل بإزاء احترام المال وإن لم يكن له إضافة إلى الغير ، وأنّ التعبير بلفظ «الغير» في الحديث بلحاظ ما هو الغالب ، وحينئذ في المقام لا إشكال أنّ العبد الموقوف وإن لم تكن إضافة لرقبته للغير وهو الموقوف عليه ، ولكنّهم مالكون لمنافعه فأصل ماليّته واحترامها محفوظة ، فيتحقق موضوع الضمان ، ولهم الأرش أو الدية حتّى على المبنى المزبور كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : قد عرفت أنّه على كلّ تقدير للموقوف عليهم الموجودين القصاص عن الجاني قتلا كان أو دونه ، وأخذ الأرش والدية في محلّهما ، فالأمر بيدهم لكون الحكم ثابتا لطبيعة المولى.

بقي الكلام في أنّه : إذا أعرضوا عن حقّهم وأسقطوا القصاص والدّية فهل يسقط رأسا أو يبقى الحق للطبقات اللّاحقة؟

التحقيق أنّه لا يبقى موضوع لهم ، وذلك لما هو المقرّر من أنّ الفارق بين الحق والحكم هو أنّ الثاني مثل السلطنة ، والملكيّة غير قابل للاسقاط ورفع اليد ، والأوّل قابل له.

ومعنى قابليّته ؛ أنّ زمام أمره إبقاء وإعداما بيد ذي الحقّ ، وعلى هذا إذا فرضنا أنّ الحقّ للموالي الموجودين الّذين هم الموقوف عليهم فعلا لكونهم مصداق الطبيعة ، فإذا أسقطوا لا يبقى بعد محلّ للطبقات اللاحقة بالمناط المزبور.

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨ و ٧ / ١١٧.


الثالثة : (١) في حكم الدية الّتي تؤخذ للجناية على العبد الموقوف ، قد تقدّم الكلام في مسألة الأرش وأنّه لا بدّ وأن يلحق بالوقف ويصير جزء ، نظرا إلى كونه بدلا عن النقص الوارد على الوقف ، فهكذا حال الدية ، بل بالنسبة إليها يمكن دعوى الأولويّة من الجهة المذكورة ، إذ بدليّتها أظهر ، غايته أنّها بدل مقدّر شرعا ولا يختلف ، بخلاف الأرش.

فعلى هذا ؛ تقوم الدية مقام الوقف بنفسها بلا احتياج إلى وقف جديد ، بل لا بدّ وأن يشترى بها ما هو المماثل للوقف الأصلي ويجعل في محلّه.

هذا ؛ ولكنّه يتمّ بناء على عدم الاستظهار من أدلّة الدية أنّها جزاء نقدي وبدل عن نفس الجاني ، بل بدل عن المجنيّ عليه وأنّه أحد فردي التخيير بينه وبين القصاص ، وإلّا فيصير حالها حال القصاص ، والحقّ يختص بالموقوف عليهم الحاضرين ولا يتعدّى عنهم ، بل ينتقل إلى ورثتهم مع عدم استيفائهم ، وحينئذ يصير الأرش حكمه أظهر وأولى من الدية في صيرورته جزء للوقف ، عكس ما ينسب إلى جماعة أو المشهور ، والله العالم.

ثمّ إنّه إن لم يستوف الموجودون حقّهم وما أسقطوه بقي على حاله إلى أن انتهت النوبة إلى الطبقات اللاحقة ، فحينئذ مع بقاء الموضوع والعبد إلى عصرهم ، لكون الجناية عليه دون النفس ، فهل ينتقل الحقّ إلى ورثة الموجودين في وقت الجناية أو الطبقات اللاحقة تسقط رأسا؟ وجوه مبنيّة على أن يكون الموضوع والعنوان الثابت لهم الحقّ هو ذوات الموالي الطبقة الاولى لكونهم موالي ، ولازمه الانتقال إلى ورثتهم أو نفس عنوان المولى الموجود في وقت الجناية لازمه

__________________

(١) كذا ، والظاهر أنّها الجهة الرابعة.


السقوط بموتهم ، أو عنوان المولى المطلق ولازمه الوجه الثاني ، والأقوى هو الأخير كما هو واضح ، فتأمّل جيّدا!

المسألة الرابعة : قال في «الشرائع» : إذا وقف مسجدا فخرب أو خربت القرية (١) .. إلى آخره.

الظاهر ؛ أنّه لا إشكال في أنّ المسجد لا يجوز التصرّف فيه بوجه أصلا في جميع الأحوال ولو خرب بناؤه ولم يبق من آثاره شي‌ء ، أو خرب المحل الّذي هو فيه ، بل هو على حاله باق ولو لم يبق منه إلّا عرصته.

ولا كلام لأحد في ذلك إلّا في المساجد التي في الأراضي المفتوحة عنوة ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فالظاهر ؛ أنّ المتسالم بين الأصحاب قد تمّ أنّ أرض المسجد لا تخرج عن المسجديّة مطلقا ، ولو أخذها الماء أو تصير آجاما ونحوهما ، بل يرون أحكام المسجديّة عليها مترتّبة من عدم جواز تنجيسها ، أو عدم دخول الجنب فيها ، وكلماتهم في جواز بيع الوقف عند الخراب وغيره منصرف عن المسجد مطلقا ، بل مخصوصة ومقصورة على عنوان الوقف لا ما يزيد عليه ، مثل عنوان المسجديّة ، فإنّه من قبيل العنوان الطارئ على عنوان آخر ، الّذي لا يزول حكمه في حال كما يوافقه الاستصحاب ، بخلاف أصل عنوان الوقف.

وإنّما الكلام في المسألة الثانية الّتي ذكرها في «الشرائع» من خراب الدار ونحوها ، وأنّه يجوز حينئذ بيع أرضها أم لا؟ ولمّا كان ذلك من صغريات مسألة جواز بيع الوقف ومستثنياته فلا بأس بصرف الكلام إلى أصل تلك المسألة ، وتحريرها في الجملة.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢٢٠.


فنقول بعونه تعالى : إنّ تنقيح البحث في ذلك ، وأنّه كيف يجوز الخروج عن حرمة بيع الوقف يقتضي ذكر مقدمة أوّلا وهي : أنّه أوّلا هل الأدلّة الدالّة على حرمة بيع الوقف تدلّ عليها مطلقا بمعنى أنّها تنفي جوازه ولو مع طروّ أيّ عنوان عليه من الخراب وغيره من العناوين ، أو ليست ناظرة إلى هذه الجهة ، بل غايتها أنّه لا يجوز بيع الوقف لعدم المقتضي فيه كما يكون في سائر الأملاك والأموال؟ ثمّ بناء على الأوّل ؛ أيّ مقدار من الدلالة لها هل تكون مطلقة أو مختصّة؟

فهذا أصل مبنى المسألة ، بحيث لو ثبت الأوّل ففي موارد الشكّ لا يجوز التمسّك بأدلّة الأسباب مثل عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) لعدم كونها متكفّلة لبيان قابليّة المحلّ بل سقوطها عن صلاحيّة التمسّك بها مطلقا حتّى الثاني.

نعم ؛ عليه الظاهر أنّه لا بأس بالتمسّك بأدلّة المسبّبات مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) إذا فرضنا صدق البيع عرفا ، بل بإطلاق الدليل وعموم الإمضاء يمكن إحراز الصدق واستكشافه ، نعم ؛ على الأوّل لا مجال للتمسّك بهذه الأدلّة أيضا ، إذ عليه تصير ما دلّ على عدم جواز شراء البيع حاكما على أدلّة المسبّبات ، فلا طريق للإحراز.

ثم إنّ العناوين الطارئة الّتي يمكن صلاحيّتها لترخيص البيع لا تخلو من امور :

منها : مسألة الخراب وله مراتب ، فتارة يحصل الخراب بحيث يلحق الوقف بالمعدوم فعلا ويصدق عليه التلف مثل الحصر والجذوع البالية للمسجد وغيره.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.


واخرى : لا يصل بهذه الدرجة ، بل يقرب بها لانتفاع معظم منافعه ، كما لو فرضنا أن تتنزّل المنافع البالغة ألف تومان إلى مائة تومانا.

وثالثة : ما لا يصل تلك الدرجة أيضا ، بل تقلّ منافعه ، ولا يبعد أن يكون هذا القسم من مصاديق ما يكون التبديل أعود ، وهكذا سائر العناوين مثل الحاجة ، ومسألة المزاحمة بين حفظ الوقف وتلف الأموال الكثيرة أو النفوس ، فلها مراتب يختلف بالنسبة إليها لسان الأدلّة اللفظيّة والاصول العمليّة ، فإنّه يمكن المناقشة في صدق عنوان الوقف وبقائه بالنسبة إلى بعض مراتب الخراب كما سيأتي تفصيلها في طيّ البحث إن شاء الله تعالى.

حكم بيع الوقف

إذا عرفت ذلك فنقول : ينبغي البحث أوّلا في ما يقتضيه طبع الوقف ، وأن ارتكاز الواقف أيّ شي‌ء يكون حين الوقف؟ والاحتمالات فيه ثلاثة أو أربعة : فإمّا أن يكون نظره إلى حبس العين بماليّتها ما دامت باقية بلا نظر إلى خصوصيّة العين بحيث يكون مقتضى طبعه الانتفاع من ماليّتها.

وإمّا أن يكون نظره منبسطا على الأمرين على نحو الضمنيّة بلا قصر على أحدهما.

ثمّ على كلّ من هذين التقديرين. إمّا أن يكون منظور الواقف حبس العين بقول مطلق ، بأن لا يتطرّق عليه قلب وانقلاب أصلا ، أي ولو مع طروّ أيّ عنوان.

وإمّا أن لا يكون كذلك ؛ بل ارتكازه عدم طروّ القلب والانقلاب ما دامت العين أو هي والمالية تصلحان للبقاء ، بمعنى أنّ معنى الحبس هو عدم اقتضاء


الأمرين في الوقف بنفسه ، كما يكون في سائر الأموال بلا نظر إلى طروّ العناوين الأخر عليه.

ثم إنّه لا خفاء في أنّ كلّ واحد من الاحتمالات يختلف بحسب اللوازم ؛ إذ على الأوّل يصير مفاد الأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف ونحوه حكما تعبّديا محضا وليس فيه إمضاء ؛ إذ المفروض قصر نظر الواقف إلى الماليّة فقط وحفظها في أيّ صورة ، فحينئذ الوقف من حيث نفسه لا مانع من نقل عينه وانتقالها اختيارا مع حفظ ماليّتها في ضمن أيّ تشخّص أمكن ، كما يكون لازم ذلك أيضا ورود البيع على الوقف لا بطلانه في الرتبة السابقة عليه ، بل العنوان محفوظ وإنّما يبطل الوقف بعد ورود البيع عليه ، وعليه يتمّ ما اختاره الشيخ قدس‌سره في مكاسبه في المسألة (١).

وعلى الثاني ؛ تصير الأدلّة وقوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا تورث ولا توهب» (٢) .. إلى آخره ، حكما إمضاء ورد على ما عليه ارتكاز الواقف وليس فيه إعمال تعبّد ، وهكذا عليه يصحّ ما اختاره صاحب «الجواهر» قدس‌سره من بطلان الوقف في صورة جواز بيعه في الرتبة السابقة عليه ثمّ يطرأ البيع على العين (٣) ؛ إذ على هذا المبنى الوقف يباين جواز البيع ذاتا ، فما لم يخرج عن عنوانه لا يصحّ بيعه.

ثمّ لا خفاء في أنّه على الاحتمالين الأخيرين يجري الأمران بعينهما مع اختلاف يسير ، حيث إنّه بناء على أن يكون نظر الواقف أعلى درجات الحبس

__________________

(١) المكاسب : ٤ / ٨٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٦ الحديث ٢٤٤٠٦.

(٣) جواهر الكلام : ٢٨ / ١٠٩ و ١١٠.


ـ بحيث يزاحم كلّ عنوان الأدلّة المانعة من البيع وغيره ـ يصير حكما إمضائيّا ، كما أنّه على الثاني بأن يكون نظره إلى مرتبة خاصّة من الحبس ، وهي أنّه ما دامت العين قابلة للبقاء أيضا ليست الأدلّة تعبديّة.

نعم ؛ على الأوّل الأدلّة المرخّصة لجواز البيع في بعض المقامات بطروّ بعض العناوين مطلقا تصير تعبديّة حاكمة على الأدلّة المانعة ، وعلى الثاني يختلف من حيث العناوين ، فمثل عنوان الخراب وما يلحق به ؛ فجواز البيع حينئذ من أحكام نفس الوقف وبيان لحقيقته وليس تعبّد في البين.

وأمّا مثل عنوان الأعوديّة والأنفعيّة ، وهكذا الاضطرار وحاجة الموقوف عليهم إلى البيع أو تأدّي بقاء الوقف إلى الخلف بين أربابه بحيث يوجب قتل النفوس وأمثاله من المفاسد ، فهي أحكام تعبديّة من طرف الشارع ما تعلّق بها غرض الواقف أصلا ، فلا بدّ أن يلتزم أنّ الشارع في أمثال هذه الموارد من باب ولايته على الواقف والموقوف عليهم لعلمه بالمصالح رخّص في البيع ، بناء على جوازه فيها.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ رفع المحذور في الموارد المذكورة تارة يكون برفع اليد عن شخص الوقف مع بقاء ماليّته وتبديلها إلى مثله ، واخرى يتوقّف على إسقاطها وإتلافها أيضا ، وثالثة ، يتوقّف على تبديل المماثل بغيره ، وهكذا من المراتب الّتي يفرض ، فالوقف إنّما يبطل بالنسبة إلى مرتبة يتوقّف رفع المحذور برفع اليد عنها والدرجات اللاحقة الّتي كان الوقف يشملها ضمنا ، باقية على حالها ، ولذلك لا يحتاج إلى عقد جديد أصلا ، إذ المفروض أنّ البدل هو بعينه الوقف الأوّل مع تغيّر بعض عوارضه ، وهي خصوصيّة العين فليس وقفا جديدا


حتّى يحتاج إلى أساس على حدة.

وبالجملة ؛ فهكذا كلّه بالنسبة إلى عالم التصوّر ، وأمّا تحقيق الأمر ؛ فلمّا كان مرجع النزاع في الحقيقة إلى أنّه نظر الواقف وارتكازه هل يكون مقصورا إلى حبس العين بشخصها ، أو هي وماليّتها ، بلا نظر إلى كونها مقدّمة للتسبيل أم لا ، بل يكون مركوزه حبس العين لأن يتسبّل ثمرتها ، وتكون مقدّمة لانتفاع الموقوف عليه عنها؟

ومن المعلوم وجدانا أنّ منظور الواقف هو الثاني ، فيتعيّن من كلّ من الاحتمالين ثانيهما ، أي ليس نظر الواقف مقصورا على العين فقط ، بل هي بما لها من الماليّة ، كما أنّ المتبادر منه أنّ الوقف إنّما يكون ما دامت العين قابلة للبقاء ، وأنّه في نفسه ليس فيه مقتضى القلب والانقلاب لا مطلقا ، أي ولو مع طروّ كلّ عنوان عليه.

ضرورة ؛ أنّ الثاني ينافي كون الوقف مقدّمة لتسبيل الثمرة حسبما هو الارتكاز ، بل مفاد الأدلّة (١) أيضا ، فعلى هذا يصير مفاد الأدلّة المانعة عن بيع الوقف حكما إمضائيّا : وبيانا لحقيقة الوقف ، كما هو ظاهر قول عليّ عليه‌السلام في وقفه : «صدقة لا تباع ولا توهب» (٢) .. إلى آخره ، وأنّه بنوعه لا مقتضي فيه للبيع وغيره من أنواع النقل ، وأيضا ظاهره الإجراء على ما هو مرتكز الواقف من أنّه لا قلب وانقلاب فيه ما دام الوقف قابلا للبقاء ، وليس للأدلّة الشرعيّة أزيد من ذلك دلالة حتّى يعارض جواز بيعه عند طروّ العناوين المجوّزة له فتأمل!

__________________

(١) حيث تقول : حبّس الأصل وسبّل الثمرة ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٧ الحديث ٢٤٤٠٨.


نعم ، قد أشرنا إلى أنّه عليه أيضا لا يجوز بيع الوقف إلّا إذا خرب أو نقصت منافعه بحيث يلحق بالعدم إمّا بنفسه أو لخلف بين أربابه ، وأمّا في غير هذه الصورة (١) من العناوين ، فالبيع يكون خلاف مقتضى طبع الوقف بل الأدلّة الشرعيّة أيضا ، ويحتاج إلى دليل خاص حاكم أو عامّ كذلك ، كما يمكن أن يدّعى بوجوده في مثل ما إذا كان الوقف يزاحم تلف النفوس أو هتك الأعراض ، بل تلف الأموال الكثيرة أيضا مع إشكال فيه ، حيث إنّ الظاهر أنّ الشارع رجّح حفظ هذه الامور على كلّ شي‌ء ويرى مصلحتها أهمّ من مفسدة بيع الوقف ، وسائر المحاذير.

ثم إنّ هذا كلّه مقتضى القواعد الأوّليّة ؛ على ما هو التحقيق من أنّ حقيقة الوقف هو التحبيس والإيقاف ، وليس فيه تمليك ، بل عليه أيضا ـ بناء على أن يكون حبسا ـ يفيد التمليك ، فهو لا يختلف أيضا مع الإيقاف في ما ذكر.

وأمّا بناء على كونها تمليكا محضا للطبقات فقد يقال أيضا : مقتضاه ما ذكر ؛ إذ المفروض أنّ التمليك ليس للموجودين فقط ، بل لهم ولما يلحقهم من الطبقات ، فالحقّ لجميعها فلا سلطنة للطبقة السابقة حتّى يكون له القلب والانقلاب ولو كان مالكا له.

وفيه : أنّه على هذا لا بدّ وأن يكون للوليّ العامّ ذلك ، حيث إنّ الحاكم كما أنّه وليّ على الغائب وكلّ قاصر ، كذلك له الولاية على المعدومين ، فلا بدّ أن

__________________

(١) حتّى الشرط ـ أي اشتراط بيع الوقف الحاجة إليه ـ حيث إنّ الشرط إنّما يؤثّر إذا لم يكن في البين مؤثّر ومقتض يضادّه في الرتبة السابقة ، وقد ظهر أنّ مقتضى طبع الوقف وما هو الظاهر من الأدلّة جواز بيعه مطلقا ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».


يجوز له القلب وانقلاب الوقف مع الموقوف عليهم الموجودين إلى ما يكون أعود وأنفع ، وكذلك عند اضطرار الموقوف عليهم ونحوه من مقتضيات التغيير ، إذ المفروض أنّ عدم جواز القلب والانقلاب ليس بنقص في العين الموقوف ، بل هو ملك لهم وإنّما المنع من جهة قصور سلطنة الموجودين وتعلّق حقّ البطون اللاحقة بها ، وإذا [كان] لهم وليّ في البين فيرتفع المحذور من جهته أيضا.

نعم ؛ لو لم يكن الحاكم وانتهت النوبة إلى ولاية عدول المؤمنين ، يمكن منع ذلك ، حيث إنّ ولايتهم مقصورة على الامور الحسبيّة وهي الّتي يقطع بعدم رضا الشارع على تعطيلها ، والموارد المذكورة الّتي محلّ النقص ليست منها.

وبالجملة ؛ فعلى المبنى المذكور يترتّب عليه ما عرفت من الفساد ، فهو يختلف من هذه الجهة أيضا ، مع المسلكين الأوّلين ، فتأمّل!

مقتضى قواعد الباب في بيع الوقف

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم جواز بيع الوقف حسبما تقتضيه قواعد الباب إلّا في صورة خرابه وما يلحق به ، هل يعمّ بدله أيضا فيما إذا بدّل ، أم لا ، بل مخصوص بنفس العين الموقوفة أوّلا ، وإلّا فبالنسبة إلى بدلها يجوز القلب والانقلاب فيها بالتبديل بالأحسن ونحوه؟

الأقوى ؛ اختصاص الحكم بنفس العين الموقوفة أوّلا ، وذلك لأنّ الحكم الّذي بنينا عليه إنّما استفدناه من عقد الوقف ، وأنّ مقتضى لفظه من حيث ارتكاز الواقف بقاء العين مطلقا ما دامت قابلة له ، إلّا أن تصل إلى درجة التلف أو تنقص منافعه بحيث لا يعدّ عند العرف أنّه منافع الوقف ، ولا يصدق أنّها الثمرة الّتي


سبّلها الواقف ، ومن المعلوم أنّ ذلك مقصور على العين ، وأمّا بدلها فلا ؛ حيث إنّ اللفظ لا يشمله ، والالتزام به وجعله وقفا من جهة تعلّق غرض الواقف بحفظ ماليّتها.

وبعبارة اخرى ؛ صيرورة البدل وقفا لاستكشاف المناط وغرض الواقف ، فليس في البين لفظ يكون مقتضاه المنع عن القلب وانقلاب البدل كما بالنسبة إلى المبدل منه.

فعلى هذا ؛ لا مانع في البدل من جواز التصرّفات فيه ما لم ينته إلى تلفه فيلزم نقض غرض (١) الواقف هكذا أفاد دام ظلّه.

ولكن للتأمّل فيه مجال حسبما أفاد سابقا في تقريب صيرورة البدل بنفسه وقفا بلا احتياج إلى عقد جديد ، مع أنّ الّذي أفاد هنا خلاف الاحتياط ، والمسألة تحتاج إلى المراجعة ، والله العالم.

هذا كلّه ؛ حسبما تقتضيه قواعد الباب والأدلّة العامّة ، وأمّا الأخبار الخاصّة الّتي قد يتوهّم دلالتها على خلاف ما تقتضيه القواعد ، وأنّه يجوز بيع الوقف في الموارد الاخر غير ما تقدّم ، كما إذا احتاج الموقوف عليه إلى بيعه ونحوه ، فالإنصاف أنّها قاصرة عن إثباته.

والخروج عما يقتضيه الأصل والقواعد لأحد الامور الثلاثة : من جهة ضعف السند ، أو الدلالة ، أو كليهما ، وقد أورد في «الجواهر» قدس‌سره في بحث بيع

__________________

(١) كان تأريخ تحرير هذه الورقة عصر يوم الثالث عشر من ذي القعدة واشتدّ مرض والدتي حينئذ فماتت غدا قريب الساعة الثامنة من النهار في النجف الأشرف رحمها الله وإيّانا ، «منه رحمه‌الله».


الوقف جميع ما يصلح أن يتمسّك بها للخروج عن الأصل المذكور (١) ، فراجع وتأمّل فيها! فهي بين ما هو ضعيف سندا من حيث إعراض الأصحاب ، وإن كان من حيث الدلالة واضحة ، كالخبر المشتمل على وقف عليّ عليه‌السلام وجعل أمره بيد ولده الحسن عليه‌السلام وأنّ له أن يبيعه إذا احتاج إليه (٢) فإنّ الظاهر أنّه غير معمول به.

وبين ما هو غير واضح الدلالة ، كما يكون كذلك مكاتبة عليّ بن مهزيار (٣) ، حيث إنّه لم يتّضح أن يكون السؤال ناظرا إلى صورة تمام الوقف من حيث القبض ونحوه ، وهكذا من طرف الجواب فيمكن أن يكون كلاهما ناظرا إلى بيان حال الوقف قبل لزومه.

ومثله البعض الآخر ؛ مع احتمال أن يكون أصل إطلاق لفظ الوقف في جملة منها مجازا عني به الوصيّة لمشابهتهما (٤) من حيث الإخراج لزوما ، كما لا يبعد أن يكون في اصطلاح العرف العامّ وإطلاقاتهم كذلك.

وبين ما هو جامع الجهتين ، كما يظهر للمتأمّل فيها.

فعلى هذا ؛ لا ينبغي الخروج عن الأصل المذكور لفقد الدليل ، مضافا إلى كونه خلاف الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة ، والله العالم ، والهادي إلى سبيل الرشاد.

هذه جملة من الكلام في جهات باب الوقف ، وقد منعني تشتّت البال وضيق المجال عن استيفاء تمام إفاداته ـ مدّ ظله ـ في هذا المبحث ، أرجو من الله

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ١٠٩ ـ ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٩ الحديث ٢٤٤٢٦.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٠ الحديث ٢٤٣٩٧.

(٤) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٨ الحديث ٢٤٤١٠.


التوفيق والرشاد لاحتواء سائر إفاداته في سائر الأبواب ، بمحمّد وآله الأمجاد ، وكان اختتام ذلك في العشر الآخر من ذي القعدة الحرام سنة ١٣٤٧ في النجف الأشرف على ساكنها ألف الصلاة والسلام.


رسالة الإجارة



بسم الله خير الأسماء

التنازع بين المؤجر والمستأجر

الكلام في التنازع في الإجارة بعد تسليم أصل الإجارة يتوقّف على بيان تصوير أقسامه ، فنقول : في مورد النزاع إمّا أن تكون الإجارة متّحدة أو متعدّدة.

فعلى الأوّل ؛ لا بدّ أن يكون الشي‌ء المستأجر متعدّدا فإمّا أن يكون الأقلّ والأكثر ، أو يكون مورد الإجارة متباينين ، كأن يقول : آجرتك الدار بمائة درهم ، فيقول : بل استاجرت ذلك الثوب معها بمائة درهم.

أو يقول في دعوى الإيجاب المذكور : بل استأجرت تلك الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم.

وعلى الثاني ؛ إمّا أن يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، أو من قبيل المتباينين ، وعلى كلّ منهما ، إمّا أن يكون الشي‌ء المستأجر متّحدا ـ أي مسلّم الاتّحاد ـ أو متعدّدا ، أي النزاع واقع فيه أيضا ، كما هو واقع في الأجرة.

فالصور أربع ، مضافا إلى الصورتين المذكورتين ، فمجموعها ستّ.

وعلى فرض التعدّد من الطرفين ، إمّا أن تكون الاجرتان إذا كانتا من قبيل الأقلّ والأكثر بطريق التوزيع على الشيئين المتنازع في كونهما موردا لها ، أو لا يكون كذلك.

فإذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأقلّ والأكثر ، والمستأجر ـ بالفتح ـ


متّحدا ، كأن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل بخمسين درهما ، أو كانت الاجرة من قبيل المتباينين ، والمستأجر كالسابق ، كأن يقول : آجرتك الدار بمائة درهم ، فيقول : بل بمائة دينار ، أو بخمسين دينارا ، فإنّ الاعتبار بالمتعلّق لا بنفس العدد.

وأمّا إذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأوّل ، والشي‌ء المستأجر متعدّدا ، فإمّا أن يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل استأجرت هاتين الدارين بمائة وخمسين درهما.

وإمّا أن يكون من قبيل المتباينين ؛ مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بخمسين درهما ، فيقول : بل هذه الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم ، أو بالعكس في طرف الاجرة ، وإن كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل المتباينين ، فالشي‌ء المستأجر المتعدّد كذلك ، إمّا أن يكون من مثل الاجرة ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل هذا الثوب بمائة دينار [أو] غيرها ، بل يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل هذه وهذه بمائة دينار.

ففي جميع صور التباين ؛ سواء كان في الطرفين أو في طرف واحد ، فالحكم هو التخالف ، لعدم اتّفاقها على أمر جامع ، إذ حصول الاتّفاق على طرف كالعوض ، مع الاختلاف في الطرف الآخر غير مفيد في سقوط الدعوى من طرف.

وفي غيرها يتوجّه الحلف على المنكر بالنسبة إلى الزائد ، ولا يسقط شي‌ء من الاجرة لو كان الاختلاف في طرف الشي‌ء المستأجر ، فسقوط الزائد


لاتّفاقهما على استحقاق المؤجر إيّاه أجمع وانتقالها إليه.

وكذا لا تسقط من إجارة العين المستأجرة لو كان الاختلاف في الاجرة إلّا في صورة كون الاجرة والعين متعدّدتين مطلقا ، فإنّ الحكم هنا التحالف أيضا مع احتمال التفصيل على ما حكي عن العلّامة (١) بل رأيناه في «قواعده» (٢) بين صورتي التوزيع ، فالحلف لاجتماعهما على أمر جامع وعدمه ، فالتحالف لو كان النزاع في المدّة زيادة ونقصانا مع كون الاجرة متّحدة أو متعدّدة ، فافهم!

وضابطة التحالف إن كان مورد النزاع أمرا واحدا ذا جهتين يترتّب على كلّ منهما أثر مالي أو عرضيّ أو حقّ ، كالعقد على الثوب أو الجارية ، وأمّا إن كان مورد النزاع أمرين مختلفين ، فهنا توجّهت الدعويان ، كما لو ادّعى عليه عبد أو ادّعت عليه جارية من غير أن يكون النزاع في العقد.

ثمّ اعلم! أنّ الحكم المذكور في صورة كون الاجرة من قبيل الأقلّ والأكثر مع عدم التباين في الطرف الآخر من كون القول قول منكر الزيادة بيمينه إنّما هو إذا كانتا كلتاهما مضمونتين.

وأمّا لو كانتا متعيّنتين فالحكم التحالف ، وإن كان أقلّ وأكثر ، لعدم اتّفاقهما على أمر جامع لتشخّص العقد بتشخّص المتعلّق.

وكذا الكلام في العين المستأجرة ؛ فإنّها لو كانت مضمونة وكان مورد النزاع منها أقلّ وأكثر فالحلف بوجود قدر جامع.

__________________

(١) حكاه عنه في الحدائق الناضرة : ٢١ / ٦٣٩.

(٢) قواعد الأحكام : ١ / ٢٣٦ و ٢٣٧.


وأمّا إن كانتا متعيّنتين فالتحالف ، وفي بعض تحقيقات العلّامة رحمه‌الله (١) : أنّ ما ذكرنا من أحكام صور الأقلّ والأكثر من الحلف لا التحالف ، إنّما هو إذا كان الغرض من النزاع هو المال ، أمّا لو كان محلّ النزاع نفس العقدين والغرض ترتيب آثار كلّ من العقدين غير مسألة الاجرة أو العين المستأجرة ، كما لو كان العقد المتشخّص بالاجرة الّتي يدّعيها أحدهما مشروطا في عقد آخر ، فالغرض هنا إثبات الخيار بالنسبة إلى العقد المشروط ونفيه.

فلا يقال : إنّ القول هنا قول منكر الزيادة ، كما لا يخفى.

ثمّ لمّا كان في الغالب العين المستأجرة في الإجارة كونها متعيّنة والنزاع ماليّ ؛ أطلقوا الحكم ، لكون القول قول المالك ، كما أنّ الغالب لمّا كان في طرف الاجرة كونها في الذمّة أطلقوا الحكم بكون القول قول المستأجر في نفي الزيادة ، ولو كانت الإجارة بالنسبة إلى العين مضمونة ، أو كانت الاجرتان المتنازع فيهما متعيّنتين انعكس الحكم في المقامين.

موارد القرعة عند التنازع بين المؤجر والمستأجر

ولمّا ذكر في المقام في بعض صور المسألة بالقرعة ، فلا بدّ من بيان موردها حتّى يعلم وجه ترجيحها عند القائل بها وعدمه عند الجماعة (٢).

فنقول : إنّ القرعة لبيان موضوع الحكم ، أو لتعيين الأمارة ، أو لترجيح إحدى الأمارتين.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٣٠ ط. ق.

(٢) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٢١ / ٦٣٧ و ٦٣٨.


فالأوّل : مثل القرعة في تعيين المطلّقة ، وتعيين العين الموصى بها ، لتردّدها بين اثنتين أو أزيد ، كما لو أوصى بعتق ثلث عبيده أو عدد منهم.

والثاني : مثل ما ذكروا في تعيين ذي اليد فيما لو تنازعا في سقف البيت.

والثالث : مثل ما ذكروا من تعارض البيّنتين بعد عدم المرجّح من الأعدليّة والأكثريّة ، فلعلّ نظر القائل بالقرعة في مسألة التنازع في قدر الاجرة وأنّه من خرج اسمه حلف ، إلى أنّ قول كلّ منهما مخالف للأصل فلا بدّ من تعيين المنكر ، وفيه نظر.

والحاصل ؛ أنّ القضاء شرّع لإقامة المعروف ، فإنّه من أفراد الأمر بالمعروف ، ولدفع النزاع وانتظام العالم ، وذلك يتحقّق بإثبات المطلب والواقع إمّا واقعا أو تعبّدا وبحكم الشارع كالبيّنة والقرعة ، فتأمّل!

وإمّا أن تفصل الخصومة باليمين ، ولذلك عمل الأصحاب في بعض الموارد بما يقتضي رفع النزاع والخصومات ، وإن كان أمرا استحسانيّا كمسألة تخليد المدّعي للتلف في الحبس لو لم يقبل قوله في دعواه ، ومسألة الوديعة حيث حكم بقبول قول المدّعي للردّ ، لكون الوديعة مبنيّة على الإخفاء.

فلذا لو لم يشهد في الردّ [إلى] الوكيل في الوديعة لمال شخص عند آخر لم يضمن ، ولذا لو أنكرها من غير الودعي مع سؤال الودعيّ عنه لم يضمن ، مع أنّ الإنكار من أسباب الضمان لصيرورة المنكر بذلك خائنا (١).

__________________

(١) لاحظ! الحدائق الناضرة : ٢١ / ٤٥٨.



رسالة الوكالة



بسم الله تعالى

أقسام الوكالة

اعلم! أنّ العقود إمّا تمليكيّة أو غير تمليكيّة.

والأوّل إمّا معاوضيّة ، أو شبه معاوضيّة ، بأن كان فيها شائبة عبادة ، بمعنى أن يكون الحقّ فيها بحيث يورد (١) المتعاوضين ، ولذا لا تقبل التقايل كالنكاح ، فإنّ فيه حقّا لغير المتعاقدين ، أعني لله ، وهو أمر النسب ، ولذا لو تصادقا على عدم النكاح بعد الإقرار لم يسمع ولا يرتفع النسب ، بخلاف المال ، أو غير معاوضيّة ، مجانيّة أو لابشرطيّة ، كالقرض!

والمعاوضيّة إمّا لازمة أو جائزة.

قيل : وكذا الثانية ، كالخلع والمباراة ، لا كالنكاح المشروط فيه بعض الامور الموجب تخلّفها للخيار ، إلّا أنّ جواز الرجوع حكم شرعي غير موجب لكونها جائزة ، فتأمّل!

والعقود الغير التمليكيّة إمّا إذنيّة ، وإمّا مثبتة للحقّ ، كالرهن والعارية ، والاهتمام في الألفاظ في العقود التمليكيّة المعاوضيّة الشبيهة بالعبادة أكثر منها من غير الشبيهة لها ومطلق ، والمعاوضيّة أكثر من غيرها ، ومطلق التمليكيّة أكثر من غيرها ، والمثبتة للحقّ من غيرها أكثر من الإذنيّة.

__________________

(١) كذا في النسخة.


وأحسن العقود الإذنيّة الوكالة ، لعدم كفاية الفعل أو الإشارة مع عدم العجز في إيجاب عقد من العقود مطلقا غيرها ، ونعني بالاهتمام المذكور بالألفاظ من حيث الصراحة والفوريّة والفعليّة أو الاسميّة ، وأمّا التعليق فمبطل في العقود مطلقا ، لعموم دليله على ما حقّق في محلّه.

نعم ؛ في كلّ عقد مبناه وحقيقته على التعليق ، كالوصيّة صحّ التعليق فيه ، كما أنّ كلّ شرط يشترط في العقود مطلقا في غير العقود الّتي مبناها على خلاف ذلك الشرط ، كالسكنى والعمرى بالنسبة إلى المدّة المجهولة المضروبة فيها ، وكالثمار في بيعها حيث جاز مطلقا أو على بعض الوجوه.

وسيأتي دليل بطلان التعليق فيها.

اشتراط فوريّة القبول في الوكالة وعدمها

واعلم! أنّه ذكروا في الوكالة عدم اشتراط الفوريّة معلّلا بأنّ حكمة جعلها هو تسهيل الامور للغائبين في قضاء وطرهم بها ، فاعتبارها فيها مناف لأصل الحكمة ، كما أنّ مفاد الوصيّة هو التمليك الحاصل بعد الموت ، فبطلان صحّة الإيجاب التأهليّة به مخالف لوضعها وإن كان مبطلا للصحيح التأهّلي ، والإيجاب قبل القبول كذلك ، وهذا مع قول المحقّق والشهيد الأوّلين في بيان عدم اشتراطها ، فإنّ الغائب يوكّل (١) ، فلا دور ولا مناقشة كما توهّم ، فافهم!

وهل يشترط في الوكالة عدم ردّ القابل للإيجاب؟ الأقوى نعم ، لأنّ أثر العقد تابع لتحقّقه ، والإيجاب قبل القبول صحيح تأهّلي يبطل تأهّله بالردّ ، إذ

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٨ ، اللمعة الدمشقيّة : ٩٧.


معنى التأهّل كونه بحيث لو تعقّبه القبول لأثّر ، ولو تعقّبه الردّ بطل ، فمع الردّ لا عقد ، كما لا يخفى ، فكيف لو ردّ بعد القبول ، وأمّا جواز القبول بعد الردّ في حياة الموصي فلما مرّ من كون وضع الوصيّة على التمليك بعد الموت ، والمتأخّر لم يقع بعد ، وهذا على القول باعتبار تأخّر القبول عن الحياة ، فلا اعتبار لردّه السابق.

أمّا على تقدير جواز تقديمه في حال الحياة ، فينبغي القول بمثل الوكالة من تأثير الردّ كالهبة ، فيبطل الإيجاب السابق ، ولو قبل بعد الحياة.

ولو قيل : إنّ عدم اشتراط المقارنة في الوصيّة اتّفاقا مانع هناك بخلاف الهبة ، قلنا مثل ذلك في الوكالة.

والحاصل ؛ أنّ الوكالة والهبة والوصيّة وغيرها سواء في بطلان الإيجاب بالردّ لو قلنا بجواز تقديم القبول على الوفاة ، كما هو مذهب الشهيد الأوّل (١).

وأمّا على القول في الوصيّة باشتراط مقارنته للوفاة فعدم تأثير الردّ متوجّه ، لأنّ الإيجاب فيها يتعلّق بعد الوفاة ، فلو قبل قبله لم يطابق الإيجاب ، فلا أثر لردّه وليس هذا الاحتمال في غيرها ، فالقول ببطلان الأثر العقدي متّجه ، ولذا قيل في انتقال حقّ القبول إلى الوارث مطلقا بأنّ ذلك للنصّ (٢) ، ولولاه لما تمّ ؛ لأنّه في صورة عدم موت الموصي قبل الموصى له يمكن القول بذلك ؛ لما ذكر في تعليل المشهور لاشتراط القبول بعد الوفاة.

وأمّا لو مات الموصى له بعد موت الموصي ولم يقبل بعد ، فقد بطل صحّة

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ٩٧ و ١٠٤ ، الدروس الشرعيّة : ٢ / ٢٨٥ و ٢٨٦ و ٣٢٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٣٣ الحديث ٢٤٧١٦ ، لاحظ! الحدائق الناضرة : ٢٢ / ٣٩٥.


الإيجاب التأهليّة بموت الموصى له ، وليس موته مثل موت الموصي محقّقا لموضوع الوصيّة ، فافهم!

والقول المذكور هو المشهور ، وإن كان الأقوى هو التفصيل بين ما لو تعلّق غرضه بشخص الموصى له وعدمه ، وفاقا لثاني الشهيدين (١) ، خصوصا لو كان موته بعد موت الموصي ، لإمكان القول بأنّ سكوت الموصي مع علمه بموته إمضاء لوصيّته بالنسبة إلى الوارث أو قرينة على عدم تعلّق غرضه بشخص ، فافهم.

وأمّا جواز التصرّف بالعقد السابق ، فلكفاية كلّ كاشف للإذن في جواز التصرّف ، بل العلم به كاف ، بخلاف العقود.

نعم ؛ في إيقاع العقد يكفي العلم بالرضا به ، لا بالنسبة إلى أثر العقد ، فلا يجوز البيع والإقراض بالعلم برضاه ، ويجوز إيقاع عقدهما به ، فتدبّر!

فلو لم يحصل من الإيجاب السابق إذن ، وحصل بشاهد الحال ، كفى ، وهذا نظير الإذن الحاصل في الوكالة الباطلة ، فإنّ الإذن ليس إلّا من جهة كفاية الكاشف الفاسد لحصول المناط.

وكذا المضاربة الفاسدة وغيرها ، لأنّ حقيقة الوكالة هي الاستنابة في التصرّف المستلزم لجوازه ، فالإذن الحاصل فيها حاصل في ضمن الاستنابة وليس استنابة وإذن.

وكذا في القراض ، بل حقيقتها لغيرها ليست إلّا أمرا مستلزما للإذن ، فمتى بطلت الاستنابة بطل الإذن الحاصل في ضمنها ، والفصل محصّل للجنس ، وكيف

__________________

(١) مسالك الإفهام : ٦ / ١٢٩.


يبقى بدونه وليس ذلك مثل مشخّصات زيد الّتي لا يوجب ذهابها ذهاب الإنسانيّة أو ليست المشخّصات محصّلة لها ، مع أنّ ذلك أيضا غير معقول ، كما لا يخفى ، فتأمّل!

ولكن ذلك العقد الباطل بالنسبة إلى الاستنابة ، كاشف عن الإذن.

وكالة المتبرّع

نعم ؛ بالنسبة إلى الوديعة المنضمّة لها في الوكالة والقراض ليست حقيقتهما جنسا ، ولذا لو تعدّى فيهما ضمن ، مع عدم بطلانهما ، قال المحقّق في «المختصر» : (ولا حكم لوكالة المتبرّع) (١).

أقول : أي ولا أثر للوكالة لو تبرّع الوكيل في وكالته ، وهذا ردّ على العامّة حيث جوّزوا أن يتوكّل متبرّع عن الغائب في الخصومات حسبة ، بيان ذلك أنّهم يقولون : إنّ الامور الشرعيّة على ثلاثة أقسام :

قسم ؛ أراد الشارع حصوله من مباشر معيّن بحيث لا تترتّب الآثار المختصّة به إلّا مع صدورها من مباشر معيّن كالصلاة والطهارة.

وقسم ؛ أراد حصوله من المكلّف أو من نائبه سابقا أو لاحقا لتشمل الإجازة بصيرورة الفضولي بها وكيلا بحيث يترتّب الأثر الشرعي على حصوله منه أو من نائبه ، وذلك كالبيع وغيره من العقود القابلة للنيابة ، فإنّ رضى المالك معتبر في ترتيب آثارها فمتى حصل [يترتّب الأثر الشرعي عليه] ، سواء قام بها بنفسه أو بنائبه.

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٨.


وقسم ؛ أراد الشارع حصوله في الخارج بأيّ نحو كان ورتّب الأثر الشرعي عليه ، وذلك كإزالة النجاسة عن الثوب أو البدن ، كما أنّ حصول الحرج أو التهمة موجب لنقض الحكم ، سواء قام بهما المدّعى عليه أو غيره ، ولو بغير إذنه ، أو علم الحاكم بنفسه.

فكذا قيام الغير بالنسبة إلى استماع بيّنة المدّعي وجرحها وغيرهما ، إذ المقصود ثبوت الحقّ وإبطال الباطل بالبيّنة أو اليمين حيث أمكنت كالمردودة ، كما يجوز للحاكم ذلك بطلب المدّعي مع غيبة المدّعي ، والحكم مع إبقاء الحجّة للغائب ، فالوكيل المتبرّع إذا استمع حسبة تسقط حجّته ، كما يجوز ذلك في بعض الامور الحسبيّة ، كحفظ مال اليتيم.

فذكر المحقّق أنّ تلك الوكالة لا أثر لها (١).

وبيان ذلك ؛ أنّ الوكيل إمّا أن يتوكّل في إتمام حكم المدّعي أو في رفع دعواه ، وحكم الحاكم فإن كان في استماع الدعوى وإتمام حكمه كما كان للحاكم نفسه ذلك ، فلا يسقط ذلك حجّة الغائب ، كما لا يخفى. مع وجود التهمة ، مع عدم اطّلاع الغائب في كونه وكيلا.

وإن كان في رفع الحكم ـ كما هو الظاهر من كلماتهم كما قيل ـ فهو مبنيّ على أنّه هل يجوز للحاكم مطالبة المدّعي أو المنكر بالبيّنة أو اليمين مع عدم مطالبة المقابل حيث كان عالما بوجوب البيّنة أو اليمين لأنّ ذلك وظيفته ، أم لا لانحصار الحقّ له ، فليس له التبرّع ؛ لاتّهامه لو فعل مع عدم المطالبة؟

__________________

(١) مرّ آنفا.


ولعلّ هذا أقوى وفاقا لجماعة ، كالعلّامة وغيره (١).

فإن قلنا بذلك ، فلا يجوز له استماع ما يقيمه الوكيل المتبرّع من الجرح أو البيّنة لكون ذلك حقّا للمدّعى عليه ولم يطالب ، فلم يمكن الحكم ، فتدبّر!

وإن قلنا بنقيض ذلك ، فلا نقول به في الجرح ، لكونه هتكا لحرمة المؤمن الغير الجائز أو مطالب لماليّة المدّعي المثبتة للحقّ أو المردودة بالنسبة إلى غير ذي الحقّ.

نعم ؛ لو قام الوكيل بأمر لو حصل من المدّعى عليه أو الوكيل كالشركة لتهمة مثلا جاز ، لكن هذا لا ربط له بالوكالة ، ولا يسقط حجّة الغائب في نفي حجّة لو صدر الحكم بها ، فلا أثر للوكالة التبرعيّة مطلقا عنه.

تعليق الوكالة وتنجيزها

قالوا : ويجوز تنجيز الوكالة وتعليق التصرّف إلى أمد (٢).

الفرق بين التعليق في الوكالة والتعليق في التصرّف ؛ أنّ النيابة في الأوّل بعد العقد وقبل حصول المعلّق عليه غير حاصلة بعد ، وفي الثاني هي حاصلة بعده وقبله ، ولكنّ الإذن في التصرّف غير حاصل ويختلف بالتعبير ، فلو قال : وكّلتك في بيع داري ؛ فالبطلان ، ولو قال : وكّلتك في بيع داري غدا ؛ فالصحّة.

نعم ؛ لو شرط أو نهى عن التصرّف دائما بطلب الوكالة ، لاشتراطها لما ينافي مقتضاها ، كما لو شرط في البيع عدم التصرّف في الجملة أو دائما [فيبطل] ،

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٤ و ١١٥ ط. ق ، شرائع الإسلام : ٢ / ١٩٣ ، الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١٠.

(٢) المختصر النافع : ١٧٨.


فقد اتّضح الفرق بين التعليقين ، فدعوى كون تعليق التصرّف في معنى تعليق الوكالة غير واضحة ، بل الواضح خلافها.

فكما أنّ عدم جواز التصرّف في بعض الأوقات قد يكون لمنع شرعيّ منه ، أو لعدم قابليّة المتعلّق للتصرّف حال العقد ، كما لو وكّل المفلّس في بيع متاعه بعد زوال الحجر أو وكّل رجلا جنبا في إيقاع عقد في المسجد ، أو إدخال شي‌ء فيه ، أو وكّل في طلاق امرأته الحائض ، ولا يمنع ذلك من جواز الوكالة ، كذلك لو أذن وعلّق التصرّف على وقت أو حصول شرط ، ولم يدلّ دليل اشتراط التنجّز في العقود على اشتراطه في مطلق الإذن ، إذ هو إمّا الإجماع ، فهو ظاهر ، وإمّا ما ذكره جماعة من المحقّقين كالشيخ صاحب «الجواهر» من أنّه كما لا يجوز التعليق في الأسباب العقليّة والعاديّة ، كأن يقال : النار محرقة إن جاء زيد ، وإلّا لزم خروج السبب والعلّة عن السببيّة والعلّيّة ، بل يكون هو مع الشرط سببا ، كذلك الأسباب الشرعيّة ، وإن كانت معرّفات لو كانت معلّقة (١).

فإن قلنا بترتّب آثارها الشرعيّة قبل حصول المعلّق عليه فلا أثر للتعليق ، وإن رتّب الآثار بعد حصوله فقد خرج السبب عن السببيّة والمعرّفيّة ، إذ هو مع حصول غيره صار سببا ومعرّفا.

مثلا قولك : إن جاء زيد أو طلع الشمس فقد بعته ، البيع والمجي‌ء أو الطلوع سبب للنقل لا نفس البيع ، مع عدم جعل الشارع سببا له إلّا البيع.

وإلى هذا أشار الشهيد الثاني في مسألة كاشفيّة الإجازة لا ناقليّتها أنّ

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٢ / ٧٨ ـ ٨١.


الشارع جعل العقد سببا (١).

فلو قلنا بعدم حصول النقل إلّا بعد حصولها ، لزم خروج السبب عن كونه سببا.

نعم ؛ لو شرط الشارع أمرا في حصول النقل كالقبض في الصرف والهبة والوقف ، لم يكن العقد بنفسه سببا ، بخلاف الإجازة ، وكان هذا هو السرّ في ما ذكره جماعة من كون الإجازة شرطا للّزوم ، مع قولهم بأنّ مثل القبض شرط في الصحّة وإن كان ترتيب آثار الصحّة في زمان الإجازة من زمان الإجازة.

وأمّا التمسّك ب «الناس مسلّطون على أموالهم» (٢) وحلّيّة مال امرئ (٣) في جواز العقد التعليقي بعد تخصيصها بالعقود الّتي هي سبب النقل لا جريانها مطلقا ـ كما هو ظاهر ـ فغير صحيح جدّا ، إذ مجرّد ذلك غير مجد وإلّا لجاز التمليك بغيرها ، ولذا قالوا : إنّ التعليق على أمر معلّق عليه العقد عند الشارع غير مضرّ ، لكون العقد مع ذلك المعلّق عليه مؤثّرا في الواقع ، وكذا لا يضرّ في العبادات تعليقها على ما هو شرط فيها عند الشارع ، كأن يشترط في نيّة الصلاة عدم الحيض أو الحياة أو عدم الجنون ، لعدم منافاتها للجزم في النيّة.

وأمّا التعليل بعدم حصول الرضا عند حصول المعلّق عليه ، وحصولها بمضمون العقد عنده غير مجد ، فكلام ظاهر ، إذ الرضا في التعلّق بأمر مستقبل ، ولو كان المعلّق عليه مشكوك الحصول عند العاقد حينه ، متحقّق الوجود حال

__________________

(١) الروضة البهيّة : ٣ / ٢٢٩.

(٢) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩.

(٣) عوالي اللآلي : ٣ / ٤٧٣ الحديث ٣.


العقد ، لم يصحّ أيضا ، لتخليل قصد العاقد إلى أنّ العقد مع الشرط سبب ، ولعدم الرضا منجّزا حاله ، كما ذكره الشهيد في «قواعده» (١) ، فتأمّل!

وتمام الكلام في باب البيع ، وليس هذا يقتضي بطلان تعليق الإذن.

نعم ؛ لو لم يكن الآذن مالكا للتصرّف حين العقد وأوجد الوكالة وإن نجزّها وعلّق التصرّف على زمان حصول التصرّف له بطلت الوكالة والإذن ، كما لو وكّل في طلاق امرأة سينكحها ، أو كان محرما ، أو وكّل محرما أو محلّا في شراء الصيد ، أو العقد بعد إحرام الموكّل ، لعدم أهليّة الموكّل للتوكيل.

كما لو وكّل العبد غيره في التصرّف في ماله بعد عتقه ، لعدم أهليّة الموكّل للتصرّف في ما وكّل غيره بنفسه ، أو بغيره أو وكّله في بيع فاسد ، فإنّه لا يملكه الوكيل ، كما لم يكن الموكّل مالكا له ، بخلاف ما لو وكّلت المرأة الحائض غيرها في إيقاع عقد في المسجد ، لكونها مالكا له بغيره ، وكما يمنع عدم أهليّة الموكّل ، كذلك يمنع عدم أهليّة الوكيل ، كما لو كان محرما أو وكّل في عقد النكاح أو شراء العبيد.

هذا ؛ ثمّ إنّ الاستنابة على قسمين :

قسم ؛ يوجب الولاية للنائب ، بعد سقوط ولاية الموكّل في ما وكّله ، فلا تثبت ولايته ما دام ولاية الموكّل كالإيصاء ، فإنّ ولاية الموصي ما دامت ثابتة لم تثبت ولاية الوصيّ وتسقط ولايته إذا مات وتثبت للوصيّ.

وقسم ؛ توجبها له مع بقائها للموكّل ، وذلك في وكالة الأحرار.

وأمّا استنابة العبيد ؛ فليست إثبات الولاية ، لا لعدم قابليّتها لها ، لجواز

__________________

(١) القواعد والفوائد : ٢٠ و ٢١.


الإيصاء إليه بإذن مولاه ، بل لكونها بمنزلة الآلة.

ولذا قالوا : إنّه لا يحمل إذن العبد في التصرّف على كونه وكالة ، لأنّه استخدام وإن كان قابلا لها ، فإذا وقع عقد الوكالة بلفظها كالاستنابة أو الوكالة حملت عليها مطلقا.

ولو وقع بلفظ الإذن ؛ فإن كان المخاطب حرّا يحمل عليها أيضا إلّا مع القرينة على إرادة الإذن المجرّد ، لا الولاية ، وإن كان المخاطب عبدا فهو استخدام لا ولاية.

فإذا وقع التعليق أو أمر آخر موجب لبطلان الوكالة ، فإن كان الواقع لفظ الوكالة ، فبطلانها يبطل الإذن المستلزم له ، إلّا أن يقال : إنّ التصرّف يكفي فيه رضا المالك ، فمتى حصل ـ ولو حصل بكاشف فاسد بالنسبة إلى أمر آخر ـ جاز التصرّف.

نعم ؛ لو كان الموكّل جاهلا بفساد الوكالة ولم يكشف الرضا بأمر آخر غير لفظ «وكّلتك» لم يجز التصرّف ، بخلاف ما لو كان عالما ، وإن كان الواقع بلفظ الإذن وكان المخاطب حرّا ، بطلت الوكالة الظاهر فيها ، بقرينة المخاطب.

وأمّا جواز التصرّف ؛ فإن اكتفينا في حصول الرضا بكاشف فاسد أو حصل من غير لفظ الإذن ، فلا إشكال في جوازه وإن كانت الوكالة الظاهرة من هذا اللفظ باطلة ، وكذا الإذن المستلزمة هي له.

ويحتمل أن يقال بحمل كلام المتكلّم على الصحيح : إنّ المراد من هذا اللفظ الإذن لا الوكالة ، فحمل الكلام على الصحيح قرينة على صرف الكلام عن الوكالة الظاهر فيها ، كما يفعل ذلك في باب الإقرار والبيع ، كما لا يخفى على الفقيه المتتبّع.


ولو كان المخاطب عبدا صحّ بلا إشكال لظهور الإذن معه في غير الوكالة ، وقد مرّ أنّ التعليق غير مضرّ في مطلق الإذن ، كما لا يخفى على الفقيه المتفطّن.

ثمّ إنّ بعض العقود ما هو معاوضيّة ، وبعضها غير معاوضيّة ، وإن ذكر فيها العوض كالنكاح والخلع ، وبعضها محتمل للأمرين كالصلح ، فافهم!

وليست الوكالة باعتبار اشتراط الجعل فيها وعدمه من هذا القسم ، بل هي معه من العقود التضمينيّة لا المعاوضيّة ، كالجعالة والنكاح في قول.

ولذا لو فسد الجعل في الوكالة المشروط فيها الجعل لم تفسد الوكالة ، وإن كانت موجبة للضمان لو كانت فاسدة بقاعدة «ما يضمن» كالهبة المشروط فيها العوض ، والعارية المشروط فيها الضمان.

مع أنّهما ليستا من العقود المعاوضيّة ، وليست القاعدة كلّ عقد معاوضيّ يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فتدبّر!

أقسام الاستنابة

فقد علم أنّ الإذن والاستنابة على ثلاثة أقسام :

قسم ؛ يفيد إثبات الولاية وتفويضها بعد سقوطها عن نفسه.

وهذا القسم إنّما يكفي إذا لم يكن هناك ولاية مقدّمة على ولاية هذا المستناب ، كما لو كان هناك جدّ وأوصى إلى أحد على صغاره.

وأمّا ولاية الحاكم ؛ فهي متأخّرة عن جميع الولايات كإرثه ، وذلك لأنّ جعل الولاية له لعدم تعطيل الامور والأحكام ، كما أنّ إرثه لعدم كون المال بلا مالك ، ولذا لا يرث إن أمكن تحصيل الوارث ، ولو بأن يشترى ويعتق ويرث ،


فكما أنّ ولاية الأب أو الجدّ مقدّم على ولايته ، كذلك ولاية الوالي منهما ـ وهو الوصيّ ـ مقدّم عليه.

وقسم ؛ يفيد إثبات الولاية له مع بقاء ولايته ، بل ما دامت ولايته ثابتة تثبت له ، وهذه هي الوكالة ، فحيث إنّها ولاية عمّن له الولاية على أمر فيشترط كونهما قابلا للولاية بمعنى كون الموكّل مالكا للتعالي بنفسه ولغيره ، والوكيل قابلا للتعالي وإن لم يكن قابلا للتعالي لنفسه ، فإنّ السفيه يتوكّل ، فلو لم يكن أحدهما قابلا لها بطلت الوكالة.

وكذا لو عرض بعد القابليّة ما يمنع منها ، كما لو جنّ أو مات أو اغمي على أحدهما ، ثمّ لو عرض الموكّل ، صار تصرّف الوكيل فضوليّا موقوفا على إجازة الوليّ الفعلي لذلك التصرّف أو إجازته بعد زوال المانع ، ولو عرض الوكيل فتصرّفه حيث أمكن كان لغوا ، للغويّة عبارة المجنون والمغمى عليه إلّا في مثل العارية ممّا يصحّ كون المجنون آلة كالصبيّ.

فقد عرفت من ذلك أنّ كلّ عقد مشتمل على مثل هذه الولاية وهي الوكالة تبطل بما يبطل بمثل ما ذكر ، بل وإن كان لازما ، كأن كان مشروطا في عقد لازم ، فإنّ الوكالة المشروطة في البيع تبطل بالموت والجنون والإغماء من كلّ منهما ، فالمناط في البطلان بالامور المذكورة بعروضها في العقود الإذنيّة مطلقا ، لا مطلق العقود الجائزة ، فإنّ الهبة جائزة ، وكذا القرض ، ولا تبطل بها.

نعم ؛ لو عرض مانع من التصرّف في مدّة ، سواء كان في المتعلّق كحيض المرأة الموكّلة في طلاقها ، أو في الوكيل أو الموكّل ، كأن صار الموكّل محرما ، أو الوكيل ، بعد ما وكّله في عقد نكاح أو شراء صيد.


وأمّا كون الإحرام في حال الوكالة مانعا من تحقّق الوكالة ، فلعلّه من جهة حرمة الاستمتاع بالنساء لكلّ وجه حتّى الشهادة عليه ، ولعدم قابليّة المحرم للتملّك للصيد ، فتأمّل!

ثمّ اعلم! أنّ الإذن والاستنابة حيث أفادت الولاية تكون عقدا يفتقر إلى إيجاب وقبول قوليّ أو فعليّ ، وأمّا مسألة لزوم الإيصاء حيث لم يعلم الوصيّ إلّا بعد الموت ، أو ردّ ولمّا يبلغ الردّ ، وكذا عدم انعزال الوكيل بعزل الموكّل فأمر ثابت بالدليل القطعي الاعتبار ، مثل النصوص (١) والإجماعات.

وأمّا القسم الثالث من الإذن ، فهو إيقاع لو كان بلفظ الأمر ، مثل بع ، واشتر ، أو افعل ، ولذا يجب على العبد القبول ، وكذا يجب الحجّ بالبذل لا الهبة.

وأمّا البيع في الوكالة بمجرّد الأمر أو الإيجاب ـ بعد الغضّ عن عدم كون مثله إيجاب وكالة ، كما صرّح به في «التذكرة» (٢) ، بل مجرّد إذن ، وتسليم كونه إيجاب وكالة ـ فلأنّه وكذا كلّ عقد يحصل ، ممّا يجوز في إيقاعه بمجرّد الرضا من المالك ولو بشاهد الحال.

وأمّا تحقّق الانتقال ، فلمّا كان موقوفا على رضا المالك وإنشائه أو من هو وليّ عنه ، منه أو من الشارع فهنا إنشاء الوكيل ؛ فوكالته وولايته حين البيع ولو بنفس البيع ، فلا يقال : إنّ الوكالة والاستنابة عقد ، فما لم تتحقّق لم يتحقّق ، إلّا أن يقال : إنّه يصير بإرادة البيع ـ مثلا ـ وكيلا ويجري العقد ، نظير بيع الواهب ووطء المطلّق ، أو قبلته زوجته المطلّقة رجعيّا ، ولذا كلّ تصرّف موقوف على الإذن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٦٢ الباب ٢ من كتاب الوكالة.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٤ ط. ق.


يكفي الإذن هناك إيقاعا.

كلّ ذا بالنسبة إلى الموت والجنون والإغماء ، وكذا عدم البلوغ الّذي يرجع إلى عدم المقتضي للعقد لسلب العبارة من متّصفيهم ، ولا يختصّ بالوكالة بل في جميع العقود والإيقاعات من العبادات والمعاملات.

وأمّا غيرها ممّا يرجع إلى وجود المانع كالسفه والفلس والإحرام والمرض والرقّ ووجود المانع في متعلّق الوكالة كالحيض والخمريّة في الموكّل وعدم المالكيّة لما يوكّل فيه فيهما ـ أي في الموكّل والوكيل ـ فوجودها على ما ذكر في حال العقد ، مع وجودها زمان التصرّف.

وأمّا إن علّق التصرّف بزمان يرفع المانع في ذلك الزمان ؛ فإن ثبت من دليل كون المانع مانعا ارتفاع المالكيّة والتأهليّة به ، فمن هو فيه لم تصحّ الوكالة كالإحرام ، فإنّ النساء حرام عليه بكلّ استمتاع ، وهو غير قابل لملك الصيد ، فليس المحرم مالكا لها وللصيد ، فليس لها التوكيل والتوكّل ، لما عرفت من معنى الوكالة من كونه إثبات ولاية لغيره في أمر للموكّل الولاية فيه بنفسه ولغيره ، وللوكيل التولّي فيه بنفسه ولو لغيره ، والإحرام مانع من الولاية ، وإن لم يثبت ذلك كسائر الموانع.

ولعلّ الرقّ من قبيل الإحرام ، كما هو الأقوى ، فتصحّ الوكالة ، بل ولو كان مانعا في الموكّل دون الوكيل كما لو وكّل الجنب أو الكافر غيره الطاهر أو المسلم في إيقاع عقد في المسجد ، وأمّا عروض الموانع في الأثناء ـ أي بعد الوكالة الواقعة صحيحة ـ فالظاهر عدم الفرق بين الموانع في عدم بطلانها إلى أن يزول المانع حتّى الإحرام حتّى في زمان الإحرام إذا كان الموكّل مالكا له ، كالنائي عن


بلد الصيد ، فإنّ وكالة وكيله في بلده لا تبطل بإحرامه.

وأمّا وجود المحرّمات فبالنسبة إلى الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي المسبّب عن حصول سبب في المباشر يوجب ذلك الحكم ـ كالإثم والضمان ـ فغير قابلة للوكالة.

وأمّا لو كان لأحدهما بالنسبة إلى الموكّل أثر ، كما لو وكّل الناذر لعدم بيعه عبده ـ مثلا ـ غيره في بيعه ، فإنّ الإثم والحنث يحصل بالنسبة إلى الموكّل ، لكن هذا المثال غير صالح للنقض ، كما قيل ، لتعلّق حقّ الله بالعبد الموجب لبطلان البيع (١).

والمسألة غير مستحضرة عندي ، فليفرض فيما كان كذلك ، وهو ما إذا حلف على نفي البيع وقصد النقل والانتقال لا المعنى العرفي وهو العقد ، وكما لو وكّل الراهن أو الواهب في إقباض المشاع ، فإنّ الإثم وإن اختصّ بالمباشر لكن صحّة العقد ولزومه بالنسبة إلى الموكّل أثر شرعي للإقباض على القول بكفاية قبض الشريك الراهن بغير إذن شريكه في الحكم الوضعي.

وأمّا الفرق بين ما لو قال : وكّلتك في طلاق امرأة سأنكحها ، وبين ما لو قال : وكّلتك في تزويج امرأة وطلاقها ، أو شراء عبد وعتقه ، فلأنّ العقود المترتّبة في كلّ عقد لو جازت لوجب أن لا يشرط في العقود المترتّبة بالشرط في الاستقلاليّة ، ومنها العقود المترتّبة عليها عقود اخر ، وإلّا فلا معنى لتشريع مثل تلك العقود.

مثلا إذا صحّ الوقف المؤبّد على أشخاص بالدليل المستلزم لكون بعض

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٧ / ٥٢٩ و ٥٣٠.


الموقوف عليهم في بعض الطبقات غير موجودين حال العقد ، اقتضى ذلك الدليل سقوط اشتراط الوجود في الموقوف عليهم لو كان أصلا في الموقوف عليهم تبعا وكذا القبول والقبض ، وكذا إذا اقتضى الدليل صحّة البيع ورهن المبيع بعقد واحد ، كقوله : بعتك الدار وأرهنتكها فلا بدّ من الاكتفاء بتقدّم ملك المرتهن للرهن بحسب الذات وإن كان مقارنا للرهن زمانا ، فافهم!

وكذا الوكالة المترتّبة ، وإن كانت معلّقة بل غير مملوك للوكيل متعلّق الوكالة ، فعلى هذا لو وكّل في أمر يصحّ فيه الوكالة ووكّل في امور اخر مترتّبة عليه ، وإن لم يكن له ذلك لو كانت الامور غير مترتّبة.

فهذا هو الفرق في الوقف بين الوقف على المعدوم ابتداءً والوصيّة وبينها عليه تبعا ، وفي الوكالة بين التوكيل في طلاق امرأة سينكحها والتوكيل في التزويج والطلاق أو الشراء والعتق.

ما تصحّ الوكالة فيه

قالوا : وكلّ أمر لا يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر معيّن تصحّ الوكالة فيه (١).

أقول : كلّ أمر يقع في الخارج ، إمّا فعل من أفعال الجوارح ، وإمّا إنشاء ونيّة ، فإن كان فعلا ؛ فإمّا أن يكون الأثر المترتّب عليه شرعا أو عرفا مترتّبا على فاعله من حيث صدوره منه ، بحيث لا يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه ، فذلك لا تصحّ الوكالة فيه ، وذلك واضح وجهه.

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٧ / ٥٢٧.


وإمّا أن يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه ، فهذا تصحّ فيه الوكالة ، وكذا النيّة والإنشاء ، منها ما يترتّب عليه الأثر المترتّب عليه من حيث صدورها من المنشئ والناوي ، ومنها ما يترتّب على المنتسب إليه الإنشاء والنيّة.

فالطهارة فعل يرتّب الأثر الشرعي ، وهو استباحة الصلاة أو الطهارة من القذارة على الصادر منه هذه ، لا المنتسب إليه.

وكذا الصلاة الواجبة حال الحياة ، فإنّ الأثر الّذي يترتّب عليها وهو التذلّل والانقياد وحصول الكمال والتقرّب إنّما هو على الصادرة منه ، يعني أنّ مباشرة الصلاة يوجب التذلّل والكمال.

وكذا الصلاة المندوبة ، كصلاة الليل ـ مثلا ـ فالتقرّب لازم لفعله بنفسه ، بخلاف الزكاة مطلقا ، فإنّ الغرض منها ارتفاع شحّ النفس وارتفاق الفقراء والمستحقّين لها ، فيحصل هذان الأثران بمجرّد حصول الفعل ، وهو التزكية ولو من الغير ، لحصول الارتفاق وارتفاع الشحّ من المالك ، ولو أخرج زكاته غيره.

وأمّا النيّة وقصد التقرّب ، فحيث إنّ التقرّب أثر يترتّب على المنتسب إليه التزكية وهو المالك ، فيجزي قصد الوكيل تقرّبه حين دفعه إلى مستحقّه.

ومن ذلك ؛ الوقف والعتق ، فيجزي قصد الوكيل تقرّب الواقف والمعتق.

نعم ؛ لو لم يكن مأذونا منه ، بل واليا عليه من قبل الشارع ، كمن وقع مال غيره في يده غير مزكّى وهو ممتنع فزكّى منه ما يجب على المالك ، فيترتّب على قصده بها تقرّب المالك تقرّبه إلى الله تعالى أيضا.

ومن هذا القبيل الجهاد ، حيث جازت الاستنابة فيه ، فإنّ الغرض من تكليفه على العباد إقامة الإسلام وإظهار شعائره ، فيحصل هذا الغرض من


المباشر وإقامة غيره مقامه وينوي في ذلك تقرّب المنوب عنه كالزكاة ، لكن يشترط أن لا يكون واجبا على النائب ولو كفائيّا ، وإلّا لم يجز التوكيل فيه.

وقيل : إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا القبيل لو لم يكن واجبا على النائب ، لكنّه محلّ نظر ، لأنّ هذا التوكيل نوع من الأمر بالمعروف لا استنابة فيه ، فتدبّر!

وأمّا الحجّ الواجب ، فالمقصود والأثر المترتّب عليه هو إنفاق المال في هذه الجهة وإذلال النفس والانقياد بإتيان الواجب بنفسه ، فلا تجزي الاستنابة ؛ لعدم حصول الغرض بتمامه فيها ، وقصد القربة من النائب ، بعد ما كان التقرّب غير حاصل إلّا من المباشر ، غير مفيد له.

نعم ؛ لو عجز بنفسه سقط الغرض الأخير ، فيحصل التقرّب ولو بفعل غيره ، ويترتّب عليه الغرض الأوّل ، فينوي النائب القربة في حجّه ويترتّب عليه تقرّب المنوب عنه عكس الزكاة ، إذ التقرّب بهذه الأفعال تابعة لصدورها أوّلا وإلى السبب المنتسبة إليه هذه الأفعال ويشير إلى هذا ما ورد من أنّ للنائب تسعة أعشار أجر الحجّ وثوابه ، وللمنوب عنه والسبب أجر (١).

وأمّا الحجّ المندوب ، فلمّا كان أصل الحجّ هو زيارة بيت الله جاز التوكيل فيه كسائر الزيارات المستحبّة ، والسرّ في ذلك أنّ الزيارة مركّبة من امور : طيّ الطريق ، وإبلاغ السلام ، والإهداء.

فأمّا طيّ الطريق ؛ فحيث إنّ الغرض منه التوصّل إلى الأمرين الأخيرين كان مقتضى الأصل جواز الاستنابة فيه ، إلّا أن تكون أصل الزيارة واجبا ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١١ / ١٦٥ الحديث ١٤٥٣٧.


فيلاحظ فيها مباشرة طيّ المسافة لتبادرها من الواجب ، كما في الحجّ الواجب ، لوجود غرض في تعلّق الوجوب بها الموجب لمباشرتها بتمام أجزائها.

وأمّا الغرضان الآخران فممّا يحصل بالنيابة مطلقا ، كما هو معمول الآن في تفقّد الأكابر من أحوال أمثالهم ، أو ممّن هو دونهم بإرسال خادمهم وتبليغ السلام وسؤال أحوالهم ، فهذا النائب للزيارة يبلّغ سلامه إليه.

وأمّا صلواته المهدى بها فينوي بها لنفسه ويقصد تقرّب نفسه بها لحصول زيارته لنفسه أيضا بنيابته للغير لكنّه يهدي بهذا الفعل المتقرّب به عن المنوب عنه ، ويمكن أن ينوي النائب جميع أفعاله وسلامه لنفسه ويهدي ثواب المجموع إليه أي إلى المنوب عنه.

ويستفاد من الأخبار (١) كلا القسمين في الاستنابة للزيارة لقبور الأئمّة عليهم‌السلام وبيت الله لكن ما ورد من جواز أن يستنيب جماعة شخصا واحدا للحجّ المندوب (٢) منزّل على القسم الثاني ؛ لعدم جواز استنابة شخص إلّا عن واحد ، فتدبّر! فيجوز في الحجّ المندوب الاستنابة فينوي في جميع الأفعال تقرّب نفسه ويترتّب عليه تقرّب المنوب عنه ، فيستأجره لأن يفعل هذه الأفعال لنفسه متقرّبا بها إلى الله بتقرّب هذا الشخص إليه ، أو ليفعلها ويفوّض ثوابها إليه.

وأمّا في الواجب لمّا كان التذلّل مسبّبا عن مباشرة طيّ الطريق وإتيان الأفعال بنفسها لم يجز التوكيل فيه ، وكذا لو نذر الزيارة ـ مثلا ـ اشترطت المباشرة قطعا ، إلّا أن يكون متعلّق النذر أعمّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٤٢ الباب ٤٢ من أبواب المزار وما يناسبه.

(٢) وسائل الشيعة : ١١ / ٢٠٢ الباب ٢٨ من أبواب النيابة في الحجّ.


وممّا ذكرنا في صلاة الإهداء اتّضح جواز الصلاة المندوبة بقصد الثواب الدنيوي كتوسعة الرزق وصلاة الحاجة ، فإنّ هذا الأمر إنّما هو على الفعل المتقرّب به ، لا على المطلق ، فهو ينوي ترتّب الأثر الدنيوي ويطلبه من الله بهذا الفعل الّذي يتقرّب به ، وكذا مثل الجنّة والنار اللتين ادّعى الشهيد الأوّل في قواعده ـ على ما قيل ـ (١) الإجماع على بطلان العبادة بجعلهما غاية لها ، فإنّ قصدهما ـ على ما قلنا ـ غير مضرّ إجماعا ، ومراده قدس‌سره قصدهما على وجه يجعلهما غاية للعبادة بلا توسّط القربة ، بأن يصلّي للجنّة لا لله ، ويقصد بهذه الصلاة المتقرّب بها الجنّة أو الخلاص من النار ، فافهم!

وأمّا الحجّ الواجب عن الميّت وكذا الصلاة الواجبة بعد الحياة ؛ فالاستيجار والتوكيل غير مناف لقصد قربة الفاعل ، فإنّ الفعل بعد ما كان مشروعا مطلوبا للشارع وهو إتيان واجب الغير بعد حياته ، ورتّب الشارع عليه الأثر الّذي كان يترتّب على المفعول له لو كان فاعلا على فعل هذا النائب وهو البراءة جاز أخذ الاجرة على هذا الفعل.

فكما أنّه قبل الاستيجار لو ينوي بفعله له تقرّبه وتقرّب غيره مترتّبا وكان يبرئ ذمّته لو كان واجبا عليه ، فكذا يجوز أخذ الاجرة عليه ، كما أنّ متعلّق النذر قبل النذر لا بدّ أن يكون مطلوبا ومشروعا وبه يصير واجبا ، فكلّ قيد كان فيه قبله فهو باق بعده حتّى الوجوب والندب.

وهل يجب في نذر الواجب والمندوب حين فعلهما أن ينوي وجوبهما النذري غير الوجوب أو الندب الأصلي؟ قولان ، ولعلّ الاكتفاء بالفعل لو كان

__________________

(١) الأربعون للشيخ البهائي : ٢٢٥ و ٢٢٦.


غافلا حينه أقوى ، أمّا لو كان ملتفتا به حينه فغير شرط جزما.

فالحاصل ؛ أنّ الأجرة على هذا الفعل المتقرّب به الّذي يأتي به بقصد النيابة وبراءة ذمّة المنوب عنه ، فهذا معنى قولهم : إنّ الاجرة على جعله نفسه نائبا لا على أصل الفعل ، لكن لو كان هذا الفاعل الّذي يجعل نفسه نائبا ممّن يجب عليه ذلك لم يجز أخذ الاجرة عليه كالوليّ ، لكنّه يجوز استيجار غيره.

وأمّا الغرض الّذي كان في الحجّ والصلاة الواجبين حال الحياة ، فقد انتفى بعدها ، حيث إنّ الشارع حكم بوجوبهما على الوليّ عنهما ، ومنفعة هذه الأفعال الّتي واجبة على الوليّ وإن كان غير راجعة إليه حقيقة ، لكنّها راجعة إليه حكما ، لسقوطها عنه بفعله.

وهذا المقدار كاف في تملّك المستأجر للمنفعة ورجوعها إليه ، كما لو استأجر شخص من شخص داره ليسكن المؤجر فيها ، فإنّها بمنزلة العارية من مالك المنفعة ، إلّا أن يشترط فيها ذلك ـ فتأمّل ـ وأمره ببناء دار غيره لا ببناء دار نفسه ، فافهم!

وأمّا الأذان والإقامة والصلاة المندوبة ؛ فلمّا لم يكن أصلها عن الغير مشروعا لم يجز الاستنابة فيها ولو على نحو ما ينوي في الصلاة عن الميّت وزيارة قبور الأئمّة عليهم‌السلام ، فلا تغفل! فإنّ ضابطة الاستنابة ما كان للمنوب عنه التولّي بنفسه وبغيره ، وللنائب أن يتولّاه عن غيره ، ولم يثبت ولم يدلّ دليل على ذلك في ما نحن فيه ، كما في الواجبات بعد حياة المنوب عنه.

فروع

من العبادات ما يثبت من الشرع الإتيان بها وإهداء ثوابها إلى الغير ، ومن


ذلك تلاوة كلام الله المجيد والحجّ المندوب على أحد الوجهين ، ولا يجوز في مثل التلاوة النيابة ، لعدم قيام دليل على مشروعيّته وجواز التولّي في القراءة.

وأمّا صلاة ليلة الدفن وإن كان المكلّف بها جميع المسلمين سوى الوليّ ، لكن حيث شرّع ذلك بقصد الإهداء لا بقصد النيابة عن الوليّ ـ فافهم ـ جاز أخذ الاجرة من الوليّ لهذا الفعل المتقرّب به على نحو ما حقّقناه في صلاة الاستيجار.

وأمّا النذر فغير قابل للنيابة ، إذ الأثر وقصد القربة مترتّب على الفعل من حيث صدوره ، لا من حيث الانتساب كما في المعاملات ، فإنّ حقيقة البيع ـ مثلا ـ إدخال المبيع في ملك الغير بإزاء الثمن ، وهذا لا يشترط فيه صدور الإيجاب من المالك ، بل يكفي إنشاء الوكيل ولو لم يقصد النيابة ، بخلاف النذر ، فإنّه لا يمكن أن يقصد الوكيل تقرّب الموكّل بهذا اللفظ الّذي صدر منه ويحصل به تقرّب اللافظ.

وأمّا الظهار فلمّا كان معصية ـ وقد مرّ عدم جواز التوكيل في المعاصي ـ لكنّه حيث يكون هذا الفعل من الوكيل أيضا معصية ، وليس كذلك الظهار.

وأمّا حرمة الطلاق للحائض من الوكيل ، القول بوقوعه وإن أثم المطلّق ـ كما هو مذهب العامّة (١) ـ فلإيجاده هذا الفعل المحرّم وإعانته على الإثم.

وأمّا الظهار ؛ فلمّا لم يصحّ التوكيل فيه ولم يترتّب عليه أثره بالنسبة إلى الزوج لم يكن هذا الفعل من الوكيل محرّما ، فتأمّل!

ولكنّ التحقيق أنّه لو لا الإجماع على عدم جواز التوكيل فيه لأمكن المناقشة فيه ، والمناقضة بمثل طلاق الحائض على مذاهب العامّة حيث يقولون

__________________

(١) الأم : ٥ / ١٨١ ، المغني لابن قدامة : ٨ / ٢٣٧ و ٢٣٨ ، الشرح الكبير : ٨ / ٢٥٣ و ٢٥٤.


بانعقاده مع كونه محرّما (١).

فمقتضى ذلك تأثير التوكيل هنا وإن كان محرّما بالنسبة إلى الموكّل بل هنا أولى ، لما ذكرنا من عدم المعصية بالنسبة إلى الوكيل بخلافه هناك ، إلّا أن يقال : إنّ الحكم الوضعيّ للظهار تابع لحرمته ، بمعنى أنّ الظهار المحرّم موجب للفراق ووجوب الكفّارة ، وليس الظهار الواقع من الوكيل محرّما.

وهذا أيضا ضعيف ، لكونه بالنسبة إلى الموكّل محرّما لو جاز التوكيل فيه ، ووجوب الكفّارة لازم له لا للوكيل.

فالعمدة هو الإجماع في المسألة.

وبالجملة ؛ المسألة محتاجة إلى التأمّل وليس مجال لنا الآن.

وأمّا اللعان ؛ فمبنيّ على أنّه شهادة أم يمين ، فينبغي التكلّم أوّلا في الشهادة ، فنقول : إنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على نفسه ، فهو إقرار ، وإن كان عن حقّ له على غيره ، فهو ادّعاء ، وإن كان عن حقّ الغير على الغير ، فهو شهادة ، ولا يمكن التوكيل في الإخبار ، لأنّ كاشفيّة الخبر عن الواقع أمر قائم بصدور الخبر ، فالتوكيل في الإخبار غير مفيد ، لعدم حصول الكشف في إخبار الوكيل.

نعم ؛ إخباره يكشف عن أنّ المخبر قد أخبر بذلك ، لأنّ المخبر به للوكيل هو إخبار الموكّل.

وأمّا شهادة الفرع ، فهي من هذا القسم ، ولكن لمّا كان حضور الشاهد عند الحاكم شرطا لم يجز التوكيل إلّا عند الضرورة ، فتدبّر! حتّى يتّضح أن ليس ذلك توكيلا ، لأنّ الشهادة نوع من الإخبار ، ولا يصحّ التوكيل فيه حسب ما مرّ.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٦٤.


وأمّا التوكيل في الدعاوى ؛ فهو توكيل في الخصومة والترافع وإقامة الشهود وجرحهم ، وهذه امور يكون له التولّي بنفسه وبغيره ، لأنّ هذه ولاية فله إرجاعها إلى غيره ، بخلاف أصل تحرير الدعوى فقط ، إلّا أن يكون من باب المقدّمة ، فيصحّ التوكيل فيه تبعا للامور المذكورة.

فلو وكلّه فيه لا فيها بطلت قطعا ، لأنّه إن حرّر الدعوى من قبل نفسه ، بأن يقول : فلان يدّعي عليك كذا ، فهذه الدعوى غير مسموعة ، لعدم الخصومة معه.

وإن قال : أنا وكيل في هذه الدعوى فقد عرفت بطلانه ، لعدم ولاية للمخبر في الإخبار حتّى يفوّضها إلى غيره ، وأمّا الإقرار فكذلك غير قابل لها إجماعا ، وإنّما النزاع في أنّ التوكيل فيه إقرار أم لا؟

ولعلّه من باب الإقرار المعلّق ، كأن يقول : إن جاء رأس الشهر فله عليّ كذا.

فنقول : إنّه إذا قال : اذهب وأقرّ عنّي لفلان ، معناه : إنّه إذا أقرّ الوكيل بكذا ، فله عليّ كذا ، فافهم.

فلعلّ هذا مراد الشيخ رحمه‌الله حيث حكم بأنّ التوكيل فيه إقرار (١) ، قال العلّامة في «القواعد» : وفي التوكيل على الإقرار إشكال ، فإن أبطلناه ففي جعله مقرّا بنفس التوكيل نظر (٢) ، انتهى.

والحاصل ؛ إنّ التوكيل غير معقول في الإخبارات ، بل مختصّ بالإنشاءات ، إذ لا ولاية للموكّل في الإخبارات حتّى يوكّلها ويفوّضها إلى غيره ،

__________________

(١) المبسوط : ٣ / ٣٢.

(٢) قواعد الأحكام : ١ / ٢٥٤.


لأنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على غيره وهي الشهادة ، فإخبار الشهادة فيه قد اخذ على وجه الموضوعيّة للحكم وحضور الشاهد جزء الموضوع ، فلا يمكن التوكيل فيها.

أمّا شهادة الفرع فعلى ثلاثة أقسام :

أعلاها : الاستدعاء (١) ، وهو أن يقول : اشهد عنّي عند الحاكم بكذا.

وثانيها : أن يسمع شهادته عند الحاكم فينقلها عند غيره.

وثالثها : أن يكون التقاول والشهادة بين الشاهد والسامع.

وهذان القسمان وإن كانا أخفض من الأوّل ، لكنّهما معتبران إلّا القسم الأخير ، إذ لم يشتمل على ذكر السبب ، مثل أن يقول عن ثمن ثوب أو عقار ، وكذا القسم الأوّل لكن إن كان مقام الاضطرار ، فليس من باب التوكيل ، لأنّ حجّية الإخبار من جهة كاشفيّة الخبر عن الواقع ، وهذه الصفة غير قائمة بخبر الوكيل.

نعم ، يكشف خبره عن خبره الكاشف عن الواقع ، وليس هذا توكيلا في شي‌ء ، وإن كان عن حقّ لازم على نفسه للغير وهو الإقرار ، فهو وإن كان إنشاء في وجه لكن حجّيته باعتبار كاشفيّته عن الواقع ، فلا يمكن التوكيل فيه.

وأمّا شاهد الإقرار ؛ فهو كاشف بنفسه عن إقراره لا عن الواقع ، فتدبّر!

والحاصل ؛ أنّ إخبار الوكيل بإقرار الموكّل إمّا إخبار عن حقّ الغير على الغير ، وإمّا إخبار عن حقّ لازم للغير على المخبر ، والأوّل شهادة ، وبطلان الثاني بيّن ، وبطلان اجتماعهما أبين.

__________________

(١) لا لتماس الشاهد الأصل رعاية شهادته والشهادة بها «منه رحمه‌الله».


فلو قال : اشهد عنّي أنّ لفلان عليّ كذا ، لا يدلّ على الإقرار ، لأنّ التوكيل إنشاء وهو إخبار حقيقة إلّا أن يقال بدلالته عليه التزاما ، حيث إنّه يضمّ الإخبار فيكون إقرارا.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلّامة المتقدّم ذكره بعد ما ذكر وجهي الإشكال : وفيه نظر ، أي في دليل كونه إقرارا بما أشرنا إليه أخيرا من أنّ التوكيل يتضمّن الإخبار.

قال : لأنّ ما تضمّنه التوكيل هو صورة الإخبار ، وليس إخبارا حقيقة ، للعلم بأنّ قوله : لزيد عندي كذا ، في قوله : وكّلتك بأن تقرّ عنّي بأنّ لزيد عندي كذا ، لم يأت به للإخبار ، بل لبيان اللفظ الّذي يخبر به ، فهو في الحقيقة من تتمّة بيان الموكّل فيه ، والأصحّ أنّه لا يكون إقرارا (١) ، انتهى.

قد سبق أنّه يحتمل أن يكون هذا من باب الإقرار المعلّق ، وسيجي‌ء ما يدلّ عليه وإن كان في إطلاقه نظر ، وإن كان الإخبار ادّعاء فقد ظهر وجهه ـ أي وجه عدم التوكيل فيه ـ ممّا ذكر في الإقرار والشهادة ، بل في مطلق الإخبار (٢).

__________________

(١) جامع المقاصد : ٨ / ٢٢٠.

(٢) قال في محكي «الخلاف» يصحّ إقراره ويلزم الموكّل بالمقرّ به إذا كان معلوما ، وبتفسيره إن كان مجهولا ، لعدم المانع منه والأصل جوازه.

مضافا إلى عموم «المؤمنون عند شروطهم» (الخلاف : ٣ / ٣٤٤ المسألة ٥) ، وهذا شرط أنّه يلزم ما يقرّبه الوكيل.

أقول : الظاهر أنّ مراده من الأصل هو الصحّة والجواز المستفاد من عمومات الوكالة ، فمعارضته بأصالة البراءة ـ كما قيل ـ في غير محلّه ، لما حقّق في محلّه من ورود الأدلّة الاجتهاديّة على الفقاهتيّة ، لأنّها دليل حيث لا دليل ، إذ موضوعها ـ وهو المشكوك ـ يرتفع بها. ـ


__________________

ـ وقول السيّد صاحب «الرياض» : إنّ في هذا الأصل نظرا ، لعدم الدليل عليه (رياض المسائل : ٦ / ٦٤) لعلّه من جهة أنّه فهم منه أصل الجواز الغير المستفاد من العمومات.

وأنت خبير بأنّ الحكم التكليفي الّذي يستنبط منه الحكم الوضعي كإباحة التصرّف وحلّيته وتسلّط الناس على أموالهم إنّما هو في الحكم المستفاد من دليل اجتهاديّ ، لا من دليل فقاهتي ، فتدبّر!

فلا ينبغي للشيخ البناء في الصحّة على مثل هذا الأصل الفقاهتي الّذي فهمه هذا السيّد السند مع ظهور قوله ولا مانع من إرادة المقتضي من الأصل ، وإن كان استدلال الشيخ محلّ نظر ، وبيانه موقوف على مقدّمة ، وهي : المخصّص المجمل ، إمّا مجمل من حيث المصداق ، وإمّا من حيث المفهوم.

ففي الأوّل ؛ قيل : يتمسّك بالعموم ، كما هو منقول بناء القدماء ، إذ لا يرفع اليد من العموم إلّا بمخصّص متيقّن ، فكأنّه قال مثلا : أكرم العلماء إلّا زيدا المعلوم ، أو كقولك : أكرم العلماء لا تكرم الفسّاق ، فشكّ في أنّ زيدا ـ مثلا ـ فاسق أم غير فاسق؟ فالمشكوك أنّه زيد أو لا ، غير مخرج عن العموم ، بل الأصل عدم كونه زيدا.

والّذي بنى عليه المحقّقون من المتأخّرين هو الوقف ، لأنّ الكبرى لا يثبت الصغرى ـ فتأمّل ـ ولأنّ مرجع هذا التخصيص إلى تنويع العامّ ، فكأنّه قال : لا تكرم زيدا العالم ، وأكرم العلماء غير زيد ، فأصالة عدم كونه زيدا معارض بعدم كونه غير زيد ، لكونهما أمرين وجوديّين.

وأمّا المشكوك بالمخصّص المجمل المفهومي فالتحقيق فيه ـ كما عليه أهله ـ هو الأخذ في التخصيص ، والعمل بالعموم بالمتيقّن ، والوقف في المشكوك ، لأنّ إجمال المخصّص يوجب الإجمال في العامّ ، فلا مجال للتمسّك به ، فافهم ، وتمام الكلام في محلّه.

فإذا تمهّدت هذه فنقول : مع أنّه لا عموم ولا إطلاق في باب الوكالة ، بل مشروعيّتها تثبت من موارد خاصّة ورد من الشارع إمضاؤها فعلا أو قولا أو تقريرا لو سلّمنا العموم ، ولو من عموم الحكمة في بعض الإطلاقات ـ كما قيل ـ لا شكّ في تخصيصها بما لا يقبل النيابة لترتّب الشارع الغرض والأثر على المباشرة ، فهذا أمر مجمل مفهوما أو مصداقا ، فلا يجوز في ما شكّ أنّه ممّا يقبلها أو ممّا لا يقبلها التمسّك بالعموم.

وهذا نظير أنّه لو شكّ ـ مثلا ـ في أنّ بعض الأشياء مال أم لا؟ فلا يجوز التمسّك لجواز بيعه بعموماته ، لأنّ بالكبرى لا يثبت الصغرى. –


هذا ، وأمّا النذور والأيمان والعهود فهي من العبادات غير قابلة للتوكيل ، وتحقيق المقام يقتضي بيان حقائقها ، فنقول : إنّ النذر هو الالتزام وإلزام أمر على النفس من قبل الله تعالى ، فمعنى «لله عليّ كذا» : أنّه بعد ما أذن الشارع بأدلّة تشريعيّة النذر أن يلتزم عنه تعالى بأمر ، ويلزمه عنه على نفسه ، مثل : أن فوّض تشريع بعض العبادات على الناس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على نفسه ، فإذا أوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا عليهم عنه تعالى فقد فعل هذا بأمره وصار هذا واجبا يكون أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره تعالى.

فكما أنّ أحدا لو فوّض تعيين أمر إلى غيره فعيّن ، يقال : إنّه معيّن ، فكذلك ما شرّعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإذنه تعالى الكلّي كان تشريعا من الله ، فانظر إلى ما يشرّعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول مثلا : من فعل كذا فله أجر كذا ، فهذا إنشاء منه في جعل الحكم وفي جعل الثواب المعيّن ، وليس إخبارا قطعا ، إذ لو لا تشريعه ذلك الحكم لم

__________________

ـ نعم ؛ عند الشكّ في شرطيّة شي‌ء أو مانعيّته يجوز التمسّك بالعموم ، لأنّه شكّ في المخصّص رأسا ، لا عند الشكّ في وجود ركن العقد وعدمه ، فالإقرار مشكوك في قابليّته لها ، فلا يجوز التمسّك بعموماتها ، لأنّ الموضوع غير محرز ، فإجراء الحكم غير مقدور ، فلا أصل يقتضي الجواز ، لا أنّ المانع محتمل حتّى يدفعه عموم المقتضي.

وأمّا التمسّك بالشرط ؛ فالشرط هو الالتزام في عقد لازم كالبيع ونحوه لو اريد ظاهر هذا الكلام ، وهو الأخذ بالوجوب ، لعدم وجوب الوفاء بمطلق الشرط إلّا ما ذكرنا.

ولو قيل : إنّه العهد والالتزام لوجب حمل الخبر (الاستبصار : ٣ / ٢٣٢ الحديث ٨٣٥) على مطلق الرجحان ، أو طرحه ؛ للإجماع على عدم بقائه على عمومه بخروج أكثر أفراده الموهن للتمسّك به ، مع بناء العلماء على التمسّك به للوجوب ، فنحو هذا الشرط غير لازم الوفاء قطعا ، لعدم كونه مشروطا في ضمن عقد لازم ، ولا يلزم من استحباب الوفاء التزامه بذلك ، وعدم وجود الإجماع على الوجوب في المقام الموجب لتخصّصه لو لم يحمل على الوجوب بالوجه الّذي ذكرنا من حمل الشرط على المعنى المذكور ، وهو الالتزام في ضمن عقد لازم كالبيع ونحوه «منه رحمه‌الله».


يكن الثواب مترتّبا على فاعله.

وهذان الإنشاء ان بعد إذنه تعالى له في التشريع ، فكأنّه قال : اجعل عنّي كلّ حكم تريد وتراه صلاحا ، واجعل ثوابا تراه عليه ، فما جعله هو ما جعله الله تعالى ، فهذا الناذر قد أذن الله تعالى أن يجعل ، ويوجب عنه عليه أمرا لكن لا مطلقا بل ما لم يكن محرّما وكان مأذونا عنّي مع قطع النظر عن التزامك به ، فهذا يقول : قد أوجبت عن الله على نفسي كذا ، المستفاد هذا من قوله : لله عليّ كذا ، كما يقال : لك عليّ أن أفعل كذا.

فكما أنّه لو أمرك شخص بأن تفعل كذا بكذا فقلت : لك عليّ أن أفعل كذا بكذا ، يصير هذا التزاما منك عنه ، لكنّه بالأخرة التزام منه عليك ، فكذلك ما نحن فيه بعد تشريع أن يلتزم الإنسان أمرا راجحا على نفسه يكون ذلك الأمر الملتزم ملتزما من الله تعالى ، غاية الأمر بلسانه واختياره ، حيث إنّ معنى قوله : لله ، هو امتثال أوامر تشريع النذر ، فلا احتياج إلى قصد القربة ، إذ دليل اشتراطها لم يدلّ إلّا على كون الفعل لله تعالى غير محتاج إلى اللفظ بالتقرّب أو إخطار هذا المعنى ، بل المحتاج إليه في حصولها هو إتيان الأمر في الخاطر حين الفعل وقصده امتثاله.

وهذا أمر حاصل بقوله : لله ، كما يقول : أصلّي صلاة الصبح لأنّ الشارع أمرني بها ، ولهذا لم يذكر جماعة في النذر اشتراطها غاية ، كالشهيد الأوّل في «اللمعة» (١) مع كونها شرطا فيه في الجملة إجماعا ، واستقر بهما الشهيدان في «الدروس» و «الروضة» (٢) ، لكنّه قد يقال : بأنّ قوله : لله ، لبيان أن الالتزام من قبل

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ٩٧.

(٢) الدروس الشرعيّة : ٢ / ١٥٠ و ١٥٤ ، الروضة البهيّة : ٣ / ٣٦.


الله وبإذنه ، وأمّا أنّ هذا الالتزام للتقرّب إليه تعالى أو لغيره فأمر آخر لا بدّ منه.

فلو نوى في صلاته الصبح ـ مثلا ـ كونه مأمورا به غير ناو بفعله التقرّب ، لم تكن صحيحة.

أقول : إنّما الكلام في انفكاك حصول التقرّب عن قصد الامتثال للأمر وإتيان الفعل بعنوان أنّه مأمور به ، قال الله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ولم يقل إلّا ليقصدوا التقرّب والإخلاص في الأوامر.

نعم ؛ حصول الإخلاص متوقّف على إتيان المأمور به بعنوان أنّه مأمور به.

وبالجملة ؛ المسألة غير خالية عن الإشكال ولم يحصل الترجيح لنا الآن فلا بدّ من ملاحظة الاحتياط حين النذر وبعده ، فتأمّل!

فحيث قد حقّق كون النذر عبادة ومأمورا به فقد يناقش فيه ، بناء على كونه مكروها مع عدم اجتماع الكراهة مع العبادة ؛ لكونها راجحة في ذاتها ، ومعنى الكراهة هو المرجوحيّة في حدّ ذاتها ، والكراهة في بعض العبادات كالصلاة في الأرض السبخة ـ مثلا ـ معناها المرجوحيّة بالنسبة المعبّر عنها بالأقليّة ثوابا ، فالصلاة فيها مرجوحة بالنسبة إليها في غيرها ، عكس الاستحباب في الواجب.

فنقول : إنّ معنى كراهة النذر معناها مرجوحيّة الالتزام وفعل الملتزم به بالنسبة إلى عدم الالتزام ، وفعله بأمره الندبي وأرجحيّة المندوب على الواجب في نظر الشارع غير مستبعد ، كما يومي إلى ذلك ما ورد من أنّ ثواب زيارة قبر

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.


الحسين عليه‌السلام أضعاف ثواب الحجّ والعمرة (١).

وإن قيل في جواب الإشكال الوارد في المقام من أنّ ثواب المندوب كيف يكون أضعاف ثواب الواجب ، مع كون الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة؟ فلو كان مصلحة المندوب أكثر لوجب أن يكون هو الواجب بأنّ المراد من الحجّ ، الحجّ المندوب لا الواجب؟

لكنّ المحقّقين أعرضوا عن هذا الجواب ، وقالوا : إنّ وجود المفسدة في ترك أمر مع وجود مصلحة فيه كافية في الوجوب ، مع كون بعض الأفعال المندوبة غير مشتمل على الفساد في تركها ذا مصالح متعدّدة متكثّرة ، توجب أضعاف ثواب الواجب المترتّب على مصلحة.

وهذا ممّا يشهد به العقل أيضا ، فإنّ إتيان الفعل المأمور به غير إلزامي ، بل غير مأمور به ، لكنّه مرضيّ للآمر ، يدلّ على أطوعيّة المأمور الفاعل للآمر من إتيانه المأمور به الإلزامي ، وقد ورد في الأخبار أنّه تعالى يباهي ملائكته إذا صلّى العبد صلاة الليل ، فيقول : انظروا إلى عبدي مع أنّي ما أوجبت عليه كيف يقوم في هذه الظلمة والبرد ويحرّم على نفسه النوم ويلزمها بالسهر (٢).

وقد ورد فيها وجه ومعنى آخر للكراهة ، وهو مرجوحيّته من جهة تضييقه الأمر على نفسه ، واحتمال أن لا يفعل ويعصي ولم تكن المعصية حاصلة لو لا الالتزام.

وهذا نظير الأوامر بإقامة المعروف وكراهة الالتقاط ونظير الأعمال

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٤٥ الباب ٤٥ من أبواب المزار وما يناسبه.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ١٥١ الحديث ١٠٢٧٧ و ١٥٧ الحديث ١٠٢٩٧ ، نقله بالمضمون.


والصناعات المكروهة ، مع كونها واجبة كفائيّة وتوهّم كونها واجبة توصّليّة فلا منافاة لها مع الكراهة ، لعدم كونها عبادة ، فاسد ، كيف لا؟ وعدم اجتماعها معها من جهة اشتمالها على مصلحة راجحة والكراهة حاصلة من مفسدة راجحة غير ملزمة.

وهاتان الجهتان قد حصلتا من الأمر والنهي والتوصّليّات المكروهة من هذا القبيل ، ومجرّد اشتراط القربة فيها دونها غير فارق ، فتدبّر!

وأمّا العهد ؛ فمعناه الجعل بينه وبينه تعالى ، فكأنّه بعد ما أذنه تعالى في أن يعاهد معه تعالى ، صار وكيلا عنه تعالى ، فيقول : عاهدت وأوجبت له عليّ أن أفعل كذا ، قالوا : ولا يشترط فيه وفي اليمين القربة ولا كون متعلّقهما طاعة.

وممّا يدلّ على كفاية قوله : لله عليّ كذا في النذر وعدم لزوم قصد القربة غاية للفعل ، هذا الّذي ذكروه من اشتراطهم كونه في النذر طاعة ، بخلافه فيهما ، إذ لا يمكن أن يلزم على نفسه عنه شيئا إلّا وكان مرضيّا له وراجحا عنده ، وليس الراجح والمرضيّ عنده إلّا ما يقرّب العبد (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢).

واليمين على أمر مستقبل معناه فقدان الله (٣) لو تخلّف عن المحلوف عليه ، لأنّ معنى القسم في قوله : أقسم بالله أفعل كذا هو الفقدان (٤) ، والمراد منه هنا هو البعد عنه تعالى.

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

(٢) الليل (٩٢) : ١٩ و ٢٠.

(٣) كذا في النسخة.

(٤) كذا في النسخة.


وأمّا اليمين والدعاوى ؛ فهي إخبار لا إنشاء ، لأنّها حلف على أمر ماض.

إذا تحقّق ما ذكر فنقول : إنّ الالتزام والمعاهدة والحلف أمر ربطيّ بينه تعالى وبين الناذر وامتثال للأوامر الإذنيّة والتشريعيّة ، وظاهر الأمر هو المباشرة ، ولذا قلنا : إنّ الأصل في العبادات عدم جواز الاستنابة حتّى يستفاد من الدليل إلغاء جهة المباشرة ، كما أمر الشارع عليه‌السلام الوليّ بإيجاد الحجّ من مال الميّت بالاستيجار وقضاء صلواته الفائتة حتّى أنّا مع أنّه جوّزنا في الحجّ المندوب والزيارات المندوبة الاستئجار ابتداءً ، بخلاف الواجبة بالنذر ، فإنّها تجب فيها المباشرة.

وإن أردت توضيح المطلب فانظر إلى حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المأذون له التشريع في الأحكام هل له أن يوكّل غيره في امتثال أمر الله الّذي مفاده الإذن في التشريع؟ وقصد الوكيل قربة الموكّل غير ممكن لعدم حصول امتثال أوامر النذر منه.

والحاصل ؛ أنّ الإذن والأمر لشخص في فعل ، ظاهر في المباشرة ، ولذا حكموا بعدم جواز التوكيل من الوكيل إلّا بالإذن من الموكّل ، أو قيام القرينة ، لأنّ الإذن نوع ولاية مطلقا وإثبات ولاية خصوصا في غير العبد ولا يثبت إلّا لمن نصّ له بذلك.

التوكيل في المباحات

وأمّا التوكيل في المباحات ؛ فمنها ما هو مباح الأصل.

ومنها ما هو مسبوق بملك الغير كالالتقاط والإحياء.

فالقسم الأوّل قد وقع فيه الخلاف من جهة دلالة أدلّة الإباحة مثل : «من


حاز شيئا فهو له» (١) على اشتراط صدور الحيازة من الشخص أو يكفي الانتساب ، ومن أنّ التملّك بالحيازة مفتقر إلى نيّة التملّك أو عدم نيّة عدمه ، أو كونه ملكا للغير.

لكنّ الّذي يقوّي الإذن في النظر هو جواز التوكيل فيه ، واشتراط نيّة التملّك بالحيازة محلّ تأمّل ، إذ ليس الدليل عليه إلّا الإجماع المتوهّم ، والإجماع مظنون عدمه ، كما في «الجواهر» (٢) ، أو دعوى التبادر من النصوص ولا أقلّ من الشكّ وهي واضحة المنع ، بل قيل : المتبادر خلافه وهو سببيّة الفعل من غير شرط.

نعم ؛ القدر المتيقّن أن لا يكون لاغيا في فعله ، وقوله عليه‌السلام : «من حاز» (٣) مباح الأصل المستظهر منه قصد الحيازة.

وأمّا تملّك المحوز فلا ، وحصول التملّك والملك من غير قصد إليه يفعله بعد كونه من الأسباب المملّكة غير مستبعد ، إلّا أن يقال بأنّ الأسباب الاختياريّة للملك منوط بالقصد بالاستقراء وبالاعتبار ، والثابت من الدليل كون الفعل مقتضيا جزء سبب له ، كما أنّ ألفاظ العقود أو أفعالها كذلك ، إذ الثابت كونها مقتضيات لما ترتّب عليها ، واشتراط القصد هناك ضروري فكذا هنا.

والحاصل ؛ أنّ الدليل على اشتراط نيّة التملّك بالحيازة هنا هو الدليل على اشتراطها في العقود بالألفاظ ، وتوهّم كون الحيازة من الأسباب المملّكة قهرا

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : ٤ / ١٧٤ ، مع اختلاف يسير ، وانظر! جواهر الكلام : ٢٦ / ٢٩١.

(٢) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨١.

(٣) مرّ آنفا.


كالموت في الإرث ضعيف جدّا ، وإلّا لوجب ثبوته مع نيّة عدمه ، مع أنّه ليس كذلك ، كمن حوّل ترابا عن طريق أو حجرا أو نحو ذلك مريدا التمكّن من عبوره أو غير ذلك ممّا لا يريد إدخال المباح تحت اليد ، مع كون مثل هذا اليد موجبا للضمان في موارده.

قال الشيخ في محكيّ «المبسوط» : ولو نزل قوم أرضا من الموات فحفروا بها بئرا ليشربوا منها ويسقوا غنمهم ومواشيهم مدّة مقامهم بها ، ولم يقصدوا التملّك بالإحياء ، فإنّهم لا يملكون بالإحياء ، بل إنّما يملكون بها إذا قصدوا التملّك ، انتهى (١).

وهذا وإن دلّ على أنّ عدم التملّك من جهة عدم قصد التملّك ، لكنّه يدلّ على عدمه مع نيّة عدمه بطريق أولى ، فافهم!

بل دعوى الأولويّة [في] المحيز بما حازه مع عدم القصد بحيث يكون لاغيا في فعله ممنوعة ، كما صرّح به الشهيد في «الروضة» (٢).

نعم ؛ صدر من بعض المحقّقين في المقام كلام لا يخلو من متانة ، فنذكره مزجا بما عندنا من التحقيق ، وأنّه بعد ما يستظهر من الأدلّة مثل قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٣) خرج المملوك للغير المسبوق بالملك ، وظاهر اللام هو التمليك وقوله عليه‌السلام : «الناس شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء» (٤) إنّ المباحات ملك لكافة الناس ، فتكون الحيازة نظير أخذ الفقير

__________________

(١) المبسوط : ٣ / ٢٨١ ، وحكى عنه في مسالك الإفهام : ١٢ / ٤٤٥ ، وفي جواهر الكلام : ٣٨ / ١١٧.

(٢) الروضة البهيّة : ٧ / ١٦٠.

(٣) البقرة (٢) : ٢٩.

(٤) انظر! وسائل الشيعة : ٢٥ / ٤١٧ الباب ٥ من أبواب إحياء الموات.


الزكاة ، فكما أنّها ملك للفقراء ويملكه الآخذ ، بمعنى أنّه يكون أولى بها من غيرها ، ومعنى الأولويّة ثبوت الملكيّة الغير المتزاحمة كما كانت قبله ، ولا يشترط في آخذه قصده ذلك ، أي الأخذ من حيث إنّه مال الزكاة ويقصد التملّك ، بل لا يشترط نيّته أصلا.

نعم ؛ يشترط قصده أو الوكيل إلى أصل الفعل ، فكذلك إثبات اليد على المباحات المملوكة المشتركة بقيد أولويّته بالمعنى المذكور ، لكن بشرط القصد بالحيازة أو إدخال المحوز تحت الحوز والسلطنة العرفيّة على نحو أخذ المستحقّ الزكاة ، حيث إنّه يجب أن يقصد بالأخذ الدخول تحت اليد ، بحيث يتصرّف فيها كيف يشاء فيتبعها الملك الشرعي.

ولعلّ هذا المقدار من القصد مراد القائلين باشتراط النيّة ، كما قيل (١) ، لكنّ الأمر على خلافه كما سمعت من كلام الشيخ وكلام غيره منهم كذلك (٢).

نعم ؛ عبارة «اللمعة» في باب الإحياء : ومن حفر بئرا ملك الماء بوصوله إليه ، ولو قصد الانتفاع والمفارقة فهو أولى به ما دام نازلا عليه (٣).

ومثلها عبارة «القواعد» لكن بزيادة : لا للتملّك (٤) قبل «قصد الانتفاع» ظاهر في ما ذكره ، فتأمّل!

وأمّا قصد تملّكها كما في الملتقط ؛ فممنوع اشتراطه ، ولو سلّم اشتراطه فالوكيل يقصد تملّك موكّله بحيازته ، فنيّة التملّك موجودة ، وخصوصا على ما

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٧ / ٤٠٤.

(٢) مرّ آنفا.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ١٤٧.

(٤) قواعد الأحكام : ١ / ٢٢٢.


سبق من تحقيق كونها للناس كافّة ، وثبوت الأولويّة بالحيازة مع قصد المحيز الإدخال تحت اليد والسلطنة ، وقد قصد هنا دخولها تحت يده الّتي هي يد الموكّل بقصده له.

بل يمكن دعوى السيرة من العلماء وغيرهم بذلك ، حيث يرى أنّهم يأمرون خدّامهم في الأسفار في الأراضي المباحة بحفر البئر وحيازة المباحات لهم ، ولا فرق على ذلك بين ما يثبت بالحيازة أو لسبق الأولويّة بالمعنى المذكور وبين ما يثبت بهما الأولويّة بالمعنى الأعمّ ، كما في غير المملوكات كالمساجد أو المملوكات الّتي لا يوجب السبق الملك كالرباط والمدارس ، فحيث ثبتت الوكالة ثبت جواز الاستيجار ، و [ثبت العقد] الفضولي بعد الإجازة.

وإن توهّم الفرق بين الاستيجار وبينها من جهة أنّها في الاستيجار يكون منفعة المؤجر للمستأجر فيكون يده يده ، بخلاف الوكيل وإن كان بجعل ، فإنّها حينئذ جعالة وهي من العقود التضمينيّة ـ كما حقّق في محلّه ـ لا تمليك المنفعة.

وهذا التوهّم ضعيف بعد الإحاطة بما حقّقنا ، لتوهّم الفرق بينهما وبين الفضولي من جهة أنّ الثابت من جوازه في العقود وبعض الإيقاعات ، لأنّ مقتضى السببيّة ، كما هو شأنها ترتّب مسبّباتها عليها من غير توقّف على شي‌ء إلّا أن يثبت بدليل تعقيب ترتيبها عليها بطريق الكشف الحكمي وهو غير موجود في المقام واللقطة.

وضعف هذا من جهة أنّ الفضولي منطبق على القواعد غير خارج عنها بالإجماع أو بغيره على ما توهّم ، كما عليه أهل التحقيق ، فيكون فعله ويده بعد الإجازة فعل المجيز ويده.


فقد ظهر أنّ في مسألة الحيازة أقوالا أربعة ـ كما قيل (١) ـ : جواز النيابة مطلقا (٢) ، وعدمه كذلك ، والتفصيل ـ وهو مختار المحقّق في «الشرائع» (٣) بين الاستيجار ، فالأوّل ، وغيره ، فالثاني ، وبين الفضولي فالثاني ، وبين غيره فالأوّل.

وأمّا الكلام في الالتقاط والإحياء وهو القسم الثاني ، وإن كان الثاني من القسم الأوّل من وجه ، فالظاهر من بعضهم عدم الجواز ، ولعلّه من جهة استظهار اعتبار المباشرة من أدلّتهما إلّا أنّه قيل بأنّه لا يخفى ما فيه إن لم يكن إجماعيّا (٤).

أقول : في الالتقاط وفي الإحياء أمر زائد على ما ذكر في الحيازة للمنع ، وهو اشتراط النيّة للتملّك ، كما حكى المحقّق الثاني (٥) وذلك للمنع وظهور اعتبار المباشرة ، والأمر هو أنّه في المقام إثبات ولاية من الشارع وراء الإذن وهو مختصّ بذي اليد ، ولذا لو التقط العبد وجب أن يعرّفه بنفسه أو بنائبه ، وليس للمولى تكليف في المقام ، والموات ملك للإمام وقد أذن للناس في إحيائها ، لكن إلحاقها بالحيازة أقوى ، كما أنّ المنع في الالتقاط أقوى ، وإن كان بنحو الاستيجار.

وأمّا الاختيار والرجعة فجواز التوكيل فيهما مبنيّ على أنّ الملحوظ في نظر الشارع هو الجهة الراجعة إلى الشهوات النفسانيّة والاستمتاع أم لا؟ مثل النكاح ، فإنّه وإن كان متضمّنا للاستمتاع إلّا أنّ الملحوظ الأصلي فيه ليس

__________________

(١) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٧ / ٥٥٩ و ٥٦٠.

(٢) وهو ما اخترناه ، وخيرة «الجواهر» وغيره (جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨٠ و ٣٨١ ، جامع المقاصد : ٨ / ٢١٨) «منه رحمه‌الله».

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ١٩٥.

(٤) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨١.

(٥) جامع المقاصد : ٨ / ٢١٨.


منحصرا فيه ، فلو وكّل في الاختيار أو الرجعة بمعنى إيقاع صيغتهما كان هذا اللفظ رجعة واختيارا ؛ لكفاية ما يدلّ عليهما التزاما مع عدم الاحتياج إلى اللفظ.

وإن قيل : أنت مختار في الرجوع واختيار أيّتهما شئت ، كما لو فوّض تعيين المطلّقة المبهمة ـ لو قلنا بجواز الطلاق مع عدم تعيين المطلّقة كالشيخ رحمه‌الله (١) ـ ولو قلنا بعدم جواز الاستنابة فيهما لا يجوزان من الولي أيضا.

إلّا أن يقال ـ بل قيل ـ بأنّ الاختيار فيه يكون منوطا بالمصلحة ، كسقوط النفقة من الغير المختارة فيمكن صدوره من الوليّ بخلاف الرجعة ، بل الأمر والمصلحة فيهما على الخلاف.

ولا يحضرني كلماتهم في المقام الآن.

طلاق الغائب

وقال الشيخ رحمه‌الله : لا يجوز طلاق الغائب ، واستدلّ له بقوله : «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (٢).

أقول : يحتمل هذا الكلام لمعان ثلاث :

الأوّل : أنّ مباشرة الطلاق بيد من أخذ بالساق فلا يجوز من غيره ، وكيلا كان أو وليّا أو فضوليّا ، ولذا حكم الشيخ رحمه‌الله بعدم جواز طلاق الوليّ عن المجنون المطبق ، خلافا للمشهور (٣) ، بل المجمع عليه ، كما عن فخر المحقّقين (٤) ، وإن

__________________

(١) نقله عنه في الحدائق الناضرة : ٢٥ / ١٨١ ، وجواهر الكلام : ٣٢ / ٤٦.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ٥١١ ، الخلاف : ٤ / ٤٢٤ ، عوالي اللآلي : ١ / ٢٣٤ الحديث ١٣٧.

(٣) الخلاف : ٤ / ٤٤٢ المسألة ٢٩.

(٤) إيضاح الفوائد : ٣ / ٢٩٢.


ادّعى الشيخ أيضا في «الخلاف» ـ على ما في الروضة (١) ـ الإجماع على عدم جوازه ، لكنّه موهون بما لا يخفى.

والثاني : أنّ أمره واختياره بيد من أخذ بالساق نظير : «لا بيع إلّا في ملك» (٢) و «لا عتق إلّا [في] ملك» (٣) ، حيث إنّ المراد هناك أنّ أمرهما بيد المالك ، فيخرج الفضولي ويدخل الوكيل والوليّ من باب حكومة أدلّة الولاية والوكالة عليه ، كحكومتهما على أدلّة اشتراط وقوع البيع والعتق من المالك ، وإن قام الدليل على جواز الفضولي بحيث يكون حاكما على هذا الكلام ، ويوجب حمل الأمر والاختيار على اللزوم وترتيب الأثر ، كما ثبت في نظيره وهو البيع ، اتّبع ، وإلّا كما هو المفروض في المقام والعتق فيبطل الفضولي.

وحاصل هذا المعنى أنّ الطلاق وكذا العتق في قوله : «لا عتق إلّا في ملك» لا يصدران إلّا من الزوج والمالك أو من قام مقامهما ، وقد ثبت بأدلّة الولاية وعموم أدلّة الوكالة قيام الوليّ والوكيل مقام المولّى عليه والموكّل ، لكن على هذا المعنى يكون طلاق الوليّ عن المجنون بمقتضى القاعدة وعن الصبيّ خارجا عنه بدليل كالإجماع وبعض الملاحظات في النكاح ، فتأمّل! فيبطل الفضولي.

قيل : عدم القول بالطلاق الفضوليّ ، لكونه إيقاعا كالعتق (٤).

وفيه النقض ببعض أفراد الوقف كالمسجد وما شابهه ، سواء كان تحريرا وهو المتّفق على عدم احتياج الإيجاب فيه إلى القبول ، أو غيره ، كأن كان وقفا

__________________

(١) الروضة البهيّة : ٦ / ١٨.

(٢) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٤٧ الحديث ١٦ ، مع اختلاف يسير.

(٣) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٩٩ الحديث ٤.

(٤) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٢ / ١٦.


عامّا كالمدارس والرباط على المشهور فيه ، بل قيل : مجمع عليه أيضا.

وإن توهّم كون القول في الأوّل هو الأدلّة الآذنة لمثل هذا الوقف ، وفي الثاني مثله وقبول وليّه يقينا ، وهو الإمام.

وضعف هذا التوهم غير محتاج إلى البيان ، بل المناط في جواز الفضولي وعدمه أنّ كلّ عقد لا يدخله الخيار بنحو لا يقع الفضولي فيه ، وكلّ عقد يدخله الخيار ويمكن وقوعه متزلزلا صحّ الفضولي فيه ، لأنّه قيل : الإجازة متزلزلة ، فما لم يقبله كيف يصحّ الفضولي فيه ، فتدبّر!

والثالث : أنّ ولاية الطلاق لمن أخذ بالساق ، فيثبت بهذا الدليل ولاية الآخذ فيه ، فالصبيّ لا يجوز له الطلاق فعلا ، لكون أفعاله ملغاة عند الشارع كأقواله وعباراته ، لكنّه أخذ بالساق ، فولايته فيه غير منافية لعدم نفوذه منه ، كالمفلّس والمريض والراهن ، فافهم!

فطلاق الوكيل صحيح ، وكذا الفضولي بعد الإجازة ؛ لكونه صادرا عن الوليّ الفعلي بتوسّط تفويض الوليّ ولايته فيه إليه سابقا أو لاحقا ، بخلاف الوليّ ، فإنّ طلاقه لم يصدر عمّن هو وليّ فعلا ، وهذا الدليل حاكم على أدلّة الولاية ، كما لا يخفى ، لاعتبار المباشرة أو صدوره عن أمره على هذا المعنى لا عنه أو عمّن هو قائم مقامه ، فتدبّر!

وهذا هو المعروف في معناه ـ كما قيل ـ فليس للمولى طلاق زوجة عبده إلّا ما خرج بالدليل ، فجواز طلاقه عن المجنون لقاعدة لا ضرر (١) أو الإجماع

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : ١ / ٢١١.


المدّعى والمنقول في كلام جماعة (١).

واعلم! أنّه لو أتى الموكّل في كلامه [شيئا] من حيث المتعلّق أو الزمان أو المكان فما علم كونه قيدا لجهة المعاملة والتصرّف فيكون الغرض مترتّبا على خصوص المعاملة فغيره فضولي غير مأمور به ، وما علم كونه قيدا لجهة الحفظ ، أو علم ذكره من باب المثال من غير تعلّق غرض به من جهة الحفظ ، أو من جهة المعاملة [فليس كذلك].

قالوا : لو عيّن زمانا للمعاملة لم يكن للوكيل التجاوز إلى غيره ، ويكون الواقع في غير ذلك الزمان فضوليّا ، لدلالة العرف على كونه قيدا للرضا بالمعاملة بحيث يفهم منه أنّ الغرض المتعلّق به من حيث المعاملة ، فالمعاملة الواقعة فيه مأذون فيها لا غيره ، وكذا لو عيّن زيدا أو غيره أو عيّن النقد أو التأجيل ، إلّا أن يكون هناك غرض يتعلّق بالتأجيل ، كما لو كان زمان غرق أو نهب.

ولو عيّن المكان لم يكن له التجاوز ، ويقع العقد في غيره للموكّل لازما ، لكنّه مضمون على الوكيل قبل العقد بالتخلّف ، كما لو خالف في الوديعة عن موضع الحفظ الّذي عيّنه المالك مع عدم خوف التلف فيه ، وعدم كون المنقول إليه أحفظ أو مساويا ، لو قلنا بجواز النقل فيهما ، وإلّا ـ كما هو الأقوى في الأخير ـ لم يجز النقل مطلقا ، فيسقط الضمان بالتصرّف المأذون فيه ولا ينتقل إلى البدل ؛ لكونه أمرا مسبّبا من امور خاصّة عارضة لمتعلّقه كإثبات اليد عليه عدوانا أو الإتلاف مباشرة أو تسبيبا ليس من قبيل الشركة ، وتعلّق الحقّ به كالرهن أو الوقف ، فحيث كان مأذونا في نقله وقبض سببه فيده على العوض غير عدوان بل

__________________

(١) إيضاح الفوائد : ٣ / ٢٩٢ ، الروضة البهيّة : ٦ / ١٨.


مأذون فيه ، ولو كان مقيّدا لجهة المعاملة أو لجهة الحفظ ، بل ما كان من باب المثال من غير تعلّق غرض به صحّ العقد ولا ضمان فيه.

ومن هنا اتّضح ما ذكره الأصحاب وورد عليه النصوص (١) في باب المضاربة من أنّه لو خالف طريقا عيّنه المالك إلى غيره ضمن ، والربح على الشرط (٢).

هذا ؛ وقد يقرّر المطلب بوجه آخر وهو أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الأمر بالشي‌ء على القول باقتضائه النهي عن ضدّه لا ينافي القول بصحّة الضدّ ، لجواز أن يكون مطلوبا للشارع مترتّبا على عصيان العبد ومخالفته للنهي ، مثلا النهي عن الصلاة مع وجوب الإزالة ، لا يوجب رفع الأمر والمحبوبيّة عنها.

غاية الأمر أنّها غير محبوبة الآن لأمره بشي‌ء آخر فوريّ غير ممكن الاجتماع ، فالمبغوضيّة عرضيّة لها غير ذاتيّة ، فلو عصى ذلك الأمر كان ذلك الفعل محبوبا فعلا ، كما كان محبوبا ذاتا قبل العصيان.

ونظير ذلك في العرف أن يقول المولى لعبده : اسكن الدار ولا تدخل السوق ، فإن عصيت ودخلته فاشتر الشي‌ء الفلاني ، فتأمّل! فذلك أمر بجهة ، فيقتضي النهي عن غيرها ، لكن [إن] عصى وخالف ثبت الضمان من جهة ، لكن أصل المعاملة محبوب فعلا ، حيث وجد الباذل لأزيد ممّا عليه المالك أو ثمن المثل فيما لو كان قد أطلق ، فليس هذا التصرّف مبغوضا له غير مأذون فيه ، وإن كان محبوبيّته مترتّبا على عصيانه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٥ الباب ١ من كتاب المضاربة.

(٢) الحدائق الناضرة : ٢١ / ٢٠٥ ، جواهر الكلام : ٢٦ / ٣٥٣.


وهذا التقرير إن رجع إلى ما ذكرنا ، وإلّا فمحلّ مناقشة.

وقد يقرّر بوجه آخر ؛ وهو أنّ ذلك نظير الخوف للضرر الّذي لم يجز معه الصوم أو الحجّ أو مطلق العبادة ، فكما أنّ النهي عن ارتكاب المخوف ظاهريّ لاحتمال الضرر ، فلو فعل المأمور به المخصّص بهذا النهي الظاهر ، وتبيّن أن لم يكن هنا ضرر ، تبيّن أن لم يكن نهي ومخصّص ، فالأمر يقتضي الإجزاء وسقوط القضاء ، فكذلك النهي عن الجهة لاحتمال الضرر والحظر فيها ، فلمّا خالف هذا النهي ولم يترتّب عليه ضرر تبيّن أن لم يكن نهي.

وأنت خبير بأنّ الخوف واحتمال الضرر في أمثال المقام مأخوذ في النهي على وجه الموضوعيّة لا على وجه الطريقيّة ، وهذا الموضوع قد كان في زمان ارتكاب المنهيّ موجودا وإن تبيّن عدم الضرر ، ولذا لا يجوز الارتكاب ، لأنّ الموضوع المنهيّ هو محتمل الضرر أو المظنون لا الضرر المقطوع الواقع.

ولذا قالوا بعدم إمكان قصد التقرّب.

نعم ؛ لو لم يلتفت إلى النهي صحّ الفعل مع حصول التقرّب ، وذلك إنّما هو من جهة عدم توجّه النهي الظاهري إليه فعلا ، كالمصلّي الجاهل بالغصب.

فإن قلت : إنّ الجاهل بالموضوع معذور ؛ لعدم وجوب الفحص عليه بخلاف الجاهل بالحكم ، ولذا حكموا ببطلان صلاة العالم بالغصب الجاهل بالحكم ، وفي ما نحن فيه ـ أعني إتيان العبادة مع الخوف ـ الجهل من جهة الحكم كما هو المفروض.

نعم ؛ لو لم يحتمل الضرر ولا ظنّ ، وأتى بالمأمور به صحّ ، بلا إشكال ، وإن ترتّب عليه الضرر واقعا.


قلت : إنّ الجهل بأمثال هذا الحكم الظاهري مثل الجهل بالموضوع ، لأنّ هذا الحكم إرشاديّ وتوصّلي إلى عدم الوقوع في الضرر لا تعبّدي ، والجاهل بالأحكام الإلزاميّة التعبديّة غير معذور ، ولذا قالوا بأنّ الجاهل بالخيار في العيوب في النكاح معذور بالنسبة إلى سقوطه بالتأخير.

وكذا في الأمة المعتقة المزوّجة ، فإنّ خيارها في النكاح فوري ، والجاهلة بفوريّتها كالجاهل بأصل الخيار معذورة ، مع أنّ الجاهل بالفوريّة أو بأصل الحكم في أمثال الصلاة غير معذور.

فقد اتّضح أنّ النهي الصادر من المالك صريحا أو اقتضاء من جهة الحفظ واحتمال تلف المال نهي إلزامي ، فلا يجوز التعدّي.

وتوهّم تبيّن عدم الضرر والتلف يكشف عن عدم ضعف جدا بيّن بطلانه قطعا. ولذا لو تلف بآفة سماويّة غير مسبّبة عن أمر في ذلك الطريق المخالف كان مضمونا قطعا ، فتدبّر!

قالوا : ويشترط في الموكّل أن يكون مكلّفا إلّا في الطلاق والوصيّة والوقف ، فيصحّ من البالغ عشرا ، لأنّه بعد ما ثبت له الولاية في الامور المذكورة دخل في ما تقبل النيابة (١).

وقد مرّ أنّ الأصل في خطابات الشرع غير العبادات أن [يكون] قابلا للنيابة ، لأنّ الظاهر من إرادة فعل حصوله في الخارج من غير مدخليّة للمباشرة ، وكذا الخطابات العرفيّة إلّا ما كان العرف على خلافه ، كالوكالة والاستيجار للحجّ أو غيره من العبادة.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨٧.


مع أنّ الوليّ المأمور من الشارع بإيقاعها عن الميّت مخيّر بين المباشرة والاستنابة ، فلا إشكال في المقام بعد جوازها.

وتوهّم اختصاص الجواز في المباشرة ضعيف جدّا.

نعم ؛ ذهب جماعة كالمحقّق في «الشرائع» (١) وشارحه صاحب «الجواهر» وغيرهما (٢) إلى جواز توكيل مثله في الامور المذكورة ، ولعلّه من جهة أنّ هذه الامور قد ثبت التولّي فيها من الصبيّ البالغ عشرا ، فاحتمال اختصاص اعتبار لفظه فيه لنفسه بعيد عن مذاق الفقه ، بل لو كان الصبيّ البالغ عشرا وكيلا من البالغ الرشيد فيها جاز أيضا ، كما صرّح بذلك الجماعة (٣).

لكنّه قد يقال بأنّ اعتبار لفظه وتوكيله وعدم لغوية عبارته تبعا لنفوذ التصرّفات المذكورة ، فاعتبار مباشرته خارج عن القانون المذكور وعن مذاق الفقه ، كما قيل (٤) ، إلّا أنّ إثبات جواز التولّي فيها ولو لغيره من تلك الأدلّة يحتاج إلى التأمّل.

ألا ترى أنّه لم يعتبر قوله مطلقا ، بل في المذكورات ، فليس ذلك إلّا من جهة تبعيّة الأدلّة المجوّزة لها ، إذ لا مجال من الإنشاء لها بنفسه أو بغيره ، فالقول بجواز توكّله لغيره فيها بالاستنباط موجب للقول باعتبار ألفاظه في غيرها ، ولو كان لنفسه.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ١٩٧.

(٢) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨٧ ، جامع المقاصد : ٨ / ١٨٤ ، الحدائق الناضرة : ٢٢ / ٤٧.

(٣) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٨٧ ، الحدائق الناضرة : ٢٢ / ٤٧.

(٤) تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٦ ط. ق ، جامع المقاصد : ٨ / ١٨٤.


توكيل الوكيل غيره

قالوا : ولا يجوز للوكيل أن يوكّل غيره (١).

أقول : إمّا من جهة أنّ الأصل في إرادة الأفعال المباشرة فيها إمّا مطلقا أو في خصوص الخطابات العرفيّة إلّا ما خرج بالتصريح أو دليل خارج ، وإمّا من جهة أنّه وإن كان مقتضى الأصل إرادة الإتيان بها من غير تعلّق غرض بإيقاعها مباشرة مطلقا إلّا ما خرج ، إلّا أنّه العرف مستقرّ على إرادة المباشرة في أوامرهم.

وإمّا من جهة أنّ توكيل الوكيل إمّا عن الموكّل ولا إشكال في عدم جوازه لعدم دلالة «وكّلتك في بيع داري» على «وكّلتك في التوكيل» ، لاختلاف المتعلّقين مع عدم قرينة في المقام كعجزه عنه ، أو ترفّع شأنه عن المباشرة.

وأمّا عن الوكيل ؛ فيمنع إمّا من جهة ظهور قوله : «في بيع داري» في المباشرة ، كما سبق ، لعدم دخول هذا النوع من التصرّف في المأذون ، وإمّا من جهة عدم جواز التوكيل عن الوكيل أصلا ، لأنّ الولاية التبعيّة غير قابلة للانتقال والتفويض ، فلو صرّح بالإذن في التوكيل انصرف إلى أخذه عن الموكّل ، لأنّ الإنشاء اللفظي الّذي فوّض ولايته فيه إليه غير مملوك للوكيل إلّا من إذن المالك ، فلا يمكن تفويضه إلى غيره.

وبعبارة اخرى : الولاية تابعة للملك وليس الوكيل مالكا ، ولذا يقولون : إنّ للأولياء أن يوكّلوا عمّن لهم الولاية عليهم ، فالوكيل يتصرّف عن المالكين بإذن الأولياء لا عنهم ، كما أنّهم يتصرّفون عنهم بإذن الله تعالى.

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٨ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٦ ط. ق.


فهذا قرينة على أنّ الولاية وتفويضها تابعة للملك ، والوكيل ليس مالكا فليس له التوكيل عن نفسه.

وبالجملة ؛ قيل : على القول بجواز التوكيل عن الوكيل ـ وكما هو المشهور ـ فإمّا أن يصرّح الموكّل بالتوكيل عنه ، أو عن الوكيل ، أو يطلق ، فإمّا أن يحمل الإطلاق على التوكيل عنه أو عن الوكيل ، أو على التخيير.

لكنّه لا يخفى أنّه لو قلنا بجواز التوكيل عن الوكيل لا يحمل الإطلاق إلّا على التوكيل عن الموكّل ، لأنّه المتبادر منه والمنصرف إليه إطلاق توكيل الأولياء ، فتدبّر!

وأمّا ما توهّم من أنّه لو كان الإذن فيه مستفادا من الفحوى كان احتمال كون الوكيل وكيلا عن الوكيل أقوى ؛ فضعيف ؛ لأنّ الفحوى راجعة إلى اللفظ ، فترفّع الوكيل أو عجزه أو اتّساع متعلّقها قرينة على إرادته من قوله : أنت وكيل في هذه الامور ، التوكيل فيها بنفسه أو بغيره ، فلا يزيد هذا على التصريح مع الإطلاق.

وقد عرفت أنّ الوليّ المأذون في التصرّف مطلقا يوكّل غيره عمّن له الولاية عليه.

ثمّ على التقادير المذكورة في التوكيل الأوّل مع جواز توكيل الغير ، فهل يحمل توكيل الوكيل لو أطلق على التوكيل عن الموكّل ، أو عن الوكيل؟ وجهان ، من أنّ الظاهر من استنابته عن نفسه ، ومن التبادر ، مضافا إلى ما مرّ من تبعيّة الولاية للملك ، فتكون الولاية الثابتة له عن المالك.

ألا ترى أنّ وكيل الوصيّ إنّما يبيع عن الميّت مع عدم قابليّته للولاية حينه ،


لكن بإذن الوليّ ، لا عن الوصيّ ، لأنّه ليس مالكا حتّى يبيع عنه.

وبالجملة ؛ المسألة معنويّة ، فإنّ المقصود أنّ هذه الولاية الثابتة له بتوكيل الوكيل ولاية عنه ، أو عن الموكّل حتّى يترتّب على كلّ أثره ، لا لفظيّة ، فلا يحتاج إلى التصريح.

نعم ؛ يمكن أن يقال : لو صرّح الموكّل بأحدهما وخالف الوكيل في اللفظ بأن قال الموكّل : خذ عنّي وكيلا فقال له : أنت وكيلي في هذا الأمر ، بطل هذا.

ولو قلنا بأنّ إطلاق الوكيل ينصرف إلى الوكالة عن الموكّل قطعا فصرّح بكونه وكيلا عنه لا عن الموكّل بطل أيضا ، لأنّ ما وقع لم يصحّ ، وما صحّ لم يقع ، كما لو صرّح الوليّ بالوكالة عن نفسه ، فتأمّل (١)!

قال المحقّق في «المختصر» : ولا يوكّل العبد إلّا بإذن مولاه ولا الوكيل إلّا أن يؤذن له (٢) وفيه يذكر ـ تقريبا تنظيرا لما ذكر من تبعيّة الولاية في التصرّف للمال ـ ما حقّق في محلّه من أنّ خيار المجلس حقّ ماليّ تابع للمالك لا للعامّة فلو عقد الوكيلان فالمعتبر مفارقة المالكين لا هما.

نعم ؛ لو كان وكيلا عنه في جميع الامور كالعامل أو لم يكن المالك حاضرا في مجلس العقد ، فالمعتبر مفارقته لا مطلقا ، وذلك بخلاف تفرّق المتعاقدين في الصرف والتقابض فيه كالخيار فيعتبر تقابض المالكين إمّا بنفسه أو وكيله ، فتأمّل!

ولذلك تراهم لا يتعرّضون في الوكيل في البيع أنّه [هل] له إسقاط خيار

__________________

(١) لكنّ التحقيق أنّه بعد كون المسألة معنويّة وجواز الولاية له عن الموكّل لو صرّح فضلا عمّا لو أطلق بكونه وكيلا عنه صار وكيلا عن الموكّل ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٢) المختصر النافع : ١٧٨.


المجلس أم لا ، وليس ذلك إلّا لعدمه له أصلا وعدم دلالة التوكيل في البيع على جعل الخيار لنفسه عنه ، كما يتعرّضون أنّ له القبض أم لا ، ويتعرّضون أنّ للمضارب إسقاط الخيار في البيع وغيره مع المصلحة أو ظهور الربح.

وقول المحقّق في «المختصر» : ولا يوكّل العبد إلّا بإذن مولاه ولا الوكيل إلّا أن يؤذن له (١).

احتمل في العبارة أن يقرأ الفعل في المقامين مجهولا ، فالمعنى إثبات الحكم التكليفي للموكّل بأن لا يجوز توكيل عبد الغير إلّا بإذن مولاه ، لأنّه تصرّف وإعمال لمال الغير بغير إذنه ، لكنّه لو فعل عصى العبد لتصرّفه في لسانه الّذي مال الغير لكنّه صحّ التصرّف ، لأنّ النهي في المعاملات إن كان راجعا إلى ترتيب آثارها فيوجب فسادها لامتناع وجود المؤثّر بدون الآثار ، وإن لم يكن كذلك ، بل لقبح في نفس ذلك التصرّف والتلفّظ مع قطع النظر عن الآثار ، أو لانطباق أمر محرّم عليه كالبيع وقت النداء ، فلا يوجب الفساد وإن عصى ، فبيع العبد لغير مولاه كالبيع في الدار المغصوبة.

ثمّ إن كان الفعل الصادر من العبد ممّا له اجرة بطل المسمّى إن كان ، ويثبت للمالك اجرة المثل مطلقا ، ويخيّر في الرجوع بأيّهما شاء ، فإن رجع على الموكّل رجع في الحال.

وأمّا الوكيل فإن كان وكيلا خاصّا أو عامّا بغير جعل فلا إشكال في جواز توكيله ، ويكفي في الأوّل إبطال التوكيل الأوّل ، وإن كان خاصّا لازما إمّا بجعل أو بغيره ، فإن كان الفعل ممّا لا ينافي العمل الموكّل فيه صحّ التوكيل الثاني ويستحقّ

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٨.


الاجرة إن كان حاله ذلك ، لكن لو قيل بأنّ تمام منافعه المتصوّرة للغير ، أو فرض كذلك بأن وقع العقد الأوّل كذلك ، أمكن القول بثبوت الاجرة له لا للوكيل ، أو الخيار ، وإن كان منافيا له فلا يجوز ذلك من حيث الحكم التكليفي.

وأمّا الحكم الوضعي فكما مرّ في العبد ، لكن سياق كلام الفقهاء في مثل هذا المقام في الإجارة وهنا هكذا ، ويجوز للمستأجر والوكيل أن يعملا لغير المؤجر والموكّل إلّا أن يكونا خاصّا.

وقد سبق أنّه من جهة ظهورهما في عدم تعيين المباشرة والمدّة وإن كان لهما المطالبة فورا إلّا في ما يلاحظ فيه بعض الخصوصيّات في المستأجر ، كما لو كان العمل عبادة لملاحظة العدالة والديانة وعلمه بالأفعال والمسائل وغيرها.

وإن احتمل في المسألة وجه آخر ، وهو التفصيل بين ما لو وقع العقد بلفظ يدلّ على المباشرة أو على الأعمّ كاستأجرتك ، أو تقبّلت.

توكيل الحاكم عن السفهاء والمجانين والبله

قالوا : وللحاكم أن يوكّل عن السفهاء والمجانين والبله من يتولّى (١).

لا شبهة في جواز ذلك لهم بعد ما قرّر من ظهور الإذن وتفويض الولاية في أمر في حصول ذلك ، سواء كان بطريق المباشرة أو بالاستنابة ، فلا حاجة إلى الاستدلال بالإجماع.

نعم ؛ لو قلنا بظهور ذلك في المباشرة احتجنا في الخروج عن مقتضى هذا الأصل إلى الدليل ، لكن لا يخفى أنّ أخذ الوكيل في الفعل بطريق يكون النظر

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٨.


إليهم لا إلى الوكيل إلّا أن يكون الفعل خاصّا.

والحاصل ؛ أنّ في أخذهم الوكيل تفصيلا يأتي في توكيل الوصيّ.

قالوا : يشترط في الوصيّ أن لا يمنعه الموصي من التوكيل ، فيتّبع متّبعه في العموم والخصوص ، والتفصيل الموعود : أنّ الوصيّ إمّا أن يفوّض الولاية والأمر إلى الغير في نفس الأفعال وفي النظر ـ أي يفوّض التصرّف مطلقا والنظر ـ وإمّا أن يفوّض التصرّف مطلقا دون النظر مطلقا ، وإمّا أن يفوّض التصرّف في بعض الامور والنظر ، أو دون النظر.

وينبغي بيان مدرك جوازه أو عدمه ، فنقول : إن قلنا : إنّ الوصاية تفويض ولايته الدائمة المنقطعة بالموت لو لم يفوّض ، فكما كان للموصي التوكيل مطلقا فكذلك للوصيّ ، ولو قلنا : إنّ الوصاية تفويض الولاية مع اشتراط نظره بحيث كان هذا الوصف ملحوظا عنده ، كما هو الأقوى ، وصرّح به العلّامة في محكيّ بعض كتبه (١) ، فلا يجوز توكيل الامور إلى الغير مع تفويض النظر ، ويجوز توكيله في التصرّفات مطلقا من غير تفويض النظر إليه ، بل كان النظر في كلّ أمر لنفسه ، وأولى بالجواز ما لو فوّض بعض الامور دون النظر.

وأمّا لو فوّض التصرّف والنظر في بعض الامور ؛ فلا يبعد القول به حتّى على ما اخترناه ، لأنّ تفويض النظر إلى الغير قد يكون مصلحة.

فإن قلت : فيجوز التوكيل في التصرّف والنظر مطلقا ، لأنّ تفويض النظر مصلحة ، فلو رأى غيره أبصر في الامور مطلقا من نفسه جاز.

قلت : إنّ العلم الإجمالي بأصلحيّة نظره في الامور غير كاف في تحقّق

__________________

(١) تبصرة المتعلّمين : ١٢٩ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٥٠٨ ، ط. ق.


المصلحة في جميع الامور ، فلعلّ في بعض الامور يرى المصلحة على خلاف ما يراه الوكيل مصلحة.

وأمّا إذا كان الأمر معيّنا كبيع دار معيّنة يمكن أن يكون الوكيل أبصر بالغبطة ، ويعلم بذلك الوصيّ فيفوّض النظر إليه.

فمن ذلك كلّه ينقدح حكم توكيل الحاكم وسائر الأولياء في أنّه لا ريب في اعتبار الشارع نظرهم في ذلك من غير إرادة مجرّد حصول أفعال القصّر في الخارج بمباشرتهم أو بإذنهم ، فيجي‌ء في توكيلهم التفصيل المذكور ، فتأمّل جيّدا.

أقسام التوكيل من الحاكم

وأمّا التوكيل من الحاكم في الخصومات فعلى أقسام :

منها : التوكيل في المرافعات واستماع الشهود وجرحهم ، والإحلاف والحكم.

ومنها : التوكيل في استماع الشهود.

ومنها : التوكيل في التحليف.

ومنها : التوكيل في الحكم.

ومنها : التوكيل في استماع الإقرار.

وليعلم أوّلا أنّه لا يجوز توكيل الحاكم لمثله إلّا في زمان الحضور مع وجود التصريح من الإمام أو قرينة على الإذن من الإمام ولو فحوى ، كاتّساع المتعلّق ، وأمّا في زمان الغيبة فالجميع سواء ، فليس أحدهما أولى من الآخر حتّى يستحلف غيره.

نعم ؛ قد يتصوّر ذلك بناء على عدم اشتراط بعض الشروط الثمانية فيه ،


كالكتابة أو البصر ، فيأخذ حاكما جامعا له.

وقد يتصوّر على القول بإمكان التجزّي ، وعدم حجّيّة لدلالة دليل حجّيّة قول المجتهد على المطلق ، لظهور قوله عليه‌السلام : «عرف أحكامنا» (١) في العموم ، وكذا سائر سياقاتها ، فيأخذ المطلق المتجزّي في المسألة المجتهد فيها ، فتأمّل!

وأمّا استحلاف المقلّد في نفس [الأمر] ؛ فغير صحيح إجماعا ، لكونه من وظائف الإمامة فلا يجوز من غير إمام ومن نصبه لذلك ، وأذن له عموما أو خصوصا.

وأمّا في استماع البيّنة بعد علمه بشرائطها ، لأنّ المناط قيامها بعد التماس المدّعي وإذن الحاكم ، وكذا الحلف إذا تعذّر حضور الحالف.

وأمّا التوكيل في الإقرار ؛ فغير جائز ، لأنّ أثر الإقرار ليس مترتّبا على سماعه حتّى يوكّل فيه ، بل على ثبوته عنده ولو بغير الشاهد بخلاف البيّنة ، فإنّ المناط فيها هو استماعها ، فلا يكفي علم الحاكم بشهادتها.

نعم ؛ لو عيّن شاهدين على استماع إقراره ثبت إقراره بشهادتهما ، ولا يثبت بشهادة الواحد ، لأنّ المناط ثبوته وهو به غير ممكن ، فتدبّر!

وتمام الكلام في باب القضاء والشهادات.

اشتراط العقل في الوكيل والموكّل

قالوا : ويشترط في كلّ من الوكيل والموكّل كمال العقل (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٢٢٠ و ٢٢١.

(٢) المختصر النافع : ١٧٩.


توضيح الفرق بين المجنون والسفيه والمغفّل والمغصوب الّذي حكموا ببطلان بعض الألفاظ الصادر منه في ذلك الحال ، كالظهار والإيلاء ، ويتوقّف على رسم مقدّمة ، وهي أنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان على ثلاثة أقسام ـ كما حكي عن الغزالي ـ : اضطراري ، وإرادي ، واختياري.

فالاضطراري : ما لا يستند الفعل إليه ، كوقوع النازل من شاهق ـ مثلا ـ.

والإرادي : ما يصدر عن إرادة ومقتضى الطبيعة من غير سبق بالاختيار ، كحركة الأجفان عند وصول سهم إليها ، أو إرادة إهراق شي‌ء في العين.

فالتكليف بالنسبة إلى الأفعال الاضطراريّة قبيح ، لأنّه تكليف بالمحال ، وبالنسبة إلى الثاني إن كان ممّا يمكن إزالته ولو بالرياضات أو بغيرها من الامور القاهرة على مقتضى الطبيعة فليس التكليف به محالا ، وإلّا فلا.

والفعل الاختياري ما يصدر منه باختيار وتروّؤ والالتفات إليه.

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ فعل غير اضطراري إنّما يصدر من الشخص الملتفت بعد الالتفات إليه والعلم به ، ثمّ الالتفات والعلم بآثاره المحبوبة عنده ، ثمّ توجب ذلك الأثر المحبوب المرضيّ عنده إرادته إلى الفعل الموجب له ، بمعنى العزم عليه ، فإن كان ذلك الفعل محتاجا حصوله إلى مقدّمات فيشتغل الإنسان بإيجادها ثمّ بعدها لا بدّ من حصولها من إرادة مقارنة له ، ليخرج بها عن الغافل والساهي ، فإنّ الاعتبار بالغفلة وعدم الغفلة بالفعل بتلك النسبة والقصد والإرادة بالفعل ، لا الإرادة الأوّليّة الداعية إلى تحصيل الفعل بمقدّماته.

ولا ينافي ذلك ما بنينا عليه في العبادات من كون النيّة فيها هو الداعي لا الإخطار ، فإنّ المقصود الالتفات إلى الغرض والأثر الموجب للإرادة عند الفعل ،


كما عرّفوها بأنّها الإرادة المنبعثة المؤثّرة في إيجاد الفعل المنبعثة عمّا في نفسه من الغايات على وجه يخرج بها عن الساهي والغافل ، ففي الحقيقة مقارنة تلك الإرادة المذكورة للفعل موجب لإيجاد نفس [النيّة] بها يكون الفاعل قاصدا ، ولذا اعتبروا المقارنة فيها بعد اعتبار النيّة ، وليس هي إلّا القصد.

وأمّا الإرادة المنبعثة على تحصيل مقدّمات الفعل المسبوق بالعلم إلى الغاية فهو من لوازم العقل وعدم صدور الفعل من العاقل من غير ملاحظة فائدة ، ووجود ذلك غير مقارن لنفس الفعل حين وجوده لا يخرج الفاعل عن الساهي والغافل إلى القاصد.

لكنّ المراد بالنيّة في العبادات أمر مركّب من القصد إلى الفعل ـ كما فصّلناه ـ وإلى التقرّب لاشتراط تحقّق العبادة بقصد إتيانها على وجه الامتثال ؛ لأنّها ما يتوقّف على قصد القربة.

وأمّا نيّة المأمور به وأوصافه فلم يدلّ دليل على وجوبها ، كما صرّح به الشهيد الثاني في «الروضة» (١).

نعم ؛ لو كان المأمور به متعدّدا اشترط التعيين ؛ لتوقّف الامتثال عليه ، ولذا ذكر صاحب «الجواهر» في شرح «الجواهر» المسمّى ب «نجاة العباد» في كتاب الصوم وغيره : بعد ما ذكرنا أنّه لو نوى شيئا من الأوصاف في محلّ ضدّه على وجه لا ينافي التعيين ولا يقتضي تغيير النوع صحّ ، حتّى لو كان مشرّعا وإن أثم بتشريعه (٢).

__________________

(١) الروضة البهيّة : ١ / ٧٢.

(٢) نجاة العباد في يوم المعاد : ٤٢ و ١١١ و ١٩٠.


وصدر عن بعض المحشّين عليه من الفحول كالشيخ الراضي والمرتضى ما أوجب إشكالا في العبارة ، وإن كان كلامهما أيضا محلّ إشكال ، لكنّ المقصود ذكر كلامه قدس‌سره تقريبا لما ذكرنا ، وإن اتّفق مجال نحرّر إن شاء الله كلاما مبسوطا لشرح كلامهم ، وليس الآن [مجاله].

وأمّا الاستدامة الحكميّة فمعناها أن لا يقصد في جزء من العبادة غير التقرّب الّذي هو أحد أجزائها ، وأن لا يقصد بفعله فعلا يغيّر تلك الإرادة المنبعثة ، لكنّ الالتفات إليها في كلّ جزء منها غير لازم ، لعدم الإمكان ، و [لزوم] العسر والحرج ، بل يكفي وجود تلك الإرادة حكما ، بحيث لو سئل لقال بها ، ولذا لو غفل بحيث خرج عن ذلك بطل.

وكذا لا يقصد بفعله غير الأمر الأوّل الذي نوى امتثاله أوّلا وهذا مراد قولهم : أن لا يقصد في بعض أفعاله ما ينافيها أو خلافها.

وممّا ذكرنا في معنى النيّة للأفعال والمقارنة ظهر أنّه لو نوى الجنب الغسل وذهب إلى الحمّام ونسي حين الغسل النيّة لم يجز ذلك الغسل.

هذا كلّه في العبادات ، وأمّا المعاملات ؛ فاللازم فيها كسائر الأفعال الصادرة عن التفات لا بدّ فيها من العلم بالشي‌ء ، ثمّ بغرضه ثمّ الإرادة والعزم عليه الموجب للاشتغال بمقدّماته ، فإن كان مقدّمته فعلا كاشفا عنه اعتبر الالتفات إلى ذلك الفعل الدالّ الكاشف ، كلفظ البيع ونحوه ، فلو صدر من غير التفات كالساهي لغى ، والالتفات إلى المعنى المكشوف عنه فلو لم يلتفت إليه لغى أيضا كالهازل وكون اللفظ كاشفا ـ أي صريحا ـ في المعنى المراد.

ثمّ إنّ الأثر والغرض الداعي إلى الفعل ، ولو حصل من أمر غير مرضيّ ـ أي


صار أمر غير مرضيّ سببا وداعيا لمحبوبيّة أثر ذلك الفعل ـ كأن يجبر على إعطاء مال لظالم فيبيع داره من غير [أن] يجبر عليه ، فهذا النوع من البيع صحيح ، لأنّ الإكراه على مقدّمات الفعل لا على نفسه.

وقد صرّحوا بأنّ مثل هذا الإكراه خارج عن بيع المكره المنعقد على بطلانه الإجماع (١) ، والنصّ (٢) ، ولو لم يحصل الغرض والداعي ولو من أمر غير مرضيّ على بيع ماله بل أوجد الفعل بغير داع فهذا هو المكره الّذي باطل عقده.

ثمّ إن كان الإكراه لحقّ كأن يجبر المحتكر على بيع الطعام ، والممتنع عن إنفاق واجبي النفقة أو المملوك أو قضاء الدين مع يساره ، صحّ هذا البيع بلا إشكال ، لأنّ المعتبر في الأفعال الإرادة والقصد إليها بحيث يخرج بها عن الساهي واللاغي ولم يثبت من الأدلّة العامّة غير ذلك.

وأمّا لزوم كون ذلك لداع وغرض ، فلم يثبت دليل عليه.

نعم ؛ يثبت في المكره لغير حقّ بالنصّ والإجماع عدم إمضاء الشارع لعقده ، فهو يريد في قوله : بعتك ، النقل والانتقال بهذا اللفظ الكاشف ، لكن لا يريد ترتيب الأثر عليه ، لعدم داع له إلّا الإكراه ، فلم يمض الشارع إلّا أن يرضى به ولو بعد ذلك ، فهو حين العقد كالفضولي ، فإنّه أيضا قاصد إلى اللفظ والمعنى باللفظ الكاشف.

وهذا من شروط العاقد لا المالك ، لكنّ الرضا بالاشتراط لا بدّ أن يصدر من المالك ، فحيث حصل أثّر العقد أثره ، فمقتضى إرادته المعنى باللفظ الكاشف

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٣ / ١٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٣٣ الباب ١ من أبواب عقد البيع.


فأثره في الانتقال ، لكنّ الشارع اعتبر الرضا وطيب النفس بأثر الفعل في بعض الموارد.

فظهر أنّ بيع المكره جوازه خارج عن مقتضى القاعدة بالإجماع والنصّ (١) ، ولولاه لما كان للرضا بعده وتأثيره معنى ، وتمام الكلام في البيع قد حرّرناه.

وإذ قد ظهر معنى الفعل الاختياري بأنّه الصادر عن عمد وقصد سواء كان بداع أو بغير داع ، فالفاعل لا عن قصد غير عاقل ، فإن كان بحيث يكون في جميع أفعاله التكليفيّة والمتعلّقة بالأموال وغيرها وأقواله غير قاصد إلى ما يصدر منه ، ولو كان في بعض أفعاله أو أقواله مميّزا ، فهذا هو المجنون المحجور عليه المرفوع عنه القلم في العبادات وغيرها ، وإن كان في بعض أفعاله المتعلّقة بالعبادات ككثير السهو ، فهذا معفوّ عنه قلم السهو وحكمه ، فلا حكم فيه في العبادات دون غيرها لأنّه قاصد في أفعاله.

ولو كان قاصدا في ما يصدر عنه لكنّه لغير داع أو لداع غير الدواعي الّتي توجب صدور الأفعال من العقلاء ، فهذا نوع من الجنون ، فإن كان في خصوص الأموال وما يتعلّق بها كذلك دون ما يتعلّق بالبدن أو بغيره كالسفيه ، فإنّه قاصد في أفعاله وأقواله مطلقا ، لكن قصده في ما يتعلّق بالمال غير مقترن بداع عقلائي دون ما يتعلّق بالبدن ، فهذا محجور في ماله ، لأنّه نوع من الجنون ، وغير محجور في ما يتعلّق بالبدن ، فهو مكلّف في الأحكام البدنيّة دون الماليّة.

لكن لو استلزم الأحكام البدنيّة على المال تصرّف الوليّ في المال.

نعم ؛ لو أوجب أمرا يوجب أمرا بدنيّا أو ماليّا مخيّرا كالنذر فحنث ، كفّر بما

__________________

(١) مرّ آنفا.


يتعلّق بالبدن ، وليس الوليّ مكلّفا بإخراج المال عنه ، فحيث إنّ المانع فيه عدم الداعي العقلائي في أمواله وكان محجورا عليه ، فلا مانع من توكّله فيما يتعلّق بها لغيره ، أو في ماله بإذن الوليّ.

لكن على تفصيل في مال الغير ، وهو أنّه إن فوّض إيقاع العقد دون النظر ، فلا ريب في صحّته ، وإن فوّض النظر مع ذلك فخلاف ، أقربه ذلك ، لأنّ الموكّل عاقل قاصد ، فلعلّه رأى مصلحة في ذلك لنفسه أو لغيره ولا أقلّ من إتلاف ماله لمصلحة عقلائيّة ، والسفيه كان ممنوعا من التصرّف في ماله لعدم مبالاته في إتلافه لغير غرض عقلائي. وهذا التفصيل جار بعينه في ماله بالنسبة إلى إذن الوليّ.

قال في «القواعد» : ولو أذن له الوليّ فإن عيّن صحّ ؛ لعدم تفويض النظر إليه أو فوّض ورأى المصلحة في ذلك وإلّا فلغو إلّا أنّ الوليّ غير مأذون في إتلاف ماله (١) ، فتأمّل!

نعم ؛ لو فرض أنّ هذا التوكيل منه سفاهة وليس فيه مصلحة بطل التوكيل ، لأنّه داخل في المعاملات السفهيّة الّتي لا يجوز التوكيل فيها لعدم الولاية للموكّل في متعلّق الوكالة.

والفرق بين معاملة السفيه والمعاملة السفهيّة أنّ السفيه لكونه غير قاصد في فعله لغرض عقلائي صار محجورا عليه كليّا ، ولو اتّفق في قضيّة شخصيّة إن كانت المعاملة عقلائيّة ، والمعاملة السفهيّة ما كانت لغير داع ومصلحة في تلك المعاملة الخاصّة وإن كان المعامل عاقلا ، والدليل على بطلانها عدم شمول الأدلّة

__________________

(١) قواعد الأحكام : ١ / ١٦٩ ، ط. ق.


لها ، فالبيع المحاباتي إن اشتمل على مصلحة صحّ وإلّا فلا.

فمن هذا البيع الخاصّ لا يحكم بسفهه ، وإن حكم ببطلانه ، إلّا أن يحرز ذهاب الملكة المعتبرة في الرشد ، كما أنّه لا يحكم في معاملة السفيه ـ المشتملة على الإصلاح والمصلحة في تلك المعاملة الشخصيّة ـ برشده ، إلّا أن يحرز كشفه عن الملكة فيتبعه صحّة المعاملة وعدمها.

لكنّ الفرق بين العقل والسفه ثابت في ابتداء البلوغ ، فيحكم بالعقل مع الشكّ ، دون السفه ، وذلك لأنّ الأصل في الإنسان العقل ، وذلك من جهة الغلبة أو من جهة أنّه بمقتضى الآيات (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (١) وغيرها (٢) والأخبار (٣) لتخمير الإنسان من العقل ، قد ثبت أنّ الاستعداد ثابت في كلّ إنسان ، فكلّ إنسان عاقل ، إلّا أنّ الصبيّ المميّز قد الغيت أفعاله وإن كان عاقلا ، فإذا بلغ ارتفع الحجر عنه مع وجود المقتضي فيه ، والشكّ في الرافع هل اختصّ ذلك الاستعداد أم لا؟ والأصل عدمه.

وأمّا السفه ، وإن كان مقتضى القاعدة كذلك ، إلّا أنّ الشارع أوجب إحراز عدم المانع قبل البلوغ ، فقال (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٤) فقبل الإحراز لا يجوز ، فهو بالنسبة إلى التكاليف بعد البلوغ غير متوقّف على إحراز عقله ، فيجيزه الوليّ ، لكنّه بالنسبة إلى التكاليف الماليّة محجور لا يجوز للولي إيكال اموره إلى نفسه إلّا أن يحرز إصلاحه في ماله.

__________________

(١) الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢) البقرة (٢) : ١٣٨.

(٣) انظر! بحار الأنوار : ١ / ٨٦ الحديث ٨ ، و ٩٦ الباب ٢ ، و ٣ / ٢٧٦ الباب ١١.

(٤) النساء (٤) : ٦.


ثمّ إنّه لا فرق في وجوب كون صدور الأفعال مسبوقا بتعقّل داع ، بين ما يكون الداعي أمرا مباحا أو أمرا محرّما ، فالعاصي ليس بسفيه ، لأنّه يلاحظ في أفعاله غرضا ومصلحة يرتّب عليه أمثاله من العقلاء أفعالا ، ولو كانت المصلحة معصية أو كان نفس الفعل معصية كالزنا ، فإنّ المقصود منه استلذاذ النفس وإن كان محرّما على هذا الوجه لكنّه يترتّب على مثله من الأغراض النفسانيّة أفعال.

نعم ؛ لو كان البالغ في أوّل بلوغه صارفا ماله في الجهة المحرّمة ينكشف عن عدم الملكة ـ فتأمّل! ـ لو لم يكشف الملكة تغيّره ، ولو عرض للإنسان أحيانا حالة أوجبت صدور فعل عنه بغير قصد أو بغير داع كالمغضب بقسميه لهيجان سودائه وغلبته ، فهذا بالنسبة إلى الأفعال الصادرة منه في تلك الحالة محجور عليه مرفوع القلم [عنه] غير مترتّب عليها الأحكام الوضعيّة ، فلو طلّق أو ظاهر أو آلى ، بطل ، لكنّه لا يخرج عن حدود التكاليف.

فمعنى كمال العقل أن يكون قاصدا في أقواله وأفعاله مطلقا ، صادرة عنه لداع وغرض عقلائي رافعا عنه الحجر ، ممضيّ منه تلك الأفعال والأقوال وهو البالغ العاقل الرشيد.

فائدة

قالوا : ولا يضمن صاحب الحمّام الثياب (١).

أقول : توضيح المطلب يتوقّف على مقدّمتين :

الاولى : بما أن عدم كون ما في الحمام داخلا تحت يد الحمامي ما دام

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٤٩ ، السرائر : ٢ / ٤٧٠ ، المختصر النافع : ١٧٧ ، شرائع الإسلام : ٢ / ١٨٨.


الناس فيه شرعا في كونهم مأذونين في دخوله وخروجه ، بحيث يكون كالشارع لهم لا إذا منعهم أو أقفل باب الحمّام ، ولذا ذكروا : إنّ ما يوجد في الحمّام كاللقطة لا يملكه الحمّامي كما يملكه غيره في ملكه.

والضابطة أنّ ما يوجد في صندوق المالك أو داره أو غيرهما من أملاكه ولا يعرفه فهو لقطة ، مع مشاركة الغير ولا معه حاصل له ، فما يوجد في الحمّام لقطة ما دام المشاركة ، لا بدونها.

الثانية : لا يكفي في العقود اللازمة وغيرها الإذنيّة والتمليكيّة شاهد الحال ، بل لا بدّ فيها من كاشف قوليّ أو فعليّ ، ولذا لو علم شخص رضا أخيه بأن يكون ماله ملكا له بعوض أو لا معه ؛ لم يصحّ له التصرّف فيه بنقل أو غيره.

نعم ؛ يكفي شاهد الحال في جواز التصرّف ، بحيث يستند الإذن إليه في غير ما تضمّنته الآية ، وفيه حتّى مع جهل الحال بالرضا وعدمه ؛ للإذن شرعا ، كالأكل ممّا يمرّ به من ثمرة النخل والفواكه والزرع مع عدم الإفساد والحمل ، حيث إنّ الإذن من الشارع في صورة الجهل بالحال جوّز التصرّف ، بخلاف ما لو علم حال المالك في المقامين ، فإنّه غير صحيح فيه التصرّف ، ولما ذكرنا لو طرح شيئا عنده لم تصر وديعة وإن قصد الدافع الوديعة ، بل [ولو] أوقع الإيجاب ؛ لعدم حصول القبول ولو فعلا من المدفوع عنده.

نعم ؛ لو طرحها في ملكه عنده بحيث يكون تحت يده ، يجب حفظه لو غاب المالك وخيف عليها التلف من باب المعاونة على البرّ ، لكن لا ضمان عليه ، لكونه مستأمنا من جانب الشارع ولا يصير بقبضه بعد وجوبه وديعة لعدم الكاشف لقبول ذلك الإيجاب الّذي حصل بعد غياب الموجب ، فافهم.


إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه لا يجب على الحمّامي حفظ ما وضعه السالخ من الثياب ولا ما وجد فيه بل يكون لقطة ، بل يكره أخذها ، بل يكون هو وغيره شرعا في ذلك.

أمّا الأوّل ، فلعدم كون الحمّام كالملك العامّ ، فلم يدخل الثياب تحت يده حتّى يجب عليه الحفظ من باب المعاونة ، فلا يتوجّه دعوى التفريط من المالك إليه ، لو لم يحصل منه إيجاب ك (احفظها) ولا يضمن بترك الحفظ ، فلا يقال : إنّ طرح الثياب عنده إيجاب للوديعة عنده مع سكوته ، ومشاهدته قبول منه ، فيجب عليه الحفظ لما ذكر إن لم نقل بصيرورتها وديعة بذلك ، أي بسبب طرحها في ملكه مع عدم الردّ.

فإن قلت : كما أنّ إلقاء الإزار في الحمّام ردّ للأمانة الّتي وقع إيجابها بالإعطاء أو الطرح ، كذلك إلقاء الثياب عند الحمّامي كاف في الإيجاب ، وسكوت الحمّامي كاف في قبوله.

قلت : إنّ سكوته مع اطّلاعه وعدم مطالبته قرينة على الرضا بذلك وإسقاط لحقّه ، بخلاف السكوت عند نزع الثياب ، فإنّه لا يكفي في ثبوت الحقّ على نفسه وتحقّق القبول منه.

والحاصل ؛ إنّه يكفي عن الإسقاط السكوت مع المشاهدة ، نعم ؛ لو لم يشاهد الإزار حال إلقائه توجّه ضمانه له حتّى يثبت الردّ.


ضابطة في تعيين المنكر والمدّعي

والمشهور في بيان الضابط أنّ المدّعي من خالف قوله الظاهر أو الأصل ، ومقابله المنكر ، فوقعوا من ذلك في موارد اليمين المتّفق عليها فيها لتوجيهها عليها ، في تكلّفات غير مرضيّة ولا محصّلة.

والتحقيق على ما حصّلناه من مواردها والأخبار في ميزان المنكر ، أنّ [المنكر] من وافق قوله الأصل أو الظاهر أو أمارة ، كاليد ، أو قاعدتي الإحسان ، والأمانة ، وتخليد الحبس ، وكون أمر المدّعي أمرا لا يعلم إلّا من قبله ، أو غيرها لتعذّر إقامة البيّنة الشرعيّة (١).

فمثال الأوّل : ما لو ادّعى شخص على أحد دينا.

والثاني : كما لو ادّعى الزوج عدم الدخول والزوجة تدّعيه ، فالقول قولها مع الخلوة التامّة على ما استقر به الشهيد في «اللمعة» (٢) عملا بالظاهر مع ورود الأخبار الدالّة على وجوب المهر بالخلوة التامّة (٣) بحملها على كونه دخل بشهادة الظاهر ، وإن كان الأشهر تقديم قوله مطلقا ترجيحا للأصل ، إلّا أنّ المقصود بيان توجّه اليمين على من وافق قوله الظاهر مع مخالفته للأصل في الجملة.

ومن هذا القبيل : ما لو ادّعى زوجيّة امرأة وادّعت اختها عليه الزوجيّة مع الدخول بالمدّعية فيما لو لم يكن بيّنة لأحدهما ، أو مع تعارض البيّنة مع عدم

__________________

(١) قيل : ويجمع ما ذكرنا تعريف المشهور المدّعي بالّذي يترك لو ترك الخصومة ، والمنكر مقابله ، «منه رحمه‌الله».

(٢) اللمعة الدمشقيّة : ١١٧.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢١ / ٣٢١ الحديث ٢٧١٩١ ، و ٣٢٢ الحديث ٢٧١٩٢ و ٢٧١٩٣.


تقدّم تأريخ بيّنة ، فإنّ الحكم تقديم قول المدّعية بالظاهر على ما هو المشهور ، وما ذكروا في بيان اشتراط تعيين الزوج والزوجة أنّه لو كانت له بنات وزوّجه واحدة وأبهم وعيّن في نفسه واختلفا في المعقود عليها حلف الأب ، إلّا إذا كان الزوج رآهنّ وإلّا بطل العقد (١).

والثالث : كما لو ثبت كون العين مثلا في يد عمرو سابقا مع كونها في الحال في يد زيد ، فإنّ الحكم هو أنّ استصحاب اليد الحاليّة مقدّم على استصحاب اليد القديمة ، فليثبت ذو اليد القديمة غصبيّتها ، سواء قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة ؛ لغلبة كون ذي اليد في مواردها مالكا أو نائبا عنه ، وقلّة اليد الغير المستقلّة بالنسبة إليها ، وأنّ الشارع اعتبرها ـ أي الغلبة ـ تسهيلا على العباد وقد حقّق في الأصول أنّ أدلّة الأمارات حاكمة على أدلّة الاستصحاب وليس تخصيصا ، ولا متخصّصة ولا مخصّصة بها.

أو قلنا بأنّ اليد غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة ، أو كاشفة لكن اعتبارها ليس من باب الكشف بل جعلها في موارد الشكّ تعبّدا لتوقّف الانتظام واستقامة امور العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير إليه قوله في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما بيد المسلمين «ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» (٢).

ولذا لو لم يكن لذي اليد مدّع حكم بها له ويترتّب عليه آثار الملكيّة ، وإن علم سبق ملكيّة الغير.

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٦٨ ، المهذّب لابن البراج : ٢ / ١٩٦ ، المختصر النافع : ١٩٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٢٩٢ الحديث ٣٣٧٨٠ ، مع اختلاف يسير.


نعم ؛ لو اعترف بسبق الملك له انتزعت العين من يده حتّى يثبت الناقل ، وذلك ليس من باب تقديم الاستصحاب على اليد ، بل من جهة أنّه باعترافه بذلك صار مدّعيا والمدّعي منكرا فعليه البيّنة.

ألا ترى أنّه لو لم يعترف بذلك وتمسّك في ملكيّته باليد لم تنقض اليد وإن علم الحاكم سبق يد المدّعي عليه ، فافهم!

وبالجملة ؛ فكون ذي اليد منكرا وتوجّه اليمين عليه مع كون قوله مخالفا للأصل في مورد العلم بسبق ملك الغير ، لمكان اليد ، ولو قيل : إنّ دليل اعتبارها أبطل الأصل السابق فليس هناك أصل حتّى يلزم مخالفة الأصل المعتبر.

ففيه مع أنّه كلام ظاهري إلّا أن يرجع إلى ما حقّقناه من الحكومة ففيه ثبوت المطلوب على أيّ تقدير ؛ إذ هو كون المنكر متوجّها عليه اليمين لوجود اليد ، سواء كان هناك مخالفة أصل أم لم يكن أصل هناك أصلا ، فافهم!

ومن الرابع : تقديم قول الودعيّ في الردّ ، توضيحه : إن أخذه لمجرّد مصلحة الدافع فهو محسن محض ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (١) ، مع أنّ بناء الوديعة على الإخفاء ، ولذا لو لم يشهد في الردّ لم يضمن ، فلو لم يقبل قوله في ذلك لسدّ باب هذا المعروف.

ومن الخامس : تقديم قول الأمين في الأمانات الشرعيّة والمالكيّة في التلف ، مع أنّ الأصل عدمه فإنّ ذلك لمكان الأمانة ، وليس على الأمين ضمان ، فتأمّل.

ومن السادس : تقديم قول الغاصب في التلف مع كون الأصل عدمه ، وذلك لأنّه لو لم يقدّم قوله في دعواه ذلك وكلّف بردّ العين وكان في الواقع صادقا ، لزم

__________________

(١) التوبة (٩) : ٩١.


تخليده في الحبس وكذا في دعوى الإعسار إذا كان الدعوى بغير مال.

ومن السابع : تقديم قول الدائن الّذي عليه دينان مرهون بهما ، أو مرهون بأحدهما دون الآخر ، فدفع إلى المديون أحدهما وأطلق في ما قصده ، وذلك لكون الأمر ممّا لا يعلم إلّا من قبله ، مع كون الأصل خلافه ، وإن كان معارضا بمثله.

وكذا تقديم قول الزوج في ما لو دفع إليها شيئا من جنس مهرها أنّه قصد به مهرها.

وبالجملة ؛ تقديم قول الدافع على الآخذ فيما قصده غير عزيز في أبواب الفقه مع كون الأصل بخلافه وهو أصالة اشتغال ذمّة الدافع فيما لو كان ، وأمّا كون الأصل خلاف ما يدّعيه الدافع فمعارض بمثله دائما ، وكسماع دعوى المعير في دعواه الإعسار لو كان أصل الدعوى بغير مال والقناعة بحلف فتأمّل! مع كون الأصل عدم الإعسار ، فتأمّل!

وأمّا غير المذكورات من أسباب الإنكار فلم يحضرني الآن مثاله كأصالة الصحّة في الأحكام والموضوعات وكتقديم قول المشتري في قدر الثمن لو اختلف هو والشفيع للقهر عليه بإزالة الملك من يده قهرا عليه ، فافهم. وكما في اختلاف المعتق نصيبه من العبد المشترك بينه وبين غيره معه في قيمته.

تذنيب

معنى قوله عليه‌السلام : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (١) إلزام المدّعي

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.


على إقامتها ورخصة المنكر في رفع الاحتمال وسقوط المخاصمة بيمينه ، والسبب في ذلك أنّ المدّعي دائما يدّعي أمرا على خلاف الدليل والمنكر يدّعي أمرا مع دليل أو أمارة أو أصل أو ظاهر يكون حجّة بورود الأخبار على تقديمه لا مطلقا ، ولذا يقدّم الأصل على الظاهر في غير ما ورد من الشرع حجّيته ـ فافهم ـ فالزم المدّعي على دليل رافع لدليل المنكر الظاهري المستند إليه دعواه وقنع من المنكر لاحتمال كون الواقع خلاف ما يقتضيه دليله في الظاهر لو ردّ دليل المدّعى عليه ، ولذا يقدّم قوله مع البيّنة بلا إشكال ، مع كون المنكر مستندا إلى دليل.

فلو أقام المنكر بيّنة سمع منه ، ولذا ذكر في «الدروس» أنّه لو التمس ذو اليد من الحاكم أن يستمع لشهوده للتسجيل جاز له ذلك ، وإن لم يكن هناك مدّع بالفعل (١).

وبالجملة ؛ معنى الرواية : أنّ من كان معه أصل ـ أي دليل اجتهادي أو فقاهتي ـ سواء كان دليلا لفظيّا أو غيره ، أو كان قوله حجّة لحكم الشارع بها ، أو استلزم سماع دعوى مقابله محذورا ، كتخليد الحبس في باب الغصب وغيره ، أو عدم إمكان صدق دعواه ، كما لو كان المدّعى به أمرا لا يعلم إلّا من قبل الفاعل ولم يدّع إقراره بما يدّعيه من قصده (٢).

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ٢ / ٧٧.

(٢) هنا بياض في الأصل.


التنازع بين الوكيل والموكّل

قال المحقّق في «المختصر النافع» : ولو تنازعا في الاستيجار فالقول قول المنكر مع يمينه (١).

أقول : إمّا أن يكون النزاع قبل استيفاء شي‌ء من المنفعة أو بعده أو بعد استيفاء الجميع ، وفي كلّ من التقادير إمّا أن يكون المدّعي المالك أو المستأجر ، ويتصوّر النزاع في كلّ من الصور الستّ ، أمّا لو كان المدّعي المالك فقبل الاستيفاء يدّعي استحقاق الاجرة بانتقال المنفعة إليه ، فهنا إذا حلف ، حكم بانفساخها ظاهرا ويتصرّف فيها قصاصا ، إلّا أنّها لو كانت اجرة مثلها أزيد من المسمّى وجب عليه ـ لو كان صادقا ـ أن يدسّ الزائد في مال المستأجر ، وإن كانت الاجرة أنقص من المسمّى فله أخذ الناقص متى تمكّن مقاصّة ، هذا على القول بالانفساخ ظاهرا.

لكنّ التحقيق هو الانفساخ واقعا ، كما سيجي‌ء.

وإن كان بعد استيفائها أجمع فكذلك المالك يدّعي الاجرة والمستأجر ينفيها ، فإن ادّعى مع ذلك جواز تصرّفه فيها مجّانا إمّا عارية أو غيرها ، بأن كان جوابه لدعوى المالك أنّها عارية أو سكنى ، ونعني بها الجائزة لا اللازمة فإنّها مورد التحالف ، كما لا يخفى.

فقد قيل : إنّ المشهور بعد حلفه سقوط الاجرة ، لأصالة براءة ذمّته ، كما هو ظاهر إطلاقهم لحلف الراكب وسقوط الاجرة فيما لو قال الراكب : أعرتنيها ، وقال

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٧.


المالك : آجرتكها (١).

وقيل في مثل المقام كالمثال المفروض في كلماتهم : بل يحلف المالك ، لأنّ المنافع أموال كالأعيان ، فهي بالأصالة للمالك ، فادّعاء غيره لها بغير عوض على خلاف الأصل (٢) ، فيوجّه الحلف عليه في عدم إذنه للتصرّف والاستيفاء وعدم الانتقال إليه مجّانا ـ مثلا ـ فافهم.

وقوّاه الشهيد الأوّل مع إثباته له اجرة المثل إلّا أن تزيد على ما ادّعاه (٣).

وفيه نظر ؛ إذ النزاع في السبب وهو الإجارة والعارية ، ويتفرّع على كلّ منهما أثر شرعيّ ، فأصالة العدم جارية بالنسبة إلى كلّ منهما إلّا أنّ أصالة عدم العارية الّتي هي مع المالك لا يترتّب عليه أثر إلّا بعد ثبوت الإجارة ، أو تكون المنفعة مالا محترما لمالك العين ، كما قرّره الشهيد الثاني في وجه تقوية الشهيد الأوّل (٤) ، وهذا أصل مثبت غير معتبر عند أكثر الاصوليّين ، كما هو المحقّق في محلّه.

وأمّا أصالة عدم الإجارة الّتي مع المنكر للإجارة فالأثر المترتّب عليها بلا واسطة وهو عدم الضمان لها ، إلّا أن يقال : إنّ مجرّد نفي الإجارة لا يستلزم نفيه ، إلّا أن يثبت كونها مجّانا وهو غير معلوم ، بل المعلوم هنا خلافه ، لاستيفائها مع كونها للمالك وأصالة البراءة مورودة بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي ، وهو أصالة ضمان الأموال الّتي منها المنافع.

__________________

(١) الخلاف : ٣ / ٣٨٨ المسألة ٢.

(٢) مسالك الإفهام : ٥ / ١٦٤ ، الروضة البهيّة : ٤ / ٢٦٩.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ٩١.

(٤) الروضة البهيّة : ٤ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.


أو يقال بأنّ الأصل المثبت معتبر عند المشهور ، كما يظهر من فروعهم المذكورة في أبواب الفقه في آخرها في مسألة التنازع.

أو يقال بأنّ الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفيّة فلا شبهة في اعتبارها ، والواسطة بين أصالة عدم العارية والضمان خفيّة ، فتأمّل!

والحاصل ؛ أنّ الأصلين متماثلان ، لكونهما أصلين مثبتين إمّا معتبرين أو غير معتبرين ، فيتساقطان ، فيرجع إلى الأصل الموجود في المقام إن لم يكن دليل فيه ، وإلّا فهو المرجع ، كما في ما نحن فيه ، فيتمّ كلام الشهيد ومن تابعه.

وظنّي أنّ مراد المشهور من إطلاقهم لتلك المسألة إنّما هو صورة عدم استيفاء المنفعة أو بعد استيفاء شي‌ء منها ، لكن بالنسبة إلى ما بعد ، لا بالنسبة إلى ما قبل ، فتأمّل جيّدا!

وإن لم يكن جواب المستأجر ما يوجب المجانيّة توجّه اليمين عليه ويحكم بعدم وقوع العقد ، فإن كان قبض اجرة المسمّى المتعيّنة وجب عليه ردّها إن كان مغايرا لاجرة المثل ، لأنّ اليمين ذهبت بما فيه وطالبه اجرة المثل ، وإن كان من جنسه لزم المالك أخذه إن أذن له المستأجر أو لم يكن قبضها فدفعها إليه ، وإن لم يقبضها جاز له التصرّف فيه مقاصّة.

ومن هاتين الصورتين يتّضح حكم الصورة الثالثة ، وهو ما لو كان النزاع في الأثناء ، فبالنسبة إلى المدّة الماضية يأتي حكم الصورة الثانية ، وبالنسبة إلى المدّة الباقية يأتي حكم الاولى ، ولكن بحلف واحد يستحقّ اجرة مثل المدّة الماضية وينفسخ بالنسبة إلى الباقية.

ولو كان المدّعي المستأجر وكان قبل الاستيفاء كان مقصوده المنفعة فإذا


حلف المؤجر رجعت الأجرة إلى المستأجر ، فيتصرّف فيها مقاصّة.

فإن قلت : إنّ المقاصّة بعد اليمين غير جائزة لذهابها بما فيها.

قلت : ليس هذه المقاصّة من الّتي تحرم بعدها ، إذ ليس الواجب بعد الحلف ولا وجوب التصديق وترتيب آثار الصدق عليه ، فإذا حلف المديون على عدم اشتغال ذمّته لزيد مثلا ، فلا يجوز له المقاصّة والأخذ من مال المديون لوجوب تصديقه المنافي لذلك ، وأخذ المستأجر الاجرة لا ينافي صدق المؤجر الحالف على عدم استحقاق المستأجر للمنفعة ، وإن كان بعد استيفاء المنفعة.

فإن أنكر المؤجر لادّعائه اجرة المثل ، وذلك حيث أنكر الإذن في التصرّف فتوجّه الدعوى ظاهر ، وإن اعترف بالإذن فإن لم يترتّب على الدعوى أثر ، مثل أن يقول المالك : أعرتكها ، فيقول المستأجر : بل آجرتنيها ، لم يسمع الدعوى ، لعدم كونها ملزمة لشي‌ء ، وإن ترتّب عليها أثر مثل أن كانت الإجارة مشروطة في عقد لازم على المستأجر ، فيقول المستأجر : وفيت بالشرط ، فينكره المؤجر ، فمقصود المستأجر عدم ثبوت الخيار للمؤجر وهو يثبته.

ولذا لو كان النزاع بعد انقضاء مدّة ، لكن المنفعة غير مستوفاة للمستأجر وكانت العين في تلك المدّة في يده توجّهت الدعوى أيضا مع اعترافه بالإذن إن رتّب عليها أثر ، مثل أن كان جواب المؤجر كونها سكنى وقد شرطت تلك على المؤجر في عقد لازم ، فيقول المستأجر : ما وفيت بشرطك فلي الخيار ، لكون العين مستأجرة ، فيقول المؤجر : كانت هي سكنى فلا خيار.

ومن الصورتين يعلم حكم النزاع بعد استيفاء شي‌ء من المنفعة ، فليتأمّل!

لكن ليعلم أنّ انفساخ العقد بعد الحلف لو كان هنا في الواقع من أيّ سبب


هو أواقعي أم ظاهري ، والّذي ينبغي أن يقال ـ وهو المستظهر من كلماتهم والمصرّح من بعضهم (١) ـ هو الانفساخ الواقعي ، وذلك لتنزّل تعذّر العوض بعد الحلف منزلة التلف ، بل التعذّر الشرعي أقوى من التعذّر الواقعي ، فينفسخ العقد.

وقيل : بل يتخيّر غير الحالف ، لتعذّر تسليم العوض بالحلف بين الفسخ والإمضاء (٢) ، وعلى هذا يتوجّه جميع ما سبق من وجوب الدسّ وجواز المقاصّة في صورة الزيادة والنقيصة لو لم يفسخ.

وأمّا لو فسخ ـ أو قلنا بالانفساخ ـ فمقتضاهما رجوع كلّ عوض إلى مالكه.

ثمّ اعلم! أنّ الإنكار في باب الوديعة والأمانة موجب للضمان ، لكون المنكر به خائنا ، فلا يسمع دعواه بعد ذلك التلف أو الردّ ، لكنّه إذا كان متعلّق الإنكار موضوع الأمانة ، بأن يقول : ليس عندي شي‌ء وأمّا إن كان متعلّقه الأمانيّة فليس الإنكار موجبا لضمانه ، ولذا لو أنكر الإجارة لم يضمن ؛ لإنكاره الأمانيّة الثابتة بالإجارة لا نفس العين المستأجرة.

ثمّ إنّه في جميع صور إنكار المالك للإجارة والإذن تكون العين مضمونة لعموم «على اليد» (٣) من غير استيمان من المالك أو غيره.

وفي جميع صور إنكار المستأجر وادّعاء المؤجر لها لا يحكم بضمانها ، لاعتراف المالك بكونها أمانة ، إلّا أن يدّعي إجارة مضمونة ، وقلنا بصحّتها ـ كما

__________________

(١) المهذّب لابن البرّاج : ١ / ٤٧٤.

(٢) جواهر الكلام : ٢٧ / ٢٠٦.

(٣) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، و ٣٨٩ الحديث ٢٢ ، و ٢ / ٣٤٥ الحديث ١٠ ، و ٣ / ٢٤٦ الحديث ٢ ، و ٢٥١ الحديث ٣.


اختارها السيّد صاحب «الرياض» (١) ـ فتكون أيضا مضمونة.

واعلم أيضا! أنّ الحكم بالانفساخ في الصور الممكن فيها ذلك بعد الحلف أو التحالف ؛ لتعذّر تسلّم العوض إنّما هو في ما إذا كان النزاع قبل الاستيفاء لا بعده ، فإنّ الانفساخ بالنسبة إلى المدّة الماضية المستوفاة غير متصوّر ، ولذا لو كانت الاجرة المسمّاة المدّعى بها معيّنة لم ترجع بعد الحلف إلى المستأجر ، ولم يحكم أحد بذلك ، بل أجروا عليها حكم مجهول المالك مع ثبوت اجرة المثل عليه للمنافع ولدخولها تحتها بتبعيّة العين ـ فتأمّل! ـ ولقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» (٢) ، فكما أنّ المنفعة كانت مضمونة على المستأجر لو كانت الإجارة صحيحة وإن لم يستوفها ، كذلك مضمونة عليه مع فسادها.

هذا لو قلنا بأنّ تلك القاعدة من باب الإقدام ، كما يستظهر من الشيخ رحمه‌الله (٣).

وأمّا إن قلنا بها من باب اليد أو احترام الأموال ـ كما هو الظاهر المبيّن في محلّه ـ فالدليل هو عموم «على اليد» (٤) إن قلنا بشمولها للمنافع ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» (٥) بناء على صدق المال على المنفعة ، كما هو الأقوى.

فإن قيل : إنّ المنافع المستوفاة في البيع الفاسد لقاعدة «على اليد» (٦) أو الإتلاف ، وفي الإجارة الفاسدة مضمونة لقاعدة الإتلاف ، بل ولو فرض عدم

__________________

(١) رياض المسائل : ٦ / ١٨.

(٢) المكاسب : ٣ / ١٨٢.

(٣) المبسوط : ٣ / ٦٥.

(٤) مرّ آنفا.

(٥) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٨ ، مع اختلاف يسير.

(٦) مرّ آنفا.


ثبوت اليد على العين الموجبة لضمانها فلو لم يجر فيها قاعدة «ما يضمن» (١) سواء قلنا بها من باب اليد أو من باب الإقدام كفى في ضمانها قاعدة الإتلاف.

لكن المنافع الغير المستوفاة في المبيع داخلة في ما لا يضمن لو قلنا بها من باب الإقدام أو من باب اليد. فلو قلنا بعدم ضمانها هناك ينبغي القول به هنا أيضا.

قلنا : المنفعة هنا نفسها مورد للإجارة ، فلا يتوهّم كونها ممّا لا يضمن ، فهي كنفس العين في باب البيع.

وأمّا حكم الإجارة الواقعة على عمل الحرّ فاسدة ، فإن استوفاها المستأجر [وكان المؤجر والمستأجر] عالمين [بالفساد] أو جاهلين ـ كما في الصورة السابقة من الإجارة الفاسدة ـ فلا إشكال في ضمان ذلك العمل الواقع في الخارج بأمر المستأجر ، والأمر بالعمل من جملة الأسباب المقتضية لضمانه ، لاحترام عمل المسلم بناء على كون الأمر المستفاد من لفظ الإجارة الفاسدة لم يحصل من غيره ـ سابقا عليه أو لاحقا ـ كافيا في تحقّق السبب وإن بطلت الإجارة.

كما قالوا في عدم بطلان الإذن في الوكالة الباطلة ببطلانها (٢) ، فيستحقّ اجرة المثل لو جعل فيها أجر وترتّب عليه جميع تصرّفاته الموقوفة على الإذن.

مع أنّ قاعدة «ما يضمن» جارية في أمثال المقام ، إلّا أنّه لو قلنا بالضمان

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٢ / ١١٤ ط. ق ، جامع المقاصد : ٨ / ١٨١ ، الروضة البهيّة : ٤ / ٣٦٩ ، مسالك الإفهام : ٥ / ٢٤٠.


في الفاسد من باب اليد ، فهنا في فاسده هو الأمر ، وأمّا لو قلنا بها من باب الإقدام ، فلا فرق بين هذا وما سبق ، فافهم! وحيث قد حقّقنا سابقا أنّ أسباب الضمان منحصرة في الثلاثة : اليد والمباشرة والتسبيب ، ودليل اليد مطلق ، وكذا دليل المباشرة بقاعدة «من أتلف» (١) المجمع عليها الواردة في مواردها الجزئيّة الأخبار المتكثّرة ، مثل تغريم شاهد الزور (٢) وغيره (٣) [والمسبّب] وإن كان سببا إلّا أنّ دليل السبب هو دليل المباشرة ، حيث إنّ السبب ما لم يضعف ، المباشر بإكراهه أو غروره لا يضمن ، لعدم صدق المتلف عليه حقيقة ، فقد ظهر دليل ضمان السبب في مورده.

ثمّ لا فرق في الغرور بين كون الغارّ عالما أو جاهلا ، ولذا حكموا بوجوب الدية على الشهود لو رجعوا بعد الحكم والاستيفاء ، بأن قالوا : أخطأنا في الشهادة (٤) ، وكذا في صورة اغترام المشتري بالبيع الفضولي للمالك مع جهله أطلقوا الحكم بجواز رجوعه على البائع ، لقاعدة الغرور (٥).

نعم ؛ يجب كون ما يوجب غروره ممّا يجوز للمغرور ترتّب الأثر عليه ، مثل أن كان ـ في البيع الفضولي ـ البائع ذا اليد للمبيع ، سواء سكت أو ادّعى إذنه من المالك ، والسرّ في ذلك ما كرّرناه في تضاعيف تحريراتنا من أنّ هذه القاعدة مجعولة من الشارع لتدارك الحكم الضرري الناشئ منه ، فحيث جعل قول ذي

__________________

(١) انظر! جواهر الكلام : ٢٧ / ٢٤٦ ، القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨ و ٢٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٢٧ الباب ١١ من أبواب كتاب الشهادات.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٨٩ الباب ٦ و ٧ من أبواب كتاب الرهن.

(٤) المبسوط : ٨ / ٢٤٦ ، شرائع الإسلام : ٤ / ١٤٣ ، اللمعة الدمشقيّة : ٥٦ ، مسالك الإفهام : ١٤ / ٣٠٠.

(٥) انظر! المكاسب : ٣ / ٢٩٢ و ٤٩٣.


اليد حجّة فلو تضرّر منه تداركه بأن حكم برجوعه عليه.

وكما في ضمان الطبيب الحاذق حيث إنّه لو لم يكن حاذقا لا يضمن ما ترتّب على قوله ، لعدم جعله حجّة ، فلم يحصل التضرّر من الشارع ، بل إنّما حصل لسوء اختيار المكلّف حيث عمل بقوله.

وأنت إذا راجعت موارد هذه القاعدة تجد صدق قولنا في الإطلاق ، وكذا السرّ الّذي استنبطناه من موارد الحكم.

والحاصل ؛ أنّ الغارّ سبب للإتلاف فهو المتلف حقيقة لضعف المباشر.

وقد خرجنا بطول الكلام عمّا قصدناه فلنرجع إليه ، فنقول : إنّ الأمر بالعمل ممّا جعله الشارع سببا لضمان العمل دون الأعيان ، إلّا في مثل مسألة : ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، لمسيس الحاجة ، لعدم صحّة ضمان ما لم يجب ، وإنّما الكلام في صورة بذل العين المتعلّقة بها المنفعة المطلقة أو المقيّدة بوقت معيّن وعدم قبض المستأجر لها ، وفي صورة وقوع الإجارة على عمل الحرّ فبذل نفسه له ولم يستوفها ، ولا بدّ من تأسيس أصل في باب الضمانات لكونه هو المعوّل في مواردها.

فنقول : أسباب الضمان في الأعيان ثلاثة : اليد ، والمباشرة ، والتسبيب.

وأمّا الضمان العقدي فليس فيه سبب إلّا اليد إلّا أنّ العقد مشخّص للمضمون والمتدارك به ، ولذا لا يثبت الضمان في القرض إلّا بالقبض إجماعا ، وكذا يكون الضمان عوضا في البيع ونحوه من العقود المعاوضيّة ، بل العقود الشبيهة بالمعاوضة مثل النكاح والخلع بالنسبة إلى العوض المسمّى على من انتقل عنه مع حصول العقد الموجب لكون الضمان على من انتقل إليه.


وليس ذلك إلّا لكون يده يد ضمان والعقد إن عيّن المضمون به وهو البدل الّذي تواطأ عليه المتعاقدان وأمضاه الشارع ، ولولاه لكان المضمون به ما عيّنه الشارع في موارد الضمانات على وجه الكليّة.

وأمّا المباشرة فهو الإتلاف.

وأمّا التسبيب ؛ فإن كان بحيث يوجب استناد الإتلاف شرعا أو عرفا إلى السبب ، بأن لم يكن هناك مباشر ، أو كان ولكنّه معذور إمّا لكونه مكرها أو جاهلا ، فالضمان عليه ، وإن لم يكن كذلك كان الضمان على المباشر إن كان ، وإلّا فلا يكون الضمان على أحد ، وأمّا عقد الضمان فلكون الضامن سببا لسقوط حقّ المضمون عنه ، ولذا لو لم يكن حقّه موجودا في زمان العقد بطل العقد.

نعم ؛ قد يجب في بعض الموارد تداركه من الشارع إمّا من بيت المال أو من غيره ، كما لو حفر بئرا في ملكه فوقع فيه غيره من غير مباشرة من أحد.

وأمّا أسباب الضمان في المنافع والأوصاف أيضا ثلاثة : اليد ، إذا دخل متعلّقها تحت اليد ، فتدخل المنافع والأوصاف تحتها بتبعها ، والمباشرة ، والتسبيب.

وقد تتصوّر اليد في الأوصاف إذا لم تكن اليد بالنسبة إلى متعلّقها غصبا ، كما إذا كانت العين لشخص والوصف لآخر فتصرّف فيها صاحبها من دون إذن صاحب الوصف ، وإن كان قد يتصوّر مثل هذا في المنفعة ، كما إذا امتنع المؤجر من قبض العين المستأجرة لكنّها بالسبب أشبه.

ولذا قيل فيها بالخيار ، ومن قال بالبطلان نظر إلى كون المنفعة متلفة تحت يده الضامنة ، نظير تلف المبيع قبل قبضه مع امتناع البائع من قبضه.

وأمّا المباشرة فالمراد منها في المنافع هو الاستيفاء وفي الأوصاف


الإتلاف كالأعيان والأعمال ، وسبب ضمان المنافع فيما إذا كان هناك يد هو اليد ، وإن كان ذو اليد العادية سببا في التلف أيضا ، وكذا في الأوصاف.

وأمّا إذا لم يكن هناك يد فالسبب هو الإتلاف ، ودليله هو قاعدة «من أتلف مال غيره» (١) الشامل للمنافع والأوصاف.

وأمّا التسبيب ؛ فإن كان بحيث يصدق على السبب أنّه متلف صحّ الضمان وإلّا فلا.

والكلام في ضمانها بالعقد ، كما ذكر في الأعيان ، وأمّا الأعمال فسبب الضمان إمّا المباشرة والاستيفاء أو التسبيب ، ولا يتصوّر اليد هنا ، لعدم دخولها تحتها لا أصالة ولا تبعا ، لأنّها صادرة من الحرّ وهو لا يدخل تحت اليد.

وأمّا عمل العبد ؛ فداخل تحت المنافع ، ويكفي في السبب الأمر ، بل الإذن كاف في السبب ، والسرّ في ذلك أنّ احترام عمل المسلم أوجب ضمانها إذا لم يقصد التبرّع أو لم يكن ذلك العمل بغير إذن المعمول له.

ثمّ لا فرق في كفاية الإذن بالعمل في السببيّة بين استيفائه له ، كما لو كشف رأسه بين يدي الحلّاق فحلق رأسه ، وبين عدم استيفائها ، كما لو كشف رأس غيره بين يدي الحلّاق فحلق ، ولا بين أن يكون العمل راجعا إلى السبب أم لا يرجع إليه بعد كون العمل ممّا له اجرة في العادة.

نعم ؛ لو رجع إلى نفس العامل فقط بحيث لا يرجع نفع إلى السبب أصلا لا يوجب الضمان ، حتّى لو أمر ، لعدم صدق الإتلاف الموجب لذهابه من كيسه المنافي لاحترامه كاحترام ماله ودمه ، كما لو أمره ببناء دار العامل.

__________________

(١) انظر! جواهر الكلام : ٢٧ / ٢٤٦ ، القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨ و ٢٩.


ومن هنا يظهر وجه حكم المحقّق والشيخ في المسابقة الفاسدة ـ والمشهور في المضاربة الفاسدة ـ اجرة المثل للسابق والعامل (١).

ويظهر أيضا فساد ما أورده الشهيد الثاني هناك بأنّ الحكم في المضاربة موجّه لحصول الأمر من المالك بالعمل فيها (٢) ، بخلاف المسابقة ، إذ لم يحصل من المسبوق إلّا العقد المتضمّن للعوض الغير السالم من غير أمر.

وذلك لما قلنا من كفاية الإذن في ضمان الأعمال ، وإن كان غير راجع نفعها إلى الضامن بعد صدق ذهاب العمل من كيس المضمون ، والمفروض في ما نحن فيه كذلك ، بخلاف ما لو أذن أو أمر غيره ببناء داره ، فإنّ مقابل عمله أمر موجود قابل للمالية ، فتأمّل جيّدا!

تنبيه :

لا يجوز إسقاط الضمان ما لم يكن مستقرّا فلا يجوز إسقاط ضمان اليد لكونه تعليقيّا ، وتوهّم كون متعلّقها هو الضمان التعليقي أيضا فاسد ، إذ ليس هناك أمر ثابت يسقطه ، إذ ليس حق ماليّ ، ولذا لا يجوز المعاوضة عليه ، بل حكم شرعيّ ، ولذا قلنا بعدم جواز اشتراط هذا النوع من الضمان في العقود كالإجارة ونحوها بحيث يكون الضمان من جهة الشرط.

فإن قلت : لعلّ عدم جواز إسقاطه عدم فائدته تعدّد سببه بعد الإسقاط ، نظير تملّك الابن الأب الكافر بعد السبي.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢٤٠ ، و ١٤٣ ، المبسوط : ٦ / ٣٠٢ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٤٢٨.

(٢) الروضة البهيّة : ٤ / ٢١٣.


قلت : بل لو فرض في مورد لا يكون اليد المتجدّدة يد ضمان ، كما لو أسقطه بعد إرهانه فيما لو كان الرهن بيد المرتهن قبله عدوانا.

هذا ؛ والتحقيق هناك أن يقال : إن قلنا بانقلاب اليد بعد الرهن يد أمانة فيسقط الضمان التعليقي بنفس العقد ، وإلّا فلا يثمر الإسقاط السبب آنا فآنا ، فتأمّل!

كما حكم بذلك المحقّق والعلّامة أي بصحّة الرهن مع إبقاء الضمان (١) ، فإذا تحقّقت هذه المذكورات فنقول : لا شبهة في عدم ضمان العمل الغير المتلف المستوفى بالإجارة الفاسدة ، سواء كانت متشخّصة بالوقت أو بغيره ، لما عرفت من أنّ سبب ضمان الأعمال إمّا الاستيفاء وليس ، وإمّا الأمر ، وإن كان هناك إلّا الأمر الغير المتعقّب بالعمل لا يوجب الضمان.

نعم ؛ لو فرض في المتشخّص بالوقت اعتقاد المستأجر له ؛ كان له وجه ، لكنّه ضعيف في غايته.

فروع :

بقي الكلام في بعض فروع الإجارة الفاسدة.

منها : ما ذكره بعض (٢) ، واستشكله آخر كالعلّامة (٣) ، من أنّه لو كانت الاجرة أنقص من اجرة المثل ، فإنّ إقدام المؤجر على الأقلّ مع علمه بالفساد إسقاط للضمان بالنسبة إلى الزائد.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٨٢ ، مختلف الشيعة : ٥ / ٤٢٥.

(٢) جامع المقاصد : ٧ / ٢٨٨ ـ ٢٩١.

(٣) قواعد الأحكام : ١ / ٢٣٦ ط. ق.


وبعبارة اخرى : المستأجر إن كان جاهلا فهو مغرور بالنسبة إلى الزائد من المسمّى عن اجرة المثل ، كما يرجع المشتري المغرور المغترم للقيمة للمالك على البائع الفضولي بالزائد منها عن الثمن ، وإن كان عالما فالمؤجر العالم قد أقدم على عدم الضمان بالنسبة إلى الزائد.

وفيه ؛ أنّ علمه بذلك يشبه بالوعد لبذل الزائد من اجرة المثل عن المسمّاة ، وليس الغرور هنا متصوّر لاستناده إلى جهله لا إلى المؤجر ، كذا قيل (١).

ولكن التحقيق أن يقال : إنّ العالم بالفساد في المعاملة مقدم على أن يكون المال مضمونا على الآخر ، وكذا الآخر مقدم على ذلك قاصدا ، جاهلا كان أو عالما ، وتواطئا على أن يكون المضمون والمتدارك به هو المسمّى ، فقد أقدما على الضمان فإن أمضى الشارع ما تواطئا عليه من المضمون به فهو ، وإلّا رجع إلى المضمون به العامّ الثابت في موارد الضمانات.

وأمّا مسألة الغرور ؛ فقد حرّرنا في تضاعيف كلماتنا مرارا أنّ هذه القاعدة مجعولة من الشارع ، لتدارك الحكم الضرري الناشئ منه مع كون الغارّ سببا لتضرّره بحيث يستند الفعل إليه ، مع كون المباشر غيره ، سواء علم الغارّ أو لم يعلم ، فلو فرض كون السبب هو الجهل مع عدم العذر من الشارع فلا معنى لرجوع المغرور على الغارّ ، مثلا إذا جعل اليد حجّة في سماع قول ذيها فالمشتري الجاهل إذا اشترى من ذي اليد شيئا وتبيّن فساده باستحقاقه للغير ، أو بإخباره بأنّه خلّ ـ مثلا ـ فبان خمرا ، فالجاهل المغرور يرجع على البائع بغروره ، سواء كان عالما أو جاهلا ، إذ لا مدخليّة للعلم والجهل في سببيّة الضمان.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٠٥.


وفي مسألة الإجارة جهل المستأجر بالفساد سبب لتضرّره من غير استناد إلى المؤجر لعدم كونه معذورا.

فتبيّن من هذا التحقيق أن لا غرور في مثل المقام من المؤجر ، وقاعدة «ما يضمن» جارية في المقام ، لوجود الإقدام على الضمان.

وأمّا التواطؤ على المضمون به فلم يسلّم لهما ، ولم يكن له دخل في القاعدة ، ولذا قلنا : إنّ القاعدة ليس فيها تفكيك بالنسبة إلى جزأي القضيّة ، حيث إنّ المضمون به في الجزء الأوّل هو المسمّى ، والمضمون به في الآخر هو المثل ، وذلك لأنّ المراد أن يكون في صحيحه ضمان يكون في فساده أيضا ضمان من غير تعرّض للمضمون به فيها.

والحاصل ؛ أنّ الإقدام على الضمان في الصحيح ثابت في الفاسد فالتلازم في الشرطيّة بسبب معلوليّة الطرفين لأمر ثالث وهو الإقدام ، ونظير ذلك في البيع ما لو باع المالك بالبيع الفاسد بأقلّ من ثمن المثل ، فإنّه يرجع به لا بالمسمّى ، وأمّا البائع الفضولي إذا وقع العقد أوجب الضمان صحيحا أو فاسدا بالنسبة إلى المالك ، فلذا لا يرجع المشتري على البائع مع عدم الإجازة وتلف العين بقدر المسمّى من ثمن المثل الّذي دفعه إلى المالك ؛ لإقدامه على الضمان ، مع أنّ الرجوع إلى الزائد عن ثمن المثل محلّ كلام ، لما ذكرنا من إقدامه على الضمان للمالك ودفعه المسمّى إلى البائع بتوهّم كونه مالكا ، وذكر غير واحد من الجماعة كالكركيّ (١) والشهيد الأوّل في محكي حواشيه (٢) والشهيد الثاني (٣) بعدم ضمان

__________________

(١) جامع المقاصد : ٧ / ٢٩٠ و ٢٩١.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) مسالك الإفهام : ٥ / ١٨٣ و ١٨٤.


المستأجر باجرة المثل للمؤجر العالم بالفساد من حيث اشتراط عدم الاجرة ، واستحسنه السيّد صاحب «الرياض» (١).

فإن قلت : إنّهم ذكروا أنّ المشتري لو كان عالما بالاستحقاق وأنّ البائع غاصب ودفع الثمن إليه ، لا يرجع به عليه مع التلف إجماعا ، كما في «التذكرة» (٢) وإن استبعده في صورة توقّع الإجازة الشهيد في «اللمعة» (٣) ، فقاعدة «ما يضمن» جارية بالنسبة إليه.

وتوهّم المشتري كونه البائع غير قادح في ذلك ، فافهم! مع عدم التلف على قول (٤) ، وذكروا في بيع غير المملوك مع علم المشتري بذلك كالخمر والخنزير أنّ له الرجوع على البائع بالثمن عالما كان أو جاهلا تالفا كان الثمن أم باقيا (٥) ، فما الفرق بين المقامين؟ مع أنّه لعلمه بذلك سلّطه على التلف ودفعه مجّانا ، ضرورة لغويّة قصده إلى العوض ، ولذا حكم الشهيد في محكيّ الحواشي المنسوبة إليه في حكم المشهور بتبعّض الصفقة وتقسيط الثمن في بيع ما يقبل الملك وما لا يقبله ، بأنّ هذا الحكم مقيّد بجهل المشتري بعين المبيع وحكمه ، وإلّا لكان البدل بإزاء المملوك ، ضرورة أنّ القصد إلى الممتنع كلا قصد (٦).

قلت : إنّ المشتري في بيع الفضولي أقدم على ضمانين : للمالك الواقعي

__________________

(١) رياض المسائل : ٦ / ٣٩.

(٢) تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٣ ط. ق.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ٦٢.

(٤) رياض المسائل : ٦ / ٤٠.

(٥) لاحظ! مسالك الإفهام : ٣ / ١٦٣.

(٦) نسب القول إلى البعض في جواهر الكلام : ٢٢ / ٣١٥.


وللمالك الجعلي الّذي تبانيا عليه ، وهو الغاصب ، فدفعه الثمن إليه لذلك هبة وتسليط منه له على الثمن ، فكأنّه قال : اشتريته بهذا الثمن فتصرّف فيه إن أجازه المالك ، وإلّا فعليّ ضمانه وإن حرم عليه أكله ، لكونه خبيثا حيث إنّ كلّ مال دفع إلى شخص لداع محرّم ، فإنّه حرام أكله خبيث غير مضمون ، كالطعام الّذي يطعمه الزاني للزانية ، فإنّه حرام عليها أكله ، لكن غير مضمون عليها ، ففي الحقيقة لم يقدم المشتري على أن يكون الثمن مضمونا عليه إلّا في صورة إجازة المالك للبيع والقبض ، بل أقدم على كونه مجّانا له في غير الصورة المذكورة.

وأمّا في مسألة بيع الخمر أقدما على الضمان بهذا الشي‌ء الّذي جعلاها مملوكا وتبانيا على كونها مضمونا أيضا ، فلم يدفع المشتري العالم الثمن مجّانا بل بإزاء هذا المملوك الجعلي فلم يحصل منه استيمان وإباحة مجانيّة ، فلا مقتضي لسقوط الضمان الثابت باليد ، إذ لا مانع هنا ، كما كان في المسألة السابقة وهو إقدام المشتري على أن يكون له مجّانا ، وهذه القاعدة جارية في جميع العقود الفاسدة المعاوضيّة الموجبة للإعطاء على وجه الضمان ، فاجرة الزانية مضمونة ، والرشوة مضمونة ، ومطعوم الحاكم لداعي الحكم حرام خبيث غير مضمون.

ففي القسم الأوّل وقع العقد مع المالك والمضمون له الجعلي الّذي جعلاه كذلك ، وفي الثاني وقع العقد على المملوك والمضمون الجعلي ، فدقّق النظر.

فلو آجر الفضولي مع علم المستأجر ودفع الاجرة ، فلا يجوز له الرجوع مع التلف ، لعين ما مرّ في البيع مع كون الموجر ذا اليد للعين المستأجرة ، ولو آجر مع عمله بالفساد وعلم المستأجر أيضا بالفساد لم يكن الموجر متبرّعا بالمنفعة


ولا المستأجر واهبا بالنسبة إلى دفع الاجرة ؛ لإقدامهما على ضمان كلّ من المنفعة والاجرة بمضمون جعلي غير سالم ممضيّ من الشارع ، إمّا لعدم قابلية أحد الطرفين للعقد ، أو لعدم تحقّق شرائط العوضين ، أو لعدم تحقّق شرائط العقد كالعربيّة والصراحة فلم يقدم على عدم الضمان حقيقة.

نعم ؛ يشترط في ضمان الإجارة الفاسدة بالاستيفاء ـ لو كان علّة الفساد عدم قابليّة أحد الطرفين ـ أن لا يكون بحيث يستند التلف إلى المؤجر كأن يكون غير بالغ ، بحيث يكون هو آلة في الاستيفاء ، فتأمّل! ولا يكون العقد إذا كان جهة فساده عدم تحقّق شرائط العقد مع وجوب سائر الشرائط معاطاة بالتسليم ، كما توهّم (١) ، لأنّه فرق بين هذا التسليم وبين تسليم المعاطاة ، حيث إنّ التسليم في المعاطاة إنشاء فعليّ دالّ على الرضا وتمليك فعلي.

وأمّا التسليم هنا ؛ فهو على أنّه ملك للمستأجر ولو جعلا ، فلم يصدر عن المالك إنشاء فعليّ أو قوليّ صحيح.

ولذا لم يفصّل أحد في البيع الفاسد بين ما يكون من هذا القسم وبين غيره ، [و] يكون البيع على القسم الأوّل معاطاة دون الثاني.

فقد ظهر من تحقيقاتنا في بيان مراد المشهور ضعف تقوية الشهيد الثاني القول بجواز رجوع المشتري بالثمن ، باقيا كان أو تالفا ، إن لم يثبت الإجماع على خلافه متعجّبا من تحريم تصرّفه على البائع ؛ لأنّه أكل مال بالباطل مع عدم رجوع المشتري عليه لما ذكر في دفع المال لداع محرّم كمطعوم الزانية (٢) ، وكذا

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) الروضة البهيّة : ٤ / ٣٤٠ و ٣٤١ ، مسالك الإفهام : ٥ / ١٨٦.


ضعف استبعاد الشهيد الأوّل مع توقّع الإجازة (١) ، لأنّ دفع الثمن مع توقّع الإجازة إن كان على وجه النهي عن التصرّف فيه بحيث يكون عنده أمانة إلى وقت الإجازة فهذا متّجه مسلّم ، وليس مراد الفقهاء هذه الصورة ، وإن كان توقّع الإجازة مع الإذن في التصرّف ، فالكلام الكلام.

وضعّف محكيّ الحواشي المنسوبة إليه (٢) ، وكذا ضعّف مختار السيّد صاحب «الرياض» (٣) في الإجارة الفاسدة المستوفاة للمنفعة مع علم المؤجر من عدم استحقاقه للاجرة ، لكونه متبرّعا مع علمه ومع علم المستأجر من عدم وجوب دفع الاجرة ، وأنّه لو دفع كان هبة وليس له على ذلك موافق من الأصحاب في المنفعة ـ على ما قيل ـ مع أنّ ظهور كلامه شامل لها وللعمل (٤) ، لكن احتمال إرادة صورة الإجارة على العمل ممكن بقرائن في كلامه صالحة لذلك.

قيل : وله وجه لكون الأجير العامل العالم بالفساد مباشر الإتلاف مع علمه بعدم سببيّة الغير بخلاف المنفعة ، فإنّ المباشر لإتلافها هو المستأجر (٥).

وهذا الوجه غير وجيه بعد الإحاطة بما أسلفناه ؛ إذ إقدامه على الإتلاف على كونه مضمونا على المستأجر أمر تشريعيّ جعليّ ، لا تبرّعيّ ، وفرق بين وقوع أمر على عنوان التبرّع ووقوعه بعنوان معاملة فاسدة تشريعيّة.

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ٩٥ ، غاية المراد : ٢ / ٣١٨ و ٣١٩.

(٢) نقله صاحب مفتاح الكرامة : ٧ / ١٧٤ ، جواهر الكلام : ٢٧ / ٣١٢.

(٣) رياض المسائل : ٦ / ٢٦ و ٢٧.

(٤) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٣٦.

(٥) انظر! مسالك الإفهام : ٥ / ٢٢٣.


وكذا ظهر ضعف توهّم بعض كون الإجارة الفاسدة بعدم ذكر الاجرة عارية ، أو بشرط عدمها وإن كان القول بها في الثاني أوجه ، لوجود القرينة فيها دون الاولى إلّا عدم الذكر المحتمل للغفلة (١).

وجه الضعف ؛ أنّا لو قلنا بكفاية كلّ لفظ في العقود الجائزة الإذنيّة ، بل مطلق العقود في الجملة ، فإنّما المراد الألفاظ المجازيّة الغير المستهجنة المشتملة على العنوانات الدائرة على لسان الشارع في كلّ عقد.

وقد صرّح بذلك غير واحد من الأصحاب ولذا ترى كثيرا من المسامحين في ألفاظ بعض العقود يتأمّلون في بعضها ، كما لا يخفى على المتتبّع ، وليس لي مجال حتّى أنقل كلماتهم لصدق مقالتي ، ولكن راجع «مكاسب» شيخ أساتيدنا الشيخ المرتضى (٢).

فلو استعملت اللفظ الموضوع في عقد في آخر لم يصحّ ، لكونه مجازا مستهجنا كالبيع في الإجارة والهبة في المتعة ، فلو قال : خذه قراضا والربح لي ، لم يكن بضاعة أو قال : والربح لك ، لم يكن قرضا ، مع كفاية كلّ لفظ في البضاعة والقرض ، ومن هذا القبيل : آجرتك بلا اجرة في العارية ، نعم لمّا يكفي فيها كلّ ما دلّ على إباحة التصرّف والإذن فيه لم يبعد القول بها بعد تعقّبه بالقبض بإذنه ، فافهم!

فإن قلت : فقد حكم جماعة كالعلّامة والشهيد الثاني في مسألة البيع بلا

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٧ / ٣٢٦.

(٢) المكاسب : ٦ / ١١.


ثمن بعدم الضمان ، وأنّها هبة (١).

قلت : ليس المقصود تنزيلها عليها بقرينة المجانيّة.

قالوا : ولو باع الوكيل بثمن فأنكر الموكّل بهذا القدر حلف ، وتستعاد العين إن كانت موجودة ، وإلّا فمثلها أو قيمتها (٢).

أقول : إمّا أن يقول الموكّل في مقام تحرير النزاع : ما وكّلت بخمسة ـ مثلا ـ بل وكّلت بعشرة وبعت بعشرة فيعترف بوقوع البيع عليها ، لكنّه يقول : ما أذنت ولا أجزت ؛ فالوكيل غاصب لها ، وكذا المشتري إن كان حاضرا ، وإمّا أن لا يعترف بوقوع البيع عليها ، بل يعتقد أنّه باعه بعشرة لكنّه لو اعترف بأنّه باع كذلك لصار النزاع في تصرّف الوكيل فيكون القول قوله ، فلذلك يقول : ما وكّلتك إلّا بخمسة.

وعلى الأوّل ؛ فإمّا أن يكون قيمة العين أزيد من العشرة المبيعة بها كعشرين ـ مثلا ـ وإمّا أن يكون أنقص كسبعة ـ مثلا ـ.

وعلى التقادير الثلاثة : إمّا أن يكون النزاع مع الوكيل ، أو مع المشتري ، فإن كان الترافع مع المشتري وقال : اشتريتها بخمسة ممّن هو وكيل في هذا القدر ، فيقول : إنّما وكّلته بعشرة ، فإن قال : ما أدري بكم اشتريت بعشرة أو خمسة! أو اعترف بوقوعه بخمسة ، فيحلف على عدم توكيله في خمسة وتستعاد العين أو بدلها ، وإن قال : بل اشتريته بعشرة ، كان القول قول الموكّل ، لأنّ الموكّل يقول : إنّ الثمن عشرة ، والمشتري يقول : إنّه خمسة.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ٥ / ٦٨ ، مسالك الإفهام : ٣ / ٢٣٩.

(٢) انظر! المختصر النافع : ١٧٨.


وقد قالوا : إنّه لو تنازع البائع والمشتري في قدر الثمن ، فالقول قول البائع فيه مع بقاء العين ، لأصالة عدم وقوع البيع إلّا بما يعترف [به] البائع ، ومع بقاء العين لا إشكال ، ومع تلفها قالوا : إنّ القول قول المشتري.

فيشكل الحكم هنا ، مع أنّ هذا من أفراد ذاك ، وللتأمّل مجال واسع.

ولو كان قبض الثمن ـ أعني الخمسة ـ ردّها عليه ، وإلّا ارتجعها المشتري من الوكيل.

ولو كان النزاع مع الوكيل ، وقال : بعته بخمسة ، فقال المالك : ما وكّلتك فيها بل بعشرة ، فيحلف على عدمه ، فيصير الوكيل بحكم الغاصب ، فيلزمه ما يلزمه ، وليس للموكّل استعادة العين من المشتري ، لعدم كون النزاع معه ، ولا يرفع يده منها بيمينه لغيره ، لاختلاف المدّعيين ، كما لو وقع النزاع من المالك مع واحد من ذوي الأيدي المتعاقبة وانفصلت الخصومة من واحد باليمين فلا تسقط دعواه مع آخرين.

نعم ؛ لو أقام المالك البيّنة على وقوع البيع بخمسة بمحضر المشتري أو باستماع الوكيل بإمضائه ، بحيث يكون قد أسقط حقّه وصدر الحكم من غير توقّف على شي‌ء نفذ فتستعاد العين من المشتري ، لكن المكلّف بها الوكيل لاعترافه بكونها في يده بحقّ ، بل يطالب هو بالبدل لثبوت يده عليه غصبا ، والمطالب بها هو المشتري ، لكن يكون دركها على الوكيل لو كان عند العقد [و] لم يخبر بكونه وكيلا ، وإن كان قد أخبر أو كان المشتري عالما بوكالته ، فهو غير مطالب بالثمن المدفوع ، بل المالك ، لاعتقاده وصوله إليه وإلى وكيله الّذي يده يده.


ولو كان عالما بعدم وكالته ولم يخبر بذلك وباع ، فالكلام في الثمن هو ما حقّق في باب الفضولي وبيع الغاصب ، ولما ذكرنا قيّد بعض الشرّاح إطلاق المتون في استعادة العين من المشتري بعد حلف المالك بفرض اعتراف المشتري بالوكالة أو حلف المالك له اليمين المردودة منه أو ادّعى عليه العلم (١).

ولو أقام المالك البيّنة بغيبة المشتري وعدم اطّلاعه وإمضائه لاستماع الوكيل ، وصدر الحكم ، لكن نفوذه من جهة الرجوع على الوكيل بالبدل ؛ لثبوت كون يده يد غصب غير متوقّف على أمر ، وأمّا نفوذه على المشتري متوقّف على حجّيته.

ولو كان المالك معترفا بوقوع العقد بعشرة لا بخمسة ، ويقول الوكيل وقع بخمسة ، لكن يعتبر الموكّل النزاع بعدم توكيله فيها لئلّا يكون القول قول الوكيل في تصرّفه فتذهب الخمسة الزائدة بيمينه ، فالقول قوله ، ويحلف على عدم ما يدّعيه الوكيل ويرجع عليه بالبدل على ما هو ظاهر اطلاق كلامهم في المقام ، ولا يكلّف بردّ العين مع بقائها في يد المشتري لتوهّم أن اليمين قد أبطلت الوكالة ، لأنّ هذا التوهّم ضعيف من أصله كما سبق ، خصوصا هنا ، لأنّ صورة الدعوى هنا أن يقول الوكيل : وكّلتني بخمسة وبعتها بها ، والموكّل يقول : وكّلتك بعشرة ، وقد بعتها بعشرة فهو غير مطالب في الحقيقة للعين أصلا ، بل إنّما يطالب العشرة فلو حصل في يده العين لم يكن له التصرّف إلّا أن يعلم بعدم قبض الوكيل الثمن بتمامه ، فيأخذها مقاصّة.

لكن لو اعتقد أو اعترف بعد هذا الجواب بقبضه تمامه فالمطالب به هو

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١١٢.


الوكيل فيحلف على عدم توكيله بخمسة فيبطل استيمانه الموجب لتقدّم قوله في قدر الثمن فيطالب باعترافه وقوع العقد. ولو فضوليّا بعشرة فيطالبه بإتمام الخمسة المقرّ بها من الوكيل إلى العشرة.

ولعلّ هذا مراد الشيخ حيث حكم بوجوب الإتمام على الوكيل بما يقوله الموكّل وحلف عليه بل قوله : يجب إتمام ما حلف عليه المالك ، قرينة على كون متعلّق حلفه أمرا مثبتا للزيادة ، إذ [في] غير هذه الصورة إنّما يحلف المالك على نفي توكيله بخمسة وثبوت البدل الشرعي من الحكم بغصبيّة اليد بعد الحلف (١).

فهنا لا بدّ أن يحلف يمينا جامعا بين النفي والإثبات هكذا فيحلف على عدم توكيله بخمسة وبيعه بعشرة ، كما أنّ حمل إطلاق كلامهم أيضا على غير هذه الصورة متعيّن.

ومن هنا يعلم حكم الصور المحتملة في مسألة دعوى الوكالة.

قالوا : ولو اختلفا في الوكالة ، حلف المنكر لها ، فإنّ الدعوى إمّا بين الموكّل والوكيل ، والمنكر إمّا الوكيل كما لو كانت الوكالة مشروطة في عقد لازم فعلا لا نتيجة ، فافهم! فالغرض من إنكارها ثبوت الخيار لنفسه إن قلنا به بتخلّف الشرط فيما لم يمكن تلافيها.

ولا فرق على هذا بين وقوع الفعل المدّعى فيه الوكالة وعدمه بعد عدم إمكان التلافي.

وإمّا الموكّل ؛ فيريد إثبات عدوانيّة يد الوكيل الموجبة لغرامة القيمة إن تلفت العين أو تصرّف فيها بإيقاع الفعل المدّعى فيه الوكالة فيثبت بحلفه ذلك

__________________

(١) المبسوط : ٢ / ٣٧٨.


فيأخذ قيمة المتلف ، أو بدله مع وجوده عند المشتري لثبوت حيلولته بالتصرّف بحلف الموكّل.

وليس للموكّل أن يرجع على المشتري بحلفه للوكيل ما لم يكن طرفا للدعوى ، إذ لا يثبت بحلف أحد مال على غير من حلف له ، ثمّ يرجع الوكيل على المشتري بما دفع إلى المالك إن كان أقلّ من الثمن أو القيمة ، ولا يرجع بالزائد عمّا دفعه من الثمن ، لأنّه كان ضامنا لبدل الحيلولة للمالك عن المشتري ، لأنّ استقرار البدل الحيلولي عليه ، وهذا يغرم عنه.

ومن هنا يرجع الغاصب الغارم للمالك على الغاصب منه ، لأنّه غرم البدل الّذي كان بدلا عن البدل الّذي كان مستقرّا عند الغاصب من الغاصب ، فيرجع بالمبدل وهو بدل البدل لا نفس العين لبقائها على ملك مالكها ، فتدبّر!

وإن كان ما دفعه إلى الموكّل أزيد لم يرجع إلّا بالقيمة أو الثمن وإن كانا أقلّ ، ويتصوّر ذلك في القيمة أو اختلف زمان الغرامة وزمان تصرّف المشتري ، أو زمان تصرّف الوكيل والمشتري قيمته ؛ لاعترافه بأخذ الموكّل البدل ظلما.

ثمّ إنّه لو كان الدعوى المذكورة بينهما قبل الفعل إذا ترتّب عليه الأثر سمعت ، وإلّا فلا.

وإمّا أن يكون بين المشتري والموكّل ، والمنكر الموكّل ، فيريد العين أو البدل تغريما لا تعويضا ، فيحلف الموكّل ويأخذ ما كان يريد من دعواه.

ثمّ إن كان دفع الثمن إلى الوكيل وكان معترفا بوكالته وبوصوله إلى يد الموكّل لم يرجع على الوكيل ، لاعترافه بأخذ الموكّل ما أخذه ثانيا بالحلف ظلما.


ولو لم يكن عالما بوكالته وكان عالما بكون العين للغير ولم يدّع الوكيل الوكالة والإذن ، لم يرجع على الوكيل بالثمن مع التلف.

ومع البقاء على التفصيل المذكور في الفضولي وإن ادّعى الوكالة حيث كان قوله حجّة وذلك إذا كان ذا يد على العين المدّعي وكالته في التصرّف فيها ، على المشهور ، لا إذا لم يكن كذلك ، فلم يغرم الوكيل له بل فيه التفصيل المذكور في صورة اعترافه بوكالته.

وإن لم يدّع ولم يكن عالما بها رجع عليه بما اغترم ، لأنّ المغرور يرجع على من غرّ وإن كان جاهلا بعد فرض سببيّة له في الغرم ، وقد قصر الوكيل في عدم ذكره وكالته ، وإن كان المنكر المشتري ، فإن كان غرض الموكّل مطالبته بالعوض المسمّى ، سواء كان المعوّض موجودا أو تالفا ، أو دفع الضمان عن نفسه لكون التلف ـ مثلا ـ بعد القبض ، فهو من المشتري ، فيحلف المشتري ويدفع العين أو البدل الواقعي أو يبرأ من الضمان.

قالوا : ولو اختلفا في العزل والإعلام والتفريط ، حلف الوكيل لو تصوّر في النزاع (العزل والإعلام) أثر ، كغرامة الوكيل إذا كان الموكّل فيه مالا سمع الدعوى وإلّا فلا ، كما لو كان النزاع في النكاح.

نعم ؛ بين الزوجين هذا النزاع في عزل الوكيل وإعلامه متصوّر ، لكن لو قلنا بغرامة نصف المهر على الوكيل فيما لو ادّعى الوكالة عن الزوج وأنكرت المنصوصة الظاهرة في كون الدعوى بين الزوجين فيحلف الزوج على عدم التوكيل فيحصل الفراق به ظاهرا ، فيغرم الوكيل.

وسيأتي تفصيل هذا ـ إن شاء الله ـ وقلنا بها في عكسها ، وهو ما لو ادّعى


الوكيل الوكالة عن الزوجة فأنكرت وحلف الزوج لو كان النزاع بينهما أمكن ترتّب الأثر على نزاعها مع الوكيل ، فيثبت بحلف الزوجة المردود عليها أو بيّنتها ما ذكر ، لكنّ الأصل محلّ تأمّل ، ولمخالفته للقواعد طرح بعض الأصحاب العمل به.

ولو سلّم فهو من الدليل وهو النصّ ، فلا يتعدّى إلى غيره ؛ فالضابط ما ذكرنا في دعوى الموكّل والوكيل فيهما.

فما ورد في امرأة وكّلت أخاها ليزوّجها (١) إلى آخر ما ذكر في «الرياض» وغيره (٢) ، من مطالبة الإمام الشهود من المدّعية للعزل والإعلام ؛ لثبوت الزوجيّة ، لا لثبوت الوكالة في العقد ، فتأمّل!

وأمّا في دعوى التفريط ، فتقديم قول الوكيل من جهة أنّه كان أمينا ، والأمين ليس عليه إلّا اليمين ، وإن لم يقبل الموكّل أمانته حين النزاع ، بل يدّعي كونه خائنا ، لكن أمانته الشأنيّة مانعة من توجّه غير اليمين عليه.

وإن شئت قلت : إنّه يدّعي عليه صدور ما يوجب التفريط عنه والأصل عدمه ، فيقدّم قوله لذلك.

ولو اختلفا في التلف ولا بيّنة ، حلف الوكيل ، للإجماع على تقديم قول مدّعي التلف إذا كان أمينا ، مع أنّه ليس عليه اليمين ، قيل : ولتعذّر إقامة البيّنة نوعا فاقتنع بقوله.

ولعلّه إشارة إلى ما ذكروا في باب الغصب من قبول قول الغاصب في التلف

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٤٠ الحديث ١٣٠ ، وسائل الشيعة : ١٩ / ١٦٣ الحديث ٢٤٣٦٩.

(٢) رياض المسائل : ٦ / ٧٣.


لئلّا يخلّد في الحبس ، لاحتمال كونه صادقا (١). ولما كان هذا الاحتمال هناك متوجّها نوعا وإن احتمل إمكانها في بعض الأوقات.

ولو اختلفا في الردّ فالقول قول الموكّل مع يمينه ، وقيل : قول الوكيل ، إلّا أن يكون بجعل (٢) ، ووجه القول الأوّل أصالة عدم الردّ ، والوكيل مدّع له فعليه البيّنة ، وليس معنى الوكالة على الإخفاء كالوديعة حتّى لا يجب عليه الإشهاد.

ولذا حكموا بضمان الوكيل في قضاء الدين وتسليم المبيع أو الثمن من غير إشهاد ، ولم يكن في الحكم المذكور سدّ لباب المعروف ، كما ذكر هذا وجها في باب الوديعة (٣) ، فعموم «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (٤) يشمله.

ولذا قيل بتخصيصها بالإجماع على قبول قول الودعيّ في الردّ (٥) ، وفي التلف به وبما ذكرنا فيه سابقا.

وهذه القاعدة شرعت لقطع النزاع والتشاجر و [رعاية] النظام ، فتعميمها بالنسبة إليهما ينافي ذلك ، كما أنّ تكثير تخصيصها كذلك ، فليس المناط في الوديعة قبضها لمحض مصلحة المالك حتّى يقال بالتفصيل في المقام.

ولو قيل بأنّ الجعل في باب الوكالة ليس للقبض والحفظ ، بل للعمل ، ولذا لو يفعل المأمور به لم يستحقّ الجعل ، ولو ظهر فساده لم يحكم بفسادها ، لكنّه غير تامّ ، إذ لا ريب أنّه بعد الجعل يكون القبض لمصلحتهما كما أنّ العين في

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٢٣٥ المسألة الخامسة.

(٢) جواهر الكلام : ٢٧ / ٤٣٢.

(٣) جواهر الكلام : ٢٧ / ٤٢٨.

(٤) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.

(٥) جواهر الكلام : ٢٧ / ١٢٢ و ١٢٣.


المستأجر المحكوم يكون القول قول المالك في الردّ إجماعا مقبوض لمصلحة القابض أيضا ، مع كون العوض للمنفعة لا لها.

وأمّا كون الوكيل أمينا فغير مستلزم لذلك ، وإلّا لما توجّه التفصيل ، لأنّ النزاع بين المالك والقابض قد يكون في أصل الأمانة ، وقد يكون بعد تسليم المالك الأمانة الشأنيّة ، وقد يكون بعد تسليم الأمانة الفعليّة أيضا.

فالأوّل : مثل ما لو ادّعى المالك غصبيّته والمنكر يدّعي أمانته.

والثاني : مثل أنّه ادّعى تفريطه بعد اعترافه بكونه أمانة عنده عند القبض.

والثالث : مثل ما ادّعى القابض تلفه بعد كونه أمينا باعتراف المالك.

ففي القسم الأوّل ؛ لا شبهة في تقديم قول المالك ، كما أنّه لا شبهة في تقديم قول القابض في القسم الثاني ، لكونه أمينا ، مع أصالة عدم التفريط.

وفي الثالث كذلك ، للأمانة ولتعذّر إقامة البيّنة أحيانا فاقتنع بقوله ، ومسألة الردّ من القسم الأوّل ، لأنّ المالك يدّعي عليه مالا كان عنده أمانة ، والقابض ينكره ، ولمّا كان القابض معترفا بقبضه الزم بالبيّنة ، كما لو ائتمنه المالك في زمان على مال وقبضه ثمّ ادّعى عليه بذلك المال واعترف بقبضه ثانيا لم يوجب الاستيمان الأوّل قبول قوله في هذه الدعوى.

وقد يقال : إنّ المالك في مسألة التلف يدّعي خيانته بدعواه التلف ، فكما أنّ أمانته أوجبت قبول قوله ، فكذلك في مسألة الردّ يدّعي المالك خيانته ، لصيرورته بذلك خائنا كالإنكار ، ولذا لو ادّعى الردّ فيما يقبل قوله في مكان أو حصره بمعيّن وأشهد المالك البيّنة على عدمه أو على كونه عنده حين الدعوى ، ثبت إقراره بذلك ضمن قطعا ، لأنّه بمعنى المنكر ، فأمانته في هذا المال باعتراف


مالكه يوجب قبول قوله.

وفيه نظر ؛ لأنّ الخيانة تثبت بنفس جواب المالك في دعوى المال وطلبه بخلاف التفريط ، فتبصّر ولاحظ.

فالتحقيق أن يقال : إنّ مسألة الردّ مثل مسألة التلف في كون الدعوى بعد تسليم المالك واعترافه بكونه أمينا ، ومقتضاه قبول قوله لقاعدة الأمانة ، لكن الأمين يقدّم قوله في ما يتعلّق بفعله ، فالقابض في مسألة التلف يدّعي تلفه عنده وهو ينكره ، وكذا في التفريط ، وفي دعوى المالك إنكاره في زمان يوجب الضمان ، لأنّه كما يكون بالتفريط خائنا فيكون يده يد ضمان ، كذلك بإنكاره أيضا يصير خائنا ، كما أنّه بتأخير التسليم مع المطالبة ضامن حيث لم يكن التأخير لحقّ ، كإرادة الإشهاد ، ولم يكن منافيا للفوري العرفي ، وإن كان منافيا للفوري الحقيقي ، كما لو كان في حمّام أو مطعم أو غيره ، فإنّه يقضي حاجته ثمّ يردّه فورا.

وأمّا لو كان ممّا لا يتعلّق بفعله ، بل بفعل غيره فلا يوجب أمانته قبول قوله ، وهنا يدّعي القابض فعل غيره ، وهو قبض مالكه.

نعم ؛ لو ادّعى : أنّي أقبضته ولم تقبض أنت فتلف ، فيتوجّه قبول قوله بغير إشكال.

ومن هنا قلنا : إنّ مسألة الردّ في باب الوديعة خرجت من عموم «البيّنة [على من ادّعى]» (١) .. إلى آخره بالإجماع لا بغيره بل تمسّك جماعة هناك بمسألة الأمانة مع أنّ الودعيّ مدّع بكلّ وجه ، فتدبّر!

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.


فإن قلت : كما أنّ الودعيّ يدّعي فعل غيره في مسألة الردّ ، كذلك في مسألة التلف إذا كان سببه فعل غيره كالسرقة أو غيرها ممّا يرجع إلى دعواه إتلاف غيره له لا التلف بنفسه ، فالمتّجه حينئذ التفصيل فيهما ، فلا يقبل قوله في دعواه الإتلاف ، لعدم منافاته مسألة الأمانة ، كما ذكرت ، ويقبل قوله في دعوى التلف لا بفعل الغير.

قلت : مقصود الودعيّ في التلف وفي الردّ براءة ذمّته ، وذلك يحصل في الأوّل بنفس التلف ، فإن ذكر متلفا فهو من باب المثال ، ولا يتعلّق به غرض أصلي ، وفي الثاني لا يحصل إلّا بقبض المالك ، وإن ذكر فعل نفسه فهو من باب المثال والمقدّمة ، لحصول قبضه.

فالمدّعى في الأوّل هو حصول الفعل عنده الموجب لبراءته ، وإن استلزم فعل غيره في بعض الموارد ، كما لو ادّعاه بإتلاف متلف يصدّق في ذلك ، لكونه منتسبا إليه ، بخلاف الثاني ، فإنّ المدّعى فيه نفس فعل الغير ، سواء استلزم فعله أم لا ، كما لو ادّعى وصولها إليه ولو لم يدّع إقباضه ، فتدبّر! (١)

__________________

(١) إلى هنا انتهت الرسالة.



رسالة الوصايا



بسم الله الرحمن الرحيم

تصرّفات المريض

بعد الحمد والصلاة فنقول : إنّ تصرّفات الإنسان في مرض موته في أمواله على قسمين : معلّقة ومنجّزة ، والغرض الآن البحث عن الثانية ، إلّا أنّه لا بأس للتعرّض لجملة من الكلام في الاولى ، ولعلّه تفيد في تنقيح ما هو الغرض المهمّ.

اعلم! أنّ التصرّفات المعلّقة المسمّاة بالوصيّة على نحوين ، لأنّها إمّا أن تكون مشتملة على التمليك ونقل مال إلى آخر ، وإمّا أن لم تكن كذلك ، بل هي جعل ولاية ووكالة للغير في تصرّفاته بعد وفاة الموصي في أمواله وغيرها ، فهي الوصيّة العهديّة ، كما أنّ الاولى تمليكيّة.

أمّا العهديّة المعبّر عنها بالإيصاء فهي في الحقيقة بمنزلة التوكيل في حال الحياة ، فكما أنّ الوكيل له التصرّف في ما وكّل فيه كيفما شاء مع رعاية المصلحة ، فكذلك للوصيّ التصرّف في المتعلّق بنحو ما ذكر ، فهو بدل تنزيليّ للموصي أقامه الموصي مقامه ، بأن جعل له ما لنفسه من التصرّف في المأذون فيه.

فالفرق بينهما أنّ ولاية الموصي على أمواله وغيرها ذاتيّة مجعولة من قبل الله تعالى ، بخلاف الوصيّ فولايته عرضيّة ، ولذلك تحدّ الثانية في الجملة بما لا تحدّ الاولى.

وأمّا التمليكيّة ؛ فإمّا أن تكون الوصيّة على نفس التمليك ، أو على سببه ، كما


في باب الشرط ، وقد اصطلح فيه بشرط النتيجة والفعل ، فكذلك الوصيّة إمّا هي بالتمليك المطلق الغير المحتاج إلى السبب الخاصّ ، وإمّا أن يكون محتاجا إليه ، والتمليك إمّا هو بغير عوض أو مع العوض ، ولذلك ربّما يقال : إنّ الوصيّة يمكن أن تفيد ما يفيد كلّ واحد من المعاملات ، فقد تكون ثمرتها مثل البيع ، وقد تكون مثل الصلح ، وقد تكون مثل الإجارة وغيرها على حسب اختلاف أنحاء الوصيّة التمليكيّة.

ثمّ إنّه لو أحرزنا كون الموصى به ممّا هو محتاج إلى السبب الخاصّ بحيث لا تؤثّر الوصيّة بنفسها في تحقّقه ، فلا إشكال أنّ الوصيّة بالنتيجة باطلة ، وأمّا لو لم نحرز وشككنا فيه ، فهو ـ أي الشكّ ـ إمّا هو راجع إلى الموضوع العرفي أو الشرعيّ.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ ؛ إمّا أن يكون في احتياجه إليه عرفا وعدم وقوعه بدون إجراء صيغة خاصّة عندهم. ضرورة ؛ أنّه قد تحقّق في باب المعاملات أنّه كما تثبت في الشريعة كونها محتاجة إلى أسباب خاصّة بعناوينها الخاصّة كالبيع والهبة والإجارة ونحوها دون التمليكات المطلقة ، فكذلك ربّما يكون جملة منها محتاجة إليها عرفا أيضا ، بحيث لو لم يتحقّق لم يوجد أصل موضوع المعاملة عند العرف ، فلا يعقل أن يترتّب النتيجة ، كما لا يخفى.

فعلى ذلك ؛ لو شكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ عرفا مع قطع النظر عن الاحتياج إليه شرعا فلمّا يرجع الشكّ إلى الشكّ في تحقّق الموضوع والمصداق ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعمومات والإطلاقات إلّا على مذهب من


جوّز التمسّك بها في إحراز شرط الصحّة عند الشكّ فيها ، كما في باب النذر إذا شكّ في موضوع كونه راجحا ـ حتّى يصحّ تعلّق النذر به ـ أم لا ، قد تمسّك بعض (١) في صحّة مثله بعموم : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٢).

وهذا مبنيّ على أن يكون العامّ ـ مضافا إلى كونه متكفّلا لبيان الحكم الكلّي أيضا ـ مشتملا على بيان الصغرى.

وبعبارة اخرى ؛ على بيان كون المحلّ قابلا لتعلّق هذا الحكم الكلّي من النذر وغيره به ، فكذلك في المقام يتمسّك لصحّة مثل الوصيّة المذكورة بعمومات الوصيّة ، وأمّا لو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعمومات في مثل هذه الموارد ـ كما هو التحقيق ـ فلا محيص عن الحكم ببطلان الوصيّة المذكورة ، لما عرفت.

وأمّا إن لم يرجع الشكّ إلى المعنى العرفي ، بل احرز عدم احتياج تحقّق الموصى به عند العرف إلى السبب الخاصّ ، ولكن شكّ في احتياجه إليه شرعا فالظاهر أنّه لا مانع من الحكم بالصحّة تمسّكا بأصالة عدم احتياجه ، كما تمسّكوا في باب الشرط عند الشكّ في صحّته من جهة كونه مخالفا للكتاب والسنّة بأصالة عدم المخالفة (٣).

ولمّا يرجع الشكّ في ما نحن فيه أيضا إلى كون الوصيّة المعهودة مخالفة لهما ؛ لاحتياج تحقّق الموصى به إلى السبب الخاصّ وعدم تحقّقه بصرف الوصيّة ، فكذلك لا بأس بالتمسّك بأصالة عدم المخالفة فيه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٥ / ٣٥٦.

(٢) الإنسان (٧٦) : ٧.

(٣) على الإشكال المعروف فيه ، «منه رحمه‌الله».


ثمّ اعلم! أنّ حال النذر المتعلّق بالفعل أو النتيجة كحال الوصيّة في ما ذكر ، إلّا أنّه فيه إشكال من جهة اخرى ، وهو أنّه لا شبهة في أنّ التمليكات القصديّة الاختياريّة لا تتحقّق بدون القبول ، وإن كان التملّك القهري يقع بدونه ، كما في الإرث ، فعلى ذلك ؛ كيف يلتزم بتحقّق النذر المتعلّق بالتمليك المطلق؟ ولو كان غير محتاج إلى السبب الخاصّ إلّا أنّ تحقّق أصل التمليك موقوف على قبول المتملّك ، فلا بدّ في الحكم بصحّة النذر المفيد للتمليك إمّا بالالتزام باشتراط النذر المذكور وصحّته بالقبول ، أو عدم احتياج التملّك الاختياري إلى القبول ، ولا ريب أنّ كليهما مخالف للارتكاز والإجماع.

فمن ذلك ظهر أنّ الإشكال سار في باب الوصيّة التمليكيّة أيضا بناء على القول بعدم احتياجها إلى القبول ، وكونها من مقولة الإيقاع ، إلّا أنّ الّذي يسهّل الأمر فيها احتياجها إلى القبول إجماعا ، إمّا بعنوان الشرطيّة أو الجزئيّة ، وإن كانت الاولى أقوى ، لأنّ الظاهر كون الوصيّة من سنخ الإيقاعات لا العقود.

أقول : أوّلا في انقسام الوصيّة التمليكيّة إلى ما ذكر نظر ، وذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة على ما يستفاد من أدلّتها ، ويظهر من كلمات الأصحاب هي ما تفيد نقل الشي‌ء بلا عوض ، فالمأخوذ في موضوعها هو التبرّع ، ولذلك جعل بعض الأساطين من جملة أجزاء تعريفها قيد التبرّع (١).

فعلى ذلك كيف يلتزم بإفادتها في بعض الموارد الانتقال مع العوض ، إلّا أن يرجع ذلك إلى أقسام الوصيّة العهديّة ، فيكون مرجعها إلى جعل الولاية للوصيّ على تبديل بعض أمواله بأحد عناوين المعاملات إلى شي‌ء آخر.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٥٢ ط. ق ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٤٢.


وثانيا : أنّه قد اتّضح في باب الشرط ونحوه أنّ الالتزام بأمر يحتاج وقوع الملتزم به إلى إقدام شخصين وقيامهما عليه ، يكون مرجع التزام أحد بإيجاد مثل هذا الأمر إلى الالتزام بإيجاد المقتضي من قبل نفسه ورفعه مانع وجوده ، فمثل الالتزام بالبيع يكون مفاده الالتزام بإنشائه الإيجاب ـ مثلا ـ وكذلك غيره من الامور المتوقّف تحقّقها على قيام شخصين على إيجادها ، فعليه يرتفع إشكال النذر المتعلّق بالتمليك ، لأنّ مرجعه إلى الالتزام بإيجاد ما هو تحت اختياره ، وأمّا تملّك الغير وقبوله فليس متعلّقا للنذر رأسا.

مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى بأنّ مفاد مثل هذه النذور وكذلك الوصيّة بناء على عدم احتياجها إلى القبول مطلقا إنّما هو الالتزام بالبذل والإباحة ، غاية ما فيه أنّه بذل معلّق ، فبناء على عدم الإشكال من هذه الجهة فعليه يرتفع الإشكال أيضا ، لعدم احتياج البذل إلى القبول ، فافهم!

متعلّق الوصيّة

ثمّ إنّ متعلّق الوصيّة التمليكيّة إمّا تبرّعي أو واجب ، ولا إشكال في خروج الأوّل من الثلث ، وأمّا الثاني فيظهر حاله بعد ذكر أقسامه.

فنقول : إنّ له أقساما أربعة ، وذلك لأنّ متعلّقها إمّا واجب مالي وحقوق خلقيّة ، مثل الدين ، وكذلك الوصيّة بالزكاة والخمس ونحوها ، ممّا هي أموال مستقرّة على الذمّة المنتزعة عن ثبوتها على العهدة الحكم التكليفي ، بحيث يكون الأثر الثابت أوّلا وبالذات اشتغال العهدة بالمال وتحقّق الحكم الوضعي ، ثمّ يترتّب عليه وجوب الردّ وتحصيل البراءة عمّا اشتغلت الذمّة به ، فقد يكون


متعلّق الوصيّة مثل هذه الامور.

وإمّا أن يكون الدين الثابت على الذمّة العمل الّذي يبذل بإزائه المال فيوصي بأداء مثل هذا الدين ، كما إذا أوصى بخياطة ثوب مشخّص المشتغل بها في حياته ، ونحوها من الأعمال المتعلّق بها الإجارة الموجب لاشتغال الذمّة لصاحب العمل.

وإمّا أن يكون متعلّق الوصيّة التطبيق ، كما إذا أوصى بأداء دينه من ماله الخاصّ ، مثل داره أو بستانه وغيرهما.

وإمّا أنّ متعلّقها مثل أداء الكفّارات الواجبة على الموصي ، أو إكرام من أمره والداه بإكرامه ، أو تأدية الصدقة المنذورة ، ونحوها ممّا ليس الثابت بها على الذمّة أوّلا وبالذات مال ، بل إنّما أثرها الحكم التكليفيّ المحض لا أن يثبت على عهدته لأحد حقّ حتّى يدخل في الواجبات الماليّة بمعنى الديون ، كما في الأمثلة المذكورة ، فإنّ التحقيق أنّ في مثل الكفّارات بل وكذلك النذر وغيره ولو كان مورد النذر شخصيّا معيّنا ، لا يثبت بسبب وجوب الكفّارة والنذر حقّ لأحد على المكفّر والناذر ، ولذلك ليس للفقير ولا للمنذور له مطالبتهما الكفّارة والمال المتعلّق للنذر.

وبالجملة ؛ فليس هذه الأصناف من الواجبات الماليّة من سنخ الديون ، بل إنّما هي واجبات وتكاليف شرعيّة نشأت من أسبابها ، فتثبت على عهدة المكلّف بلا إحداث حقّ ماليّ لأحد عليه.

نعم ؛ لمّا يتوقّف امتثال مثل هذه التكاليف على صرف المال فصار مقدّمة له ، فعدّ من الواجبات الماليّة ، لا أن يكون حقيقتها متقوّمة بالمال حتّى يكون


التكليف منتزعا من الوضع ، كما في القسمين الأوّلين ، فهذه أصناف متعلّق الوصيّة التمليكيّة.

موارد إخراج الدين من الأصل أو الثلث

ثمّ لا خفاء في كون الدين مخرجا من أصل المال في الجملة ، ولكن لمّا كان بعض الصور مشكوكة فلا بدّ من تأسيس الأصل أوّلا في أنّ الأصل يقتضي إخراج الموصى به من الأصل أو الثلث ، حتّى يرجع إليه عند الشكّ.

فنقول : إنّ الأصل في الباب هو ما ذكروا في باب الدين من أنّ الدين [هل هو] مانع عن أصل انتقال مال المورّث إلى الورثة بمقدار الدين ، أم لا ، بل المال ينتقل إلى الورثة ، وإنّما الدين مانع عن التسهيم؟

فإن بنينا على الأوّل فلمّا كان حال الوصيّة حال الدين ولازمه عدم انتقال المال إلى الورثة رأسا إلّا ما زاد عن الوصيّة ، فمقتضى القاعدة خروج الموارد المشكوكة عن الأصل ، لأنّ الشكّ ـ فيما لو أوصى بتطبيق الدين على مال خاصّ للموصي ، مثلا : الّذي كان نفوذ مثله في ما زاد عن الثلث من الموارد المشكوكة ـ هو في أصل انتقال عين المال إلى الورثة ، ولا خفاء أنّ الأصل (١) عدمه إلّا ما زاد عن الوصيّة.

هذا ؛ بناء على عدم تماميّة الأدلّة الاجتهاديّة ، مع أنّ الظاهر أنّه لا قصور فيها ، حيث إنّه ولو نوقش في آية الإرث (٢) من جهة كونها مقيّدة بعدم الوصيّة

__________________

(١) بمعنى استصحاب عدم الانتقال الثابت حال حياة الموصي ، «منه رحمه‌الله».

(٢) النساء (٤) : ١١ و ١٢.


والدين ، إلّا أنّه لا قصور في عموم «ما تركه الميّت فهو لوارثه» (١).

وأمّا إن بني على الثاني ـ كما هو التحقيق ـ فمقتضى ذلك خروج المشكوك عن الثلث ؛ إذ المفروض أنّ أعيان المال انتقل إلى الورثة فثبت كونها مالا لهم ، فقاعدة السلطنة لمّا كانت محكّمة فلا يجوز الخروج عنها إلّا بالمقدار المتيقّن وهو الثلث ، كما لا يخفى ، هذا ما يقتضيه الأصل.

وأمّا الحكم بحسب الدليل ؛ فنقول : إنّ الحكم في الواجبات الماليّة ـ أي التكاليف الّتي مآلها يكون إلى الالتزام بصرف المال في مثل الكفّارات ونحوها من القسم الرابع في الوصيّة بخروجها من صلب المال أو ثلثه ـ لمّا كان تابعا لصدق الدين عليها (٢) وعدمه ، فلا بدّ من البحث في ذلك.

فنقول : إنّ الدين عبارة عن اشتغال الذمّة بالمال ، بحيث إذا يتحقّق الدين فالعهدة يفرض عند العرف بمنزلة وعاء في الخارج موضوع عليها الشي‌ء الموجود فيه ، بحيث يوجد أوّلا علقة بين المال والعهدة ، فيكون أثر ذلك ثبوت الحقّ للغير على الذمّة ، ثمّ يترتّب على ذلك الحكم الشرعي التكليفي بالأداء.

ولا ريب أنّ هذا المعنى لا يعقل في الأحكام التكليفيّة لأنّه قد أوضحنا في محلّه أنّ التكاليف إنّما يتعلّق بالأمر المعدوم لا بالموجود ، وإلّا يلزم تحصيل الحاصل ، فالمتعلّق به التكليف وإن لم يكن معدوما مطلقا ؛ لأنّه إنّما يتعلّق بالصور الذهنيّة الثابتة في ذهن المكلّف فيأمر بإيجادها في الخارج ، إلّا أنّ ذلك

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٤٥٣ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٩١٤ الحديث ٢٧٣٨ ، مع اختلاف يسير.

(٢) الّذي وقع في كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات هو إنّما يخرج من صلب المال الواجبات الماليّة ، وعليه يمكن أن يختلف مع ما في لسان الأدلّة ، ولكنّ الظاهر رجوع كلماتهم إليها أيضا ، فراجع! ، «منه رحمه‌الله».


لا يوجب تحقّقه في الخارج قبل إيجاده المكلّف [به] ، فالخارج ظرف لسقوط المأمور به لا لثبوته ، فإذا امتنع وجود المأمور به في الخارج قبل إيجاده فلا يتصوّر في الأحكام التكليفيّة ما هو الملاك في معنى الدين وصدقه ، بل هو مختصّ بالوضعيّات الّتي لها نحو ثبوت واعتبار وجود في الخارج ، بخلاف التكاليف الّتي لا يعقل الوجود لها في الخارج لا في الذمّة ولا في غيرها.

بل بعد تعلّق التكليف من طرف الشارع بها وحكم العقل حينئذ بلزوم الإطاعة ، فحينئذ يعتبر أمر كلّي ليس له مساس بالغير لا تكليفا ولا وضعا ، فلا يطلق الدين إلّا على المال الثابت في الذمّة ـ الّذي قد عرفت أنّ الحكم التكليفي يكون تابعا له ـ لا في الواجبات الّتي يكون بذل المال مقدّمة لامتثالها بلا أن تكون الذمّة مشتغلة بالمال في الحقيقة ، كما في الديون.

أقول : يمكن الدعوى بأنّه كما أنّه عند تعلّق حقّ الغير على الذمّة بسبب أخذ ماله أو التصرّف في حقّه يرى عند العرف اشتغال العهدة بالمأخوذ بحيث يرى لذلك بعناية نقلا على العهدة في الخارج ؛ كذلك بتلك العناية أيضا يرى ثبوت شي‌ء على العهدة عند تعلّق التكليف الشرعي بالشخص ، خصوصا إذا كان متعلّق التكليف هو بذل المال ، ولذلك يعبّر عند تعلّق الطلب ؛ بالتكليف المشتقّ من الكلفة المساوق مع النقل.

وإن أجاب عن ذلك ـ دام ظلّه ـ بأنّ التكليف عبارة عن إلزام العقل في أثر إلزام الشرع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ إلزامه بالامتثال ليس إلّا أنّه يرى عهدة العبد مشتغلا بالمأمور به عند تعلّق طلب الشارع ، فالتعبير عن التكليف أيضا هو بهذه العناية.


وأمّا أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بما ليس بموجود ؛ فلا ينافي ذلك ما ادّعيناه ، لأنّ امتناع تحقّق المكلّف به في الخارج لا يستلزم عدم اعتبار وجوده (لا يمنع عن اعتبار وجود) على العهدة ، ضرورة أنّ تحقّقها في الخارج يوجب تعلّق الطلب بالموجود ، لا في الذمّة ، كما لا يخفى.

ثمّ أفاد ـ دام ظلّه ـ بأنّه بعد أن اتّضح حال الدين وحقيقته ، وأنّ سنخ وجوده غير سنخ التكاليف والواجبات ، فظهر ذلك أنّ الّذي تقتضيه القاعدة من الحكم بخروج الواجب المالي من الأصل في الأقسام الأربعة من الوصيّة ، هو في القسمين الأوّلين ؛ لما عرفت من تطبيق معنى الدين عليهما ، وأمّا غيرهما محلّ إشكال ، بل الأقوى الحكم في القسم الرابع من الواجبات الّتي تؤول إلى صرف المال بخروجها من الثلث ، ولذلك لو لم يوص بالأوّلين أيضا يجب تأديتهما وإخراجهما من أصل المال ، بخلاف الآخرين.

وأمّا الكلام في النذر فيما لو كان واجبا عليه عتق رقبة ، فأوصى بإعتاقه ـ مثلا ـ أو نذر أن يهب شيئا لأحد ، فأوصى بالهبة.

وبالجملة ؛ فيما لو كان النذر متعلّقا بالفعل فإن قلنا بأنّه يعتبر لنفس هذا الفعل ـ أي الهبة مثلا ـ الماليّة العرفيّة ، كما قيل بمثله في بعض الأعمال أيضا ولو لم تكن بصيغة ، فتصير حكم نذر مثل هذه الأفعال حكم القسم الثاني.

وإن لم نقل بذلك ، بل بني على كون اعتبار الماليّة في نتيجته ، لا في أصل العمل ، فحكمه حكم سائر الواجبات الّتي مآلها يكون إلى صرف المال.

بقي الكلام في تحقيق ما يظهر من بعض الأخبار من إطلاق الدين على


مطلق الواجبات (١) ، فإنّه قد يتوهّم أنّه يستفاد منها كون حكمها حكم الدين ، مثل ما ورد في أخبار الحجّ من أنّه دين الله ودين الله أحقّ أن يقضى (٢).

وقد يجاب عن ذلك بأنّ تنزيل الحجّ منزلة الدين لا يدلّ على كون مطلق الواجبات حالها حال الدين وكونها بمنزلته ، فيمكن أن يكون له نحو خصوصيّة ، بحيث صار لذلك من الوضعيّات حتّى يكون الوجوب التكليفي له منتزعا من الوضع ، ولذلك أجمعوا على كونه مخرجا من صلب المال.

وفيه : أنّه ورد في باب أخبار الصلاة أيضا ما يستفاد منه هذا المضمون ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا تؤخّر الصلاة فإنّها دين الله» (٣) ، ومن جهة عدم القول بالفصل يتمّ المدّعى في سائر الواجبات.

فحقّ الجواب أن يقال : أوّلا ؛ بأنّه إنّما يتمّ المدّعى إذا ثبت عموم المنزلة ، بمعنى أن يكون التكليف الإلهي مثل الدين في جميع الآثار (٤) ، أي حتّى من حيث اعتبار الوجود لها في الذمّة ، حتّى يكون لازم ذلك تأديته من أصل المال.

ومن المعلوم ؛ أنّه لم يثبت ذلك ، إذ يحتمل أن يكون التنزيل بلحاظ وجوب القضاء فقط ، كما يمكن أن يكون تنزيل الصلاة أيضا بلحاظ عدم جواز تأخيره ، لا من جميع الجهات ، إذ لا يستفاد من التنزيلين عموم أو إطلاق.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٩ / ٤٢٦ الباب ٩١ من أبواب الوصايا.

(٢) كنز العمّال : ٨ / ٤٩٥ الحديث ٢٣٨٠٤ ، تذكرة الفقهاء : ٧ / ٩٩.

(٣) الكافي : ٨ / ٣٤٨ الحديث ٥٤٧ ، مع اختلاف في الألفاظ.

(٤) ويشهد على ذلك أنّهم ما التزموا بمطلق الآثار الّتي للديون العباديّة ؛ للديون الإلهيّة كخروج المستثنيات (كعدم خروج المستثنيات في مثل الكفّارات) في الكفّارات وغيرها ؛ للانصراف وغيره ، كما هو الظاهر ، والمسألة تحتاج إلى المراجعة ، والله وليّ التوفيق ، «منه رحمه‌الله».


وثانيا : مع تسليم استفادة عموم التنزيل ، يمكن أن يكون ذلك في خصوص الحجّ ، بالبيان الّذي احتمله كلام المجيب ، كما يؤيّد ذلك ورود الأخبار المتظافرة في وجوب إخراجها من صلب المال (١) فتأمّل!

وثالثا : أنّه لا بدّ أن يعلم المراد من أنّ المفضّل عليه المستفاد من لفظ «أحقّ أن يقضى» (٢) أيّ شي‌ء؟ فإن كان المراد تفضيلها على مطلق الديون حتّى حقوق الناس وديون العباد فهو ليس بمراد قطعا ، للإجماع على تقدّم الدين على الحجّ ، فتعيّن أنّ المراد به إمّا التجريد من معنى التفضيل مطلقا ، أو الترجيح على التبرّعيّات ، فيكون المراد : أنّه إذا أوصى بثلث ماله لصرفها في التبرّعيّات والحجّ ، ولم يف ثلث المال بالمجموع ، فالحجّ مقدّم ، فعلى ذلك يسقط الاستدلال بمثل هذه الفقرة على وجوب إخراج الواجب المالي من الأصل ، إذ ليس ناظرا إليه.

أقول : وفيه ما لا يخفى ، لأنّه أوّلا من قال بتقدّم الدين على الحجّ؟ بل الحجّ مشارك مع الغرماء على ما عليه الأصحاب ، وثانيا إنّ الحجّ لا يزاحم التبرّعيّات لو أوصى بصرف ثلث المال فيها ، بل الحجّ عند ذلك يستخرج من الأصل لو لم يف الثلث بهما ، فظهر من ذلك إشكال ثالث ، وهو : أنّه لا مجال لتنزيل هذه الفقرة على مورد الثلث لا الأصل ، مضافا إلى تظافر الأخبار في إطلاق الدين على الحجّ (٣) عند الحكم بوجوب إخراجها من أصل المال ، ولا يختصّ التعبير به بالمضمون المتقدّم ، كما يظهر ذلك لمن راجع أخبار باب الحجّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٥٧ الباب ٤١ من أبواب الوصايا.

(٢) مرّ آنفا.

(٣) مرّ آنفا.


فرع : لو أوصى أحد بإعطاء زيد دينارا وتردّد أمر ذلك بين كونه إعطاء تبرعيّا أو دينا واجبا عليه أداؤه ، ولم يظهر منه ما يدلّ على أحدهما ، هل الأصل يقتضي كونه تبرعيّا ، ولازمه الخروج من الثلث ، أو دينا واجبا ، حتّى يستخرج من الأصل؟

قد يقال بالثاني ، نظرا إلى أنّ عمومات الوصيّة تقتضي خروج الوصيّة من الأصل مطلقا ، ثمّ خصّص ذلك بالتبرعيّات ، فإذا ارتفع كونها تبرعيّا بالأصل فتصير عمومات الوصيّة محكمة.

ولكن ذلك خلاف التحقيق ، وذلك لأنّه لا إشكال في أنّ لنا عمومات اخر في مقابل عمومات الوصيّة ، وهي ما يدلّ على ردّ الوصيّة إلى الثلث الّتي أوجبت تخصيص عمومات الوصيّة ، ثمّ خصّصت هذه العمومات أيضا بما دلّ على وجوب إخراج الزكاة من صلب المال ، لكونها واجبا ماليّا ، فلمّا تصير نتيجة الطوائف الثلاثة من العمومات أنّ الوصيّة تستخرج من الثلث إلّا ما هي واجب ماليّ ، فيصير تمام الموضوع للحكم بالخروج من الصلب هو كون الوصيّة على الواجب المالي ، فلا يبقى أثر للتبرّعيّة وعدمها ، فيصير مقتضى القاعدة الخروج من الثلث حتّى يثبت كونها واجبا ماليّا ، ومن المعلوم ؛ أنّ الأصل موافق مع عدمه.

وبالجملة ؛ فيصير المرجع عند الشكّ هو العمومات الدالّة على ردّ الوصيّة إلى الثلث ؛ لسقوط عمومات الوصيّة عن المرجعيّة بعد ثبوت التخصيص.

أقول : يظهر من السيّد قدس‌سره في المقام عدم جواز التمسّك بالعمومات مطلقا في المقام ، لكونها من باب التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة ، ولذلك جعل


المرجع هي الأصول العمليّة عند الشكّ ، فجعل الأصل في المقام هي أصالة عدم النفوذ والإنفاذ وعدم انتقال الموصى به إلى الموصى له.

وأنت خبير بأنّ الرجوع إلى العمومات ليس من جهة تعيين المصداق ، لما ظهر لك من أنّ المشكوك فيه لمّا كان أمره مردّدا بين أن يكون من أفراد المخصّص بالفتح أو المخصّص بالكسر ، ثمّ بالأصل أثبتنا عدم كونه من أفراد الثاني ، فجعل بعد ذلك المرجع [هي] العمومات الدالّة على الردّ بالثلث ، ففي الحقيقة تعيين الموضوع إنّما يثبت بمئونة الأصل ، والتمسّك بالعامّ إنّما هو لإثبات الحكم كما هو الدأب في كلّ ما لو كان منشأ الشكّ هو احتمال كون الفرد المشكوك فيه من مصاديق المخصّص وأمكننا نفيه عنها بالأصل ، فتأمّل! (١).

ثمّ إنّه جعل ـ دام ظلّه ـ خاتمة البحث في الوصيّة التكلّم في سائر أنواع التصرّفات المعلّقة على الموت مثل العتق المعلّق عليه المسمّى بالتدبير ، أو النذر المعلّق عليه أيضا ، وصار محصّل إفاداته كونهما من أفراد الوصيّة في الجملة أيضا ، بشرط ما لو كان النذر معلّقا على موت الناذر لا مطلقا ، فافهم!

معنى التنجيز

فلنصرف الكلام إلى ما هو المقصد بالبحث فنقول : جهات من البحث في المنجّزات ينبغي التكلّم فيها ، فقولهم : وفي منع المريض من التبرّع المنجّز .. إلى آخره (٢).

__________________

(١) وذلك مبنيّ على دفع الإشكال المعروف في مثل أصالة عدم القرشيّة ونحوها ، «منه رحمه‌الله».

(٢) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٨٧ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٦٨.


الجهة الاولى ؛ في تحقيق المراد من ألفاظ هذا العنوان ، فهل المراد من التنجيز هو المنجّز بقول مطلق ، بحيث لم يكن في التصرّف الواقع في حال المرض تعليق من جهة أصلا ، حتّى فيما لو نذر فعلّقه على أمر واقع في حال حياته يخرج عن المنجّز وعن محلّ الخلاف ، أم لا ، بل المراد من المنجّز أن لا يكون التصرّف معلّقا على الموت؟

الظاهر ؛ أنّه لا ينبغي التأمّل (١) في أنّ ملاك المنجّز هو المعنى الثاني ، لا الأوّل ، فالنذر المذكور ليس داخلا في التصرّفات المعلّقة حتّى يدخل في عنوان الوصيّة ، بل التحقيق [أنّه] من مصاديق المنجّزات ، وداخل في محلّ الخلاف.

وإنّما الكلام في بعض الأفراد ، مثل ما لو نذر وعلّقه على موت نفسه ، ففي مثله يقع الإشكال في كونه وصيّة معلّقة ، أو معدودة من المنجّزة ، إذ الوصيّة عبارة عن التصرّفات المعلّقة على الموت بحيث يقع الموصى به بعده ، لا ما إذا كان الموت مشروطا عليه ، إذ المفروض أنّه نذر أنّه لو مات في المحلّ الفلاني ـ مثلا ـ فيكون مقدار من ماله لزيد ، لا أن يكون المال المعيّن لزيد بعد موته ، بحيث يكون «بعد الموت» ظرفا لوقوع التصرّف وأثره في الخارج.

ولا ريب أنّ المنساق من أدلّة الوصيّة هذا المعنى ، لا ما إذا كان الموت شرطا له بالمعنى المذكور ، فلذلك يستشكل في كونه وصيّة ، وكذلك ليس منجّزا ، إذ المستفاد من دليله أيضا غير هذا المعنى ، إذ التصرّف وإن لم يكن معلّقا وقوعه على بعد الموت ، إلّا أنّه ليس واقعا قبل الموت أيضا ، كما هو الظاهر من معنى التنجيز.

__________________

(١) كما يظهر ذلك بالمراجعة في أدلّة الباب وكلمات الأصحاب ، «منه رحمه‌الله».


ولكن لا ريب أنّ مناط المنجّز هو كون مثل هذا التصرّف في حال مرض الموت إضرارا على الورثة ، وكذلك يشمله ما يدلّ على أنّ المريض محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث ، وإن لم تشمله العناوين الخاصّة للمنجّزات ، مثل الهبة والعتق والصلح ونحوها ، وكذلك فيما لو نذر وعلّقه على موته ، كما لو نذر أن يكون مقدار من ماله لزيد بعد موته ، أيضا في كونه من مصاديق التصرّف المعلّق أو المنجّز غموض ، إذ قد عرفت أنّ الوصيّة عبارة عن الإنشاء الفعلي المعلّق على الموت.

وأمّا النذر بأن يكون ماله الفلاني موهوبا لزيد بعد وفاته ؛ فهذا يرجع في الحقيقة إلى النذر بالوصيّة ، لا أن يكون وصيّة ، وكذلك ليس منجّزا ؛ لعدم انطباق أدلّته الخاصّة له وإن شملته أدلّته العامّة ، وكذلك فيما نذر هبة شي‌ء لأحد وعلّقه على أمر اتّفق وقوعه بعد موته ، وأيضا فيما لو نذر وتحقّق المعلّق عليه في حياته وحال مرضه الّذي هو محلّ الكلام في جميع الأمثلة.

وكيف كان ؛ فعدم كونهما من التصرّف المعلّق حتّى يدخل في الوصيّة معلوم ، وكذلك دخولهما في مصاديق المنجّز إشكال.

ففي جميع هذه الصور ، وكذلك مثلها ، فإن بنينا على كونها من أفراد المنجّز فيدخل في محلّ الخلاف ، وإن بنينا على كونها شقّا ثالثا ، فالتحقيق هو الحكم بالنفوذ مطلقا وخروجها من الأصل ؛ لجريان الأصول المقتضية لذلك في جميع الأفراد المشكوكة من قاعدة «السلطنة» لو كان منشأ الشكّ قصور السلطنة ، وكذلك أصالة عدم تعلّق حقّ الغير ، لو كان المنشأ تعلّق حقّ الورثة ،


وأدلّة المعاملات ونحوها من العمومات مثل : «أوفوا بالنذر» (١) ، وغيره (٢) ، لو كان المنشأ تحقّق المسبّب ، وسيأتي البحث عن كلّ واحد من هذه الاصول إن شاء الله تعالى.

معنى الحجر

وأمّا المراد من التصرّف الممنوع ؛ فلا خلاف في كون التبرّعيّات مطلقا منه ، وكذلك المعاملات المحاباتيّة ، أي ما يكون الثمن المسمّى فيها أقلّ من ثمن المثل ، وإنّما الإشكال في بعض أنواع التصرّف من إسقاط بعض الحقوق وغيرها ، ولكنّ الضابط المستفاد من أدلّة الباب الّذي هو الجامع للمصاديق هو التصرّف المستلزم للإضرار على الورثة مع انطباقه على العناوين الخاصّة في الباب ، فافهم!

وأمّا المراد بالمرض ؛ فقد وقع الخلاف فيه من جهتين ، بل جهات ، الاولى : في أنّه هل المناط في الحجر وعدمه هو المرض أم لا ، بل الإنسان عند موته مطلقا محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث؟

الثانية : بعد البناء على الأوّل ، هل المرض مطلقا مناط ، أم المخوف منه؟

الثالثة : هل الحكم مختصّ بأواخر المرض ممّا هو قريب بالموت ، أم يكون أعمّ منه وأوائله وإن طال المرض.

وتنقيح البحث يظهر بعد التكلّم في المنساق من أدلّة الباب.

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) الإنسان (٧٦) : ٧.

(٢) ولعلّه إشارة إلى قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) الحجّ (٢٢) : ٢٩.


فنقول : إنّ أخبار الباب بين طوائف ثلاث :

إحداها : ما يستفاد منها حجر المريض عمّا زاد عن الثلث.

اخراها : المستفاد من سؤال الراوي وجواب الإمام عليه‌السلام أنّ الرجل إذا حضره الموت فمحجور عمّا زاد عن الثلث.

ثالثها : قريب ذلك من قبيل «عند موته» أو «عند وفاته» (١).

ثمّ إنّ كلّ واحد من هذه العناوين الواقع في لسان طائفة خاصّة من الأخبار مطلقة ، بمعنى أنّه ليس أحدها مقيّدا بالآخر ، ولا ريب أنّ النسبة بينها عموم من وجه ، فلا وجه لحمل أحدها على الآخر بحسب المدلول اللفظي ، وإنّما الإجماع قائم على كون المراد بالمرض ، ليس مطلقا ، بل هو المرض المتّصل بالموت ، وإن أمكن استفادة ذلك من اللفظ بعناية أيضا ، وأمّا العنوان الآخر ـ وهو حضور الموت أو عند الوفاة ـ وإن كان أيضا مطلقا يشمل مثل المحكوم بالقتل بالقصاص أو الحدّ ، أو من كان في مرماة ، فلازم ظهوره عدم نفوذ وصيّتهم في ما زاد عن الثلث أيضا.

ولكنّ الّذي يبعّد كون الإطلاق مرادا دعوى الانصراف في هذه الألفاظ وغلبة إطلاق «من حضره الوفاة» وكذلك لفظ «عند الموت» على المريض ، وندرة تلك الموجبات وجودا وإطلاقا ، ومن ذلك ظهر أمر آخر ، وهو عدم كون المرض بإطلاقه مناطا ، بل لا بدّ وأن يكون مخوفا منه حتّى يؤثّر في الحجر ؛ إذ قول السائل : (حضره الوفاة) (٢) لا يسأل إلّا عن حال مريض يكون مخوفا منه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٤١٢ الباب ٣ من أبواب الحجر.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٦ الحديث ٢٤٥٨٢ و ٢٤٥٨٣ و ٣٠١ الحديث ٢٤٦٤٧.


فظهور السؤال مع الجواب المنزّل عليه دالّ على ذلك ، فمرجع هذا يكون إلى دعوى انصراف آخر.

فانقدح ممّا ذكرنا ؛ أنّ التحقيق هو ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره (١) من اشتراط مخوفيّة المرض ، وأيضا عدم كون حضور الموت علّة مستقلّة للحجر كما زعمه بعض (٢) ، نظرا بالإطلاق الصوري ـ لما عرفت من الأدلّة ـ غفلة عن القرينة الحاليّة الّتي احتفّ الكلام به الموجب لانصراف اللفظ إلى الوجه الأخصّ ، فالموضوع لعنوان المسألة ـ الّذي هو محلّ للخلاف ـ هو المرض المتّصل بالوفاة ، لا المرض المطلق ، بلا خلاف ، ولا مطلق حضور الموت ؛ لعدم مساعدة الدليل عليه ، كما أوضحنا.

بقي الكلام في أنّه بناء على الحجر ، هل الحكم ثابت لمطلق أيّام المرض ، أم مختصّ بآخره القريب بالوفاة؟ فمثل مرض الدقّ ونحوه الّذي يمكن أن يطول مدّة من الزمان ، فلو أوصى في أوائله ، فحكمه مثل حمّى العفن الّذي لو انتهى إلى الموت لا يطول غالبا ، أم لا ، بل الحجر في مرض الدقّ وأمثاله منحصر بالأواخر الّذي يقال عرفا : إنّه قرب موته؟ فهذه المسألة أيضا صارت منشأ للإشكال والخلاف.

ثمّ لا يخفى أوّلا أنّ مقتضى ظواهر الأدلّة أيضا الإطلاق ، ولا مجال لدعوى الانصراف ونحوه للاختصاص من اقتضاء الإطلاق والتقييد ذلك ، إذ قد يتوهّم أنّه بعد البناء على كون المراد من حضور الموت والوفاة هو المرض الّذي

__________________

(١) حكى عنه في جواهر الكلام : ٢٦ / ٧٤ وفي جامع المقاصد : ١١ / ٩٦.

(٢) نقل عن القواعد في جواهر الكلام : ٢٦ / ٧٤.


انتهى إليهما ، فعلى ذلك ؛ لا يستفاد منها إلّا ثبوت الحكم للمريض الّذي قرب موته ، فلا بدّ لذلك من رفع اليد عن ظهور الإطلاق في سائر الأدلّة الدالّة على الحجر في مطلق المرض.

ودفع ذلك ؛ هو أنّه إنّما يصار إلى التقييد إذا ثبتت وحدة المطلوب ، وأمّا إذا لم يثبت تلك كما في ما نحن فيه ؛ بل أمكن أن يكون كلّ واحد من المرض بإطلاقه ـ أي ولو كان أوائله الّتي بعيدة عن الموت ، وآخره المتّصل بالوفاة ـ موجبا للحجر [فلا يصار إلى التقييد].

وبالجملة ؛ فإن لم نلتزم بالمفهوم في ظواهر الأدلّة ، مثل ما يعبّر فيه «بحضور الموت» (١) أو «عند الوفاة» قلنا : إنّها من قبيل اللقب ولا مفهوم لها ، فلا تعارض بين الأدلّة أصلا ، أو يصير ـ على ذلك ـ مناط الحكم هو المرض المتّصل بالموت بجميع أحواله.

وإن قلنا بأنّ هذه الألفاظ لمّا كانت واردة في مقام التحديد فلا بدّ من الالتزام بالمفهوم فيها الموجب لإثبات خصوصيّة في التعبير «بحين الموت» ولكن مع ذلك أيضا لا موجب للحمل ؛ لعدم ثبوت وحدة المطلوب ، ولكن ؛ لمّا كان مناط وحدة المطلوب ثابتا في المقام ، فلا بدّ من الحمل.

وتوضيح ذلك : هو أنّه لو أخذنا بإطلاق ما يدلّ على كون المرض موجبا للحجر ، ولو كان أوائله ، فلا يبقى محلّ لكون المرض مقيّدا بحال الوفاة ـ الّذي يدلّ عليه الطائفة الاخرى ـ سببا للحجر أيضا ؛ بحيث يكون ذلك سببا آخر.

__________________

(١) أي : عدم الالتزام بخصوصيّة في هذه الألفاظ ، بل هي عبارة عن المرض المقارن للموت ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».


ضرورة ؛ أنّه بعد أن كان المرض بإطلاقه مؤثّرا في ذلك ، فلا يعقل أن يؤثّر حين الموت منه بخصوصيّة في الرتبة المتأخّرة في ما أوجبه أوائل المرض ، لعدم إمكان توارد العلّتين المستقلّتين الّذي هو محلّ النزاع في ذلك ، فلا بدّ وأن يكون أحدهما ملغى عن التأثير.

ولا يتوهّم أنّ تأثير الثاني إنّما هو إذا لم يكن مسبوقا بالأوّل ، إذ مع ذلك لا يعقل أن يؤثّر الخصوصيّة المدّعاة ، ضرورة أنّ محلّ البحث إنّما هو الواقع لا الخارج ، فإنّا [إذا قلنا] بأنّه لا بدّ وأن يكون أحد المقتضيين مؤثّرا في الوجود ، فإنّه بناء على الالتزام يكون المرض مطلقا علّة للحجر ، ففي الفرض المذكور فهو أوجب الحجر لا خصوصيّة حين الموت ، فسقوطه عن التأثير ليس مختصّا بما لو كانت الوصيّة حين الموت مسبوقة في الخارج بالوصيّة أوّل المرض.

وبالجملة ؛ فيدور الأمر ـ على ذلك ـ بين رفع اليد عن إطلاق المرض وتقييده بالحالة المقارنة للموت ، أو الأخذ بإطلاقه ورفع اليد عن سائر الأدلّة وإلغائها ، ولا ريب أنّه عند ذلك ، الأوّل متعيّن ؛ لصيرورته موجبا للعمل بالدليلين في الجملة.

فالتحقيق : هو البناء على كون الموجب للحجر آخر المرض الّذي يقال عرفا : إنّه قريب بالموت وحضرت وفاته ، وفي كلّ ما إذا شكّ فالمرجع هو الاصول الّتي سنحرّرها لأصل المسألة.

هذا ؛ وهل يكون مطلق الموت الواقع في حال المرض موجبا للحجر بناء عليه ، وإن لم يكن مستندا إلى ذلك المرض ، أم لا ، بل المناط هو كون المرض مستندا إليه الموت ، وإلّا ففيما لو قتل المريض قاتل أو لدغته الحيّة فمات ،


ونحوه كلّ ما لم يكن الموت مستندا إلى المرض بحيث يكون هو سببه ، لم يوجب مثل ذلك الحجر؟

قد يقال بالثاني بدعوى انصراف الأدلّة إليه ، بمعنى أنّه لا يقال : مرض الموت إلّا لمّا كان الموت مستندا إلى نفس المرض لا إلى أمر خارجي ، ولكن لا يتمّ هذا الكلام بإطلاقه ، فإنّ إنكار الاستناد في مثل ما لو لم يكن المرض مهلكا ، ولكن انتهى إليه ، كما لو أخطأ الطبيب في العلاج والدواء حتّى أوجب ذلك انقلاب المرض إلى المرض المهلك ، باطل ، إذ لا يخفى أنّ في مثله الموت مستند إلى كلا الأمرين ؛ أي المرض الأوّل والمرض الثاني ، فإنّ المرض الأوّل هو بمنزلة المقتضي لإيجاب الثاني الموت ، حتّى لو لم يكن لم يوجب الأمر الخارجي تحقّق المرض الثاني.

فالإنصاف ؛ أنّ في مثله لمّا يستند الموت إلى كلا المرضين فالحكم جار فيهما ، حتّى لو أوصى في المرض الأوّل يدخل في محلّ النزاع.

أقول : لا يخلو ذلك عن تأمّل ؛ إذ كون المرض الأوّل مقتضيا لتحقّق الثاني لم يوجب استناد الموت إليهما ؛ إذ الشي‌ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته ، وما قبلها إنّما هو المعدّات الّتي لا تطلق عليها العلّة ، ولا يراها العرف سببا ، فعلى ذلك ضمّ المرض الأوّل إلى الثاني هو كالحجر الموضوع في جنب الإنسان لا أثر له في الاستناد ، كيف ولو كان مستندا إليه ، لا بدّ وأن يكون كذلك عند التفكيك أيضا ، فتأمّل!

إذا تبيّن ذلك ؛ فلا بدّ من البحث في أصل المسألة ولنقدّم أوّلا ما يقتضيه الأصل في المقام ، بحيث يكون هو المرجع عند تعارض الأدلّة ، وهذه [هي]


الجهة الثانية من البحث.

فنقول : لا إشكال في أنّ الاصول تختلف بحسب اختلاف الاحتمالات ممّا يحتمل كونه مانعا عن تأثير الوصيّة ونفوذها في ما هو المتنازع فيه ، والاحتمالات الموجبة لعدم النفوذ عن أحد امور ثلاثة :

أحدها : هو ثبوت إضافة بين المال والورثة بحيث أوجب ذلك قصر سلطنة المالك المتصرّف ، ومنع عن استقلاله فيه الّذي كان له قبل أن يمرض ، وكان له أن يفعل به كيف شاء ، فالآن ـ أي عند عروض المرض ـ لمّا انقلبت إضافته التامّة ؛ لتحقّق إضافة بين المال والورثة أيضا فانقطعت سلطنته التامّة ، فلا تنفذ تصرّفاته في ما زاد عن الثلث ، كما لو كان أوصى بها.

وبالجملة ؛ العلقة الحادثة بين الورثة وأعيان الأموال ـ المسمّاة هذه العلقة بالحقّ ـ منعت عن نفوذ التصرّف في ما زاد عن الثلث.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم هذه الكيفيّة من العلقة الّتي يعبّر عنها بالحقّ قابليّتها للسقوط بإسقاط الورثة وقابليّتها للردّ أيضا كلاهما في حياة المالك المتصرّف.

ثانيها : ثبوت هذه العلقة والإضافة أيضا ، ولكن لا بحيث يوجب ثبوت الحقّ القابل للإسقاط ، بل يدّعى الاستفادة من أدلّة المنع حدوث العلاقة الموجبة لإخراج المال عن الطلقيّة ، ومنع صاحب المال عن الاستقلال في التصرّف المسمّى ذلك بالحكم ، ولازم هذه الكيفيّة من الإضافة قابليّتها لإمضاء التصرّف [و] عدم قابليّتها للإسقاط ، كما في مطلق الأحكام ، مثل حجر الصغير والمجنون الموجب لثبوت إضافة وعلاقة بين أمواله ووليّه ، وهذه الولاية حكم شرعيّ غير قابل للسقوط.


ثالثها : كون المرض مانعا تعبّدا ، بلا أن يحدث الحجر علاقة وإضافة بين المال والورثة ، بل يكون المرض العارض القريب بالموت حاجزا عن استقلال المالك في تصرّفاته.

ثمّ إنّ المنشأ إن كان الأخير ؛ فيمكن التمسّك بالأصول بأنواعها لإثبات نفوذ التصرّف وارتفاع مانعيّة ما يحتمل كونه مانعا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، فإنّ من شأنها رفع المانع عن نفوذ التصرّفات الصادرة عن المالك على ماله التامّ الماليّة ، وكذلك عمومات المعاملات ، فإنّ المفروض صدور عقد الهبة أو البيع ـ مثلا ـ من أهله مع كونه مجتمعا للشرائط الشرعيّة ، فاحتمل كون حال خاصّ من أحوال المتعاقدين مانعا عن تأثير العقد ، فما لم يثبت مانعيّته فأدلّة وجوب الوفاء بالعقد تقتضي لزومه المترتّب عليه النفوذ وصحّة التصرّف ، وكذلك استصحاب حال صحّته من بقاء سلطنته ونفوذ تصرّفاته لو كان ناقلا لما له في تلك الحالة ـ مثلا ـ الّذي يرجع ذلك إلى الاستصحاب التعليقي على إشكال فيه سنشير إليه.

وأمّا على الاحتمال الثاني وكذا الأوّل ، فلمّا يرجع الشكّ إلى تعلّق حقّ الغير بالمال وخروج المال عن الطلقيّة ، فلا يبقى المجال للتمسّك بالاصول السابقة.

ضرورة ؛ أنّ قاعدة السلطنة محلّها ما إذا ثبتت الماليّة التامّة حتّى تجري هي فيثبت بها نفوذ التصرّفات الواردة على المال ، وأمّا على الفرض المزبور فأصل الموضوع مشكوك فيه ، فكيف يمكن التمسّك بها؟ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، لازم ذلك كون المال طلقا ، لا على مال الغير ، وكذلك أدلّة العقود


ليس لها مجرى عموما وخصوصا ، وذلك لانصرافها إلى ما يكون موضوعها الأموال الّتي سلطنة المتعاقدين عليها تامّة ، بل ينحصر الأصل على هذين الاحتمالين بالأصل الموضوعي واستصحاب عدم تعلّق حقّ الغير الثابت للمال في زمن صحّة المالك ، واستصحاب سلطنة المالك كذلك ، الموجبان لرفع الشكّ وإثبات النفوذ.

نعم ؛ قد يستشكل هذا الاستصحاب الّذي مرجعه إلى استصحاب القدرة التامّة للصحيح لإثباتها في حال المرض بما لو كان المريض مسبوقا بالصغر أو الجنون ، فإنّه ليس له سلطنة في الزمان السابق على الزمن المشكوك فيه السلطنة حتّى يستصحب تلك السلطنة الثابتة ، فكيف يمكن جعل ذلك أصلا كليّا يرجع إليه مطلقا؟

وأمّا الفرق بين المريض الّذي كان مسبوقا بأحد الحالين ، ومن كان مسبوقا بالبلوغ والعقل فهو باطل ؛ ضرورة أنّا نعلم أنّ حكم المريض ليس مختلفا إجماعا ، بل إمّا محجور عن الزائد على الثلث مطلقا ، أو ليس كذلك مطلقا.

ولكن يمكن دفع ذلك أوّلا ، بأن يقال : إنّ عدم التفصيل في الحكم الواقعي لو كان موجبا لقيام الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الظاهري أيضا ، فلا ريب أنّ الإشكال لا مدفع له من هذه الجهة ، وأمّا لو منعنا ذلك وقلنا بأنّ الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الواقعي لا يلازم عدم جواز التفصيل في الحكم الظاهري ، فلا مانع من إجراء الأصلين على حسب المقامين.

ولكنّ ذلك بهذا المقدار لا يتمّ ، بل هو مبنيّ على أن نقول : إنّه لا مانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي ما لم ينته إلى المخالفة العمليّة ، وأمّا لو


بني على المنع عنه مطلقا ، فلا.

بيان ذلك : أنّه إنّا نعلم إجمالا بأنّ تصرّفات المريض في ما زاد عن الثلث إمّا نافذ مطلقا ، أو ليس بنافذ كذلك ، فيكون من باب العلم الإجمالي بدوران الأمر بين المحذورين ، وقد ظهر أنّ إجراء أصالة عدم النفوذ في المريض المسبوق بالصغر والجنون ، وأصالة النفوذ في المسبوق بالبلوغ والعقل ، يوجب مخالفة هذا المعلوم بالإجمال.

ولكن لمّا كان التحقيق في إجراء الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو الاحتمال الأوّل ، فبعد تماميّة المقدّمة الاولى وهذه الأخيرة أيضا فلا بدّ من الرجوع إلى الأصلين على ما يقتضيه المقامان ، لعدم لزوم المخالفة العمليّة ، وعدم ابتلاء أحد الموردين بالآخر.

نظير ما لو توضّأ بالماء المشتبه بالبول ، فبنوا على إجراء أصالة طهارة البدن واستصحاب بقاء الحدث بلا محذور ، مع أنّ مقتضى العلم الإجمالي عدم جواز التفكيك فيه ، بل لا بدّ من البناء إمّا على طهارة البدن وارتفاع الحدث ، وإمّا على نجاسته وبقائه ، ولكن لجريان الملاك المذكور وعدم لزوم المخالفة العمليّة تعدم المعارضة.

جريان الاستصحاب في المقام

وثانيا بإجراء استصحاب القدرة والسلطنة في كلتا الصورتين بتقريب أن يجرى الاستصحاب في الموضوع الكلّي ـ وهو بقاء سلطنة العاقل البالغ الّتي تكون له حين صحّته إلى حين مرضه ـ ثمّ ينطبق ذلك على المورد ، لأنّ التحقيق


هو ثبوت الأحكام للطبائع الكليّة ثمّ منها يسري إلى الأفراد ، ففي ما نحن فيه لمّا كان الحكم ـ وهو السلطنة ـ ثابتة لطبيعة العاقل البالغ فإذا شكّ في بقاء سلطنة هذه الطبيعة في حال من أحوالها فلا بأس باستصحابها في تلك الحالة ، فإذا أجرينا الاستصحاب في الطبيعة وأثبتنا الحكم لها في الحالة اللاحقة فيتبيّن حال الفرد المشكوك فيه قهرا ، لانطباق تلك الطبيعة له حسب الفرض.

ولا ريب أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد جزئي الزمان ، فلا يتوهّم أنّه إذا لم تكن السلطنة لشخص المريض المشكوك فيه في الحالة السابقة رأسا موجودة [لا يجري الاستصحاب] ، لأنّ المفروض أنّه لم يكن قابلا لها ، إذ يكفي انطباقه عليه في الآن اللاحق ، بعد كون المفروض كون الحكم في الحقيقة ثابتا للطبيعة ، وهي في كلا الزمانين مورد للحكم.

نظير ذلك ما لو أمر بإكرام العلماء ثمّ شككنا بعد زمان في تقيّده بالعدول ، ولذلك ارتفع الحكم عن العالم المطلق ، ولذا نشكّ في إكرام زيد الّذي لم يكن بعالم في سابق الزمان والآن صار عالما مع اتّصافه بالفسق ، فلا إشكال أنّ مقتضى «لا تنتقض اليقين» (١) عدم جواز رفع اليد عن الحكم الثابت أوّلا ، وعدم الاعتناء باحتمال التقيّد المذكور فيجب إكرام مطلق العلماء فيستكشف حال زيد.

نعم ؛ قد يردّ هذا الاستصحاب لمعارضته باستصحاب الحالة السابقة لشخص المستصحب لأنّ المفروض أنّ شخص هذا المريض الّذي مسبوق بالصغر أو الجنون كان قبل مرضه محجورا عن التصرّف ، وممنوعا عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٧ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.


الاستقلال ، فبعد بلوغه مع اتّصافه بالمرض يشكّ في ارتفاع حجره وعدمه ، ولا ريب أنّ المتيقّن منه هو ارتفاعه في الثلث والباقي مشكوك فيه فيستصحب الحكم الثابت فيه له قبل مرضه.

وأنت خبير بضعف ذلك ؛ لأنّ الشكّ في شخص المريض وتصرّفاته إنّما هو ناشئ عن الشكّ في الحكم الكلّي المتعلّق بطبيعة العاقل البالغ الّذي عرضه المرض ، بحيث لو ارتفع الشكّ عن ذاك الموضوع الكلّي لا يبقى الشكّ في هذا الشخص أبدا.

ضرورة ؛ أنّ مفروض الكلام عدم كون أفراد المريض مختلف الحكم حتّى يوجب ذلك خصوصيّة في الشخص ، فإذا كان ارتفاع الشكّ عن الفرد يرتفع بتبيّن حكم الموضوع الكلّي ، فالاستصحاب فيه يكون حاكما على الاستصحاب الجاري في الفرد ، لكونه رافعا للشكّ عنه ومتكفّلا لبيان حكم استصحاب حال الفرد.

فانقدح من ذلك ؛ صحّة استصحاب الحكم الكلّي الثابت لطبيعة العاقل البالغ ، وعدم المانع عنه ، حتّى لاستظهار حكم المريض الّذي غير مسبوق باستقلال التصرّف في أمواله ، وعدم انطباق هذا الحكم الكلّي للموضوع المشكوك فيه سابقا لا يضرّ بالاستصحاب إذا كان منطبقا عليه في الزمان اللاحق ، إذ قد أشرنا إلى أنّه ثبت في محلّه أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد عمودي الزمان فثبت من ذلك ؛ أنّ الأصل نفوذ تصرّفات المريض مطلقا في مرضه ، لو كانت منجّزة.

وقد يتمسّك لدفع الإشكال بالاستصحاب التعليقي ، كما أنّه تمسّك به


لإثبات الحكم في أصل المسألة أي استصحاب حكم حال الصحّة مطلقا ، وتنقيح المقام موقوف على ذكر جملة من الكلام في أصل الاستصحاب التعليقي.

فنقول : إنّ المستصحب كذلك إمّا هو حكم تكليفي أو وضعيّ ، أمّا في الأوّل ؛ فالاستصحاب التعليقي وجوازه فيه موقوف على ما هو التحقيق عندنا من كون الحكم والإرادة فيها متعلّقة بالصورة الذهنيّة دون الخارجيّة ، إذ قد سبق أنّ تعلّق الإرادة بالخارجيّات يكون تحصيلا للحاصل ، بل إنّما المتعلّق به في الأحكام التكليفيّة هو الخارج الزعمي.

فعلى ذلك ؛ لما كان الموضوع فيها كذلك محقّقا دائما ، ولذلك بنينا في محلّه على عدم صحّة ما هو المعروف من أنّ الواجبات المشروطة بعد تحقّق شرطها تنقلب وتصير مطلقة ، وليس ذلك إلّا توهّم كون متعلّق الأحكام هو الخارجيّات ، ومنها المعلّق عليه في الواجبات المشروطة ، وهذا توهّم فاسد ، بل الإرادة فيها ، سنخها غير سنخ الإرادات المطلقة ، إذ هي في الواجبات المشروطة إنّما هي الإرادة المنوطة ، بمعنى أنّه قد يتعلّق الطلب المطلق بالصلاة ، وقد يكون الطلب مقيّدا بشي‌ء أو حال متعلّقا [بشي‌ء] ، مثل الطلب المتعلّق بالصلاة عند دلوك الشمس ، لا بأن لا تكون الإرادة قبل الدلوك محقّقة ، ولا بأن يكون المتعلّق به ، الدلوك الخارجي ، بل الإرادة من أوّل الإنشاء محقّقة بحيث يرى الدلوك موجودا فعلا ، ففي ظرف وجوده تطلب الصلاة عنده.

فلمّا كانت هذه الإرادة من حين تحقّقها موجودة بلا أن تنقلب عن كيفيّتها من الإناطة وردّ المنوط عليه في ظرف الإناطة ـ وهي عالم الإنشاء ـ مفروض الوجود ، ففي مثل هذه الأحكام والإرادات لا بأس باستصحابها ، ولو لم يكن


معلّق عليه الإرادة موجودا في صفحة الخارج.

نعم ؛ تحقّقه في الخارج موجب للتنجّز وبعث العقل إلى العمل ، وهذا لا ربط له بمقام الإرادة ، حتّى لا تكون لها الفعليّة إلّا بذلك ، كما توهّم ، بحيث تكون ـ قبل تحقّق المعلّق عليه في الخارج ـ الإرادة شأنيّة محضة.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب التعليقي في الأحكام التكليفيّة على ما هو التحقيق من كيفيّة الطلب فيهما لا محذور ، وأمّا على القول بكون المتعلّق للطلب فيها الخارجيّات بحيث لا تكون فعليّة للطلب ما دام لم يوجد المتعلّق عليه في الخارج حتّى يكون الخارج ظرفا للتنجّز أو البعث العقلي ، بل الخارج ظرف لتحقّق الطلب فتكون الأحكام التكليفيّة حكمها مثل الوضعيّة على ما سيجي‌ء.

وأمّا الأحكام الوضعيّة فلا إشكال في كون متعلّقاتها إنّما هي الخارجيّات أو السلطنة ثابتة للشخص على المال الموجود في الخارج ، وكذلك النجاسة ثابتة للعصير الغالي الخارجي ، وكذلك الوفاء متعلّق بالعقد الموجود في الخارج ونحوها من الوضعيّات.

فنقول : إنّما يصحّ الاستصحاب التعليقي فيها على القول بكون المراد من «لا تنقض اليقين» هو المتيقّن ، فيكون مفاد الاستصحاب هو التنزيل وجعل المتيقّن.

فعلى ذلك ؛ فبعد أن أوضحنا بأنّه لا بأس بتصرّف الشارع في الامور العقليّة رفعا ووضعا إذا كان منشأ الأمر الشرعي ، فلا مانع من استصحاب الملازمة الثابتة بين العصير المغليّ والنجاسة ، وكذلك وجوب الوفاء بالعقد الواقع


في حال الصحّة أو البلوغ.

فمن ذلك تثبت نجاسة عصير الزبيب المغليّ باستصحاب الأوّل بعد فرض كون الزبيبيّة من الأعراض الغير المغيّرة لحقيقة العنبيّة ، وكذلك يستصحب في المغليّ فيحكم بوجوب الوفاء بالعقد الواقع من المريض ، وذلك ؛ لأنّ أثر الاستصحاب ، إذا كان جعل تلك الملازمة الثابتة عند اليقين في ظرف الشكّ حقيقة. ومن المعلوم ؛ أنّ من آثاره العلم الحاصل من جهة الاستصحاب بالملازمة العلم بالملزوم ، وهو الغليان مثلا ، فإذا ثبت الملزوم فاللازم يثبت بذلك ، فيكون استصحاب الملازمة الثابتة بين العنب المغليّ والنجاسة من قبيل استصحاب ما ثبت أحد جزأي الموضوع بالوجدان ، وهو العنبيّة ، بناء على المسامحة ، والآخر بالاستصحاب.

وبالجملة ؛ فعلى هذا المسلك في باب الاستصحاب ؛ فلا مانع من الاستصحاب التعليقي أبدا ، وأمّا على المسلك ؛ التحقيق فيه من كون الاستصحاب من باب الأمر بالمعاملة ، لا جعلا وتنزيلا ، فلا يبقى المجال للاستصحاب التعليقي ، إذ قد ظهر أنّه موقوف على العلم بوجود الملزوم الحاصل على التقدير الأوّل من جعل الملازمة ، وأمّا على هذا التقدير فليست الملازمة في نفسها ثابتة حتّى يثبت الملزوم بتبعها ، بل الثابت إنّما هو اليقين التنزيلي.

ومن المعلوم ؛ أنّه لا ملازمة بين ذلك وإثبات الملازمة أو الملزوم لا عقلا ولا شرعا إلّا على القول بالأصل المثبت ، بخلاف الفرض الأوّل ؛ إذ الملازمة الحقيقيّة الّتي كانت ثابتة بجعل التنازع ملازما لوجود الملزوم ، فإذا لم يكن الملزوم هنا ثابتا فلا يثبت اللازم وهو الحكم ، فلا يبقى الموقع للاستصحاب.


مقتضى الأخبار في المقام

فإذا تمّ البحث في ما يقتضيه الأصل في المسألة فلنشرع في ذكر ما [هو] مقتضى الأدلّة الخاصّة في الباب من الأخبار ، فنقول [أوّلا] : لا يخفى أنّ أخبار الباب بحسب اللحاظ الأوّلي والنظر البدويّ متعارضة ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء قدس الله أسرارهم في المسألة ، فاختار كلّ فريق طائفة منها ورجّحها على الاخرى سندا أو دلالة ، فأفتى بمفاد الراجحة بنظره.

فالمشهور بين القدماء (١) ، بل نقل في كلماتهم الإجماع على خروج المنجّزات من الأصل (٢) ، وأمّا الشهرة المتأخّرة فقد استقرّت على خلافه (٣).

أمّا الأخبار الدالّة على الأوّل فهي القريبة بحدّ الاستفاضة.

منها : حديث صفوان (٤) ، فهي وإن لم تكن صريحة في الدلالة على الخروج من الأصل ؛ إذ يحتمل أن يكون المراد من المرض غير مرض الوفاة ، فيكون السؤال عن غيره ؛ لكون حال المرض غالبا يوجب قلّة الحرص وانقطاع العلاقة من المال ، ولذلك يعمل بأمواله ـ أي المريض ـ في حاله هذا ما لا يعمل به في صحّته.

والجواب لا بدّ وأن يكون ناظرا إليه ؛ فلذلك لا يصير صريحا في المطلوب ، نعم ؛ بمقدّمات ترك الاستفصال يدلّ عليه أيضا ، إلّا أنّ ذلك لا يزيد عن الإطلاق

__________________

(١) وكذلك طائفة من متأخّري الأخباريّين ، «منه رحمه‌الله».

(٢) الحدائق الناضرة : ٢٢ / ٥٩٩.

(٣) مسالك الإفهام : ٦ / ٣٠٥ ، ونقله صاحب الحدائق الناضرة : ٢٢ / ٥٩٩.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩١ الحديث ٢٤٦٢١.


ولا يوجب صيرورته نصّا ، كما لا يخفى.

ومنها : حديث أبي بصير (١) ودلالته على المطلوب تامّة وقريب من الصراحة.

ومنها : حديث سماعة (٢) ودلالته على المدّعى إنّما هو بالإطلاق (٣).

ومنها : الموثّقات الأربع لعمّار (٤) ، فهي وإن كانت من حيث السند تامّة إلّا أنّ في دلالتها جهات من الكلام ، إذ يحتمل أن يكون المراد من الإبانة هي الإبانة الخارجيّة لا الاعتباريّة المراد بها المنجّز الواقع بأحد عناوين المعاملات ، فعلى الاحتمال الأوّل لا يتمّ المدّعى بها ، إذ يكون المراد بها عليه أنّه إذا كانت الإبانة الخارجيّة في المنجّز واقعة ، بمعنى أن يكون أقبضه إلى المنتقل إليه في حياته الكاشف ذلك عن إمضاء الورثة وعدم ردّهم ، وإلّا كان لهم المنع ، فلا يكون فيها دلالة على المطلوب ، فتأمّل!

نعم ؛ تتمّ دلالته بناء على استظهار الاحتمال الثاني.

وثانيا : اختلف نقل متن أحدها من كونه «تعدّى» أو «بعدي» ، ولا ريب أنّه على إحدى النسختين لا دلالة فيها على المطلوب أيضا ، وعلى ذلك تصير

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٧ الحديث ٢٤٦٣٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٦ الحديث ٢٤٦٣٥.

(٣) لا يخفى ضعف دلالته إذ يحتمل أن يكون [«ما» في] قوله عليه‌السلام : «ماله» ؛ «ما» الموصولة ، فتكون كناية عن ثلث ماله الّذي هو له ، فأجاب الإمام عليه‌السلام : «هو ماله» أي الثلث ماله يصنع به ما شاء ، وعلى فرض التسليم فدلالته إنّما هو بالإطلاق القابل للتقييد جدّا ، «منه رحمه‌الله».

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٨ الحديث ٢٤٥٩١ و ٢٩٨ الحديث ٢٤٦٣٩ و ٢٩٩ الحديث ٢٤٦٤١ و ٣٠٠ الحديث ٢٤٦٤٤.


الرواية (١) بحكم المجمل ، إذ على تقدير الأوّل بناء على أن يكون الغرض من التعدّي التجاوز عن الثلث ، لا الحياة لمّا يصير الكلام ممّا يصلح للقرينيّة الصارفة للّفظ عن معناه الظاهر فيه ، فيصير طرفا للعلم الإجمالي ، فلا يمكن الأخذ بالطرف الآخر.

وثالثا : يحتمل قويّا كون الموثّقات الأربع ـ الّتي يكون ناقلها شخصا واحدا ، وكذا المنقول عنه ـ موثّقة واحدة ، وإنّما نقلها مكرّرة ، فلا يحصل الوثوق بكلّ واحد منها الّذي هو مناط الاعتبار.

ثمّ إذا احتمل كونها منحصرة بواحدة ، وبعد أن يحتمل كون تلك الواحدة هي الّتي قد اختلفت نسخته ، الموجب ذلك لسقوطها عن الاعتبار ، فكيف يمكن التمسّك بهذه الموثّقات والركون إليها؟

ومنها : ما رواه المحمّدون الثلاثة (٢).

ومنها : صحيح إبراهيم بن هاشم (٣).

ومنها : خبر ابن أبي السمّاك (٤) ، ودلالة هذه الطائفة أيضا تكون بالإطلاق ، مع جريان احتمال التفكيك في لفظ «ماله» أيضا فيها.

نعم ؛ هذا الاحتمال في بعض هذه الروايات ، وهي ما كانت في ذيلها لفظ «فإن أوصى» (٥) ونحوه ؛ بعيد بل في غاية الضعف ، وأمّا في هذه الروايات

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٨ الحديث ٢٤٥٩١.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٣٣ الحديث ٢٤٧١٦ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٥٩.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٩ الحديث ٢٤٦٤٢.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٧ الحديث ٢٤٦٣٧.

(٥) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٩ الحديث ٢٤٦٤١.


الأخيرة فقريبة بل قويّة مع لحاظها مع ما يدلّ من الروايات الآتية على حرمان الشخص في مرض موته عن الزائد عن الثلث.

ومنها : الأحاديث الثلاثة المشتملة على العتق ولما كان تقريب دلالة هذه الطائفة على المطلوب حكم الإمام عليه‌السلام بكونه نافذا مطلقا ، مع احتمال كونه زائدا عن الثلث ، وأيضا يحتمل كونه مؤخّرا عن الوصايا ، مع ذلك يحكم عليه‌السلام بكونه نافذا مطلقا ولا يتمّ ذلك إلّا لكونه من التصرّفات المنجّزة.

فيمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بأنّ الحكم بنفوذ العتق مطلقا لكون بنائه على التغليب.

وثانيا : يحتمل كونه مقدّما على سائر الوصايا بحسب الوصيّة فلذلك حكم الإمام عليه‌السلام بكونه نافذا.

وثالثا : ولو فرض كون العتق من التصرّفات المنجّزة ، مع ذلك حكم الإمام عليه‌السلام بنفوذه مطلقا لا يستكشف كونه من الأصل ، بل يجتمع ذلك ـ أي تقديمه وتنفيذه ـ مع كونه من الثلث أيضا ، وذلك لأنّه يمكن أن يكون وجه التقديم هو دوران الأمر بين المقتضى التنجيزي ـ وهو العتق ـ والتعليقي وهو الوصيّة ، ولمّا كان المقتضى التنجيزي يؤثّر في الرتبة السابقة فلا تصل النوبة إلى الوصيّة ، لعدم بقاء المحلّ له ، إذ الثلث الّذي هو مصرفه إنّما صرف في العتق لما عرفت.

وأمّا الأخبار الدالّة على الثاني فبين طوائف (١) ، الاولى : ما تدلّ بإطلاقها

__________________

(١) قد ادّعى تواترها «صاحب الجواهر» نقلا عن «جامع المقاصد» (جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٦٨ ولاحظ! جامع المقاصد : ١١ / ٩٦ و ١٠٩ ـ ١١١) وإن لم تتحقّق هذه الدعوى عن «جامع المقاصد» على حسب الفحص في أطراف كلماته ، كما اعترف بذلك بعض من كتب في المسألة رسالة.


على حرمان الرجل عمّا زاد عن الثلث (١).

منها : صحيح يعقوب بن شعيب (٢).

ومنها : صحيحة ابن يقطين (٣).

ومنها : خبر عبد الله بن سنان (٤) ، وغير ذلك ممّا لا يسع هذا المختصر لنقلها.

أمّا الكلام في سند هذه الأخبار فلا ينبغي البحث فيه ؛ لاشتمالها على الصحيح ونحوه ، وأمّا دلالتها فلمّا كان مضمون غالبها هو : «رجل يموت» أو «ماله عند موته» ومن هذا القبيل ، فالنفي الوارد على هذه المضامين إمّا أن يكون المراد به نفي السلطنة في ما زاد عن الثلث ، وإمّا أن يكون هو نفي الماليّة رأسا.

أمّا الأوّل : فهو موقوف أن يكون المراد من مجموع السؤال والجواب هو سلب السلطنة في زمن الحياة المتعلّقة بالتصرّف المنجّز والمعلّق كليهما.

وعلى هذا التقدير ؛ قد يتوهّم كونها حاكمة على الأخبار الدالّة على خروج المنجّز من الأصل ؛ لكون دلالتها بالإطلاق فيقيّد قوله عليه‌السلام : «الإنسان أحقّ بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح» (٥) بتصرّفه المتعلّق بثلث ماله دون زائده ، ولكن هذا مردود.

أو فيها يكون ما ليس يقبل ذلك ، مثل حديث أبي بصير الدالّ على نفوذ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧١ الباب ١٠ من أبواب الوصايا.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٢ الحديث ٢٤٥٧١.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٤ الحديث ٢٤٥٧٧.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٣ الحديث ٢٤٥٧٦.

(٥) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٩ الحديث ٢٤٦٤٢.


تصرّفات الشخص مطلقا ، وفي ذيله : «فإن أوصى فليس له إلّا الثلث» (١) ، وقد أشرنا إلى كون مضمون هذا الحديث نصّا في المدّعى ، فكيف يمكن تقييده بنحو ما ذكر؟ ولذلك قد يتوهّم حكومة تلك الأخبار على هذه الطائفة وتقييدها بالتصرّفات المعلّقة على الموت ، فهي الّتي نفت السلطنة عمّا زاد عن الثلث فيها.

ولكن هذا أيضا فاسد ؛ وذلك ؛ لأنّه إذا كان وقوع متعلّق الوصيّة وتحقّقه بعد موت الموصي لا في حياته ، فمرجع سلب السلطنة عن الإنسان وإثباتها له في ثلث ماله يكون إلى إثبات السلطنة له في ثلث ماله بعد موته ، وهذا لغو غير معقول ، بل لا بدّ أن يلاحظ النفي والإثبات بالنسبة إلى زمن الحياة ، كما لا يخفى.

فإذا انتهى الأمر إلى ذلك فيقع التعارض الحقيقي بين الطائفتين على هذا التقدير ، إذ يكون مفاد أخبار الأصل إثبات السلطنة الكليّة ما دامت الروح في بدن الإنسان ، ومفاد هذه الأخبار هي السلطنة عنه في ما زاد عن الثلث كذلك.

وأمّا على التقدير الثاني ـ وهو أن يكون المراد من النفي في هذه الأخبار نفي الماليّة ـ ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو مبنيّ على أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «عند الموت» أو قوله عليه‌السلام : «يموت» وغير ذلك من هذه المضامين بعد الموت ، إذ فيه إنّما تنقطع يد الإنسان عن ماله فيصحّ نفيه عنه ، وأمّا قبله فالظاهر أنّ بقاء المال على ملك صاحبه وعدم تعلّق حقّ الورثة به إجماعي ، فعلى ذلك يبقى النفي بحاله على معناه الأصلي من نفي حقيقة الماليّة لا نفي السلطنة باعتبار نفي الآثار ، ويرتفع التعارض أيضا ، إذ يختلف موضوع الإثبات المستفاد من أخبار الأصل والنفي الدالّ عليه هذه الأدلّة ، فيدور الأمر بين أن يرفع اليد من ظاهر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٩٧ الحديث ٢٤٦٣٦.


أخبار الأصل بحملها على غير مرض الموت وتقييد السلطنة المستفادة منها بالثلث ، وبين التصرّف في بعض هذه الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «عند موته» وحمله على بعد الموت ، وإلّا فمثل قوله عليه‌السلام : «يموت» لا يحتاج إلى التصرّف ؛ إذ هو ظاهر في ذلك.

ولا إشكال أنّ الثاني أولى ، بل متعيّن ؛ إذ عليه يبقى النفي أوّلا على معناه الظاهر ، وفي هذه الأخبار يكون ما يدلّ على كون المراد ، التصرّفات المعلّقة على الموت مثل قوله عليه‌السلام : «فإذا أوصى بأكثر من الثلث» (١) .. إلى آخره ، وكذلك قوله عليه‌السلام : «فإن لم يوص» (٢) .. إلى آخره.

ثانيا : والجمود على ظواهرها يوجب تخصيص الأكثر أو الالتزام بما هو المخالف للسيرة القطعيّة ، ومنع المالك عن تصرّفه في مرضه عن مطلق التصرّفات إلّا بمقدار الثلث وحجره عن إعطائه أجرة الطبيب أو بعض النذور ، أو صرفه لنفسه ولعياله ، وغير ذلك ممّا هو مرغوب عنه عند الكلّ ثالثا.

فالتحقيق الالتزام بظهور أخبار الأصل ، لعدم كون هذه الأخبار قابلة لمعارضتها كما عرفت ، وأمّا بقيّة الطوائف فلا ريب في عدم قابليّتها للمعارضة أيضا كما يظهر للمتدبّر فيها ، وقد تعرّض لذكرها والجواب عنها السيّد المحشّي قدس‌سره (٣) بما لا مزيد عنه فراجع!

ولكن لا يخفى ؛ أنّه بعد ما أشرنا إلى ما في أخبار الأصل أيضا هي غير

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٨٤ الحديث ٢٤٦٠٢.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٣ الحديث ٢٤٥٧٦.

(٣) لم نعثر على هذا القول.


تامّة الدلالة أو السند ، وإن استقرّ رأي الأستاد ـ مد ظلّه ـ على تقويتها مؤيّدا بغيرها ممّا أشرنا إليها قبل التعرّض لذكر الأخبار ، والله العالم ، وهو الموفّق والمعين.

قد وقع الفراغ من هذا البحث في أخير عشر الثاني من [شهر] رمضان المبارك ١٣٤٤ الهجريّة.



رسالة الغصب



غصب المسجد

[ولا يخفى أنّه إذا كان الشي‌ء متعلّق حقّ الانتفاع لشخص أو جماعة ولم يكن مملوكا لهم لا عينا ولا منفعة فهل يكون غصبه كغصب المملوك عينا أو منفعة بحيث تبطل صلاة الغاصب في ذلك المكان مطلقا ، وصلاة غيره إذا لم يكن جاهلا بالغصب ، أو ناسيا ، أو لا يكون كغصب المملوك؟ فإنّه معركة الآراء ، فقيل بعدم الفرق ، وقيل بالفرق وأنّ الصلاة لا تبطل إلّا فيما إذا كان مملوكا عينا أو منفعة فلا تبطل الصلاة فيما لم يكن ملكا] (١) عينا أم منفعة ، بل إنّما تعلّق حقّ انتفاعهم عنها بلا أن يثبت لهم ماليّة فيها أصلا ، ولذلك قالوا في مسألة من سبق إلى مكان من المسجد ونحوه فهو أولى به (٢) ، بأنّه لو أزعجه آخر عن مكانه فصلّى فيه تكون صلاته صحيحة ، وليس ذلك إلّا لأنّ للسابق حقّ انتفاع من الأرض بلا ثبوت ماليّة له فيها ، ولا ثبوت حكم وضعيّ لهذه الأرض بالنسبة إلى السابق ، بل إنّما أولويّته حكم تكليفي صرف ، وهو حرمة إزعاجه الغير الّذي نشأ ذلك من جهة جعل الشارع له أولويّة الانتفاع.

نعم ؛ هل يتوقّف صدق عنوان الغصب على أن تكون يد الغاصب موضوعة على المال والملك ، بحيث لو لم تكن اليد العادية واردة على ما ليس بمال لأحد

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أوردناه لتتميم البحث.

(٢) ليست المسألة اتّفاقية بل خلافيّة ، بل المشهور بطلان الصلاة ، «منه رحمه‌الله».


لم يتحقّق الغصب ، أم لا ، بل لا يتوقّف على ذلك ، بل ما يصدق عليه أعمّ من أن يكون مالا أو شيئا فيه نحو اختصاص بالغير ، بحيث للغير أن يرفع اليد العادية ويمنعه عن التصرّف فيه لا بعنوان الأمر بالمعروف بل بعنوان أنّ حقّه تعلّق به فهو ذو حقّ فيه وله إضافة خاصّة إلى الشي‌ء الّذي وردت عليه اليد العادية.

ولا يخفى ؛ أنّه ما اعتبر أحد في مفهوم الغصب المعنى الأوّل ، بل معناه اللغوي وكذلك كلماتهم ظاهرة في المعنى الأعمّ ، ولا ريب أنّ العرف أيضا مساعد معه ، فيصدق على من تصرّف في المسجد عمّا هو عليه ، ولو لم يكن فيه ماليّة لأحد أي مال للناس ، أنّه غصبه ، لما يرون فيه للناس حقّ اختصاص به.

وبعبارة اخرى : أنّ الأوقاف العامّة ليست كالمباحات الأصليّة الّتي ليس لأحد أن يمنع المتصرّف فيها عن التصرّف ، بل لهم لما يكون للناس جميعا فيها حقّ وسلطنة أن يمنعوا المانع عن استنقاذ حقّهم ، وكذلك ليس كمنفعة الحرّ الّتي ليست ملكا ولا متعلّقا لحقّ أحد ، بل إنّما سلطنته على نفسه حكم محض بلا اعتبار ماليّة أو حقّ فيه ، ولذلك لا يضمن منافع الحرّ ، وليس ذلك إلّا لاختلاف نحو العلقة الحاصلة بين الناس وبين المباحات ، وبين العلقة الثابتة بين الأوقاف العامّة والموقوف عليهم ؛ لأنّ العلقة الثابتة بينهم وبين المباحات إنّما تكون نحو اختصاص ، بحيث لو سبق إليها كلّ شخص تكون تلك المباح له ، وله أن يقلّبه كيف شاء ؛ لصيرورته ملكا له ، بخلاف الأوقاف العامّة فإنّ الناس فيها شرع سواء ، وإن كانت علقة الاختصاص هنا أيضا بتحقيق للسابق إلّا نحوها تكون بحيث له الانتفاع منها فقط ، بلا أن يكون له تقلّبها بأيّ نحو شاء بعنوان الملكية ، بل لو تصرّف هكذا لما كان يتصرّف في متعلّق حقّ الغير ، فللغير أن يمنعه ويرفع


يده عن الزائد عمّا له الحقّ أن يتصرّف فيه كغيره من الموقوف عليهم.

وأمّا الفرق بينها وبين منافع الحرّ ؛ فلما عرفت من أنّ العقلاء لا يعتبرون لمنافعها الماليّة ، ولا العلقة الحاصلة بينه وبين منافعه العلقة الملكيّة والمالكيّة ، كما أنّ الشارع ما اعتبر لمنافعه إلّا حكما تكليفيّا محضا ، بمعنى أنّ سلطنة الحرّ على نفسه ومنافعه (١) ليست إلّا قدرة محضة بلا اعتبار حكم وضعي له ولمنافعه.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّه يكفي في حرمة التصرّفات الزائدة على مصرف الوقف أو المعتبرة له ، ما دلّ على أنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، فلو لم يكن لنا دليل الغصب ، أو لم يصدق العنوان على المقام ، ما يكون من قبيل هذه الأدلّة كافية لإثبات عدم جواز التعدّي في الأوقاف العامّة ومنع اليد العادية عنه ، كيف وقد أوضحنا صدق عنوان القضيّة عليها ، وعدم توقّف ذلك على أن يكون الوقف تمليكا كما زعمه بعض (٢) ، بل ولو قلنا بكون الأوقاف العامّة تحريرا وإيقافا يصدق عنوان الغصبيّة أيضا ؛ لصيرورتها بذلك ـ أي بالتحرير ـ متعلّقا لحقّ الناس ، ولو لم يكن ملكا لهم ، كما أنّ ظاهر معاقد الإجماعات قد عبّر فيها عن الحقّ ، أي : للناس حقّ الصلاة في المساجد أو حقّ السكنى في الخانات.

فلا يتوهّم أنّ إضافتهم بها يكون كإضافتهم بالمباحات قبل تصرّفهم فيها ، حتّى يكون حكما محضا بلا ثبوت حقّ ليس الأمر كذلك ، بل يعتبرون للناس في الأوقاف العامّة الحقوق ونحو اختصاص وإضافة ماليّة بحيث لو منعهم أحد عنها

__________________

(١) وإن كان ظاهرهم اعتبار الماليّة لمنافعه بعد صيرورتها مصبّا للمعاملة والإجارة ، حتّى جوّز بعض جعلها بدلا وعوضا في البيع ، وبالجملة ؛ اعتبر فيها جميع اعتبارات الماليّة ، فراجع أوّل البيع! «منه رحمه‌الله».

(٢) المكاسب : ٤ / ٥٤.


يصدق عليه أنّه غصب حقوقهم.

بل هكذا القول في الأوقاف الخاصّة ، أي لا نلتزم فيها بالتمليك ، مع ذلك نلتزم فيها بصدق عنوان الغصبيّة ، كما أنّ ظاهر الحديث وكذلك عبارات الفقهاء في حقيقة الوقف هو أنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، فينكشف من ذلك أنّهم اعتبروا للتمليك مراتب.

منها : تمليك العين بجميع تشخّصات وجودها ومراتب وجودها ، كما في التمليك في البيع والهبة ونحوهما.

[و] منها : تمليكها بجهة من وجودها ؛ مثل تمليك منافعها مثل الإجارة ، والأوقاف الخاصّة ، فهذه الحيثيّة من وجود العين فيهما يصير ملكا للمستأجر والموقوف عليهم ، ولذلك لهم القلب والانقلاب في هذه الحيثيّة من الوجود بأيّ نحو شاءوا ، ولكن بحيث لم يتعدّ عن المنافع ويصل التصرّف بالعين.

ولعلّه لمّا رأوا أنّ للموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة التصرّف فيها ـ أي في منافعها ـ بأيّ نحو شاءوا فالتزموا بالتمليك فيها ، فأشكل عليهم الأمر ، ووردت عليهم الإشكالات المذكورة في محلّها.

وقد تبيّن أنّه لا داعي لذلك ، ولا ضرورة تقتضيه ، مع أنّه يلزم أن نجعل للواقف حقائق مختلفة ، ففي الأوقاف العامّة نلتزم بالتحرير والإيقاف ، وفي الخاصّة بالتمليك.

ومنها : ما يكون تمليكا لجهة من وجود العين أضعف من الجهة الثانية ، وهي جهة الانتفاع من العين كما في العارية والأوقاف العامّة ، ففي مثلهما ليس تمليكا للمنفعة ولا العين ، ولذلك ليس للمستعير ولا الموقوف عليهم القلب


والانقلاب فيهما بل يكون أثر هذا التمليك صرف جعل حقّ الانتفاع لهم ، فيستحقّون أن يعملوا في العين العمل الّذي اعير العين واوقف له ، فلا يتوقّف استحقاقهم ذلك أن يكون العين أو المنفعة ملكا لهم ، بل فيه تسبيل الانتفاع وتمليكه ، وهذا أمر اعتبره العقلاء ، والشارع أيضا أمضاه.

وأمّا جهة الضمان ـ أي ضمان العين ـ فقد تبيّن لك صدق عنوان الغصب على تغليب الأوقاف العامّة وتغييرها عن هيئتها الموقوفة عليها ، وقد ذكرنا في صدر الباب أنّ الغصب مساوق لليد ، ولا يخفى أنّه بعد لحاظ العلقة المذكورة بين الأوقاف المذكورة والموقوف عليهم ، فيصدق أيضا على اليد العادية فيها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) ولا إشكال أنّ أخذ كلّ شي‌ء بحسبه ، فأخذ العين يكون بوضع اليد عليها ، وأخذ الانتفاع يكون بوضع اليد على ما ينتفع منه ، ومنع المستحقّين عن انتفاعهم [منه].

هذا اعتبار الأخذ ، وأمّا اعتبار الأداء فيها ؛ فإنّما يكون بردّ ما ينتفع به إليهم ، فإن كان بدّله أو جعله محلّا لانتفاع شخصه فيردّه إلى ذوي الحقوق ، ويجعله في محلّه حتّى يستفيد ذوو الحقوق منها كما عيّن بحسب ما أوقفها أهلها لمصرفها ، هذا بخلاف مثل منافع الحرّ ؛ فإنّه وإن كان يتصوّر الاستيلاء بالنسبة إلى الحرّ ، إلّا أنّه لا يصدق الضمان على منافعه الفائتة زمن الاستيلاء عليه وحسبه ، وعلّة ذلك أنّ الإضافة الاختصاصيّة الّتي تكون في الأوقاف ، بحيث يكون منشأ تلك الإضافة الحكم الوضعي الّذي اعتبر فيها باعتبار حقوق الموقوف عليهم المتعلّقة بالأعيان الموقوفة الّتي صارت تلك الإضافة منشأ

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.


لاعتبار نحو ماليّة فيها لهم تلك الإضافة ، ما اعتبر بين الحرّ ومنافعه ، ولذلك قلنا : إنّ سلطنته على نفسه ليست إلّا قدرة محضة وحكما صرفا ، فلذلك ؛ وإن صدق الأخذ على الاستيلاء على الحرّ بوضع اليد عليه ، إلّا أنّ غاية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» وهي «حتّى تؤدّي» لا يصدق ، لأنّ التأدية موقوفة على أن يكون المؤدّى مالا أو حقّا حتّى يردّ ، فيتحقّق الأداء ، وقد أوضحنا : لا اعتبار ماليّة أصلا بالنسبة إلى منافع الحرّ ، فتأمّل! (١)

فانقدح بما ذكرنا تحقيق الضمان باستيلاء اليد على الأوقاف العامّة ، وصدق الغصبيّة عليها عند ذلك ، فللموقوف عليهم إلزام الغاصب على ردّ الأعيان الموقوفة وأخذها منه ؛ لصدق قاعدة «اليد» على عمله ذلك.

ومن البديهة أنّ الضمان لا يتوقّف على مئونة أزيد من ذلك ، وكذلك يضمن العادي والغاصب منافعها المستوفاة بالملاك الّذي بيّنا في ضمانه أصل العين الموقوفة ؛ لأنّه وإن لم يكن منافع المسجد ـ مثلا ـ ملكا للمسلمين ، بل لهم فيه حقّ الانتفاع ، إلّا أنّ تلك الإضافة الّتي تعتبر عند العقلاء بين العين والموقوف عليهم ، كذلك تعتبر بينهم وبين منافعه.

فإن آجر الغاصب المسجد ـ مثلا ـ وأخذ مال الإجارة يجب عليه ، بمعنى أنّه ضامن أن يصرفها في الأعيان الموقوفة ، بل للمسلمين إلزامه ، بأن يأخذوا عنه المنافع ، لا لكونها مالا لهم بل لكونها متعلّقا لحقوقهم ، فيصرفوها في العين الموقوفة من حصير المسجد أو تعميره وغير ذلك ، ولكن لهم ذلك بعنوان الأمر بالمعروف ، أو يكون منعهم بعنوان النهي عن المنكر ، بل فوق ذلك ، بمعنى أنّهم

__________________

(١) الالتزام بالفرق في غاية الإشكال ، «منه رحمه‌الله».


يمنعونه عن التصرّف في حقوقهم ويأخذون منه كذلك حقوقهم الّتي لا تتحقّق تلك إلّا بأخذ ما ينشأ منه هذه الحقوق ، عينا كان أم منفعة ، أمّا العين فهو واضح كيف يكون منشأ لحقوقهم وأمّا المنافع ؛ فلأنّ السنة الّتي آجر فيها المسجد الغاصب ـ مثلا ـ كان للموقوف عليهم في هذه السنة الانتفاع من المسجد ، فقد منعهم الغاصب عن ذلك ، فاستوفى تلك [المنافع] من متعلّق حقوقهم ، ففي الحقيقة هذه المنفعة نشأت من منع حقوقهم واختصاص الانتفاع بنفسه ، الّذي يكون غيره شريكا [معه] فيه ، فغير الغاصب يأخذ منه هذه المنافع ويصرفها في الوقف ؛ لكونها أيضا متعلّقة لحقّه ، فتأمّل!

وأمّا لحاظ الإتلاف فيها ؛ وإن كان المعروف أنّه «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (١) والمفروض أنّ الموقوفات العامّة ليست ملكا (مالا) لأحد ولكن لا إشكال في أنّ هذه القضيّة ليست حديثا مأثورا حتّى نلتزم في تطبيقها على الموارد برعاية ألفاظها ومدلولها الظاهرة فيه ، ولا نتجاوز عن ظاهرها أصلا ، بل هي قاعدة مستفادة من تطبيقها على الموارد الخاصّة الّتي منها قوله عليه‌السلام : «من أضرّ بطريق المسلمين فهو ضامن» (٢).

ولا ريب أنّ هذا ملاكه بعينه متحقّق في مثل إضرارهم بإتلاف مطلق متعلّق حقوقهم ، كالمسجد والرباط والخان وغيرها ، فمن خرّب مسجدا أو نحوه فهو ضامن له ، وللمسلمين إلزامه على بنائه ثانيا وتعميره ؛ لجريان قاعدة الإتلاف هنا أيضا ، كما يجري في مثل الإضرار بطريق المسلمين وجريان ملاكه في مثل

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، ولاحظ! القواعد الفقهية : ٢ / ٢٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الحديث ٣٥٥٤٠.


المسجد أيضا ، لأنّ الطريق مع أنّه ليس مالا لهم بل فقط متعلّق لحقّهم ، وإضافة بينه وبينهم ، وقد اعتبروا فيه الماليّة حتّى استفادوا القاعدة المعروفة عن مثله ، كذلك قد عرفت أنّ هذه الإضافة والعلقة متحقّقة بين الأوقاف العامّة والموقوف عليهم ، مع أنّه لا ريب في أنّ في لفظ «المال المأخوذ» في القاعدة توسعة تشمل الحقوق أيضا ، بل يعتبر عند العرف والعقلاء في الحقوق اعتبار الماليّة ، بحيث يستفاد منه تسامحهم في لفظ المال كلّ المسامحة ، وعليك بالتتبّع في الموارد.

فكيف كان ؛ فقد ظهر لك من مطاوي ما ذكرنا حال الرهن وأمثاله كلّ ما يكون متعلّقا لحقّ الغير وله مساس بالغير ولو على نحو الوثيقة ، فالراهن إذا أخذ العين المرهونة عن المرتهن قبل تأدية الدين عدوانا يصدق على عمله ذلك عنوان الغصب والأخذ ، فهو ضامن له وعليه أن يؤدّيه ، وكذلك لو أتلف العين المرهونة يجب عليه التدارك ، وللمرتهن إلزامه على ذلك لجريان جميع الاعتبارات المذكورة والتقريبات السابقة فيه.

تعاقب الأيدي في الغصب

الأمر الخامس : في تعاقب الأيدي ، قال في «الشرائع» : (ولو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخيّر المالك في إلزام أيّهم شاء ، أو إلزام الجميع بدلا واحدا) (١).

نقول : في المقام إشكالات ثلاثة لا بدّ من تنقيح البحث بنحو ترتفع الإشكالات ، حتّى نخرج عن المسألة فارغا عن الشبهات كلّها.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.


أمّا الإشكال الأوّل ؛ فهو أنّه كيف يتصوّر للمال الواحد أبدال متعدّدة ، فتشتغل بكلّ واحد منها ذمّة مستقلّة ، مع أنّه ما خرج عن كيس المالك إلّا مال واحد ، وما قطع عنه إلّا سلطنة واحدة؟ فلا بدّ أن لا تشغل إلّا ذمّة واحدة المترتبة عليها للمالك سلطنة واحدة.

والمفروض أنّ بناء على ضمان جميع الأيادي المتعاقبة لازمه أن تثبت له أملاك متعدّدة بالنسبة إلى الأبدال المفروضة على الذمم المتعدّدة ، ولذلك التزم صاحب «الجواهر» قدس‌سره بأنّ اشتغال الذمّة ليس إلّا لمن استقرّ الضمان عليه ، وهو من يكون المال عنده أو تلف في يده ، وأمّا غيره فليس له اشتغال ذمّة ، بل إنّما ضمانه شرعيّ ناشئ عن حكم تكليفي محض بوجوب الأداء (١).

أمّا الثاني ؛ وهو أنّ البدل الّذي يكون على ذمّة كلّ واحد معلّق على تلف العين ، بحيث لو انقطعت سلطنة المالك عن أصل العين لتلفها فتوجد له سلطنة جديدة على بدلها المستقرّ على ذمّة الضامن ، وما دام لم يتلف العين وتكون في يد اللاحق فكيف يستقرّ ضامن البدل على ذمّة ذي اليد السابق؟ مع أنّ القضيّة التعليقيّة المتعلّقة بالبدل ـ بمعنى أنّ مضمونيّة البدل كانت موقوفة على تلف المال ـ لم يتنجّز بعد ؛ لأنّ عين المال موجودة في اليد اللاحقة ، فكيف يجوز للمالك أن يرجع إلى اليد السابقة؟ مع أنّ العين ليست عنده ، وسلطنته لم تكن إلّا بالنسبة إليها ما دامت باقية (٢) ، والمفروض أنّ ذمّته لم تشتغل بالبدل بعد.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٣٤.

(٢) ولذلك التزم بعض في حاشيته على «المكاسب» بتصوير ضمان الأيدي المتعاقبة في نفس العين بتقريب له (انظر! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١ / ١٨٤) ، «منه رحمه‌الله».


وأمّا الثالث ؛ وهو أنّ الأصحاب بنوا على أنّ استقرار الضمان إنّما يكون على من تلف المال في يده ، بمعنى أنّه لو رجع المالك إلى غيره ، للغير أن يرجع إلى من تلف المال في يده ويأخذ عنه بدل ما أعطاه للمالك ، بخلاف ما لو رجع المالك إلى من تلف في يده ، فليس له أن يرجع إلى غيره.

مع أنّ بعد التلف تستقرّ ذمم الجميع بالنسبة إلى البدل دفعة واحدة بلا تعاقب وترتّب بين الأيدي ، فأيّ ترجيح لليد المتلفة عند صاحب المال حتّى يقال : باستقرار الضمان عليه؟ والحال أنّ الكلّ متساوون بالنسبة إلى التعهّد واشتغال الذمّة ؛ لأنّ القضيّة التعليقيّة المتصوّرة ، على كلّ من الأيادي ، وهي : أنّه عين وضع اليد العادية على مال الغير.

قلنا بأنّه من آثار هذا اليد هو أنّه تتحقّق قضيّة ، وهي : أنّه لو تلفت العين تشتغل ذمّة ذي اليد على البدل ، وهذه القضيّة التعليقيّة الّتي انتزعت عن الآثار المترتّبة على كلّ واحد من الأيادي بعد التلف تتنجّز في آن واحد بالنسبة إلى جميعها ، بلا سبق لأحد من الأيادي على الاخرى ، فكيف الالتزام باستقرار الضمان على من تلف المال عنده؟

ولذلك منع بعض ـ كالسيّد المحشّي «المكاسب» على ما نقل (١) ـ عن ذلك رأسا ، وأنكر استقرار الضمان عليه ، وجعل من تلف المال عنده كغيره ، هذه ملخّص الإشكالات الثلاثة ، وقد تعرّض كلّ إلى دفعها بنحو سنشير إليه.

__________________

(١) لاحظ! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١ / ١٧٧.


قاعدة اليد

وأمّا نحن فنتعرّض أوّلا بشرح «قاعدة اليد» بمالها ربط بالمقام ؛ لأنّك عرفت أنّ العمدة من الدليل في باب الضمان هي هذه القاعدة ، وأنّ الغصب الّذي عرّفناه في صدر الباب أيضا مساوق له ، ثمّ نتعرّض لدفع الإشكالات وتثبيت حكم الضمان بما أفتى به المشهور في المقام.

فاعلم! أنّ الّذي يستفاد من ظاهر هذه القاعدة أنّ اليد الغاصبة إذا ترد على شي‌ء وتأخذه من مال الغير ، فمن آثار هذا الورود ووضع اليد على مال الغير أنّه يثبت ـ مضافا إلى ما سيجي‌ء في اليد ـ شي‌ء آخر فوق اليد ، وهذا الّذي يثبت فوق اليد ليس إلّا بدل هذا الشي‌ء الّذي يكون في اليد ، بحيث لو تلف فعلى اليد العادية أن تردّ إلى صاحب المال بدلا عمّا كان في يده ، هذا الّذي يثبت له بحكم الشارع فوق يده وعلى يده.

وهذا الّذي ادّعيناه إنّما يستفاد من عناية لفظ «على» المشتمل عليها الحديث (١) ، لأنّ المال الّذي أخذه الغاصب يكون في يده وتحت يده لا فوق يده ، المستفاد ذلك من كلمة «على» الدالّة على الاستعلاء ، فكأنّ الشارع ألزمه على فعله ذلك ، بأن جعل لصاحب المال على عهدة الغاصب بدلا (٢) لماله المترتّب على ذلك سلطنة اخرى له عليه ، مضافا إلى سلطنته على عين ماله ، بحيث لو

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

(٢) لا بدلا بل وسّع في دائرة تملّكه وجعل وجودا له ، مضافا إلى الوجود العيني للملك على عهدة الغاصب ، «منه رحمه‌الله».


تلف عين ماله في يده فانقطعت سلطنته عنه ، تكون له سلطنة اخرى على بدله الّذي يكون موجودا فوق يد الغاصب الّذي قد اعتبره الشارع ، فالشارع في عالم التشريع فعل ما له أن يفعل في عالم التكوين ، فكما أنّ له إذا يأخذ الغاصب مالا للغير في يده أن يوجد ـ مثلا ـ له فوق يده ، يكون ذلك أيضا لصاحب ما في اليد بدلا له.

وبالجملة ؛ فعلى ما يستفاد من ظاهر القاعدة أنّه إذا وضع الغاصب يده على مال الغير يترتّب على فعله ذلك امور : أخذ الغاصب المال ، وسلطنة للمالك على المال المغصوبة الّتي كانت قبل خارجة عمّا في يد الغاصب ، فإذا انتقل المال إلى يده لا ريب أن سلطنته الخارجيّة الّتي كانت تابعة للمال قد انتقلت إلى ما في يد الغاصب.

بمعنى أنّه لمّا كانت اليد في المقام كناية عن العهدة ، فإذا تصرّف الغاصب في مال الغير فلما يترتّب على ذلك اشتغال ذمّته بعين المال أوّلا فيحدث للمالك سلطنة على عهدة المالك وعنقه ، تبعا لسلطنته على ماله ، فتأمّل.

وأيضا ؛ يترتّب على فعل الغاصب بأن يثبت وجود للمال المأخوذ على الغاصب ، بحيث إذا يأخذ الغاصب المال في يده فكأنّه ينعكس منه مال آخر ظهر اليد ، ويكون ذلك من الآثار الوضعيّة للتصرّف في مال الغير المعبّر عن ذلك بالضمان ، فالمال الّذي يكون في اليد علّة لحدوث مال آخر فوق اليد بدلا عن الّذي يكون في اليد المستتبعة حدوث هذه المرتبة الاخرى من الوجود لشي‌ء آخر ، وهو الأمر الرابع الّذي يترتّب على التصرّف في مال الغير ، وهو ثبوت سلطنة اخرى للمالك على هذا البدل عند تعذّر العين ، أو تلفها.


ولا يخفى ؛ أنّ ثبوت هذا البدل الّذي قد عرفت أنّه وجود تنزيليّ للعين ، إنّما يثبت على ذمّة الغاصب من أوّل ما يضع يده على العين في عرض ثبوت العين ، إلّا أنّ سلطنته على العين فعليّ تنجيزيّ ، بخلاف سلطنته على المنعكس عنه ، فمعلّقة على تلف العين ، وأمّا أثر هذا ثبوت البدل فوق اليد أيّ شي‌ء يكون ؛ فنشير إليه.

والآن نكون في مقام ما يستفاد من ظاهر لفظ «على اليد» فكيف كان هاهنا يفترق بين يد الضمان ويد الأمانة ، فإنّ فيها ليس يثبت على عهدة الأمين سوى نفس العين ، ولذلك لو تلفت بلا تفريطه وتعدّيه ليس عليه شي‌ء إلّا إذا صارت يده أيضا متعدّية.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى اليد الاولى العادية ، وكذلك يترتّب هذه الامور الأربعة أيضا على اليد الثانية ، وكذلك الثالثة إلى أن ينتهي ، ويستقرّ الضمان على الآخرة.

فالّذي تقتضيه القاعدة ؛ هو ترتّب الأبدال على الأيادي المتعاقبة العادية ، بحيث تكون سلطنة للمالك على كلّ واحد من الأبدال بمجموعها ، مضافا إلى سلطنته على عين ماله عند كلّ من تكون ، لو لم تكن تابعة.

ثمّ من آثار ثبوت هذه الأبدال على ذمّتهم ثبوت حقّ للمالك أن يرجع إلى كلّ واحد منهم ويطالب عن كلّ منهم ماله ، فعليه يحكم «على اليد» أن تردّ إليه عين ماله إن أمكنت ولو بأن يرجع إلى غيره ويأخذ منه العين ، وإلّا فالأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة ، ومن المعلوم أنّه لا ينتهي إليها إلّا بعد العجز عن العين أو ما هو أقرب إليها من القيمة ، كما أنّه ليس للمالك أيضا إلزامه على ردّ القيمة مع


تسليمه العين أو مثله ، لأنّ نحو ثبوته على يده المكنّى بها عن العهدة ليس إلّا بهذا النحو ؛ لأنّه سنذكر أنّ هذا البدل ليس بدلا معاوضيّا ، كما يثبت في المعاملات بالتراضي ، بل هو غرامة من الشارع ألزمها على الغاصب تداركا عن العين المغصوبة ، وطبيعة الضمان تقتضي ردّ العين ، كما أنّ طبيعة الغرامة تقتضي ردّ ما هو أقرب إليها ، ولا مدخليّة لرضاء المالك فيها ، وسنشير إلى توضيح ذلك في بحث القيمي والمثلي إن شاء الله.

ثمّ إنّه يتولّد هنا الإشكال الأوّل ، وأنّ ذممهم المتعدّدة كيف يمكن أن تشتغل لتلف مال واحد وعين فاردة؟

فنقول في دفعه : إنّه لو التزمنا بثبوت أموال متعدّدة الّذي يكون مرجع ذلك إلى الالتزام بثبوت كلّ واحد من الأبدال على العهدات تعيّنيّا ، فلا ريب أنّ الإشكال يكون واردا ، وأمّا لو لم نقل إلّا بثبوت بدل واحد على الجميع ، ومرجع ذلك يكون إلى ثبوت جامع من الأبدال على المجموع ، إلّا أنّه لمّا فرض لهذا الجامع مصاديق متعدّدة تكون كلّ واحد منها على أحد الذمم ، ولكن لا بكونه وجودا شخصيّا معيّنا في مقابل الأفراد الاخر ، بل لكونه أحد مصاديق الجامع ، فإذا يرجع المالك إلى كلّ واحد منهم ويطالب عنه ماله ، ففي الحقيقة لا يطالب عنه إلّا الجامع المنتزع من هذه المصاديق الّذي اعتبرها الشارع ، ولذلك لو أدّى أحدهم العين أو البدل تبرأ ذمّة الآخرين ، وليس للمالك مطالبتهم بعد بشي‌ء أصلا.

ولمزيد التوضيح ؛ نفرض هذه الذمم بمنزلة أعيان خارجيّة ، منها ضدّ وجوداتها ، وكأنّه قد تعلّق [حقّ] المالك بأحدها لا على التعيين كتملّكه صاعا من الصبرة ، بمعنى أنّ ملكه شخص أحدها بنحو ذلك ، ولا ريب أنّه يصير مالكا


لجميعها ، ولكن لا بمجموعها ، بل بنحو الطبيعة السارية يصير أحدها ملكا له ومتعلّقا لحقّه كلّه ، بحيث له أن يختار كلّ واحد منها ، فإذا اختار أحدها ينقطع حقّه عن الباقي ، وما دام لم يختر يكون غيره ممنوعا عن التصرّف في جميعها.

ويمكن أن يعبّر عن ذلك بما لو أخذ المبهم نظير الشبهة المحصورة ، ويكون حقّ رجوع المالك إلى كلّ واحد منهم ، نظير وجوب الاجتناب والاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ، فتأمّل!

ولا شبهة أنّ ذلك بمكان من الإمكان ؛ ولا يتوقّف تملّكه كذلك على أن يكون مالكا لكلّ واحد منها تعيينا ، بل يكفي وإن كان تملّكه على نحو البدل الّذي قد عرفت أنّ ذلك يرجع إلى تملّكه الجامع.

ونظير ذلك في التكاليف هو الواجب الكفائي ، فإنّ التكليف فيه ليس إلّا تكليفا واحدا نشأ عن مصلحة واحدة ، ومع ذلك يتعلّق هذا الواحد البسيط إلى متعدّدة كثيرة غاية الكثرة ، ولا ريب أنّ هناك العهدات بجميعها أيضا مشغولة ما لم يقم أحد أن يؤدّي التكليف ، ففيه أيضا لا يتصوّر ذلك إلّا أن يكون هذا التكليف الواحد متعلّقا بمجموع المكلّفين على نحو البدليّة ، ونعبّر عن ذلك بالجامع في الخارج الحاكي عن نحو تعلّق التكليف وكيفيّته الحقيقيّة ، وهذا الجامع يتحقّق بأوّل الوجودات ، فكذلك نفرض الحكم الوضعي ولا استحالة فيه.

فإذا أمكن ذلك في عالم الاعتبار ، ولم يستحله العقل ـ لأنّ أمر الاعتبار سهل ، ولا يحتاج إلى زيادة مئونة ـ فنحمل كلام الشارع عليه بلا أن نحمله على المسامحة ، فيكون معنى قاعدة «على اليد» بعناية لفظ «على» ما عرفت ، وأعظم شاهد عليه فهم أساطين الفقهاء ذلك من القاعدة ، كما يستكشف ذلك من


فتاويهم ، ولا داعي على حمله على خلاف ظاهره ، فتأمّل.

فإن قلت : هكذا دفعت الإشكال الأوّل فما تقول في وجه أصل جواز رجوع المالك إلى اليد السابقة ، مع كون عين ماله موجودة في اليد اللاحقة ، والمفروض أنّ ضمان السابق البدل كان موقوفا على تلف ماله ، فكيف يجوز له الرجوع إليه مع بقاء عين ماله عند غير من يرجع إليه الآن؟

قلت : قد أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّ ثبوت البدل على الضامن إنّما يكون من أوّل وضع يده على مال الغير ، ففي عرض ثبوت العين في اليد يحدث بدلها أيضا فوق اليد ، بحيث يكون ما في اليد علّة لثبوت بدله ، فوقه بدل له فوق اليد العادية.

ولكن لا يخفى ؛ أنّه علّة له حدوثا لا بقاء ، بمعنى أنّ وجود البدل ليس دائرا مدار وجود العين تحت اليد ، بل ولو خرجت عن اليد بتلف أو غيره فالبدل ثابت ، ولا يسقط إلّا بردّ العين أو الأقرب بها كلّ ما يكون.

وعلى كلّ حال ؛ فمن أوّل أخذ الغاصب مال الغير يتوسّع دائرة سلطنة المالك وتتبدّل من العين يقينا إلى سلطنة مردّدة كونها على نفس العين وبدلها ، ولا ينافي ذلك كون وجوب ردّ البدل معلّقا على تلف العين ، لأنّ الرد إنّما هو من آثار الضمان ، وأمّا نفس الضمان فتنجيزيّ قد عرفت ظاهر «على اليد» يقتضيه ، مع أنّه لو كان معلّقا فهذا المقدار من الأثر ـ وهو ثبوت السلطنة للمالك ـ على الآخذ ، بأن يرجع إلى شخصه ويطالب عنه ماله ، ولو كانت عينه باقية في يد غير الآخذ الأوّل ، فهذا الأثر ثابت للقضيّة التعليقيّة.

والدليل عليه هو ظاهر قاعدة «على اليد» فإنّ لسانها حاكمة بأنّ على


عهدة الآخذ سلطنة المالك ثابتة ما لم يؤدّ ماله إليه ، وذمّته مشغولة ما لم يصل مال المالك إليه ، ولا يتصوّر ذلك مع بقاء عين ماله في يد الغير وعدم انقطاع سلطنته عنه ، مع أنّ السلطنة مستتبعة للملك ، فمع بقاء ملكيّته على العين كيف يتجاوز عنها إلّا بنحو ما قلناه في دفع الإشكال الأوّل ، وهو أن نلتزم بأنّ معنى توسعة ملكيّة المالك وتجاوزه عن العين إلى البدل حتّى في ظرف وجود العين ، هو أنّه انتقل بحكم الشارع ملكيّته عن العين تعيّنا إلى الجامع بينها وبين البدل من يوم الغصب وتسلّط الغير على ماله ، بأن يكون كلّ منهما على البدل ملكا له ومصداقا للجامع.

فهنا قد يتوهّم بأنّه يلزم من ذلك أن يكون المالك الّذي قد خرج المال الواحد عن كيسه ، أن يصير مالكا لشيئين ، ويكون مسلّطا على أمرين ، لأنّ لازم تملّكه البدل والمبدل منه من يوم الغصب وثبوت سلطنته على كليهما ليس إلّا أن يكون كلاهما مملوكا له.

فنقول في دفعه ـ بعد كون ذلك هو الإشكال الثاني ـ : إنّ الإبدال وجعل الشي‌ء عوضا عن شي‌ء يتصوّر على وجوه ، أوضحها هو التبادل الّذي يقع بين العوضين في أبواب المعاملات ، فإنّ في باب البيع ؛ إذا يخرج البائع المبيع عن ملكه بإزاء ما يقبله عوضا عنه من الثمن وغيره فهو لمّا يكون بانيا على أن يكون دخول العوض في ملكه مشروطا وموقوفا على خروج المعوّض عن ملكه ، بأن يتبدّل تشخّصات العوض والمعوّض ، فكأنّه اعتبر بأن يتلوّن المبيع بألوان الثمن ، فيتلوّن ماله بألوان مال الطرف الآخر ، وكذلك يبني المشتري على ذلك بعينه ، وهذا هو معنى البدليّة حقيقة ، ولذلك نقول بأنّه يستحيل أن يجمع بين العوض


والمعوّض ؛ لاعتبار البدليّة فيهما.

ومنها ؛ أن يعتبر هذا المعنى بعينه في قاعدة «على اليد» باعتبار الشارع ، بأن يقال بأنّ الشارع اعتبر حين أخذ الغاصب مال الغير وجعله توجّهه إليه واستيلاءه عليه ، بأن يكون مال الغير في يده تبدّل ما في يده إلى مال اعتبر الشارع وجوده فوق اليد ، بأن يكون ذلك عوضا عنه فيجري فيهما جميع ما هو من لوازم المعاوضات الحقيقيّة ، فعلى ذلك أيضا يستحيل أن تبقى العين الثابتة في اليد العادية في ملك المالك وتحت سلطنته ، مع أن يكون البدل الّذي يثبت بحكم الشارع فوق اليد يصير ملكا للمالك ويجي‌ء تحت سلطنته ، لما عرفت من برهان الاستحالة.

ومنها ؛ أن لا يعتبر كذلك ، بل تعتبر الملكيّة والبدليّة بالمعنى الّذي قلنا ، وهو أن يوسّع الشارع دائرة الملكيّة المنحصرة بالعين الشخصيّة ويسريها منها إلى بدل الملك المفروض وجوده على اليد ، بمعنى أنّه كما أنّ للشارع في عالم التكوين أن يجعل الجسم الصغير كبيرا ويطوّل ما هو نصف الذراع ـ مثلا ـ إلى ذراع أو أزيد ، فكذلك في عالم التشريع ، فكأنّه بسّط العين (١) المغصوبة عمّا في يد الغاصب وأتاه إلى فوق يده ، ونعبّر عن هذا الوجود البسيط بالجامع.

وبالجملة ؛ فليس في هذا الفرض عنوان التبديل حتّى يقال بأنّه كيف يجمع بين البدل والمبدل منه؟ بل ثبوت البدل الجائي في الحقيقة من قبل بسط دائرة

__________________

(١) ونظير ذلك في باب الاستصحاب ، فكما أنّ فيه الحياة الحقيقيّة الثابتة لزيد في طرف العلم بها ، الشارع ، يعتبرها أيضا في طرف الشكّ ، ومرجع ذلك يكون في الحقيقة إلى جرّ الحياة من طرف العلم إلى طرف الشكّ ، المعبّر عن ذلك بجعل المماثل ، فيصير أحكام الحياة للجامع بين الحقيقي والاعتباري ، كذلك هذا الاعتبار ثابت في ما نحن فيه ، «منه رحمه‌الله».


الملكيّة إنّما هو غرامة وثبوت تدارك عن عين ماله بحيث لو كان عين ماله في يد اللاحق ورجع إلى السابق ولم يمكن وصول عين ماله فأخذ عنه غرامة ماله ، لم تخرج تلك العين عن ملكه وسلطنته ، بل هي بما لها من التشخّصات باقية على ملكه ، ويكون البدل المأخوذ نظير بدل الحيلولة ، فكما أنّ فيه لمّا لم يكن تأدية مال المالك بما له من جميع التشخّصات بعينها ، فيتدارك مرتبة منها ، وهي مرتبة ماليّتها ولا يلزم [من] ذلك خروج ماليّة العين عن ملكه لوصول بدله من جهة بدل الحيلولة ، ـ وعدم لزومه يأتي إن شاء الله ـ وكيف كان ؛ فكذلك يكون حال بدل المال المأخوذ من اليد السابقة مع بقاء عين ماله الموجود في اليد اللاحقة تحت سلطنته.

فمحصّل البحث في رفع الإشكالين صار بأنّه لا استحالة عقلا أبدا أن يثبت للمال الواحد أبدال متعدّدة على نحو ما عرفت ، الّذي صار مرجع ذلك إلى إثبات غرامة واحدة على الذمم المتعدّدة ، وكذلك لا استحالة أن يثبت بدل المال الواحد ما هو الجامع بين العين وبدلها مع بقاء العين ، بأن تكون الذمّة مشغولة بهما على البدليّة ، وقد أشرنا إلى أنّ إبقاء كلام الشارع على ظاهره لا يحتاج إلى أزيد من عدم استحالة المعنى المستفاد من ظاهر لفظه عقلا ، كما لا يخفى.

فيترتّب على كلّ من الأيادي الغاصبة وعلى جميعها لوازمها من أحكام الضمان ، كما فهم الأصحاب من جواز الرجوع للمالك على كل واحد منها ، سواء كانت العين باقية أم تالفة ، وسواء كان المطالب منه ذا يد على العين أو تمكّن من أخذها عن الآخر ولو لم يكن ذا اليد ، أو لم يكن كذلك.

وكذلك له الرجوع إلى كلّ واحد منهم بمقدار ، وعلى الآخر بمقدار آخر ،


وكذلك جميعهم حتّى يحصل له البدل من المجموع ، فكلّ مقدار أعطى أحدهم تبرأ ذمّة الآخرين ونفسه عن المالك بهذا المقدار ، لأنّه إذا كانت الذمم مشغولة بالكلّ ، ويجوز له الرجوع إلى كلّ [واحد] منهم ومطالبة تمام البدل ، فالرجوع ببعضه يجوز بطريق أولى.

كلّ ذلك لما عرفت أنّ اشتغال ذمّة الجميع يرجع إلى اشتغالهم مجموعا بالجامع بين الأبدال المنتزع من الذمم المتعدّدة ، فكلّ منهم يؤدّي شيئا من البدل يؤدّي مقدارا من الجامع.

ثم هذا كلّه ؛ حكم المالك وبيان كيفيّة حقّه وسلطنته ، أمّا حكم الغاصب وتكليفه فلا يخفى أنّ تسليمه العين المغصوبة إنّما يتحقّق برفع يده عنها وتخليتها ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، كما بنينا عليه في باب قبض المبيع بأنّ قبضه يتحقّق برفع البائع يده عنه ، وأما الإيصال والأداء أو النقل والإقباض في المنقول فهي امور زائدة على القبض ، ولا يتوقّف عليها ، فكذلك في ما نحن فيه قبض العين يحصل برفع الغاصب يده عمّا في يده ، ولكن بدل العين الّذي قلنا : اعتبره الشارع من يوم قبض العين فوق اليد ، فقبضه متوقّف على الأداء وإيصال العين بأداء الأقرب منه فالأقرب إلى المالك.

والدليل عليه هو ذيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) فإنّ قبض ما على اليد مغيّا بغاية ، وهي الأداء ، ولمّا كان يجب عليه أوّلا تسليم العين الّتي هي أحد مصاديق الجامع بينها وبدله الثابت على ذمّته من يوم غصبه ، فيجب عليه أوّلا تسليم العين إن أمكنت ، ولذلك يجب عليه الرجوع إلى من

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.


كانت عنده ، بل ولو كان أخذه منه متوقّفا على مقدّمات يجب تحصيلها ، فإن لم يمكن فعليه أن يؤدّي ما هو الأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة ، وبالجملة ؛ فلا يحصل له براءة الذمّة إلّا أن يعمل بهذا الترتيب ويوصل مال الغير إلى صاحبه.

تنبيه : إنّ الّذي أشرنا [إليه] في مطاوي الكلمات من تعبير عنوان البدليّة عمّا يثبت على اليد ، فقد وقعت مسامحة في التعبير ، ضرورة أنّ البدليّة تقتضي أن يكون للبدل وجود مستقلّ في مقابل المبدل منه الّذي يكون تحت اليد ، ومثل ذلك لا يستفاد من القاعدة ، مع لزوم محذور آخر ، وهو عدم فرض جامع بين الوجود الحقيقي والوجود الاعتباري الّذي جعلنا ذلك منشأ لجواز رجوع المالك إلى غير ذي اليد ؛ لثبوت بدل المال عليه من يوم أخذه مال الغير ، فيتردّد أمره بين ضمان أحد الأمرين من العين أو البدل.

فحقّ التعبير أن يقال : يستفاد من لفظ «على» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» مع أنّ المال يكون تحت اليد بالبيان الّذي أسلفنا أنّ الشارع وسّع وجود العين حتّى جعلها على اليد ، فأتى بما هو موجود تحت اليد إلى فوق اليد الّتي هي عبارة عن العهدة ، فهذا الوجود الّذي يثبت على العهدة ليس في قبال العين ، بل إنّما هي نفسها بمرتبة من مراتب وجودها الّتي لو لا اعتبار الشارع لها لم يكن لها وجود سوى وجودها العيني ، فباعتبار الشارع الّذي قلنا : له أن يوسّع في الوجود في عالم التكوين ، فكذلك وسّع فيه في عالم التشريع بأنّ هذا الوجود الخارجي الّذي يكون مالا للغير مفروض الوجود على اليد ، ونقله ثابت على العهدة حتّى يردّها إلى صاحبها.

بمعنى أنّه اعتبر الشارع بأنّ العين المغصوبة ولو تلفت بحرق أو غرق ، أو


صارت بحكم التلف ، بمعنى أنّها خرجت [من] تحت سلطنة الغاصب ودخلت تحت سلطنة الغير لا تخرج بذلك عن العهدة ، وسلطنة المالك على عهدته ثابتة باقية ، ولا تنقطع سلطنته هذه عليها حتّى يردّ إليه ماله بخصوصيّاته إن أمكن ، وإلّا الأقرب فالأقرب.

ولذلك قلنا بأنّ للمالك الرجوع إلى كلّ من ذوي الأيادي ، بجريان هذا الملاك في جميعها ، وقد دفعنا الإشكال الأوّل بأنّ لازم ذلك مع كون المال التالف واحدا هو اشتغال الجامع بين الذمم ، والجامع بين المراتب الثابتة على كلّ من ذوي الأيدي ، ويندفع بذلك أيضا الإشكال الّذي أشرنا إليه من عدم التصوير الجامع بين الوجود العيني والاعتباري ، لما عرفت من أنّ ما اعتبره الشارع على الذمّة ليس وجودا على حدة في مقابل العين حتّى يفرض جامع بينهما ، بل إنّما هو عينه بسعة وجودها الّتي اعتبرها الشارع.

ثمّ إنّه أشرنا إلى أنّه كما أنّ سلطنة المالك عن العين لا تنقطع ما دامت موجودة ولو لم تصل يده إليها ، كذلك عند الأداء يجب على الغاصب أداؤها بحيث لو كانت موجودة عند غيره يجب عليه تحصيلها ، وكما أنّه يجب عليه من باب المقدّمة أخذ العين عن الغير يجب على الغير تسليمه إليه (١) ، فتأمّل!

ثمّ إنّه إن أمكنه أخذ العين عن الغير وتسليمها ، فيجب ، وإلّا فللمالك أن يطالب عنه بدله ، وهذا البدل الّذي يأخذه منه ليس بدلا حقيقيّا عن المال من قبيل

__________________

(١) وقد قال ـ دام ظلّه ـ : إنّ وجه وجوب ردّ الغير به هو أنّ المقام يكون من قبيل أنّه كما يجب على النساء عدم كتمان ما خلق في أرحامهنّ ، كذلك يجب على السائلين القبول عنهنّ ذلك ، ولكن لا يخلو ذلك عن التأمّل ، كما لا يخفى ، «منه رحمه‌الله».


الأبدال في باب المعاوضات حتّى يوجب خروج العين عن سلطنته ، بل إنّما هو غرامة وجبران عمّا فات منه من الماليّة.

وتوضيح ذلك : أنّه لمّا قلنا : إنّ حسب ما يستفاد من قاعدة اليد أنّ المال المغصوب عهدته على الغاصب بجميع خصوصيّاته حتّى يردّه كذلك إلى صاحبه ، فإذا لم يمكنه كذلك فطبيعة الضمان تقتضي أن يردّ إليه ما أمكنه من مراتب وجود ما أخذه ، فإذا لم يمكن ردّ الملك بخصوصيّاته وأمكنه ردّ ماليّته يجب عليه أن يدفع كذلك ، فكأنّ هذه الماليّة يكون خلاصة وجود العين الّتي لم يمكن ردّها الآن ، وليس بدلا عنه حتّى يوجب خروج العين عن ملكه وسلطنته ، بل هي بخصوصيّتها باقية تحت سلطنته ، ولكن ماليّته مسلوبة عنه ، لأنّ الماليّة أمر عرفي إنّما يعتبر وجودها إذا كان المال منشأ للآثار ممّا يتوقّع عن المال من الأكل والشرب والقلب والانقلاب وغيرها.

ومن المعلوم ؛ أنّ هذه الآثار مسلوبة عن المال المغصوب الّذي لم يمكن التصرّف فيه الآن ، بخلاف الملكيّة فإنّها ليست مترتّبة على شي‌ء ، بل إنّما يعتبرها العرف ، ولو لم يكن تحت التصرّف والسلطنة ، ولذلك لا يجوز له التصرّفات المتوقّفة على الماليّة ، مثل البيع وغيره وإن كان بناء المشهور على جواز بيعه للغاصب أو غيره ، أو لو أمكن له القبض وإخراج العين عن تحت يد الغاصب ، وكذلك يجوز عتق العبد المغصوب ، ولكنّه لا ينافي ذلك ما أفاده ـ دام ظلّه ـ أو الأوّل مبنيّ على كفاية القدرة على التسليم في صحّة البيع كما هو المشهور ، والثاني [ليس كذلك] لأنّ العتق من آثار الملك ولا يعتبر فيه الماليّة أصلا بخلاف البيع فإنّه وإن كان هو مبادلة مال بمال إلّا أنّ قدرة التسليم يكفي في اعتبار الماليّة.


وبالجملة ؛ فإذا صارت العين بالنسبة إلى المالك مسلوبة الماليّة فما يأخذه من الغاصب إنّما هو قائم مقام ماليّة عين ماله وتدارك عنه ، لا أن يكون تداركا وبدلا عن العين بجميع مراتب وجودها وتشخّصاتها لأنّ ملكيّة العين بخصوصيّتها باقية على ملكه وسلطنته ، وإنّما ماليّتها فقط خرجت عن سلطنته ولذلك تتدارك.

فظهر من ذلك ؛ أنّ باب الضمان إنّما يكون من قبيل باب قاعدة الميسور في التكاليف ، فكما أنّ فيها لمّا لم يمكن امتثال التكليف بنحو المطلوب كاملا فيكتفى بقدر المقدور منه ، فكذلك باب الضمان.

وأمّا ظاهر المشهور ـ كما يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره أيضا في مبحث البيع الفاسد وضمان تلف المبيع فيه ـ كون ما يعطيه الضامن تداركا عن الماليّة المسلوبة الآن إنّما هو بدل عنها وعوض عن الانتفاعات الفائتة من المالك عن ملكه لكونه ممنوع التصرّف عنه ، وإن كان قد سومح في عبارة الشيخ رحمه‌الله هنا من كون التدارك بدلا عن السلطنة الفائتة ، مع أنّ التدارك إنّما يقع عن نفس الانتفاعات الفائتة عن السلطنة عليها ، وإن كانت هي تتدارك تبعا أيضا.

وكيف كان ؛ وعلى كلّ حال فالتزموا في باب بدل الحيلولة كونه بدلا عن الماليّة ، وقالوا بأنّه حسب ما تقتضيه قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ثبوت حقّ مطالبة المالك لماليّته ، ولا يمنعه عن ذلك عدم تمكّن الغاصب أن يعطيه ماليّته بشخصه إليه ، بل عليه أن يردّ إليه بدله ، فما يعطيه من البدل يصير بدلا عن ماليّته ، فلا يصير ملكا ؛ لعدم خروج عين ماله عن ملكه ، فلمّا يلزم بالنسبة إلى الملكيّة الجمع بين البدل [والمبدل منه] فلا يصير ما يأخذه بدلا عن ماليّته ملكا ، بل يكون من قبيل ما يباح له التصرّف فيه.


نعم ؛ في ما يكون تصرّفه فيه واستفادته من ماليّته متوقّفا على الملكيّة مثل البيع ونحوه ، فيلتزمون بتملّكه على نحو تملّك المبيع في المعاطاة.

فالمحصّل ؛ أنّ ظاهرهم في باب الضمانات أنّهم ملتزمون بصفتين من البدل : أحدهما الطولي والآخر العرضي ، أمّا البدل الطولي ؛ فهو الّذي يقع عوضا عن مال الغير بعد تلفه تحت اليد العادية ، وأمّا البدل العرضي فهو ما يقع عوضا عن ماليّة ملك الغير مع بقاء عين ماله وبقاء سلطنته ، فهذا لمّا يكون جبرانا عن الماليّة الفائتة الآن مع بقاء الملكيّة ، فكأنّه بدل في عرض المبدل منه ، ففي الأوّل تملّكه البدل متوقّف على تلف المبدل منه ، بخلاف الثاني فإنّه يجوز التصرّف فيه وإن كانت العين باقية ، فتأمّل!

هكذا يستفاد من ظاهر كلام شيخنا رحمه‌الله والبعض الآخر (١) ، ولكن لا يخفى أنّ البدل يقوم مقام المبدل منه على نحو وجود المبدل منه ، فلو كانت الماليّة الفائتة فائتة على الإطلاق ، بل أمكن استفادة بعض أنحاء الماليّة عن العين المغصوبة ، فلا بدّ على حسب ما تقتضيه قاعدة البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في بدل الحيلولة بقدر ما أمكنه تصرّف الماليّة في ملكه المغصوب ، مثل ما لو أمكنه أن يبيعه على الغاصب بناء على الاكتفاء في اشتراط تسليم المبيع تمكّن المشتري عن الاستيفاء ، وكذلك يمكنه عتقه ، فلازم البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في البدل بمثل هذه التصرّفات ، مع أنّهم لم يلتزموا بذلك ، بل ظاهرهم الاتّفاق على جواز تصرّفه فيه بأيّ نحو شاء.

وانقدح بذلك ؛ أنّ التحقيق في باب الضمان وبدل الحيلولة هو ما قلناه من

__________________

(١) راجع! المكاسب : ٣ / ٥٠٥ ـ ٥١١.


كونه نظير قاعدة «الميسور» في باب التكاليف ، من كون ما يأخذه المالك عوضا عن ماليّة ملكه ليس عنوانه عنوان البدليّة ، بل هي غرامة وجبران عن ماله ، بحيث لمّا لم يمكن استيفاء ملكه وماله بماله من الخصوصيّات بجميع مراتب وجوده ، فيتداركه ويأخذه بقدر الميسور منه ، وهو خلاصة ماليّة ، فالمأخوذ الآن بتمام حيثيّات وجوده مرتبطة من عين ماله بنفسه ، فهذا الّذي يقبضه الآن يملكه بتمام وجوده (١) ، لا ماليّته فقط ؛ لما عرفت أنّ عنوانه ليس عنوان البدليّة ، حتّى يفكّك بين جهة الملكيّة والماليّة ، بل المأخوذ مرتبة من نفس وجود المال المغصوب ، وقد قرّرنا سابقا أنّ الماليّة ليست أمرا قابلا للتملّك ، بل هي تتملّك تبعا للملك ، فذلك بشراشر وجوده مملوك لصاحب المال ، لما عرفت من أنّه بحيثيّة وجوده جبران للماليّة الفائتة.

نعم ؛ لمّا لم تكن ملكيّته ملكيّة مستقرّة ، بل إنّما المأخوذ جبران لما فات من الماليّة ما دامت فائتة ، فإذا تمكّن [من] تسليم المال وارتفع المانع فعليه أن يسلّم عين ماله ، فلمّا يسلّم ففي ضمن تسليم العين تلك المرتبطة الفائتة أيضا تسلّم ، فلذلك إلى الغاصب يرجع أيضا ما تدارك به الفائت ، على التفصيل المذكور في باب بدل الحيلولة.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثالث فيظهر بعد ذكر مقدّمتين :

__________________

(١) ولذلك يجوز له التصرّف فيه جميع أنحاء التصرّفات ، ولا يتوهّم أنّه حينئذ يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ؛ إذ المفروض بقاء خصوصيّة العين المغصوبة على ملكه أيضا ، ورفعه : أنّ الممنوع من الجمع بينهما إنّما هو فيما له الماليّة ، والمفروض لا يعتبر الماليّة للعين المغصوبة ، للحجر عن التصرّف ، فالخصوصيّة إنّما هي ملك محض ، والملكيّة المحضة ليست محلّا لاعتبار العقلاء ، وإلّا فمن هذه الجهة الإشكال بين المشهور ومسلكنا مشترك ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».


الاولى : أنّه بعد أن استفدنا من ظهور لفظ «على اليد» بأنّ الشارع اعتبر على يد الغاصب وجود العين المغصوبة الّذي هو ثابت على ذمته حتّى يردّ المال إلى صاحبه ، كما أنّ ظاهر القاعدة أيضا كان مقتضيا لثبوت هذا الوجود الاعتباري الّذي كان مرجعه إلى توسعة الوجود في ما أخذه الغاصب على كلّ من الأيادي المتعاقبة الواردة على العين المغصوبة ، وقلنا : إنّ لازم ذلك كون الجامع بين هذه الوجودات الاعتباريّة متعلّقا لحقّ صاحب العين لا كلّ واحد من العهدات تعيّنا.

وبالجملة ؛ فهذا الوجود العيني إذا يأخذه الغاصب فاعتبر الشارع له وجودا سوى وجوده الخارجي على عهدة الغاصب ، فيصير هذا الوجود الاعتباري من شئون العين ولوازمه الغير المنفكّة عنها ، إذ قد عرفت أنّه من مراتبها لا أمر خارج عنها ، فيكون بمنزلة جسم كان له نصف ذراع من الطول ، فبعد اعتبار الشارع اضيف إليه نصف ذراع آخر ، فصار بمجموعه ذراعا واحدا ، فكلّما انتقل هذا الجسم بعد ذلك ما لم يصل إلى يد مالكه يكون مقداره ذراعا ، بل كلّما يتوارد عليه اليد يضاف إليه حسب ما اعتبر لكلّ واحد من الأيادي نصف ذراع آخر زائدا على المقدار السابق حتّى يستقرّ في يد ، فالعهدة السابقة وإن كانت مشغولة إلّا أنّ ما فيها من الوجود الاعتباري لمّا كان من شئون العين فينتقل إلى اليد اللاحقة وعهدة ذيها.

ولا يتوهّم هنا أنّه بعد أن كان الوجود الاعتباري السابق من شئون العين وتبعاتها ، فبعد انتقال نفس العين إلى اليد اللاحقة فلا ريب أنّها منتقلة بتبعاتها ، فلازمه أن لا يبقى على اليد السابقة شي‌ء وتخلّص عهدته وتشتغل ذمّة ذي اليد


الثانية اللاحقة ، وكذلك تنتقل الوجودات وتتبدّل العهدات بتوارد الأيادي على المال إلى أن استقرّ في يد.

ودفع ؛ أنّه لا نقول : كما أنّ العين الخارجيّة الّتي تكون تحت اليد السابقة تتبدّل عن مكانها وتجي‌ء تحت اليد اللاحقة فيتبدّل التولّي والاستيلاء على العين ، كذلك العهدة السابقة أيضا تتبدّل ، لا بل هي بحالها باقية والذمّة مشغولة بمقتضى «على اليد» حتّى يصل المال إلى صاحبه ، وإنّما المتبدّل وما يجي‌ء في اليد اللاحقة هو ما على العهدة ، بمعنى أنّه كما أنّ العهدة بعد استيلاء اليد على مال الغير تصير مشغولة ويعتبر على اليد المكنّى عنها باليد وجود مثاليّ لنفس العين ، كذلك يعتبر أيضا وجود لوجودها الاعتباري المفروض على العهدة السابقة ، لما أوضحنا من أنّ الوجود الاعتباري صار من شئون العين ومراتب وجودها ، وهذا الوجود الاعتباري لمّا لم يكن اعتباريّا محضا بحيث لم يكن منشأ لآثار ، ليس كذلك بل هو منشأ للآثار الشرعيّة الخارجيّة ، فهذا الوجود الاعتباري ثابت للعين غير منفكّ عنه حتّى يرجع المال إلى يد صاحبه ، ولذلك هذه العين إذا تدخل تحت سلطنة كلّ أحد غير مالكها فتدخل مع وجودها الاعتباريّة المعتبرة لها بحسب توارد الأيادي عليها.

وبالجملة ؛ صدق الاستيلاء واليد على العين الخارجي بجميع مراتب وجودها لا يتوقّف على أن تكون العين كذلك تحت اليد الخارجيّة حتّى يصدق الاستيلاء عليها ، بل الاستيلاء عليها يكون كالاستيلاء على ما إذا كان جسم خارجي له خمس أذرع ، فوضع أحد يده عليه بعنوان المالكيّة والسلطنة ، فيصدق على الواضع عرفا أنّه مستول عليه ، مع أنّه ما وقع من الوجود الخارجي


لهذا الجسم تحت يده إلّا شبر منه ـ مثلا ـ فكذلك استيلاء اليد اللاحقة على العين المغصوبة بجميع مراتب وجودها الحقيقيّة والاعتباريّة لا يتوقّف على خروج المال عن اليد السابقة بوجودها العيني ، وكذلك عن عهدتها بوجودها الاعتباري ، بل يصدق عرفا بصرف وضع اليد على وجودها الخارجي وإدخالها كذلك تحت الاستيلاء ، كما عرفت.

الثانية : لا إشكال أنّه يمكن أن يكون متعلّق الحقّ والماليّة كليّا خارجيّا جامعا بين الخصوصيّات بلا أن تكون الخصوصيّات بوجوداتها ملكا لذي الحقّ كما في بيع الصبرة فإنّ التحقيق فيه : أنّ من يشتري صاعا من صبرة إنّما يصحّ ذلك إذا لم يكن مراده وكذا [مراد] البائع فرد من الصيعان على نحو التنكير ، وإلّا فيبطل كما حقّق في محلّه ، وإنّما المناط في الصحّة هو ما إذا كان المبيع كليّا وصاعا مشاعا ، ولذلك بنوا على أنّ اختيار التعيين إنما هو بيد البائع ، وليس ذلك إلّا أنّ الماليّة للمشتري لم يتعلّق إلّا بصرف الجامع ، ولازم ذلك أنّ ما يسلّمه البائع ويعيّن ماله ومبيعه في كلّ فرد ، إنّما يسلّم الفرد والخصوصيّة إلى المشتري من باب المقدّمة وتوطئة لإيصال ماليّة به ، وإلّا فلو كان أمكن التفكيك بينهما لما كان عليه ردّ الخصوصيّة.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل ذلك ، ضرورة أنّه لمّا لم يكن متعلّق حقّ المغصوب عنه إلّا إحدى الذمم والأيادي معيّنة فليس إلّا الجامع بينها ، كما أشرنا إلى ذلك في دفع الإشكال الأوّل ، فعلى ذلك إذا رجع المالك بعد تلف ماله إلى كلّ واحد من ذوي الأيادي فليس عليه أن يؤدّي إليه خصوصيّة من ماله ، وكذلك ليس له أخذ خصوصيّة ماله.


نعم ؛ لمّا لم يمكن قبض ماله وحقّه إلّا في ضمن إحدى الخصوصيّات ـ كما أشرنا ـ فيجب عليه تسليم الخصوصيّة أيضا تبعا ومقدّمة ، ومن المعلوم ، أنّه إذا رجع المالك إلى اليد السابقة مع انتقال المال من يده إلى غيره فيأخذ عنه بدل ماله مع عدم تلف المال في يده ، فما يعطيه من الخصوصيّة هي الخصوصيّة الّتي ضمّنها اليد اللاحقة وانتقل إلى ذمّته تبعا للوجود العيني.

الكلام في تعاقب الأيدي في الغصب

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول : إنّ غير ذي اليد إذا يرجع إليه بعد تلف المال فما يؤدّيه إلى المالك ، وإن كان حقّا له ، وله الرجوع إليه ولو كان المال تالفا عند غيره بمقتضى «على اليد» ولذلك يجب عليه أيضا الأداء ، ولكن لمّا تكون الخصوصيّة المؤدّاة إلى المالك ليست حقّا له ، وإنّما يؤدّيها مقدّمة لإيصال ماله إليه وتبعا لما له ، تصير الخصوصيّة أيضا ملكا له ، ولا تخرج أيضا عن كيس المؤدّي ، بل تكون خسارتهما على من أخذ المال ثانيا من يده سواء إن استقرّ المال بالتلف عليه أو انتقل إلى يد آخر ، وهكذا ، لأنّ هذه الخصوصيّة هي الوجود الاعتباري الّذي استقرّ على يد الغاصب بحكم الشارع وتضمينه إيّاه ، فإذا انتقل أصل المال من يده إلى غيره قد عرفت بحكم المقدّمة الأولى أنّ العين بجميع شئوناتها تنتقل إلى يد الغير ، فاليد الثانية كما تصير بمقتضى «على اليد» ضامنا لنفس العين ، كذلك تصير متعهّدة لشئونها الاعتباريّة أيضا بمقتضى «على اليد» فإنّ في لسان هذه القاعدة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أخذت» عناية يستكشف منها مزيد اعتبار الشارع بكون جميع خصوصيّات العين المردودة محفوظة ومرعيّة حين الردّ.


مع أنّ الشارع أيضا بنفسه اعتبر ذاك الوجود الاعتباري ، وقد قلنا : إنّه ليس اعتباريّا محضا ـ كأنياب الأغوال ـ وكذلك لا ينفكّ هذا الوجود الاعتباري عن العيني ، ونظير هذا الوجود الاعتباري ـ الّذي يكون منشأ للآثار الشرعيّة ، بل العرف أيضا يراه موجودا ـ إنّما هو مسألة المنافع الغير المستوفاة وضمانها على من كان ضامنا للعين ، فإنّ في ضمان هذه المنافع أقوال ، ذهب بعض إلى العدم (١).

والعمدة في استدلالهم هي أنّ المنافع أمر متصرّم الحدوث ، فما لم يوجد منها من حيث عدم انقضاء زمان فأمر معدوم ، وكذلك ما انقضى زمانها ، والمفروض أنّ ذا اليد على العين ما استوفى شيئا فصار معدوما ، والضمان لا بدّ وأن يتعلّق بأمر موجود.

وذهب الآخرون إلى ضمانها ، مستدلّين بأنّها في ذاتها وإن كانت معدومة إلّا أنّه باعتبار قابليّة وجودها والمفروض ؛ أنّ قابليّة وجودها فعليّة ، فيراها العرف بهذا الاعتبار أمرا موجودا ، ويكفي في وجود الامور المتصرّمة اعتبار الوجود كذلك ، أي تحقّق قابليّة نفسها ووجود منشأ انتزاعها فعلا (٢).

ولذلك ترى العرف مع مثل هذه الامور الاعتباريّة يعاملون معاملتهم مع الموجود الحقيقي الخارجي ، والشارع أيضا أمضى معاملتهم كذلك ، فإنّه يجوز لصاحب الأملاك أن يؤجر أو يهب منافع أملاكه إذا كان الآن مهجورا عن منافعها إلى سنين متمادية ، منافعها المحدثة لها بعد هذه السنوات ، ليس ذلك إلّا أنّ العرف يراها الآن موجودة بوجود قابليّتها ، وكون منشأ اعتبار وجودها الآن ملكا ومالا للمؤجر والموهب.

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٨.

(٢) جامع المقاصد : ٦ / ٢٧٣.


وبالجملة ؛ فيستكشف من نظائر الباب أنّ ترتيب آثار الوجود (١) ؛ في الامور الاعتباريّة لا يحتاج إلى زيادة مئونة ، بل يكفي فيها قابليّة وجودها ، خصوصا إذا كان معتبرها الشارع كما في ما نحن فيه ، فالخصوصيّة المنتقلة إلى عهدة اليد اللاحقة إذا لم تكن ملكا لمالك العين ، بل إنّما الشارع اعتبر وجودها على اليد العادية ، لأنّ تعيين المالك ماله فيها لو تلفت العين المغصوبة بلا أن تصير هذه الخصوصيّة المعتبرة على العهدة الأوليّة ملكا للمالك بحكم المقدّمة الثانية ، نعم هي متعلّقة لحقّه فيجوز له مطالبة ماله عن تلك العهدة فلا تخرج هذه الخصوصيّة الماليّة الّتي اعتبرها الشارع على عهدة الآخذ عن كونها مالا له ، ووجوب ردّها إلى المالك مقدّمة لإيصال حقّه لا يوجب ذلك ، كما أوضحنا ذلك عند بيان المقدّمة.

فالحاصل ؛ أنّ الخصوصيّة الماليّة إذا كانت باقية على ملك الآخذ الأوّل ، وقد كانت هذه الخصوصيّة المنتزعة عن العهدة منتقلة إلى يد الآخذ الثاني وعلى عهدته تبعا للعين ، فالعهدة الثانية صارت مضمّنا لأمرين على البدل ؛ إمّا نفس العين المأخوذة ، وإمّا مرتبتها المعتبر وجودها على العهدة الاولى ، ولذلك فإن رجع مالك العين وأخذ منه عين ماله ، وإلّا فبدلها والمرتبة الاخرى الّتي هي عينها بالاعتبار ، فليس للأوّل الرجوع إلى الثاني ؛ لعدم خروج شي‌ء عن كيسه ، وإلّا فإن رجع إلى الأوّل وأخذ منه ماله التالف في اليد الثانية أو غيرها فللأوّل الرجوع إلى الثانية لأدائه خصوصيّة ماله ، مع كون الثاني ضامنا لهذه الخصوصيّة أيضا مضافا إلى ضمانه العين.

__________________

(١) شرعيّة كانت أم عرفيّة ، «منه رحمه‌الله».


نعم ؛ للثاني أيضا الرجوع إلى لاحقه لجريان عين ما جرى بينه وبين سابقه ، بينه وبين لاحقه كذلك ، إلى أن يستقرّ الضمان في يد من تلف المال بيده ، فليس له الرجوع إلى غيره لعدم عهدة مضمّنة له لاحقة عليه حتّى يرجع إليه ، فهذا سرّ ما ذهب إليه المشهور من كون قرار الضمان بيد من تلفت العين المغصوبة في يده ، فافهم!

وقد يشكل الأمر ؛ في مثل ما لو استقرّ الضمان في يد أحد ، بمعنى أنّه ما أخذ المال عن يده آخر ، بل انتهى التعاقب إليه ، ثم أتلفه أحد الأيادي السابقة الّتي يكون بسبب أخذه سابقا الآن ضامنا ، ففي مثل هذه الصورة ؛ فلو رجع المالك إلى من استقرّ الضمان في يده ، فعلى ما بيّنا من وجه رجوع السابق إلى اللاحق كون اللاحق ضامنا لما في العهدة السابقة ، فليس لليد الآخرة الّتي استقرّ الضمان عليها الرجوع إلى المتلف ؛ لعدم كونه بضمانه الأوّل ضامنا له ، بل هو ضامن لسابقه وصاحب المال ، وبسبب الإتلاف لا يعقل أن يصير ضامنا ثانيا ، لكونه تحصيلا للحاصل بالنسبة إلى المالك.

وأمّا بالنسبة إلى من استقرّ الضمان في يده فأيضا لا أثر له ، بمعنى أنّه لا يصير بذلك عهدته مشغولة باللاحقة ؛ لأنّ المفروض أنّ اليد اللاحقة أيضا ضامن للمتلف ؛ لكون يده سابقا عليه ، فالمتلف بإتلافه وإن صار ضامنا له إلّا أن اليد اللاحقة وقد كانت ضامنا له لترتّب يده على يده ، فتتهاتر العهدتان ويتساقط الضمان من الطرفين ، فلا حقّ لأحدهما على الآخر ، لما عرفت من كون كلّ منهما متعهّدا للخصوصيّة الّتي تكون على الذمّة الاخرى الّتي هي منشأ ضمانهما للمالك وكلّ منهما للآخر.


ولكنّك خبير بأنّ الإشكال إنّما نشأ من المغالطة في تهاتر العهدتين ، وجعل عهدة كلّ من المتلف ومن استقرّ عليه الضمان واشتغال ذمّتهما بالنسبة إلى الآخر متساويا ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ الإتلاف بنفسه سبب للضمان ، ويجعل العهدة مشغولة ، فالعهدة لمن استقرّ عليه الضمان وإن كانت مشغولة لما اشتغلت به عهدة المتلف ، فتصير عهدة المستقرّ عليه الضمان مشغولة بأداء خصوصيّتين : خصوصيّة نشأت من وضع يده على العين المغصوبة ، والاخرى من أخذه عن اليد السابقة الّذي صار ذلك منشأ لاشتغال ذمّته باليد السابقة.

ولكن لا ريب أنّ المتلف بإتلافه اشتغلت ذمّته بهاتين الخصوصيّتين أيضا ، وإن لم تشتغل ذمّته ثانيا بذلك بالنسبة إلى المالك لكونه تحصيلا للحاصل ، ولكن بالنسبة إلى من استقرّ عليه الضمان ليس كذلك ؛ لأنّه بالنسبة إليه لم تكن ذمّة المتلف مسبوقة باشتغال ذمّته له ، بل يصير الآن عهدته مشغولة به.

وأمّا التهاتر ؛ إنّما يلزم إذا كانت العهدتان متساويتين في الاشتغال ، مع أنّ عهدة من استقرّ عليه الضمان لم تكن مشغولة إلّا بخصوصيّتين ، والمتلف بإتلافه يصير عهدته مشغولة بهاتين الخصوصيّتين ، مضافا إلى اشتغال ذمّته الآن بخصوصيّة زائدة عليهما بالنسبة إلى مجموع ما اشتغلت به ذمّة المستقرّ عليه الضمان.

وبالجملة ؛ قاعدة الإتلاف تكون كقاعدة اليد ، فكما أنّها تلاحظ بالنسبة إلى العين بجميع شئونها ، كذلك تلاحظ الإتلاف بالنسبة إلى المال بجميع شئونه ، فالالتزام بضمان المتلف وإن كان بالنسبة إلى العين تحصيلا للحاصل إلّا أنّه بالنسبة إلى مرتبة من المال الّذي اعتبر في ذمّة من استقرّ عليه الضمان ليس تحصيلا للحاصل.


مثال ذلك : أنّه إذا كان المال في يد المستقرّ عليه الضمان كان كجسم له ذراعان ، ثمّ بإتلاف ذي اليد السابقة صار بمنزلة جسم يكون له ثلاثة أذرع ، فلهذه الخصوصيّة الزائدة الّتي نشأت من قبل الإتلاف وتعهّد المتلف ما استقرّ عليه ذمّة المستقرّ عليه الضمان ، للمستقرّ عليه الضمان الرجوع على المتلف ، فتأمّل!

ثمّ إنّ جملة ما استفدنا من كلامه ـ دام ظلّه ـ إلى هنا من أوّل هذه المسألة وإن كان اعتبارات وتصوّرات يجوّز العقل وقوعها في الخارج فقط ، وما قام برهان عقليّ عليها ، إلّا أنّه أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّه يكفي في إثبات الأحكام الشرعيّة ما يستفاد من ظواهر أدلّتها ما لم يقم برهان عقليّ على استحالة ما يستفاد من الأدلّة ، ولا ريب أنّ كلّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) لمن أمعن النظر فيه.

هكذا ينبغي أن يحرّر المقام حتّى تندفع به الإشكالات ، لا كما أفاده شيخنا قدس‌سره في مكاسبه من اعتبار البدل لما أحدث على عهدة الآخذ (٢) ، حتّى يرد عليه ما أورده المحشّون (٣) فراجع!

هذا كلّه ؛ فيما لو كان الآخذ عالما بالغصبيّة ، أمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان مغرورا وإن كان للمالك الرجوع إليه ؛ لظاهر قوله : «على اليد» وكذلك : «من أتلف مال الغير» ... إلى آخره (٤) ، ولكن لو أخذ المالك عنه البدل والغرامة فله

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

(٢) لاحظ! المكاسب : ٣ / ٥٠٧.

(٣) حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١٧٧.

(٤) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨.


الرجوع إلى الغارّ ، فلا يتوهّم أنّ قاعدة الغرور تمنع عن رجوع المالك إليه ؛ لعدم التنافي بينهما ، فتدبّر!

ضمان منافع الحرّ وعدمه

الأمر السادس : قال في «الشرائع» : (والحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيرا) (١).

اعلم! أنّ في هذه المسألة جهات من البحث :

الاولى : في ضمان نفس الحرّ.

الثانية : في منافعه ، وهي تتصوّر على وجوه ؛ لأنّ الحرّ المأخوذ إمّا أن يكون صانعا أو غير صانع ، ففي كلّ منهما إمّا أن يستوفي الآخذ منافعه أو لم يستوف.

ثمّ إنّ في كلّ من الصور الأربع : إمّا أن يكون المأخوذ أجيرا ، أو ليس كذلك.

أمّا الكلام في غصب الحرّ نفسه فنقول : إنّ أخذ الحرّ والسلطنة عليه يكون على نحوين :

أحدهما : أن يأخذه ويحبسه بحيث لا يقصّر في الإقامة بأداء وظائف بقائه وإمرار حياته شيئا ، حتّى لو تلف لم يستند عرفا بالآخذ والحابس ؛ ولو بسبب حبسه في مكان مظلم حتّى يستوحش فيموت لأجله ، بل كان من هذه الجهة أيضا مأمونا ، ففي مثل هذه الصورة ؛ لو تلف الحرّ لم يكن الحابس ضامنا ، سواء

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.


كان المحبوس صغيرا أم كبيرا مجنونا أو عاقلا ، ولكن لا لعدم صدق معنى الغصبيّة على آخذه أو عدم صدق اليد عليه ، لما حقّقنا من أنّ الغصبيّة لا يتوقّف صدقها إلّا على استيلاء اليد على الشي‌ء وهو صادق على حبس الحرّ وأخذه ، فإنّ من كان له عبد فأعتقه ، ولكن لم يخل سبيله بل حبسه ، فالعرف لا يرى فرقا بين استيلائه السابق الّذي كان له عليه حين كونه عبدا وبين استيلائه عليه الآن بعد ما صار حرّا ، وكذلك يصدق على فعله ذلك وحبسه الحرّ أنّه ذو يد عليه ، وأنّه أخذه واستولى عليه ، بل لأنّ مناط الضمان في باب الغصب على ما بيّنا من كونه مساوقا لقاعدة اليد أنّه لا يوجب أخذ شي‌ء والاستيلاء عليه الضمان إلّا أن تصدق هذه القاعدة عليه صدرا وذيلا ، وفي حبس الحرّ والاستيلاء عليه وإن كان يصدق الأخذ إلّا أنّه يصدق ذيل القاعدة وهو الأداء ، فإنّه يتوقّف على أن يكون المأخوذ غير المأخوذ منه حتّى يؤدّي إليه.

وأمّا الكلام في منافعه ففيما إذا لم يكن صانعا ، وما استوفى الآخذ منه شيئا ، فالأمر فيه واضح ، ويظهر حكمه ممّا قلنا في عدم الضمان.

وثانيهما : هو أن يأخذه ويستولي عليه ويحبسه في محلّ مخطور من مسبعة أو غيرها بحيث يكون ذاك المحلّ غير مأمون عادة ، أو يحبسه ويقصّر في القيام بأداء وظائف المحبوس ممّا يتوقّف عليه حياته عادة ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص صغرا وكبرا ، قوّة وضعفا أو غيرها.

وبالجملة ؛ فلو لم يقم الحابس على أداء ما يتوقّف عليه تعيّش المحبوس وإمرار حياته ، بحيث لو مات لم يستند عند العرف إلى موته حتف أنفه ، فلا ريب في كون الحابس في هذه الصورة ضامنا للحرّ لو تلف ، ويدخل في باب القصاص والديات ، فتأمّل!


وأمّا الكلام في ضمان منافعه ، وفيما إذا لم يكن الحرّ صاحب صنعة ، وما استوفى الحابس والآخذ منه شيئا ، فيظهر حكمه ممّا قلنا من عدم الضمان بالنسبة إلى نفسه ، وليس سبب عدم الضمان أيضا بعدم صدق الأخذ واليد بالنسبة إلى الحرّ حتّى يقال بأنّه إذا لا يصدقان على أصله فالمنافع تابعة له ، لما عرفت من بطلان هذا الكلام ، بل المناط في عدم الضمان هو عدم صدق الأداء بالنسبة إلى منافعه أيضا ؛ لأنّ الأداء إنّما يتوقّف بأن يكون المؤدّي غير المؤدّي إليه ، ولا يصدق ذلك في أداء منافع الشخص بالنسبة إلى نفسه ، مع أنّه سابقا أشرنا إلى أنّه لا تعتبر الماليّة لمنافع الحرّ ، وإنّما سلطنته على نفسه حكم شرعي ، وقدرة محضة بلا اعتبار حكم وضعيّ يورث الضمان أصلا.

وأمّا فيما إذا استوفى منه منافع ، فالظاهر ضمانه اجرة منافعه المستوفاة منه ، لأنّ عدم اعتبار الماليّة لمنافعها وعدم الضمان بالنسبة إليها تبعا لعدم ضمان نفسه إنّما كان ما لم تجئ المنافع في عالم الوجود ، وإلّا فبعد تحقّقها في الخارج فكما يبذل بإزائها المال فكذلك يعتبر لها الماليّة ، فيدخل في باب الإتلاف مضافا إلى احترام عمل المسلم.

وأمّا لو كان المحبوس ذا صنعة ولم يستوف الحابس منه شيئا ، فقد يتوهّم لكونه ذا صنعة وقد منعه عن استيفائه من منافعه ، وليست منافعه كمن ليس ذا صنعة ؛ لأنّه لا يفرض له منافع فعليّة ، بل هو على قابليّته الصرفة لأن يوجد له المنافع ، فيصير ذا مال باق ، فمنافع الحرّ الّذي ليس صاحب صنعة فعلا هي قوّة محضة ، ولذلك لا يعتبر لمثلها عند العرف الماليّة ، بخلاف الحرّ الّذي صاحب صنعة بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من صنعته كلّ يوم مقدارا من المال ،


والحال أنّه منعه الحابس عن ذلك ، فكأنّه أتلف منه مالا فعليّا موجودا الآن في الخارج.

هذا ؛ ولكنّك خبير بأنّ ذلك وهم باطل ؛ ضرورة ؛ أنّ الإتلاف يتوقّف صدقه على إعدام أمر موجود أو استيفاء الموجود ، ومنع الغير عن استيفائه عن منافعه القابلة لأن يوجد ، إنّما هو منع إيجاد المعدوم ، لا إعدام لأمر موجود حتّى يصدق الإتلاف ، وإنّما يكون ذلك كمن كان له رأس مال فمنع صاحبه عن اكتسابه به بحبس أو غيره ، بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من رأس ماله هذا الّذي ليس إلّا مائة تومان في كلّ سنة ألف تومان ، فكما أنّ حبس مالكه ومنعه من استفادته من رأس ماله لا يقال : إنّ الحابس والمانع أتلف من المحبوس شيئا ، كذلك منع ذي الصنعة من استيفائه من صنعته إتلافا لشي‌ء.

وبالجملة ؛ فلا إشكال في عدم الضمان في هذه الصورة أيضا ؛ لعدم المقتضي له أصلا ممّا هو قابل لأن يصير مقتضيا ، ولذلك ذهب إليه المشهور ، بل كادت أن تكون المسألة إجماعيّة ، وما جعله بعض في المقام مقتضيا للضمان ـ وقد نقله في «الجواهر» (١) ـ فلا يسمن ولا يغني من جوع ، فراجع!

ضمان منافع الأجير

وأمّا فيما إذا حبس الأجير ومنعه عن استيفاء مستأجره عنه ، وهذا يتصوّر على أقسام ، لأنّ زمان العمل إمّا محدود فيمنعه الحابس عن عمله في زمان الإجارة ، أو لا يكون له زمان معيّن ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون المستأجر

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٣٦.


الحابس نفسه ، أو غيره.

أمّا فيما إذا كان زمان العمل معيّنا وحبسه الغاصب في ذاك ، بحيث لم يقدر الأجير أن يعمل في الحبس ، ففي هذه الصورة لمّا كان الامتناع نشأ من قبل الحابس ، والمؤجر كان حاضرا للوفاء بعقد الإجارة وتسليم ما يؤجر له ، فالظاهر أنّ الأجير يستحقّ الاجرة ، وإنّما ضمانها على الحابس ، وذلك لأنّ الأجير تملّك الاجرة بعقد الإجارة والعقد بحاله باق ، لأنّ المفروض أنّ المؤجر ما امتنع عن الوفاء حتّى ينفسخ العقد ، فإذا استحقّ الاجرة فيأخذها من مؤجره ، فإن كان هو نفس الحابس فليس له شي‌ء ؛ لأنّه بنفسه أقدم على منع نفسه عن استيفاء حقّه ، وإن كان غيره فهو يرجع على الحابس.

فكيف كان ؛ المؤجر يستحقّ الاجرة لما يقتضيه عقد الإجارة ، لا للإتلاف حتّى يقال بأنّه لم يتحقّق شي‌ء في الخارج من العمل حتّى يصدق أنّ الحابس أتلفه ، فتأمّل!

وأمّا فيما لم يكن للعمل زمان محدود ، بل إنّما استأجره المستأجر لخياطة ثوب ـ مثلا ـ بلا أن يشترطه في زمان خاصّ ، ففيه لا إشكال أنّه بالحبس لا يستحقّ من الاجرة شيئا ؛ لعدم إيجاده العمل المؤجر له ، وعدم انقضاء زمانه أيضا ، والعقد ما وقع على العمل إلّا على نحو الإطلاق ، فهو بعد قادر على تسليم العمل ، وما لم يسلّمه لا يستحقّ الاجرة ، ولا يتملّكه مستقرّا.

وبالجملة ؛ فبالحبس لا تشتغل ذمّة الحابس بشي‌ء ؛ لأنّ اشتغال ذمّته فرع استحقاق المؤجر شيئا ، والمفروض أنّه ما لم يف بالعقد لم يستحقّ شيئا وفي الصورة السابقة إنّما كان ممنوعا عن الوفاء بالعقد ، ولذلك كان يستحقّ الاجرة ،


ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يكون الحابس هو المستأجر أو غيره.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا حكم ما لو حبسه في الصورة السابقة مقدارا من الزمان ، بحيث يتضيّق زمان العمل ويسقط عن العمل مقدار منه لا كلّه ، ففيه تستحقّ من الاجرة مقدار ما حبس بالنسبة إلى مجموع العمل لا كلّها ، وأمّا استحقاقه بقيّتها فموقوف على تسليم العمل بمقدار ما بقي من الوقت وحرمان خيار التبعّض هنا وعدمه ، فيستفاد حكمه من محلّه.

ضمان منافع الدابّة

وفي «الشرائع» : (ولا كذلك لو استأجر دابّة فحبسها بقدر الانتفاع) (١).

بمعنى أنّه ولو كانت الدابّة استأجرت لعمل على الإطلاق ـ أي في غير زمان معيّن ـ إلّا أنّه لو حبسها المستأجر بمقدار زمان العمل الّذي استؤجرت له فيضمن بذلك الحابس الاجرة ومؤجرها يستحقّ الاجرة ، وإن لم يستوف المستأجر منها العمل ، ولو كان زمان الإجارة مطلقا.

والفرق بين ذلك وسابقه ـ أي فيما كان المؤجر حرّا ـ أنّه لمّا لم تكن اليد الواردة على الحرّ يدا مضمّنة فالحرّ بسبب حبسه ـ أي صيرورته محبوسا ـ قد عرفت أنّه لا يستحقّ شيئا ، بخلاف المملوك ، فإنّ اليد الواردة عليه لمّا كانت مضمّنة لنفسه وكذلك لمنافعه تبعا له فعلى ذلك ؛ فالحابس إذا كان يحبس الدابّة الّتي استأجرها لعمل فبسبب الحبس تشتغل ذمّته بمنافعها بمقدار زمان الحبس فيستحقّها صاحب الدابّة ، فلو كان الحابس يستحقّ على صاحبه بمقدار ما يتعلّق

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.


بذمّته الاجرة لحبسها استيفاء المنافع منها فذمّة صاحب الدابّة مشغولة بأداء تلك المنافع من دابّته ، فتهاترت العهدتان تهاترا قهرا لو كان ما يستحقّ كلّ منهما على الآخر مساويا لما يستحقّه الآخر وإلّا فبالنسبة.

ضمان الخمر وعدمه

الأمر السابع : قال في «الشرائع» : (ولا يضمن الخمر إذا غصبت من مسلم) (١) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ صور هذه المسألة أربعة ، لأنّ الغاصب والمغصوب منه إمّا أن يكون كلاهما مسلما أو كلاهما كافرا ، أو يكون الغاصب مسلما والمغصوب منه كافرا ، أو بالعكس.

أمّا الصورة الاولى ؛ فلا إشكال في أنّه لا يستحقّ المغصوب منه شيئا ، لأنّ استحقاقه شيئا من قيمة المغصوب منه أو مثله فرع لكون المغصوب منه ملكا ومالا له حتّى يصدق بسبب أخذه عنه «على اليد» (٢) فيشتغل عهدة الآخذ بما أخذ ، كما عرفت ، وبعد أنّ الشارع قد حرّم جميع منافع الخمر ، بحيث لو كان بقي له منافع تكون من قبيل النادر ، فلا يبقى لها ماليّة لأن يرى ماليّة الشي‌ء باعتبار منافعه ، فإذا لم يفرض للشي‌ء منافع لسلبها الشارع عنه ، فلا يعتبر له ماليّة حتّى يترتّب عليها ما لها من الآثار ، وهذا واضح لا سترة فيه.

مع أنّ المسألة إجماعيّة ؛ إنّما الكلام في الخمر المتّخذة للتخليل ، فظاهر

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.


«الجواهر» ـ بل ادّعى الإجماع ـ أنّ غصبها أيضا لا يوجب الضمان (١).

نقول : إنّ الخمر المتّخذة للتخليل وإن لم يكن لها الآن ماليّة إلّا أنّه باعتبار بقائها وصيرورتها خلًّا لا يبعد الدعوى بأنّ العرف لذلك يعتبر لها الماليّة ، ولا يراها مثل ما ليست لذلك ، بل إنّما أعدّت للخمريّة ، بل لقابليّتها لأن ينتفع منها بعد في زمان قريب يكون كاعتبار العرف الماليّة لمنافع العين الّتي لم توجد تتحقّق تلك المنافع بعد لمالك العين ، وليس ذلك إلّا لأنّه لمّا كانت العين قابلة لأن تبقى وتصير صاحبة تلك المنافع فيرونها كأنّها الآن موجودة ، فكذلك الخمر المتّخذة للتخليل وإن كانت مسلوبة المنافع الآن من جميع الجهات فعلا ، إلّا أنّه لا ريب أنّه إذا كانت قريبة لأن تنقلب وتصير خلًّا مثل نصف الساعة مثلا ، فالعرف يراها الآن باعتبار انقلابها ، مالا وذات منفعة ، وأنّ حكم الشارع بحرمة جميع الانتفاعات عنها فعلا لا يوجب سلب ماليّته مطلقا ، مع كونها كذلك ، وإذا استكشفنا كون العرف مساعدا في اعتبار الماليّة لها في مثل هذا الحال ـ أي ، فيما كان بين حال الخمريّة وانقلابها خلًّا زمان قليل ـ فيستكشف من ذلك اعتبار الماليّة للخمر المعدّة للتخليل ، لأنّ الظاهر عدم خصوصيّة لذلك ، بل المناط التهيّؤ وكونها مادّة قريبة قابلة لأن تصير شيئا ينتفع به ، فيصير لذلك مالا.

وبالجملة ؛ فسلب الماليّة عن مطلق الخمر حتّى المتّخذة للخلّ مشكل جدّا ؛ لعدم المقتضي له ظاهرا ، فالحكم بعدم الضمان مطلقا بعيد.

نعم ، لو تمّ الإجماع المدّعى في المقام على عدمه ـ وإن لم يكن نظر المجمعين في ما نحن فيه وكذلك في البيع إلى ما يزعمون من عدم اعتبار الماليّة

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٤.


لها ، فلذلك لا يجوز بيعها ولا يضمن غاصبها ، بل كان إجماعا تعبّديّا لو تمّت دلالة رواية «تحف العقول» (١) وسندها ؛ يتمّ الحكم بعدم الضمان ، وإلّا فالأولى الحكم بالضمان ، كما لا يخفى ، فتأمّل!

أمّا فيما لو كان المغصوب منه ذميّا والغاصب مسلما ، فهنا بحسب ما تقتضيه القاعدة ـ لما عرفت ـ سلب الماليّة عن الخمر ، بل يجب إراقتها (٢) وإن كان لا بدّ وأن يحكم بعدم الضمان ، إلّا أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في ضمان الغاصب في هذه الصورة ، والعلّة في ذهاب الأصحاب في المسألة إلى خلاف الأصل هي ما ذكروه في باب الجهاد من استفادتهم من آية الجزية المغيّى بقوله تعالى : (حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣) بأنّ محاربة الكفّار ونهب أموالهم إنّما تجب ما دام كونهم محاربين ، وبعد انعدام هذا العنوان عنهم بإعطائهم الجزية والعمل بشرائطها ، فكما يحفظ بذلك دماؤهم وأموالهم كذلك يعامل معهم ودينهم [معاملة] دين الحقّ ، بمعنى أنّ كلّ ما يرونه من شريعتهم ويرون أنّه من أحكامهم مثل أنّهم يستحلّون الانتفاع من الخمر ـ مثلا ـ ولذلك يكون لها عندهم الماليّة ، نحن ملتزمون بأن نعامل معهم بالنسبة إلى أنفسهم في ذلك كلّه كما يعاملون أنفسهم فيما بينهم ، فيترتّب على ذلك الالتزام بالأحكام الوضعيّة على حسب أحكامهم.

ومرجع ذلك يكون إلى أنّ الشارع نزّل أحكامهم الباطلة منزلة الأحكام

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣١ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٨٣ الحديث ٢٢٠٤٧.

(٢) ولأنّهم معاقبون على الفروع كما يعاقبون على الأصول ، فالاشتراك في الأحكام التكليفيّة يقتضي الاشتراك في الوضعيّة ، سواء كانت مستتبعة أم لم تكن كذلك ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٣) التوبة (٩) : ٢٩.


الحقّة في الجملة بالنسبة إلى بعض الامور الدنيويّة ؛ لما تقتضيه السياسة الشرعيّة ، فلذلك لو غصب المسلم خمرا من الذمّي وكذلك الخنزير فهو ضامن.

إنّما الكلام في أنّ جريان قاعدة اليد في المسألة المترتّبة على هذا التنزيل أيّ مقدار يقتضي من ضمان المثل أو القيمة؟ لأنّ الخمر مثليّ وضمان المثلي لا ينقلب إلى القيمة إلّا بعد العجز عن أداء المثل ، فالقاعدة تقتضي الحكم بضمان المثل.

ولكن يشكل الالتزام بذلك من جهة اخرى ، وهي أنّ العهدة تشتغل بما له ماليّة ، والمفروض أن الخمر لا ماليّة لها بالنسبة إلى المسلم.

وبعبارة اخرى : أنّه قد بيّنا أنّه عند وضع اليد على مال الغير اعتبر الشارع لهذا المال وجودا اعتباريّا على يد الغاصب ، بحسب أنّ هذا الوجود الاعتباري على يده باق حتّى يردّ المال بنفسه إلى صاحبه أو مرتبة منه عند تلفه ، ويكون لهذا الوجود الاعتباري إضافة ملكيّة إلى الغاصب ، وإضافة اخرى إلى المالك ، فلو ردّ عين ماله إليه ليس له حقّ بعده بالنسبة [إلى] ذاك الوجود الاعتباري ، ولذلك نقول : إنّ لهذا الوجود من أوّل ؛ إضافة ملكيّة إلى الغاصب ، وبعد أن عرفت أنّه لا اعتبار ملكيّة ولا ماليّة للخمر بالنسبة إلى المسلم ، فكيف يعقل أن يعتبر على يده وجودا اعتباريّا له فيشتغل به ذمّته؟!

فالّذي يسهّل الخطب ؛ هو أنّه لا بدّ أن يلاحظ ذاك الدليل للتنزيل من أنّه أيّ مقدار يقتضي؟ فإذا نزّلت الخمر الّتي لا ماليّة لها منزلة المال لاعتبار الماليّة لها عند الكفّار ؛ بل التنزيل يقتضي اعتبار جميع خصوصيّات الماليّة لها حتّى لو غصبها المسلم يشتغل ذمّته بمثلها ، أم ليس يقتضي ذلك؟ ولا إشكال أنّه لا


إطلاق ولا عموم لدليل التنزيل حتّى يقتضي ذلك ، بل استفاده الأصحاب من الآية المباركة وغيرها في الجملة (١).

ولمّا يكون الحكم على ما عرفت مخالفا للقاعدة ؛ لأنّ ما ثبت من أصل الشريعة أنّه لا ماليّة للخمر خرجنا عن الأصل لقيام الدليل الخاصّ على اعتبار الماليّة لها بالنسبة إلى الذمّي ، فلا بدّ أن [يكون] بالقدر المتيقّن من الدليل والقدر المتيقّن في المقام هو القيمة.

بمعنى أن يبنى أنّ القدر المتيقّن ممّا اعتبر من الوجود للخمر المغصوبة على اليد اعتبار وجود القيمة لها ، ولا ينافي ذلك ما بنينا عليه ، من أنّ ما يجي‌ء على اليد حين وضعها على مال الغير هو نفس العين ، فاعتبر الشارع وجودها بنفسها على اليد ، لأنّك عرفت أنّ للعين اعتبرت مراتب من الوجود ، فإذا امتنع اعتبار وجود نفسها على اليد لما ظهر من اقتضاء الأصل والدليل الخاصّ أيضا ما اقتضى إلّا اعتبار مرتبة ضعيفة منها ، وهي القيمة ، فلا محيص عن الالتزام بضمان قيمة الخمر المغصوبة من الذميّ لا مثلها ، فيجب ردّ عينها إليه ما دامت باقية ، ـ لعدم انقطاع سلطنته عنها ـ و (٢) قيمتها إن كانت تالفة ، فتأمّل!

وقد ظهر من هذه الصورة حكم ما لو كان الغاصب والمغصوب منه ذمّيّين وتحاكما عندنا.

وأمّا الصورة الرابعة ؛ وهو ما لو كان المغصوب منه مسلما والغاصب ذمّيّا وإن كان ـ دام ظلّه ـ أجرى دليلا فيها أيضا ، بمعنى أنّه أفاد ـ دام ظلّه ـ بأنّ الذمّي

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) كذا ، والأصحّ : أو.


لمّا غصب من المسلم ما هو مال عنده ، والشارع أيضا أمضى واعتبر ماليّته ونزّل الخمر عندهم منزلة المال ، فلذلك يلزم بضمانه للمسلم لأخذه منه ما يعتقده مالا له ، فيجري عليه قاعدة اليد ، إلّا أنّه لا إشكال هنا في ضمانه القيمة دون المثل.

والأمر في هذه الصورة أوضح من الثانية من هذه الجهة ، لأنّ ارتفاع ضمان الغاصب إنّما يكون بأداء ما غصب إلى المالك وقبضه إيّاه دون التخلية فقط ، كما أشرنا سابقا ، والمفروض أنّ الخمر لا تصير مقبوضا للمسلم ولا تجي‌ء تحت يده ، ولا تتعلّق بها سلطنته لعدم كونها مالا بالنسبة إليه.

أقول : ولا يخلو ما أفاده ـ مدّ ظلّه ـ من النظر الواضح ، لأنّه مضافا إلى كون ما أفاده مخالفا للإجماع ، لأنّه لا خلاف ظاهرا في عدم تعلّق الضمان بالخمر مطلقا إذا كان المغصوب منه مسلما ، أنّ التنزيل إنّما يفيد في اعتبار الماليّة بالنسبة إلى المغصوب منه لا الغاصب ، بمعنى أنّ تنزيل ما ليس بمال للمسلم مالا للذّمي كيف يثمر بالنسبة إلى المسلم الّذي هو المأخوذ منه؟ والتنزيل عند الغاصب أيّ ربط له بالمغصوب منه؟ والموجب للضمان إنّما يكون إذا كان المغصوب مالا حقيقيّا له ، أو تنزيليّا عنده ، كما لا يخفى ، ويؤيّد ذلك ما أفاده أخيرا من عدم صحّة قبض الخمر لو كان القابض مسلما ، فافهم!

المباشرة والتسبيب

الجهة الثانية من البحث : في سائر موجبات الضمان سوى اليد وعنوان الغصبيّة.

الأوّل منها : مباشرة الإتلاف ، وإن لم يكن المتلف تحت اليد.


الثاني : التسبيب ، والكلام فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّه لا إشكال في أنّه ما وقع عنوان السبب أو المباشر في حديث ولا نصّ من أخبار الباب ، وكذلك ما ورد نصّ خاصّ يدلّ على القاعدة المعروفة ، وهي : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (١) بمعنى أن يكون متكفّلا لذكر القاعدة بألفاظها ، بل أشرنا سابقا بأنّ هذه إنّما وقعت في معاقد الإجماعات واستفادها الأصحاب من الموارد الخاصّة الواردة فيها النصوص الّتي تستخرج منها بالمناط القطعي هذه القاعدة ؛ وإن كان قد يصدق عنوان الإتلاف في بعض الموارد لمساعدة العرف ، وإن لم ينطبق على ما ورد فيه النصّ ، كما سنشير إليه.

وكيف كان ؛ ليس الإتلاف موضوعا شرعيّا وعنوانا معبّرا به في لسان الشريعة ، حتّى نبحث عن معناه ، لكونه من العرف الخاصّ ، وكذلك ليس للفظ السبب أيضا معنى اصطلاحيّا شرعيّا حتّى ندور مداره ، وأنّ ما ورد في لسان الأخبار عناوين خاصّة أو عامّة قد تنطبق على هذه العناوين اللغويّة والعرفيّة ، وقد لا تنطبق ، فإنّ ما ورد في الأخبار الّتي ذكرها في «الجواهر» عند تنقيح هذا البحث (٢) هو أنّ :

منها ؛ قوله عليه‌السلام : «من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن» (٣).

ومنها ؛ صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئا في طريق

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الحديث ٣٥٥٤٠.


المسلمين فأصاب شيئا فعطب ، فهو له ضامن» (١).

ومنها ؛ لسانها كذلك : «من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان» (٢).

ضرورة ؛ أنّ «من حفر بئرا في غير ملكه» مثل برّ أو فلاة لم يتوقّع مرور أحد فيهما ، بحيث كان اتّفاق عبور أحد فيهما خلاف العادة ، فاتّفق أنّه مرّ أحد منها فوقع فيه فهلك ، فإنّه لا إشكال ظاهرا في عدم صدق نسبة الإتلاف إلى الحافر عرفا ، فلا يرونه في مثله ضامنا ، كما أنّ من حفر بئرا في ملكه الّذي اعتاد العبور عليه ، ولو كان داره فمرّ أحد فوقع فيه ، أو لم يكن المعمول العبور عليه ولكن اذن أحد بالدخول في داره بحيث لا يصدق عنوان الغرور ، بل جعل اختيار الورود بيده ، أو كان معمولا دخول غنم جاره في داره لو كان بابها مفتوحة ولم يكن راعيه معه فدخل المأذون في الدار ، أو الغنم فيها كذلك مع مسامحته في سدّ بابه فوقعا في البئر ، فإنّه يصدق عرفا في هذه الصورة أنّ صاحب الدار الحافر أتلفهما.

مع أنّه لا ينطبق عليه ما وقع في الحديث من كون الضمان معلّقا على حفر البئر في ملك الغير ، وقد يتصادق الإتلاف عرفا مع ما يستفاد من الأخبار من التحديد مثل ما لو حفر بئرا في غير ملكه مع كونه من الطرق المعتادة العبور عليه ، فوقع فيه أحد من العابرين (٣) ، وغير ذلك من الموارد الّتي قد يجتمعان وقد يختلفان.

فمن ذلك ؛ ظهر أنّ النسبة بين ما يراه العرف تلفا والمعنى الّذي يكون ملاكا لاستناد التلف عند العقلاء ، و [بين] ما يستفاد من التحديد من الأخبار ، عموما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤٥ الحديث ٣٥٥٤٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الحديث ٣٥٥٣٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الباب ٨ من أبواب موجبات الضمان.


من وجه لو أبقيناهما على ظهورهما ، فيقع التعارض بين الجمود على ظواهر الأخبار ـ مع أنّ جملة منها ظاهرة في كون المحدث في غير الملك قابلا لصحّة استناد التلف إلى المحدث ـ والأخذ بها (١) و [بين] ما يراه العرف والعقلاء ملاكا لصحّة استناد التلف ، ولو كان الموجب له في ملك نفسه بحيث لا يصدق المباشرة.

فيدور الأمر بين حمل ما يظهر من بعض الأخبار من بيان الحدّ على التنظير والتمثيل ، وتعيين المصداق العرفي مقدّمة لبيان الحكم لا للتحديد ، أو حملها على تعيين الضابط وردع العقلاء عمّا هو ملاك صدق الإتلاف عندهم.

ولا إشكال في أنّه لمّا كان الإتلاف معنى عرفيّا وموضوعا عقليّا لا ربط له بالشارع ، ولا مدخليّة لتصرّفه فيه ، لكونه مفهوما ارتكازيّا ، فلا بدّ من حمل الأخبار الظاهرة في خلاف المعنى الارتكازي ، مثل ما يستفاد منها كون ملاك الضمان في حفر البئر هو أن يكون البئر في غير الملك ، على ما لو كان ذلك موجبا لصحّة استناد التلف إلى الحافر ولو كان المباشر غيره ، إلّا أنّه يقع بحيث يرى اختيار المباشر الّذي هو سبب قريب تحت اختيار السبب البعيد وهو الحافر ، لا ما إذا لم يكن كذلك مثل ما مثّلنا به من حفر البئر في برّ غير معتاد العبور منه أصلا ، أو كان في طريق المسلمين ، ولكن كان ذلك لأن ينتفعوا به ، بمعنى أنّ الحفر يرجع إلى مصالحهم ، مع عدم تقصير الحافر في ما هو من لوازم إيجاد البئر في الطريق بحيث يكون الناس مأمونين عن الوقوع فيه ، وغير ذلك من الموارد الّتي لا ينطبق عليها المعنى الارتكازي العرفي للإتلاف ، بحيث يصحّ الاستناد إلى محدث البئر.

__________________

(١) مرّ آنفا.


فانقدح بما ذكرنا ؛ أنّ الإتلاف معنى عرفيّ ليس فيه اصطلاح ؛ صدقه متوقّف على نظر العرف ، وصحّة الاستناد عند أهله ومصاديقه مختلفة ، فقد يصحّ الاستناد بإيجاد شرطه ، وقد يستند بإيجاد سببه ، كما أنّه يصحّ الاستناد بمباشرة الإتلاف ، فهذه كلّها مصاديق للإتلاف يتوقّف صدق النسبة بها على مساعدة العرف بلا أن يكون لأحدهما اصطلاح شرعيّ حتّى يكون لها موضوعيّة ، فيبحث عنها لاستكشاف المعنى الاصطلاحي لها ، كما لا يخفى ، بل إنّما الباحث عنها إنّما يبحث لتعيين مصداق الإتلاف وتحديده عرفا.

فمن ذلك كلّه ؛ ظهر النظر في ما في كلام صاحب «الجواهر» قدس‌سره في المقام (١) ، حيث اعترض على الأصحاب لتعرّضهم في تعيين معنى السبب بأنّه لا فائدة في هذا التعرّض ؛ لعدم ورود هذا اللفظ في النصّ ، ولا ثمرة في تحديد الضابط به ، بل الضابط إنّما هو يستفاد من الأخبار.

وجه النظر ؛ أنّه قد عرفت أنّه ليس تعرّض الأصحاب لتحديد السبب بلحاظ معناه الشرعي والتزامهم بموضوعيّته ، بل لأنّه كما أنّه لم يرد به نصّ ، كذلك لم يقع لفظ المباشر والتلف أيضا في نصّ ، ولما رأوا إنّما هو ملاك للضمان في كلمات السلف ومعاقد الإجماعات ليس إلّا عنوان التلف ، ولا ينطبق على معناه العرفي ما يستفاد من ملاك الضمان من ظواهر بعض الأخبار (٢) ، مع عدم كون هذه الأخبار صريحة في تحديد ضابط الضمان مختصّا بما لهجت به ، فبمقدّمات عدم الردع استفادوا كون الملاك عنوان الإتلاف وما استقرّ عليه بناء

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٠.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الباب ٨ و ٩ من أبواب الضمان.


العقلاء من المعنى لهذا العنوان ، فتعرّضوا لتعيين مصاديقه الّتي منها عنوان السبب ، فتأمّل!

ثمّ إنّ الظاهر ؛ أنّ مرادهم من السبب هو معناه الاصطلاحي ، أي ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، وضابطه الكلّي لهذا المعنى أنّ سبب الإتلاف هو ما ينتهي إليه موجب التلف ، بمعنى أن يكون هو مستندا إلى اختياره بحيث ولو كان للغير دخلا في التلف ، إلّا أنّ اختياره يكون تحت اختياره ، بأن يفعل عملا يستند التلف إلى عمله عادة ، كأن يحدث بئرا في طريق معتاد من غير أن [يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيه] أو بالوعة من غير أن تجعلها بحيث يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيها ، وغير ذلك من الموارد الّتي لو وقع تلف يكون المحدث موجبا له عادة (١).

إذا عرفت ذلك ؛ فهنا فروع لا بدّ من أن نتعرّضها. الأوّل : ذكر في «الجواهر» أنّ إحداث البئر في غير الملك مطلقا ـ سواء كان عدوانا محضا أو يكون فيه صلاح للمسلمين ـ هل يوجب الضمان لو وقع به تلف ، أم لا؟ ونقل فيه التفصيل عن بعض بين ما كان صلاحا للمسلمين وأحدث في طريقهم ، وما لم يكن كذلك (٢).

والّذي هو بنفسه قوّاه هو الضمان ، بناء على مسلكه قدس‌سره من الجمود على ظاهر النصّ ، لكونه محدثا في ملك الغير ، أو لكونه مضرّا بطريق المسلمين ، بناء

__________________

(١) ومن المعلوم ؛ أنّه لا يتوقّف في ذلك قصد وقوع التلف ، بل تمام المناط انتهاء الأمر إلى الشخص عادة ، «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٢ و ٥٣.


على كون المراد به أحدث شيئا بسببه أضرّ المسلمين ، فتأمّل!

وبالجملة ؛ فقد استظهر الضمان مطلقا فيه وفي الملك المشترك في الجملة.

ولكن الّذي ينبغي أن يقال : هو التفصيل ، كما أفاده (استحسنه) المحقّق وأفتى به جماعة من الأعاظم غيرهم ـ قدس‌سرهم ـ (١) ، لأنّه إذا أحدث البئر لمصلحة المسلمين في طريقهم مع عدم تقصيره في شي‌ء ممّا يوقع الناس في الهلكة فاتّفق على خلاف العادة أنّه وقع فيه أحد فتلف ، فبمقتضى قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٢) عدم ضمانه ؛ لعدم كون عمله ذلك مشتملا على عدوان وتعدّ أصلا ، بل هو محسن فيه فقط بلا أن يكون تصرّفه ظلما على أحد ، فهو إحسان محض ، فلا موجب للضمان ، بخلاف ما لو أحدثه فيه لصلاح نفسه ، أو أحدثه لا لذلك ولكن قصّر في الأداء بوظائفه من طمّ فم البئر وغيره ، فإنّه لمّا لم يكن عمله ذلك مشتملا على الإحسان فليس شي‌ء يمنع عن الضمان ، حسب ما يقتضيه أصل هذا العمل.

ومن ذلك ظهر ؛ أنّ إحداث البئر في ملكه لا يوجب الضمان لو وقع فيه أحد كان داخلا فيه بغير إذنه ، فإنّه يكون بمنزلة إحداث البئر في طريق المسلمين وإحاطته بحائط فصعد عليه أحد فوقع فيه ، فإنّ الحافر ليس ضامنا ؛ لعدم كون التلف مستندا إليه عادة ، وكذلك دار الشخص وملكه لمّا كان تسلّط عليه وعدم جواز دخول أحد فيه بغير إذنه فيه بمنزلة ذلك الحائط المحيط بالبئر الواقع ، فمن دخل فيه بغير إذنه فوقع في البئر فيكون كمن ألقى نفسه في البئر بلا توجّه ضمان

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٧ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٣.

(٢) التوبة (٩) : ٩١.


على الغير ولو كان الغير سببا ، ولكن لمّا كانت جهة السببيّة في مثل هذه الصورة ملغاة في نظر العرف ولذلك يكون التلف مستندا إلى المباشر نفسه.

وبالجملة ؛ فلمّا بنينا على كون المراد من السبب في المقام هو بمعناه الاصطلاحي من كون المناط (١) في استناد الضمان صحّة نسبة الإتلاف إلى السبب ، بأن يكون بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ولكن لا بالنسبة إلى مادّة التلف بل بالنسبة إلى هيئة الإتلاف ، بمعنى أنّه ولو كان يصحّ استناد المادّة إلى غيره كما إذا قدّم أحد طعاما مسموما إلى غيره وأمره بأكله مع كون الآكل جاهلا به رأسا ، فإنّه وإن لم يكن التلف مستندا إلى الآمر إلّا أنّه لا إشكال في أنّ الإتلاف مستند إليه ، ففي الصورة المذكورة لمّا كان الإتلاف أيضا مستندا إلى الداخل بغير إذن المالك فيصير من المقامات الّتي يكون المباشر أقوى من السبب هذا.

تقديم المباشر على السبب وبالعكس

الفرع الثاني : قال في «الشرائع» : (لكن إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب) (٢) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ هنا صورا أربعا نتعرّضها ،

__________________

(١) فالمناط في صدق النسبة وصحّته هو أن يصحّ استناد هيئة الإتلاف به بالسبب ، وإن كان بالنسبة إلى المادّة ، وهي والتلف شرطا أو مقتضيا كحفر البئر في الطريق المعمورة عدوانا ، فإنّ الحفر لا يلزم من وجوده الوقوع في البئر ، ومن عدمه عدمه ، بل هو شرط أو مقتض بالنسبة إلى التلف ، ولكنّه بالنسبة إلى الإتلاف عرفا يكون يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم «منه رحمه‌الله».

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٧.


الأوّل : هو أن يكون المباشر مقدّما على السبب ، كما إذا حفر أحد بئرا في غير ملكه عدوانا فألقى آخر أحدا فيه ، فإنّه لمّا يكون التلف ، وكذلك الإتلاف مستندا إلى الملقي ، وإن كان الحفر شرطا بالنسبة إلى التلف ، مع ذلك يكون الملقي لقوّته ضامنا ، لما عرفت من أنّ الشرط والمقتضي لا يؤثّران بالنسبة إلى الضمان ، بل هو تابع لصدق عنوان الإتلاف المتحقّق بالمباشرة أو التسبيب بلا أن يكون لهما موضوعيّة ، وقد أوضحنا مناط صدق التسبيب ، ومن المعلوم أنّه بمعناه في الصورة المفروضة لقوّة المباشر لا يصدق ، فلا مقتضي لضمان غير المباشر استقلالا ولا اشتراكا.

ومن ذلك ؛ ظهر النظر في ما مال إليه في المقام صاحب «الرياض» قدس‌سره خلافا للمشهور ، فإنّه قدس‌سره لمّا زعم كون التسبيب عنوانا مستقلّا في عرض عنوان الإتلاف فمال هنا إلى اشتراك الحافر والملقي في الضمان (١) ، وقد عرفت ضعف ذلك بما لا مزيد عليه ، بل قد ظهر من ذلك أيضا حكم ما لو صدق على فعله ـ أي المسبّب ـ الإعانة ، ففيه أيضا يكون المباشر هو الضامن ؛ لأنّ الإعانة مثل نصب السكّين ونحوه لا يخرج عن كونه مقتضيا أو شرطا (٢) وقد قلنا : إنّه لا مدخليّة لهما في الضمان.

وبالجملة ؛ فما لم يصدق عنوان الإتلاف استقلالا أو اشتراكا فلا يوجب الضمان ، فعلى فعل المعين إن صدق الاشتراك فيصير شريكا في الضمان ، وإلّا

__________________

(١) رياض المسائل : ٨ / ٣٣٥.

(٢) بعد صدق الإتلاف على المباشر ، «منه رحمه‌الله».


فلا ، فانقدح أنّه لا وجه لتأمّل صاحب «الجواهر» في المقام (١) ، فتأمّل!

الثانية : هي ما يقدّم السبب في الضمان ، كمن حفر بئرا في طريق المسلمين فوقع فيه أحد من العابرين فعطب ، فهنا وإن كان مباشر التلف نفس العابر ؛ لاستناد مادّة التلف إلى حركته باختياره ، ولكنّ اختياره هذا بالنسبة إلى الإتلاف كلا اختيار في جنب اختيار الحافر ؛ لانطباق ما هو مناط السببيّة على فعله ذلك ، وعدم تأثير لحركة المباشر بالنسبة إلى الإتلاف ، بل هو مستند عند العرف على الحافر ، مع كون ذلك من مصاديق ما يستفاد من أخبار الضمان.

اجتماع السببين

الثالثة : هي ما لو اجتمع السببان ، كما إذا حفر أحد بئرا ووضع آخر عنده حجرا فعثر به إنسان فوقع في البئر إنسان فهلك ، بحيث يكون الهلاك مستندا إليهما ، ويكون كلّ منهما دخيلا في التأثير ، بمعنى أنّه لو لم يكن المعثر لما كان يقع أحد في البئر ، وكذلك لو لم يكن البئر فالمعثر لا يوجب الهلاك.

فقد اشكل الأمر في هذه الصورة ، وكذلك الصورة الآتية في صدق الاستناد ، وصحّته بهما جميعا ، أو بالسابق في التأثير ، أو بالسابق زمانا ، ونشير أوّلا إلى توضيح عبارة وقعت في المقام من «المسالك» و «التذكرة» ثمّ نذكر ما هو التحقيق من الحكم في المسألة.

قال في «المسالك» : (فإن اتّفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان لعدم

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٥.


الترجيح ، وإن تعاقبا فالضمان على المتقدّم في التأثير لاستقلاله أوّلا) (١) .. إلى آخره (٢). وقريب [من] ذلك عبارة «التذكرة» (٣).

نقول : إن كان مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق حدوث السببين زمانا ، بأن يكون حفر البئر مع وضع الحجر في زمان واحد ، فأيّ معنى لقولهما في صورة التعاقب : كون الضمان على المتقدّم في التأثير؟ ضرورة أنّه كما يكون أحدهما في صورة التعاقب في الإحداث متقدّما في التأثير ، كذلك يكون في صورة الاتّفاق في الحدوث ، إذ لا ملازمة بين اتّفاق زمان إحداث السببين واتّفاقهما في التأثير كما لا يخفى ، وإن كان مرادهما ـ قدس‌سرهما ـ من «الاتّفاق» ، اتّفاقهما في التأثير ، فلا معنى لتقابل العبارة بقولهما : (وإن تعاقبا) .. إلى آخره ، إذ قد عرفت أنّه كما يمكن أن يترتّبا في التأثير عند التعاقب في الحدوث كذلك أمكن عند اتّفاق زمان الحدوث الترتيب أيضا.

وبالجملة ؛ إن كان المناط في الاختصاص بالضمان عند اجتماع السببين هو الأسبقيّة من حيث الزمان فلا مجال للقول بالاختصاص في صورة التعاقب المتقدّم في التأثير ، وإن كان المناط هو الأسبقيّة في التأثير فلا مجال لإطلاق القول باشتراكهما في الضمان عند اتّفاق السببين من حيث زمان حدوثهما.

أقول : الظاهر أنّه استشكل ـ دام ظلّه ـ (٤) على العبارة هكذا ، ولكن الظاهر أنّ مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق السببين في التأثير بلا أن يكون أحدهما مقدّما

__________________

(١) في المصدر : لاشتغاله بالضمان.

(٢) مسالك الإفهام : ١٢ / ١٦٤.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٧٤ ط. ق.

(٤) الظاهر أنّ استشكاله في العبارة هو ما ذكرنا. «منه رحمه‌الله».


على الآخر ، ولذلك حكما باشتراكهما في الضمان ، ومن التعاقب أيضا التعاقب في التأثير ، ولذا أشرنا باختصاص الضمان بالمتقدّم تأثيرا ، والشاهد على ذلك هو استدلالهما بعد ذلك بما يؤيّد ما ذكرنا.

وعليه ؛ لا إشكال في العبارة وإن لم يخل أصل ما فرضنا من إشكال ، وكأنّه يستظهر من هذه العبارة في ذيل ما نقلنا وهو قوله : (فالضمان على المتقدّم في التأثير) كون المراد من الاتّفاق والتعاقب في كلامهما إنّما هما من حيث الزمان ، فيستشكل عليهما ، فتأمّل!

وأمّا حكم أصل المسألة ؛ فقد يحتمل أن يكون الضمان على مسبّب السبب الأوّل ، وهو واضع الحجر في المثال ، لأنّه وإن كان الوقوع في البئر أيضا سببا للهلاك فموجد البئر أيضا دخيل في الوقوع والهلكة ، إلّا أنّه لمّا كانت السببيّة الثانية مستندة إلى الاولى ، بحيث لو لم يكن الحجر الموجب للعثور لما يتحقّق الوقوع في البئر الموجب للعطب ، ففي الحقيقة التلف مستند إلى السبب الأوّل فهو ضامن.

وقد يحتمل ضعيفا أن يكون الضمان على السبب الثاني ـ الّذي هو البئر في المثال ـ لأنّ العثور وإن أوجب الوقوع في البئر إلّا أنّه لمّا كان منشأ التلف هو الحركة المتحقّقة من أوّل العثور إلى الوقوع تحت البئر ، والهلكة إنّما تقع حين الوقوع في البئر والقرار فيه ، فهو الجزء الأخير للعلّة التامّة ، ومن المعلوم أنّ الشي‌ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته ، ففي الحقيقة البئر أوجب العطب ، ولذلك يستقرّ الضمان على حافره.

ولكنّ التحقيق ؛ يقتضي الاشتراك في الضمان ، ضرورة أنّه بعد أن عرفت


كيفيّة تأثير كلّ من السببين في التلف ، بمعنى أنّه لو لم يكن الحجر موضوعا لم يتحقّق الوقوع ، وكذلك لو لم يكن البئر لم يكن العثور موجبا للعطب فيصير كلّ من أجزاء العلّة من قبيل المعدّات ، ولا شبهة أنّه في المعدّات يكون المعلول المترتّب عليها مستندا بالجامع بينها ، ولا يلاحظ تقدّم وجود بعضها خارجا حتّى يستند لتقدّمها كذلك إليها المعلول ، وكذلك بالنسبة إلى الأخيرة.

ففي المقام ؛ لمّا كان في الحقيقة سبب الوقوع في البئر ، وكذلك العثور هو حركة العابر وسيره من الجانب الّذي هما واقعان فيه ، فالسبب الحقيقي للتلف هو نفس الحركة المتحقّقة من حين ابتداء العثور إلى الوقوع في البئر المستندة هذه الحركة إلى اختيار العابر ، إلّا أنّه لمّا كان مطلق الحركة لا يوجب الهلكة ، بل إنّما الموجب لها هو الحركة الخاصّة المكيّفة بكيفيّة الوقوع في البئر ، والموجب لصيرورة الحركة المطلقة هذه الحركة الخاصّة المتلفة هو كون الحجر في طريقه وهكذا البئر ، فالحجر الموجب للعثور والبئر المحفور هما شرطان بالنسبة إلى التلف ومقتضيان لتحقّق هذه الحركة ، ولا ترجيح لأحد الشرطين على الآخر ، بل هما متساويان في التأثير ، فيكون الجامع بينهما هو شرطا ومقتضيا ، فسببيّة السبب مستندة إلى هذا الجامع ولذلك يسمّى الشرطان بالسبب ، فتصير نتيجة ذلك هو اشتراك الحافر وواضع الحجر في الضمان ، لما اتّضح من تساوي العثور والوقوع في صدق تسببيّة الإتلاف بهما.

ثمّ إنّه ؛ بعد أن انقدح ممّا ذكرنا اشتراك السببين في الضمان ـ كما قوّاه صاحب «الجواهر» قدس‌سره (١) أيضا ـ فلا بدّ من البحث في كيفيّة الاشتراك ، هل يكون

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٦.


كلّ منهما ضامنا للتالف مستقلا ، أو يشتركان في تضمّنهما بشي‌ء واحد شخصيّا (١) أم بدلا كليّا للتالف؟

والأقوى الأخير ؛ لعدم مقتض لغيره ، أمّا استقلالهما في الضمان فلأنّه تابع للاستقلال في الإتلاف ، وقد عرفت أنّهما محدثان للجامع بين مقتضي السببيّة ، فالجامع هاهنا يكون سببا بعد عدم تعقّل استقلالهما في التأثير ، فلا دليل ولا موجب لاستقلالهما في الضمان.

وأمّا عدم ضمانهما لشخص التالف فلأنّه قد التزمنا بذلك في باب اليد ـ خلافا للمشهور ـ واعتبرنا وجودا اعتباريّا على اليد ، لما كان يقتضيه ظاهر قاعدة اليد ، وأمّا في باب الإتلاف فلا داعي لذلك ، مع أنّه لا منشأ لانتزاع ذلك الوجود الاعتباري في المقام ، بل هنا حسب ما تقتضيه القضيّة التعليقيّة الّتي هي معنى الضمان في باب الإتلاف ـ كما فهمها الأصحاب من لفظ الضمان ـ هو اشتغال ذمّة بكلّي في الذمّة بدلا عن التالف عند التلف ، إلّا أنّه إذا كان المتلف لمال الغير شخصا واحدا فتكون ذمّته منفردا مشغولة بذلك الكلّي ، وإذا كان التلف من شخصين أو أزيد ناشئا فذمّتهم مجموعا مشغولة بذاك الكلّي ، فظهر من ذلك عدم دليل للاحتمال الثاني أيضا ، فيتعيّن الثالث.

هذا ؛ ولكن ما أفاده ـ دام ظلّه ـ بعد لا يخلو عن تأمّل ، أمّا في أصل المسألة ؛ فلأنّه لمّا كان تأثير السبب الثاني ناشئا عن تأثير الأوّل بحيث تستند شرطيّة البئر للتلف إلى تحقّق شرطيّة العثور ، فالعرف يرى العثور بنفسه سببا تامّا لإسنادهم الشي‌ء إلى السبب الأوّل ، ولا يرونهما من قبيل المعدّات ، فالحقّ هو ما

__________________

(١) حسب ما قلنا في قاعدة اليد ، «منه رحمه‌الله».


أفتى به العلّامة في «التذكرة» وكذلك غيره (١).

وأمّا في كيفيّة الضمان ؛ فلأنّ ظاهر القاعدة المسلّمة المستفادة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام وهي «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (٢) لرجوع ضمير «له» إلى المال المتلف يقتضي هنا أيضا اعتبار وجود للعين على العهدة ، واشتغال الذمّة بنفس العين كان تقتضيه لفظة «ما الموصولة» وغيرها في قاعدة «على اليد» ، فما وجه الفرق (٣) بين المقامين؟ فتأمّل!

الصورة الرابعة : وهي ما لو اجتمع السببان ، ولكن بحيث يكون سببيّة الثانية مستندة إلى الاولى ، وبمعنى أنّه لم يكن السبب الثاني الّذي هو مباشر الإتلاف مصداقا للسبب بالمعنى الّذي قلنا ، بأن يكون التلف مستندا إلى اختياره ، بل كان لاختيار الغير في وقوع التلف تمام التأثير ، بحيث يكون اختيار الثاني تحت اختياره إمّا بإجباره إيّاه أو بإغفاله ، ففي الحقيقة يكون ذلك من اجتماع السبب والمباشر.

وتفصيل القول في ذلك : أمّا في الإغفال المسمّى بالغرور ففي ضمان الغارّ أو المغرور أو كليهما احتمالات (٤) ، ولا يخفى أوّلا أنّ المغرور على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يكون مغرورا في إتلاف مال الغير أو في إتلاف مال نفسه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٧٤ ط. ق ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٦.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهية : ٢ / ٢٨.

(٣) وأمّا الضمان فحقيقته معنى اعتباري تابع لكيفيّة اعتباره ومنشأ انتزاعه ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٤) وقد ذكر في «الشرائع» بعد عدّة فروع في مسألة بدل الحيلولة جواز الرجوع للمالك إلى كليهما وعليه المشهور ، بل على ما يظهر من «الجواهر» إجماعيّة وارتضاه ـ دام ظلّه ـ أيضا فتأمّل «منه رحمه‌الله» (شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٥ و ٢٤٦ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٧ و ٥٨).


أمّا في الأوّل ؛ فأقوى الاحتمالات على حسب ما تقتضيه القاعدة هو الاحتمال الثاني.

بيان ذلك : أنّه لا إشكال في أنّ المغرور اختياره بالنسبة إلى نفس الفعل المتحقّق به ذات التلف تامّ ، وليس من هذه الجهة نقص في إرادة المباشر المغرور.

نعم ؛ إرادته بالنسبة إلى عنوان مال الغير ناقصة ، بمعنى أنّه من هذه الجهة ليس له اختيارها ، بل مقهور للغارّ فيصدق على فعله إتلاف المال ، وإن لم يصدق عنوان كونه مال الغير ، ويكفي الأوّل في استناد التلف إلى المغرور ، فيصير ضامنا للمالك ، ضرورة أنّ الضمان ليس معلّقا على الإتلاف المقيّد بكون المتلف مالا للغير ، بل الإتلاف في ظرف كونه كذلك ـ أي مالا للغير يوجب الضمان ، ولذلك يضمن النائم والساهي ـ يوجب الضمان ، فتأمّل!

نعم ؛ لمّا يصدق الإتلاف على فعل الغارّ أيضا بحيث يستند الإتلاف إلى من قدّم طعاما للغير عند إنسان وأمره بأكله بعنوان كونه مالا لنفسه ، فيرى العرف المقدّم ضامنا أيضا مع كون إرادته بالنسبة إلى الآكل أتمّ ، بمعنى أنّه يصدق على فعل الآكل ـ كما بيّنا ـ إتلاف المال فقط ، ولكن يصدق على فعل الغارّ المقدّم إتلاف مال الغير ، فمن هذه الجهة إرادته أيضا موجودة ، كما بالنسبة إلى ذات الإتلاف متحقّقة ، فلتماميّة إرادته بالنسبة إلى المغرور ـ حتّى لا يكون له اختيار من هذه الجهة أصلا ، بل هو مقهور صرف للغارّ ـ فللمغرور الرجوع إلى الغارّ.

أقول : ولمّا لم يخل هذا البيان عن النظر ، ولعلّه لذلك عدل ـ دام ظلّه ـ عن ذلك إلى بيان آخر ، وهو أنّه لا إشكال أنّ الإرادة إذا توجّهت إلى فعل يكون


الغرض إيجاد مادّة هذا الفعل ، فإذا توجّهت الإرادة إلى التلف فيكون الغرض إيجاد هذه المادّة في الخارج ، فلذلك يسند الفعل إلى مريد هذا الفعل إذا أوجده ، وكذلك إذا تعلّقت الإرادة بالإتلاف فلمّا يكون الغرض إيجاد ذلك فيقال : إنّه أوجد الإتلاف ، فكذلك يستند إيجاده إلى مريده أنّه أوجد الإتلاف بعد تحقّق المادّة في الخارج.

إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّ المغرور إذا توجّهت إرادته إلى أكل مال الغير فأكله بأمر الغارّ ، فلمّا يصدق على فعله ذلك إتلاف مال الغير ، فيصير ضامنا لصاحب المال (١) ، وكذلك الغارّ بعد أمر المغرور على أكل المال وإغراره فيه ، لما يصدق على عمله أنّه أوجد الإتلاف ، فالخسارة الّتي تتوجّه على المغرور لتضمين صاحب المال إيّاه أوجبها الغارّ ، ولذلك يجب عليه تدارك خسارته ، فكما أنّ المغرور أتلف مال الغير فكذلك الغارّ أتلف مال المغرور فيضمن ما يعطيه بالمالك ، فيرجع إلى الغارّ بعد أدائه.

فانقدح من ذلك ؛ أنّ المتلف لمال الغير حقيقة إنّما هو المغرور ، ولذلك ليس لصاحب المال الرجوع إلى غيره ، والغارّ إنّما هو متلف لمال المغرور ، وهو ما يؤدّيه عوضا عمّا أتلف ، فتتوجّه عليه الخسارة ، ولذلك ليس له الرجوع إلى الغارّ قبل أدائه شيئا ، ففي الحقيقة ما يعطيه الغارّ إنّما هو غرامة عمّا أوجب فواته عن المغرور لا أن يكون هو ضامنا لصاحب المال.

فظهر أنّ ما يستفاد من النصّ بدلالة الالتزام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المغرور يرجع

__________________

(١) فليس اختيار المغرور في ما فعل بالنسبة إلى اختيار الغارّ كلا اختيار ، فتكون إرادته تحت إرادته الّذي كان ذلك ملاكا لصحّة سلب الإتلاف عن فعل المباشر واستناده إلى السبب ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».


إلى من غرّ» (١) من إثبات رجوع حقّ للمالك إلى المغرور إنّما هو موافق لما تقتضيه القاعدة.

وتبيّن ممّا ذكرنا حكم الصورة الثانية ؛ وهي أن يصير مغرورا في إتلاف مال نفسه فإنّه يجري هنا أيضا ما بيّناه في ما تقدّم إذا كان مباشرته لإتلاف مال نفسه بأكله أو غيره تحت اختيار السبب الأوّل ، وهو الغارّ فلمّا يستند الإتلاف إليه فيصير ضامنا للمغرور.

ضمان المكره وعدمه

وأمّا الثاني ؛ وهو ما إذا كان السبب الثاني الّذي هو المباشر مكرها ، فالكلام فيه في مقامين :

الأوّل : في الحكم التكليفي له ؛ قد أشرنا عند بيان قاعدة «لا ضرر» أنّ الرافع للحكم التكليفي في باب المحرّمات ليس إلّا قاعدة الحرج ، فهي إذا صدقت يرتفع التكليف ويجوز ارتكاب المحرّمات ، ولا إشكال أنّ مسألتنا ـ وهو إتلاف مال الغير ـ إنّما هي أيضا من المحرّمات ، فارتفاع الحرمة عن عمل المكره إنّما يتوقّف على أن يكون المكره عليه حرجيّا ، بأن يترتّب على تركه الضرر الحالي أو العرضي على المكره لا مطلق الضرر ما لم يصل إلى حدّ الحرج ، هذا بالنسبة إلى المكره وعمله.

وأمّا بالنسبة إلى المكره ـ بالكسر ـ فالتحقيق أنّه لا يتوقّف كون فعله وإكراهه حراما على كون المتوعّد عليه أمرا حرجيّا ، بل يكون فعله حراما مطلقا ،

__________________

(١) النهاية لابن الأثير : ٣ / ٣٥٦ ، القواعد الفقهيّة : ١ / ٢٧٠.


ولو لم يوجب إكراهه وإلزامه عند ترك المكره ـ بالفتح ـ إلّا توجّه الضرر اليسير عليه ، ولو بأن يكون شاغلا على عمل غير قابل الآن رفع اليد عنه من غير أن يترتّب على رفع يده عنه ضررا عليه ، بل أوجب ذلك صدور الفعل المكره عليه عنه عن كره فقط.

وبالجملة ؛ فمناط كلّ من الحكم الوضعي والتكليفي في المقام مختلف ، فلا إشكال في أنّ إلزام الغير على إصداره فعلا بغير رضاه لا عن طيب نفسه حرام ولو لم يقع بتركه ذلك في أمر حرجيّ ، ولكن هذا المقدار من الإكراه لا يوجب ارتفاع الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ عن المكره ، وجعله على عهدة المكره ـ بالكسر ـ لما هو المحقّق من أنّ أدلّة الحرج هي الّتي تكون حاكما على أدلّة المحرّمات.

ولكن في المقام هذه القاعدة أيضا لا تثمر بالنسبة إلى رفع الضمان عن المكره ـ بالفتح ـ وذلك لأنّه قد أوضحنا سابقا أنّ القواعد الّتي وردت في مقام الامتنان مثل قاعدة الحرج ، وكذلك قاعدة السلطنة وغيرها لا يتقدّم أحدها على الاخرى ، ولذلك لا ترتفع ولا تسقط سلطنة المالك عن ماله المستتبعة لسلطنته على متلفه وهو المكره ، لكون تركه التلف يوجب وقوعه في الأمر الحرجي.

نعم ؛ قد أشرنا أنّه يسقط الحكم التكليفي عنه لحكومة أدلّة الحرج على الأحكام التكليفيّة ، وأمّا ضمانه فقد ظهر أنّه لإتلافه ثابت ، وعلى حسب القاعدة ليس للمالك الرجوع إلى غيره لكونه باختياره أتلف مال الغير ، ويصح نسبة الإتلاف إليه ، فالحكم بضمان المكره ـ بالكسر ـ أو المكره في المقام تابع لصدق نسبة الإتلاف إليهما ، فعلى أيّ منهما صدق نسبة الإتلاف فهو ضامن ، وإلّا


فقاعدة الحرج ونحوها لا تعارض الضمان المسبّب عن سلطنة المالك على ماله ومتلفه ، ولا إشكال أنّ النسبة بين صدق الحرج وصدق الإتلاف في مورد المكره عموما من وجه ، لأنّه ربّما يصدق الحرج بلا صدق الإتلاف ، كما إذا أوعد المكره على أمر يكون ضررا عليه من ضرر حالي وغيره ، ولكن لا يصحّ سلب نسبة إتلاف المال عنه بمعنى أن يصدر الفعل عنه عن اختيار.

ولا يتوهّم أنّ المكره مطلقا لا يكون مختارا في الإتلاف وإنّما اختياره يكون تحت إرادة الغير وهو المكره ـ بالكسر ـ فمطلقا هو غير مختار في الإتلاف سواء كان المتوعّد عليه ضرريّا أم حرجيّا أو فوقهما.

ودفع ذلك هو أنّه لا خفاء أنّ صدق نسبة الإتلاف وصحّته دائر مدار صدور الفعل عن قصد وإرادة ، ومن المعلوم أنّ إيعاد المكره على إتلافه مال الغير لا يوجب ذلك سلب الإرادة عنه مطلقا ، ولو كانت إرادته تحت إرادة الغير ، وذلك لأنّه بيّنا في محلّه أنّ المكره على أمر لكونه متوعّدا على المكروه إنّما يكون في الحقيقة مكرها على الجامع بين المكره عليه والمتوعّد عليه ، بحيث يكون كلّ واحد منهما في ظرف عدم الآخر تحت طلب المكره وإرادته ، فكلّ منهما بخصوصيّته يكون تحت إرادة المكره ـ بالفتح ـ واختياره ، فإذا اختار المكره عليه لما كان بخصوصيّة تحت إرادته واختياره ، ولذلك تصحّ نسبة إتلاف المال إليه (١).

فإذا صدق ذلك وإن كان لو لم يفعل ذلك ليقع في الضرر والحرج ، فمقتضى

__________________

(١) وبذلك صحّحنا معاملة مكره وقلنا بأنّ الالتزام بصحّته عند الإجازة هو الموافق للقاعدة ، لا العكس ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».


القاعدة الحكم بضمانه خاصّة دون المكره ، بعد ما عرفت من عدم منع قاعدة الحرج عن جريان قاعدة السلطنة.

وقد تصدق نسبة الإتلاف إليه بلا لزوم الحرج عليه عند تركه الإتلاف ، وهو كما إذا كان المكره مسلوب الإرادة في الفعل حتّى في اختياره الخصوصيّة ، وهذا الّذي نحكم بضمان المكره ـ بالكسر ـ ونلتزم به على حسب القاعدة ، سواء صدق الحرج أم لا ، وقد لا يصدق الحرج ولا الإتلاف ، وهو ما لو كان المتوعّد عليه أمرا ضرريّا مطلقا بلا وصوله إلى حدّ الحرج ، وهنا وفي الصورة الاولى لا مقتضي لضمان المكره ـ بالكسر ـ بل على القاعدة إنّما يكون ضمان التلف على المكره بالفتح.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ ما أضاف في «المسالك» هنا في صدق الإكراه زائدا على ما يعتبرون في صدقه في سائر المقامات من كون الضرر المتوعّد عليه حاليّا إنّما يقيّد ذلك (١) ، بالنسبة إلى رفع الحكم التكليفي عن المكره ، وإلّا فبالنسبة إلى الضمان ورفعه فلا يثمر شيئا ، فالتحقيق في المقام هو الحكم بضمان المكره ـ بالفتح ـ على حسب القاعدة دون المكره ، كما أفاده في «الجواهر» وقال : إنّ مقتضى القاعدة ضمان المكره ـ بالفتح ـ دون المكره إلّا أن يمنع من ذلك انعقاد الإجماع على الخلاف ، فإن تحقّق فهو المحكم.

نعم ؛ يمكن جريان ما ذكرنا في وجه ضمان الغارّ هنا أيضا ، وعليه فيتمّ ضمان المكره ـ بالكسر ـ لما أوجب بإكرامه إتلاف مال المكره على القاعدة. قد ذكر الأصحاب ميزان صدق الإكراه في كتاب الطلاق ، واشترطوا فيه شرائط

__________________

(١) مسالك الإفهام : ١٢ / ١٦٥.


ثلاثة وأشار إليها شيخنا قدس‌سره في «المكاسب» عند ذكر شرائط صحّة البيع أيضا (١) ، والفرق بين الإكراه والاضطرار هو أنّ الثاني يكون من الدواعي غالبا ، ولذلك لا يجري دليل رفع الاضطرار في المعاملات ؛ لعدم خلوّها عن الدواعي الاضطراريّة غالبا مع عدم المدخليّة للدواعي في المعاملات ، ولكن تجري في التكاليف.

وأمّا الأوّل وهو الإكراه فهو إلزام على نفس الفعل ، ولذلك لمّا يخرج الفعل عن الاختيار فيسقط عن المؤثريّة ، فهو يجري في المعاملات والتكاليف كليهما ، وإن كان يختلف من بعض الجهات ، كما أشرنا إليه.

ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق .. إلى آخره.

هنا صور ، لأنّ إرسال الماء وتأجيج النار إمّا أن يكون للحاجة ولم يتجاوز عن حدّها ، أو لم يكن كذلك ، وفي كلتا الصورتين إمّا أن يكون المالك ـ أي مرسل الماء وغيره ـ عالما بالتعدّي ، أو ظانّا به ، أو لم يكن كذلك ، والحكم الجامع لجميع الصور هو أنّ الضمان لتلف مال الغير المسبّب عن إرسال الماء في ملك نفسه أو تأجيج النار فيه تابع لصدق الإتلاف ، ولا يختلف في ذلك تجاوز إرسال الماء عن قدر الحاجة وعدمه ، ولا العلم أو الظنّ بسببيّة ذلك للتلف ولا عدمهما ، وذلك لما بيّنا سابقا من أنّ الضمان الحاصل بسبب الإتلاف ليس تابعا للعلم ، بل هو من الأحكام الوضعيّة الثابتة ، ولو في ظرف جهل مسبّب التلف ، وكذلك لا تمنع قاعدة «السلطنة» عن الضمان أيضا فيما إذا لم يتجاوز الماء أو النار عن قدر الحاجة فأوجب مع ذلك تلف مال الغير ؛ لأنّه قد تحقّق في السلف

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٣٢٧.


أيضا أنّ الناس مسلّطون على أموالهم ما لم يوجب سلطنتهم وتصرّفهم فيها تلف مال الغير ، فيمنع عن سلطنته على ماله الموجب لتضمينه متلف ماله.

وبالجملة إتلاف مال الغير ولو انطبق على حفظ مال نفسه ، موجب للضمان ، وقاعدة السلطنة ليست قابلة أن تمنع عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم!

ثمّ إنّ بعد ذلك ذكر فروعا في «الشرائع» تعرّضنا لجلّها في أوّل الباب ، ولعلّه في طيّ المباحث الآتية يأتي ما ينتفع [به] ويرتبط بهذه الفروع (١) إن شاء الله أيضا حتّى يفي ببعض ما لم نتعرّضه لوضوحه.

ردّ المغصوب

الجهة الثالثة من البحث : هي البحث عن وجوب إرجاع المال المغصوب لصاحبه عينا وعدم انقطاع سلطنة المالك عن عين ماله بتصرّف الغاصب فيه ، ولا يخفى أنّه يتصوّر لهذه المسألة صور :

الاولى : أن لا يكون ردّ العين المغصوبة مستلزما لضرر على الغاصب أو غيره.

الثانية : أن يكون مستلزما لذلك ، وهذا يكون على وجوه ؛ لأنّ المتضرّر إمّا أن يكون هو الغاصب أو غيره ، والغير إمّا أن يكون معيّنا للغاصب أو لم يكن كذلك ، والضرر المتوجّه إمّا نفسيّ أو مالي ، والضرر المالي إمّا أن يكون بنحو يستلزم تخليص العين المغصوبة ؛ سقوط المال المزاحم للتخليص عن الماليّة رأسا ، وهذا كالخشبة المغصوبة الموضوعة تحت بناء وجدار بنيا من الطين

__________________

(١) من حيث المبنى وجهة السببيّة وغيرها ، «منه رحمه‌الله».


والجصّ ، فإنّه بعد تخريب مثل هذا الجدار لتخليص الخشبة لا يبقى للتراب المجتمع وكذلك الجصّ قيمة وماليّة ، أو لم يكن كذلك ، مثل ما لو كان البناء من الحجر والآجرّ أو كالسفينة ، وفي كلّ منها إمّا أن يكون الغاصب عالما بالغصب أو لم يكن كذلك.

أمّا الكلام في الأوّل ـ وهو ما لو لم يكن ردّ العين مستلزما للضرر لكون العين باقية على حالها ـ فلا شبهة في وجوب الردّ في هذه الصورة ، وكذلك فيما إذا كان مستلزما للضرر على الغاصب ، سواء كان عالما بالغصب أو جاهلا ، وكان حين التصرّف في المغصوب ووضعه تحت البناء ـ مثلا ـ في الواقع غاصبا وغير ذي حقّ.

والدليل على ذلك هو أنّه لا إشكال في أنّ البناء على المغصوب حرام ؛ لكونه تصرّفا في مال الغير ، فإذا صار أصل البناء حراما فليس له احترام ، فإذا لم يبق للبناء حرمة فليس شي‌ء يزاحم مع سلطنة المالك وصاحب العين المغصوبة المبنيّ عليها ، فهو بمقتضى سلطنته على ماله يطالب ماله ، وله أن يأخذه بأيّ نحو كان ، ولا يبقى للغاصب سلطنة على بنائه حتّى يمنع بذلك مالك العين ويلزمه بأخذ القيمة كما توهّمه أبو حنيفة (١) لأنّ السلطنة فرع لالتزام المال ، بل يجب على الغاصب تخريب بنائه مقدّمة لردّ العين ، ولا فرق في ذلك بين الجاهل والعالم.

ضرورة أنّ الضمان وكذلك غيره من الأحكام الوضعيّة ليس دائرا مدار العلم والجهل ، بل هو تابع للحقّ الواقعي وعدمه ، ولا مدخليّة للعلم والجهل في باب الضمان أصلا.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٣١٧.


هذا ما تقتضيه القاعدة ، والنصّ أيضا مطابق معها ، وهو قوله عليه‌السلام : «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) وكذلك قوله عليه‌السلام : «الحجر المغصوب رهن [على خرابها]» (٢) ومن المعلوم أنّ المراد من الظالم المعناه الواقعي ، أي غير ذي حقّ ، لا أن يكون المراد به المأخوذ فيه العدوان الملازم لكون العادي عالما بعدم كونه ذا حقّ فتأمّل!

ولا يتوهّم أنّ الدليل في المقام إنّما هو قاعدة الإقدام حتّى يمنع جريانها في صورة الجهل ؛ لأنّ أصل جريان قاعدة الإقدام في ما نحن فيه دوريّ.

ضرورة ؛ أنّ صدق هذا العنوان وإقدام الغاصب على ضرره موقوف على أن يكون مالك العين المغصوبة مسلّطا على تخريب بنائه ، وذا حقّ بالنسبة على خرابه ، وإثبات هذا الحقّ له بقاعدة الإقدام يلزم منه الدور كما لا يخفى ، فلا يجوز التمسّك بقاعدة الإقدام في المقام أصلا.

هذا إذا كان حين الإحداث غير ذي حقّ ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان عند إحداثه البناء ذا حقّ ثمّ انقطع حقّه كما إذا اشترى أحجارا بالبيع الخياري ، ثمّ بنى عليها ففسخ بائعها فهاهنا لمّا لم يكن بالنسبة إلى الحدوث غاصبا ولكن من حيث الإبقاء والبقاء يصدق عليه الغصبيّة بصيرورة الأحجار المبنيّ عليها بعد الفسخ ملكا ومتعلّقا لحقّ الغير ، فإبقاء البناء عليها يكون إبقاء في مال الغير (٣).

فيدخل هذه الصورة في باب تزاحم الحقوق ، وهذا بحث سيّال في جملة من أبواب الفقه ، وقد ذكرنا جملة من الكلام في ذلك في باب البيع عند البحث

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٦ الحديث ٣٢١٩١ ، وفيه : الحجر الغصب في الدار.

(٣) مع أنّ إحداثه كان عن حقّ ولم يكن فيه عدوان وتخريب في مال الغير «منه رحمه‌الله».


عن خيار الغبن ، ونزيد هنا توضيحا بقدر ما يناسب المقام ، وهو أنّه لا إشكال في أنّ صاحب البناء الّذي يصدق عليه الغاصب فعلا في نفس إبقاء بنائه ، لمّا كان أساسه مالا للغير يصدق عليه أنّه متصرّف في مال الغير.

ضرورة أنّه ليس حقّه من حيث البناء إلّا هذه الهيئة الثابتة على القضاء القائم بنيانه على مال الغير ، وكونه في القضاء وإن لم يكن بهذه الحيثيّة متعلّقا لحقّ غير الباني ، بل مال لنفسه ، ولكنّه لمّا كان جزؤه المتّصل بالأرض بتوسّط الحجر المغصوب ـ حيث هذا الجزء من هيئة البناء الّذي هو حصّة من الهيئة متعدّ فعلا ـ وصاحب البناء غاصب بهذه الحيثيّة. والمفروض ؛ أنّ كون باقي أجزائه على الهواء لا يثمر في بقائه بعد تفريق هذا الجزء منه ، فلمّا يصدق لذلك أنّ أصل كينونيّة هذا البناء بروز الهيئة ثابتة في مال الغير ، فإمّا يكون لهذه الهيئة احترام ، لأنّ احترام المال والماليّة إنّما هو باق ما دام لم يكن في مال الغير ، فيصير المقام من قبيل ما لو فرض أن تكون أرض ملكا لأحد وهواؤه للآخر ، فصاحب الهواء بنى في هذه الأرض بلا إذن صاحبه ، لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين الإحداث والإبقاء فكما أنّ البناء حدوثا في مال الغير يكون غصبا ولا احترام لهذا البناء والهيئة الكائنة ، كذلك لو كان عند الحدوث مأذونا فيه فانقطع الإذن بعده ، فبالنسبة إلى ما بعد الانقطاع وهو بقاؤه ، فلمّا يصدق الغصب ، فلا احترام له أيضا بالنسبة إلى تصرّف صاحب البناء.

وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر وتصرّفه بتخليص حجره فليس في تخليصه وإخراجه حجره بعين هذا التخليص متصرّفا في مال الغير كما كان في الأوّل ، فإنّه بنفس الإبقاء كان متصرّفا في مال الغير فكان إبقاء ماله مع تصرّفه في


مال الغير متّحدا وجودا ، وأمّا صاحب الحجر فليس كذلك ، بل إخراجه حجره تصرّف في مال نفسه.

نعم ؛ تصرّفه هذا مستلزم للتصرّف في مال الغير وهو الهيئة البنائيّة ، ولكنّه ظهر أنّه لا احترام لهذه الهيئة في الرتبة السابقة على تخليصه ماله ، فإذا يتصرّف صاحب الحجر في ماله فتصرّفه ذلك مستلزم لتصرّفه في مال الغير الساقط عن الاحترام في الرتبة السابقة على تصرّف المغصوب منه في حجره.

تزاحم الحقوق

إذا تمّ ذلك وانكشف موضوع الحقّين المتزاحمين فنقول : إنّه ليس لنا قاعدة بمئونتها ترتفع الغائلة ويرجّح أحد المتزاحمين على الآخر الّذي هو الموجب لوقوع التزاحم أيضا سوى قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، ولا إشكال أنّ تطبيق هذه القاعدة على مال صاحب البناء دوريّ.

بيان ذلك : أنّ سلطنته على ماله موقوف على عدم احترام الحجر القائم عليه البناء ، وعدم احترامه موقوف على عدم السلطنة لصاحبه عليه ، ونفي سلطنة صاحب الحجر على ماله وسقوط سلطنته لا بدّ أن يثبت من الخارج ، ولا يعقل أن يثبت عدم سلطنته بسلطنة صاحب البناء على هيئة بنائه ؛ لأنّ إثبات أحد النقيضين بالآخر دور ، كما لا يخفى ، ولمّا لم يكن في الخارج أيضا دليل على سقوط سلطنته فتثبت سلطنته ، فإذا ثبتت سلطنته هذه فتسقط سلطنة صاحب البناء إذا لم يكن دليل يثبت سلطنته ، وأمّا تطبيق أصل القاعدة ـ وقد عرفت ـ على سلطنته دوريّ ، هذا بالنسبة إلى صاحب البناء.


وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فلا مانع من تطبيق القاعدة عليه ، ضرورة أنّ سلطنته على ماله وإن كانت موقوفة على عدم احترام مال صاحب البناء ، إلّا أنّ عدم احترامه قد يثبت في الرتبة السابقة بسبب كون البناء في مال الغير ، فلا يتوقّف إثبات سلطنة صاحب الحجر على إسقاط سلطنة صاحب البناء ، بل لمّا كانت سلطنته على ماله ساقطة سابقا لسقوط احترامه ، فتصرّف صاحب الحجر لتخليص ماله من مال الغير يقع حين سقوط سلطنة الغير من الخارج ، لما سنشير من أنّ إثبات سلطنة الشخص على مال نفسه لا يوجب ولا يقتضي حفظه الناشئ من قبل سلطنته عليه أن يتصرّف في مال الغير لحفظ ماله ، بل إنّما يوجب حرمة تصرّف الغير في هذا المال ، والمفروض أنّ مال صاحب البناء سقط عن الحرمة ، فانتفى بذلك ما كان يقتضي حرمة تصرّف صاحب الحجر فيه لو لا سقوطه عن الاحترام.

وبالجملة ؛ لمّا كان جواز تصرّف صاحب البناء في بنائه بإبقائه مقرونا بالمانع عينا بخلاف صاحب الحجر ، فيصير المقام بالنسبة إلى القاعدة الّتي هي المرجع ـ وهي «الناس مسلّطون» (١) .. إلى آخره ـ من باب دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، لما عرفت من أنّ هذه القاعدة بالنسبة إلى صاحب البناء بعد سقوط احترام ماله ، فلا مقتضي لجريانها ؛ لأنّ موضوع هذه القاعدة إنّما هو المال المحترم ، وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فالمقتضي لجريانها تامّ لبقاء الموضوع ، وإنّما المانع المتصوّر أن يخصّص سلطنته بسلطنة صاحب البناء ، ومن المعلوم أنّه عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ؛ الثاني متعيّن.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩.


فانقدح ممّا ذكرنا ؛ أنّ حكم الغاصب العرضي ـ أي من لم يكن غاصبا ابتداءً عند إحداث تصرّفه ـ حكم الغاصب الابتدائي ، فيجوز للمغصوب منه أن يتصرّف في ماله كيف شاء ، ولا يزاحم تصرّفه الحقّ السابق للغاصب.

وببيان آخر : يكون المقام من باب دوران الأمر بين تأثير المقتضي التنجيزي والتعليقي ، ضرورة أنّ اقتضاء القاعدة وسلطنة صاحب الحجر على ماله تنجيزيّ ، بعد أن كان تصرّفه وسلطنته على ماله المستلزم للتصرّف في مال الغير مالا لا احترام له ، فاقتضاء سلطنته تامّ ، وأمّا تصرّف صاحب البناء في ماله الّذي هو عين تصرّفه في مال الغير إنّما يثبت إذا لم يكن صاحب الحجر سلطانا على ماله ، فتصير سلطنته معلّقة ، ولا ريب أنّ المقتضي التعليقي لا يمكن أن يزاحم التنجيزي فيمنعه عن تأثيره.

هذا ؛ ولقد أجاد ـ دام ظلّه ـ في ما أفاد في بيان سرّ المسألة ، وأصل فتواه في المسألة مطابق لفتوى الأصحاب أيضا ، ولكنّ العمدة في تماميّة كلا البيانين هي ما ذكرنا من المقدّمة ، وهي كون تصرّف صاحب البناء في ماله عين تصرّفه في مال الغير ، بخلاف تصرّف صاحب الحجر فهو ليس كذلك ، بل هو مستلزم للتصرّف في مال الغير ، وأنت خبير بأنّ مجال المنع لهذه المقدّمة [واسع] ، وقد أشرنا إلى ذلك في بحث الخيارات.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى جواز تصرّف المغصوب منه في ماله ، ولو كان مستلزما للتصرّف في مال الغير المترتّب ذلك على سقوط سلطنة صاحب البناء ، ولكن لا يخفى أنّ صاحب البناء لمّا كان في أصل إحداث بنائه فيما يجوز له


الإحداث عن حقّ ، ولم يكن عاديا في أصله (١) ، فليس كالغاصب الأصلي حتّى

__________________

(١) قد اضطربت كلمات الأصحاب في نظائر المسألة في أبواب متفرّقة من العارية والشفعة والإجارة والصلح والمفلّس وخيار الغبن ، وإن كان ظاهر المشهور على ما في «اللمعة» (اللمعة الدمشقيّة : ١٤٢) و «الشرائع» (شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٧) و «القواعد» (قواعد الأحكام : ١ / ٢٠٦) وغيرها هو جواز الرجوع للمالك ، وله إلزام صاحب الشجر والبناء ونحوهما على قلعهما وتخليص الأرض ، كما أنّ ظاهر المشهور أيضا أنّ على الملزم الأرش وإن استبعد صاحب «الجواهر» قدس‌سره (جواهر الكلام : ٣٧ / ٢٠٢) الجمع بين الفتويين ، ولقد أفاد قدس‌سره (جواهر الكلام : ٢٦ / ٢٥٧ ـ ٢٥٩) في تحقيق المسألة في باب الصلح ومال إلى خلاف ما عليه المشهور ، وجعل مسألة الغرس والبناء نظير استعارة الأرض للدفن أو الرهن أو الصلاة ، وأنّهما من واد واحد ، حيث إنّه كما أنّه ليس له الرجوع بالنسبة إلى الإذن السابق فهكذا كلّ ما هو من آثاره ولوازمه ، فراجع وتأمّل! [و] ملخّص ما أفاد في «الجواهر» : هو أنّ الآذن لمّا كان بإذنه أوّلا وإقدامه أدخل نفسه في حكم شرعي فليس له الرجوع بعده ، وبهذا التقريب أيضا ـ على ما ببالي ـ دفع الإشكال الاستاذ الأعظم النائيني (كتاب الصلاة للميرزا النائيني : ٢ / ١٠) في بحث الصلاة في مسألة جواز رجوع المالك الآذن للغير بقراءة الصلاة في ملكه بعد دخوله في الصلاة ، وقوّى عدم جواز الرجوع لما ذكرنا ، وإن أجاب عن ذلك الاستاذ العراقي ـ دام ظلّه ـ عن ذلك حيث نقلنا عنه ما أفاده النائيني ـ مدّ ظلّه ـ بأنّ الحكم الشرعي لا يوجب منع صاحب الحقّ وحرمانه عنه ، كما يكون كذلك في حقوق الناس ، بل الحكم ـ لو سلّمنا ـ يوجب الإلزام فقط ، وقد أشار إلى ما أفاده ـ دام ظلّه ـ شيخنا قدس‌سره في مكاسبه (المكاسب : ٢ / ١٢٥) في طيّ بحث الاجرة على الواجب ودفع الإشكال عنها ، فراجع!

هذا مضافا إلى منع دخول المالك في الحكم الشرعي وهو حرمة الإبطال وحرمة النبش وغيرهما بالإذن ، لأنّ الحرمة موقوفة على عدم بقاء حقّ الرجوع له ، وهو أوّل الكلام ، مع أنّه لا إطلاق لدليلهما ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يرجع كلام [صاحب] «الجواهر» قدس‌سره إلى أنّه لمّا كان الإذن في الشي‌ء إذنا في لوازمه فلذلك ليس للآذن حقّ الرجوع في مسألة الإذن في الصلاة ونحوهما لهذه القاعدة العرفيّة ، وهكذا في مسألة العارية للغرس والرهن ونحوهما ، حيث إنّ بناء المتعاملين على بقاء الأرض مشغولة ما دام الشجر باقيا ، وهكذا بالنسبة إلى الرهن والدفن ونظائرهما ، كما يكون عكس ذلك في المقامات ، مثل مسألة البيع الخياري ، فإنّ بناء المتعاملين في مثله بقاء العين إلى انقضاء الخيار وعدم إتلافها أو نقلها ـ


لا يكون لماليّته احترام أصلا ؛ لأنّه إلى حين الفسخ كان ذا حقّ وبعد الفسخ صار غير ذي حقّ ، فاحترام أصل ماله باق ، نعم لمّا [ثبت] حديث المزاحمة من حين الفسخ وقد رجّحنا طرف صاحب الحجر ، والمفروض أنّ المزاحمة ليست إلّا بين شخصيّة البناء والحجر المملوك للغير الموضوع تحته ، لا أن تكون مزاحمة في أصل ماليّته ، فتسقط سلطنة صاحب البناء عن شخص بنائه ، وتثبت السلطنة لصاحب الحجر على خصوصيّة البناء ، وجواز تصرّفه في الخصوصيّة لا في أصل الماليّة ، فلذلك إذا خرب البناء لتخليص حجره فعليه أن يتدارك ماليّة بنائه كلّما يكون له الماليّة فعلا ، فلو كان لبقائه اعتبار ماليّة اخرى فليس عليه تداركها ، لما عرفت من أنّه ليس له من حين الفسخ حقّ الإبقاء كما قالوا ذلك في الأرض المستعارة للغرس ، فيرجع صاحب الأرض بعد غرس المستعير وصيرورته شجرا ، فبعد بنائهم على ثبوت حقّ القلع للمعير قالوا بأنّ عليه أن يتدارك خسارة صاحب الشجر بأن يردّ إليه تفاوت قيمة الشجر بين كونه ثابتا وكونه مقلوعا.

وبالجملة ؛ فلاحظوا حال الفعلي للشجر لا كونه باقيا ، وليس ذلك إلّا لعدم ثبوت حقّ البقاء له بعد رجوع المستعير ، فكذلك في ما نحن فيه ، فإنّ محلّ الكلام إنّما هو ما إذا كان صاحب البناء إذا حقّ عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة ، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة ، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة دون مادّته ، كما مثّلنا لذلك عند التقسيم ، فعلى المغصوب منه أن يتدارك قيمتها فقط ، وإن سقطت المادّة كذلك يجب تداركها قيمتها أيضا لو كانت لها قيمة في مقابل الهيئة ، وإن كان تخليص

__________________

ـ بأحد النوافل ، فتدبّر وراجع «مصباح الفقيه» للمرحوم المدقّق الهمداني (مصباح الفقيه «كتاب الصلاة» : ١٧٦ ط. ق) ، ولقد أفاد في باب الصلاة ماله دخل في المقام ، رحمه‌الله وإيّانا ، «منه رحمه‌الله».


مال الفاسخ يتوقّف على تلف نفس المفسوخ عليه أو غيره فلا يجوز التخليص ، بل يجب عليه الإبقاء حتّى لو خلّص ماله ، كما لو قلع خشب السفينة في لجّة البحر فتلف المفسوخ عليه أو غيره للغرق ونحوه ، فيكون القالع الفاسخ ضامنا ، ضرورة أنّه انقطعت سلطنة المفسوخ عليه عن الخشبة فعلا ، فلا تزاحم سلطنته المالك الفاسخ إلّا أنّ مسألة حفظ النفس وأهميّته لا ربط له بباب المزاحمة ، بل هو واجب في كلّ حال وعلى كلّ أحد ، ولا يزاحمه شي‌ء من الحقوق والأموال ، بل هو مرجّح على كلّ شي‌ء ، والمفروض أنّ المفسوخ عليه ليس غاصبا أصليّا حتّى يكون باغيا وعاديا فتسقط نفسه عن الاحترام ، كما يحتمل أن يقال ذلك في الصورة الآتية ، بل هو غاصب عرضا فنفسه وكذلك غيره على الاحترام باق ، فيجب على نفسه وكذلك على الفاسخ حفظ نفسه بأيّ نحو كان ، ولو أوجب تلف المال بلا إشكال.

وأمّا لو لم يكن الغاصب في الإحداث ذا حقّ ، فقد أشرنا إلى جواز تخليص المغصوب منه ماله ولو أوجب تلف مال الغاصب ، وأمّا لو استلزم ذلك تلف نفسه فعلى حسب ما تقتضيه قاعدة باب المزاحمة أيضا جواز تخليصه ، مع قطع النظر عن مسألة الأهميّة الخارجيّة الثابتة للنفس.

بيان ذلك : إنّ السلطنة الثابتة للناس على نفوسهم بالأولويّة الثابتة على أموالهم أو بغيرها أيضا تكون هذه السلطنة ذات مراتب ، كما في السلطنة على الأموال ، منها ما لا ينطبق على التصرّف في مال الغير ، ومنها ما ينطبق ، فبهذا الاعتبار أيضا تصير السلطنة على أنفسهم ذات مراتب ، فكما قلنا : إنّ الناس مسلّطون على جميع هذه المراتب ـ أي مراتب أموالهم ـ إلّا المرتبة الّتي أوجب


التصرّف فيها التصرّف في مال الغير ، فإنّه عند ذلك سلطنة الغير على ماله لمّا أوجبت حرمة تصرّف الغير في ماله فلذلك تنقطع سلطنة الشخص على ماله في هذه المرتبة الموجبة للتصرّف في المال المحترم للغير ، فكذلك سلطنة الناس على أنفسهم ثابتة حتّى تنتهي إلى التصرّف في المال المحترم للغير ، هذا ما تقتضيه قاعدة السلطنة.

تقدّم حفظ نفس الغاصب على الأموال

وأمّا مسألة أهميّة النفوس وتقدّمها على الأموال فنقول : هذه الصورة ليست في الوضوح وجريان قاعدة أهميّة النفوس كالصورة السابقة ؛ لأنّ في هذه الصورة لمّا كان الغاصب غاصبا من أوّل الأمر فالقاعدة المعروفة المستفادة من الأخبار ـ وهي ما وقعت في ألسنة الفقهاء من (أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال) (١) تجري في هذه الصورة دون الصورة السابقة.

فإن قلنا : إنّ المراد بها أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى حال تلف نفسه ، فيجوز هنا للمغصوب منه تخليص ماله وقلع الخشبة من السفينة في المثال المذكور.

وإن قلنا بأنّه ليس المراد بها ذلك ، بل المراد بها أنّ الغاصب في ظرف وجود نفسه وبقائه يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى لو أوجب تلف ماله كثيرا ، أو وقوع نفسه في التعب لا فيما أوجب تلف نفسه ، فليس للمغصوب منه ذلك ، بل يجب عليه الصبر حتّى يخلص عن الهلكة ، ولا يجوز للغاصب ردّه لكون حفظ نفسه

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠.


واجبا على نفسه مطلقا.

ولمّا كان ظاهر سياق القاعدة هو ملاحظة المشقّة بالنسبة إلى أحوال الغاصب العارضة على وجوده ، وهو فرع لحفظ وجوده ، فالأقوى هو الاحتمال الثاني ، مضافا إلى أنّ ما يثبت من الخارج من عادة الشرع وجوب حفظ النفوس حتّى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقيّة في الدماء» (١) يصير قرينة على كون المراد من القاعدة هو المعنى الثاني.

أقول : وأنت خبير بأنّه لا أصل لهذه القاعدة ، وما وردت بهذا المضمون رواية ، بل هي وقعت في كلام بعض ولم يعمل بها أحد من الأساطين ، وقد طعنوا عليها عند التزام بعض بضمان الغاصب أعلى القيم تمسّكا بهذه القاعدة ، فراجع كلمات «الجواهر» وشيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سرهما.

فالتحقيق في المسألة المراجعة إلى ما تقتضيه أدلّة وجوب حفظ النفس من أنّه أيّ مقدار وأيّ مقام حفظ النفس واحترامه واجب ، أما أصل اقتضائه فهو إنّما يكون فيما إذا كان الآدميّ مضطرّا ولم يكن بنحو سقط احترامه في الرتبة السابقة على اضطراره ، إمّا بإقدام نفسه فعلا كالسارق اللجوج الّذي لا يرفع اليد عن الإنسان إلّا بقتله ، أو بإقدامه سابقا ، ولو لم يكن الآن مقدّما ، أو كما إذا ارتكب عملا فاستحقّ القتل ، كمن غصب خشبة في الساحل ووصل به سفينته فأجراها في البحر فقدر المغصوب منه أخذه منه في اللجّة ، بحيث يوجب قلع خشبته من السفينة غرق نفس الغاصب.

__________________

(١) المحاسن : ١ / ٢٥٩ الحديث ٣١٠ ، وسائل الشيعة : ١٦ / ٢٣٤ الحديث ٢١٤٤٥ ، مع اختلاف.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٧ ، المكاسب : ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣٢.


ففي مثل هذه المقامات لا يجب على المسروق منه أو المغصوب منه رفع اليد عن ماله وبذله لحفظ نفس السارق والغاصب ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (١) على ما هو ظاهر الآية والتفسير المستفاد من الأخبار لها ، من كون المراد بهما الخارج على الإمام وقاطع الطريق والسارق.

وقد اعترض على هذا المعنى من التفسير بأنّ حفظ النفس واجب ، وهو أهمّ من المال بلا إشكال ، فأجاب عنه أصحابنا بأنّ حفظ النفس واحترامه واجب ما لم يكن التالف معرّضا نفسه للتلف (٢) ، وكما أنّهم تسالموا في مسألة ما لو توقّف الخلاص من يد السارق على قتله يجوز قتله ، وظاهرهم أنّ هذا (٣) هو ما تقتضيه القاعدة.

وسرّ ذلك كلّه هو : أنّ مسألة حفظ النفس واحترامه حكم امتنانيّ من الشرع ، ومن البداهة أنّه لا امتنان على نفس ألقت نفسه بإقدامه في الهلكة ، فلو لم يرد تفسير من أهل البيت عليهم‌السلام للآية من باب مناسبة الحكم والموضوع الّذي هو العادي ، لكان يستفاد ذلك من الآية ، كما لا يخفى من أنّه لا يجب حفظ نفس العادي الّذي من مصاديقه الغاصب المعرّض نفسه للتلف ، خصوصا فيما إذا احتمل الغاصب في المثال المذكور قدرة المغصوب منه على قلع الخشبة في اللّجة ، وفعل المغصوب منه ذلك ، أو لم يتمكّن المغصوب منه أخذه إلّا في مثله ـ أي اللجّة ـ فإنّه لا إشكال في عدم امتنان في مثله ، مع كونه مخالفا للامتنان على

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٤٥ ، النحل (١٦) : ١١٥.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٧٨.

(٣) فيكشف من بنائهم ذلك أنّهم لا يلتزمون بترجيح حفظ النفس على المال مطلقا وأهميّتها عليه دائما فتدبّر! «منه رحمه‌الله».


المغصوب منه ، فتأمّل! ومن المعلوم عدم التفصيل في باب العدوان بين مثله وغيره.

وبالجملة ؛ هذا سرّ عدم جريان قاعدة حفظ النفس ووجوبه في مثل الغاصب ، ولهذه الجهة مال ـ دام ظلّه ـ في آخر كلامه إلى ما ذكرنا.

هذا مضافا إلى أنّ وجوب بذل المال لحفظ النفس حكم مخالف للأصل لا بدّ من الوقوف على موضع اليقين.

وأمّا إذا كان الغاصب حين التصرّف جاهلا ، كما إذا زعم ـ في المثال المذكور ـ كون الخشبة مالا لنفسه موروثا له من أبيه ، أو ظنّ الحجر كذلك فوضعه تحت البناء ، أمّا إذا كان يتوقّف في هذه الصورة حفظ نفس الغاصب على إبقاء بنائه في المغصوب ، فلا شبهة في أنّه لا يجوز للمغصوب منه مطالبة ماله وأخذه ، لعدم كون الغاصب عاديا حتّى ينتفي احترام نفسه لإقدامه.

وأمّا حفظ ماله واحترامه بأن يقال : هل لصاحب الحجر أخذ حجره ولو أوجب تلف مال الغاصب من خراب بنائه من غير تدارك خسارته ، أم ليس له ذلك ، بل لمّا يصير سببا لتلف ماله بتخليص مال نفسه فعليه التدارك؟

أمّا ما قلناه في الصورة الاولى من عدم احترام مثل هذا المال المبنيّ في مال الغير ، ولذلك تثبت السلطنة للمغصوب منه على خراب بنائه ، فإنّما هو كلام بالنسبة إلى خصوصيّة العين المبنيّة لا إلى أصل الماليّة.

وأمّا الكلام في أصل ماليّته فقال ـ دام ظلّه ـ : فإنّما هو مبنيّ على جريان مثل «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) ونظيره فيه وعدمه (٢) ، فإن قلنا بأنّ المراد بها عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

(٢) كما أجريناه بالنسبة إلى أصل خصوصيّة بنائه وماله ، «منه رحمه‌الله».


ثبوت الحقّ المستلزم لسلب احترام المال للغاصب الواقعي ، أي ما كان متعدّيا واقعا ولو كان جاهلا في الظاهر ، فلا ضمان على المغصوب منه المخلّص ماله في تخريب بناء الغير.

وإن قلنا : إنّ المراد به هو ما كان غاصبا ظاهرا أيضا ، فلازمه القول بالضمان.

والأقوى الثاني ؛ لصحّة سلب هذا العنوان ومثله عن الجاهل المتصرّف في مال الغير ، بل لا يصدق عنوان الغاصب والطاغي أيضا عليه ، كما لا يخفى ، فإذا لم تسقط ماليّة بنائه عن الاحترام ، فلمّا كان تخريب بنائه يرجع إلى نفع صاحب الحجر ففي الحقيقة هو سبب لتلف ماله ، ويستند التلف إليه ، فبمقتضى قاعدة الإتلاف يكون لماليّته [ضمان] ، فيجب عليه تدارك قيمة بنائه على التفصيل الّذي قلنا فيما لو كان الغاصب في الإحداث ذا حقّ ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ هنا ، وفي الفرع الآتي ؛ وهو ما لو خاط ثوبه بخيط مغصوب جهلا وألزم المالك إخراج الخيط فاستلزم ذلك فساد الثوب ، فالتزم فيه أيضا بضمان صاحب الخيط المغصوب منه جهلا قيمة الثوب للغاصب الجاهل.

أقول : بعد أن بيّنا في أوّل الباب أنّ مسألة الضمان الناشئ من ناحية الغصب ، وكذلك الثابت بمقتضى «على اليد» (١) ليس مختصّا بالعالم ، بل حكم سار في جميع المقامات كسائر الأحكام الوضعيّة ، خصوصا باب الضمان الّذي لا مدخليّة للعلم والجهل وكذلك البلوغ وعدمه فيه أصلا ، فمقتضى ذلك ؛ الحكم

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، و ٣٨٩ الحديث ٢٢ ، و ٢ / ٣٤٥ الحديث ١٠ ، و ٣ / ٢٤٦ الحديث ٢ ، و ٢٥١ الحديث ٣.


بضمان الغاصب مطلقا ، ويجب عليه ردّ العين المغصوبة على صاحبه ولو استلزم ردّه ضررا عليه ، حتّى لو احتاج ذلك إلى صرف المئونة يجب عليه ذلك ، ولا ربط لها بالمغصوب منه ، بل ولا يوجب التعسّر ، وباحتياج إيصال العين إلى مئونة زائدة لا تنقلب العين إلى القيمة ما لم يرض المالك.

وبالجملة ، لا يسقط حقّ المالك عن العين ما دامت باقية ، ولو استتبع ذلك ـ أي الردّ ـ الضرر على الغاصب ، وليس على المغصوب منه تدارك ذلك أصلا ، كما لا يخفى.

ومن المعلوم ؛ أنّه لا فرق في هذه الجهة بين الجاهل بالغصب وعالمه ، كما بالنسبة إلى أصل الضمان ، فلا وجه للتفصيل بين الجاهل والعالم في الخسارة المتوجّهة إليهما المستتبعة لردّ العين إلى صاحبها.

وأمّا حديث أنّ تخريب البناء لمّا كان لنفع المغصوب منه فهو سبب للتلف وأوجب الضرر على صاحب البناء ، فبمقتضى قاعدة «من أتلف» (١) يجب عليه تدارك الخسارة فلا أصل له ، ضرورة أنّ جهالة الباني أوجبت إقدامه على البناء في مال الغير ، فهو بنفسه متلف لماله بجهله ، وأيّ ربط له بالمغصوب منه ، وإنّما هو بحسب اقتضاء سلطنته على ماله يطالب ماله ويأخذه ، ولو أوجب إيصال ماله إليه إتلاف مال على الغاصب الّذي بناؤه هذا في ملك الغير جهلا كالبناء في المسألة الموجب ذلك تلف ماله ، فلا وجه لتضمينه المغصوب منه ، أو منعه عن ماله وسلطنته عليه ، فإنّ إلزام المغصوب منه على أدائه الخسارة يرجع إلى إلزامه بأحد الأمرين ، من أخذ بدل مال أو قيمته ، أو أخذ عين ماله مع ضمانه ما يستتبع

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠.


وصول ماله به الضرر المتوجّه إلى المالك.

والأوّل منفيّ بالإجماع بل الضرورة ؛ لعدم مجوّز شرعيّ على منع المالك عن عين ماله وحرمانه عنه وتبديله إيّاه في مثل المقام ، بل ربّما لا يرضى الغاصب على ذلك أو لا يقدر ، فيصير المحذور أشدّ.

والثاني ؛ أيضا منفيّ قهرا مع عدم المقتضي له أصلا ، كما عرفت ، هذا ما أدّى إليه نظري القاصر في المقام ، ولعلّه يأتي بعد ذلك إن شاء الله من إفاداته ـ دام ظلّه ـ ما يكشف به القناع عن المرام ، فإن المسألة من أهمّ المسائل ، والله العالم بحقائق الأحكام.

وأمّا معين الغاصب ، فظهر حاله من الصور السابقة ، فإنّه إن كان عالما بالغصب فحاله حال الغاصب في ضمانه وعدم احترام ماله فيما إذا توقّف تخلّص المال المغصوب على تلفه ، وإن لم يكن كذلك فهذه الأحكام مختصّة بالغاصب ، ففي مثل السفينة الجارية في البحر الّتي قد غصبت فأراد صاحبها أخذها في لجّة مع أنّه يتوقّف على أخذه إتلاف المال ، فإن كان [المال] للغاصب قد عرفت أنّه لا احترام لمثل ماله هذا ، فلا يمنع ذلك المغصوب منه عن مطالبة ماله وأخذه السفينة.

وإن توقّف تلف مال غير الغاصب عليه فإن لم يكن مغرورا من طرف غاصب السفينة فحاله حال الغاصب الجاهل ، وإن كان مغرورا من طرفه فضمان تلف ماله على غارّه فيرجع إليه.

ولا يخفى أنّه لا فرق في ما ذكرنا في جميع الصور فيما يجوز إتلاف مال الغير وما لا يجوز بين أن كان تلف المال رأسا بمادّته وهيئته ، أو بهيئته فقط ،


فضمان المتلف وعدمه تابع لمورده ، بمعنى أنّه إن كان يجوز له ـ أي المغصوب منه ـ تخريب البناء لتخليص ماله بلا ضمان ، فيجوز له ذلك ، ولو لم يبق من المادّة ولا الهيئة شي‌ء ، وإن جاز له ذلك مع الضمان فهو تابع لمقدار الخسارة الواردة هيئة ومادّة ، وإن لم يكن له ذلك أصلا فمعلوم حكمه ، فتأمّل!

وأمّا فيما توقّف تخليص المال على إتلاف حيوان ، فيأتي حكمه وصوره في الفرع الآتي.

حكم الخيط المغصوب في الثوب

الفرع الثاني : قال في «الشرائع» : (ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة فإن أمكن نزعها) .. إلى آخره (١).

إنّ لهذه المسألة صورا ؛ لأنّ الخيّاط إمّا أن يكون عالما بغصبيّة الخيط أو يكون جاهلا ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون الثوب لنفسه أو لغيره ، وفي كلّ منها إخراج الخيط إمّا أنّه موجب لفساده أم لا؟

أمّا الصورة الاولى ؛ وهي ما لو كان الغاصب عالما بالغصب وكان الثوب لنفسه ، فلا إشكال في وجوب نزع الخيط وإن أوجب فساد نفسه وفساد الثوب ، ولا يتفاوت في ذلك بين أن لا يبقى للخيط بعد الإخراج قيمة أو بقي له ، فعلى كلّ حال يجب على الغاصب بذل التفاوت وردّ نفس العين ، وإن لم يبق لها بعد الإخراج ماليّة.

أمّا الأرش فلأنّ فعل الغاصب أوّلا أوجب تلف الخيط وفساده ، وإن كان

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.


فساده فعلا إنّما هو للإخراج المستند إلى أمر المالك إلّا أنّ ذلك لا يوجب استناد التلف إليه ، وذلك لأنّه ليس يأمر بالتلف ، بل إنّما هو يطالب ماله المستلزم وصوله إليه تلفه المستتبع للضرر على الغاصب ، وذلك إنّما يكون كما إذا حمل الغاصب العين إلى بلاد نائية فطالبها مالكها فيستلزم إيصالها إليه إلى صرف المئونة ، فلا ريب أنّه لا يقال في مثل ذلك : إنّ أمر المالك ومطالبته ماله أوجب الخسارة على الغاصب ، فكذلك في ما نحن فيه.

وبالجملة ، ما دامت عين ماله باقية فللمالك مطالبتها وأخذها بخصوصيّتها أو بمرتبته منها بقدر الإمكان ، مع تدارك باقي مراتبها التالفة منها بالأرش ، ولا دليل لسقوط حقّه عنها أصلا.

وممّا ذكرنا ظهر وجه وجوب إخراج الخيوط وردّها إلى مالكها ولو لم يبق لها قيمة بعد الإخراج ، وذلك لما عرفت من أنّ ما دامت عين مال المالك موجودة فله مطالبتها ، وعلى الغاصب إيصالها إليه ، ولا موجب لخروجها عن ملكه ودخولها في ملك الغاصب.

وأمّا ما يؤدّيه الغاصب ويلزمه من الأرش أو القيمة بعد الإخراج (١) فأوّلا ؛ لا يوجب ذلك خروج عين المال الموجود فعلا عن ملك مالكه ، وأمّا أنّه لمّا يستلزم إخراجه تلف ماليّته بعد ذلك الموجب لسقوط العين عن الاحترام فأيّ ربط له بالحال الفعلي ـ وهو حال وجود الخيط في الثوب ـ فأيّ موجب لسقوط حقّه عن ماله الموجود؟

وثانيا ؛ إنّ باب الضمانات لا ربط له بباب المعاوضات ، فإنّ ما يعطيه

__________________

(١) فيما لو نقصت قيمته أو تلف رأسا ، «منه رحمه‌الله».


الضامن بدلا عن التالف إنّما هو غرامة لا عوض حتّى يوجب ذلك دخول ما بقي من التالف ـ وهو العين ـ في ملك الغارم ، بل ما يغرمه إنّما هو عوض عن ماليّة العين الفائتة وتدارك عنها ، لا أن يكون بدلا عنها فيوجب ذلك خروج المبدل منه عن ملك المالك.

فانقدح بذلك ؛ التحقيق أنّ للمالك مطالبة ماله المغصوب ولو انجرّ إيصاله إليه إلى نقص فيه ، أو سقوطه عن الماليّة رأسا ، بل يجب على الغاصب ردّ ما بقي من أجزائه إليه ولو لم يكن لها قيمة كالكأس المكسور ، ضرورة أنّ السلطنة الثابتة للمالك على ماله ليست دائرة مدار الماليّة ، بل هي تابعة للملكيّة ، ومن البديهة أنّها أعمّ من الماليّة ، فما لم يعرض المالك عن ملكه أو لم ينقل ماله بأحد النواقل الشرعيّة لا يقتضي شي‌ء انقطاع سلطنته عن ملكه وسقوط حقّ مطالبته ماله.

ومن ذلك ؛ ظهر النظر في كلام المحقّق قدس‌سره في المقام وكذلك صاحب «الجواهر» (١) وقد أصرّ قدس‌سره تبعا للماتن في أنّه إذا كان إخراج الخيط مستلزما لتلفه فتنقلب العين إلى القيمة ؛ لأنّ ما يعطيه الغاصب بعد الإخراج إنّما جعل ذلك بحكم الشارع عوضا عن التالف ، فيكون بدلا عنه فمع ذلك لو وجب عليه الإخراج ثمّ ردّه مع قيمته ، يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، ثمّ حكم بجواز الصلاة بعد ردّ قيمة الخيط في مثل هذا الثوب ، وقايس المقام رحمه‌الله بما لو توضّأ بماء مغصوب جاهلا فالتفت إليه بعد تماميّة غسله ، فيجوز له المسح بالرطوبة الباقية عن هذا الماء لجريان عين مناطه ، وهو عدم غصب موجود الآن يجب ردّه في هذا الثوب

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٧٩.


المخيط بخيط مغصوب بعد ردّ قيمته.

وأنت خبير ؛ بأنّه لا مجال لهذا الكلام بعد ما عرفت من أنّ باب التضمينات لا يرتبط بباب المعاوضات ، وأنّ ما يلزم على الضامن ليس إلّا الغرامة ولم يعهد من الشرع أبدا أن يكون تضمين المالك من المخرجات ، خصوصا مثل المقام الّذي قد عرفت أنّ عين مال المالك موجودة ، فكيف يمكن أن يقال بأنّ ما على الغاصب من الغرامة بعد الإخراج عوض عن الخيط قبل أن يخرج؟

وأمّا قياسه المقام بالماء المغصوب المتوضّأ به ؛ فبعد التسليم في المقيس عليه يمكن الدعوى جدّا بالفرق بينهما ، فإنّ الماء المتوضّأ به بعد الفراغ عن الغسل ليس بعد شيئا موجودا ، بل العرف يراه معدوما ، ولذلك ينقلب إلى البدل قهرا ، بخلاف الخيط في الثوب فإنّه بعد إخراجه وتقطيعه بحيث يسقط عن الماليّة يراه العرف موجودا ، فكيف بحال عدم إخراجه وثبوته بحاله في الثوب ، فالحقّ عدم جواز صلاته في الثوب من هذه الجهة ما لم يرض المالك.

أقول : يمكن أن يكون نظر المحقّق قدس‌سره وتابعيه إلى أنّه عند إخراج الخيط عن الثوب الموجب ذلك لتلفه وإن كان بمباشرة الغاصب ، إلّا أنّه لمّا يفعل ذلك بأمر المالك وإلزامه فيصير السبب أقوى ، فلذلك يمكن الدعوى بأنّ التلف يستند إلى المالك الآمر ، وليس يستند إلى المباشر ، لا بفعله الآن لما عرفت من أنّه ملزم ومأمور ، ولا بفعله السابق لأنّ خياطته ما أوجبت تلف الخيط ، ولذلك يرى الخيط الآن في الثوب بشخصيّته وماليّته موجودا (١) ، فيصير الموجب للتلف شخص المالك بأمره ، فإذا صار هو بنفسه متلفا لما له فلم يلزم المباشر بالغرامة؟

__________________

(١) كما كان ذلك مبنى الحكم بوجوب ردّ العين ، «منه رحمه‌الله».


وبتقريب آخر ؛ إنّ الدليل على وجوب ردّ العين إنّما هو «قاعدة اليد» المقتضية لوجوب ردّ العين ما دامت موجودة لأن تصل إلى صاحبها فهي إنّما تجري فيما إذا أمكن ذلك.

وأمّا إذا لم يمكن ذلك ، كما إذا توقّف إيصال العين إلى صاحبها على تلفها المستلزم ذلك لعدم وصولها إليه ـ كما في ما نحن فيه ـ فكيف تجري هذه القاعدة ، مع أنّه بناء على إلزام الإيصال ، يستلزم عدم الإيصال فيصير من قبيل ما يلزم من

وجوده عدمه؟ فلا محيص من أن يلتزم بأنّ نتيجة جريان «قاعدة اليد» في المقام إنّما هو ضمان الغاصب المثل أو القيمة ، ولا يقاس المقام بما إذا استلزم الردّ مصارف ، فكيف يكون هناك خسارتها على الغاصب حتّى تصل العين إلى صاحبها ، فكذا إذا أوجب إيصال العين تلفها ، وذلك ـ أي وجه الفرق ـ هو أنّ خسارة الإيصال بمعنى أنّ مقدّمة وصول المال إلى صاحبه إنّما تكون على الغاصب فيما إذا أمكن وصول المال ، لا فيما إذا كان مقدّمة إيصاله عين إتلافه ، والمحذور أنّه كيف يجري في مثله عنوان المقدّمية؟ فلا تغفل!

وبالجملة ؛ فهؤلاء الأساطين كالمحقّق والعلّامة والشهيد الأوّل قدّس الله أسرارهم ، وبعض من تأخّر عنهم لمّا لم يروا في المسألة مقتضيا للحكم بضمان الغاصب قيمة الخيط بعد تلفه بإخراجه بأمر المالك ، فالتزموا من أوّل الأمر بضمانه القيمة وانتقال الخيط المغصوب إلى الغاصب بالمعاوضة القهريّة (١) فكأنّهم رأوه بحكم التالف ، وتعبير صاحب «الجواهر» قدس‌سره بالعوض والمعوّض (٢)

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٩٦ ط. ق ، الدروس الشرعيّة : ٣ / ١٠٩ و ١١٠.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٠.


ليس مراده قدس‌سره بعنوانهما المعاملي ، بل المراد هو ما أشرنا [إليه] من المعاوضة القهريّة.

نعم ، إنّما الإشكال في أنّه مع بقاء المال بعينه وعدم صيرورته تالفا حقيقة ، ولا بحكم التلف كالمال الغريق ، فأيّ موجب لانتقاله إلى القيمة في ظرف وجود العين وبقاء ماليّتها؟

ولمّا لم يكن عدم جريان قاعدة لعدم المقتضي ـ وهو عدم وجود العين ـ أو عدم احترامها ، بل كان للمانع ، وكذلك استناد الإتلاف لو اخرج بإلزام المغصوب منه بعد ذلك إلى المالك ؛ ليس ذلك أيضا موجبا لخروج المال عن تحت سلطنة المالك فعلا وانقلابه بالقيمة ، كما لا يخفى.

فلذلك لا يبعد الدعوى أنّ القاعدة تقتضي الحكم بالشركة ، أي شركة صاحب الخيط مع صاحب الثوب فيه بنسبة قيمة الخيط ، نظير ما لو اختلط مال المغصوب منه مع مال الغاصب بحيث لا يمكن تمييزهما ، وإن لم يحتمل ذلك على الظاهر.

ولكن لمّا لم يكن في المسألة نصّ يخالفه ما احتملناه ، وكذلك لم تكن المسألة إجماعيّة ، فلا ينبغي الوحشة عن الانفراد ، بعد ما عرفت من عدم مساعدة الدليل والقاعدة لما أفتى به الطرفان ، بل مقالة كلّ منهما مخالفة للقاعدة من جهة ، ولكن هذا إذا كان إيصال المال وإخراج الخيط مستلزما لسقوطه عن الماليّة رأسا ، حتّى لا يبقى له قيمة ولا صفة الملكيّة الموجب ذلك محذورا آخر ، مضافا إلى ما ذكرنا ، وهو مسألة التبذير المحرّم.

وأمّا إذا لم يوجب ذلك بل يبقى له مقدار من الماليّة ، فالحقّ هو ما أفتى به ـ


دام ظلّه ـ وفاقا للمشهور ، ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.

وأمّا ما أفاده ـ دام ظلّه ـ من الفرق بين المقام والماء المغصوب المتوضّأ به فلا يخلو عن التأمّل أيضا ، وذلك لأنّ حكم العرف بكون الماء تالفا بعد الغسل كيف يوجب الحكم بجواز الانتفاع بما بقي من آثار المغصوب؟ لأنّ المفروض أنّ باب الضمان ليس من باب المعاوضة حتّى يجوز الانتفاع بما يبقى من العين ما لم يرض المالك به ، فما المصحّح لهذا الانتفاع بعد تسليم عدم انتقال العين وما يبقى منها إلى الغاصب ، ولو مع دفعه الغرامة؟ مع إمكان منع الحكم بصيرورته تالفا بقول مطلق ، وإلّا لم يمكن الانتفاع منه ، ولا إشكال أنّ انتفاع كلّ شي‌ء بحسبه والمسح نوع من الانتفاع ، فيستكشف من ذلك بقاء مرتبة ودرجة من العين.

هذا ؛ إذا كان الغاصب عالما ، وأمّا إذا كان جاهلا فظاهر كلامهم يعطي عدم الفرق بينهما ، وأمّا ما احتمله من الاشتراك والشركة تجري في هذه الصورة بطريق أولى ، كما لا يخفى.

وأمّا حكم الثوب لو استلزم إخراج الخيط خرق الثوب (تخريقه) فظاهر ما استفدت من كلامه ـ دام ظلّه ـ الفرق بين ما لو كان الغاصب جاهلا وعالما ، فالتزم في الثاني بعدم ضمان صاحب الخيط لخسارة الثوب ، مستدلّا بقوله عليه‌السلام : «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) ونظيره ، من كونه بإقدامه أتلف ماله وأضرّ بنفسه ، بخلاف ما لو كان جاهلا ، فلمّا يستند خرق الثوب في صورة جهل الغاصب إلى المغصوب منه ، فيكون ضامنا للخسارة المتوجّهة إلى صاحب الثوب بسبب إخراج الخيط.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.


وهذا على مبنى كلامه السابق ، وقد أوضحنا عدم تماميّة هذا الكلام.

وأمّا لو كان الثوب لغير غاصب الخيط ، فإن كان الغير عالما بالغصب فحكمه حكم الغاصب ، وإن كان جاهلا فليس عليه شي‌ء ، وضمان تخريق ثوبه لو استلزم على الخيّاط مع علمه ، وإلّا فعلى صاحب الخيط على مبناه ـ دام ظلّه ـ وأمّا على ما بيّنا من عدم ضمان المغصوب منه مطلقا فيقع الكلام بين ضمان الخيّاط وعدمه ، والظاهر عدم مانع من الالتزام بضمان الخيّاط ؛ لجريان قاعدة الإتلاف ، والله العالم.

الفرع الثالث : قال في «الشرائع» : (وكذا لو خاط بها جرح حيوان له حرمة) .. إلى آخره (١).

هنا أيضا صور ؛ لأنّ الحيوان إمّا أن يكون آدميّا أو غيره ، وكلّ منهما إمّا أن يكون محترما أو لم يكن كذلك ، والغاصب إمّا أن يكون عالما أو جاهلا ، والمخيط عليه إمّا نفس الغاصب أو حيوانه أو غيرهما ، والإخراج في جميع الصور إمّا أن يوجب التلف أو الشين ونحوه [أولا].

أمّا إذا كان خيط به جرح الآدمي مع علمه بغصبيّة الخيط فالكلام فيه هو الكلام في ما سبق ، وقد عرفت أنّ مقتضى ما يظهر من بعض الأدلّة عدم وجوب حفظ نفس الغاصب ، وسقوطه عن الاحترام بغصبه فلا مانع من سلطنة صاحب الخيط وإجرائها بإخراج خيطه ، سوى استبعاد أنّه كيف يلتزم بجواز إتلاف نفس لإخراج خيط.

مع إمكان الجواب عن هذا الاستبعاد بما اجيب به عن استبعاد قطع يد

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.


السارق إذا سرق ربع دينار من أنّه لا احترام لمثل هذه اليد (١) ، وكذلك لا احترام للغاصب لكونهما مشتركين في العدوان ، وأنّه لا يتلفه أحد وإنّما المتلف هو نفسه بعدوانه وغصبه ، ولو كان المباشر لإخراج الخيط الموجب ذلك للتلف ، إلّا أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ السبب هنا مقدّم على المباشر.

نعم ؛ لو كان مضطرّا من أوّل الأمر فكما يجب على المالك بذل ماله وخيطه لحفظ نفس الغير يجوز بل يجب على الغير أيضا التصرّف في ماله ولو بدون إذنه لحفظ نفسه ، وذلك لعدم سقوط نفسه عن الحرمة في الرتبة السابقة على الاضطرار.

وبالجملة ؛ الاستبعاد لا يمنع عمّا تقتضيه الأحكام الشرعيّة ، فإن تمّ الإجماع في المسألة فليس للمالك إخراج خيطه ، وإلّا فقد عرفت أنّ مقتضى القواعد له ذلك ، وليس شي‌ء يمنع من سلطنته على ماله ، وأسهل من ذلك ما لو أوجب إخراج الخيط ما تتعب به نفس الغاصب من الشين ونحوه ، فعلى ما تقتضيه القاعدة المعروفة المرتكزة في أذهان العرف من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» (٢) هو الحكم قويّا بجواز إخراج الخيط للمالك ، وكون مثل ذلك موجبا لسقوط التكليف الشرعي وهو الوضوء وتبدّله بالتيمّم لا ربط له ؛ لأنّ المناط في الأحكام التكليفيّة غيره في الأحكام الوضعيّة ، مع أنّ تشبيه المقام بباب الوضوء قياس محض ، وليس في البين مناط (٣) منقّح ، بل القياس قياس مع

__________________

(١) جواهر الكلام : ٤١ / ٤٩٥.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠.

(٣) لأنّ حدّ الحرج الّذي يوجب سقوط الحكم التكليفي غير الحدّ الّذي يوجب سقوط الحكم الوضعي الموجب لجواز التصرّف في مال الغير ، فلا تغفل! «منه رحمه‌الله».


الفارق (١) ، ولقد أجاد [صاحب] «الجواهر» في المقام فراجع (٢)!

وأمّا فيما لو كان الغاصب جاهلا فلا إشكال في عدم جواز إخراج الخيط حتّى فيما لو أوجب (٣) الشين ، بل يتعيّن ردّ القيمة أو المثل ؛ لعدم جريان ما سبق في هذه الصورة.

وأمّا لو كان حربيّا فيجوز الإخراج بلا إشكال ، لعدم احترام لنفسه حتّى يمنع من جريان قاعدة السلطنة ، بخلاف ما لو كان ذميّا ، فحكمه حكم المسلم جاهلا أو عالما.

وأمّا حكم الحيوان ؛ فإمّا أن يكون ما يجوز ذبحه أو لا يجوز :

أمّا الأوّل ؛ فإن كان إخراج الخيط موقوفا على ذبحه ، فإن لم نقل بكون الذبح أمرا خارجا عن مقدّمة تخليص المال ، بمعنى أن نقول : إنّه تصرّف زائد على ما يجوز التصرّف في مال الغير مقدّمة لتخليص المال ، كما لا يبعد القول به ، لأنّ العرف لا يرى مثل ذلك من المقدّمات ، بل يراه من المقدّمات البعيدة وتصرّفا زائدا على قدر الحاجة في مال الغاصب.

وبالجملة ؛ فإن لم يلتزم بذلك فيجوز للمالك إخراج الخيط ، ويجب على المالك الغاصب ذبح الحيوان ، وأمّا إذا كان حيوانا محترما لم يجز ذبحه كالكلب المعلّم ، فلمّا لا يبعد أن يقال : إنّه ليس لمثل هذا الحيوان من حيث نفسه احترام وإنّما احترامه من جهة ماليّته العارضة عليه بسبب التعليم وغيره ، فحال مثل هذا

__________________

(١) مع أنّ في باب الوضوء أيضا كلام فيما لو جعل المكلّف نفسه باختياره فاقدا للشرط ، «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٠ و ٨١.

(٣) كذا ، والصحيح : لو لم يوجب.


الحيوان حال سائر أموال الغاصب ، وهو تابع لجواز إتلاف ماله مقدّمة لوصول المغصوب منه إلى ماله ، فمن حيث نفس الحيوان ؛ لمّا لم يكن لروحه احترام لا يلحق ذلك بما إذا خيط بالمغصوب جرح حيوان محترم حتّى يجعل الخيط بحكم التلف ، مع وجوده عينا لمانع الإخراج.

وأمّا إذا كان الحيوان المحترم لغير الغاصب فيظهر حكمه ممّا سلف ، وكذلك لو خيط به جرح الغير نفسه أيضا مضى حكمه بجميع صوره من جهل الغير وعلمه وغيره.

وأمّا إذا كان الآدمي المخيط عليه المغصوب ميّتا ، فهل يجوز إخراج الخيط عن جسده أم لا؟ فالظاهر أنّه لا يجوز ؛ لأنّ احترام ميّت الآدمي كاحترام حيّه ، وإن استثني من حرمة نبش القبور الّذي هو أيضا مخالف لاحترام الميّت الّذي لا يبعد أن يكون ما نحن فيه من قبيلها ، خصوصا فيما إذا أوجب الإخراج مثلته ، فالقول بجواز الإخراج ليس ببعيد.

أقول : وقد استشكل الأصحاب ـ أي بعضهم ـ فيما لو دفن الميّت في أرض مغصوبة ؛ جواز نبش القبر لإخراج الميّت وتخليص الأرض مطلقا ، ولو لم يوجب مثلته (١) لأنّ احترام الميّت واجب على كلّ أحد الّذي منهم المغصوب منه الأرض ، وليس ذلك إلّا لكون المغصوب منه مخالفا في ذلك النبش لتكليف نفسه فكيف يلتزم به في المقام مع استلزام إخراج الخيط مثلة الميّت غالبا؟ إلّا أن يفرّق بين أن يكون الميّت في حال حياته بنفسه مع علمه بكون الخيط مغصوبا ارتكب ذلك وخاطه على جرحه ، وبين ما إذا لم يكن عالما بغصبيّة الخيط وصدور ذلك

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٥٠٤ ، جواهر الكلام : ٤ / ٣٥٤.


عنه جهلا ، إمّا بنفسه أو عالجه الطبيب ، بأن يقال بأنّه لمّا ارتكب بنفسه في الأوّل وأقدم على ذلك فهو أوجب سقوط الاحترام عن نفسه حيّا وميّتا ، فلا مقتضي لاحترام جسده بعد موته ، بخلاف الثاني ، فإنّه لمّا أقدم على المحرّم وهو الخياطة بخيط الغير على جرحه جاهلا بذلك ، فلا موجب لسقوط الاحترام عن جسده بعد موته ، بل يجب على كلّ أحد حفظ حرمته ، فلمّا يقع التعارض بين حفظ حرمته وحرمة مال الحيّ فالجمع بينهما بعد عدم ثبوت الترجيح يقتضي الحكم بأخذ المغصوب منه قيمة خيطه من تركة الميّت أو من بيت المال ، إن لم يكن له تركة ، كما أفتى بذلك في «الجواهر» في باب أحكام الميّت (١) وإن افتي بخلافه في المقام بترجيح رعاية حرمة الحيّ (٢).

والعجب ؛ أنّه كيف التزم بذلك مع أنّ المقام أولى بترجيح ملاحظة حال الميّت ورعاية الجمع بين الحقّين وكذلك رعاية الاحتياط ، لما أشرنا من لزوم إخراج الخيط مثلته غالبا ، بخلاف إخراجه عن أرض مغصوبة ، فتدبّر!

وكيف كان ؛ الفرق أيضا لا يخلو عن تأمّل جدّا ، ضرورة أنّ إقدامه على التصرّف في مال الغير لخياطته جرحه في حال حياته لا ربط له بحال موته الّذي خرج به عن التكليف وصار موضوعا لتكليف الأحياء ، فكيف يمكن الالتزام بأنّ إقدامه في حياته أسقط احترامه بعد وفاته المستلزم ذلك سقوط التكليف عن الأحياء وجواز ارتكابهم الحرام؟ فالأولى هو رعاية حال الميّت الآدمي واحترامه لو كان محترما مطلقا ـ أي لم يكن حربيّا ـ والجمع بين الحقّين بأخذ

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٤ / ٣٥٤.

(٢) ذكرى الشيعة : ٢ / ٨١.


المغصوب منه قيمة ماله كما هو ظاهر إطلاق كلام المحقّق وغيره قدّس الله أسرارهم (١).

وأمّا حكم صلاة غاصب الخيط المخيط به جرحه ـ وبنينا على عدم جواز الإخراج وتعيّن أخذ القيمة ـ فلا إشكال في صحّة صلاته وكلّ عبادته ، وذلك لما حقّقنا في باب اجتماع الأمر والنهي أنّ ما يضطرّ به من التصرّف في المغصوب بعد الغصب فليس منهيّا عنه ، لعدم كونه من الأزل تحت الاختيار ، ولا ينافي ذلك كون أصل تصرّفه ودخوله في الدار المغصوبة منهيّا عنه ، وكون تصرّفه الاضطراري هذا أيضا مصداقا للغصب ، إلّا أنّ الغصب والتصرّف بحدّه الّذي يكون تحت الاختيار ـ وهو الدخول ـ ممنوع عنه ، دون ما لم يكن كذلك كما في المقام ، فإنّ في التصرّف في الخيط من حيث بقائه وعدم إخراجه مضطرّ إليه من الأزل ، فلا يتعلّق به النهي من الأزل أيضا ، وأمّا من حيث دخوله فلا نهي أيضا لسقوطه بالعصيان ، فلا مانع من صحّة صلاته ، كما لا يخفى.

ضمان المثل أو القيمة عند حدوث العيب في المغصوب

الرابع : قال في «الشرائع» : (ولو حدث في المغصوب عيب مثل تسويس التمر) .. إلى آخره (٢).

لا يخفى ؛ أوّلا أنّه لا سبيل إلى ما التزمه الشيخ رحمه‌الله في المقام من سقوط حقّ المالك عن العين بسبب طروّ العيب عليها (٣).

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩ ، جامع المقاصد : ٦ / ٣٠٤ و ٣٠٥.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

(٣) المبسوط : ٣ / ٨٢ و ٨٣ ، لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٣.


ضرورة ؛ أنّه لا دليل على خروج المال عن ملك صاحبه بمثل ذلك كما لا يخفى ، إنّما الإشكال في أمرين :

الأوّل : أنّه إذا أخذ المالك قيمة العيب الفعلي الموجود في العين هل يستحقّ أرش ما يزداد من العيب أيضا بعد ذلك أم لا؟ والظاهر ؛ أنّه لا خفاء في ذلك ـ أي استحقاقه الأرش بزيادة العيب الحادث أيضا إذا كان مستندها فعل الغاصب والعيب الحادث عنده ، وذلك لأنّ ما يأخذه أوّلا من الأرش إنّما هو بدل عن العيب الموجود ، ولا ربط له بما يحدث بعد ذلك والآن معدوم.

ودعوى أنّه يمكن بأن يقوّم العيب الموجود مع ما يحدث بعد ذلك جميعا فيأخذ القيمة كذلك حتّى لا يستحقّ بعد ذلك شيئا ، بمعنى أنّ العيب لمّا كان يقوّم بما هو مستتبع لما يحدث ويزيد ؛ ففي الحقيقة ما يأخذه أوّلا يكون أرشا للمجموع ، كما أنّ في البيع يكون كذلك ، أي لا يستحقّ المشتري أرش العيب إلّا ما هو الموجود حين العقد. مدفوعة ؛ بأنّ المالك لا يستحقّ أزيد من أرش العيب الموجود ، ولا دليل على جواز ضمّ ما يحدث بعد ذلك ، مع كونه مشكوكا فيه إلى الموجود فعلا ، وأمّا في باب البيع فلأنّ القدر المسلّم من الدليل المثبت لأرش العيب هو أرش العيب الموجود حين العقد وما دام كون المبيع في ضمان البائع ، وأمّا بعد خروجه عن ضمانه فلا مقتضي للالتزام بضمان العيب الحادث بعده ، بخلاف باب الغصب فإنّ المقتضي ـ وهو كون يد الغاصب عدوانيّا وصدق نسبة الإتلاف المستند إلى العيب إلى الغاصب ـ موجود ، للحكم بضمانه ، فتأمّل!

الثاني : أنّه لو تلف المغصوب من جهة تزايد العيب المحدث عند الغاصب ، هل يكون ضمان التلف ، وكذلك زيادة العيب على الغاصب مطلقا ، ولو كان من


جهة ترك العلاج المستند إلى المغصوب منه أم لا ، بل فيما إذا لم يكن التلف والزيادة من جهة ترك العلاج يكون ضمانه عليه ، وإلّا فلمّا كان التلف يستند إلى ترك العلاج الّذي سببه المالك فيكون هو في الحقيقة مباشرا للتلف ، فلا ضمان على الغاصب؟

ظاهر إطلاق كلماتهم ، الأوّل ، ولكنّ الحقّ التفصيل بين ما إذا كان العيب سهل العلاج وبين ما إذا لم يكن كذلك ؛ بمعنى أنّه لو كان العيب بحيث يكون قابلا للعلاج فعلا حتّى لو تلف لم يستند إلى العيب المحدث ، بل العرف يسنده إلى ترك العلاج لا إلى نفس العيب وبطئه ، فلمّا يصدق في مثل ذلك كون تارك العلاج متلفا ، فلا موجب للالتزام بضمان الغاصب.

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان قابلا للعلاج ولكن تحصيل أسبابه موقوف على مقدّمات بعيدة متعبة بحيث لو تلف لم يستند عرفا إلى ترك العلاج ، بل إلى بطء المرض أو العيب وطوله ، فيحكم بضمان الغاصب لكونه محدثا للعيب المؤدّي إلى ذلك ، ولا ريب أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.

وكيف كان ، فلا ينبغي القول بإطلاق الضمان كما نلتزم بهذا التفصيل في باب دية الجراحات وترك شدّ الفصد ، كما لا يخفى.

الجهة الرابعة من البحث ؛ في الضمان المثلي والقيمي.

في «الشرائع» : (فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليّا) .. إلى آخره (١).

ينبغي أن يعلم أنّ البحث في مقامين :

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.


الأوّل ؛ في الدليل الدالّ على الفرق بين المثلي والقيمي ، ولا يخفى أنّ هذين اللفظين ما ورد (١) بهما نصّ ، وإنّما وقعا في معاقد الإجماعات وكلمات الأصحاب ، فهم الّذين التزموا بهذا الفرق ، وسنشير إلى وجه استفادتهم من الأدلّة.

وكيف كان ؛ معنى ضمان المثل في المثلي والقيمة في القيمي هو أنّ الّذي يجب على الضامن في الأوّل بحيث ليس له تبديله ، هو المثل ، وكذلك ليس للمضمون له إلّا هو فليس له الإلزام بالقيمة ، كما أنّه ليس الأوّل ذلك ، بل إنّما التبديل موقوف على التراضي ، والمراد بضمان القيمة في القيمي هو عكس ذلك هذا ما تقتضيه من كيفيّة الضمان كلماتهم.

وأمّا ما يستفاد من ظاهر بعض ما يمكن أن يستدلّ به للمقام كآية الاعتداء وأمثالها (٢) ، فهو خلاف ما يظهر من بنائهم ، فإنّ ظاهر الآية يحكم باعتبار المماثلة في الضمان مطلقا سواء كان المضمون به مثليّا أو قيميّا ، فيكون كيفيّة اشتغال الذمّة والضمان هو ما أفتى به ابن الجنيد بضمان المثل في القيمي أيضا (٣) إلّا مع التعذّر كما في المثلي ، كما لا يبعد الدعوى بأنّ الطبع أيضا يقتضي عدم الالتزام بالفرق.

وأمّا ما يقتضيه أصل القاعدة الّتي هي المدرك للضمان في الباب ـ وهي قاعدة اليد ـ فنقول : إنّ هذه القاعدة بطبعها الأوّلي أيضا تقتضي ضمان المثل

__________________

(١) ولذا قال بعض : لم يحوّل تعيين موضوعهما إلى العرف كسائر الألفاظ الواقعة موضوعا لحكم الشارع ، «منه رحمه‌الله».

(٢) البقرة (٢) : ١٩٤ ، المائدة (٥) : ٤٥.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٦ / ١٣١.


مطلقا بلا تفصيل أمّا على مسلكنا من أنّ المستفاد منها أنّ الثابت في الذمّة هو نفس العين فواضح ، ضرورة أنّه إذا كان المأخوذ بنفسه ثابتا في الذمّة فيجب تحصيل البراءة منه مع التمكّن ، وإلّا فالأقرب إليه ، وهو المثل.

وأمّا على مسلك المشهور من اشتغال الذمّة بالبدل ، ففي المثلي المثل ، وفي القيمي القيمة ، فأيضا الذمّة مشغولة بالمثل عند تلف العين حتّى يؤدّيه ، فتأمّل!

نعم ، لمّا كانت القاعدة مغيّاة بالأداء ، وأداء القيمي لا يمكن إلّا بقيمته ، فلا بدّ أن يقيّد الإطلاق بذلك ، بمعنى أن يقال بأنّ الّذي يستقرّ على اليد والذمّة وإن كان هو نفس المأخوذ إلّا أنّ في المثلي يجب أداء مثله ، وفي القيمي لعدم إمكان المثل أداء قيمته.

إلّا أنّه مع ذلك لا يرتفع التعارض بين مدلول هذه القاعدة ومعاقد الإجماعات ، وذلك لأنّ المدار في وجوب أداء المثل في المثلي عند الأصحاب التمكّن من المثل نوعا ، بمعنى أن يكون للتالف أفراد نوعيّة وإن لم يتمكّن منه الشخص المتلف ، فليس المدار على تمكّنه ، وأمّا لو تيسّر المثل نوعا وتمكّن المتلف من المثل واتّفق أنّه وجد عنده نظير للتالف فلا يجب عليه أداؤه ؛ لأنّه عند عدم التمكّن من المثل نوعا يكون المضمون قيميّا فلا تشتغل الذمّة إلّا بالقيمة.

وأمّا مدلول القاعدة فلما عرفت أنّ الالتزام بالقيمة في مفادها في الجملة إنّما كان ذلك لعدم التمكّن من أداء المثل فيما لا مثل له ، لا لاقتضاء القاعدة ، ولا إشكال أنّه عند تمكّن الضامن من أداء المثل فالغاية حاصلة ، فلا ضرورة تدعو إلى صرف الأقرب ممّا اخذت ، الّذي كان ذلك مقتضيا باشتغال الذمّة بنفس


المأخوذ ، إلى القيمة الّتي ليست هي أداء حقيقة ، بل وفاء.

وأمّا لو لم يتمكّن الضامن من المثل ، ولو تمكّن نوعا كما في المثلي فمقتضى قاعدة اليد عدم وجوب أداء المثل لعدم حصول الغاية وعدم تمكّن اليد الآخذة عن أداء المثل.

وبالجملة ؛ فمع الجمود على ظاهر لفظ قاعدة اليد فيكون كلّ من معاقد الإجماعات وقاعدة اليد عكس الآخر في المدلول ، ثمّ يترتّب على ذلك وقوع التعارض بين مداليل الأدلّة الثلاثة ، وهي الآيات الّتي كانت مداليلها الاعتداء بالمثل والعقاب به بقول مطلق ومعاقد الإجماعات المفصّلة بين المثلي والقيمي ففي الاولى روعي التماثل بخلاف الثانية ، وقاعدة اليد المفصّلة بين المثلي والقيمي أيضا ، إلّا أنّ المستفاد منها التمكّن الشخصي في الحكم بوجود المثل وضمانه دون التمكّن النوعي.

ولا يتوهّم أنّه يمكن حمل الاعتداء بالمثل المستفاد وجوبه من الآية على التمكّن الشخصي ، بلحاظ أنّ هذا الحكم الوضعي قد استفيد من الحكم التكليفي الدالّ عليه الأمر ، والأمر لا يتعلّق إلّا بالمقدور ، فلا بدّ أن يكون المعتدي قادرا على الإلزام بالمثل ، وقدرته فرع على تمكّن الضمان ، والمفروض أنّه غير متمكّن شخصا ، فلا يجوز على المعتدي إلزامه به.

دفع التوهّم أنّه : لا إشكال أنّ هذا الأمر إنّما هو كسائر الأوامر التكليفيّة المشروطة عقلا بالقدرة إذا لم يؤخذ في الهيئة اشتراط القدرة حتّى يصير الشرط شرعيّا ، فيستكشف كونها دخيلة في أصل المصلحة حتّى تفيد المادّة أيضا ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها لإثبات وجوب تحصيل القدرة ، ولو لم يتمكّن المكلّف


من الامتثال فعلا ، فإذا صار الأمر مطلقا فيجوز الإلزام على المثل ، ولو لم يكن الضامن قادرا شخصا بل يكفي فيه التمكّن العقلي المفروض وجوده بتمكّن النوع ، فيجب على الضامن تحصيل المثل ولو من عند غيره ، وهذا بخلاف قاعدة اليد ، فإنّ الأداء فعل الآخذ ، فلا بدّ من تمكّنه بنفسه ، فتأمّل!

ثم إنّه قد يجاب عن الآية (١) لأن يرتفع التعارض بينها وبين معاقد الإجماعات وقاعدة اليد ، بأنّ المراد من المماثلة فيها التماثل في الاعتداء لا في المعتدى به ، بمعنى أنّ ظاهر هذه الآية وكذلك قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (٢) وغيرها (٣) لا تدلّ على أزيد من أنّه يجب أن لا يكون العقاب والقصاص أزيد ممّا تعدّى المعاقب عليه ، وأمّا من حيث المعتدى به وكيفيّته فلا يستفاد منها شي‌ء ، فعلى ذلك لا تنافي بين الآيات والقاعدة ومعاقد الإجماعات المقتضيين لعدم اعتبار المماثلة في القيميّات.

ضرورة ؛ أنّه إذا لم يكن مدلول الآيات إلّا أنّه لو أضرّك أحد بمقدار عشرة توامين ـ مثلا ـ فلا يجوز لك إضراره والإلزام بتداركه إلّا بمقدار ما أضرّك به ، دون الزيادة بلا أن تكون متكفّلة لجنس المتدارك به ، فلا تعارض [بين] مدلولهما المتكفّلة لبيان ذلك.

ولكنّك خبير ، بأنّ إنكار تكفّل الآيات لبيان حكم هذه الجهة أيضا ، كما بالنسبة إلى أصل حكم مقدار الضمان المستفاد كلاهما من إطلاق الآية ؛ في غاية البعد.

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٩٤.

(٢) النحل (١٦) : ١٢٦.

(٣) الشورى (٤٢) : ٤٠.


ولكن مع ذلك ؛ الأمر سهل ، لأنّه قد ظهر أنّ دلالتها على مدلولها لا يزيد عن الإطلاق فيخصّص (فيقيّد) إطلاقها بمفاد القاعدة بعد ثبوت كون مفادها مفاد معاقد الإجماعات ، ومعاقد الإجماعات إذا خصّصناها بهما وأخذنا بمدلولها في المثلي فيرتفع التعارض بين الآيات وبينهما ، كما لا يخفى ، ويبقى التعارض بين مدلول القاعدة الّذي قد عرفت المستفاد من ظاهرها كون مناط اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة هو التمكّن الشخصي في تأديتها ومعاقد الإجماعات الّذي يكون المناط هو التمكّن النوعي كما نشير إليه.

ولكن ؛ لمّا كان مناط كلمات الأصحاب ومبناهم في هذه المسألة استظهارهم من العرف وبناء العقلاء على كون مناط مثليّة الشي‌ء وقيميّته هو التمكّن النوعي ، بمعنى أنّه لو وجد للشي‌ء أفراد نوعيّة عند غالب الناس ما يكون مماثلا في الشكل والصفات الّتي لها مدخليّة في ماليّة الشي‌ء فيرون مثل ذلك مثليّا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك نوعا ، فيراه قيميّا ولو وجد للشي‌ء التالف فرد مماثل له في ما ذكر نادرا عند الضامن أو غيره.

فيستكشف من ذلك فهم الأصحاب أنّ الشارع أيضا أمضى طريقة العرف في بنائهم ذلك ، وما استفادوا من القاعدة المذكورة ردعهم عمّا بنوا عليه ، فلذلك لا بدّ أن تحمل القاعدة أيضا على أنّ المناط في أداء المأخوذ التمكّن النوعي في أداء مثله لا التمكّن الشخصي ، وإلّا لم تستقرّ سيرتهم على ذلك لو كانت القاعدة الّتي كانت بمرآهم ومسمعهم قابلة للردع ، فيرتفع التعارض بين مفاد القاعدة ومعاقد الإجماعات ، فيصير المرجع في باب ضمان القيمي والمثلي هو ما بنى عليه المشهور من نحوي الضمان دون ما التزم بعض من لا عبرة بقوله من ضمان


المثلي مطلقا إلّا عند التعذّر فينقلب إلى القيمة ، لجموده على ظاهر الآيات (١) السابقة ، مع كونه مخالفا لصريح القاعدة المذكورة وبناء العرف وتفريقهم في نحوي الضمان ، مع أنّ بناءهم هو الأساس في باب الضمانات وفهم العرف هو المرجع في هذه المسائل لحلّ المعضلات ، كما لا يخفى.

هذا ؛ ولكن بناء المشهور متّبع في هذه الجهة ، أي في اعتبار المثلي والقيمي لا مطلقا ، فلا يجوز تخطئتهم في ذلك بأن يقال بأنّا نعلم بأنّه ليس لهم دليل يستفيدون منه هذا الحكم سوى قاعدة اليد الظاهرة في ما ذكر من التمكّن الشخصي ، فهم أخطئوا في استظهارهم منها التمكّن النوعي ، لما عرفت من أنّ الأساس هو مساعدة العرف لما أسّسوا عليه.

نعم ؛ في كيفيّة اشتغال الذمّة ونحو ثبوت المال المأخوذ أو المتلف على العهدة الّذي هو الحكم الوضعي في مسألة الضمان ، فإنّ ما ذكر هو البحث في الحكم التكليفي ، وهو إلزام المالك الغارم على الأداء ، فاعتبار القيميّة والمثليّة كان بالنسبة إلى الأداء ، وأمّا بالنسبة إلى أصل اشتغال الذمّة فليس أساس ظاهر المشهور لنا متّبعا ؛ إذ قد عرفت سابقا أنّ فهم العرف إنّما هو في هذه المسألة مساعد معنا ، ولا يأبون عمّا يستظهر من قاعدة اليد من أنّ ما يستقرّ على الذمّة بسبب وضع اليد على مال الغير ليس إلّا نفس العين المأخوذة حتّى بعد التلف ، وذلك بوجودها الاعتباري دون العيني المستحيل استقرار وجودها على العهدة.

وقد عرفت من أنّه لا مانع من اعتبار مثل هذا الوجود بعد مساعدة العرف

__________________

(١) أقول : إن كان المراد من المثل في الآيات هو المثل العرفي لا الاصطلاحي فلا تنافي بين ما نحن فيه وبين القاعدة لو قيل بأنّ أداء القيمي أداء لمثله عرفا ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».


فيه وعدم كونه لغوا ، بحيث لا يكون منشأ للأثر ـ كأنياب الأغوال ـ بل لهذا الاعتبار آثار ، منها مسألة ضمان قيمة يوم الإقباض وغير ذلك.

وبالجملة ؛ لمّا كان العرف مساعدا في هذه الجهة ممّا يستفاد من ظاهر قاعدة «اليد» وكذلك «الإتلاف» من أنّ الذمّة مشغولة بنفس العين ، سواء كان بعد التلف أو قبله حتّى تؤدّيها ، إمّا بنفسها فيتحقّق الأداء ، وإمّا بمثلها أو قيمتها فيتحقّق الوفاء ، لا أن يكون الضمان قضيّة تعليقيّة ، بأنّه لو تلف المال تشتغل الذمّة فتصير القاعدة رادعة لما عليه المشهور ، وإن لم تكن من الجهة الاولى رادعة ، لما عرفت من تحقّق مانع الردع وهو استقرار سيرة العرف الكاشفة إنّا من عدم قابليّة القاعدة له هناك بخلافه هنا ، كما لا يخفى فافهم!

ضابط المثلي والقيمي

المقام الثاني : وهو البحث عن ضابط المثلي والقيمي ، لا يخفى أنّه كثر الكلام في المقام بين الأعلام ، ومنشأ ذلك عدم كون هذين اللفظين كما أشرنا إليه من الموضوعات الشرعيّة ، بل هما من الموضوعات العرفيّة ، فلمّا لم يرد من الشارع لهما تحديد فأرادوا أن يعرّفوهما باعتبار مصاديقهما الخارجيّة ، فاختلاف أنواع المثلي والقيمي أوجب اختلاف التحديدين.

فبعض عرّفه ـ أي المثلي ـ : بأنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة ، كما هو المشهور (١) ، فهؤلاء قصروا نظرهم بالطعام ومثله ، مع أنّه بالنسبة إليه كما إلى غيره أيضا غير مطّرد ، فإنّ أنواعه مختلفة.

__________________

(١) انظر! المكاسب : ٣ / ٢٠٩.


قال بعض بأنّه ما تماثلت أجزاؤه وتقاربت صفاته (١) ، وغير ذلك من التعاريف الّتي لا تخلو كلّها عن الإشكال ، بل لا يحصل الانضباط بها.

ولمّا لم يكن خصوصيّة الزمان والمكان دخيلة في اعتبار المماثلة ، بل إنّما المدخليّة للخصوصيّات الموجبة لاتّحاد الماليّة واختلافها فأحسن التعاريف للمثلي هو : أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة مماثلة معه في ما له دخل في الماليّة ، أو ما تفاوت في أفراده ما يوجب اختلاف الرغبات ، ولمّا كان الاطّلاع على ذلك موقوفا ـ على أن يكون الشي‌ء ممّا يمكن الاطّلاع على ظاهره وباطنه حتّى تقاس الأفراد بعضها إلى الاخرى ، فيكون مثل الحيوانات قيميّا ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على بواطنها ، مع أنّه لا إشكال في أنّ اختلاف الباطن موجب لاختلاف الرغبات والماليّة ، فلو وجد عبد مماثل من جميع الجهات مع التالف فلا يوجب ذلك وجوب ردّه عوضا عن التالف ؛ لأنّه بصرف وجود المشابه الظاهري مع عدم إمكان الاطّلاع على باطنه لا يصير الشي‌ء مثليّا ، مضافا إلى أنّ الحيوانات غالبا في الأوصاف الظاهرة أيضا مختلفة ، اختلافا موجبا لاختلاف الرغبة ، والمصنوعات فما يصنع منها باليد فقيمي ، بخلاف ما يصنع مع الآلات والعجلات ، فإنّ في الأوّل وإن كان يمكن أن يخرج عباءات متعدّدة ـ مثلا ـ عن تحت يد استاد واحد متماثلة ، إلّا أنّ ذلك نادر ، فلا يعتمد عليه ، بخلاف الثاني مثل الساعات وغيرها الغير المنطبق عليها تعريف الاولى ؛ لأنّ نصف الساعة ليس نسبة قيمته إلى قيمة تمامها كنسبة النصف إلى ساعة صحيحة ، وأمّا هذا التعريف فيصدق عليها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢ / ١٣٩ ، وانظر! المكاسب : ٣ / ٢١٣.


وفي «الشرائع» : (فإن تعذّر المثل المزبور ضمن قيمته يوم الإقباض) .. إلى آخره (١).

هنا مسائل لا بدّ من تعرّضها.

الاولى : يظهر من عبارة «الجواهر» في المقام ـ وإن أنكر ذلك بعد صفحة ـ أنّ المناط في استقرار قيمة المثل على العهدة هو وجود المثل عند استقرار الضمان أوّلا ، وإن كان المثل متعذّرا حين القرار ، بأن لم يكن موجودا من أوّل الأمر لا بأن يطرأ التعذّر فلا يستقرّ قيمة المثل ، بل ينقلب المثلي إلى القيمي (٢).

هذا ؛ ولكن لا يخفى ضعف هذا الكلام ؛ إذ لا إشكال في أنّ المناط في كون الشي‌ء مثليّا إنّما هو جريان العادة أن يوجد له غالبا أفراد مماثلة معه في الصفات الّتي لها المدخليّة في الماليّة كالحنطة ـ مثلا ـ وإن اتّفق أنّه لم يوجد مثله كذلك في بعض الأوقات ، إذ لا إشكال أنّ الحنطة وأمثالها إذا لم يوجد في وقت من الزمان ـ كعام المخمصة وغيرها ـ لم يخرج عرفا عن كونه مثليّا.

وبعبارة اخرى : إنّ تشابه الأفراد وعدمه الموجب لصيرورة الشي‌ء مثليّا وقيميّا إنّما هو تابع لطبيعة الشي‌ء ووجوده الغالبي في نظر العرف ، وأمّا عروض هذا الوصف أو انعدامه في وقت من الأوقات لا يوجب انقلاب حكم طبيعة الشي‌ء عند العرف.

فلو اتّفق أنّه وجد في وقت للشي‌ء القيمي أفراد متماثلة لا يوجب ذلك خروجه عن القيميّة عند العرف ، كما لا يخفى ، وكذلك عكسه ، مع أنّ الاشتراط

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٩٥ و ٩٦.


المذكور ربّما يوجب اعتبار التمكّن الشخصي في صدق كون الشي‌ء مثليّا وقيميّا ، وكذلك يلزم أن لا يكون للمالك حقّ مطالبة المثل ولو وجد المثل بعد التعذّر ، ولو لم يكن آخذا للقيمة بعد ، مع أنّه لم يلتزم بذلك أحد.

وبالجملة ؛ فلا وجه للاشتراط المذكور ، ولا مدخليّة للزمان والمكان في صدق المثليّة والقيميّة بعد تحقّق المناط المذكور وهو جريان العادة أن يوجد للتالف المثل بحسب الطبيعة الأوّليّة ، فالأقوى عدم خروج التالف عن كونه مثليّا ولو لم يوجد مثله عند التلف ، كما عليه السّلف (١) وجلّ الخلف.

الثانية : إذا تعذّر المثل هل للضامن إلزام المالك على أخذ القيمة أم لا ، بل له الصبر حتّى يوجد المثل؟ أمّا على مسلكنا من استقرار نفس العين على الذمّة فتستتبعه سلطنة المالك على عهدته ، ومطالبته بعين ماله ، وأنّ باب الضمان في الأحكام الوضعيّة كباب قاعدة «الميسور» في الأحكام التكليفيّة (٢) ، فما يؤدّيه الضامن عند تلف العين يكون مرتبة ممّا استقرّ على الذمّة ، ولمّا لم يمكن أداؤه بتمام مراتبه ، فيوفيه ببعض مراتبه وهو مثله أو قيمته ، فالأمر ظاهر ، لأنّه لمّا استقرّت سلطنة المالك على عهدة الضامن فلا تسقط سلطنته تلك إلّا بردّه ما على عهدته أو بتجاوز المالك برضاه عن حقّه ، وأمّا عدم تمكّنه الآن من أداء ما في ذمّته مع عدم مطالبة المالك حقّه وعدم إلزامه على أدائه ما على عهدته حتّى يصير ذلك تكليفا للضامن بما لا يطاق ، لا يوجب سقوط سلطنته ، فبمقتضى تسلّط الناس على أموالهم ، للمالك الصبر حتّى يأخذ ما هو أقرب بماله بعد تلف

__________________

(١) كما يقتضيه إطلاق كلامهم وإن لم يكن مصرّحا به في كلماتهم ، «منه رحمه‌الله».

(٢) القواعد الفقهيّة : ٤ / ١٢٧.


عينه ، وليس للضامن من إلزامه على إسقاط حقّه بأخذه القيمة.

وأمّا على مسلك المشهور ؛ من استقرار المثل في المثلي على العهدة ، فأيضا لا إشكال في اقتضاء ذلك أنّ للمالك الصبر حتّى يأخذ ما هو أقرب إلى ماله ، وهو المثل وليس للضامن إلزامه على تجاوزه عن حقّه بعد أن كان المستقرّ على عهدته غير ما يريد أن يلزم المالك بأخذه وهو القيمة.

نعم ؛ ليس للمالك الإلزام فعلا على المثل مع عدم إمكانه ، بل يوجب ذلك سقوط سلطنته عن مطالبة المثل ؛ لأنّ إلزامه تكليفا في مثل هذه الصورة لمّا يكون تكليفا بما لا يطاق فتنقطع سلطنته ؛ لأنّ قاعدة السلطنة كغيرها من الأحكام مختصّة عقلا بصورة القدرة ، وهذا لا ينافي إلزامه وضعا ، بمعنى كون ذمّته مشغولة بالمثل ولو لم يكن متمكّنا من أدائه ، لأنّه لا محذور من اعتبار المثل أو العين على العهدة مطلقا ، كما أوضحنا أنّ ظاهر «على اليد» (١) يقتضي ذلك ، ثمّ تقيّده وقت الأداء الّذي هو ظرف التكليف بالقدرة ، وقد أشرنا أنّ إثبات القيمة في القيميّات إنّما يكون ذلك بسبب ذيل قاعدة اليد وهو «حتّى تؤدّي» دون صدره.

وكيف كان ؛ فعلى مقتضى كلام المشهور أيضا لا حقّ للغارم على أخذ المالك غير حقّه وإلزامه على إسقاطه سلطنته إذا لم يوجب إعمال سلطنته تكليفا بما لا يطاق.

ثمّ إنّه هل للمالك إلزام الغارم بإعطائه القيمة أم لا ، بل عليه الصبر إلى أن يوجد المثل؟ الظاهر أنّه لا إشكال في أنّ له ذلك ، ضرورة أنّ اعتبار المثل في

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : ٤ / ٥٣.


المثليّات ليس إلّا لمصلحة المالك من أنّه عند تلف ماله لمّا لم يمكن وصوله بماله بجميع خصوصيّاته الشخصيّة ، فاعتبر ضمان مثله حتّى يصل ببعض مراتب الخصوصيّات حتّى ينتهي إلى القيمة الّتي هي آخر درجة الخصوصيّة المشاركة مع التالف في الماليّة ، فإذا كان الحقّ له فإذا لم يمكن له الآن وصوله بماله ولو بمرتبة المثليّة بأن يأخذ مثل ماله لعدم وجود المثل فعلا لتعذّره ، فله أن يتجاوز عن حقّه ذلك وأخذه القيمة الّتي هي أوّل مرتبة تدارك التالف ، وليس للغارم إلزامه على الصبر الراجع ذلك إلى إلزامه بعدم إسقاطه حقّه.

ولا ينتقض ذلك بصورة وجود عين المال أو مثله ، فكما أنّه ليس للمالك إسقاطه حقّه عن العين أو المثل وإلزام الغارم على إعطاء القيمة فكذلك في صورة تعذّر المثل لمّا كان حقّه الثابت على العهدة هو العين ، فليس للمالك إلزام الغارم على تبديله بالقيمة وأخذها عنه.

وجه عدم ورود النقض ظهور الفرق بين المقامين ؛ إذ عند وجود العين يرجع إسقاط الحقّ عنها ، وكذلك عند وجود المثل إلى إسقاط السلطنة المتعلّقة بهما.

ومن البداهة أنّ السلطنة حكم غير قابل للإسقاط ، وكذلك الإعراض عن العين أو المثل حتّى يوجب ذلك إثبات حقّ على الغير لا يجوز بالإجماع ، بخلاف ما إذا لم يوجد أحدهما ؛ فلمّا كان الثابت على الذمّة حقّا محضا فله إسقاط بعض مراتب حقّه ، وهو مرتبة المثليّة والاكتفاء بمرتبة الماليّة فقط ، وهي القيمة.

أقول : فحاصل الفرق هو أنّ عند وجود العين جميع مراتب سلطنة المالك باقية ، فتجاوزه عنها وإلزام الغارم على القيمة ، وجعل ذمّته مشغولة بالقيمة ، مع


أنّ الثابت على عهدته بحكم الشرع ليس إلّا نفس العين ، لا يمكن ذلك إلّا بإلزامه على تبديل ما على عهدته بالقيمة بأحد عناوين المعاملات من الهبة المعوّضة وغيرها ، ومن المعلوم أنّه ليس للمالك هذا الإلزام ، ولم يثبت له هذا الحقّ بدليل شرعي ، وهكذا يكون حال المثل عند وجوده وإرادة تبديله بالقيمة ، فإنّ سلطنته الفعليّة على المراتب الاخر من عين المال وهو مثله باقية ، ولم يتبدّل بعد بالقيمة ما دام وجود المثل ، فلم ينقطع سلطنته عنه الثابتة بالدليل الشرعي.

وأمّا عند تعذّر المثل فنقول : ـ مضافا إلى أنّ الثابت من أدلّة وجوب ردّ المثل في المثلي وعدم ثبوت حقّ للمالك بمطالبته القيمة ، هو في صورة وجود المثل ، وأمّا عند تعذّره فلم يثبت ذلك ، مع أنّ العرف أيضا يأبى عن إلزام المالك على الصبر وعدم جواز مطالبة قيمة ماله ، مع أنّه ربّما لا يوجد المثل ، بمعنى أنّه يطول الزمان حتّى يرتفع العذر فيوجب ذلك ضررا فاحشا ـ إنّ في هذه الصورة فلمّا لم يكن متعلّق السلطنة ـ وهو العين أو المثل الّذي هو بمنزلة وجود العين ـ موجودا في الخارج فتنحصر سلطنته بحقّه الثابت على عهدة الغارم.

ولا ريب أنّ إسقاط الحقّ لا يوجب المحذورات السابقة ، فمتعلّق سلطنة المالك هو حقّ مطالبة مثل ماله الّذي يكون متعلّقه ذمّة الغارم فقط ، فتجاوزه عن خصوصيّة المثليّة واكتفاؤه بالماليّة يكون بمنزلة إبرائه ، ولا ريب أنّ الإبراء ليس كالإيهاب حتّى يحتاج إلى القبول فيدخل في عنوان المعاملات ، ولا إعراضا حتّى لا يجوز.

فالتحقيق ؛ هو ما أفاده ـ دام ظلّه ـ من عدم جواز إلزام الغارم المالك في قبول القيمة بخلاف العكس وفاقا للمشهور ، بل كادت أن تكون المسألة إجماعيّة


وإن لم تكن المسألة محرّرة إلّا في كلمات المتأخّرين ، خصوصا صورة العكس ، فراجع!

الثالثة : اختلفوا في تعيين ضابط التعذّر والفقدان ، فبعض جعله بأن لا يوجد المثلي في البلد الّذي تلف المال فيه (١).

وبعض أضاف إلى ذلك ما حول البلد أيضا من الجوانب الّتي اعتيد نقل مثل التالف منها إلى البلد (٢) ، وبعض أطلق (٣).

وبعض جعل الضابط الضرر والحرج ، بحيث إن أوجب تحصيل المثل الحرج فيصدق حينئذ الفقدان والتعذّر (٤) ، وأوكل في «جامع المقاصد» أمر ذلك إلى العرف وتحديدهم (٥) ، والأقوى الأخير.

بيان ذلك : أنّه لا يخفى أوّلا أنّ للتعذّر مراتب ، منها : التعذّر العقلي بأن اتّفق في زمان لا يوجد المثل أصلا.

ومنها : دون ذلك بأن يوجد ولكن في البلاد النائية.

ومنها : أن يوجد في المكان القريب ولكن مع ذلك كان حمله متعذّرا.

ومنها : أن يكون في البلد ولكن يكون تحصيله متعذّرا.

والجامع لجميع المراتب هو صدق الحرج ، ولمّا لا تصير إحدى هذه المراتب ضابطا ، فلقد أحسن من جعل الحدّ هو الحرج ، ولكنّ الإشكال في

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٨٣.

(٢) المبسوط : ٣ / ٧٦.

(٣) المكاسب : ٣ / ٢٣٨.

(٤) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٩٧.

(٥) جامع المقاصد : ٦ / ٢٤٥.


المقام هو جريان قاعدة الحرج ، إذ بإجرائها يمنع عن جريان قاعدة السلطنة ، وقد أشرنا سابقا بأنّ قاعدة الحرج وإن كانت من القواعد العامّة الحاكمة على جميع الأحكام إلّا أنّها لمّا كانت بنفسها قاعدة امتنانيّة فليست قابلة لأن تعارض الأحكام الامتنانيّة الاخرى الّتي منها حكم السلطنة ، لعدم ترجيح لأحد الحكمين إذا كان منشأهما الامتنان على الآخر.

فعلى ذلك لا تصلح هذه القاعدة للمرجعيّة في المقام حتّى يحكم على مقتضاها على عدم وجوب تحصيل المثل على الضامن عند صدق الحرج ، فعلى ذلك لا مقتضي هنا لجريانها ، لا أنّ المانع ـ وهو قاعدة أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال (١) ومثلها ـ تمنع من جريانها ، فتدبّر!

نعم ؛ يمكن أن يقال بأنّه كما أنّ في صورة عدم وجود المثل رأسا وفقدانه كليّا فلمّا لم يكن تحصيله مقدورا فعلى حسب حكم العقل بعدم جواز الإلزام في مثله لا يكون مقتض لقاعدة السلطنة ، فلا تجري هي بحكم العقل ، فكذلك عند ما كان المثل موجودا ولكن كان تحصيله متعسّرا ، بحيث يكون حرجا ، فلمّا كان بنظر العرف هذه الصورة ملحقة بما إذا كان تحصيله غير مقدور رأسا ، بمعنى أنّ العرف أيضا له حدّ لاعتبار القدرة ، ففيما إذا انجرّ تحصيل المثل إلى الضرر والحرج يرى العرف الشخص بحكم غير المقدور العقلي ، فلا يجوّزون عند صدق الحرج إلزام الغارم على إيجاد المثل فلا يبقى عند ذلك أيضا مقتض لجريان قاعدة السلطنة ، فلا وجه حينئذ لجواز إلزام المالك الغارم على تحصيل

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠.


المثل بحكم العرف (١) ، الّذي يكون نظرهم مرجعا لمهمّات مسائل الضمان.

فالتحقيق في المقام ما حقّقه المحقّق الثاني قدس‌سره من إرجاع الأمر إلى العرف (٢) ، فلو استقرّ بناؤهم على عدم جواز الإلزام في مثل هذه الصورة ، أي عند صدق العسر والحرج في تحصيل المالك المثل فيستكشف منه عدم فهمهم من قاعدة السلطنة جواز الإلزام وعدم كونها قابلة لردعهم ، وإلّا لم تستقرّ سيرتهم على الخلاف ، فلا يبقى بعد مجال في المقام للرجوع إلى قاعدة السلطنة ؛ لأنّه استكشف عدم صلاحيتها للمرجعيّة.

ولا يشتبه عليك الأمر بأنّه بالأخرة صار المرجع قاعدة الحرج ، لوضوح أنّه لو لا قصور قاعدة السلطنة لقصور موضوعه عن شمولها للمقام ما كانت قاعدة الحرج قابلة للمنع ، أي عن جواز الإلزام ، كما أوضحنا ذلك.

وممّا ذكرنا ظهر النظر في ما في كلام صاحب «الجواهر» في المقام عند اعتراضه على المحقّق المذكور قدس‌سره بأنّه ليس لنا في المقام لفظ الفقدان والتعذّر في نصّ من حديث وغيره حتّى يرجع في تعيين معناه إلى العرف (٣).

إذ قد عرفت مراده قدس‌سره من مرجعيّة العرف ، وأنّه ليس غرضه من الرجوع إليهم الرجوع في معنى اللفظ ، بل جعل قدس‌سره نظرهم مرجعا لمقدار مقتضى الضمان من اقتضاء قاعدة السلطنة وغيرها فافهم!

__________________

(١) لا يبعد الدعوى بأنّ السيرة المستقرّة من العرف في باب الغصب عدم اعتنائهم بالمشقّة والحرج العارضة على الغاصب المسبّبان عن أدائه المغصوب وكذلك عن إيصال بدله ، وذلك لما هو المرتكز في الأذهان من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال» فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٢) جامع المقاصد : ٦ / ٢٤٥.

(٣) جواهر الكلام : ٣٧ / ٩٦.


المسألة الرابعة : لو خرج المثل عن القيمة رأسا كالجمد في الشتاء فيما إذا أتلفه أحد من غيره في الصيف ، فهل يلحق ذلك بالتعذّر فيستحقّ المغصوب منه القيمة ، أم لا ، بل يتعيّن المثل؟

نقول : أمّا على ما تقتضيه قواعد الضمان في المقام هو عدم انقلاب المثل ، إذ قد عرفت أنّ قاعدة اليد في المثلي لا تدلّ إلّا على كون المثل في المثلي ثابتا على الذمّة حتّى يؤدّيه ، وأمّا قاعدة الإتلاف فقد يتوهّم كونها مقتضية للتبديل بالقيمة.

وتوضيح الوهم ودفعه ؛ هو أنّ ظاهر لفظ «من أتلف مال الغير» (١) الدالّ على ضمان مثله في المثليّات يدلّ على اعتبار الماليّة في التالف وما يتداركه ، ومن المعلوم أنّه عند سقوط المثل عن القيمة رأسا لا يبقى له ماليّة ، مع أنّ المثليّة للتالف إنّما اعتبرت لجهات أهمّها في الماليّة ، بل مناط صدق المثليّة هو التشخصّات المشتركة الموجبة للاستواء في الماليّة ، فعند عدم بقاء الماليّة فمن أين تبقى المثليّة؟

ودفع ذلك : هو أنّه لا إشكال في أنّ السقوط عن الماليّة على نحوين : أحدهما : ما أوجبه نقص في ذات المال ، ثانيهما : ما أوجبه تبدّل الزمان أو اختلاف المكان كالجمد في الشتاء أو الماء في ساحل الشطّ ، فإن أوجب نفس المال سقوطه عن الماليّة بحيث صار يصحّ سلب الماليّة عنه رأسا فمجال لما ذكر من الكلام ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كان النقص مستندا إلى الخارج فلا دليل على تبدّل المثل بالقيمة ، ولا وجه للعدول عمّا تقتضيه ظواهر الأدلّة ، إذ لا

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠.


يستفاد من الأدلّة إلّا اعتبار المثليّة في الماليّة على نحو يعدّ مالا في الجملة ، وإلّا فلو كان المناط الماليّة المطلقة فلازمه أن يبدّل ضمان المثل بالقيمة فيما إذا صارت قيمة المثل أنقص من قيمة التالف ، ومن البداهة أنّه لم يلتزم بذلك أحد ، فيستكشف من ذلك عدم كون المناط اعتبار التماثل من جميع الجهات والمراتب.

وبعبارة اخرى : إنّ الأدلّة لا تقتضي إلّا اعتبار الماليّة التقديريّة ، بمعنى أنّه لو لم يكن الماء في الشاطئ كان له بحسب المتعارف قيمة معتدلة متوسّطة كسائر الأموال ، لا كما في الوسط من برّ الحجاز حتى يعدّ ذلك من المواقع والمنافع النادرة ، بل في الأمكنة المتعارفة القريبة بالماء ، ولا كما في ساحل دجلة ، وكذلك الجمد ليس في الشتاء لا يعدّ من الأموال رأسا وإلّا لم يوجب إتلافه مطلقا ضمان الماليّة ، بل القضيّة التعليقيّة فيه أيضا صادقة.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ قاعدة الإتلاف أيضا كقاعدة اليد لا تدلّ على انقلاب الذمّة الّذي هو مخالف للأصل أيضا عن المثل إلى القيمة فيما إذا سقط المثل بسبب اختلاف الأحوال عن الماليّة وليس ذلك ملحقا بالتعذّر.

هذا ما تقتضيه ظواهر أدلّة الضمان ، إنّما الكلام في مساعدة العرف في ذلك ولا يخفى مخالفتهم فيه.

ضرورة ؛ أنّ من غصب ماء في البئر فأتلفه ، وكذلك جمدا في الصيف فأتلفه ، فأتى بالمغصوب منه في الشطّ وأدّى إليه من الماء بقدر ما أتلفه ، أو الجمد في الشتاء أعطاه عوضا عن ماله ، العرف ينكر ذلك أشدّ الإنكار ، ويعدّ ذلك من أعلى مراتب الظلم ، فيستكشف من ذلك استقرار بنائهم على عدّهم مثل


هذه الأشياء كالساقط عن الماليّة رأسا ، بمعنى أنّهم لا يرون الماء في الشطّ مثلا مع الماء في البئر مماثلا في الماليّة ، ولمّا كانت المماثلة في الماليّة شرطا في ضمان المثلي ، ولا ريب أنّ اعتبار الماليّة وعدمها إنّما يكون بنظر العرف وقد أشرنا أيضا إلى أنّ نظرهم في باب الضمان [له] كمال مدخليّة.

فالأقوى في المسألة ؛ على حسب ما يقتضيه حكم العرف الحكم بتبديل ضمان المثل بالقيمة فيما إذا سقط المثل عن الماليّة رأسا بحسب الشرع أيضا ، كما قوّى ذلك شيخنا قدس‌سره في «المكاسب» أيضا (١) ، وإن كان التحقيق بحسب القواعد هو ما قوّاه في «الجواهر» (٢) ، ولكن لا يخفى أن التبدّل بالقيمة ليس على نحو الإطلاق ، بل تعتبر القيمة للمثل في أقرب الأمكنة من محلّ تلف الماء إلى الشطّ ، وكذلك آخر الأزمنة من زمان الصيف أو مطلق الزمان من الأزمنة الّتي يفرض للجمد قيمة إلى زمان الشتاء ، وذلك لما عرفت من أنّ الحكم بالتبدّل إنّما هو مخالف للقاعدة ، وإنّما يكون ذلك بحكم العرف الّذي منشأه عدم بقاء المماثلة في الماليّة بعد سقوط المثل عن الماليّة رأسا ، ولا إشكال أنّ ذلك لا يقتضي إلّا اعتبار أوّل درجة من القيمة له ، إذ مع عدم سقوط المثل عن الماليّة رأسا حتّى يصل الماء إلى الشطّ مثلا ، ويفرض له في ما بين مكان التلف ونفس الشطّ مراتب من الماليّة ، فالالتزام بتبدّل المثل إلى القيمة من أوّل الأمر ـ وهو مكان التلف ـ لا وجه له ، بل التحقيق أنّ الالتزام بالتبدّل هو [عند] أوّل زمان سقوط المثل عن القيمة رأسا ، وليس هو إلّا أقرب الأمكنة إلى الشطّ حتّى لا

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٢٣٨.

(٢) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٩٩ و ١٠٠.


يبقى المماثلة في الماليّة رأسا ، وقد تحقّق أنّه لا يعتبر التماثل في جميع مراتب الماليّة ، بل يكفي التماثل في الجملة ، كما لا يخفى.

أقول : نظير هذا الفرع ما ذكره الفقهاء في باب القرض من أنّه لو أسقط الدراهم والدنانير فلا يتبدّلان بالقيمة ، بل باقيان على مثليّتهما ، وبكلّ سكّة اقترضتا فلا بدّ أن يردّ منها بل يستشكلون التبديل بالاختيار والتراضي للزوم الربا إلّا مع الشرط ، فقد قوّى جوازه صاحب «الجواهر» قدس‌سره وإن قال : إنّ المسألة غير محرّرة (١).

وكيف كان ؛ فلا بدّ أن يحمل إطلاق كلامهم على عدم تبدّل المثل بالقيمة بما إذا كان للسكّة الساقطة من حيث المادّة المسكوكة عليها قيمة ، كما هو ظاهر محلّ كلامهم ، لكونه الدراهم والدنانير اللذين مادّتهما الفضّة والذهب.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، بل كانت الماليّة للمسكوك الرائج من جهة الاعتبار فقط ، كما في الكاغذ ونحوه ، فلا بدّ أن نلتزم على ما أفاده ـ دام ظلّه ـ من التبدّل بالقيمة ، أي أوّل درجة من القيمة الّتي يفرض له ، وكذلك لها نظائر اخر ، كما في باب الصرف ونحوه ، فراجع!

قال في «الشرائع» : (وإن لم يكن [المتلف] مثليّا ضمن قيمته) .. إلى آخره (٢).

لا يخفى ، أنّه بعد ذهاب المشهور إلى كون ضمان القيميّات بالقيمة ، بل كاد

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٩٩ و ١٠٠.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠.


أن تكون المسألة إجماعيّة ؛ لعدم الاعتناء بخلاف مثل ابن الجنيد (١) ـ لو ثبت مخالفته ـ ففي المسألة من حيث وقت اعتبار القيمة أقوال ، فذهب بعض ـ كما نسبه في «الشرائع» إلى الأكثر ـ إلى كونه حين الغصب (٢) ، وآخرون إلى ثبوت أعلى القيم (٣) ، وجماعة إلى اعتبار القيمة حين التلف (٤) ، وغير ذلك من الأقوال أو الوجوه الّتي هي نادرة.

وكيف كان ؛ فينبغي أوّلا البحث في معنى قاعدة «اليد» الّتي هي المدرك للضمان بما يرتبط بالمقام ، فنقول : إنّ في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» (٥) احتمالات.

الأوّل ؛ أن يكون المراد به في ظرف وجود العين ثبوت تكليف محض ، بأن يكون المراد من لفظ «على» إثبات إلزام على الآخذ بوجوب ردّ العين ما دامت موجودة ، بلا اعتبار إثبات شي‌ء على العهدة ، ثمّ عند تلفها يعتبر إثبات مثلها أو قيمتها على العهدة ، ويكون ذلك هو معنى كون الضمان قضيّة تعليقيّة ، أي لو تلفت العين المغصوبة ثبت مثله أو بدله على الذمّة ، وإلّا فقبل ذلك ليس على العهدة شي‌ء.

ولكن استفادة هذا المعنى من الحديث بعيدة جدّا ، لأنّه يلزم على ذلك التفكيك في لفظ الحديث بالنسبة إلى زمان وجود العين ، بأنّ المراد منه تكليفا ، وإلى زمان تلفها أن يكون المراد منه وضعا أيضا.

__________________

(١) نقله صاحب جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٠.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠ ، مسالك الإفهام : ١٢ / ١٨٥.

(٣) المبسوط : ٣ / ٧٢ و ٧٥ ، السرائر : ٢ / ٤٨١.

(٤) المهذّب : ١ / ٤٣٦ و ٤٣٧ ، الدروس الشرعيّة : ٣ / ١١٣.

(٥) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦.


وأيضا ؛ ظاهر هذه القضيّة ـ أي قاعدة اليد ـ هو الحكم التنجيزي ، فإنّ ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) أنّه يستقرّ المأخوذ على العهدة عند وضع اليد عليه ، مع أنّك قد عرفت أنّ لازم هذا المعنى هو كون المستفاد من هذه القاعدة هو الحكم التعليقي ، وأيضا لازم هذا المعنى أن لا يكون لصاحب المال حقّ الرجوع على الغاصب في صورة بقاء العين وكونها عند غيره ، فيأخذ من الغاصب بدل الحيلولة.

وبالجملة ؛ فظهر أنّ استناد هذا المعنى إلى المشهور بأن يكون بناؤهم في باب الضمان ذلك بعيد في الغاية ، لاستبعاد الإسناد إليهم المعنى الّذي يأباه الفهم العرفي استفادته من القاعدة.

الثاني : أن يكون المراد من لفظ «على» اعتبار وجود للعين على اليد من أوّل الأمر ولو حين وجود العين ، فإنّه يكون تحت اليد إلى حين الأداء ، بأن يكون المشهور اعتبر وجودا للعين المغصوبة حين الغصب «على اليد» المكنّى بها عن «العهدة» حتّى يردّ العين إلى صاحبها ، ولازم ذلك وجوب ردّ العين عند وجودها ، ومثلها عند تلفها لو كان لها المثل في الغالب ، وإلّا القيمة ، وقد أشبعنا الكلام في تحقيق هذا المعنى سابقا ، وأيضا ، لازم هذا المعنى استفادة الوضع من لفظ «على» من حين الغصب ، فلا يجري فيه المحذور السابق.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ لازم هذا المعنى ـ كما لا يبعد استناد ذلك إلى المشهور ـ أنّه ما دام وجود العين فهي ثابتة على الذمّة ، فعند تلفها وتعذّرها يتبدّل بالمثل لو كان مثليّا ، وبالقيمة لو لم يكن كذلك ، بمعنى أن تنقلب الذمّة إلى الذمّة الاخرى

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦.


بحيث يكون خلع ولبس ، فلذلك يترتّب عليه التوالي الفاسدة من عدم الدليل على انقلاب الذمّة وغيره.

ولكنّك خبير أنّه لازم لهذا المسلك مع ما ذكر ، وذلك لأنّه لم لا يجوز أن تكون نفس العين بجميع خصوصيّاتها ثابتة على الذمّة عند وجودها وبمرتبة منها ، وهي مثلها لو كانت مثليّا عند تلفها ، أو قيمتها لو لم تكن كذلك؟ بحيث تكون العهدة من أوّل زمن الاشتغال مشغولة بنفس العين إلى زمان الأداء ، إلّا أنّه في كلّ زمان بمرتبة منها ، فبسبب تعذّر العين يتبدّل حدّ وجوده وتشخّصه لا نفسها بشراشر وجودها كما في باب القسم الثالث من الاستصحاب الكلّي ، فبنوا على جوازه مع تبدّل الشخص فيه ، وقد ثبت في محلّه أنّه لا محذور في ذلك لكون الذات الّتي هي موضوع الاستصحاب باقية ، إلّا أنّه لمّا اعتبر لها مراتب فبذهاب المرتبة الشديدة منه لا يلزم أن ينقلب الموضوع ، بل هو بنفسه في المرتبة الضعيفة أيضا موجود ، فكذلك في ما نحن فيه لا بأس بأن نلتزم بمثله أبدا ، ولا يمنع عنه دليل أصلا.

فعلى ذلك ؛ لا يلزم التصرّف في قوله : «حتّى تؤدّي» أيضا ، كما هو لازم [على] المعنى الثالث ، وذلك لأنّك عرفت أنّ الثابت على الذمّة في كلّ آن إنّما هو ما يتمكّن من أدائه من نفس العين أو ما هو الأقرب إليها عند تعذّرها ، ومن المعلوم أنّه لا يجب الأداء إلّا ما هو ثابت على الذمّة ، وإن كان ذلك خلاف ظاهر لفظ القاعدة ، فإنّ ظاهرها أنّ المؤدّى يجب أن يكون نفس ما اخذ ، فيحتاج على هذا المسلك تصرّف في ظاهر هذه الجملة بأن يكون المراد أداؤه أو مرتبة منه بقدر المتمكّن عليه ، ولكن هذا التصرّف لا يضرّ بهذا المسلك ، لأنّه ستعرف أنّ


هذا على كلّ التقادير محتاج إليه.

نعم ؛ على هذا المعنى الإشكال في أمرين : أحدهما في أنّه إذا اختلف نقد البلد فعند تعذّر العين في القيمي أو المثلي المتعذّر مثله أيّ واحدة من النقود الّتي اعتبر ذلك مرتبة لنفس العين تثبت على الذمّة ؛ لأنّ أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، والغير المعيّن غير قابل للتحقّق ، والجامع أيضا أنكرناه سابقا.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنّه يثبت أحدها بنحو التخيير على سبيل البدليّة على الذمّة ، فتأمّل!

وثانيهما : أنّه ما الدليل على تبدّل مراتب العين بسبب التعذّر ما لم يصل زمان الأداء ، فلم لا يلتزم بثبوت نفس العين على العهدة إلى زمان الأداء فتتبدّل المرتبة حينه ، كما هو مبنى الاحتمال الثالث؟

وهذا أيضا ؛ مدفوع بأنّ هذه الامور الاعتباريّة تابعة لاعتبار العقلاء ، ويمكن الدعوى قريبا بأنّ اعتبار العقلاء (١) وجود العين في كلّ زمان إنّما يكون بما يمكن أداؤها ، ولا إشكال أنّه حين تلف العين لا يمكن إلّا أداء المثل أو القيمة ، ولا دليل على اعتبار العقلاء وجود العين وبقاءها عند التلف أزيد من ذلك.

الثالث : هو أن يكون المراد من لفظ القاعدة اعتبار بقاء العين بجميع خصوصيّاتها ولو بعد التلف «على اليد [ما أخذت] حتّى تؤدّي» فتنقلب إلى المثل أو القيمة حين الأداء ، بحيث يلاحظ النقص في العين عن خصوصيّتها وقت الأداء والالتزام بذلك لعدم تأدية العين بجميع مراتبها عنده.

__________________

(١) يستفاد من «جامع المقاصد» في باب الدين فيما لو أسقط السلطان الدراهم المقترضة ما يندفع به هذا الدفع ، بل يقوى به الاحتمال الأخير ، فراجع! «منه رحمه‌الله» ، (جامع المقاصد : ٥ / ٤١ و ٤٢).


وهذا ما سلكه بعض أعاظم المعاصرين في معنى القاعدة ـ كما أوضحناه في أوّل الباب عند شرح القاعدة ـ فالتزم بكيفيّة ثبوت الضمان كذلك (١).

ولا يخفى ؛ أنّ إثبات هذا المعنى موقوف أوّلا على مساعدة العرف واعتبار العقلاء وجود العين بخصوصيّتها على العهدة وعدم تنزّلها عن هذه المرتبة في طرف التلف ، فإثبات المعنى السابق ، كما لا يبعد الدعوى قريبا كونه مرادا للمشهور لا تبديل الذمّة ، واستظهاره من الحديث أقلّ مئونة من هذا المعنى ، وبعيد مساعدة العرف في هذا الاعتبار.

وثانيا ؛ إلى الالتزام بشبه استخدام في قوله : «حتّى تؤدّي» كما هو ظاهر.

هذه كلّها تصوّرات واحتمالات في الحديث ، وقد عرفت عدم السبيل إلى الالتزام بالأوّل ، وعدم الدليل لإثبات المعنى الثالث ؛ لعدم ثبوت مساعدة العرف له ، فيتعيّن الاحتمال الثاني الّذي بنينا على كون مسلك المشهور عليه.

فانقدح ممّا ذكرنا عدم الوجه للالتزام بضمان القيمة حين الغصب ؛ لعدم اشتغال الذمّة عنده إلّا بنفس العين ، وعدم اعتبار القيمة وقت الغصب والأخذ أصلا حتّى تشتغل الذمّة به.

وأمّا اعتبار قيمة وقت الأداء ـ كما ذهب إليه بعض محشّي «المكاسب» (٢) ـ أيضا فاسد ، لأنّ مبناه هو الاحتمال الثاني من معنى الحديث ، وقد عرفت عدم تماميّته.

وأمّا اعتبار أعلى القيم فنشير إلى بطلانه أيضا ، فيقوى القول بضمان قيمة

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٥٢٣ من هذا الكتاب.

(٢) حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ٩٦.


وقت التلف ؛ لما ظهر من أنّ حين التلف تتبدّل الذمّة بالمعنى الماضي من العين إلى القيمة في القيميّات فيتعيّن اعتبار القيمة عند التلف ، ضرورة أنّه عند ذلك تشتغل الذمّة بالقيمة ، فلا وجه ولا دليل على تبدّل الذمّة عمّا اشتغلت به إلى غيره ، بل الذمّة مستقرّة على ما تعلّقت به من القيمة ولا يزيلها عنها إلّا تأديتها ، كما لا يخفى.

هذا ما تقتضيه القاعدة في المقام فلا بدّ من الالتزام بها ما لم يثبت من الشرع ما يوجب رفع اليد عنها من المخصّص وغيره.

وإنّما الكلام في المخرج عن القاعدة ، فقد يقال : إنّ المستفاد من صحيحة أبي ولّاد المشهورة ما هو المخالف لها ، فالأولى البحث عنها بذكر بعض فقراتها بما يرتبط منها بالمقام.

فأقول : إنّ منها قوله عليه‌السلام في جواب السائل : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق أليس كان يلزمني؟ «نعم قيمة بغل يوم خالفته» (١).

فقد احتمل بعض : كون لفظ «نعم» جوابا عن النفي لا عن المنفيّ لأنّها جواب عن النفي ، فتصير معنى القضيّة أنّه ليس يلزمك ، كما في قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) فقد قيل : إنّه لو قالوا : «نعم» لكفروا ، فاللازم أن يقولوا : «بلى» لكونه جوابا للمنفيّ ، بخلاف «نعم» ، ومرجع هذا المعنى يكون إلى سكوت الإمام عليه‌السلام عن الجواب لتقيّة ونحوها.

ولكن أصل هذا المعنى مع ما يترتّب عليه كما ترى ، فالاحتمال القويّ في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩٠ الحديث ٣٢١٩٩.

(٢) الأعراف (٧) : ١٧٢.


هذه الفقرة سؤالا وجوابا أمران :

الأوّل : أن يكون غرض السائل استنكاره لضمانه الكراء مع ضمان العين لما ارتكز في ذهنه من أنّ الخراج بالضمان ، فكيف يجتمعان فيكون سؤاله استفهاما إنكاريّا لا حقيقيّا ، وغرضه الاحتجاج على الإمام عليه‌السلام بما يرى من التنافي بين ضمان العين وكون خراجها للمالك ، بل لا بدّ وأن يكون خراجها ـ أي منافعها ـ للضمناء فلا يتعلّق عليه الكراء ، وعلى هذا الاحتمال يكون الجواب غير مرتبط بالسؤال ؛ لأنّ لازم هذا السؤال أن يكون الإمام عليه‌السلام مجيبا بعدم التنافي لا بثبوت الضمان ، لكونه مسلّما عند السائل وعدم احتياجه إليه ، فكأنّه يرجع ذلك إلى إعراض الإمام عليه‌السلام عن الجواب الحقيقي ، فتأمّل!

الثاني : أن يكون الاستفهام حقيقيّا ، ومنشأه حكم أبي حنيفة بذلك (١) ـ أي بضمان المستأجر الدابّة عند مخالفته ، وجعل ذلك سببا لحكمه بعدم اشتغال ذمّة المستأجر بالكراء ـ فالسائل يستفهم فتوى الإمام عليه‌السلام وصحّة ما أفتى به أبو حنيفة من هذه الجهة أم لا؟ بل ذلك مثل الجهة الاخرى باطلة ، فعلى ذلك يكون الجواب مرتبطا بالسؤال ، ويكون غرض الإمام عليه‌السلام رفع جهل السائل.

والّذي يقرّب هذا الاحتمال هو قول السائل : «أرأيت لو عطب البغل» (٢) .. إلى آخره ، فإنّ الظاهر منه أنّه يريد استكشاف نظر الإمام عليه‌السلام لا كونه في مقام الاحتجاج والجدال.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٣٢١.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩١ الحديث ٣٢١٩٩.


وكيف كان ؛ فالّذي يحتمل في قوله عليه‌السلام : «يوم خالفته» (١) وجوه :

أحدها : أن يكون الظرف قيدا للملازمة الّتي سأل السائل عنها ، وهي الملازمة بين التلف وكون ضمان التالف عليه ، فأجاب الإمام عليه‌السلام عن ثبوت هذه الملازمة الّتي كانت مرتكزا في ذهن السائل يوم المخالفة ، فأخبر عليه‌السلام بتحقيق هذه القضيّة التعليقيّة يوم الغصب.

ثانيها : أن يكون متعلّقا بالجزاء فقط وهو لفظ «يلزمك» المستفاد من قوله عليه‌السلام : «نعم» ويكون المعنى : أنّه يلزمك يوم المخالفة قيمة التالف ، وهذا يرجع إلى أنّ تحقّق لزوم الضمان يوم الغصب على نحو الواجب المعلّق ، ولازم هذا المعنى أمران :

الأوّل ؛ كون الجواب ردع السائل [عن الوهم] لأنّه قد ارتكز في ذهنه تعلّق الضمان عليه يوم التلف وقد ردعه الإمام عليه‌السلام عنه بأنّه يتعلّق بك يوم المخالفة ، وهذا خلاف ظاهر سياق قضيّة الجواب وإن يدلّ على كونه عليه‌السلام في مقام التسليم ، كما لا يخفى.

الثاني : جعل الضمان عليه مستقرّا ليوم التلف ، أي من يوم الغصب يستقرّ على ذمّة الغاصب ضمان التالف ، وهذا مخالف للإجماع ، ضرورة أنّه لم يذهب أحد إلى استقرار الضمان على الغاصب بالأخذ ووضع يده على مال الغير ، بل التحقيق أنّ القضيّة التعليقيّة الّتي هي مفاد الضمان بحالها إلى حين التلف ، ولم يتعلّق بذمّة الغاصب شي‌ء ولو معلّقا إلّا بالتلف ، فظهر أنّ احتمال هذا المعنى بعيد في الغاية.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩١ الحديث ٣٢١٩٩.


ثالثها : أن يكون الظرف متعلّقا لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» إمّا باعتبار أنّ القيمة هي بمعنى العوض وهو مصدر ، أو يكون قيدا للاختصاص المستفاد من إضافتها إلى البغل.

هذه احتمالات في معنى هذه الفقرة من الحديث ، وأمّا لوازمها فمعنى الأوّل لا ينافي ما قلنا من اقتضاء القاعدة ضمان قيمة يوم التلف ؛ إذ قد ظهر أنّ المراد بالظرف على ذاك المعنى يكون أنّ من يوم صيرورة يد المستأجر يد ضمان يتعلّق بذمّته قيمة البغل ، وإنّما عبّر عنه بالنكرة للإشارة إلى أنّه لمّا كان البغل المستأجر ميّتا فيفرض بغل مثله فيعتبر قيمته به.

وبالجملة ؛ فلا يكون مدلول الحديث أزيد من ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى اعتبار أيّ يوم للقيمة فساكت ، ولا يستفاد منه شي‌ء من هذه الجهة كما هو ظاهر ، وكذلك لازم المعنى الباقي الّذي قد عرفت بعده أيضا مثل ذلك.

وأمّا المعنى الأخير ؛ فواضح أنّ لازمه تعيين يوم اعتبار القيمة وهو يوم الغصب أيضا ، فعليه تكون الجملة الجوابيّة مضافا لتعرّضها للجواب عن المسئول عنه ـ وهو ثبوت أصل الضمان ـ أيضا مشتملا على أمر زائد وهو تعيين اليوم الّذي لا بدّ من اعتبار قيمة البغل فيه.

وأمّا الكلام في استظهار هذه المعاني وترجيح بعضها على الآخر ؛ فلا يبعد استظهار المعنى الأخير ، فإنّ المتبادر من هذه المعاني إلى الضامن من أول الأمر خصوصا لمن كان خالي الذهن عن الاحتمالين الأخيرين ، هو أنّ الضمان يتعلّق بقيمة يوم المخالفة وانسباق المعاني الأخر إلى الذهن إنصافا يحتاج إلى مئونة زائدة على ما يتبادر من جملة «قيمة بغل يوم خالفته» كما لا يخفى.


ولكن الّذي يبعّد هذا المعنى هو أنّ الجواب لا ينطبق على السؤال كما ينطبق عليه غيره من الاحتمالين ، لأنّ السؤال إنّما هو عن أصل الضمان لا عن كيفيّته حتّى يصير هذا الجواب قابلا له.

وبالجملة ؛ إنّ الجواب على هذا المعنى لا يرتبط بالسؤال كما يرتبط الاحتمال الأوّل كما لا يخفى لمن تأمّل.

ولكنّ الّذي يشكل الأمر ؛ هو أنّ الأصحاب ما استفادوا من الحديث ذلك ، فإنّ من التزم بكون المناط في الضمان قيمة يوم التلف ـ كما أنّ الشهرة المتأخّرة مستقرّة على ذلك ـ قد أفتوا على خلاف هذا المعنى ، وإن كان لم يعلم كون وجه إفتائهم ومستندهم هذا الحديث ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو الفتوى بذلك وإن كان يحتمل أن يعتمدوا على هذا الحديث أيضا ، لاستظهارهم المعنى الأوّل منه ، وإحرازهم عدم الخصوصيّة لهذا القيد ، أي «يوم المخالفة» لاختلاف التعبير في الحديث ، فقد عبّر بعد ذلك بجملة «بيوم الاكتراء» وكذلك بعده عند بيان حكم الأرش قد اعتبر «يوم الردّ» فمن هذا الاختلاف استفادوا عدم الاعتبار بقيمة ذاك اليوم ، وإنّما عبّر به لعدم اختلاف القيمة غالبا من يوم الغصب إلى يوم التلف في خمسة عشر يوما ، وكذلك الّذين اعتبروا قيمة يوم الغصب أيضا ما تمسّكوا بهذا الحديث ، وإنّما اعتمدوا على ما توهّموا من اقتضاء القاعدة ذلك.

وبالجملة ؛ فيدور أمر الحديث بين طرح هذه الفقرة منه أو حمله على ما ذكر ، ولمّا لم يظهر اعتماد الأصحاب عليه ، فالظاهر أنّها مطرحة.

بقي الكلام في فقه الحديث بالنسبة إلى جزأيه الآخرين ، وهو قوله عليه‌السلام : «أو يحلف صاحب البغل أو يأتي بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء


كذا» (١) ، والمشكل فيهما أمران :

الأوّل : أنّ صاحب البغل مع أنّه مدّع للزيادة كيف يكون القول قوله؟

والثاني : أن الحلف والبيّنة ليسا وظيفتين لشخص واحد ، فكيف أضاف كليهما الإمام عليه‌السلام إلى صاحب البغل؟

أمّا الأوّل منهما ؛ فقد دفعوه بحمله على فرض نزاعهما في صورة التناقض بأن اجتمع صاحب البغل والمستأجر على كون قيمته قبل المخالفة أو التلف كذا ، ولكنّ المستأجر يدّعي نقصان القيمة عندهما عمّا كانت القيمة عليه قبل المخالفة أو التلف فأنكر المالك ذلك.

وأمّا الثانية ؛ فحمله شيخنا قدس‌سره على ما لو اختلفا في القيمة قبل التلف مع توافقهما على بقائها على ما كانت عليه إلى حين التلف ، فيكون الحديث متكفّلا لحكم صورتين من تنازعهما (٢).

هذا ؛ ولكن حمل الحديث على بيان حكم فرضين مختلفين بعيد عن مساقه ، كما لا يخفى ، فالأولى إمّا حمل الحلف على المتعارف منه لإقناع المنكر ، أو حمل البيّنة على إقامة الحجّة لشخص المدّعي لا لدفع الخصومة عند الحاكم حتّى قيل بأنّ إقامة البيّنة ليست وظيفة له ، بل يكون المراد بالبيّنة في المقام هو ما أشير إليه في رواية مسعدة من قوله عليه‌السلام : «الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين [لك غير ذلك] (٣) أو تقوم به البيّنة» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩٠ ذيل الحديث ٣٢١٩٩ ، مع اختلاف.

(٢) المكاسب : ٣ / ٢٥٢.

(٣) أثبتناها من المصدر.

(٤) وسائل الشيعة : ١٧ / ٨٩ الحديث ٢٢٠٥٣.


ومن البداهة ؛ أنّ ذلك لا ينافي كون إقامة البيّنة وظيفة للمدّعي لا للمنكر ، إذ هي ما تقوم عند الحاكم لا مطلق الحجّة المستفادة من الرواية الّتي هي وظيفة عامّة لا تختصّ ببعض دون بعض ، وقد خصّص ذلك بإقامة البيّنة المختصّة بالمدّعي عند الحاكم ، وبالنسبة إلى غيره على عمومها باقية ، فكلّ من أقام الحجّة الشرعيّة ، منكرا كان أم مدّعيا في غير الصورة المفروضة يجب على غيره قبولها وترتيب الأثر عليها.

والشاهد على كون المراد بالبيّنة ذلك لا القائمة عند الحاكم هو قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «فيلزمك» ضرورة أنّ اللزوم بمقتضى قول الشاهد في باب الخصومة مترتّب على حكم الحاكم لدخول الشهود. فترتيب الإمام عليه‌السلام الإلزام على الشهادة كاشف عن كون المراد بها هاهنا الحجّة لا البيّنة عند الحاكم حتّى ينافي الوظيفة ، فافهم!

ثمّ إنّه ؛ تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الأقوى في الأقوال والاحتمالات هو اعتبار قيمة يوم التلف ؛ إذ هو الّذي كانت تقتضيه القاعدة ، وقد عرفت أنّه لم يظهر من الحديث ما يخالفها ولا ما يصير مدركا لسائر الأقوال ، فظهر ضعفها أيضا فتعيّن المصير إلى ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا احتمال اعتبار أعلى القيم ؛ سواء كان من يوم الغصب إلى يوم التلف أو من يومه إلى الردّ فهو أضعف الأقوال ، ولا يساعده الاعتبار ، بل القاعدة الّتي هي أصالة البراءة تردّه ، فلا وجه لهذا القول أصلا ، إذ ما دامت العين باقية لا تلاحظ القيمة حتّى لو زيدت في الأثناء فتشتغل الذمّة بالأعلى ، وأمّا بعد التلف فتستقرّ على الذمّة القيمة الموجودة المفروضة للعين عنده ؛ لأنّ ما تشتغل الذمّة به لا بدّ


وأن يكون متقدّرا ، وإلّا فغير المتقدّر ليس قابلا لاشتغال الذمّة به ، ومن المعلوم أنّه إذا اشتغلت الذمّة بالقيمة المتقدّرة فليست قابلة للتبدّل إلّا بالتراضي ونحوه.

وبالجملة ؛ فلا يتصوّر أن تتبدّل الذمّة بنفسها عمّا اشتغلت به عند التلف إلى غيرها ، ولقد أجاد في «الجواهر» في ردّ هذا القول ، فراجع! (١)

فروع

ثمّ إنّ بعد ظهور الأحكام الكليّة للمثلي والقيمي والضابط بينهما ، هنا فروع جزئيّة نتعرّضها ، ففي «الشرائع» : (الذهب والفضّة يضمنان بمثلهما) .. (٢) إلى آخره.

لا يخفى ؛ أنّ هنا صورا : فإنّ الذهب والفضّة إمّا أن يكونا مسكوكين أو غير مسكوكين ، وكلّ منهما إمّا أن يكون فارغا ـ بمعنى أنّه لم يكن عليهما شي‌ء من الحليّ والصنعة ـ أو لم يكن فارغا ، وما يكون عليه الصنعة إمّا أن يكون صنعة محلّلة أو محرّمة.

أمّا لو كانا فارغين ؛ سواء كانا مسكوكين أو غير مسكوكين فلا إشكال في كونهما مضمومنا بالمثل دون القيمة ؛ لانطباق ضابطة المثلي عليهما على ما عرّفناه من أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة غالبة مثله فيما له المدخليّة في الماليّة ، فمناط المثليّة ذلك ، لا ملاحظة النسبة المتساوية في الأجزاء ، فإنّ هذا التعريف لا يتمّ طردا وعكسا ، بل أقلّ قليل من المثليّات تبقى تحت هذا الضابط ، وأكثرها يدخل في القيميّات كالمصنوعات بالمكائن في زماننا ، وغيرها ، كما أسلفنا ذلك.

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠.


وإنّما الإشكال هنا ؛ في المسألة من حيث الربا وجريانه في باب الضمانات كما بنى عليه المحقّق ، ولذلك أفتى في المقام فيما لو تعذّر مثلهما وانتهى الأمر إلى ردّ قيمتهما ، فلا بدّ من مراعاة شرائط الربا (١) من كون القيمة الّتي تكون من نقد البلد مساوية مع التالف وزنا مع كونها من جنسه ، وإن لم يكونا متساويين فيعطى القيمة من غير الجنس ، وعدم جريانه في الضمانات لعدم كونها معاملة معاوضيّة مع اختصاص أدلّة الربا بباب المعاوضات ، كما مال إلى ذلك صاحب «الجواهر» قدس‌سره (٢).

ولكن التحقيق : أنّه لو منع من جريان أدلّة الربا الواردة في باب المعاملات هنا لكان في محلّه ، لاختصاصها بباب البيع ، وإنّما تعدّى الأصحاب منه إلى غيره من أبواب المعاملات لتنقيح المناط الّذي لا ينطبق على باب الضمانات ، إنّما الكلام في جريان ما دلّ على حرمة الربا في باب القرض هنا لكونه أشبه بباب الضمانات من دون المعاملات ، فكما أنّ باب الغرامات ليست معاوضة ، بل إنّما هي ـ على ما بيّنا ـ خلاصة للماليّة الفائتة ، ومرتبة من مراتبها نظير قاعدة «الميسور» في العبادات ، فليس المأخوذ غرامة عنوانه عنوان العوض والبدل عن الفائت ، فكذلك باب الدين ، فليس ما يأخذه الدائن بدلا عمّا أعطى ، بل مرتبة من مراتبه بمعنى تجاوزه عن خصوصيّته وأخذ ماليّته في ضمن خصوصيّة اخرى ، فهو حين إعطائه الدين ليس نظره إلى تبديله بغيره ، بحيث يقوم شي‌ء آخر مقامه عند الأداء كما في المعاملات ، بل في الحقيقة نظره إلى أخذ شخص

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٨ و ١٠٩.


الماليّة الموجودة في ضمن العين وإرجاعها إلى نفسه ، فقول الدائن ـ مثلا ـ : عليك عوضه ، إنّما هو تضمين لا أن يكون تبديلا ، ولذلك إنّما بنوا عليه أنّ عند وجود العين لو ردّها المديون إليه يجب عليه القبول ، هذا موافق لما تقتضيه القاعدة في باب القرض ، وذلك لما عرفت من عدم كونه مشتملا على المعاوضة ، بل هو تضمين محض ، بحيث لو أمكن ردّ الخصوصيّة في كلّ المقامات يجوز له ذلك ويجب عليه القبول ، ولكن لمّا لم يمكن ذلك دائما فعليه أن يردّ الماليّة المحفوظة الغير الخارجة عن ملك المالك في ضمن خصوصيّة اخرى ، وهذا ؛ بخلاف باب المعاملات ، فإنّ فيها الخصوصيّة والماليّة خارجة عن ملك كلّ واحد من الطرفين وداخلة في ملك الطرف الآخر ، ويقوم مقامه بعنوان البدليّة ما يخرج عن ملك كلّ واحد منهما.

فإذا ظهر من ذلك كون باب القرض من سنخ باب التضمينات ، مع أنّه منع فيه عن الربا ، فكذلك لا بدّ من الاحتراز عنه في باب الضمانات مطلقا ، لجريان مناط المنقّح فيها كما تعدّوا عن باب البيع إلى غيره من المعاملات لذلك أيضا.

أقول : لا يخفى أنّه مع تسليم كون باب القرض من سنخ التضمينات دون المعاملات ظهور الفرق بين باب القرض وباب الغرامات ، وذلك لاشتماله على التمليك الاختياري أيضا ، ولا أقلّ من تمليك الخصوصيّة كما عرّف بأنّه عقد يفيد التمليك ، بخلاف باب الغرامات ، فليس فيها شائبة التمليك أبدا.

وبالجملة ؛ فباب القرض أوّلا فيه جهة معامليّة دونها ، وثانيا إنّ الضمان الجعلي غير الضمان الانجعالي ، ومن المعلوم أنّ التضمين المستلزم للربا ممنوع عنه دون ما لو استلزم ذلك الضمان القهري المترتّب على التلف ، ولذلك بنى ـ دام ظلّه ـ في خيار العيب ـ فيما لو كان العوضان ربويّين ـ بجواز أخذ الأرش عند


ظهور العيب في أحدهما ، وفاقا لجماعة من الأساطين (١) ، وإن استشكل فيه شيخنا قدس‌سره (٢) ، مع أنّ مستنده ما كان إلّا أنّ الأرش غرامة.

فانقدح بما ذكرنا أنّ إسراء حكم باب القرض إلى المقام مشكل ؛ لعدم خلوّ المسألة من القياس الّذي ليس من مذهبنا ، وإن دفع بعض ذلك ـ دام ظلّه ـ بما ليس بدافع (٣).

وأمّا فيما لم يكن فارغا بل كان عليهما صنعة محلّلة لها القيمة ، وهذا يكون على قسمين ، لأنّ المغصوب الّذي أضيف إليها الصنعة كلّية ـ سواء كان ذهبا أو فضّة أو غيرهما ـ إمّا يكون المصنوع انقلب حقيقته عند العرف ، كالقطن المغزول الّذي صار ثوبا ، أو لم ينقلب حقيقته ، مثل النحاس الّذي يصنع كأسا ، ففي الأوّل ؛ لمّا لم ير المغصوب وما عليها من الصنعة أمرين في نظر العرف ، ففيه المجموع يعدّ شيئا واحدا ، فإن كان مثليّا فيردّ المثل عند تلفه وإلّا فالقيمة.

ضرورة ؛ أنّ من أتلف ثوبا أو قماشا لم يصدق أنّه أتلف شيئين ، فبإتلافه أصل المادّة يجب ردّ المثل ، بأن يردّ مقدارا من الفطن أو الصوف أو غيرهما ، ثمّ يردّ قيمة الصنعة الّتي عملت فيهما.

وفي الثاني : فقضيّة عدّهما أمرين لعدم تبدّل الهيئة عند العرف ، بل النحاس ـ مثلا ـ بحقيقته الآن أيضا موجود ضمان أمرين : القيمة للصنعة ، والمثل للأصل.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ١ / ٥٣١.

(٢) المكاسب : ٥ / ٣١٨.

(٣) من أنّ ما ذكر من بعض الخصوصيّات في باب القرض ليس مقوّما للموضوع حتّى يضرّ باستخراج المناط وغيره ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».


وقد يشكل هنا أيضا ؛ فيما لو كان الأصل وما يردّ من قيمة الصنعة ربويّين بأن يكون نقد البلد من النحاس فلشبهة الربا قد يقال بمنع جواز ردّ الزيادة ، ولكنّ الأمر هنا أسهل ، بمعنى أنّه ولو منعنا في الصورة الاولى الزيادة لجريان الربا في باب الغرامات فلا يلزم المنع هنا ؛ لضرورة الفرق بينهما ، وذلك لأنّ ما يؤخذ هنا من الزيادة هو في مقابل الصنعة الّتي لها القيمة عند العرف ، ولا ربط لها بالأصل ، بخلاف الصورة الاولى ، فإنّ فيها لا يقع في مقابل الزيادة شي‌ء سوى الأصل.

أقول : لو قلنا بأنّ في باب الربا المصنوع وغير المصنوع يعدّان جنسا واحدا ، وغير منقلب عن أصله ، بمعنى لا يعدّ الصنعة أمرا زائدا على الأصل حتّى يصحّ اعتبار قيمة لها فيشكل الأمر هنا ، كما لا يخفى ، إلّا أن يقال بأنّ الممنوع منه إنّما هو في باب المعاملات فلا يجوز فيها جعل كلّ واحد منهما عوضا عن الآخر ، إلّا أن يكونا متساويين بخلاف المقام ، فتأمّل!

تأسيس الأصل عند الشكّ في المثلي والقيمي

بقي الكلام في بيان تأسيس الأصل في المثلي والقيمي فيما إذا دار الأمر بينهما عند الشكّ ، ولا يخفى أنّ الأصل في ذلك يختلف على اختلاف المسالك في باب الضمان في كيفيّته.

أمّا على ما ينسب إلى المشهور (١) من أنّ بناءهم على أنّ ما دام بقاء العين لا تشتغل الذمّة بشي‌ء أصلا ، وإنّما الاشتغال بالمثل أو القيمة إنّما هو عند التلف ،

__________________

(١) وليس مع بقائها إلّا الحكم التكليفي المحض بوجوب الردّ والأداء ، كما صرّح به في «الجواهر» في طيّ الكلام في بدل الحيلولة (جواهر الكلام : ٣٧ / ١٣٠ ـ ١٣٣) ، «منه رحمه‌الله».


فلا إشكال أنّه لمّا يصير الأمر من باب دوران الأمر بين المتباينين ؛ ضرورة أنّه لا يعلم أنّ من أوّل الأمر ـ أي حين التلف ـ أيّهما تعلّق بالذمّة ، فلا أصل في البين نجعله مرجعا ، فالأمر يرجع إلى الصلح ، كما هو المرجع مطلقا في حقوق الناس عند عدم الأصل ، ويمكن الالتزام بالرجوع إلى القرعة ، لكونه لكلّ أمر مشكل ، لا إلى التنصيف في المثل والقيمة إن تمّ دليل القرعة.

أقول : لا مانع هنا من الرجوع إلى الاحتياط لتحصيل البراءة كما هو الأصل في دوران الأمر بين المتباينين ، إلّا أنّ الفرق بين المقام وحقوق الله أنّه لمّا كان تحصيل البراءة فيها متوقّفا على الجمع بين المتباينين في الأداء فالتزم به ، بخلاف المقام فهي تحصيل بأداء المثل ، وإن كان يمكن أن يقال بأنّ ذلك موقوف على العلم باشتغال الذمّة بما زاد على القيمة ـ أي المثل ـ حتّى يكون المبرئ للذمّة يقينا هو المثل ، والمفروض أنّ الشكّ إنّما هو في أنّ الذمّة بأيّهما اشتغلت من أوّل الأمر ، فهذا يناسب القول باشتغال الذمّة أوّلا بالعين ثمّ انقلابها بالتلف المثل أو القيمة.

وأمّا ما قوّينا كونه مسلكا للمشهور فعليه الأصل يقتضي ردّ المثل ، وذلك لأنّ المفروض أنّه اشتغلت الذمّة بنفس العين بجميع مراتبها الشخصيّة ، فيحصل الشكّ في أنّه بسبب التلف خرجت من الذمّة بجميع مراتبها سوى مرتبة قيمته أم لا ، بل بقيت عليها بمرتبة مثلها؟ ولا ريب أنّ المتيقّن ذهابها عن الذمّة بمرتبتها الشخصيّة ، أمّا المثليّة فمشكوك فيه فيستصحب بقاؤها بهذه المرتبة ، فيتعيّن المثل ، ويمكن التمسّك بالاشتغال أيضا إذ الذمّة اشتغلت أوّلا بالعين ، وبالتلف لمّا لم يمكن أداء نفسها فتنقلب فيشكّ في أنّه هل بردّ القيمة تحصل البراءة أم لا؟


والأصل عدم حصولها إلّا بردّ المثل.

إن قلت : إنّ قاعدة الإتلاف وإن كانت تقتضي ما ذكر من ثبوت نفس العين على الذمّة الّذي لازمه عدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بردّ المثل ، إلّا أنّ القاعدة مخصّصة بالتعذّر بمعنى أنّه عند تعذّر المثل لا يجب إلّا ردّ القيمة.

لا يقال : إنّ التعذّر مخصّص عقلي ولا محذور من التمسّك بالعامّ المخصّص بالدليل اللبّي في الشبهات المصداقيّة.

لأنّا نقول : مضافا إلى كون مخصّص بالدليل اللفظي أيضا كما اشير إليه سابقا ، مثل صحيحة أبي ولّاد (١) والسفرة المطروح فيها اللحم (٢) وغير ذلك (٣) ممّا حكم فيه في لسان الأخبار بردّ القيمة.

قلت : ليس هذا هو التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ؛ لأنّ المصداق للعامّ انطباقه أوّلا كان محرزا مسلّما ، بل إنّما المتمسّك به هو استصحاب العامّ الثابت أوّلا يقينيّا.

أقول : ولكن هذا يتمّ لو بني على كون تبدّل العين الثابتة على الذمّة بالغصب ، وتنزّلها إلى القيمة في القيمي بالتلف إنّما يكون بعد تنزّلها من الخصوصيّة العينيّة إلى المثل أوّلا ثمّ منه إلى القيمة ، بحيث يفرض لذلك درجات ومراحل في المثليّ المتعذّر ، لا بأن تكون العين في القيميّات متبدّلة ومتنزّلة إلى القيمة من أوّل الأمر حتّى يصير من دوران الأمر بين المتباينين ولم يبق موضوع

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩٠ الحديث ٣٢١٩٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٣ الحديث ٤٢٧٠.

(٣) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١١٩ الباب ١٧ من أبواب كتاب الإجارة.


للاستصحاب مع أنّه مجال للمنع عن ذلك.

وأمّا على المسلك الثالث ؛ وهو بقاء نفس العين بهويّتها على الذمّة إلى حين الأداء ، فعنده لو كانت تالفة ينقلب إلى المثل أو القيمة عند التعذّر النوعي للأوّل وعدم القدرة على أدائه كذلك فلا [شكّ] في أنّ المرجع استصحاب بقاء الاشتغال إلى أن يردّ المثل.

ضرورة ؛ إنّما الشكّ في أنّه هل العين الثابتة على الذمّة بجميع خصوصيّاتها حتّى المثليّة انقلبت إلى المرتبة الماليّة الصرفة الّتي تتعيّن في القيمة أم لا ، بل إنّما التنزّل بمرتبتها الشخصيّة فقط دون المثليّة؟ والاستصحاب يقتضي ذلك ، أي انقلاب المرتبة الشخصيّة دون المثليّة ؛ لأنّ المتيقّن هي لا غير.

هذا ؛ فيما إذا شكّ في أصل ضمان المثل أو القيمة ، أمّا فيما إذا شكّ في طروّ التعذّر وعدمه ، بمعنى أنّه كون أصل الضمان مثليّا لا إشكال فيه ، وإنّما الشكّ في أنّه يصدق التعذّر بعد ذلك للإعواز ومثله أم لا؟ لا يخفى أنّ الأصل في هذه المسألة يختلف باختلاف المبنى في باب الاستصحاب ، من أنّه عبارة عن جعل المماثل أو الأمر بالمعاملة.

وتفصيل ذلك ؛ أنّ فرض المسألة إنّما هو فيما إذا كان ضمان المثل معلوما ، أي يكون التالف ممّا يكون له نوعا ما يساويه في الماليّة ، وكان حين استقرار الضمان ، له الأفراد الغالبة ، ثمّ بعد ذلك لعلّة الوجود أو غيره شكّ في أنّه انقلب إلى القيمة لصدق عنوان التعذّر وعدمه ، أم لا؟ فلا إشكال في أنّ الأصل في المقام هو الاستصحاب ويصير مثل ما لو نذر إطعام زيد في كلّ يوم فشكّ في يوم في حياته ، فهل المراد باستصحاب حياته هو عمل معاملة الحياة معه أو جعل


مماثل للحكم السابق وهو وجوب الإطعام في طرف الشكّ؟

فإن بيننا على كون المراد به جعل المماثل ففي المقام لمّا يرجع الشكّ إلى ثبوت الحكم الشرعي الّذي منشأه القدرة ، إذ لا فرق في الشكّ في الحكم بين الحكم الظاهري والواقعي فيشكّ في أصل توجّه «لا تنقض اليقين» (١) .. إلى آخره ، فلا بدّ من الاحتياط كما في مطلق المقامات لو شكّ في ثبوت الحكم من جهة القدرة ؛ ولا يتوهّم أنّ الشكّ إنّما هو في أصل التكليف فالمرجع البراءة ؛ إذ هو في غير ما إذا نشأ الشكّ من جهة القدرة ، إذ المفروض أنّها شرط عقليّ لا يؤثّر في وجود الحكم ، بل الحكم وجوده لتماميّة ملاكه تامّ ، وإنّما الشكّ في مسقط هذا الحكم ، فلا محيص عن الاحتياط الّذي قد يتحقّق بالفحص.

وبالجملة ؛ فمقتضى الاحتياط على هذا هو ضمان المثل وعدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بأداء المثل.

وإن بيننا على كون الاستصحاب هو الأمر بالمعاملة مطلقا وإن كان مقتضى ذلك أيضا ضمان المثل إلّا أنّه إنّما هو يثبت بنفس حكم الشارع ، فإنّ الشكّ لمّا يرجع إلى بقاء القدرة ، والمفروض أنّ استصحابها عبارة عن معاملة ثبوت القدرة الواقعيّة مع القدرة المشكوكة عند كونها مسبوقة بالحالة السابقة ، فبإثباتها بذلك يترتّب نفس حكم الشارع الثابت سابقا على موضوعه ، بخلاف المبنى الأوّل ، فإنّ ثبوت الحكم كان بحكم العقل ، فتأمّل!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.


أحكام بدل الحيلولة

هذا تمام الكلام في بيان الاصول في المسألة فلنشرع في بيان جملة من أحكام بدل الحيلولة ، مضافا إلى ما أسلفنا بعد ذكر جملة الفروع الّتي أسقطناها هنا ، ولم نذكرها لوضوحها

قال في «الشرائع» : (وإذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل) (١) .. إلى آخره.

أقول : هنا فروع لا بدّ من ذكرها.

[الفرع] الأوّل : لا يخفى أنّ استحقاق المالك عين ماله الّذي يستحقّ بسببه البدل له موارد :

الأوّل ؛ تلفها حقيقة.

الثاني ؛ ما يكون في حكم التلف.

الثالث ؛ تعذّر الوصول فعلا إلى العين.

ففي الأوّل ؛ فما يؤدّيه المتلف من البدل يملكه المالك مستقرّا ، فيكون بمنزلة دين عليه قد أدّاه.

وفي الثاني ؛ كما إذا غرقت العين أو سرقت ، بحيث يكون عودها محالا عادة ويعدّ عند العرف بحكم التلف ، فهنا أيضا يكون ما يؤدّيه أيضا كالدين المستقرّ على عهدته ، ويخرج ـ على ما يظهر من بعض الكلمات (٢) ـ العين

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤١.

(٢) مفتاح الكرامة : ٦ / ٢٥٥ ، والمستفاد من كلامه عدم خروج العين المغصوبة عن ملك المالك ؛ بالحيلولة إجماعا.


المغصوبة عن ملك صاحبها ويدخل في جملة المباحات ، بحيث لو خرجت من الماء ـ مثلا ـ ووقعت في الساحل فاستحقاق مالكها لها ليس إلّا من باب الأولويّة لا الملك.

وفي الثالث ؛ أمّا أوّلا فالكلام في صدق التعذّر الموجب لانقطاع سلطنة المالك فعلا عن خصوصيّة العين ، بمعنى أن لا يكون له حقّ الإلزام على إحضار العين ، بل ينقلب إلى البدل من المثل أو إلى القيمة ما دامت العين غائبة ، المسمّى ذلك ببدل الحيلولة.

فالظاهر ؛ أنّ التعذّر الموجب لسقوط التكاليف لا يكفي هذا المقدار منه لذلك ، لما أشرنا مرارا من أنّ قاعدة السلطنة المستفاد منها هو الحكم الإرفاقي الامتناني ، فليست قاعدة الحرج قابلة لمنع جريانها ، بل المرجع في ذلك هو العرف ، بأن يكون إحضار العين عندهم متعذّرا من وصوله إلى حدّ ما لا يطاق العرفي ، وإن لم يكن ممّا لا يطاق عادة ، وإلّا فمطلق العسر لا يكفي في صدقه.

وثانيا : لا إشكال ظاهرا في صيرورة المغصوب منه مالكا للمأخوذ غرامة بعنوان بدل الحيلولة ، وعدم خروج المأخوذ منه بذلك عن ملكه ، وتوهّم أنّ ذلك موجب للجمع بين العوض والمعوّض ، فاسد ؛ لما أشرنا إلى وجهه سابقا.

وحاصله : أنّ المال المأخوذ بإزاء مال يكون على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يكون بعنوان البدليّة وكونه قائما مقام المال الأوّل ، فهذا يستحيل دخول المال الثاني في ملك المالك الأوّل بلا خروج البدل عن ملكه ، وذلك كما في باب المعاملات والعقود المعاوضيّة.

وقد لا يكون كذلك بل المقصود أخذ عين المال بخصوصيّتها الشخصيّة


ولكن لمّا لم يمكن ذلك لعذر ونحوه فيؤخذ ما أمكن منها ـ وهو ماليّتها المعيّنة في ضمن خصوصيّة غيرها ـ فهذا المأخوذ ليس بعنوان البدليّة حتّى يستلزم ما ذكر ، بل في الحقيقة مرتبة من مراتب نفس العين ، وهي المرتبة الماليّة الممكن الوصول إليها ، وقد بنينا على أنّ باب الضمان إنّما هو نظير باب «الميسور» في التكاليف ، فقاعدة اليد لمّا تقتضي الخروج عن عهدة التكليف المتوجّه من قبل الوضع فلا بدّ من الخروج عنها بما أمكن ، إمّا بردّ المأخوذ بجميع مراتبه المتعيّنة في شخصه وإمّا بردّ ماليّته إن لم يمكن الاولى وهذا أيضا في ضمن المثل أو القيمة على حسب ما تقتضيه العين عند التلف.

وبالجملة ؛ فالسلطنة المستقرّة للمالك على عين ماله تقتضي جواز مطالبتها لها في كلّ آن ، والمفروض أنّ ضمان العين ثابت على ذمّة الغاصب بمقتضى قاعدة اليد ، فلازم هاتين القاعدتين استحقاق المالك مطالبة ماله في كلّ زمان ، وكذلك وجوب ردّه على الغاصب إليه ، إلّا أنّ الجمع بين ذلك وعدم تكليف الغاصب بما لا يطاق يقتضي إلزامه بقدر ما أمكنه بردّ ما استحقّ المالك ، وهذا يكون عند عدم التمكّن من ردّ العين بردّ العين بماليّتها.

فهذه المالية المردودة ليست شيئا في مقابل العين ، بل هي في الحقيقة في عالم التحليل والاعتبار بمنزلة خلاصة مأخوذة من نفس العين ، مثل الدهن المأخوذ من الشي‌ء ، أو كالعصير المأخوذ من العنب ، فكما أنّ فيهما المالك مالك لأمرين : العصير والشكل الباقي منه ، فكذلك تعيين الماليّة في شخص عين اخرى وأخذها في تلك العين لا يوجب خروج العين المغصوبة من ملك صاحبها ودخولها في مال الغارم ، لعدم اعتبار البدليّة أصلا ، فلا يلزم الجمع بين العوض


والمعوّض ؛ إذ هما أمران اعتباريّان تابعان للاعتبار ، وبعد أن ظهر الاعتبار في باب الغرامات وبدل الحيلولة على خلافها ، بل هو اعتبار خاصّ لا ربط بباب المعاملات ، فلا وجه للتوهّم المذكور.

ثمّ إنّ لازم ما ذكرنا تملّك المغصوب منه بدل الحيلولة كتملّكه سائر أمواله بلا نقص فيه ، فيجوز له التصرّفات الماليّة بأقسامها فيه ، وذلك لاقتضاء عناية البيان المذكور ذلك ، فكما أنّ المأخوذ منه كان ملكا له فكذلك بدل الحيلولة لمّا كان بمنزلة العين بمرتبتها الماليّة يصير ملكا تامّا له بلا تفكيك في الجهات ، وإن كان شيخنا قدس‌سره زعم أنّ المأخوذ بدلا إنّما هو عوض عن سلطنة المالك الفائتة عنه دون ملكيّته ؛ إذ هي باقية (١) فالتزم بصحّة تصرّفاته المالكيّة فيه من نقله وإجارته ونحو ذلك على الكشف ، كما في المعاطاة ، ولكن قد أشرنا إلى ضعف ذلك بأنّه لو لم يصير البدل ملكا له بل كان عوضا قائما مقام سلطنته الممنوعة عنها ، فلا بدّ أن يكون ممنوعا عن التصرّف في البدل بما أمكنه التصرّف في ملكه المغصوب ممّا لا يتوقّف على الماليّة ، بل تكفي المملوكيّة في نحوه كأن يعتقه ، لأنّ المفروض أنّ سلطنته من ماله من هذه الجهة ما انقطعت ، فكيف يكون له جائزا أن يتصرّف في البدل من هذه الجهة أيضا ، مع أنّه بالإجماع يجوز له مطلق التصرّفات في البدل (٢).

ثمّ انقدح ممّا ذكرنا حال العين المغصوبة فإنّها باقية على ملك صاحبها ، وأمّا ماليّتها فهي تكون في حكم المباحات بالأصل إذ لا يجوز للغاصب التصرّف

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٢٦١.

(٢) من عتقه ، أو غير ذلك ، «منه رحمه‌الله».


فيها حتّى ينتفع من ماليّتها ، والمفروض أنّ المالك ممنوع عن التصرّف ، ولا إشكال أنّ اعتبار المالية إنّما هو من حيث الانتفاع ومستتبع للتصرّف.

وبالجملة ؛ الماليّة القائمة على العين المغصوبة فما دامت ممنوعة ؛ حكمها حكم المباحات ترجع إلى المالك تبعا للعين عند رجوعها.

الفرع الثاني : لا إشكال أنّه يجب على الغاصب إرجاع العين إلى المالك فورا عند رفع التعذّر ، ولا يجوز له حبسها حتّى يأخذ البدل ، ولا يقاس المقام بباب المعاملات ، إذ مع كمال الفرق بين الباب وباب المعاملات أنّ الحبس فيها يثبت بالبدل وإلّا فالقاعدة تقتضي فيها وجوب الردّ وعدم جواز التوقيف وإيجاب ردّ المال إلى صاحبه فورا.

الفرع الثالث : لمّا عرفت أنّ بدل الحيلولة عوض عمّا يكون وأيّ شي‌ء ثمرته وخاصيّته ، فلا ينبغي الشكّ في أنّه بعد رفع التعذّر وإحضار العين يجب ردّ الغرامة المأخوذة إلى الغاصب ، ولكن ذلك يتوقّف على رفع الحيلولة المسبّبة للبدل ، وهل يكون الارتفاع بمطلق الإحضار ورفع العذر ، أم يتوقّف على أداء العين وإيصالها إلى المالك؟ وجهان : الأقوى الثاني ؛ إذ لا يصدق رفع الحيلولة عرفا على مطلق الإحضار (١) بل الشكّ يكفي في الحكم بعدم وجوب الردّ لاستصحاب بقاء الحيلولة والملكيّة الثابتة للمالك في البدل عند التعذّر.

الرابع : الظاهر أنّه بعد تمكّن ردّ العين برفع التعذّر لا ينقلب الضمان الثابت للعين أوّلا من كونه ليوم التلف ، إذ لا مقتضى للانقلاب ، ومن المعلوم أنّ التعذّر في ردّ العين مدّة من الزمان ليس أمرا قابلا لأن يبدّل كيفيّة الضمان ، بل هو على

__________________

(١) كما يقتضي ذلك قاعدة اليد المغيّاة بالأداء أيضا ، «منه رحمه‌الله».


ما تقتضيه طبيعة الضمان من يوم وضع اليد على مال الغير من ضمان يوم تلفه ـ على ما حرّرناه ـ باق ، فظهر لك أنّه لا وجه لما ذكر غير ذلك من الاحتمالات في المقام ، فراجع!

الخامس : لا إشكال أنّ مسألة تعاقب الأيادي تجري في باب الحيلولة أيضا ، فهنا إذا رجع المالك إلى الغاصب الأوّل وأخذ منه بدل الحيلولة فله الرجوع إلى اليد اللاحقة ، كذلك للثانية إلى الثالثة حتّى يستقرّ في يد من وقعت الحيلولة في يده ، فإذا رجعت العين إلى صاحبها فتأخذ الأوّل البدل عنه ، وكذلك كلّ يرجع إلى سابقه ويأخذ منه ما أعطى ، وتوهّم أنّ ذلك مختصّ بباب التلف ، فاسد كما لا يخفى.

في «الشرائع» : (على الغاصب الاجرة إن كان ممّا له اجرة في العادة) .. إلى آخره (١).

وقع الخلاف هنا في أنّ القيمة المأخوذة للاجرة [هل] تجب من حين الغصب إلى أداء بدل الحيلولة ، أم منه إلى حين ردّ العين؟ ولا يخفى أنّ إطلاق القولين بعيد.

فالتحقيق أن يقال : إنّ البدل المأخوذ قد يكون من حيث القيمة بإزاء العين المقوّمة مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر أو يوم بكذا ، مثلا : لو كان العين في حدّ ذاتها لها عشرة توامين ولو لوحظت مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر لها الخمسة عشر تومانا ، فإن لوحظت العين على النحو الأوّل ـ أي تقوّمت العين مع ما لها من الاجرة مجموعا فأخذ البدل المقابل لنفس الذات ـ فلا بدّ أن تؤخذ الاجرة من

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٢.


حين الغصب إلى حين ردّ العين ؛ لأنّ المفروض أنّ البدل عن الاجرة ما استوفي ، وأمّا [إذا] لوحظت العين مع ما لها من الاجرة فتقوّمت مجموعا فاخذ بدل الحيلولة أيضا عن العين المقوّمة بهذه الكيفيّة ، فعلى الغاصب الاجرة من حين الغصب

إلى حين تأدية البدل كما قوّاه المحقّق (١) لثبوت المقتضي كذلك بخلاف الفرض الأوّل.

في «الشرائع» : (ولو غصب ماله اجرة وبقي في يده حتّى نقص) .. إلى آخره (٢).

لا إشكال أنّه يضمن الغاصب الاجرة وما نقص من العين كليهما ؛ لعدم وجود ما يوجب سقوط قيمة النقص ، والاجرة لا تصلح لذلك ؛ لأنّها عوض عن المنافع ، ولا ربط لها بنقص العين.

نعم ؛ في باب إجارة ما يتوقّف الانتفاع منه على استعمال شي‌ء من العين وبتنقيص منها كما في الحمّام ، فإنّ الانتفاع منه متوقّف على صرف شي‌ء من الماء ، فقالوا في مثله بعدم ضمان النقص المزبور ، بل إنّ ما يأخذه من الاجرة يقع عوضا عنه ، ولكن لا ربط له بالمقام لكون تلك المقامات كالإجارة ونحوها مشتملة على الإذن ، فيباح للمنتفع التصرّف بلا ضمان ، بخلاف المقام فإنّه لا إذن حتّى يصير مسقطا ، والأصل أيضا عدم التداخل فلا محيص عن الالتزام بضمان الأمرين ، والله العالم.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٢.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٣.


البحث في اللواحق

الجهة الخامسة في اللواحق ؛ قال في «الشرائع» : (إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب فإن كانت أثرا) .. إلى آخره (١).

لا إشكال أوّلا أنّ ما يحدثه الغاصب في العين المغصوبة لو لم يزد فيها شيئا عينا فلا يتعلّق بها له حقّ ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بلا إذنه ، فلمّا يكون الأمر المحدث من توابع العين فيصير مالا للمالك ، ولذا فلو تصرّف فيها بإزالة ما أحدث يكون ضامنا لما زيد عليها من القيمة تبعا للأثر الحادث ، لأنّه أيضا تصرّف في مال الغير بتنقيص في عينه.

إنّما الكلام في بعض فروع المسألة ؛

الأوّل : لو أمر المالك بإزالة الزيادة الحاصلة في العين بإلزام الغاصب على إزالة الصنعة الّتي أوجدها فيها ، كما لو صاغ النقرة حليّا فهل يضمن الغاصب قيمة هذه الصنعة ، أم لا؟ فالمشهور على أنّه لا يضمن ؛ لأنّها وإن تكون ملكا لصاحب العين ، ولكن لمّا هو بنفسه أمر بإتلافها فلمّا يستند التلف بنفسه فلا يؤثّر حينئذ ما يقتضيه الضمان اليدي للغاصب ، فليس موجبا لضمانه بعد أصلا.

وأشكل عليهم بأنّ الأمر بإتلاف لو كان موجبا لرفع الضمان الثابت باليد للصنعة لكان اللازم أن يرتفع بذلك ضمان العيب المحدث في العين من الكسر وغيره تبعا لإزالة الصنعة مع أنّه لا إشكال في ضمانه لذلك ، ومن هذه الجهة قيل فيها ـ أي الصنعة ـ بالضمان أيضا لأنّها ليست في الحقيقة مستندا بأمر المالك ، بل

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٣.


الإزالة من لوازم ردّ العين إلى حالها الأصلي.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مقتضى قاعدة اليد ضمان الكسر ونحوه وعدم ضمانه الصنعة ، وذلك لأنّ المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) أنّ ارتفاع الضمان عن العين بما لها من المراتب والتوابع إنّما موقوف ومغيّا بأداء العين على حالها الّذي أخذها ، فيختلف بذلك أنحاء الأداء على حسب الأوقات ، ولا ينافي ذلك كون ما يزيد في العين من حين الأخذ إلى حين الأداء مضمونا أيضا ، لأنّ على هذا يكون المعنى أنّ العين مضمونة في كلّ آن بحالها الّذي هي عليه إلى أن يؤدّيها على حالها الّذي أخذها ، ففي حالها الّذي يكون عليها زيادة فيجب على الغاصب أن يؤدّيها مع الزيادة ، ولكن لو عصى ولم يؤدّها حتّى زالت عنها الزيادة ، فإن أدّاها بعد ذلك على حالها الّتي كانت عليها وقت الغصب والاستيلاء فليس عليه شي‌ء وإلّا فعليه النقص الحاصل ، ولازم ذلك أنّه لو عصى وما أدّاه فتلفت في حال يكون عليها زيادة فهو ضامن للعين والزيادة ؛ لأنّ ضمان كلّ وقت إنّما هو يكون على الكيفيّة الّتي تكون العين عليها ، فلمّا تلفت في هذه الحالة فمضمونة عليها والمفروض أنّه ما حصلت التأدية أيضا بحال الّذي كان عليها حين الغصب حتّى يرتفع ضمان الزيادة.

وبالجملة ؛ فإن استظهر هذا المعنى من الحديث الشريف كما يشعر بذلك قوله في «الجواهر» في المقام : (واحتمال الفرق) .. إلى آخره (٢).

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٥١.


فالفرق بين الكسر الحاصل في العين والصنعة الزائلة (١) واضح ، وعلى ذلك فليس النقض الّذي أورده بعد ذلك من أنّ لازم هذا الاحتمال عدم الضمان أيضا ، ولو تعمّد الغاصب في إزالة الصنعة بلا إذن من المالك ، فتأمّل!

هذا ؛ ولكن لازم هذا المبنى عدم ضمان الغاصب ـ مثلا ـ للسمن الحاصل في الغنم ونحوه عنده لو زال ولم يبق إلى حين الردّ ، مع أنّ الظاهر أنّ ضمانه لذلك إجماعيّ.

فالتحقيق ؛ هو الالتزام بالفرق بين مقدّمة المأمور به ، ولوازمه من مقارناته ، وتفصيل ذلك هو أنّه لا إشكال أنّ بعض الامور يكون من مقدّمات المطلوب والمأمور به كما إذا أمر الغاصب بإخراج الخشب المغصوب من مكان لا يمكن إخراجه منه إلّا بكسره وتنصيفه ـ مثلا ـ حتّى يخرج ، وبعضها من لوازمه مثل ما لو كان المغصوب في مكان بعيد يوجب إحضاره نقصانه من هزالة ونحوه ، وبمثل ذلك بيّنا الضابطة بين الضدّ والمقدّمة.

وكيف كان ؛ ففي مثل الأوّل لا موجب للضمان ؛ لأنّ المفروض كون النقصان من مقدّمات المأمور به وما يتوقّف عليه مطلوب المالك ، ومن أنّ الأمر بالشي‌ء أمر بمقدّماته ، فإذا أمر بردّ العين إلى حالها الأوّل ، سواء أمر بإتلاف الصنعة بالصراحة أو لا ، فلمّا يكون إتلافها مقدّمة لردّ العين بحالها بحيث يرى العرف ذلك من موانع الأمر ، فالنقص من الهزال ونحوه يستند إلى المالك ، مثل ما لو أمر بإخراج غنمه عن مكان يتوقّف خروجه منه على إراءتها الذئب حتّى يهزل

__________________

(١) لأنّ الكسر يوجب تغيير العين عن الحالة الّتي كانت عليها عند الغصب بخلاف الصنعة الزائلة ، «منه رحمه‌الله».


فيخرج فهو بنفسه متلف لماله.

وأمّا في الثانية ، فالضمان على الغاصب لأنّ نقصان العين نشأ من إيجاد المأمور به ، بمعنى أنّ الهزال الناشئ من جهة إحضار الغنم من المسافة البعيدة إنّما هو إمّا مؤخّر عن وجود المطلوب وهو إحضاره ، أو مقارنه لا أن يكون مقدّمة له حتّى ينتسب إلى الآمر من ناحية المالك ، ولا ريب أنّ الكسر الحاصل في عين الفضّة إنّما هو من هذا القبيل إذ هو متأخّر عن إتلاف الصنعة الّذي هو المأمور به دون نفس الكسر ، وكذلك الهزال المتوقّف إحضاره على سيره بمسافة بعيدة ، بل هما متأخّران رتبة وخارجان عن موجبهما ، وهما إتلاف الصنعة وسيره المسافة المترتّبان هما على الأمر وطلب المالك ، فظهر من ذلك أنّ ما عليه المشهور في المقام هو ما تقتضيه القاعدة أيضا ، كما لا يخفى.

الفرع الثاني : في حكم مطلق تغيير العين المغصوبة ، ففي «الشرائع» : (إذا غصب دهنا كالزيت أو السمن) .. إلى آخره (١).

لا بدّ أن يعلم أوّلا أنّ لتغيير العين بسبب الاختلاط والامتزاج صورا : لأنّ الاختلاط إمّا أن يكون بالجنس أو بغيره ، وفي الفرض الأوّل ؛ إمّا أن يكون العين المغصوبة بالنسبة إلى المخلوط به بمثابة من القلّة لا يرى العرف بعد خلطه به له وجودا بحسب المادّة والصورة ، كما إذا خلط قطرة من الدهن بمقدار منه الّذي يكون نسبته إليه كنسبة قطرة من الماء بالنسبة إلى كرّ منه.

وإمّا أن لا يكون العرف يراه كذلك ، بل يرون العين المغصوبة المختلطة باقية بمادّته وصورته ، وإنّما الخلط تبدّل حدّه بحدّ ، وعلى هذا الفرض إمّا أن

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٤.


يكون مخلوطا بمماثله ذاتا ووصفا بأن لا يكون أحدهما أجود من الآخر أو أردأ ، وإمّا أن يكون ما يماثله مغايرا معه من حيث الجودة والرداءة ، وعلى الفرض الثاني ـ يعني الخلط بغير الجنس ـ فتارة يكون متميّزا عنه في الخارج كما إذا خلط الحنطة بالشعير ، وإمّا لا يكون متميّزا في الخارج عرفا ، وإن كان متميّزا واقعا ، وعلى هذا الفرض فإمّا أن يوجب الخلط تغيّر العنوان كما لو خلط الخلّ بالسكر فصار سكنجبينا ، وإمّا أن لا يكون موجبا لذلك بل صار مستهلكا بالنسبة إلى المخلوط به ، كما إذا خلط مقدارا من الزيت بكثير من الشيرج فصار شيرجا مدهونا ، أو بالعكس فصار دهنا حلوا ، هذا ما يتصوّر من أقسام الخلط.

وأمّا حكمها ؛

ففي الصورة الاولى : فلمّا تكون العين المخلوطة في نظر العرف بحكم التلف فيكون الغاصب ضامنا لمثله ، ولا مجال لتوهّم الشركة ؛ إذ مناطها هو وجود المال المشترك بحيث يكون المخلوطان أمرين موجودين بوجود واحد ، ولا ريب أنّ فيما إذا صبّ مقدار قليل من الماء في حوض الحمّام ليس الأمر كذلك ، أي لا يرى العرف شيئين موجودين ، حتّى يكون لازم ذلك الحكم بكون ذاك الحوض بحكم المغصوب فيترتّب عليه الشركة القهريّة ، والظاهر أنّ مثل هذا الفرض خارج عن منصرف الكلمات من القول بالشركة في الخلط بالجنس ، بل هذا الفرض بحكم ما إذا خلط بغير الجنس على وجه صار مستهلكا ، كما سيأتي.

وأمّا الصورة الثانية ؛ ففيما لو كان المخلوط به مماثلا للعين المغصوبة ذاتا ووصفا ، كما إذا خلط كأسا من اللبن المغصوب بلبن نفسه ، ففي مثله ينبغي عدم توهّم الإشكال في تحقّق الشركة بالنسبة إلى العين الخارجي حقيقة أو حكما ،


ولا وجه لتوهّم ضمان القيمة أو المثل بتخيّل أنّه في حكم التلف ؛ لعدم إمكان ردّه ، فلا بدّ من ردّ بدل الحيلولة ، كما لا يخفى.

وأمّا إذا خلطه بالأجود أو الأردإ من جنسه ؛ فمقتضى القاعدة أيضا هو الشركة ؛ لبقاء عين المال بحاله ، غاية الأمر من جهة اختلاط أجزائه بأجزاء مال الغير وتفرّقها فيها على وجه لا يمكن الامتياز تحصل الشركة فيهما بنسبة مقدار كلّ واحد من المالين بالنسبة إلى الآخر إمّا حقيقة أو حكما.

نعم ؛ هنا كلام آخر ، وهو أنّه إذا كان مال المغصوب منه أجود ومال الغاصب أدون فلا إشكال في أنّه لو أخذ المالك من المخلوط ما يساوي ماله بحسب المقدار يلزم فوت مقدار من الماليّة الّتي كانت ثابتة لعينه لجودته ، ففوت وصف الجودة صار موجبا لفوت مقدار من الماليّة ، فحينئذ هل يضمن الغاصب أرش النقصان أو تحصل الشركة في المجموع على حسب الماليّة؟ فلو كانت ماليّة العين المغصوبة قبل الخلط بمقدار ضعف ماليّة مال الغاصب يصير بالخلط ثلث المجموع للغاصب وثلثاه للمغصوب منه؟

قد يحتمل تعيّن الوجه الثاني ؛ لما أوضحناه في بعض مباحث الخيار من أنّ العين الواحدة ليست لها إلّا ماليّة واحدة ، وتلك الماليّة إذا اضيفت إلى اثنين كانت لكلّ منهما بالنسبة إلى تمام العين ماليّة ضمنيّة ، ومن لوازم كون كلّ منهما مالكا لتمام العين ضمنا هو اعتبار الشركة في العين على حسب ما كان قائما بكلّ واحد منهما في مقدار إضافة الماليّة ، ففي ما نحن فيه إذا فرضنا أنّه خلط الجيّد بالردي‌ء فمقتضى الكسر والانكسار بسط الجودة القائمة بالبعض على المجموع والرداءة كذلك ، فيكسب كلّ من المالين عرضا من الآخر ، والمفروض عدم فوت


وصف الجودة رأسا ، بل كان موجودا قائما بالمجموع ، فحينئذ لا بدّ وأن يكون مقدار الماليّة الثابتة لكلّ واحد من العينين قبل الخلط مضافا إلى مالكه ، ولازم ذلك هو الشركة في العين على حسب الماليّة ، كما لا يخفى ، وليس أخذ المالك أزيد ممّا كان ملكا له قبل الخلط والتفرّق بحسب المقدار موجبا للربا ؛ لعدم كون المقام داخلا في أقسام الربا المحرّم ؛ لاختصاص أدلّته بباب المعاوضات.

ولكنّ التحقيق هو الوجه الأوّل ؛ لعدم الدليل على خروج مال كلّ واحد منهما عن ملكه بحسب المقدار ، وأمّا الماليّة الثابتة لصاحب الجيّد ليست ترى في المجموع الآن موجودة ، بل العرف يحكم ببقاء ماله فيه الآن موجودا كمّا لا كيفا ، بحيث يرون وصف الجودة معدوما ، ولذلك لا بدّ من الالتزام بأخذ المغصوب منه ماله من المجموع بمقدار ما غصب منه دون الزيادة ، مع أرش وصف الجودة الزائلة ، كما لا يخفى.

وأمّا فيما لو اختلطت العين المغصوبة بالأجود ، فالظاهر هو تحقّق الشركة ، فيستحقّ كلّ من الغاصب والمغصوب منه من المجموع بمقدار عين ماله ، ولا ريب أنّ وصف الجودة الحاصلة للعين المغصوبة بالخلط إنّما هو بمنزلة زيادة وصف فيه عند الغاصب ، لا أن تكون زيادة عينيّة حتّى يقال بأنّه لا دليل على خروجها عن ملك الغاصب ، كما لا يخفى.

وأمّا في الفرض الثاني ، أي الاختلاط بغير الجنس ، فإن كان المغصوب بعد الخلط متميّزا فلا مجال للشركة ، بل يجب التفكيك وأداؤه إلى صاحبه إن أمكن ، وإن لم يمكن ـ كما لو اختلط مقدارا من الشيرج في السمن ، بحيث يصدق عليهما بعد الخلط كلّ واحد من العنوانين ، فيقال : شيرج مخلوط بالسمن عرفا ـ


ففي مثله لا وجه للشركة في العين ، كما لا وجه للحكم بالتلف ، بل يكون كلّ واحد من المالين باقيا على ملك صاحبه ، ولازم ذلك الشركة في الثمن بالنسبة إلى كلّ واحد من المالين بحسب الماليّة ، أو الحكم بضمان بدل الحيلولة.

أقول : يمكن دعوى جريان مناط الشركة فيما لو كانا ـ أي المالان ـ من جنس واحد هنا أيضا ، لأنّ المفروض بقاء المالين وعدم إمكان تجزئتهما وبقاء الاسم وصحّة إطلاق اسم كلّ من المالين عليهما ، مع عدم إمكان التجزئة في الخارج لا يضرّ بالدعوى ، إلّا أن يقال : إنّ الشركة الحقيقيّة خلاف الأصل ، والدليل الدالّ عليها ـ وهو الإجماع ـ إنّما يكون فيما لو اتّحد الخليطان جنسا ، وأمّا في المقام فهو مفقود ، فتدبّر!

وإن لم يكن بعد الخلط متميّزا أصلا ، فحينئذ تارة تكون العين المغصوبة بالنسبة إلى عين الغاصب بمقدار من القلّة بحيث لا يرى العرف بعد الخلط لها بقاء لا مادّة ولا صورة ، بل يراها معدوما ومستهلكا ، كما إذا خلط مقدارا قليلا من الشيرج بمقدار كثير من الزيت كانت نسبته إلى الزيت نسبة المثقال إلى الأمنان ، ففي مثله لا إشكال في أنّه ملحق بالتلف عرفا فلا مقتضي للشركة ، فالغاصب ضامن للمثل أو القيمة.

واخرى كانت العين المغصوبة بحيث كان الخلط موجبا لاستهلاكها بحسب الصورة لا المادّة وانقلابها إلى صورة ما خلط به ، ولكن كانت مادّته باقية في نظر العرف بحسب الكمّ ، كما إذا خلط منّا من الشيرج بمقدار من السمن ، بحيث يصدق على المجموع أنّه سمن ولكنّه زاد مقداره منّا بخلط الشيرج ففي


مثله ظاهر كلماتهم أيضا إلحاقه بالتلف للاستهلاك (١).

ولكن فيه : إنّه بعد بقاء المادّة عرفا يكون من قبيل اكتساب العين المغصوبة لون المخلوط به ، ومن باب انقلاب الصورة بصورة اخرى ، ولا إشكال أنّ المالية وكذا الملكيّة إنّما هما قائمان بنفس المادّة مع أنّ الحكم بكون مجموع العين للغاصب الّذي لازم ذلك الإلزام بعدم تغيّر عين ماله ترجيح بلا مرجّح ، إلّا أن يقال بأنّ الغرض عدم انقلاب ماله ، وإنّما حصل بالاختلاط تغيّر وصفه ، بحيث يقال له : دهن فيه شي‌ء من الشيرج ، بخلاف مال المغصوب منه.

فعلى ذلك ، لا وجه للحكم بالتلف ، بل حكمه حكم ما لو خلط أحد الجنسين بالآخر ، مع كون أحدهما جيّدا زال عنه وصف الجودة ، لا بدّ من القول بالشركة الحقيقيّة في العين ، مع ضمان أرش النقصان للمالك لو حدث نقصان بالخلط.

وثالثة : كان الاختلاط موجبا لزوال عنوان الخليط والمخلوط به وحدوث العنوان الثالث ، فحكمه حكم الفرض المتقدّم من حصول الشركة العينيّة ، لو كان العرف مساعدا لبقاء المادّة مع أرش النقصان لو كان نقص في الماليّة ، وأمّا مع مساعدتهم في ذلك فقد عرفت أنّه ملحق بالتلف ، فتأمّل جيّدا!

[قال في «الشرائع»] : ([لا خلاف في أنّ] فوائد المغصوب مضمونة بالغصب ، وهي مملوكة للمغصوب منه ، وإن كان قد تجدّدت في يد الغاصب [أعيانا كانت] (٢) كاللبن والشعر) .. إلى أن قال : وكذا الكلام في منفعة كلّ ماله

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٥.

(٢) أثبتناها من المصدر.


اجرة في العادة) (١).

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّ فوائد المغصوب ، إمّا أن تكون من قبيل نماءاته المتّصلة أو المنفصلة ممّا لها عينيّة في الخارج كاللبن والشعر وأمثالهما ، فلا إشكال في أنّها لمّا تقع تحت اليد استقلالا فيوجب ضمانها ، سواء تلفت بآفة سماويّة أو اتلفت.

وإمّا أن لا يكون من قبيل النماءات بل كانت من قبيل المنافع ، فتارة ؛ لا يكون ممّا لها اجرة عادة ، بمعنى أنّه ليس لها ماليّة بحسب العادة بحيث يبذل بإزائها المال ، فلا ضمان فيها ، سواء كان تلفها بيده بغير الاستيفاء ، أو بالاستيفاء ، لأنّ المعتبر في الضمان كون ما في اليد أو التالف مالا.

واخرى ؛ كانت لها الماليّة عرفا لاعتبار الاجرة لها عادة ، كسكنى الدار وركوب الدابّة ، فإن استوفاها الغاصب بالمباشرة أو التسبيب فلا إشكال أيضا في ضمانها ، لأنّه يصدق بالاستيفاء في حقّه أخذه تلك المنافع ، فتكون المنافع ممّا يصدق تعلّق اليد بها مستقلّا أيضا ، ولا يحتاج في صدق اليد عليها اعتبار تبعيّتها للعين ، بأن يقال : إنّ اليد على العين يد عليها تبعا ، كما لا يخفى.

وإن تلفت المنافع في يده من دون استيفائها ، ففيه الأقوال المتعدّدة ، والأقوى ضمانها ، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم الضمان : هو أنّ اليد الموجبة للضمان عبارة عمّا تعلّق بالمال الموجود ، فلو تلف مال تعلّق به اليد العادية كانت اليد موجبة لكون ضمانه على ذي اليد ، والمنافع الغير المستوفاة ليست ممّا تعلّقت بها يد ، ولا تلف بعد ما تعلّقت به اليد ، بل اليد ما تعلّقت على

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٤ ، مع اختلاف يسير.


العين ، غاية الأمر تعلّقها عليها كان ملازما مع عدم تحقّق المنافع ، أو كان مانعا عن حدوثها ، فما تحقّقت المنافع حتّى يصدق بأنّها ممّا تعلّق بها اليد.

وأنت خبير بأنّ نفس المنافع وإن لم تكن من الامور الموجودة القابلة لوقوعها تحت اليد من دون استيفائها ، ولكن لمّا كانت العين ممّا لها قابليّة الانتفاع بها لتلك المنافع ، وكانت نفس القابليّة الّتي هي بمنزلة المقتضي لوجودها في طرفها ، فالعرف يرى ويعتبر بمجرّد ذلك لها ماليّة فعليّة ، بحيث يعتبر عندهم كون نفس اليد على العين يدا على تلك المنافع بالبيع ، كما لا يخفى.

ولذا كان مالك العين مالكا لها ـ أي للمنافع ـ إلى الأبد بالفعل ، فله تمليكها للغير ، ويصير الغير مالكا لها بالفعل ، فلا مانع من أن تكون اليد على العين يدا على المنافع ، ولذلك يكون الغاصب ضامنا لها أيضا وإن لم يستوفها ، وهذا (١) ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال فيما إذا تعدّدت المنافع ، وبسط الكلام فيه : هو أنّ العين إذا كانت ممّا لها منافع متعدّدة ، فإمّا أن تكون ممّا يمكن الجمع بينها في استيفائها ، وإمّا أن لا تكون كذلك ، بل بينها التضادّ.

والأوّل : كما إذا كان للعبد صنعتان يمكن اجتماعهما كالحراسة والكتابة ، والثاني : كما إذا كان له الكتابة والحياكة ، وكالمشي مع الدابّة والركوب على الدابّة ، أو حمل المتاع معها.

__________________

(١) والظاهر ؛ أنّ الخلاف وتعدّد الأقوال إنّما هو فيما إذا لم تكن اليد المستقرّة على العين يدا عادية ، كما في المبيع بالبيع الفاسد ، وأمّا في باب الغصب فهو ـ أي الضمان ـ اتّفاقي ، كما يظهر من بعض كلمات شيخنا قدس‌سره ، فراجع وتأمّل! «منه رحمه‌الله» (المكاسب : ٣ / ٢٧١).


أمّا إذا كان من قبيل الأوّل ؛ فمقتضى القاعدة ضمان الجميع ، سواء استوفاها بأجمعها أو بعضها أو لم يستوف شيئا منها ، لما تقدّم من كون المنافع مملوكة للمالك تبعا للعين ، واليد على العين يد عليها.

وأمّا إذا كان من قبيل الثاني ففيه أقوال مختلفة ، أحدها : أنّه ضامن لكلّ واحد منها ؛ لكون كلّ واحد منها ملكا لمالك العين ومالا له بتبعيّة العين ، غاية الأمر أنّه ليس للمالك القدرة والسلطنة على استيفاء كلّ واحد منها على نحو الإطلاق ، بل له السلطنة بالنسبة إلى كلّ واحد منها على نحو التعليق ، بمعنى أنّ له السلطنة على استيفاء كلّ واحد في طرف عدم الآخر ، وهذا المقدار من السلطنة يكفي لاعتبار الماليّة والملكيّة بالنسبة إلى الشي‌ء ، ولم يثبت من العقلاء في اعتبار الملكيّة ثبوت السلطنة المطلقة على الشي‌ء ، بحيث يكون اللازم فيها السلطنة على كلّ واحد من المنافع فيه في ما نحن فيه على الإطلاق.

وفيه : أنّه بعد كون المفروض التضادّ بين المنافع ، بحيث لا يمكن الجمع بينها ، فليس للمالك إلّا سلطنة مطلقة بالنسبة إلى واحد منها على البدل ، وأمّا بالنسبة إلى الأزيد من الواحد فليس له السلطنة أصلا ، فإذا لم تكن له سلطنة بالنسبة إلى الأزيد من الواحد فلا يبقى المجال لاعتبار الماليّة والملكيّة إلّا بالنسبة إلى واحد منها على البدل.

وبالجملة ؛ السلطنة الناقصة لا تصير منشأ لاعتبار الملكيّة ، بل لا بدّ فيها ، وكذا اعتبار الماليّة السلطنة المطلقة التامّة ، كما لا يخفى ، وإلّا فيلزم أن يكون مالك العين الواحدة صاحب أموال كثيرة عديدة بالنسبة إلى منافعها ، ومن المعلوم عدم مساعدة العرف في ذلك ، ومن ذلك ظهر دليل القول الثاني ، وهو أنّه


ضامن لأحد المنافع دون الجميع.

ثمّ القائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ما هو المضمون من أحد المنافع ، فقيل : إنّه ضامن للأعلى من تلك المنافع ، سواء استوفاها أو استوفى الأدون ، أو لم يستوف شيئا منها (١).

وقيل : إن استوفى شيئا منها فهو ضامن لما استوفى ، وإن لم يستوف أصلا فهو ضامن للقدر المتيقّن ، وهو الأدون (٢).

وقيل : إن استوفى الأعلى فهو ضامن للأعلى ، وإلّا هو ضامن للمتوسّط ، سواء استوفى الأدون أو المتوسّط أو لم يستوف شيئا (٣).

وقيل : إن استوفى الأعلى فهو ضامن له وإلّا فهو ضامن لاجرة المثل الثابت للعين المغصوبة في نظر العرف من دون ملاحظة منفعة خاصّة فيها (٤).

وأوّل الأقوال أحقّها ، وذلك ، لأنّ الفرض أنّ للعين الّتي تعلّقت اليد بها قابليّة المنفعة المخصوصة أي المنفعة الأعلى ، وقد تقدّم أنّ اليد على العين يد على منافعها الّتي كانت قابليّة العين لها متحقّقة حين اليد ، فضمان الغاصب لخصوص المنفعة الأعلى من جهة اليد لا معارض له أصلا ، بخلاف غيرها من سائر المنافع لمعارضة المنفعة الأعلى لها.

هذا لو لم يستوف شيئا من المنافع ، وأمّا لو استوفى فلا يضمن إلّا ما استوفاها ، ولو كان الأدون لا يضمن غيره ، لأنّه بالاستيفاء تعلّقت يده بالمنفعة

__________________

(١) انظر! قواعد الأحكام : ١ / ٢٠٥ ، مسالك الإفهام : ١٢ / ٢١٨.

(٢) انظر! جامع المقاصد : ٦ / ٣٢٥.

(٣) انظر! جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٨.

(٤) انظر! الدروس الشرعيّة : ٣ / ١١١ ـ ١١٣.


المستوفاة فصارت ملكا للمالك ، ولا ريب أنّه مع صيرورة بعض المنافع ملكا له لا يبقى الباقي بعد تحت قابليّة المملوكيّة.

وبعبارة اخرى : إنّ الالتزام بضمان الأعلى في الأوّل إنّما كان لأنّ المالك لمّا يكون مالكا للقدر الجامع من المنافع الّذي ينطبق ذلك بأوّل الوجودات ، ويسقط الباقي عن القابليّة ، فما دام لم يتحقّق ذاك الجامع في الخارج في ضمن أحد المصاديق فللمالك اختيار أيّ فرد منها ، أي اختيار الجامع الّذي كان منشأ اعتباره تملّك المالك إحدى المنافع على البدل في ضمن أيّ فرد من الأبدال ، وأمّا في هذه الصورة ـ وهي عند استيفاء إحدى المنافع ـ فذاك الجامع الّذي كان مملوكا للمالك ؛ والغاصب أيضا ضامن له فقد انطبق على ما أوجده الغاصب في ضمن الفرد ، فيصير الجامع المقيّد بتلك الخصوصيّة ممّا تعلّقت اليد به ، لأنّ بالاستيفاء كانت نفس المستوفى ممّا يجي‌ء تحت اليد فيصير هو المأخوذ دون غيره ، فلا يبقى محلّ لاختيار المالك حتّى يختار الجامع في ضمن غير الفرد المستوفاة.

فالحاصل ؛ أنّه إذا كانت منافع المغصوب متعدّدة ومختلفة في المراتب ، مثل أن يكون العبد صانعا وحمّالا وكاتبا ، ولم يمكن اجتماعها في الوجود والاستيفاء ، فإن لم يستوف الغاصب شيئا منها ، فمقتضى القاعدة ضمانه المنفعة الأعلى ، أي الاختيار يكون بيد المالك ، فلو اختاره يجب عليه ردّ اجرة تلك المنفعة ، وإلّا فإن استوفى شيئا منها فهو ضامن للمستوفى ، سواء كان الأعلى أو المتوسّط أو الأدون.

أقول : بعد تسليم كون المالك سلطانا على المنافع بأجمعها ـ أي بجامعها


القابل للانطباق على كلّ واحد من الأفراد الّتي منها الأعلى ـ فالقول بتبدّل الحكم ـ أي الضمان للمنفعة الأعلى إلى المستوفاة عند الاستيفاء ـ مشكل ، وذلك لأنّ مرجع هذا القول إنّما يكون بجعل الاختيار بيد الغاصب ، مع أنّه مناف لسلطنة المالك ، إذ كما أنّ له عند عدم غصب ماله وكونه تحت يده إعمال جهة سلطنة في أيّ مرتبة من مراتب المنفعة الّتي منها الأعلى ، فكذلك عند منعه الغير عن سلطنته ووضع اليد على ماله.

مع أنّ بالوضع يجي‌ء جميع مراتب العين ـ أي بما لها من المنافع ـ تحت اليد وللمالك أيضا سلطان على العين بجميع شئونها ، له أن يختار كلّ واحدة من تلك المراتب ويعيّنها بمرتبتها الخاصّة في أيّ واحدة منها شاء.

واختيار الغاصب ذاك الجامع في مرتبة خاصّة لا موجب لحجر المالك عن سلطنته وإلزامه تعيين الجامع في ما اختاره الغاصب ، وبأيّ دليل نلتزم بأنّ اختيار الغاصب الجامع في ضمن الفرد المتوسّط أو الأدون موجب لسقوط حقّ المالك عن الفرد الأعلى.

ولعلّه لمثل هذه الشبهات مال ـ دام ظلّه ـ أخيرا إلى ما التزمه صاحب «الجواهر» قدس‌سره في المقام من القول بمثله (١) ـ أي فيما كانت المنافع مختلفة المراتب ـ بضمان اجرة المثل للعين المغصوبة ؛ لأنّ ملاحظة خصوصيّة المنفعة وعدم مراعاة الاجرة الكليّة يوجب طلوع الأقوال المذكورة الّتي قد عرفت أنّ ترجيح بعضها على بعض مشكل جدّا.

فالأقوى ؛ هو ما ذهب إليه قدس‌سره في «الجواهر» من اعتبار اجرة المثل في

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٨.


ضمان ما إذا كانت العين المغصوبة ذات منافع مختلفة (١) مع أنّ العرف واعتبار العقلاء مساعد معه ، إذ لا يعتبرون في مثل العبد الّذي يكون ذا أعمال مختلفة الّتي تختلف بها مراتب المنفعة إلّا اجرة مثله الجامع بين خصوصيّات المنافع ، كما لا يخفى.

نعم ؛ لو استوفى الغاصب خصوص المنفعة الأعلى فيضمنه ، لأنّ المستوفى بعينه مال للمالك ، فلمّا وقع تحت اليد يصدق عليه الأخذ فيجب ردّه.

فرعان

ثمّ إنّه يتفرّع على هذه المسألة فرعان :

الأوّل ؛ في «الشرائع» : (إذا غصب حبّا فزرعه ، أو بيضا فاستفرخه ، قيل :

الزرع والفرخ للغاصب (٢) ، وقيل : للمغصوب منه (٣) ، وهو أشبه) (٤).

أمّا الأوّل ؛ فقد تمسّك بأنّ العين المغصوبة قد تلفت ، فلا يلزم الغاصب سوى قيمتها أو مثلها.

وفيه : إنّ الملكيّة والماليّة لو كانت قائمة بالأشياء بما لها من الصور الشخصيّة ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى أحكام الطهارة والنجاسة ، فالدليل المذكور تامّ ، لعدم بقاء الحبّ والبيض بصورتهما الشخصيّة الأوّليّة بعد صيرورتهما زرعا وفرخا ، ولكن ليس الأمر كذلك بل مسألة الملكيّة بالنسبة إلى الأعيان الخارجيّة سارية فيها بما لها من المادّة ولو مع تبدّل صورتها الشخصيّة ،

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٨.

(٢) المبسوط : ٣ / ١٠٥.

(٣) السرائر : ٢ / ٤٨٢.

(٤) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٧.


وخلع المادّة عن صورة إلى صورة اخرى.

وتوضيح ذلك موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّه لا خفاء في أنّ أنواع التغييرات في موضوعات الأحكام مختلفة ، فإنّه قد يتبدّل الشي‌ء بمادّته وصورته بحيث لا يرى العرف الجسم بمادّتها الأوّليّة ولا صورتها موجودة ، كالكلب الواقع في المملحة المتبدّل بالملح ، وكذلك العذرة المتبدّلة بالتراب أو الدود على احتمال ، فإنّ العرف يأبى أن يقول بكونهما الآن هو الجسم الأوّلي ، بل يراهما ذاتا متغيّرا ، كما لا يخفى.

وقد يتبدّل الشي‌ء بصورته لا بمادّته ، بحيث يرى العرف المادّة هي المادّة الأوّليّة ، ولا يبعد أن يكون الحبّ المتبدّل بالزرع كذلك ، فإنّ المادّة في حال الزرع بعينها هي الكائنة في حال الحبّ ، والعرف لا يرى في مثله إلّا انقلاب صورة ، وليس المادّة الأوّليّة صورة اخرى.

وقد يكون التبدّل ، تبدّل الوصف والعرض فقط دون انقلاب الصورة والمادّة ، مثل الماء المتغيّر إذا زال تغيّره فإنّ المادّة والصورة على ما عليها قبل زوال التغيّر باقية بعده أيضا ، فإنّما المنقلب هو الوصف الخارجي ، وكذلك الحال الزبيبي والعنبي لا يبعد أن يكون مثل ذلك.

ثمّ إنّ الأحكام الشرعيّة الثابتة للموضوعات ـ لا يخفى أيضا ـ تكون على أنحاء ، وذلك لأنّه قد يكون الحكم ثابتا للشي‌ء بصورته الخاصّة ، بحيث لو ارتفعت الصورة لم يبق الحكم ، مثل أحكام النجاسة والطهارة الثابتة للأشياء بصورتها الخاصّة مثل الإنسانيّة ، فإنّ الطهارة الثابتة للإنسان تزول بالموت ، وليس ذلك إلّا لتبدّل صورته ولو كانت المادّة باقية ، فتأمّل! وكذلك نجاسة


الكلب فإنّها ثابتة له ما دامت هذه الصورة له باقية ، وأمّا بعد تبدّله بصورة الملحيّة فيصير حكم تلك المادّة ـ أي الكلب إن قلنا ببقاء مادّته بعد صيرورته كذلك ـ حكم الملح.

وقد يكون الحكم ثابتا للمادّة مع قطع النظر عن لحاظ الصورة مثل حكم الملكيّة ، وكذلك السلطنة فإنّها ثابتة للعين الخارجيّة بذاتها ، بحيث لا ملازمة بين انقلاب الصورة وارتفاع الحكم.

وقد يكون الحكم ثابتا للمادّة ـ أي ذات الشي‌ء ـ مع لحاظ صورته ، كالنجاسة الثابتة للمتنجّسات مثل الدهن النجس أو الماء المتغيّر بالنجاسة ، فإنّهما لو تبدّلت صورتهما ، كما إذا صارا دخانا أو بخارا ، فالقاعدة الأوّليّة تقتضي ارتفاع حكمهما ، بخلاف ما إذا تبدّل وصف التغيّر ـ مثلا ـ فإنّه لمّا كان الظاهر كونه واسطة لعروض النجاسة لا لثبوته ، بمعنى أنّ المستفاد من الدليل حدوث الحكم لذات الماء في حال التغيّر لا للماء المتغيّر ، بحيث يكون التغيّر جزءا للموضوع فيزول الحكم بزواله ، هذا حال الموضوعات وأنحاء تبدّلاتها وأقسام الحكم.

إذا عرفت ذلك فظهر لك ما تمسّك في المقام صاحب «الجواهر» قدس‌سره بالاستصحاب لإثبات كون الحبّ بعد صيرورته زرعا أو البيض فرخا باقيا على ملك صاحبه أي المغصوب منه ، يكون في محلّه (١).

ولا مجال لتوهّم عدم جريان الاستصحاب بزعم تبدّل الموضوع ، إذ قد عرفت أنّ السلطنة والملكيّة هي من الأحكام الّتي تكون لذات الشي‌ء أي مادّته

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٩٩.


بحيث لا يصير فيهما خلع المادّة من الصورة الأوّليّة ولبس صورة اخرى ، بمعنى أنّ مادّة الشي‌ء ما دامت باقية فلا يرى العرف تغييرا في موضوع الملكيّة ، ولذا فلو عرض شكّ في خروج الموضوع عن ملك صاحبه الأوّل مع انقلاب صورته ، يصحّ التمسّك بالاستصحاب وإثبات الحكم الأوّلي له من إبقائه على ملك صاحب المادّة ما لم ينتقل بأحد الأسباب الشرعيّة عن ملكه ، وإلّا فالتغيّر لا يوجب خروج الملك عن سلطنة صاحبه.

وإذا ثبت كون الملكيّة من عوارض ذات الشي‌ء ومادّته فانقدح أنّ كلّ ما يزداد على المادّة الأوّليّة بتغيّرها يكون من تبعات تلك المادّة ويحسب عند العرف من نماءاتها ، فهي أيضا مملوكة لصاحب المادّة لحدوثها في ملكه بحيث تعدّ النماءات من مراتب نفس المادّة.

نعم ؛ قد يقال بأنّه كما يكون للمادّة مدخليّة في وجود النماءات وحدوث الترقّيات لأصل الحبّ ، بأن يصير شجرا أو فواكه ، وغير ذلك ممّا يكون كمال الفرق بين الأصل وتوابعه من حيث الصغر والكبر وأنحاء الانتفاع ، كذلك يكون لعمل الغاصب وما يصرف لتنمية الأصل من الماء والتراب وغيره لها مدخليّته في وجود النماءات ، فتكون عين مال الغاصب في النماءات أيضا موجودة بحيث تكون مرتبة منها له ، فتكون نتيجة ذلك كون الغاصب والمغصوب منه شريكين في النماءات لا أن تكون مختصّة بالمغصوب منه.

ولكنّك خبير بأنّ هذا توهّم باطل ؛ إذ يردّه ـ مضافا إلى أنّ العرف لا يرى النماء إلّا من توابع الأصل وإلّا فسائر المعدّات مثل الماء وغيره يكون بالنسبة إليه


كالعدم (١) ـ أنّ الحديث المعروف من أنّه «ليس لعرق ظالم حقّ» (٢) الّذي قد تلقّاه الأصحاب بالقبول يرفع احترام عمله ، وكذلك ماله الّذي صرف لتربية الأصل وترقّياته كما لا يخفى.

مع أنّه قد بيّنا سابقا أنّ كلّ ما يعمل في المغصوب من الصنعة وغيرها يصير ملكا للمغصوب منه ، ولا يجوز للغاصب التصرّف في العين بإزالتها أو نحوه بعد ذلك أبدا ، حتّى لو تصرّف وأزال الصفة الّتي زادت في العين عنده يصير ضامنا له أيضا.

ثمّ إنّه قد يستشكل في مثل البيض الّذي يجعل لأن يصير فرخا ؛ من أنّه لا مجال لاستصحاب الملكيّة فيه ، لأنّه قبل أن يصير فرخا يصير دما وعلقة فيخرج بذلك عن قابليّة التملّك لعدم كون الأعيان النجسة قابلة للملكيّة فيصير حال البيض حال العصير الّذي صار خلًّا بعد صيرورته خمرا قبل الخليّة الموجب ذلك لخروج الموضوع عن تحت السلطنة ، فمقتضى القاعدة استصحاب بقاء عدم الملكيّة فيهما أي في البيض بعد ما صار فرخا ، وكذلك الخلّ بعد صيرورته خمرا.

ولكنّه مدفوع ؛ بأنّه بعد منع العموم أو الإطلاق لأدلّة المحرّمات والأعيان

__________________

(١) هذا ما أدّى إليه بداية النظر ولكنّه ليس بتامّ ، إذ ليس معنى الحديث سلب الاحترام عن عين مال الغاصب ، بل المراد نفي الحقّ لإبقاء ماله في ملك الغير.

وبالجملة ؛ فالاستدلال به لعدم احترام عمله تامّ ، وبالنسبة إلى غيره فلا مجال للاستدلال ، فالتحقيق في الجواب هو الجواب الأوّل من عدم استناد النماء عرفا إلّا إلى الأصل لا إلى الماء ونحوه من المعدّات ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٥٧ الحديث ٢٤٣٦٣ و ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.


النجسة حتّى تشمل المقام ، وعلى فرض الإطلاق فلا ريب في انصرافه عن مثل المقام الّذي لازم انقلاب بعض الأشياء عن حال يكون فيه طاهرا حلالا إلى حال آخر يكون قابلا للتملّك أيضا هو اتّصافها بين الحالتين إلى ما يوجب صيرورتها ملحقة بالأعيان النجسة ، واختصاص الأدلّة بما ليس بقابل للتملّك نوعا من حيث الذات.

فنقول : إنّ في مثلها ليس أن يكون الشي‌ء بين الحالتين بحيث يخرج عن السلطنة والملكيّة رأسا ، بل الاعتبار العرفي لتملّكه في تلك الحالة أيضا باق ، غاية ما يكون أنّه ليس اعتبار الملكيّة والعلقة فيها مثل ما كانت له قبل تلك الحالة وبعدها ، بل تكون العلقة الملكيّة الثابتة لمثل البيض وكذلك العصير قبل انقلابهما علقة تامّة بينهما وبين مالكهما ، وكذلك بعد صيرورتهما فرخا وخلًّا ، السلطنة للمالك إنّما هي سلطنة ملكيّة ، وأمّا في الحالة الوسطى فتلك العلقة تصير ضعيفة ، ولكن لا بدّ أن يصل إلى حدّ تنعدم العلقة رأسا ، بل هي بمرتبة منها على كلّ حال باقية ، إلّا أنّها تضعف من مرتبة الملكيّة حتّى تصل إلى درجة يعبّر عنها بالحقّ أو ملك المالك لأن يملكه ، ثمّ يتقوّى قليلا قليلا من هذه المرتبة حتّى تصل إلى المرتبة الملكيّة وتشتدّ العلقة حتّى تصير السلطنة أيضا ثابتا تامّة.

فعلى كلّ حال ؛ السلطنة المطلقة في الجملة للمالك بالنسبة إلى تلك الأشياء باقية ، فلا مجال لتوهّم استصحاب عدم سلطنة المالك ، إذ قد عرفت أنّه ليس زمان يخرج البيض الّذي صار فرخا ونحوه عن سلطنة صاحبه ، غاية ما يكون ، تختلف مراتبها على حسب اختلاف مراتب العلقة شدّة وضعفا.

فانقدح ممّا ذكرنا ؛ أنّ مقتضى القاعدة بقاء البيض والعصير المغصوب على


ملك مالكهما بعينهما ، فيجب على الغاصب ردّهما إلى المالك على كلّ حال ، ولو صار فرخا أو خلًّا ، وعدم الموجب لانقلاب إلى القيمة أو المثل ، ولا تحتاج تماميّة المسألة إلى الإجماع كما صنعه في «الجواهر» (١) بزعم أنّ تلك الأشياء في الحالة الوسطى لمّا تخرج عن قابلية التملّك ، فاستصحاب عدم الملكيّة فيها محكم ، وقد اتّضح لك أنّه لا سبيل إلى ما ذهب إليه قدس‌سره ، لعدم خروجها عن الملكيّة بحال ، بل مرتبتها تضعف وتصل إلى ما يسمّى بالحقّ ، لا أن يخرج عن السلطنة رأسا ، ولذلك لا تجوز إراقة العصير بعد صيرورته خمرا ، كما يظهر لمن راجع كلمات الأصحاب ، فافهم!

الثاني : قال في «الشرائع» : (لو غصب أرضا فزرعها) .. إلى آخره (٢).

لا إشكال أنّ ما تسالم عليه الأصحاب هو كون نماءات الأعيان ومنافعها مطلقا تابعا لها ، فهي ملك لمالكها كيفما كانت.

ضرورة ؛ أنّ انتفاع الشخص من عين ماله في ملك الغير لا يوجب خروج منافعها عن ملكه وضعا ، وإن كان لو تصرّف بغير إذن مالكه يوجب الإثم والاشتغال باجرة المثل وخسارة ما ورد على الغير من الضرر لهذا التصرّف ، فأصل هذا الحكم موافق لما يقتضيه الأصل والقاعدة ، مع أنّ في المقام روايات دالّة على المطلوب ، فما هو المشتهر من «أنّ الزرع للزارع ولو كان غاصبا» المتّخذ من روايات الباب (٣) موافق للقاعدة أيضا ، والمراد به هو أنّ الزرع

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٢٠٠.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٧.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٥٦ الباب ٣٣ من كتاب الإجارة ، و ٢٥ / ٣٨٧ الباب ٢ من كتاب الغصب.


للزارع (١) المراد به صاحب الأصل من الحبّ ونحوه ، ولو كان غاصبا في الزرع أي في عمله ذلك ، من أن تكون الأرض المزروع فيها مغصوبة أو بعض آلات العمل كذلك ، لا أن يكون المراد «ولو كان غاصبا» في المزروع ، ويكون المراد من الزارع العامل ، كما قد يتراءى في بادئ النظر ، فإنّه عليه يكون المعنى خلاف المتسالم به (٢).

مسألتان : الاولى : قال في «الشرائع» : (إذا حصلت دابّة في دار لا يمكن أن تخرج إلّا بهدم) ـ إلى أن قال ـ : (فإن لم يكن من أحدهما تفريط ولم يكن المالك معها) .. إلى آخره (٣).

هذه المسألة داخلة في باب تزاحم الحقوق ، وقد أوضحنا سابقا ما تقتضيه القاعدة عنده ، فهنا أيضا نقول : إنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة من تسلّط الناس على أموالهم عدم جواز تصرّف أحدهما في مال الآخر بلا رضا صاحبه لتخليص ماله إذا لم يكن الآخر مفرّطا ، لما أشرنا مرارا إلى أنّ قاعدة السلطنة جارية ما لم تزاحم سلطنة الغير ، ولا فرق في هذه الجهة بين أن يكون أحدهما أقلّ ضررا أو لم يكن كذلك ؛ لأنّ قاعدة الضرر ليست قابلة لأن تزاحم قاعدة السلطنة ، لأنّ كلّا منهما قاعدة امتنانيّة.

فهنا لا يصحّ أن يقال بأنّ صاحب الدابّة على مقتضى سلطنته على دابّته

__________________

(١) يستفاد ذلك من صريح بعض روايات الباب وإن كانت أيضا روايات معارضة لها ، ولكنّها معرض عنها مع ما في أصل نسختها من الاختلاف ، فراجع! «منه رحمه‌الله».

(٢) كما يستكشف ذلك من الفرع السابق ومدلول الأدلّة ، كما لا يخفى ، فتدبّر!

(٣) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٨.


لرفع المزاحمة عن ماله ، له أن يكسر القدر ثمّ يضمن قيمته ، ولأنّ كسر القدر يكون أقلّ ضررا من إعدام الدابّة وذبحها ، مع أنّ الموارد بالنسبة إلى قلّة الضرر وعدمه مختلفة ، فلا يمكن الحكم الكلّي الّذي يتساوى بالنسبة إلى الموارد ، فالتحقيق في مثل المقام هو الرجوع إلى الحاكم الشرعي ، فهو بمقتضى مصلحة المقام على حسب نظره يحكم ، والله العالم.

الثانية : في «الشرائع» : (إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة) (١).

لا يخفى ؛ أنّ الحكم في هذه المسألة ـ أي القول بتقديم قول المالك أو الغاصب ـ مبنيّ على المستفاد من قاعدة اليد فإن بني على ما هو المشهور من كيفيّة الضمان من عدم اعتبار وجود للعين على اليد ، بل ما دام وجودها ليس على الغاصب إلّا حكم تكليفي من وجوب ردّ العين ، وبعد التلف بالمثل أو القيمة تشتغل الذمّة.

فالتحقيق في المقام هو ما قوّاه المحقّق ، بل عليه المشهور ، من إجراء أصالة البراءة وتقديم قول الغاصب ، لأنّ الشكّ يكون في الاشتغال بالأقلّ والأكثر.

وإن بنينا على ما هو التحقيق من اشتغال الذمّة من حين وضع اليد بنفس العين إلى زمان الأداء فلمّا [كان] مرجع الشكّ إلى الفراغ عمّا اشتغلت الذمّة به يقينا ، ويكون الشكّ في المحصّل ، فالمرجع هو الاحتياط كما لا يخفى.

هذه جملة ما استفدت من مقالات الاستاد دام ظلّه في مهمّات مسائل الغصب ، وقد وقع الفراغ في العشر الآخر من شعبان من سنة ١٣٤٤ وعليه التكلان.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٩.


فهرس الآيات

(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).................................................... ٢٨١ ، ٣٤٧

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)................................... ٤٣

(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)............................................................. ٦٣٨

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).......................... ٢١٠

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).............................. ٧١

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ١١١ ، ٢٥٣ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦٣ ، ٢٦٧ ، ٢٨٠ ، ٣٤٧

(أُولُوا الْأَرْحامِ)............................................................. ٣٠٨

(حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).................................... ٥٥٦

(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)............................................. ٤٠٢

(سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ)....................................................... ٧٣

(غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).......................................................... ٥٩٣

(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)........................................... ٤٢٨

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)............................................................. ٤٤

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)............................................... ٥٦٥

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)................................................. ٢٠٢

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)................ ٢٢٥ ، ٢٣٤

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ)............................. ٤٢٨

(وَجَحَدُوا بِها أَنْفُسُهُمْ)....................................................... ٧٤


(وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).......................... ٣٩٧ ، ٣٩٩

(وما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ).............................................. ٤٣٤

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)................... ٣٩٩

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ ...)........................... ٧٤

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).................................................... ٤٧٣


فهرس الأحاديث

اجلس أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك............................. ٢٠١

إذا أدرك الإمام وهو راكع فكبّر الرجل وهو مقيم صلبه............................. ١٣٤

إذا أدركت الإمام وقد ركع فكبّرت قبل أن يرفع الإمام رأسه......................... ١٣٤

إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام فقد أدركت الصلاة......................... ١٣٥

إذا أمكنهم بعد مئونتهم....................................................... ٢٣٣

إذا خفي الجدران فقصّر........................................................ ١٣٧

إذا رأيت منهم يصلّون فيه....................................................... ٩٦

إذا ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه................................................ ١٣٨

إذا كان الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه......................... ٢١٢

أرأيت لو عطب البغل أو أنفق.................................................. ٦٣٨

اقض ما فات كما فات........................................................ ٢٨٠

الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين.............................................. ٦٤٣

إلّا من كان بحيال الباب....................................................... ١٥٧

الإنسان أحقّ بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح..................................... ٥٠٦

أليس التذكية بالحديد؟ فيقول عليه‌السلام : نعم إذا علمت أنّه مأكول اللحم........... ٩١

أنّ الزرع للزارع ولو كان غاصبا................................................. ٦٨٢

إنّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه..................................................... ٨٥

أنت ومالك لأبيك............................................................ ٣٣٢


إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم بإمام.... ١٤٨ ، ١٦١

إن كان بينهم سترة أو جدار فليس ذلك لهم بصلاة................ ١٥٧ ، ١٥٨ ، ١٦٠

إن كان بينهم وبين الإمام سترة أو جدار......................................... ١٦٣

إن كانت قلوبهم واحدة فلا بأس................................................ ٢٠٠

إن لم تدرك القوم قبل أن يكبّر الإمام للركعة فلا تدخل معهم....................... ١٣٥

إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به........................................... ١٧٧ ، ١٩٥

إنّما عليك أن تغسل الظاهر دون الباطن........................................... ٦٣

إنّ هذه الصلاة نافلة ولن يجتمع للنافلة................................... ١٢٨ ، ١٢٩

إنّه لا دم له................................................................... ٦١

أو يحلف صاحب البغل أو يأتي بشهود.......................................... ٦٤٢

بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين؟............................................ ٢٠٦

البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر................................. ٤٣٥ ، ٤٦٤

التائب عن الذنب كمن لا ذنب له............................................. ٢٠٥

حبّس الأصل وسبّل الثمرة...................................................... ٣٣٨

الحجر المغصوب رهن [على خرابها].............................................. ٥٨٣

خلق الله الماء طهورا............................................................. ٨١

سئل عن صلاة الأضحى والفطر ، فقال : «صلّهما ركعتين في جماعة وغير جماعة...... ١٣٢

سئل عليه‌السلام فيه عن أرباح المكاسب الّتي تقع في أيدي الشيعة................... ٢٣١

الصلوات فريضة ، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها ولكنّها سنّة............ ١٢٥

على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.......................... ٥١٧ ، ٥٣٢ ، ٥٤٧ ، ٦٣٤

عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك................................ ٥٨

فأجاب عنه الإمام عليه‌السلام أوّلا : «بأن تعرفوه بالستر والعفاف»................. ٢٠٦

فإذا أوصى بأكثر من الثلث.................................................... ٥٠٨


فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا..................................... ١٧٧ ، ١٨٠

فاركعوا حين يركع واسجدوا إذا سجد............................................ ١٤١

فأصاب شيئا فعطب ، فهو له ضامن............................................ ٥٦١

فإن أوصى فليس له إلّا الثلث.................................................. ٥٠٧

فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز.................................. ٢٥٣

فإن كان بينه وبين الإمام سترة أو جدار.......................................... ١٦٣

فظنّوا به خيرا وأجيزوا شهادته................................................... ٢١٢

فقال عليه‌السلام : «يجب عليهم الخمس»....................................... ٢٣٣

فقد أدرك الركعة.............................................................. ١٣٥

فقيل له : يا ابن رسول الله! ما حال شيعتكم في ما خصّكم الله به................... ٢٣٥

فكتب عليه‌السلام : هكذا هو عندي........................................... ٣١٤

فما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت..................................... ٥٤

في جواب سؤاله عن البختج قبل ذهاب ثلثيه : «إنّه خمر»........................... ٦٦

قال : سألته عليه‌السلام عن الرجل يأتي السوق ، قال : نعم ليس عليكم المسألة........ ٥٨

قال : هي والله الإفادة يوما فيوما................................................ ٢٣٤

قال عليه‌السلام : يبيّنه لمن يشتريه ليستصبح به..................................... ٨٦

قدّموا خياركم................................................................. ١٩٨

قلت : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم...... ٣١٤

قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك....................................... ٢٣٣

قول عليّ عليه‌السلام في وقفه : «صدقة لاتباع ولا توهب»......................... ٣٥١

قوله عليه‌السلام في باب القنوت : «ثمّ يرفع يديه بحيال وجهه»..................... ١٥٩

قيمة بغل يوم خالفته.......................................................... ٦٤١

كلّ ما أخذتم من المسلمين وشككتم فيه من هذه الجهات فلا تعتنوا به................ ٩٣


كلّ ما غلى بالنّار فقد حرم...................................................... ٦٩

كلّ ما لم يذكّ فهو ميتة......................................................... ٩٠

كلّ مسكر حرام............................................................... ٦٨

لا بأس بالسنجاب............................................................ ١٠٢

لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الّذي يطبخون ،................................ ٧٤

لا تباع ولا تورث ولا توهب.................................................... ٣٤٩

لا تباع ولا توهب ولا تورث.................................................... ٣٤٠

لا تتوضّئوا من فضله............................................................ ٧٧

لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته.......................... ١٩٨ ، ٢١٣ ، ٢١٤

لا تصلّ إلّا خلف من تثق به........................................... ١٩٩ ، ٢٠٢

لا تصلّ خلف ابن الزنا........................................................ ١٩٧

لا تصلّ في شي‌ء من الميتة....................................................... ٩٦

لا تصلّ فيها................................................................... ٩٠

لا تعتدّ بالركعة الّتي لم تشهد تكبيرها مع الإمام................................... ١٣٥

لا تقيّة في الدماء.............................................................. ٥٩٢

لا تنتقض اليقين...................................................... ٤٩٧ ، ٦٥٣

لا عتق إلّا في ملك.................................................... ٣٤٠ ، ٤٠٧

لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ.............................................. ٢٠١

لا يجوز الصلاة في ما لا يؤكل بأنّ أكثرها المسوخ................................... ٩٨

لا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة............................................... ١٢٨

لا يحلّ لأحد أن يشتري من مال الخمس شيئا حتّى يصل إلينا حقّنا.................. ٢٢٧

لا يحلّ مال امرئ [مسلم] إلّا بطيب [من] نفسه.................................. ٢٤٨

لا يعذر عبد اشترى من مال الخمس شيئا أن يقول................................ ٢٢٧


لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة.......................................... ٥٣

لا يكبّر إلّا مع الإمام فإن كبّر قبله أعاد......................................... ١٨١

ليس لعرق ظالم حقّ.................................... ٥٨٣ ، ٥٩٤ ، ٦٠٤ ، ٦٨٠

ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم............................................ ٢٣٤

ما أنصفناهم إن أخذناهم ، ولا أحسنّاهم........................................ ٢٣٥

ما بعت منه فخمّسه!......................................................... ٢٢٨

الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء.............................................. ٣٩

من أتلف مال الغير فهو له ضامن....................................... ٣٤٣ ، ٥٦٠

من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا.......................................... ٥٦٠

من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن................................... ٥١٩ ، ٥٦٠

من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان...................................... ٥٦١

من صلّى الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير...................................... ٢١٢

من يتصدّق على هذا الرجل بأن يعيد صلاته جماعة............................... ٢١٩

الناس شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء......................................... ٤٠٢

الناس مسلّطون على أموالهم............................................. ٣٧٥ ، ٥٨٦

نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كلّ ذي ناب ومخلب....................... ١٠٢

وإذا قال إمامكم : الله أكبر ، فقولوا : الله أكبر................................... ١٨١

وإذا كبّر فكبّروا............................................................... ١٧٧

واعلموا أنّه لا جماعة في نافلة................................................... ١٢٩

وأعلمهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة.......................................... ١٢٨

والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه بحيث لا يجوز التفتيش................. ٢١٢

وإن صلّيت وحدك فلا بأس.................................................... ١٣٢

وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ................................... ١٧٤


وإن كان لم ينو السجدتين في الركعة الاولى لم تجز عنه الاولى........................ ١٤٠

وإن كانوا كبارا ولم يسلّمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه....................... ٢٥٢

وتعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار............................ ٢٠٧

وعليه أن يسجد.............................................................. ١٤٠

الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، إن شاء الله.................................... ٣١٥

الوقوف [تكون] على حسب ما يوقفها أهلها.................................... ٣٢٩

الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها............................. ٢٦٦ ، ٢٨٠ ، ٣٣١

ولا يصلّى التطوّع في جماعة قال : ذلك بدعة..................................... ١٢٨

ولا يضمن الخمر إذا غصبت من مسلم.......................................... ٥٥٤

ولكنّ الجماعة سنّة في الصلاة من تركها رغبة عنها وعن جماعة المؤمنين............... ١٥٣

ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق............................................. ٤٣٣

وليس لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة............................... ١٦٠

ويعرف ذلك باجتناب الكبائر التي أوعد......................................... ٢١٢

وينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة......................................... ١٧٠

هل يؤمّ الرجل بأهله؟ فقال : «لا يؤمّ لهنّ ولا يخرجن.............................. ١٣٢

يقرأ صلاته في عذرة الإنسان ... فيقول عليه‌السلام : صلاته صحيحة............... ١١٩

يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان.......................................... ١٧٠


فهرس المنابع

١ ـ القرآن الكريم

٢ ـ إقبال الأعمال ، للسيّد رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاوس رحمه‌الله ، ط / دار الكتب الإسلاميّة ، طهران.

٣ ـ الاحتجاج ، لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، ط / المكتبة مصطفوي ، قم ، سنة ١٣٨٦ ه‍.

٤ ـ الأربعون ، للشيخ البهائي ، محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجبعي العاملي ، الطبعة الحجريّة ، سنة ١٢٧٤.

٥ ـ الاستبصار ، للشيخ الطوسي رحمه‌الله ، ط / دار الكتب الإسلاميّة ، طهران ، سنة ١٣٩٠ ه‍.

٦ ـ أمالي الصدوق ، للشيخ الأقدم رحمه‌الله ، ط / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، سنة ١٤٠٠ ه‍.

٧ ـ الأمّ ، لأبي عبد الله محمّد بن إدريس الشافعي ، ط / دار المعرفة ، بيروت.

٨ ـ إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد ، للشيخ أبي طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي ، الملقب ب «فخر المحقّقين» ، المتوفّى سنة ٧٧١ ه‍. ط / المطبعة العلميّة ، قم ، سنة ١٣٨٧ ه‍.

٩ ـ بحار الأنوار ، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد باقر المجلسي رحمه‌الله ، ط / المكتبة الإسلامية ، طهران ، سنة ١٣٨٨ ه‍.


١٠ ـ بداية المجتهد ، تأليف محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي ، ط / دار المعرفة ، سنة ١٤٠٢.

١١ ـ البيان ، للشهيد الأوّل ، أبي عبد الله محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي ، ط / مجمع الذخائر الإسلاميّة ، قم.

١٢ ـ تبصرة المتعلّمين ، للعلّامة الحلّي ، ط / مجمع الذخائر الإسلامي.

١٣ ـ تذكرة الفقهاء ، للعلّامة الحلّي ، (الطبعة الحجريّة) ، ط / المكتبة المرتضويّة ، قم.

١٤ ـ تعليقات على منهج المقال ، للمحقّق البهبهاني ، (الطبعة الحجريّة).

١٥ ـ التنقيح الرائع لمختصر الشرائع ، للفقيه جمال الدين بن مقداد بن عبد الله السيوري ، المتوفّى سنة ٨٢٦ ه‍ ، من منشورات مكتبة آية الله المرعشي ، قم ، سنة ١٤٠٤ ه‍.

١٦ ـ تنقيح المقال في أحوال الرجال ، للعلّامة المحقّق الشيخ عبد الله المامقاني رحمه‌الله ، (الطبعة الحجريّة).

١٧ ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة ، للشيخ الطوسي ، ط / مكتبة الصدوق ، طهران ، الطبعة الاولى ، سنة ١٤١٧ ه‍.

١٨ ـ جامع الرواة ، للعلّامة الفاضل محمّد بن علي الأردبيلي الغروي ، ط / منشورات دار الأضواء ، بيروت ، سنة ١٤٠٣ ه‍.

١٩ ـ جامع المقاصد في شرح القواعد ، للشيخ علي بن الحسين الكركي ، المعروف ب «المحقّق الثاني» ، المتوفّى سنة ٩٤٠ ه‍ ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، سنة ١٤١٠ ه‍.

٢٠ ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسن النجفي ، المتوفّى سنة ١٢٦٦ ه‍ ، ط / دار الكتب الإسلامية ، نجف ، سنة ١٣٨١ ه‍.


٢١ ـ حاشية المكاسب للسيّد ، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي ، ط / دار المعارف الإسلاميّة ، طهران ، ومؤسسة دار العلم ، قم ، سنة ١٣٧٨ ه‍.

٢٢ ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ، للشيخ يوسف البحراني ، المتوفّى سنة ١١٨٦ ه‍. ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم.

٢٣ ـ الخصال ، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه‌الله ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٠٣ ه‍.

٢٤ ـ الخلاف ، للشيخ الطوسي ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٠٧ ه‍.

٢٥ ـ الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة ، للشهيد الأوّل ، أبي عبد الله محمّد بن مكّي العاملي ، المستشهد سنة ٧٨٦ ه‍. ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤١٤ ه‍.

٢٦ ـ دعائم الإسلام ، تأليف النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي ، ط / دار المعارف في القاهرة ، سنة ١٣٨٣ ه‍.

٢٧ ـ ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد ، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ، (الطبعة الحجريّة) ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٢٨ ـ ذكرى الشيعة ، للشهيد الأوّل ، أبي عبد الله محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، سنة ١٤١٩ ه‍.

٢٩ ـ رجال بحر العلوم ، المعروف ب «الفوائد الرجاليّة» ، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد المهدي بحر العلوم الطباطبائي ، من منشورات مكتبة الصادق ، طهران.

٣٠ ـ روضات الجنّات ، للعلّامة المتتبّع الميرزا محمّد باقر الموسوي الخوانساري ، ط / دار الإسلاميّة ، بيروت ، سنة ١٤١١ ه‍.


٣١ ـ روض الجنان ، للشهيد الثاني ، زين الدين بن علي الجبعي العاملي ، (الطبعة الحجريّة) ، مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٣٢ ـ الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ، للشهيد الثاني ، زين الدين بن علي الجبعي العاملي ، المستشهد سنة ٩٦٦ ه‍ ، من منشورات جامعة النجف الدينيّة ، سنة ١٣٨٧ ه‍.

٣٣ ـ رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل ، لآية الله المحقّق السيّد علي الطباطبائي ، المتوفّى سنة ١٢١٣ ، ط / دار الهادي ، بيروت ، الطبعة الاولى ، سنة ١٤١٢ ه‍.

٣٤ ـ السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوي ، للفقيه أبي جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤١٠ ه‍.

٣٥ ـ سنن ابن ماجة ، للحافظ أبي عبد الله محمّد بن يزيد القزويني ، ط / دار إحياء التراث العربي ، سنة ١٣٩٥ ه‍.

٣٦ ـ شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام ، للمحقّق الحلّي أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن ، المتوفّى سنة ٦٧٢ ه‍ ، من منشورات دار الأضواء ، بيروت ، سنة ١٤٠٣ ه‍.

٣٧ ـ الشرح الكبير ، (المطبوع مع المغني) ، للشيخ محمّد بن أحمد بن قدامة.

٣٨ ـ صحيح مسلم ، لأبي الحسن مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري ، ط / دار المعرفة ، بيروت.

٣٩ ـ العروة الوثقى ، للعلّامة المحقّق السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي ، ط / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، سنة ١٤٠٩ ه‍ ، ومكتبة الداوري ، قم.

٤٠ ـ علل الشرائع ، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه‌الله ط / المكتبة الحيدريّة ، النجف ، سنة ١٣٥٨ ش.


٤١ ـ عوالي اللآلي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة ، لابن أبي جمهور الأحسائي ، الشيخ محمّد بن علي بن إبراهيم ، ط / مطبعة سيد الشهداء عليه‌السلام ، قم ، سنة ١٤٠٥ ه‍.

٤٢ ـ غاية المراد ، للشهيد الأوّل ، ط / مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٢٠.

٤٣ ـ غنية النزوع ، للسيّد أبي المكارم ابن زهرة ، المتوفّى سنة ٥٨٥ ه‍ ، ط / مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام ، قم ، سنة ١٤١٧.

٤٤ ـ الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة ، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري ، (الطبعة الحجريّة) ، قم ، سنة ١٤٠٤ ه‍.

٤٥ ـ الفهرست ، للشيخ الطوسي رحمه‌الله ، ط / مؤسسة الوفاء ، بيروت ، سنة ١٤٠٣ ه‍.

٤٦ ـ قرب الإسناد ، لأبي العبّاس عبد الله بن جعفر الحميري القمّي ، من أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، بيروت ، سنة ١٤١٣ ه‍.

٤٧ ـ قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام ، للعلّامة الحلّي ، (الطبعة الحجريّة) ، ط / الشريف الرضي ، قم.

٤٨ ـ القواعد الفقهيّة ، للسيّد الفقيه محمّد حسن البجنوردي ، من منشورات الهادي ، قم ، سنة ١٤١٩ ه‍.

٤٩ ـ قوانين الأصول ، للمحقّق الفقيه الميرزا أبي القاسم القمي ، الطبعة الحجريّة.

٥٠ ـ الكافي ، لثقة الإسلام الكليني ، أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق ، المتوفّى سنة ٣٢٩ ه‍ ، ط / دار التعارف ، بيروت ، الطبعة الرابعة ، سنة ١٤٠١ ه‍.

٥١ ـ الكافي في الفقه ، للفقيه الأقدم أبي الصلاح الحلبي ، المتوفّى سنة ٤٤٧ ه‍ ، ط / مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أصفهان ، سنة ١٤٠٣ ه‍.


٥٢ ـ كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري ، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري ، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٢٠ ه‍.

٥٣ ـ كتاب الصلاة للشيخ الحائري ، من تقريرات مباحث العلّامة الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ، للشيخ محمود الآشتياني.

٥٤ ـ كتاب الصلاة للميرزا النائيني ، من تقريرات العلّامة الميرزا محمّد حسين النائيني ، للشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ١٤١١ ه‍.

٥٥ ـ كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري ، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٢٠ ه‍.

٥٦ ـ كشف اللثام ، لبهاء الدين محمّد بن الحسن بن محمّد الأصفهاني ، المعروف ب «الفاضل الهندي» ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٢٠ ه‍.

٥٧ ـ كفاية الأحكام ، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ، المتوفّى سنة ١٠٩٠ ه‍ ، (الطبعة الحجريّة) ، ط / مركز النشر ، أصفهان.

٥٨ ـ كنز العمّال ، لعلاء الدين علي المتّقي الهندي ، ط / مؤسسة الرسالة ، بيروت ، سنة ١٣٩٩ ه‍.

٥٩ ـ لسان العرب ، لابن منظور الإفريقي ، ط / دار صادر العربي ، بيروت.

٦٠ ـ اللمعة الدمشقيّة ، للشهيد الأوّل ، ط / دار الفكر ، قم ، سنة ١٣٦٨ ش.

٦١ ـ المبسوط ، لشمس الدين السرخسي ، ط / دار المعرفة ، بيروت.

٦٢ ـ المبسوط في فقه الإماميّة ، للشيخ الطوسي رحمه‌الله ، ط / المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة ، سنة ١٣٨٧ ه‍.

٦٣ ـ مجمع البحرين ، للفقيه الشيخ فخر الدين الطريحي ، المتوفّى سنة ١٠٨٥ ه‍ ، ط / المكتبة الرضويّة لإحياء آثار الجعفريّة ، سنة ١٣٦٥ ه‍. ش.


٦٤ ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ، للمولى أحمد بن محمّد ، المعروف ب «المقدّس الأردبيلي» ، المتوفّى سنة ٩٩٣ ه‍ ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٠٢ ه‍.

٦٥ ـ المحاسن ، للشيخ الثقة الجليل الأقدم أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، ط / دار الكتب الإسلامية ، قم.

٦٦ ـ المختصر النافع في فقه الإماميّة ، للمحقّق الحلّي ، ط / دار الأضواء ، بيروت ، الطبعة الثالثة ١٤٠٥ ه‍.

٦٧ ـ مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ، للعلّامة الحلّي ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤١٢ ه‍.

٦٨ ـ مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام ، للفقيه المحقّق السيّد محمّد موسوي العاملي ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، سنة ١٤١٠ ه‍.

٦٩ ـ المراسم ، لحمزة بن عبد العزيز الديلمي ، من منشورات الحرمين ، سنة ١٤٠٤ ه‍. ق.

٧٠ ـ مسالك الإفهام في شرح شرائع الإسلام ، للشهيد الثاني ، زين الدين بن علي الجبعي العاملي ، المستشهد سنة ٩٦٦ ه‍. ط / مؤسسة المعارف الإسلاميّة ، قم ، سنة ١٤١٧ ه‍.

٧١ ـ مستدرك الوسائل ، للميرزا حسين النوري الطبرسي ، المتوفّى سنة ١٣٢٠ ه‍ ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، الطبعة الاولى ، سنة ١٤٠٧ ه‍.

٧٢ ـ مستند الشيعة ، للعلّامة الفقيه المولى أحمد النراقي ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، سنة ١٤١٩ ه‍.

٧٣ ـ مسند أحمد ، لأحمد بن حنبل ، المتوفى سنة ٢٤١ ه‍ ، من منشورات دار صادر ، بيروت.


٧٤ ـ مصباح الفقيه ، للشيخ آغا رضا الهمداني ، الطبعة الحجريّة ، والطبعة الحديثة مؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث ، قم ، سنة ١٤٢٠ ه‍.

٧٥ ـ المصباح المنير ، لأحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي ، المتوفّى سنة ٧٧٠ ه‍ ، ط / دار الهجرة ، قم ، ١٤٠٥ ه‍.

٧٦ ـ المعتبر ، للمحقّق الحلّي ، ط / مؤسسة سيّد الشهداء عليه‌السلام ، قم ، سنة ١٣٦٤ ش.

٧٧ ـ المغني لابن قدامة ، لأبي محمّد عبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسي ، ط / عالم الكتب ، ودار الكتب العربي ، بيروت ، سنة ١٤٠٣ ه‍.

٧٨ ـ مفاتيح الشرائع ، للمولى محمّد حسن ، المعروف ب «الفيض الكاشاني» ، المتوفّى سنة ١٠٩١ ه‍ ، ط / مجمع الذخائر الإسلاميّة ، قم ، سنة ١٤٠١ ه‍.

٧٩ ـ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة ، للسيّد محمّد جواد الحسيني العاملي ، المتوفّى سنة ١٢٢٦ ه‍. (الطبعة الحجريّة) ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم.

٨٠ ـ المقنع ، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه‌الله ، ط / مؤسسة الإمام الهادي عليه‌السلام ، قم ، سنة ١٤١٥ ه‍.

٨١ ـ المقنعة ، لأبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ، الملقّب بالشيخ المفيد ، المتوفّى سنة ١٤١٣ ه‍ ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤١٧ ه‍.

٨٢ ـ المكاسب ، للشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري ، من منشورات مجمع الفكر الإسلامي ، قم ، ١٤١٥ ه‍.

٨٣ ـ من لا يحضره الفقيه ، للشيخ الأقدم الصدوق رحمه‌الله ، المتوفّى سنة ٣٨١ ه‍ ، ط / دار الكتب الإسلامية ، طهران ، سنة ١٣٩٠ ه‍.

٨٤ ـ المهذّب ، للفقيه الأقدم القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي ، ط / مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، سنة ١٤٠٦ ه‍.


٨٥ ـ الناصريات (الجوامع الفقهيّة) ، للسيّد الشريف المرتضى رحمه‌الله ، ط / انتشارات جهان ، طهران.

٨٦ ـ نجاة العباد في يوم المعاد ، للعلّامة المحقّق الشيخ محمّد حسن النجفي ، المتوفى سنة ١٢٦٦ ه‍ ، (الطبعة الحجريّة).

٨٧ ـ النهاية في غريب الحديث والأثر ، لمجد الدين المبارك بن الجزري ، ابن الأثير ، ط / المكتبة العلميّة ، بيروت.

٨٨ ـ النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى ، للشيخ الطوسي رحمه‌الله ، ط / دار الكتاب العربي ، بيروت ، سنة ١٤٠٠ ه‍.

٨٩ ـ الوافي ، للمحقّق محمّد حسن الفيض الكاشاني ، من منشورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام العامّة ، اصفهان ، سنة ١٤٠٦ ه‍.

٩٠ ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، المتوفّى سنة ١١٠٤ ه‍ ، ط / مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، قم ، سنة ١٤١٢ ه‍.

٩١ ـ وسيلة النجاة ، للسيّد المحقّق أبي الحسن الأصفهاني رحمه‌الله ، ط / دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، ١٣٩٧ ه‍. ق.

٩٢ ـ الوسيلة إلى نيل الفضيلة ، لابن حمزة ، ط / مكتبة آية الله المرعشى رحمه‌الله ، سنة ١٤٠٨ ه‍.



فهرس الموضوعات

المقدّمة.......................................................................... ٥

رسالة الطهارة

(٢٩ ـ ٨٦)

حكم الماء القليل............................................................... ٣١

حكم شرب الماء النجس وبيعه.................................................... ٣٥

حكم الغسالة.................................................................. ٣٩

جواز البدار لذوي الأعذار وعدمه................................................ ٤٣

حكم خرء الطير وبوله........................................................... ٤٧

نجاسة المني..................................................................... ٥١

نجاسة الميتة.................................................................... ٥٣

نجاسة الدم.................................................................... ٦١

حكم العصير العنبي............................................................. ٦٥

نجاسة الكافر.................................................................. ٧١

تطهير الأواني................................................................... ٧٧

ما يعفى عنه في الصلاة من النجاسات............................................ ٨٣

جواز بيع المتنجّس وعدمه........................................................ ٨٥


رسالة الصلاة

(٨٧ ـ ٢٢٠)

لباس المصلّي................................................................... ٨٩

متى تصير يد المسلم أمارة؟....................................................... ٩٥

حكم الثوب الملقى عليه شعر ما لا يؤكل لحمه.................................... ١٠٤

حكم لبس المشكوك ممّا لا يؤكل لحمه............................................ ١٠٩

الصلوات المشروعة فيها الجماعة................................................. ١٢٥

الجماعة في صلاة العيدين...................................................... ١٣١

ما يدرك به الجماعة........................................................... ١٣٣

فروع........................................................................ ١٣٧

الشكّ في إدراك ركوع الإمام.................................................... ١٤٤

شرائط الجماعة............................................................... ١٤٧

إذا كان الحائل بحيث لا يمنع عن المشاهدة........................................ ١٥١

أحكام الحائل................................................................. ١٥٥

الشكّ في وجود الحائل......................................................... ١٦٤

لا بأس بالحائل بين الإمام والنساء المأمومات...................................... ١٦٦

اشتراط عدم البعد بين الإمام والمأموم............................................ ١٦٨

إحرام البعيد قبل القريب في الجماعة............................................. ١٧٣

متابعة المأموم الإمام في الجماعة................................................. ١٧٦

التأخّر كثيرا في الائتمام........................................................ ١٨٢

ما هو مقتضى القاعدة في المتابعة؟............................................... ١٩٣

الأفعال المختصّة بالإمام في الجماعة.............................................. ١٩٤

شرائط الإمام................................................................. ١٩٧

حقيقة العدالة................................................................ ٢٠٣


تحديد الكبائر وبيان الإصرار على الصغائر....................................... ٢٠٧

اعتبار المروءة في العدالة........................................................ ٢١٠

أحكام الجماعة............................................................... ٢١٧

رسالة الخمس

(٢٢١ ـ ٢٤٤)

خمس أرباح المكاسب.......................................................... ٢٢٣

هل يتعلّق الخمس بالعين أو بالذمّة؟............................................. ٢٢٤

ما هو المراد ممّا أحلّ فيه الخمس للشيعة؟......................................... ٢٣١

هل يجبر الخسران الوارد على المالك في الحول من الربح؟............................ ٢٣٨

رسالة الوقف

(٢٤٥ ـ ٣٥٦)

القبض في الوقف............................................................. ٢٤٧

من هو القابض في الوقف؟..................................................... ٢٥٩

شرائط الموقوف............................................................... ٢٦١

فروع........................................................................ ٢٦٢

شرائط الواقف................................................................ ٢٦٦

شرائط لموقوف عليهم......................................................... ٢٧٢

الوقف على المملوك........................................................... ٢٧٧

الوقف على الحربي............................................................ ٢٨٠

الوقف على الذمّي............................................................ ٢٨٤

الوقف على الكنائس.......................................................... ٢٨٥

تعيين مدلول العنوان في الموقوف عليهم.......................................... ٢٨٦


تفسير عناوين الموقوف عليهم................................................... ٢٨٩

حكم الشكّ في عنوان من عناوين الموقوف عليهم................................. ٢٩٧

فروع........................................................................ ٢٩٩

شرائط الوقف................................................................ ٣١١

فرع......................................................................... ٣١٧

فرع آخر..................................................................... ٣٢٢

الوقف على النفس............................................................ ٣٢٤

جريان المعاطاة في الوقف....................................................... ٣٣٣

أحكام الوقف................................................................ ٣٣٨

حكم بيع الوقف............................................................. ٣٤٨

مقتضى قواعد الباب في بيع الوقف.............................................. ٣٥٣

رسالة الإجارة

(٣٥٧ ـ ٣٦٤)

التنازع بين المؤجر والمستأجر.................................................... ٣٥٩

موارد القرعة عند التنازع بين المؤجر والمستأجر..................................... ٣٦٢

رسالة الوكالة

(٣٦٥ ـ ٤٦٨)

أقسام الوكالة................................................................. ٣٦٧

اشتراط فوريّة القبول في الوكالة وعدمها........................................... ٣٦٨

وكالة المتبرّع.................................................................. ٣٧١

تعليق الوكالة وتنجيزها......................................................... ٣٧٣

أقسام الاستنابة............................................................... ٣٧٨


ما تصحّ الوكالة فيه............................................................ ٣٨٣

التوكيل في المباحات........................................................... ٤٠٠

طلاق الغائب................................................................ ٤٠٦

توكيل الوكيل غيره............................................................. ٤١٤

توكيل الحاكم عن السفهاء والمجانين والبله......................................... ٤١٨

أقسام التوكيل من الحاكم....................................................... ٤٢٠

اشتراط العقل في الوكيل والموكّل.................................................. ٤٢١

ضابطة في تعيين المنكر والمدّعي................................................. ٤٣٢

التنازع بين الوكيل والموكّل....................................................... ٤٣٧

رسالة الوصايا

(٤٦٩ ـ ٥١٠)

تصرّفات المريض.............................................................. ٤٧١

متعلّق الوصيّة................................................................. ٤٧٥

موارد إخراج الدين من الأصل أو الثلث.......................................... ٤٧٧

معنى التنجيز................................................................. ٤٨٤

معنى الحجر.................................................................. ٤٨٧

جريان الاستصحاب في المقام................................................... ٤٩٦

مقتضى الأخبار في المقام....................................................... ٥٠٢

رسالة الغصب

(٥١١ ـ ٦٨٤)

غصب المسجد............................................................... ٥١٣

تعاقب الأيدي في الغصب..................................................... ٥٢٠

قاعدة اليد................................................................... ٥٢٣


الكلام في تعاقب الأيدي في الغصب............................................ ٥٤٢

ضمان منافع الحرّ وعدمه....................................................... ٥٤٨

ضمان منافع الأجير........................................................... ٥٥١

ضمان منافع الدابّة............................................................ ٥٥٣

ضمان الخمر وعدمه........................................................... ٥٥٤

المباشرة والتسبيب............................................................. ٥٥٩

تقديم المباشر على السبب وبالعكس............................................. ٥٦٦

اجتماع السببين............................................................... ٥٦٨

ضمان المكره وعدمه........................................................... ٥٧٦

ردّ المغصوب.................................................................. ٥٨١

تزاحم الحقوق................................................................ ٥٨٥

تقدّم حفظ نفس الغاصب على الأموال.......................................... ٥٩١

حكم الخيط المغصوب في الثوب................................................ ٥٩٨

ضمان المثل أو القيمة عند حدوث العيب في المغصوب............................. ٦١٠

ضابط المثلي والقيمي.......................................................... ٦١٩

فروع........................................................................ ٦٤٥

تأسيس الأصل عند الشكّ في المثلي والقيمي...................................... ٦٤٩

أحكام بدل الحيلولة........................................................... ٦٥٤

البحث في اللواحق............................................................ ٦٦١

فرعان....................................................................... ٦٧٦

فهرس الآيات................................................................ ٦٨٥

فهرس الأحاديث............................................................. ٦٨٧

فهرس المنابع.................................................................. ٦٩٣

فهرس الموضوعات............................................................. ٧٠٣

الرسائل الفقهية

المؤلف:
الصفحات: 708